د. طه حامد الدليمي
مدينة (جْبلة) – بتسكين الجيم – إحدى نواحي قضاء المحاويل التابع لمحافظة بابل (الحلة). قطعت على ترابها خطوات في طريق الدعوة، أراها تجارب ميدانية هيأها القدر الحكيم فأكسبتني خبرة وزاداً لمستقبل كان ينتظر. فيها بدأت عمليات الأيض الفكري أولى حلقات النضج، وصارت الأفكار تتبلور شيئاً فشيئاً، وتنتقل ببطء من مجال الدعوة العامة إلى دائرة الدعوة الخاصة بتنبه الحس إلى المرض الأخطر الذي ينخر هيكل البلد.
الخُطبة الأولى
هذا ما جعل المؤذن في أحد أيام الجمع، وقد تغيب أخي لسبب لا أذكره، يتوجه إلي دون بقية المصلين فيطلب مني أداء الخطبة. كان يحمل في يده نسخة من مجلة (التربية الإسلامية) التي تصدر شهرياً يتضمن كل عدد منها خطبة جمعة. تناولت النسخة، ثم غرقت في عالم آخر وكأنني غُصت في دوامة من الهواجس والشعور بالخوف.. كيف سأواجه الجمهور؟ ماذا سأقول؟ هل سأتماسك؟ أم سأتلجلج وأبدو متردداً وجلاً؟ ماذا لو وقفت على المنبر وضاعت مني الكلمات، وطارت المعاني، واحتبس الصوت في الحلقوم؟
وأساس المشكلة أنني لا أريد أن ألقي خطبة مكتوبة في مجلة فأكون شبيهاً بممثل يلقي نصاً؛ وهذا لا أريده أن يكون؛ فلطالما انتقدت الخطباء الذين يرتقون المنابر وفي أيديهم ورقة يقرأون منها فتخرج كلماتهم ميتة متخشبة لا روح فيها، فكيف أكون الآن واحداً منهم؟! لكن ماذا أفعل وليس في بالي موضوع والوقت في طريقه للنفاد، وبسرعة؟! لو قيل لي قبل أسبوع: جهز نفسك لخطبة الجمعة لقطعت الأيام السبعة بلياليها أتهيأ لهذا الموقف العصيب، فكيف وما بيني وبين المنبر سوى سبع دقائق!
واستغثت بذكائي بعد أن دعوت ربي، فأشار علي (ذكائي طبعاً) بأن أبدأ خطبتي بعدة آيات للحمد أحفظها حتى أمنح نفسي فرصة لكي تتطامن وتستوعب الموقف.
ونجحت الفكرة!
فما هي إلا دقيقتان أو أقل حتى استقرت.. واجتاحني شعور جارف بالقوة وكأنني أبادل صديقاً قريباً إلي أحاديث الود وعبارات الترحاب، ووجدتني وكأن غمامة غشيتني ثم انقشعت كلياً عن ناظري، ودوامة خرجت منها منتعش الروح والجسد. وألقيت الخطبة، وكانت كما أريد، وأنجاني الله تعالى من موقف عصيب. كان ذلك يوماً، ما زال محفوراً تاريخه في ذاكرتي.. 18/6/1982. أي قبل (37) سنة بالضبط من يومنا هذا.
2019/6/18