مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

قالت لي المِروحة

د. طه حامد الدليمي

مروحة عندما يعمل الإنسان في مسار يكتنفه المخالف والخاذل من جانبيه، تزدحم المشاكل وتكثر التضحيات، فيضطر إلى التلفت من بين يديه ومن خلفه ويتساءل: كيف يمكنني الاستمرار مع هذه الحال؟ بل قد يصل التساؤل إلى حد: هل علي مواصلة المسير أم التوقف؟ وإذا كان التوقف معناه الموت؛ إذ الحياة بلا قضية هيكل فارغ وإطار بلا مضمون؛ فلا بد من وقود لإدامة الحركة، ولا بد من زاد لبلوغ الهدف.

لا بد من الدوس على جثث الأحبة ..!

في منتصف سنة 2000، بعد أن فقدت أعز الأنصار ووقع على كاهلي حمله الثقيل، وتطلب ذلك مني المرور وحيداً في الطرقات التي كنا نسلكها معاً، وقد كان لي في كل بقعة على طول المدى شاهد يثير مشاعر الأسى، وفي كل منعطف شاخص يشحذ ذاكرة الحزن: وجدت نفسي أمام حقيقة لخصتها بهذه العبارة: (لا بد لمواصلة السير من الدوس على جثث الأحبة)! وهكذا شحنت نفسي بالطاقة التي كانت تلزمني للمرور في تلك الطرقات، ومحاذاة تلك المنعطفات.

فن مغالبة الحزن

ثم بعد تكاثر المصاعب وتوالي الأحزان وتلاحق المصائب والهجرة من البلد، اخترعت شيئاً دعوته بـ(فن مغالبة الحزن)، ومنه التشاغل عن الذكريات بتجاهلها، وهو ما يسمى في علم النفس بـ(الانسحاب Withdrwal)، استفدت منه كثيراً بعد الهجرة من العراق.

قصة ذي النون

ومن أعظم ما وجدته من وقود لإدامة الحركة ومنع التوقف قصة (ذي النون)؛ فقد كنت أقول لنفسي كلما هجست لي بشيء من ذلك: ومن يضمن لي أن لا أموت وشيكاً بحادث عابر أو مرض طارئ، أو أصاب بكارثة، عقوبةً لي على النكول عن العهد؛ فلقد عاقب الله تعالى نبياً من أنبيائه ترك قومه وهجرهم سأماً ومغاضبة فكان جزاؤه بطن الحوت! فمن أنا أمامه؟! وقد أشرت إلى هذه الحقيقة في أكثر من كلمة وقصيدة:

إني وإن نعقَ الغرابُ بشُرفتي
يترنمُ العصفورُ في شبّاكي
كلا وما غلبَ الأسى يوماً على
أملي وإنْ خمدتْ شموعُ سُراكِ
( ذو النونِ ) في أُذُنِي صدى دعواتِهِ
و (الحوتُ ) يرصدُ غفلتي بِشباكِ

قالت لي المِروحة 

فهم أسرار الأقدار وعلاقتها بالأسباب، والتأمل العميق في حركة الحياة، والنظر البعيد الذي يلامس عواقب الأمور، واستخلاص العبر، وتلخيصها بعبارات وحِكم: هو مما يخفف عن المسلم همومه.

كتبت لي إحدى الأخوات من تونس الخضراء تقول:

“ضاق بي الحال وأحكم الاختناق شدته.. أخي، فما أتعس هذا الزمن الذي نحن فيه وكم هو ذليل حين رخص كل شيء، وما أضيق آفاقه حين تبحث عن متنفس!.. فتاقت نفسي أن تسمع منك كلمات في الصبر والتوكل”.

فكتبت لها أقول: “إن كل ما ترينه من أسباب التدهور والقهر والتقهقر – على المستوى الكلي أو الشخصي – يجري وفق سنة (الابتلاء) وقانون (الاختبار)، وليست الدنيا داراً لتحقيق العدل، إنما السعي إليه. أما العدل الكامل والرحمة الشاملة فزمانها يوم القيامة، ومحلها الآخرة إذ يقول الله جل في علاه: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (غافر:17).

هل رأيت المروحة كيف تدور؟

اللب المركزي الذي تتصل به ريشاتها ينجذب بواسطة قطعة حديد إلى المجال المغناطيسي الذي يتولد من الكهرباء التي اتصلت تواً بأحد الملفات على طول محيط المروحة الداخلي، وما إن يتحرك باتجاهه حتى تنقطع الكهرباء عن الملف الأول لتنتقل إلى الملف الثاني فيتحرك اللب باتجاهه فتنقطع إلى الثالث وهكذا حتى تعود إلى الأول في حركة لا تنتهي، سرها سعي اللب وراء المجال المغناطيسي الذي لن يدركه أبداً، ولو أدركه لتعطلت الحركة!!!

هذا هو سر الحياة: السعي وراء العدل دائماً، والسعادة أبداً. ولو تحقق العدل في الدنيا، ونيلت السعادة هنا على هذه الأرض لتوقفت حركتها، وفهّت لذتها! لذلك قيل:

عليّ أن أسعى وليس علي إدراك النجاحِ

فالسعيد الموفق من عمل بمراد الله وترك أمر أقداره إليه.

أدِّ ما عليك.. ثم ما عليك.

أما الماضي فأنا أحاول معالجته بالحكمة التالية: (الماضي عِبرة لا عَبرة)؛ فبكسر (العين) عنه ينشرح الصدر وينفتح الأفق، وإلا فإن فتح العين وتسريحها للبحث في كهوفه ومغاراته لا نرجع منه إلا بسود الخواطر وكسر الخاطر”.

قف إذن قليلاً وتأمل، لتتعلم وتكتشف. ولكن في إطار يزينه التفاؤل، ويوشيه الأمل؛ من أجل أن تكون الأسرار عوناً لنا لا علينا، وردءاً يخفف عنا لا عبئاً يثقل كواهلنا؛ فالدنيا بحذافيرها لا تساوي حزن ساعة؛ لا سيما إذا نظرت في الأجر الموهوب، وقيمة السر الكامن في القدر المكتوب.

5 كانون الأول/ ديسمبر 2019

 

اظهر المزيد

‫6 تعليقات

  1. يا سلام ما اجمل الرسم الادبي في هذه الدروس من الحياة.. عاش قلمك يا دكتور وهون الله عليك وعلينا..

  2. يا الله .. كيف تضيء بهذه الكلمات الدفء في أرواح خاوية، كانت تهجع على الألم..
    لا شيء يخفف وطأة الحزن..ويبدد وحشة روح مخدوشة مثل التفاؤل والأمل الذي ينساب من قناديل غذّيت بنور الوحي

  3. نحن في هذا الكوكب نجد المصاعب التي تواجهنا بأشكالها المختلفة
    وتنعكس على حياتنا اليومية ونحن بشر نخطء ونصيب نتقدم ونتأخر ولكن الحمدالله الذي جعلنا أن نحول هذه الدنيا إلى حلاوة وسعادة ونسير على طريقها ونبحث على الأمل والمعرفة ونضحى من أجلها وهي هداية الإيمان وطاعة الرحمن عن طريق القرآن طريق الهداية والتغيير والغاية التي نعمل من أجلها هي القضيتنا لنصرة ديننا وهذة من سمات الأنبياء عليهم السلام الذين بعثوا من اجلها لتغيير المجتمع رباني يعمر في الارض وينشر الخير ويتعبد الله ، ربي يسعدك دكتور في الدنيا والآخرة ويجمعنا معاً على خير أصدقاء ومحبين لحمل رسالة رب العالمين الى يوم الدين

  4. بسم الله الرحمن الرحيم
    جميل أن تلتقي الموعظة الحسنة بالأدب الرفيع
    لابد من قضية وهي حركة الأنبياء في ميدان الحياة
    لابد من الثبات وإلا فالحوت
    يا لها من رحمة وتيسير إذ لا يحاسبني الله على النتائج
    يا له من فوز حيث قطف الثمار في الآخرة
    جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر

    1. سبحان الله عندما تجد نفسك تسير في طريق الأنبياء ووفق مرضات الله
      مهما يأتيك اليأس لا يتمكن منك لأنك تسير في طريق عظيم منهجه رباني
      وتكون دائما متفائل بكل أمور الحياة
      وكما قلت شيخنا الفاضل لأن الباع رباني ((  عن النبي ﷺ: قال الله : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))
      مقال رائع وجميل جزاكم الله خيرا

  5. عندما تقرأ عن سيرة الأنبياء، وكذلك ورثتهم القادة المجددون، تجد كأن أرواحهم خُلِقتْ من تركيبةٍ متشابهة.

    والحقيقة هي أنهم عَمِلو على صقل تلك النفوس التي في داخل تلك الصدور، حتى صفت وقامت تحلق بذلك الجسد الترابي الذي خلقه الله من طين وماء، كلاهما ثقيلان ومكانهما النزول إلى الأرض…
    بينما الروح؛ علوية نازلة من السماء، والجسد طيني من الأرض بينهما صراع فإذا ما تعلقت الروح بالوحي النازل لها من السماء وسمت معه صارت قوية أقوى من ذلك الجسد. فتحلق به في فضاء الله تعالى وتكون قريبة منه سبحانه، ومتمسكة بنهجه وحب العمل لله.
    وانجذبت إلى ذلك المجال المغناطيسي الذي يجذب تلك الأرواح، آلا وهو الوحي النازل من السماء فتتولد الحركة في الأرض مترجمة بالتبليغ والتطبيق لمافيه من سعادة الإنسان وتحقيق العدل، وحتى لو لم تدرك السعادة أو النجاح هي تؤدي عملها طبقاً لامر ربها..
    ادِّ ما عليك.. ثم ما عليك.

    و لكن إذا ما تثاقلت عن منهج الله، وتثاقلت عن الوحي واتبعت هوى النفس الأمارة بالسوء، ثقلت وثقل بها الجسد وأخلدت إلى الأرض.
    ..
    وهنا يصف سبحانه وتعالى هذه المشاهد بوصف دقيق في قوله تعالى :
    ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ( ) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ( 176 ) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ( 177 ) ).
    ..
    فهنا قد شبه الله تعالى من جاءه الحق والآيات والمنهج الرباني فنكث وأعرض، ونكل بأسوأ تشبيه … وأخذ يجري وراء الدنيا ومتاعها كمثل الكلب يلهث لا يتوقف عن لهاثه، حتى وإن شبع منها يطلب المزيد!
    ….
    بينما شبه المجددين وكذلك قادة الأمة، لا ينتهي عند الأرواح فحسب، بل هم من يفوزون بحديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبجدارة { القادة والمجددون هم ورثة الأنبياء }.
    لأنهم ورثوا عنهم هموم الامه، وورثوا عنهم الحمل الثقيل وتبليغ الرسالة،
    وورثوا عنهم الهجرة في أصقاع الأرض، وتحمل المصاعب والمصائب، ومغالبة وحشة الطريق لقلة الناصر، ونكث المعاهد وووو….الخ.
    ..
    لكن الفرق بينهم: إن الأنبياء كان الوحي يسلي تلك الوحشة ويثبت قلوبهم .
    بينما القادة المجددون سلوتهم تستمد من إلهامهم الحق الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم… وسلوتهم ان يكونوا من اؤلئك القليل ( ثلة من الأولين وقليل من الأخرين).

    واختم بقول المتنبي :

    أَينَ أَزمَعتَ أَيُّهَذا الهُمامُ

    نَحنُ نَبتُ الرُبى وَأَنتَ الغَمامُ
    نَحنُ مَن ضايَقَ الزَمانُ لَهُ فيـ

    ـكَ وَخانَتهُ قُربَكَ الأَيّامُ
    في سَبيلِ العُلى قِتالُكَ وَالسِلـ

    ـمُ وَهَذا المَقامُ وَالإِجذامُ
    لَيتَ أَنّا إِذا اِرتَحَلتَ لَكَ الخَيـ

    ـلُ وَأَنّا إِذا نَزَلتَ الخِيام.

    .حفظك الله يا شيخنا … وجزاك عنا خير ما يجازى به مجدد عن امة. اعانك الله وهون عليك في غربتك، وحقق لك ما تريد وزيادة.
    …..
    🌹🌸🌹🌸🌹🌸🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى