مقالات أخرى

الاحتلال الثقافي .. الثقافة الرائدة.. أمِ الثقافة السائدة

رجاء العزام/منظومة الفقيه القائد/ التَّيار السُّني في العراق

الذكريات سواحب الأفكار، أمسِ كنَّا نمشي مُدلِجَين، أنا ورفيق الغربة والقضية والهوية أبو هند، تجاذبنا الحديث، ورست بي ذكرى عند ميناء ميرسين في تركيا.

وقتها كنتُ أُحادث رهطًا من شبابٍ تركيٍّ مسلمٍ، أحادثهم في الواقع الذي نعايشه، فقلت لهم: لو أننا نحن أهلَ السُّنة والجماعة في العراق، لنا ما للشيعة الآن في البلد، ما كنتُ هنا مهجَّرًا، بل مصطافًا على الأقل.

فردَّ أحدهم عن لسانهم بلفظ الجمع: مع الأسف، ما كان الرجاء منك أن تتكلم بالطائفية، سني وشيعي!

وقع في نفسي سريعًا، هل أكون مع: دارِهم ما دمتَ بدارهم، وأرضهم ما دمتَ بأرضهم؟!

فانطلق اللسان بإيعاز لم يكن أسبقَ منه: ومع الأسف، أنكم لم تنضجوا إلى ليوم!

الاحتلال والاختلال

ليس الفرق في الحاء والخاء فقط، بل الخاء كانت سبب الحاء، نعم يقينًا هذا.

فلولا الاختلال الثقافي، وفقدان الفكر للقواعد السديدة[1] ما احتُل، حتى صار إلى جُرفًا ثم انهار في واديي التشيُّع والشعوبية، لتحلَّ الثقافة السائدة مكان الثقافة الرائدة.

إذن فالاختلال كان سبب الاحتلال.

أي احتلال تقصد؟

إنه الاحتلال الثقافي، وهو الأخطر من الاحتلال العسكري.

نموذجان للاحتلال الثقافي

الأوَّل تمثَّل لي في السنتين الماضيتين، فقد آثرتُ قراءة الروايات من أوَّل رواية عربية كُتبتْ أوائل القرن الماضي، ذلك لأرى أصالة الفكر النخبوي، فمن سارة العقاد إلى زينب هيكل، وحفنة من رجال لفاروق خورشيد، صعودًا لروايات محمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وأنيس منصور وعبدالحميد جودة السَّحار وعبد الرحمن منيف ومطاوع ونجيب كيلاني، ثم مسرحيات علي أحمد باكثير.

أسماء نخبوية ملأت رفوف المكتبة العربية بعصارة فكرية، قالبها الرواية.

كأنني اطلعت على مساحات الفكر… فلم أجد شبرًا غير محتلٍّ بغير الجسد والمرأة والخيانة والخرافة والعشق والأطلال والبكاء والغناء والوطن والغدر… لا غير.

وذا لا يتناطح عليه كبشان، فمن قرأهن وجد هذا.

وإن تعجب فعجب ما كتبوا!

أين النخب من التسرب الفارسي والشيعي في المجتمع المسلم، كيف غافلهم فلم ينتبهوا ولم يكتبوا فيه؟!

أين التوجيه الصحيح برؤية سُنيَّة يا عقَّاد وأنت تكتب الحسين الشهيد، أين أنت من الشعوبية يا فاروق خورشيد، من أنت يا علي الجارم في الفارس المقنَّع، إذ تغمز السيدة عائشة المطهَرة بأنها العشيقة التي تثني القائد المسلم المجاهد من الفتوحات، ولِمَ تختار اسم عائشة بالذات؟!

بل له رواية أُخرى يختار فيها اسم حفصة لشخصية بنتٍ منحلَّة!

ومع بداية الكتابة في الرواية العربية وقعت على سبب، وهي أمُّها الهاوية، إذ كان الاعتماد في مصادرهم التاريخية الأدبية على أمثال ابن عبد ربَّه في العقد البليد وليس الفريد، والذي نعتُّه فقلت فيه: ابن عبد ربه، لا يخاف ربَّه.

كذا النويري في نهاية الارب، والأغاني للاصبهاني وكلهم قد كشف عورته الشيعية الشعوبية، وبعدهم جاءت الأسماء الَّلامعات، فدأبوا على: وإِنَّا على آثارهم مقتدون!

فلا قضية ولا هوية.

علي الوردي ومالك بن نبي

هما النموذج الثاني، فكلاهما قد برع في علم الاجتماع، بيد أن الأوَّل كان شيعيِّا مخلصًا، غمز سيدنا عثمان مرةً، والصحابة أخرى، ولغم عباراته ثالثةً كلما سنحت له الفرصة.

قرأتُ من موسوعته أربعة مجلدات، كان ممعنًا في معرفة الشخصية العراقية أوسط العراق وجنوبه فحسب، ومع هذا لم يطعن، ولو سهوًا في عقيدته ودينه الشيعي.

فلكم نحتاج كالوردي عالم اجتماعي سني؟!

وقد أخذ من ابن خلدون أفكارًا صاغها بألفاظه، فالشيعة اليوم يحسبونها لهم باعتباره عالم اجتماعٍ شيعي.

وفي سماء علم الاجتماع يلمع نجم مالك بن نبي في مغرب الوطن العربي، نعم كان يفكِّر وينتج أفكارًا إسلامية، لكن بطريقة فرنسية غربية، وطلسم أفكارَه ممَّا نفَّر القُرَّاء عن فهمه، فضلًا عن عدم اقتناء كتبه، فما عندنا اليوم منه، لا يتناسب مع نتاجه!

وهنا احتل الوردي ما أراده، وأذاد ابنُ نبي نفسَه!

فتجد النخب المهتمين بعلم الاجتماع ورديِّين ليس لهم من ابن نبي نصيب.

 

فأين الخلل؟

إنَّها في الشخوص النخبوية التي أهدرت جهدها ووقتها وقلمها، وأبت أن توطِّئَ علمها وفوائدها.

ولا أدعو بكلامي هذا أن نكون جرائديِّين في أُسلوبنا.

ولا سطحيِّين في طرحنا.

لا.. ولا.. ولكن هي ضرورة داعية واجبة صارخة: نحن رجال المرحلة، ومشروع المرحلة، وأمل القادمين. هذا إن وضع المجايلين أيديهم بأيدينا كي نتوزع الجهد.. وإلا فالأمنيات منيات.

فلنتوجَّه لإخراج المحتل من أرض الثقافة المغصوبة، التي لم تبق فيها مساحةٌ إلا كان الشيعة والشعوبيون ومصيدُهم محتلين لها.

الثقافة الرائدة والثقافة السائدة

ذكرتُ قبل سطور: الثقافة الرائدة والثقافة السائدة، ومن غير تعقيب أسأل، والسُّنةَ أقصد:

ما الثقافة التي تحملونها اليوم؟

فإن كانت الرائدة!

فلِمَ أنتم مَسوقون، وإلى غير ثقافتكم الأم – الثقافة السُّنيِّة – تنتمون؟!

وإن اعترفتم بالثانية.

(جاء من أقصى المدينة مشروع يسعى).. فحيهلا! وأهلاً ومرحبا!

قلتَ: من أقصى المدينة!

نعم، وقد شخصتْ لي الثقافة الإسلامية كدوحة في مدينة فاضلة رتعتُ فيها – بخيالي – يوم كتبت (الثقافة السُّنية شاقول البناء[2])، فلكأنها مدينة نشأت على عين ماء زلال، شق ماؤُها جدولًا اكتنفه أغصان، فرويت منه حتى استغلظت سوقها فاستوت، فهي جنتان عن يمين وشمال تحتضن ذلك الجدول العذب المنساب، فترى الطيور تغدو عن وكناتها مغردة صبحًا، وتتخلل أشعة الشمس كخيوط بين الألفاف، وفراشات ذوات أشكال وألوان – تبارك خالقها – كم هي أنيقة خفيفة؟!

وينساب الماء لا يضرُّه ما في ممره شئ، فهو طهور.

وليلًا وعلى ضوء القمر تبعث الأشجار روائحها زكيَّةً مع حفيف ورقها المتحرك.

كلٌ قد علم ما عليه، فعمل.. وما عليه.

فهي دوحة في مدينة فاضلة. لكن هل تحس لها على أرض الواقع من أثر؟

والآن يا صاحبي؟!

  • نعم.. الآن اتضح لي قولك.

طيب هل مرَّ بأهل السُّنة والجماعة أذلَّ من وقتهم هذا عليهم؟

أهلي أهلَ السُّنة والجماعة: ليس بالخبز وحدَه يعيش الإنسان؟!

أنتم محتلُّون فكريًّا.. ثقافيًا، قبل أن تُحتلَّ بلادكم عسكريًّا ومن لم تكن له عينٌ صحيحة… فلا غروَ أن يرتاب والصبح مسفرُ!

__________________________________________________________________________________________

  1. .مقنبس من عنوان كتاب للشيخ الدكتور طه الدليمي.
  2. .عنوان كتاب أتممته، ولما يزل مخطوطًا فلم أطبعه.

 

اظهر المزيد

‫9 تعليقات

  1. تعليقا على رحلتكم عبر الرواية العربية : وما البديل الذي يمكن أن تقدمه الرواية العربية سواء من الأدباء الذين ذكرتهم أو أدباء آخرين أكثر تخصصا وإبداعا في فن الرواية بالذات؟ .. كنتُ سأسأل هذا السؤال لو لمْ توصلني هذه الرحلة إلى رواية (هكذا تكلم جنوبشت) على أساس انها تأسيس لأدب سني انتبهت للمشكلة ومنها: (الانتباه للخطر الفارسي العابر للزمان والمكان والأديان، وكذلك عروبة الحضارة والعلماء)، وحملتْ القضية، وعبرتْ عن (السنية) هويةً ومعاناةً وفكرا وخلقا وشعورا وآمالا وقبل كل ذلك اعتقادا، متخلصةً، أي هذه الرواية، من كل العوار والنقص الذي لازم الأدب العربي والروائي خاصة.
    ينتظر العرب السنة مهمة إبداعية شاملة لكي يساهموا في بناء الحضارة والإنسان فكرا وخلقا وشعورا، ومن سواهم مؤهل لفعل ذلك، وهم الذين جعلهم الله شهداء على الناس؟
    لكن كيف يكون الانسان شهيدا وهو يخلو أو يكاد من كل مظاهر الابداع؟
    إن رواية ( هكذا تكلم جنوبشت ) خلقت الأمل لا أقول في مساهمة عربية، بل قيادة عربية للأدب الروائي العالمي؛ يدرك ذلك كل من قرأ الرواية بعمق وهو منتبه لإخفاقات الرواية العربية في كثير من الزوايا، كما ذكر كاتب المقال، من جهة ومن جهة ثانية منتبه لتميز هذه الرواية على المستوى الابداعي، وتفردها في طرح مضامين في غاية الأهمية، وتفوقها في النظر إلى المرأة والتجاوز عن خطيئتها،اذا تابت، بنظرة اسلامية عميقة لأول مرة في الأدب الروائي وجعل المرأة عنصرا فاعلا في الجهاد والبناء والإبداع وربما تتفوق في بعض الاحيان على الرجل، كما أنها جعلتْ القارئ لأول مرة ينظر للأشياء بعيون سنية.

    1. الاخت الكريمة منيرة الهلال حفظكِ الله.
      أما وإنك متخصصة في هذا الميدان الرَّحب من عالم الكلمة المنتجة التي تنتظم في الرواية، فذا أكبره فيكِ
      وهو ما يجعلني ناعم للنظر فيما كتبتِ
      وأدهشني توصيفكِ للعوار الذي الذي اجتاح الرواية العربية من حيث نقص النقص في حيثية تغافل مشكلة التشيع والشعوبية.
      فقد نقد الناقدون البنية والأسلوب، وحتى الموضوع كان لهم نقد خفيف في بعض ما تناولته الرواية.
      لكنَّهم وبحق لم يفيقوا إلى اليوم من غفلة التسلل الشيعي شعوبي.
      أما رواية جنوبشت للشيخ الدكتور فيصدق عليه: الفضل للمبتدي وإن أحسن المقتدي.
      ويقينًا أن (جنوبشت) عندما ستحضر على رفِّ المكتبة الأدبية متأنقةً، فهي كالتبر الذي سيُصاغ منه الحلي، فلعلها ستكون العقدالبارق على خشبة المسرح، أو الفلم الذي سيجعل من القضية في جنوبشت حركة الأمة التي رقدت مطروحة على فراشها طويلًا.
      لتكون هي -جنوبشت- شاهدة ولسنا نحن فقط على الجهد السُّني الفعَّال وإن كانت وحيدةً اليوم.
      شكرًا ثم شكرًا لك أختنا…
      ولا حُرمنا منكِ قلمًا وتخصصًا.

  2. يالها من آهات تنعى ثقافة أمة وتحاول ان تعالج مريضة اوهمه الثقات ان داءه الذي فعله أشد من المخدرات لانه لبس ملابس القداس لقد وقع آدم عليه السلام في خدعة القسم الابليسي فكيف بهذه البشرية وهي امام ابالسة الأنس الذين فاقوا إبليس في حيله وها هم كتاب التيارالسني في العراق وهم يضعون العلاج لهذا المريض ويحطون النور في وسط الظلام.

  3. السنة مغيبون عن دينهم وأرضهم ووطنهم والسبب هو الفكر الجامد الذي أ كتسبوه من آفات الملالي جعلوا لهم القدسية في الحكم والشرع والسيادة والريادة فهم المتسلطون عليهم حالهم حال الشيعة الذين يقلدون مراجعهم لأنهم بعيدين كل البعد عن٠٠٠ حجة الله البالغة والعقل الراشد الذي ينسجم مع الواقع ، وعندما أنتهت الجهات القتاليةوالسياسية بدون أي نتيجة لصالح أهل السنة
    هنا جلس أهل السنة وقالو لاحاجة لنا بهذا الدين ظنوا أن هذه الجهات القتالية والسياسية التي خسرة أمام الجمهور السني هو الدين النازل من السماء فقط فا أغلقت العقول هذا حال أهل السنة في بلاد الرافدين والبلدان العربية الأخرى ونحن نقول رجوع أهل السنة إلى جادت الطريق وإلى المسار الصحيح بالمشروع الرباني وهذه المهمة تقوم على يد أصحاب التيار السني بعون الله

  4. مقاله قيمه ولها معنى كبير في ضياع ثقافة أهل السنة
    وحتلال التشيع والشعوبية ثقافتهم
    وعلى رجال ونساء أنصار التيار السني قلع هذه الثقافه من جذورها
    جزاك الله خيرا أستاذنا الفاضل

  5. المقال تجسيد حي لحجم الاحتلال الذي تعاني منه أمتنا السنية للثقافة قبل الأرض، وما احتلت أراضينا في الأحواز والعراق وسوريا ولبنان واليمن إلا بعد احتلالها ثقافياً وفكريا. لأنها اختلت البلدان ثم احتُلت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى