الأيام الخواليديوان القادسية

أشخاص تأثرت بهم..الشيخ سامي رشيد الجنابي/3-3

د. طه حامد الدليمي 

 

 

أجمل الأيام وأثراها وأكثرها بركة

لقد كانت أيامي مع الشيخ سامي رشيد من أجمل أيام حياتي، وكانت الساعات التي أقضيها معه أحسِبها – بلا مبالغة – دقيقة دقيقة! فقد رزقه الله تعالى حسن العشرة، وسعة الصدر، والابتسامة العريضة، والكرم الفياض، إضافة إلى تضلعه في العلم وذكائه الحاد وشخصيته الآسرة، ودرره التي ينثرها علينا باستمرار؛ فما جلست معه مجلساً إلا وخرجت منه بفوائد ثمينة.

ناهيك عن تعامله مع طلابه تعامل الأخ الكبير والأب الحنون، يتفقد حاجاتنا ويسأل عنا ونزوره ويزورنا. وقد بات عندنا ثلاث ليال بمنزلنا في ريف (جبلة) في شتاء 1983 – على ما أذكر – كانت من أجمل أيام العمر. جلسات وسهرات علمية وروحية وأدبية ما زالت لذتها تسري في مُشاش عظامي ومسامِّ فؤادي! وشاركنا العمل أحد الأيام في حقل الطماطة، وكنا نضحك من طريقته في مسك المسحاة ولبس الحزام؛ فهو رجل حضري لم يتعود حياة الريف ولم يمارس أعماله.

ويوم عودته لم نجد في ذلك المكان المنقطع واسطة نقل تحمله إلى المدينة ليستقل من هناك سيارة إلى بغداد، فقطعنا الطريق مشياً على الأقدام وكان طويلاً ربما بلغ نحواً من سبعة كيلات، لم أشعر بها قط، بل كنت أعدها خطوة خطوة! وزارنا مرة أُخرى في بيت خالي إسماعيل فكانت ليلة سمر من ليالي الشتاء الطويلة، كنت أحسِب دقائقها ولسان حالي يقول:

يا أخا البدر سناءً وسَناً
حفِـظَ اللهُ زمانـاً أطلعـكْ
إن يطُلْ بعدَك ليلي فلَكَمْ

بتُّ أشكو قِصَرَ الليلِ معكْ

وعلى السراج النفطي الخافت ونحن نتحلق حول المِدفأة كان البيت يشع نوراً وإيماناً.. وأنظارنا مشدودة إلى ذلك الوجه الوضيء يتحدث إلينا حديث الروح للروح. وبكيت ساعتها ما شاء الله لي أن أبكي.. وأنا أستمع منه إلى قصة (العيناء المرضية)([1]).

لم أكن حينها أدري أنني أتلقى الدروس الأولى في فن الحب والغرام الخالد! هكذا كان الشيخ سامي يربنا ويربينا، ويتخولنا بالموعظة، إضافة إلى العلم الذي كنا نتلقاه عنه.

وكانت مجالسي معه في بيته برصافة بغداد جوار جامع الحاجة فوزية عامرة بكل ما يغذي العقل وينشط الفكر ويسمو بالروح وتهنأ به النفس ويطمئن الفؤاد. دعك من خطبه الرائعة ومحاضراته الغنية المشبعة، التي صاغت مكنتي في الخطابة والإلقاء والمحاضرة شكلاً ومضموناً. تذكرت يوماً تلك الأيام فأرسلت إليه بهذه الأبيات:

ألا ليتَ أيامَ الشبيبةِ تينعُ
وعهداً تقضّى في الرُّصافةِ يرجعُ

وشيخاً مهيباً  كان ثمةَ حقبةً
يصولُ بصوتِ الحقِّ فينا ويصدعُ

يعودُ إلينا فالنفوسُ مشوقةٌ
وما غيرهُ يشفي النفوسَ فتهجعُ

13/4/2008

ويضيق الوضع الأمني بالشيخ، فيضطر سنة 1994 للهجرة من البلد إلى الأردن ثم إلى اليمن، ومن هناك إلى النمسا! فأحسست كأن بغداد فرغت من العلماء، وكنت كثيراً ما أردد الأبيات التالية، التي سمعتها منه يوماً:

لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجالسُ أوجُهاً
غيرَ الذينَ عَهِدتُ مِنْ عُلمائِهَا
 

ورأيتُها محفوفةً بِسِوَى الأُلَى
كَانُوا شموسَ صُدُورِهَا وفِنَائِها

 

أنشدتُ بيتاً سائراً متقدماً
والعينُ قدْ شرَقَتْ بِجارِي مائِها

 

أما الخيامُ فإنَّها كخيامهِم
وأَرَى نِساءَ الحَيِّ غيرَ نِسَائِها

ويجمعني مجلس في بيت الشيخ علي حسين الجبوري رحمه الله، الملحق بجامع شاكر العبود في حي السيدية، فأتناول من مكتبته كتاباً، وتقع عيني فيه على هذه الأبيات لابن زيدون الأندلسي:

ودّع الصبرَ محبٌّ ودّعَكْ
ذائعٌ مِن سرّه ما استودَعكْ
 
   

يقرعُ السنّ على أَن لم يكنْ
زادَ في تلك الخطى إذ شيّعكْ

 

يا أَخا البدرِ سَناءً وسَناً
حفِظَ اللَهُ زماناً أطلَعكْ

 
 

إن يطُلْ بعدَكَ ليلي فلَكَمْ
بتُّ أشكو قِصَرَ الليلِ مَعكْ

 

واقشعر جلدني ودمعت عيني، ووالله ما خطر في بالي إلا شيخي، ولا ارتسمت ولا طافت في خيالي إلا صور مجالسي معه في بيته سنين كنت أُحسها أياماً! وكانت الليالي التي أزجيها عنده تطول – يا لَسعادتي! – في حساب الزمن، ولكن كم كنت أشكو قصرها معه!

 

[1]– ضمنتها كتابي (ساعة في رحاب الحور).

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى