مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الفرس لم يقولوا بيتاً من الشعر بالفارسية إلى ما بعد الإسلام بمئتي عام ..!

د. طه حامد الدليمي

قبل عدة أيام نشرت صحيفة (الشرق الأوسط)([1]) مقالاً بعنوان (هل يمكن أن يصبح هذا عام الشِّعر الفارسي) للصحفي والكاتب الإيراني أمير طاهري. وصف فيها إيران بـ(أنها واحدة من أقدم مواطن الشِّعر على مستوى العالم. ومن المحتمل أن تضم أي قائمة لكبار الشعراء في تاريخ الإنسانية واحداً أو اثنين على الأقل من الأسماء الفارسية مثل عمر الخيام أو جلال الدين الرومي).

لا ألوم الكاتب إن لم يكن يعلم أن جلال الدين الرومي عربي قريشي من أحفاد أبي بكر الصديق([2]). وأن مؤرخين قالوا بعروبة عمر الخيام، لكن الأمر – بالنسبة لي – في حاجة إلى شيء من الوقت للبحث والتأكد.. فهذا ما يجهله حتى العرب! إنما ألومه – وإن كان فارسياً وهذا شأن الفارسي عبر العصور – على نسبة ما ليس لقومه إليهم، باستعمال أسلوب الإيحاء والتدليس. فإن من يقرأ عبارته السابقة يتسلل إلى ذهنه أن للفرس باعاً في الشعر طويلاً منذ أقدم العصور. وهذا وهم محض!

إن مؤرخي الأدب في الشرق والغرب مجمعون على أن الفرس لم ينتجوا – طوال الاثني عشر قرناً التي مثلت فترة حكمهم عبر التاريخ – أدباً يصلح لأن يسمى أدباً. إنما ﺒﺩﺃ تاريخ ﺍﻷﺩﺏ ﺍﻟﻔﺎﺭﺴﻲ ﺍﻟفعلي بعد الفتح الإسلامي ودخول بلاد فارس تحت ظل حكم العرب، ولم تظهر ﺒﻭﺍﺩﺭﻩ ﺍﻷﻭﻟﻰ قبل مرور قرابة قرنين من ذلك!

نتحدى الجميع أن يقدموا لنا قصيدة بلغة الفرس قبل سنة 180هـ ..!

ومن صعب عليه تصديق هذه الحقيقة بفعل وقوعه ضحية لماكنة الدعاية الفارسية، وتخبطه بين أرجل مطية الجهل العربية فليأتنا بقصيدة واحدة قالها فارسي بلغة الفرس قبل مجيء الإسلام. أو ليبرز لنا كتاباً واحداً في الأدب كتب في تلك الحقبة بلغة الفرس! بل ليثبت لنا أنه كان للفرس من لغة أصلاً، غير السريانية التي يسمونها الآرامية، وهي إحدى لهجات اللغة العربية، سوى نُتف من مفردات قليلة لا تصلح لتغطية الحاجات اليومية!

وإذا كان التحدي بهذه الدرجة فإن عجز المتحدى يعبر عن فضيحة مدوية لا للمتحدى وحده، بل للثقافة العربية المتفرسنة، والمتشيعبة حد المسخ! ونحن بالانتظار.

أول ما قاله الفرس من شعر بلغتهم كان على عهد المأمون في سنة 180هـ

لقد تأخر الفرس قرابة قرنين بعد مجيء الإسلام ليحرك فارسي لسانه المربوط بين فكيه ببيت من الشعر! وكل ﻤﻥ ﺒﺤﺜﻭﺍ ﻭكتبوﺍ ﻓﻲ ﺍﻵﺜﺎﺭ ﺍﻟﻔﺎﺭﺴﻴﺔ ﻟﻡ ﻴﻌﺜﺭﻭﺍ ﻋﻠﻰ شعر ﻓﺎﺭﺴﻲ قبل عهد الخليفة المأمون. هل تعلم أن أول شعر كتب باللغة الفارسية كان في ﺴﻨﺔ (180هـ)؟ وهو عبارة عن بيتين فقط قيلا ﻓﻲ ﻫﺠاء ﺃﻫل ﺨﺭﺍﺴﺎﻥ ﻟﻭﺍﻟﻴﻬﺎ ﺃﺴﺩ ﺒﻥ ﻋﺒﺩ ﺍﷲ ﺍﻟﻘﺴﺭﻱ ﺒﻌﺩ ﻫﺯﻴﻤﺘﻪ أمام أمير ختلان وﺨﺎﻗﺎﻥ ﺍﻟﺘﺭﻙ في تلك السنة. اشتمل البيتان على (12) كلمة فقط، بقافية واحدة فقط تكررت في كل شطر من الأشطر الأربعة للبيتين. أي إن صافي عدد الكلمات (9) فقط! لم يحسنوا فيهما، وهما بيتان فقطلا أكثر أن ينوعوا بين القوافي أو – على الأقل – يجعلوا للبيتين قافيتين من كلمتين مختلفتين! بيتان لا تلمس فيهما لمحة من أدب أو أثارة من فكر، بل هما أشبه بخربشات صبي يتعلم قول الشعر:

از ختلان آمذه بـــر وتـبــاه آمــــذه

آبار باز آمــذه خشك ونزار آمذه

والمعنى: من ختلان عُدتَ على قسماتك الخسران، عدت مضطرباً ذاهلاً، عدت جاف العود، هزيلاً عدت.

تلتها أربعة أبيات بعد 13 سنة لشاعر يدعى عباس، مدح بها المأمون سنة 193هـ، وتأمل ترجمتها ففيها مزيد بيان: ما قال أحد قبلي شعراً كهذا وما كان للسان الفارسي عهد به، وإنما نظمت لك هذا المديح لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

إجماع مؤرخي الأدب

وهذا ما أجمع عليه مؤرخو الأدب الفارسي – كما أسلفت – مثل الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور محمد غنيمي هلال. وشهد به بعض المنصفين من الفرس أنفسهم مثل محمد عوفي (ت 639هـ)، والمؤرخ والأديب المعاصر محمد علي همايون كاتوزيان إذ يقول (لا يوجد أي نص أدبي فارسي قديم أبداً، وإنّ الفضل يعود للعرب في تطوير اللغة الفارسية، الذي حصل بعد الفتح العربي الإسلامي لبلاد فارس). وتحدّى أن يُؤتى له بنص أو كتاب باللغة الفارسية قبل وبعد الإسلام بـ(200) عام. كما يؤكّد أنّ أبجدية اللغة الفارسية هي أبجدية اللغة العربية، ولم يوجد في التاريخ الأدبي الفارسي كاتب أو شاعر أو مؤرّخ كتب مؤلفاته باللغة الفارسية قبل دخول العرب والإسلام لبلاد فارس([3]).

نعم قد يختلف مؤرخو الأدب في تحديد تاريخ أول بيت قيل في اللغة الفارسية. فمثلاً شمس الدين قيس الرازي (ت 628هـ) يقول: أن أول من قال الشعر الفارسي أبو حفص السغدي من سغد سمرقند وكان حاذقاً في الموسيقى، وقد ذكره أبو نصر الفارابي وصور آلاته الموسيقية وقد عاش حتى سنة 300هــ([4]). علماً أن سمرقند ليست من بلاد فارس وإنما هي من (بلاد ما وراء النهر) على تخوم الصين، وتقع تحديداً في دولة أوزبكستان الحالية؛ فما علاقة السغدي بالفرس! لكن المؤرخين لم يختلفوا في أن الفرس لم يقولوا الشعر في تاريخهم كله. ولا في كون أول شعر قاله فارسي إنما هو في زمن المأمون، سوى ما قيل عن ﺒﻬﺭﺍﻡ جوﺭ بن الملك ﺍﻟﺴﺎﺴﺎﻨﻲ يزدجرد (437 ب.م)، الذي تربى في بلاط النعمان ملك الحيرة، وتأثراً بالأجواء العربية المحيطة به أقرض الشعر باللغة العربية، وقال بيتاً أو بيتين من الشعر باللغة الفارسية؛ فعاقبه رجال الدين المجوسي بأن حرموه الملك بعد هلاك أبيه، ولم يستعده إلا بالقوة. الطريف أن اسم (بهرام) عربي سرياني معناه النور([5]).

كتب الفرس شعراً لكن على قواعد العروض العربي والبلاغة العربية

وقد نسج شعراء الفرس بعد الإسلام شعرهم على منوال علم العروض العربي، فكان علم العروض بمعاييره الفارسية وليد علم العروض العربي. كما كان علم البلاغة الفارسية وليد علم البلاغة العربية كذلك. ومن أشهر كتب البلاغة الفارسية كتاب (حديقة السحر) لرشيد الدين البلخي العمري (ت 551هـ/1156م). وهو محاكاة لقواعد البلاغة العربية وأمثلتها([6]). لكن المفاجأة أن البلخي عربي من ذرية عمر بن الخطاب([7])!

يقول د. محمد غنيمي هلال: (مما لا شك فيه أن مصطلحات الشعر الفارسي في لغة الأدب الإسلامية مأخوذة كلها عن اللغة العربية، من حيث قياس الإيقاع والوزن في الشعر، على حسب المقاطع الطويلة والقصيرة، قياساً كمياً لا كيفياً بالتفاعيل والبحور، مع التزام القوافي في كل أبيات القصيدة أو في بعضها، على تفصيل لا نقصد هنا إلى بيانه، مما هو معلوم في علم العروض والقافية في الشعر العربي والفارسي معاً. وهذا جانب من الجوانب الفنية التي تندرج في خصائص اللغة التصويرية. ولذلك يندر أن ينتقل تأثيره من لغة إلى لغة كما يدل على ذلك استقصاء الآداب الفنية العالمية في تاريخها الطويل([8]).

الفرس يحرمون الشعر : ديناً وقانوناً

من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الفقر المدقع في الأدب عامة والشعر خاصة:

1. الفقر الذاتي الذي يعاني منه لسان الفرس من الأصل.

2. الفرس أمة حرب وتخريب لا أمة استقرار وذوق وجمال.

3. الأمية السائدة بحكم القانون. فالقراءة والكتابة ممنوعة يعاقب (مرتكبها) طبقاً للقانون الرسمي للدولة.

4. تحريم الشعر في الديانة الزرادشتية. إذ كانت تعاليم ﺯﺭﺍﺩﺸﺕ تحرم الشعر وتعاقب فاعله؛ ﻷنها اعتبرت ﺍﻟﺸﻌﺭ ﻤﻥ ﺴﻔﺎﺴﻑ ﺍﻷﻤﻭﺭ.

نحن على أعتاب عهد جديد

إلى الجيل الواعد من أهل السنة! قولوا للفرس الذين بينكم، ومعهم الشعوبيون: لا يغرنكم أننا، نعاني اليوم من تقهقر على مستوى القوة، فأننا إزاء عهد جديد تظلله صحوة علمية سنية، ووعي يتنامى، نجاهد لنجعله يسير قُدُماً على سكة مشروع.. وأنتم تنحدرون. والغلبة – في النهاية – لأهل العلم والوعي والمشروع.

لقد ذهب زمانكم وجاء زماننا.

2019/8/21

…………………………………………………………………………………………………….

  1. – الجمعة – 14 ذو الحجة 1440 هـ – 16 أغسطس 2019 مـ رقم العدد1487.
  2. – عروبة العلماء، 1/55، د. ناجي معروف.
  3. – تأثير الثقافة العربية.. لعنة تقض مضاجع الفرس، جمال عبيدي (رئيس مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث/ لندن)، صحيفة (العرب) على الرابط التالي: https://alarab.co.uk/ .
  4. – الصلات بين العرب والفرس وآدابهما في الجاهلية والإسلام، ص53-54، د. عبد الوهاب عزام، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013. ومحمد عوفي فارسي من أقدم مؤرخي الشعر الفارسي (ت 639هـ/1242م). وشمس قيس هو شمس الدين محمد بن قيس الرازي (ت بعد 628هـ/1231م)، وكتابه هو (المعجم في معايير أشعار العجم). وكلام د. عزام قديم وجدته على شبكة المعلومات منشوراً في مجلة الرسالة/ العدد 5/ في الأدب الشرقي بتاريخ: 15/3/1933.
  5. – تاريخ سوريا الحضاري القديم (1- المركز)، ص670. مصدر سابق.
  6. – مختارات من الشعر الفارسي، ص6، د. محمد غنيمي هلال، نهضة مصر للطباعة والنشر، يناير 2002.
  7. – عروبة العلماء، 1/56، الدكتور ناجي معروف.
  8. – في الهامش: انظر كتابي: الأدب المقارن، الطبعة الثالثة ص265 وما يليها، وما فيها من مراجع.

 

اظهر المزيد

‫4 تعليقات

  1. من حق امير طاهري ان يتباها ويتفاخر ولكن باشياء تناسب مقام قومه وما هم بارعون به حقا .. فليس بحاجة الى ان ينسب لشعبه فنونا ليس لهم باعا فيها .. فلو انه تفاخر بجهود نساء موطنه وهم يصنعون السجاد الكاشاني الذي يستمتع به العربي حينما يمشي عليه بحذائه لكان خيرا له الف مرة ..
    دام فكرك المتألق نبراسا لنا قائدنا الهمام.

  2. حين قلبت كتب التاريخ لبلاد فارس أو ايران معلمان من التنقيب يظهران لهذه الامة وهما اولا المرأة العارية المعبودة و المعلم الثاني هو المقابر الجماعية و لون الدم ولا زالت نافورة الدم هي صرحا من صروحهم وما ظهر في ارضهم هي نتاج من اعدائهم من بلاد النيل والرافدين وما علا من عمران هي سرقة لتلك الحضارات العربية حين يغزوها الفرس وبهذا كل قارئ لتاريخ الفرس يستنتج ان الفرس امة قتل ودم وفساد اخلاقي و سراق مدنية .

  3. فعلاً قضية الفرس باطلة وخاسرة ولكن محاميهم شياطين وشاطرين، وإلا كيف استطاع أهل اللسان المعوج أن يخدعوا أمة القلم ومن ورائهم أمة العجم بكل هذه الأكاذيب؟
    ما حصل هذا إلا لغياب المشروع السُنّي الواعي لحقيقة الصراع بين حقنا وباطلهم.
    جزى الله شيخنا الفاضل على هذه التصحيحات التي لولاها لكنا كغيرنا نمجد الفرس بصحفنا ومجلاتنا.

اترك رداً على حسن القزاز إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى