الأيام الخواليديوان القادسية

نفحة من عبق الماضي

 

د. طه حامد الدليمي

 

في آخر كلام لي معكم على صفحة الديوان قلت لكم:

دعوني أروي لكم هذا المشهد الغريب، الذي عشته في يوم من الأيام قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة، وأودعته دفتر الذكريات يوم الأحد 29/4/2001.

إليكم صورة ذلك المشهد الذي ذكرته آنفاً، منقولة عن دفتر كنت أنتابه بين الحين والحين لأرسم فيه منارات صغيرة أستدل بها على تاريخ طويل قطعنا أشواطه في زمن مضى، عسى أن يمنحنا الله تعالى فرصة تدوينه فيما نستقبل من أيام:

قبل أسبوعين في مثل هذا الوقت (أي صباح يوم الأحد 15/4/2001) كانت السيارة تنهب الأرض بنا متجهة إلى (دلي عباس) بمحافظة ديالى، لنزور صديقاً لنا قديماً كريماً هو محمود الجبوري، بعد محاولات عديدة لتنظيم هذه الزيارة وضرب موعد يناسب جميع المتشوقين له الداعين لزيارته، وهم يحاولونها منذ سنتين تقريباً! وأخيراً تمكنا من الاتفاق.. وتمت الزيارة!

مَن هذا الصديق القديم الكريم: محمود؟ ولماذا الكل يحبه ويشتاق إلى رؤيته؟

تعرفنا عليه في ناحية مشروع المسيب الكبير (جبلة) قبل ربع قرن من الزمان! كان مهندساً زراعياً يشرف على مزارع الدولة والغابات هناك أيام كان للوظيفة بريقها.. وخبزها الذي يجذب الناس بعيداً عن مناطقهم التي نبتوا فيها.

وجمع بيننا المسجد الوحيد في الناحية كلها: مدينة وأريافاً. والتقت القلوب والأرواح، وتوثقت العلائق في رحاب الدين وظلال المسجد ونفحات العلاقة الراقية ولمسات الخلق الكريم.

كان محمود من القلائل الذين ربطته بالشيخ علاقة روحية أخوية. ارتقت وسمت وتوثقت فكانا كالشخص الواحد في جسدين. ولكم أن تتخيلوا وثاقة هذه العلاقة عندما تعلمون أن الشيخ – رحمه الله – ما كان  يصطفي من الإخوان إلا النادر من أولئك الذين يحوزون صفات خاصة، ويجوزون عقبات لا يجتازها الكثيرون!

ثم …..

تغيرت الظروف.. وخبا بريق الوظيفة.. وقل خبزها فرجع محمود إلى حيث كان يقطن من قبل في قرية (دلي عباس) في ديالى. كان ذلك عام 1992 بعد أن استشهد أخي بعام.

وظل محمود في أذهان الجميع حلماً جميلاً يذكرنا بماض جميل. وأتنهد والصور القديمة الحلوة المرة تراود خاطري: ها أنا أسير في ذلك الزقاق المتعرج ما بين المسجد وبيت محمود، مخترقاً عن يمين وشمال بيوت الحي التي غالبها من طين، وأشجار القلمطوز (الكافور) تظلل المكان. ها أنا أعبر الساقية الضيقة من اليسار إلى اليمين لأواصل السير باتجاه البيت الذي طالما دخلناه وجلسنا فيه وأكلنا وشربنا وتحدثنا وسمرنا. وأبيات من قصيدة طويلة تلوتها على أسماعهم في يوم من أيام عام 1979 تحكي قصة حب عاثر طوحت به الأيام بعيداً بعيداً، أسميتها (الغلطة الأولى) فأردف أخي قائلاً وهو يضحك: والأخيرة إن شاء الله!

يا لله.. ما أجمل تلك الأيام!

هل حقا إنها جميلة؟

أم لأنها أمست في ضمير الزمن ذكريات وتأريخاً وماضياً!

ولماذا كل ماضٍ جميل؟  ما هو السر في ذلك؟

إنني أكتب هذا الذي أكتبه وكأن مضعة قابعة في يسار صدري تطحن طحناً، أو كأنها تنشر بالمناشير!

إن صورة المسجد ونهر المشروع والطريق الطويل الذي كنا نقطعه مشياً على الأقدام حيناً، وعلى (البايسكل) أو الدراجة الهوائية حيناً.. ثم تطورت الحال فكانت الدراجة البخارية فيما بعد. وكثيراً ما كنا نستقل السيارات العمومية. وهناك في ذلك البيت الطيني في آخر نقطة من فرع نهر (الخربانة) حيث يسكن أخوالي أجد أمي.. الحنان والحب والوجه الطافح بالبشر. الوجود والتأريخ والصبر والزاد والعفة والدين.

أين توارى ذلك كله؟…….. أين؟! وكيف؟!

مجلدات من الذكريات تتطاير أوراقها الآن أمامي، في كل ورقة صورة بل صور بعضها باهت يكاد يختفي، وبعضها واضح القسمات، وبعضها لا أكاد أتبينه. لكنها عزيزة على قلبي كلها.. رغم أنها تعصره عصراً، تطحنه، بل – قل – تذبحه. وها هو ينز دماً يتصاعد بخاره إلى الحلقوم ويخرج من مناخري حاراً دافقاً.

وحين تعود بي الذكرى إلى الوراء إلى تلك الأيام البعيدة الموغلة في أعماق الماضي تتكرر على صفحة ذاكرتي صور لا تكاد تفارقني. ها أنا أنظر إلى أخي ممتطياً دراجته الهوائية عصر يوم من أيام 1978 ذاهباً إلى المسجد قاطعاً على الدراجة تلك المسافة الطويلة، والتي تبلغ بضعة كيلات، على الطريق الترابي بجوار النهر، ينود على دراجته وأنا في حقل الخيار أنظر إليه. لماذا انحفرت هذه الصورة بعينها أو انطبعت على صفحة الذاكرة حتى كأن الزمن قد توقفت عجلته فليس إلا أنا أنظر إلى الأفق الغربي، وليس إلا هو يراوح برجليه فوق دراجته، ليدرك صلاة العصر والمغرب إماماً في ذلك المسجد البعيد، ليعود بعدها على دراجته إلى بيته الطيني في ذلك الريف الجميل، قبل أن يقطع الظلام شوطه العميق في جنح الليل البهيم؟!

ومثلها ومثلها.. صور كثيرة، أخشى أن أتحدث عنها لأني أشعر بعجز كلماتي عن تصويرها. بل أشعر أني أشوهها!

ثم هي كثيرة كثيرة، وكلها حبيب إلى قلبي، كأولادي لا أعرف أيهم أحب وأقرب! فما الذي آخذ وما الذي أدع؟! أو قل: ما الذي تجرؤ يدي على تشويهه أولاً؟!

 

هذا ما حدث ..!

تأملوا ما حدث لي قبل أسبوعين في ذلك اليوم الذي زرنا فيه أخانا وصديقنا القديم محمود:

قبل سنين عثرت بين أوراق أخي على رسالة موجهة منه إلى محمود.. رسالة أخوية فيها نفثات وشجن.. وكلمات عفوية رقيقة نابعة من القلب. احتفظت بالرسالة لا لشيء إلا للذكرى.

في يوم ذهابنا إلى محمود تذكرتها! فأخذتها معي كشيء عزيز طريف: رسالة عمرها اثنان وعشرون عاماً..! أُرسلتْ منذ ذلك التاريخ ولم تصل إلا بعد هذه السنين الطويلة من أخ حبيب إلى أخ حبيب.

في المسجد حين صلينا الظهر في (دلي عباس) خطر لي خاطر غريب، لا أدري كيف برق في خاطري ولا كيف اجتاز مسرعاً دون أن يتوقف ولا أن يترك أثراً صفحة ذاكرتي! ولغرابته ويجزمي ببعده عن الواقع تلاشى سريعاً، حتى إنني لم أكلف نفسي مد يدي إلى جيبي حيث الرسالة لأنظر ما فيها مما يصدّق ذلك الخاطر أو يكذبه، وهل تحتاج الخيالات المجنحة أو المغرقة في الغرابة إلى دليل يكذبها؟!

وعند الرواق قبل أن أدلف إلى حجرة الضيوف زاغت عيني إلى تلك التشكيلة الرائعة من الورود التي صاغتها يد الصَّناع الماهر محمود، وجمدت برهة لتستعيد ذكريات سبقت في رواقه الحبيب من بيته القديم في تلك الناحية.

وبعد أن انتهينا من الغداء أخرجت الرسالة ويا لَشدة المفاجأة!

ويا لغرابتها؟!

وجدت الرسالة مؤرخة هكذا (15/4/1979 الأحد). فما الغرابة في هذا؟

هل تصدق أنه التاريخ نفسه!

وتسأل: أي تاريخ تقصد؟ وأجيب وأنا في غاية العجب: إنه تاريخ اليوم نفسه الذي كنا فيه نزور أخانا محمود.. نعم نفسه! ليس تاريخ  أيام الشهر فحسب، بل حتى يوم الأسبوع كان هو نفسه (الأحد).. وعجبت وعجب الحاضرون أشد العجب!

وأعجب من ذلك أن هذا هو الخاطر الذي برق في ذهني بجوار المسجد دون سابق ربط أو إنذار! نعم كنت أعرف أن الرسالة مؤرخة ولكن كأي رقم أو تأريخ لا أحفظه، فضلاً عن أن يمكن أن أدري أو أتوقع أو يمر في البال أن تاريخ كتابة الرسالة سيكون هو نفسه تاريخ اليوم الذي نذهب فيه إلى المرسل إليه.. وأنى لي ذلك؟! ولم نكن اتفقنا على أن نجمع بين اليومين، ولا نحن نعلم تأريخ الرسالة.. بل حصل الاتفاق صدفة وقدراً!

صدفة.. بلا اتفاق.

وقدراً من الله..؛ لأنه لا صدفة في ملك الله بل كل صدفة فهي بقدر: ]إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[.

ولكن………

لماذا قدّر الله ذلك وجعل يوم وصول الرسالة إلى صاحبها، وبعد اثنين وعشرين عاماً من كتابتها، هو اليوم الذي كتبت فيه يوم كتبت من دون ميعاد أو اتفاق مسبق؟!

وقالوا… وقلنا… ..

إن الرب العظيم الذي يدبر هذا الكون العظيم ثم لا يشغله ذلك كله عن أن يعبأ بأمر صغير كهذا، بحيث أنه يرعى بقدره هذه القصاصة الصغيرة، ومثلها مليارات بل مليارات الترليونات مضروبة في أمثالها من الأوراق تكتب يومياً ولأكثر من عشرين سنة! لهو رب لطيف ودود حبيب قريب! لا يشغله شيء عن شيء.

وإن إنساناً يرعاه الله إلى حد أنه يعتني بورقة صغيرة سقطت منه، ويوصلها إلى من أرسلها إليه بهذه الطريقة العجيبة.. يشير ذلك إلى أنه كريم على الله.. حبيب إليه.. وأن أعماله الصالحة كلها محفوظة لديه.

وإن هذه العناية تدل على صدق الأُخوّة التي ربطت بين الاثنين. ولعل هذه الورقة بطاقة دخول لتلك الأُخوة إلى الجنة. ولعل الله تعالى يشمل بذلك من وفقه إلى أن تصل الرسالة على يديه.

وقالوا أيضاً: إن هذا يشير إلى حياة الشهيد فكأن المرسل حي كتب الرسالة وأوصلها في اليوم نفسه.

وقلنا ….. .. وقلنا..

ويبقى لطف الله – مع كل ما قيل ويقال – أكبر، ورحمته أوسع، وأسراره وحكمه وعجائبه لا تنقضي.

هل اشتقت الآن إلى قراءة الرسالة؟ إذن فهاكها لعلك تكتشف فيها ما لم نكتشف، وتقول فيها ما لم نقل. وتجد فيها لمحة من لطف، ونفحة من طيب، ولفحة من قسوة حياة رجل أردت أن أتحدث عن حياته في يوم ذكراه فألجم حروفي جلال السيرة وشعورها بالعجز عن ترسم خطاها والعروج إلى شيء من مداها:

 

الرسالة 

الأخ محمود

لقد أتيتك عصر هذا اليوم وكأني أصّعد في السماء من ضيق صدري ولكن للأسف لم أجدك بعد أن أقنعت نفسي أن الغُمة التي تغشاني سيكشفها محمود إذا بثثت له أحزاني فاتجهت نحو خبائك بعد هذه التهويمة الآيسة مطأطئ الرأس. (وسأجده يذرع دهليز الحديقة ذهاباً وإياباً. ربما استلقى على صدره من شدة التعب وو ـ حتى اصطدمت بأطفالك. وأراد محمد أن يسبقني بشيء من الكلام ربما ينفي وجود أبيه فعاجلته بالسؤال عن وجودك من مكان بعيد فتشاءمت مما قال. ثم رجعت من حيث أتيت ـ كمن رجع بخفي حنين.

يا أخ محمود :

في كل شهر أو شهرين أو أقل أو أكثر يعتريني شيء مبهم أخصك بخبره وأبثك إياه أشعر بضيق نفسي وأكره الحياة كلها ولا أستذوق شيئاً منها وحتى لا أستأنس بالعزيز من أصدقائي وأكره كل شيء وأفرّ من كل شيء إلى لا شيء. حتى أنزعج من صوت المذياع مهما كان الكلام وأكره أن يكلمني الآخرين كثيراً.

ويأخذني اليأس ويتغلب عليّ القنوط من الحياة وأجد سلوتي في الخلوة ومراجعة التأريخ الماضي. ولكن في هذه المرة فضلتك على خلوتي وحسبت لقاءك سلوتي. ولكن قدر الله وما شاء فعل.

15/4/1979م الأحــد

نــوري خــلف

نعم.. قدر الله .. وما شـــاء فعل!

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى