مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

أهلاً رمضان .. شهر التقوى

د. طه حامد الدليمي

C:\Users\DR\Desktop\صورة.jpg ذات جمعة من رمضان سنة 1980 صليت في جامع المشروع في ناحية (جبلة)، وكان الجامع الوحيد في الناحية كلها آنذاك..

كان بين المصلين ذلك اليوم رجل مصري يعمل طبيباً في مستشفى الناحية فطلب منه أخي – وكان إمام وخطيب المسجد – أن يلقي علينا خطبة الجمعة. فكان مما قال: إن آيات الصيام بدأت بالتقوى وانتهت بها. يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183)، وهي أول آية، وقوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة:187) وهي نهاية الآية الخامسة والأخيرة من آيات الصيام. ثم أخذ يفصل في التقوى ومعانيها.

أثارني هذا الربط الذكي بين الآيات بدءاً وانتهاءً! وغرس في نفسي بذرة البحث عن العلاقات الرابطة بين الآيات والأشياء. ثم علمت – بعد حين – أن هذا علم شريف منيف من علوم القرآن يسمى (التفسير الموضوعي). والعلاقات الموضوعية بين آيات الذكر الحكيم متنوعة متعددة لا يمكن الإحاطة بها مهما تكلم عنها المفسرون وبحثوا ودققوا!

مما استفدته من د. فاضل السامرائي قبل خمس سنوات، أن سورة (القدر) خمس آيات بعدد الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر. وهن: 29،27،25،23،21. ونظرت فإذا آيات الصيام في سورة (البقرة) خمس أيضاً!

بين التقوى والهدى

كان قول ذلك الطبيب المصري سبباً من أسباب عديدة، لأن ألتفت – بعد حين – إلى علاقة أُخرى تربط بين آيات الصيام وموضعها من سورة (البقرة).

السورة تبدأ هكذا: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:1،2). غاية القرآن العظمى إذن هي الهدى، وهي المطلوب الوحيد الذي تضمنته سورة (الفاتحة): (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). ولو كان ثمت مطلوب أكبر يسأله العبد ربه لكان هو المذكور في هذه السورة التي هي أعظم سور القرآن العظيم. والتي يكررها المسلم كل يوم مرات دون بقية سور القرآن.

والهدى لا يحصل إلا لصنف من الناس هم (المتقون). فالكافرون (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) (البقرة:6). والمنافقون (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10). المتقون وحدهم هم من يفوز بجائزة الهدى. فكيف يحقق الإنسان التقوى ليكون على (هدى) من ربه؟

لا بد من أعمال محددة تكون سبيلاً إلى ذلك. فجاءت سورة (البقرة) – ثم بقية سور القرآن – تفصل ذلك. وأوله الأصول الثلاثة الكبرى للدين: الإيمان والصلاة والزكاة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3،2)، ويأتي على رأس الإيمان بالغيب الإيمان بالله جل في علاه. ثم ما إن انتهت الآيات من ذكر أصناف الخلق الثلاثة (المتقين والكافرين والمنافقين) حتى توجهت إلى الناس تدعوهم لعبادة الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؛ لماذا؟ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21). التقوى إذن هي الغاية من العبادة بمختلف أعمالها.

اقتران التقوى بكل الأعمال التي في سورة ( البقرة )

بعد قليل يأتي ذكر أشهر الأمم التي حمّلها الله تعالى أمانة الدين، وهي بنو إسرائيل، فدعتهم الآيات إلى متابعة النبي ، وإذا الدعوة مقرونة بتقوى الله: (وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة:41). ثم تتابع ذكر التقوى مقرونة بشتى الأعمال: أمراً ونهياً. فجاء صيام رمضان في موضعه من السورة بهذا الاعتبار (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:183). وهذا هو الركن الرابع للإسلام.

أما الركن الخامس، الحج، فقد قرن بالتقوى من أوله فقال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189)، وفي آخره قال سبحانه: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:203). واللطيف أن البناء اللغوي للتقوى جاء بصيغة (مَنِ اتَّقَى) في الآيتين: الأولى والأخيرة! فلا بد أن يكون لذلك سر، حاولت فلم أهتد له. وما بين هذه وتلك تكرر ذكر التقوى ثلاث مرات: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة:196)، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة:197).

حقيقة التقوى

فما هي التقوى؟

دعونا نرصد التقوى كحالة نشهدها قبل أن نرصدها معاني نفسرها ونكتبها.

من منا لم يسمع بقصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بخالص أعمالهم؟. أحدهم مر بحالة انطلق فيها سعار الإثم من قيوده، وغاب العقل فلا تكاد تحس له من أثر. وفي تلك اللحظات العاصفة ألقت حبيبته التي تمكن منها، وكانت امرأة صالحة، على مسامعه كلمة زلزلت كيانه فبددت ذلك السعار الآثم كما يتبدد الماء من بين الأصابع، وأعادت إليه عقله الغائب. (… قال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت. حتى إذا قدرت عليها قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه. فانصرفت عنها وهى أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة). هذا ما أخبرنا به معلم الأمم . والحديث في (صحيح البخاري). “اتق الله”! اتق الله.. هذه الكلمة حين تقع موقعها تكفي لأن تفعل هذا وما هو أكبر!

هذه هي التقوى. فهل ما زلنا في حاجة إلى معرفة معناها؟ لا أرى ذلك. ولكن لا بأس ببعض الكلمات:

التقوى أن تجعل بينك وبين غضب الله تعالى وعقابه وقاء. هذا هو أصل معناها. أما حقيقتها الملموسة واقعاً فملخصة في هذه الجملة: (فعل المأمور واجتناب المحظور). ومن ألطف ما جاء فيها ما روي من أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى؟ فقال له: أما سلكت طريقاً ذا شوك. قال: بلى. قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى.

وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:

خلِّ الذنوبَ صغيرَها وكبيرَها ذاكَ التُّــقى
واصنعْ كماشٍ فوقَ أرضِ الشوكِ يحذرُ ما يَرى
لا تحقرَنَّ صغيرةً إنَّ الجبالَ مِنَ الحصى

وصيام رمضان عبارة عن دورة تدريبية مدتها شهر كامل للامتناع لا عن الحرام بل عن الحلال، فيكون الامتناع عن الحرام بعده أسهل. لهذا قال تعالى بعد الانتهاء من آيات الصوم مباشرة: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188)؛ فمن تدرب على الانتهاء عن أكل مال نفسه بالحق ثلاثين يوماً كان الانتهاء عن أكل مال غيره بالباطل أيسر وأولى.

اظهر المزيد

‫11 تعليقات

  1. كالعادة طرح عظيم وعميق. بارك الله في علم الدكتور ونفع به أهل السنة.
    بالنسبة لصورة التهنئة، الدكتور يبدو وكأنه ملك. بارك الله في الدكتور.

  2. سلام من الله تعالى عليكم ورحمة منه وبركاته.
    دكتورنا الغالي..
    في البدء مبارك عليكم الشهر الفضيل…
    وفي البداية لله درك، ولله درر ينبوعك القرآني الذي يتجلى دوماً لنا بمعانٍ تهتز لها شجرة قلوبنا، فتحرك اغصان الإيمان حتى كأنها تورق في نفس اللحضات من شدة خصوبة الكلمات يا لها من معاني نورانية تدخل الروح وسرعان ما تحلق بها في فضاء الإيمان….
    ..
    لكن في مقالك هذا لا ادري كاني ارى التغلل كان مدروسا.. بل وبدقة
    كلما دخلت فيه اكثر كلما زاد جماله وتأثيره، ووقعه واشياء اكثر من ان اصفها..
    حتى اذاما انتهت منه لا استطيع إلا ان اقول: الله… الله.. الله..! من جمال ما مررت به واذا بعيناي لا زالت تذرف دموعها من حرارة الوقع… وجمال وحسن الربط المندمج مع الروح.
    ..
    المقال كله جميل وأجمل ما فيه.. الكلمات الاخيرة كأنها بلسم على جراح القلب… بعدما نفشت تربة القلب بقصة صاحب الصخرة وابنة عمه… ثم ما ان فرغت رحت تغرس اجمل المعاني فيه (التقوى أن تجعل بينك وبين غضب الله تعالى وعقابه وقاء.).. ! هنا تغرس اعظم اصل من اصول التقوى وتترك العقل يتفكر ويعد قراءة هذا الاصل مرات… لشدة وقعه وجمال وصفك… ثم لم تلبث حتى تكمل هذا الوصف بوصف سيدنا عمر… وكأنه استسل منه.. حتى تكمل وتغرس اجمل معاني الشعر لتعصر القلب مرة ثالثة وتطرد ما به من وهن وهوى وضعف بأبيات ابن المعتز…
    لا زالت محلقا بالقلوب في فضاء فلكك الايماني والقلوب لازالت تنبض وتتلقى بشغف تلك المعاني، واذا بك تربط هذا الكرنفال الجميل بفريضة الصيام بربط جميل وتختم اجمل خاتمة عندما ربطت ايات الصيام بالأية التي بعدها والتي تنهى الناس عن اكل الاموال بالباطل… حتى تقول :” فمن تدرب على الإنتهاء عن أكل مال نفسه بالحق ثلاثين يوماً كان الإنتهاء عن أكل مال غيره بالباطل أيسر… وأولى.. ”
    رزقنا الله الهداية … وجعلنا الله وإياكم من المتقين..

    1. رمضان مبارك علينا وعليكم
      تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال
      نعم شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس
      فمن منا لا يشعر بذلك الشعور الإيماني الذي يجس القلب وانت تصوم وتتأمل ما اعظم هذه الأيام وتقوم بقراءة القران الكريم وتتلو اياته وتتفكر بها وما تحمل من معاني جليه و واضحة لله ما اعظم هذه الإيام .

  3. كلام جميل يجمع بين العلم والتزكية ونحن نعيش ليالي وأيام هذا الشهر الفضيل جعلنا الله وإياكم فيه من المقبولين.

  4. وصف جميل وابداع متواصل للإحاطة بهذا الآيات المحكمات الواضحات في أساسيات الدين من أصول الإيمان العقيدة والشريعة بهذا البيان يكون القرآن الكريم هداية فلاح للمتقين ومن تمسك بغير القرآن كان من الزائغين ونحن في هذا الشهر المبارك نسأل الله الهدى والتقى والعفاف والغنى ، جزاكم الله خيرا على هذا التوضيح شيخنا الفاضل

  5. وصيام رمضان عبارة عن دورة تدريبية مدتها شهر كامل للامتناع لا عن الحرام بل عن الحلال، فيكون الامتناع عن الحرام بعده أسهل. لهذا قال تعالى بعد الانتهاء من آيات الصوم مباشرة: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188)؛ فمن تدرب على الانتهاء عن أكل مال نفسه بالحق ثلاثين يوماً كان الانتهاء عن أكل مال غيره بالباطل أيسر وأولى

    ماذا اقول بعد هذه الخاتمة ☺ ختامها مسك واولها عطر
    اللهم اجعلنا من المتقين

  6. ما احوجنا للوقوف عند هذه الآيات البينات
    والغوص لاستخراج دررها المكنونة
    بارك الله بالألباب التي تستلهم هذه الدرر
    جزاك الله خيرا دكتور طه الدليمي

  7. الهدى **والتقى
    من سار عليهما
    عرف مراد الله
    في الحياة الدنيا والآخرة
    تبيان واضح لهذه الآيات العظيمة
    نفعنا الله من علمك وما خط به قلمك
    جزاك الله خيراً

  8. هنا اجلس وكأنني في المحمودية الكبير في قضاء المحمودية وتعود بي الذكرى الى مجالس التربية الاسلامية التي لا زال همسها له أثر في قلوبنا وانا أقرأ اعتذر لمحراب الكلمات الايمانية ايقاع ازر الكيبورد وانا اكتب وان للكلمة نداوة ورقة تجعلك تصمت في محرابها وتحتك بركان يغلي وربيعا ترسله العيون بلذة التقوى ومحراب الهيبة والجمال .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى