مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

إيران .. ليس سوى الأسنة مركباً

د. طه حامد الدليمي

حين بدأت التحرشات الإيرانية في الشهر الماضي بخطوط الملاحة الدولية في منطقة الخليج العربي، كان القول بأن إيران تهرب إلى خيار الحرب أحد الاحتمالات ضمن طروحات التحليل السياسي. وكنت أراه احتمالاً مقبولاً بنسبة جيدة. كما كان احتمال أن تكون التحرشات إنما بفعل فاعل له مصلحة في وقوع الحرب، مثل إسرائيل، وارداً أيضاً وبنسبة لا بأس بها.

بعد إسقاط طائرة (الدرون) الأمريكية قبل أيام، وإعلان إيران صراحة عن مسؤوليتها عن الحادث.. ارتفعت نسبة  رغبة إيران في الحرب عندي إلى مدى تجاوز كل النسب المتعلقة ببقية الاحتمالات. ماذا يفعل المحصور سوى الخروج من المأزق ولو بالمواجهة؟!

 

اللعبة واللعبة الأخرى

كانت اللعبة الإيرانية لجر الولايات المتحدة إلى ما تريد ذكية ومتدرجة؛ فقد تضمنت عملية (جس نبض) لكشف حقيقة نية العدو في شن الحرب، إضافة إلى محاولة جره إليها؛ فكان التحرش متدرجاً.. بدأ في (12/5) بأربع سفن من عدة جنسيات في خليج عُمان (خارج نطاق الخليج العربي ومضيق هرمز)، تنصلت إيران فيها عن مسؤوليتها، ملقية بها على عاتق (دولة ثالثة). ثم ثنت بعد يومين بعمليات تخريب عن طريق طائرة مسيرة في أحد خطوط الأنابيب التابعة لشركة أرامكو السعودية. وتنصلت إيران أيضاً عن مسؤوليتها في ذلك. واستمر الاستفزاز المقَنَّع حتى كان حادث سقوط الطائرة قبل خمسة أيام.

كان حصول رد عسكري ما متوقعاً جداً طبقاً لاستحقاقات هيبة أعظم قوة عالمية، ولتحذيرات أمريكية مشددة سابقة لإيران على لسان عدة مسؤولين منهم الرئيس الأمريكي نفسه، من الاعتداء عليها أو على أحد حلفائها. لكن الموقف الأمريكي جاء غريباً ومخالفاً لما توقعه معظم المحللين. فقد أعلن الرئيس الأمريكي أن الحادث قد يكون وقع خطأً بأمر من مسؤول أدنى في القيادة الإيرانية، ثم إنه لم يصاحبه خسارة في الأرواح، وإلا كان الأمر مختلفاً. وقال: إن إيران ارتكبت خطأً كبيراً. وإنه كان على وشك إصدار أمر بالرد العسكري ثم تراجع قبل دقائق من تنفيذ الأمر. واكتفى الرئيس بالتوقيع يوم أمس على لائحة عقوبات إضافية منها تجميد أصول أموال عدة مسؤولين من ضمنهم رأس (الهلمة) المرشد نفسه! لكنه قال: إن العقوبات كانت ستفرض بغض النظر عن حادثة الطيارة المسيرة.

 

دلالة الحدث

1. إيران تريد مواجهة عسكرية مع أمريكا

دل الحدث على أن إيران تريد جر رجل أمريكا إلى مواجهة عسكرية؛ لعدة أسباب منها:

أ. لأنها وجدت أن مجمل خسائر الحرب أقل من مجمل خسائر الحصار الاقتصادي، الذي ظهرت آثاره سريعاً يتلو بعضها بعضاً. وليس أمامها سوى الخضوع لشروط العدو القاسية، أو مواجهة ثورة الشعب وهي منهكة، وقد انفض عنها معظم أنصارها في الداخل والخارج، أو أصابهم الضعف عن نصرتها. بينما تنتظرها في الحرب عدة مكاسب أهمها التفاف الشعب حولها؛ فإن من طبيعة الشعوب الالتفاف حول قيادتها أثناء الحرب.

ب. إيران تراهن على الزمن وعلى اللوبي الإيراني داخل الإدارة الأمريكية. وقد تأتي الحرب بنتائج ليست في صالح ترامب؛ وهذا يقلل من فرصة فوزه برئاسة ثانية. عندها قد تؤول الإدارة إلى رئاسة أحد أصدقائها، كما كان الشأن مع ملا باراك حسين أوباما.

2. أمريكا لا تريد المواجهة العسكرية

ودل الحدث على أن الرئيس الأمريكي لا يريد الحرب؛ وذلك لعدة أسباب:

أ. منها ما يمكنك قراءتها في الفقرة السابقة بعكس صورتها وإلحاقها بأمريكا أو رئيسها. ثم إنه لا حاجة لاستعجال قطف النتيجة وهي قادمة لا محالة من دون حرب تقع فيها خسائر مادية ويسقط قتلى. وإن اضطر قبل نهاية العام القادم لخوض مواجهة عسكرية تقدم نحوها للخروج منتصراً بأقل الخسائر. وهذا أضمن للنتائج المرجوة بما فيها تلك المتعلقة بالانتخابات.

ب. كما أن التريث يزيد الفرصة أمام الرئيس لتكوين ائتلاف دولي يؤيده ضد إيران.

 

التوقعات القادمة .. إلى أين نحن سائرون ؟

كشفت الحوادث التحرشية عن ذكاء لا يخفى تتمتع به القيادة الإيرانية. لكن كشفت أيضاً عن ذكاء أمريكي مقابل تجاوزه وتفوق عليه. إن من أهم عوامل إحراز النصر أن تكون المبادأة، أي تحديد زمان ومكان الحدث العسكري بيدك لا بيد خصمك. لقد تصرفت أمريكا بشخصية القوي الكبير الذي لا يأبه للاستفزازات. لقد درست القيادة الأمريكية الحدث من جميع جوانبه فجاء القرار بالتريث في مكانه. لقد فشلت إيران في رهانها. كشفت عن شخصية صغيرة لا تليق بالكبار. وانتقلت (المبادأة) من يدها إلى يد عدوها. ولن تزيدها الاستفزازات القادمة – إن وقعت – إلا ضعفاً يأكل من جرفها ويضيف إلى جرف أمريكا.

وهنا يبرز سؤال محوري في مسار التوقعات القادمة: هل ستكف إيران عن تحرشاتها؟ أم ستوغل في حماقتها؟ أما أنا فلا أراها سترعوي عما مضت فيه؛ لأن الأسباب الدافعة ما زالت كما هي، بل زادت. لقد وقعت إيران في فخ هو عبارة عن نفق لا تجد أمامها سوى التمادي فيه. فهي إن كفّت كشفت عن ضعفها، وتدحرجت أسرع نحو مصيرها المحتوم. وإن مضت في طريقها زادت عزلتها، وعجلت في ثورة الشعب ضدها. وهذا هو المعهود من الحمق المعروف عن الشخصية الفارسية.

لهذا أنا أميل إلى التحليل القائل: إن إيران ستستمر بعمليات الاستفزاز حتى تلجئ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الرد عليها. لكنه سيكون رداً مزلزلاً – ولا بد – كي يأتي بالنتيجة المرجوة لأمريكا ولرئيسها. وسيأتي في وضع تكون فيه إيران في أسوأ حالاتها.

وإذا كانت الحال الدافعة للهروب إلى الحرب كما قال الأول:

إذا لم يكنْ إلا الأسنةُ مركباً فما حليةُ المضطرِّ إلا ركوبُها

فاعلم أن الخازوق سيدق في مؤخرة إيران.. سيدق لا محالة. و(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4،5).

 

من دلالات الحدث .. درس عظيم قد لا يُفطن إليه ..!

وفي هذا درس لنا – نحن العراقيين – وأي درس!

على العاقل أن لا ينساق وراء الاستفزازات النفسية وحسابات الهيبة التي نجد شخصيتنا العراقية مهووسة بها، إلا بالقدر الذي يراعي الحكمة والمصلحة.

ولنأخذ الدرس، قبل ذلك، من توجيهات القرآن العظيم، وسيرة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم.. كيف كان الأمر الجازم للرعيل الأول بالتزام عدم الرد على استفزازات المجتمع حتى وإن تعرض أحدهم للإهانة أو الضرب! لم يكن الأمر جازماً على مستوى التوجيه فحسب، بل كان على مستوى التعامل مع الحركة الداخلية للنفس وتربية الجيل عليها. انظر إلى كتابه سبحانه كيف عكس القيمة الجاهلية التي يفخر بها العربي بقوله: (ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا * فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا) فقال سبحانه: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى:43).

وتكملة الدرس الرباني.. إن الرد بالمثل ليس هو الخيار الوحيد، بل هناك خيار آخر قد يكون هو الأفضل، وكلٌّ بحسب الظروف المحيطة به. وقد كان خيار الصبر عن الرد هو السياق طوال فترة العهد المكي.. فقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى:39-43).

نعم سيأخذ هذا التغيير وقتاً طويلاً. لكن ماذا نفعل؟ هذه هي طبيعة التغيير الاجتماعي إذا تعلق بقيم الشعوب.. هل نتقدم فننتحر؟ أم نصبر على استحقاقات التربية فننتظر لننتصر؟ أنتم بالخيار.. ولا خيار للحكيم إلا الصبر في سياق مشروع يستثمر طاقة الزمن الكامنة إلى قدرة فاعلة في طريق الانتصار.

2019/6/25

 

اظهر المزيد

‫4 تعليقات

  1. مقال رائع حفظكم الله وسدد خطاكم شيخي الغالي
    يالها من حكمة عظيمة (ننتظر لننتصر ) تذكرني بحكمة أخرى
    (من شعر بالتعب معنا فلا يصاحبنا )
    الحمدلله رب العالمين نحن ماضون في مشروعنا حتى النصر

  2. نعم
    كان المتوقع من أمريكا الرد، وكانت إيران تأمل ذلك، لكن الحسابات الأمريكية غيرت كل حسابات إيران وجعلت إيران في حيرة من أمرها وأنها أمام خيارات لا نجاة لها في أيها.
    والعاقل إن أراد تحقيق شيء حققه بأقل الخسائر ولم يتبع العواطف، وأمريكا غير مستجلة -كما نحن- فإيران في طريقها للإنهيار فعلامَ الاستعجال؟
    بورك فيك شيخنا الفاضل لطالما كانت كتابتك تستند إلى الربانية وضمن مسار المشروع الذي يجعلها نابضة بالحياة وهي تخاطب الواقع انطلاقاً من الأحداث الجارية.

  3. حرب الحصار أخطر من حرب النار لعدة أسباب انهيار داخل المجتمع الإيراني التفكك الذي سيحصل داخل نظام الملالي فهناك مؤيد للحرب و منكر للحرب الجوع والحصار أحد أسباب القتل والسرقة والعصابات الداخلية إيران وكذلك لايوجد هناك أمان في وسط الجمهور الإيراني الخوظ بالحلول الداخلية وترك الحروب الخارجية مع الدول العربية كل هذا وأمريكا لم تطلق طلقة واحدة ولم تخسر جندي واحدة.. ..أستفاد
    الغرب من خطط قادة المسلمين ولم يستفاد المسلمين من أجدادهم العظماء الصحابة ( رضي الله عنهم )بين قوة وخطط خالد ابن الوليد في جميع الغزوات الذي لم يخسر معركة
    واحدة وبين صبر سعد ابن ابي وقاص على استدراج الفرس للمكان المناسب للمعركة ،ولكنكم ياأهل السنة قوماً تستعجلون ،كل حركة بالتجاه الصحيح يراد لها الصبر هذه من مميزات مشروعنا الرباني … …وأن شاء الله أفراحنا دائمة على زوال إيران وشيعتها ياشيخنا الفاضل .

  4. النفسية الشيعية والايرانية حين تحاصر تتراءى امامها ان كل من حولها حاقد عليها فتسرع الى متتالية جارفة وعادية الى الهاوية وذلك ان نفسيتها غير متقبلة للخسارة و سيصبها الابلاس والقنوط عن رؤية مصلحتها وخيار ركب الاسنة من هذه الحماقات .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى