الأيام الخواليديوان القادسية

في كلية الطب

 

د. طه حامد الدليمي

 

ودخلت كلية الطب/جامعة بغداد. وتخرجت منها بتقدير (متوسط). وهذا غاية ما يحققه أكثر من (90٪) من خريجي كلية الطب، وتقاربها في ذلك كلية الهندسة. فقلة منهم يحصل على درجة (جيد)، ومن النادر أن يتجاوز ذلك إلى مستوى (جيد جداً). أما درجة (الامتياز) فلم أسمع أن أحداً من طلاب الطب تمكن من تناولها؛ فالمادة عميقة واسعة متشعبة، نظرية وعملية (في المختبر) وسريرية (في المستشفى). والامتحان النهائي يكون عن كل ما تلقى الطالب من علوم في السنوات الست!

ذهبت يوماً إلى كلية الهندسة في باب المعظم، وكانت قريبة من كلية الطب، مع صديق لي من أهل (الضلوعية) يدرس الهندسة، بعد انتهاء الامتحانات، وأظن ذلك كان من أجل معرفة نتيجة امتحانه. وشاهدنا درجات الطلاب معلقة على الجدار. وكان عدي بن الرئيس صدام حسين طالباً آنذاك فكان معدل درجاته (95٪)، بينما درجة الطالب الثاني في الترتيب من بعده كانت (83٪) أو أقل من ذلك، فضحكت وقلت: مسكين هذا الطالب؛ إنه الأول في الحقيقة لكن حظه السيئ حشره مع عدي!

كما كنت في تلك السنوات مشغولاً إلى حد الاستغراق بشيئين كبيرين: دراسة العلم الشرعي والدعوة، بحيث كان ذلك الانشغال وصل بي إلى حد حين أنظر إليه الآن عبر عمر يلامس منتصف الخمسينيات أبتسم لغرابة ما كنت أفعل نتيجة تعلقي بهذين الشيئين الكبيرين والأمرين العظيمين!

لم يكن لدي مانع من أن أحضر جلسة دعوية تستغرق ساعات، وقد فعلتها، وذلك في أيام الامتحانات النهائية، في وقت كانت كل ساعة منه تعني ما تعني من القيمة والأهمية! وفي السنة الخامسة قررت الرسوب في إحدى المواد الدراسية، كي أتفرغ للعلم والدعوة في السنة التالية؛ فمادة أو درس واحد فقط لا يثقلني أو يشغلني عنهما. وفي السنة التي ستليها – أي الأخيرة – تكون المادة النظرية فيها شبه معدومة فيتيح لي الوضع بعمومه فرصة لا بأس بها أستثمرها فيما أريد من العلم والدعوة.

الأغرب من ذلك هو الإحساس أو الشعور الذي كان يتملكني.. وإطار التفكير الذي يحكم ذلك الشعور! فقد كنت أرى أن اجتيازي المرحلة الخامسة إلى السنة الأخيرة التي هي سنة تدريب شبه تام نمارس فيه الطب عملياً في المستشفيات، ثم تخرجي وانشغالي بالعمل كـ(طبيب مقيم) لمدة (15) شهراً، حسب (قانون التدرج الطبي) المعمول به رسمياً، لا يسمح فيها للطبيب أن يغادر المستشفى إلا يوماً واحداً في الأسبوع، ثم أداء الخدمة العسكرية، التي ستكون عادة في جبهة القتال.. كل ذلك سيشغلني عن مرادي في طلب العلم ومتطلبات الدعوة. وإذن سنة أو قريب من سنتين أنصرف فيها إلى العلم والدعوة شيء يستحق اتخاذ ذلك القرار. وكنت أشعر أن الدعوة في منطقتي ستتوقف ما لم أفعل ذلك.

هكذا كنت أفكر.. هكذا كنت أشعر!

 

خارج المألوف

ولما أفضيت بقراري هذا إلى صديقي أحمد اندهش منه حقاً. وحاول ثنيي عما قررت، سيما وأنني كنت متزوجاً وأسكن في بيت أختي.. وكان لديهم جناح علوي كنت أشغله مع زوجتي وابنتيّ: عائشة وفاطمة. لكنني من ذلك الصنف من الرجال الذي إن اقتنع بشيء أمضاه دون التفات إلى قول قائل أو معارضة معارض! وكانت حياتي نتيجة قرارات مفصلية من هذا النوع.. خارجة عن المألوف، وصعبة التنفيذ. هجري لمهنة الطب بعد ثماني سنوات وانتقالي من عيادة طبية ناجحة بكل المقاييس بحيث كنت أضيق بكثرة مراجعيها من المرضى على عكس الكثير من الأطباء، إلى خطيب في مسجد براتب شهري لا تساوي قيمته ثمن كيلوين من اللحم! سفري البعيد الذي سـأتناوله – إن شاء الله – في مقام آخر. ممارستي لمهنة الفلاحة إحدى السنين مع مهنة الطب! وقرارات أُخرى كلها لا تجري على السنن التقليدي للحياة. ومنها تبني مشروع (القضية السنية) بالصورة التي أحاول رسمها في هذه (القصة) تعبيراً عن الحقيقة التي دارت في الواقع الذي عشناه قدر المستطاع.

وجاءت طريقة رسوبي بقرار مني خارجة عن المألوف أيضاً! ومثلها التشبث بالبقاء في الصف نفسه بعد رسوبي في تلك المادة الذي لم يتم إلا بمراجعات استنزفت وقتاً وجهداً واستغراباً من ذوي العلاقة في إدارة الكلية!

فالمادة التي قررت الرسوب فيها وهي مادة (طب الأطفال) نجحت فيها، والرسوب كان في مادة أُخرى وتم بصورة غير متوقعة!

كان ينبغي أن لا أحضر امتحان المادة الأولى، لكنني كنت كالذي يُهدي شيئاً ونفسه متعلقة به. دخلت قاعة الامتحان وأجبت عن بعض الأسئلة أجوبة مجتزأة ما كنت أتصور أنها تبلغ بي النجاح. لكنني نجحت! هذا وأنا لم أقرأها ولم أتهيأ للامتحان فيها، ودخلت قاعدة الامتحان لأرسب لا لأنجح، ولو كنت أعلم أنني سأنجح ما فعلت!

فكيف رسبت في المادة الثانية؟!

صادف أحد أيام الامتحانات يوم عطلة رسمية، وهذا لم يحصل طيلة عمر دراستي كله، فتوهمت أن مادة ذلك اليوم تؤجل فتكون آخراً، لكن تبين أن النظام المقرر يجعلها في يوم المادة التالية محافظاً على الترتيب نفسه. لا أذكر الساعة لم غبت عن الامتحان التالي، وهو في مادة الجراحة: هل لأن الامتحان كان في مادة فرعية وكنت معفواً فيها أم ماذا؟ لم أعد أذكر. المهم أنني أخطأت الأمر؛ فرسبت في درس من الدروس، وإن لم يكن الدرس المقصود. أردت درس الأطفال، وأراد الله مادة الجراحة!

وأذهب يوماً من أيام السنة التالية إلى الكلية مصادفة بعد أشهر من الانقطاع؛ إذ لا حاجة بي إلى الدوام من أجل مادة واحدة، وليس هناك من إلزام بالحضور. مر بي خالي إسماعيل في طريقه إلى بغداد ليأخذني معه، وكانت هذه عادته كلما أراد الذهاب إلى بغداد لضعف خبرته بطرقها ومناطقها الكثيرة. وهناك عنّ لي أن أعرّج على الكلية لأرى صديقاً أو أعرف شيئاً فاتني يهمني معرفته. وفوجئت بقرار اتخذته عمادة الكلية بإنجاح الطلاب الراسبين في مادة واحدة أساسية؛ وذلك بناء على طلب تقدم به مجموعة من الطلاب، ووجدت اسمي ضمن الناجحين إلى المرحلة الأخيرة! ابتأست لهذه المفاجأة المزعجة بينما وجدت بقية الطلاب فرحين مستبشرين؛ لقد فاتتني الفرصة!

ولكن هل أستسلم..؟

تقدمت بطلب أعترض فيه على القرار وأطلب استثنائي منه! وكانت حجتي في ذلك ظاهرة: تأخر صدور القرار؛ وهذا سيربك الطالب ويضعف استعداده لأداء الاختبار. كان الأساتذة والموظفون يعجبون من صنيعي، سوى الدكتور مقداد العاني، أستاذ جراحة المسالك البولية، الوحيد الذي أيدني وأعلن عن صحة موقفي قائلاً: والله معك حق، ولو كنت مكانك لفعلت فعلك. وكانت محاولة مضنية تكلل فيها طلب الرسوب بالنجاح ولله الحمد! هل لاحظت؟ “طلب الرسوب تكلل بالنجاح”!

كيف يجتمع رسوب ونجاح؟ إلا خارجاً عن المألوف!

 

25/2/2014

 

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. مراحل شاقة وشيقة،، ولكن سبحان الله الطب يجمع بين (٣) أشياء :
    ١-المال ٢-الرفعة ٣-التواضع الانساني.. _فمن المستحيل أن يتخلى عنها أحد وبعد عناء ربع قرنأو اكثر؛؛
    _وداعاً !!!
    من معالجة طب الأجساد إلى طب النفس ، وتعديل مسارها ووجهتها بمشروع منظبط رباني.”
    يالهُ من تحول ورفعه،، إذا كان الطبيب هو سبباً بإنقاذك من مرضٍ ما فهذهِ الوجه التي تتمناهُ الأمه المغيبه هي سبباً بإنقاذ الإنسان من نارٍ تلظى ،، ثبتكم الله شيخي ومن كان على خطاكم وهدابكم أحباب المصطفى الذين تقطعت بهم السبل ولم شملنا على الحق المبين

  2. هكذا هم الناجحون والمبدعون دوما تفكير خارج المألوف وخارج القطيع قوم سبقوا زمانهم وعلا تفكيرهم وينظرون للاشياء نظرة بصورها المختلفة لا بالصورة الجامدة .

  3. من ترك شيء لله عوضة الله خيراً منه في ظل الضروف الغامضة عن جادت الصواب بين الجمهور السني وغياب الوعي الحقيقي امام تحديات الغزو الشعوبي الشيعي لم يكن للخطباء ومشايخ أهل السنة الثقافة التامة للجمهور السني أمام التحديات على أرض الواقع سوى العبادة والتسبيح وصلاة الجماعة في المساجد فقط وخارج المساجد ليس لهم عمل هكذا عرفوا من الدين لأنهم فهموا من مشايخ أهل السنة أن الدين عبادة فقط .والحمد الله الذي نور الله بصيرة الدكتور بنور الهداية ولبيان والمعرفة الواضح والفكر الراشد من خلال القرآن الكريم وكيف العمل بالقرآن أمام التشيع ووضع له الخطب والمحاضرات والدروس المتتالية في مفهوم الدعوة لبيان أصول العقيدة والشريعة وضروريات الحيات من خلال كتاب الله وأسس مشروع رباني سني مكتوب ومفصل ومنشور الإنقاذ أهل السنة من خطر إيران. وهذا العمل العظيم والمنزلة الرفيعة التي تفرغ له شيخنا الفاضل حفظه الله وجزا الله خير الجزاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى