الأيام الخواليديوان القادسية

الدعوة .. أفقاً وعمقاً

 

د. طه حامد الدليمي

 

 

أخذ (الفقه الدعوي) أثناء ذلك يترسخ لدي من خلال العلم بأصول الدعوة وآدابها، وتطبيق المعلوم على المعمول. وقرأت كتباً عديدة في مجال فقه الدعوة أذكر منها رسالة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لشيخ الإسلام، وطالعت قبل ذلك في كتاب (أصول الدعوة) لعبد الكريم زيدان، وقرأت عامة كتب القرضاوي في ترشيد (الصحوة)، ومعها ما يقع في اليد من كتابات منظري الإخوان. وهي نافعة في هذا المجال، لكن فيها عيباً مزمناً فيما يتعلق بالشيعة يقف حائلاً بينها وبين هدف إصلاحهم؛ فهي تجنح للين والهدوء والتلطف في الخطاب، وهذا حق وحكمة، ولكن في محيط السنة ومع غير المتجبرين منهم. أما الشيعة فلا يجدي معهم هذا الأسلوب؛ لانتكاس قلوبهم وانعكاس عقولهم، كما قال ابن كثير([1])، بل لا يزيدهم ذلك إلا عتواً ونفوراً؛ إذ ينظرون إلى كل بادرة تقرب على أنها خدعة، وإلى كل كلمة لطف على أنها ضعف. فيقع الدعاة الذين تربوا على هذا المنهج في مطب القياس مع الفارق. هذا عدا العلاقة الاستراتيجية بين الطرفين وانعكاسها على أسلوب ومضمون التعامل معهم.

ثم إن الله تعالى أمرنا بحسن القول مع المحسنين، لا مع المتكبرين المعلولين؛ إذ يأخذ خطاب هؤلاء المعوقين منحى آخر كما قال سبحانه: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46)، وقال: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) (المدثر:49،50). فوصفهم بالحمير لأن إعراضهم نابع من تكبر وعلو، وهكذا هو إعراض الشيعة. وإليه الإشارة بوصف (مستنفرة) أي طالبة للنفرة بإرادتها، لا تريد الحق بطبعها.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أهم مما سبق: فإن ذلك الأسلوب قد يصلح كمنهج للتغيير الفردي، ومع صنف معين من الأفراد في جلسات حوار خاصة. لكنه لا يصلح كمنهج لـ(التغيير الجماعي). وهذا أحد أسباب فشل ذلك المنهج الذي أسميته بـ(الترضوي)؛ لجنوحه إلى المنهج الفردي في الدعوة، وإغفاله (المنهج الجماعي). إن هناك قانونين أو منهجين في التغيير لا قانوناً واحداً. وقد نجح الإسلام في مهمته التغييرية لأنه اتبع منهجية (التغييري الجماعي)، ولم يقتصر على منهجية التغيير الفردي، التي لا يدرك المنهج الترضوي سواها. وقد كتبت في بيان هذا القانون العظيم – فيما بعد – كتاب (لا بد من لعن الظلام)، وفيه أمطت اللثام عن أهم قوانين علم النفس والاجتماع في مخاطبة الجمهور، وكيفية التأثير فيه. على أن المنهج الترضوي فيه خطورة كبيرة على الصف الداخلي لأهل السنة، لا يعدلها تسنن ملايين الشيعة، ولا ينتبه إليها أصحابه، وهي إضعاف مناعته أمام المد الشيعي؛ فاللين وكتم الحقائق المثيرة وإظهار الخلاف على أنه سهل يقتصر على بعض المسائل الفقهية.. كل هذا وما شابهه يجعل الصف مهيأً للاختراق من قبل الشيعة وتشيعهم، ويوفر بيئة خصبة للغزو الشعوبي بكل أنواعه. وهذا هو سبب الكارثة التي حلت على رؤوسنا خصوصاً بعد جلاء المحتل في كانون الأول/2011.

وهكذا اختططت منهجاً جديداً أصيلاً يمتاز بالاستفادة من القديم، وطرح ما هو ضار منه أو ما لا يفيد، ويضيف إليه إضافة جوهرية هي منهجية (التغيير الجماعي)، التي اعتمدها الإسلام، وأخذت بها كل المناهج التغييرية الحديثة.

 

تطورات في طريق الدعوة

في تلك الفترة توجهت إلى الوسط المتدين نفسه لتنقية عقيدته وتصحيح اتباعه وتزكية تدينه وتنميته وتوجيه الشباب إلى الاهتمام بالدعوة. فالشركيات واختلاط العقائد والخرافات كانت فاشية، وكذلك بدع العبادات. وكان الاعتماد على المرويات الضعيفة يجري دون نكير ومن فوق منابر الخطباء، وعلى كراسي الوعاظ والمحاضرين، وفي الكتابات والمنشورات، وفي المدارس والكليات الدينية على قلتها. كما أن العلمانية تضرب بأطنابها في البلد كحال عامة البلدان العربية والإسلامية. وذلك كله في حاجة إلى بيان ومعالجة.

اصطفيت في تلك الفترة مجموعة من طلاب الثانوية وسواهم من الشباب. فكنت أعطيهم دروساً في بيتي أو نتعاطى الدرس – وقد حضّرنا مادته – نتمشى في حديقة عامة أو على سكة القطار، أو على جانب طريق شبه منعزل.. كل ذلك حتى لا نجلب انتباه رجال الأمن، وكتّاب التقارير. وبعضهم أتدارس معه العلم في بيته خفياً من أهله. ورحم الله الحاج (…)، ذلك الرجل المسن الذي كان شيعياً ثم أخذ بالتسنن شيئاً فشيئاً بتأثير من أولاده؛ كان الوحيد الذي فتح لي بيته دون تهيب أو اعتراض، بل كان يرحب بي دوماً بابتسامته الخفيفة وسمته الريفي العشائري الرزين. كان بيتهم قريباً مني في حي الجزائر بالمحمودية. ولما ارتحلت من المنطقة صرت أزورهم أسبوعياً، من بغداد في فترة، ومن أبو غريب في فترة أُخرى. وكان الوقت المناسب هو المساء لانشغالهم في النهار بالدراسة أو طلب الرزق، فكنت أضطر أحياناً للمبيت في بيت أختي التي تقطن في الحي نفسه، ولكن في معظم الأحيان أرجع متأخراً بعد رحلة تتطلب التنقل عدة مرات من سيارة إلى سيارة حتى أصل إلى أهلي بعد فوات هزيع من الليل.

 

العائلة

وكانت (أم عبد الله )على صغرها تتحمل الوحدة والخوف والوحشة. فالبيت الذي نسكنه مصمم على الطراز البغدادي القديم، وفيه حديقة كبيرة غير مهذبة تحيط به من جوانبه الثلاثة، وعلى طول الجدران أشجار تحتاج إلى عناية فلاح غير موجود لقلة ذات اليد، تبرز من بينها في الباحة نخلات باسقات، كأن عزف الريح في سعفها وشعفها في ليالي الشتاء عواء شياطين! وليس معها في تلك الدار الموحشة غير أطفالها الصغار. وكثيراً ما كنت أرجع بعد منتصف الليل فأطرق الباب فتخرج لي غير متذمرة ولا شاكية. وكنت أصطحبها أحياناً معي فنبيت عند أختي يوماً أو يومين استثمرها في لقاءات دعوية مع آخرين.

رجعت يوماً فوجدت الباب موصداً ولا من مجيب، وكنا نقطن حي الوزيرية في وسط بغداد، وأظنني سألت جاري، وكان صديقاً لي وهو صاحب البيت الذي أسكنه، فأخبرني أن أم عبد الله في مستشفى (مدينة الطب) ترقد مع ابنها وقد تعرض إلى نوبة برد. وذهبت إليها فإذا عبد الله، وكان عمره بضعة أشهر، في حاضنة الأوكسجين يعاني من ضيق نفس شديد، يوضع

على وجهه كمام التنفس فيرفضه ويصرخ، وتحمله أمه فلا يجد هواء فيصرخ في شهقات متقطعة يجهضها مجرى التنفس الضيق في صورة يتقطع لها الكبد.

كان لي آنذاك من الولد – مع عبد الله – ثلاث من البنات (عائشة وفاطمة وخديجة)، وكان عبد الله أصغرهم سناً.

وأما خديجة فكان عمرها حوالي سنتين. وكانت متعلقة بي أشد التعلق لا تطيق خروجي من البيت فتبكي بحرقة كلما فعلت ذلك. كنت في أحد الأيام على موعد في (جرف الصخر) بالحلة، لنذهب من هناك إلى (الرضوانية) في مهمة دعوية نزور صديقاً لنا اسمه (يعقوب). وانخرطتْ خديجة كالعادة في بكائها المعهود، أمسكت بثيابي فتخلصت منها وانطلقت وقد تركتها خلفي
ممسكة بقضبان البلكون المطل على باحة الدار. ومضيت وأنا أسمع صراخها المحموم يلاحقني من وراء القضبان إلى مسافة في الشارع. فدارت في نفسي معان وأشجان صوّرتها ذلك اليوم في أبيات من الشعر أقول فيها:

 خديجةُ لا تبكي  عليَّ : فإنها
سويعاتٌ أُقَضِّيها سريعاً وأرجعُ
 

يعزُّ على قلبي أراكِ حزينةً

وعيناكِ – مثلَ البحرِ – بالدرِّ تلمعُ
فوا اللهِ لولا الحورُ أبغي مهورَها
لما كنتُ في البلدانِ أسعى وأقطع
 

وأتركُ أقماراً ثلاثاً وشمسُهم

عليّ بألوانِ السعادةِ تطلعُ !
 

دعي عنك أثوابي دعيها بُنيتي

فإن ثيابي عن قريبٍ ستُنزعُ
 

إذا كنتِ لا ترضَين غيبةَ ساعةٍ
فكيفَ إذا ما قيلَ : لا ليس يرجعُ ؟!([2])

لم يكن مسرح الدعوة مقتصراً على منطقة بعينها، فتارة في المحمودية وأُخرى في الفلوجة، وثالثة في اللطيفية، ورابعة في الحلة.. في الريف وفي المدينة. وكان هاجس الدعوة مستولياً عليَّ بالكلية، وفي بالي آية وحديث. أما الآية فقوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)؛ فالدعوة مَهَمة النبي e وديدن أتباعه، ومن لم يكن من الدعاة لم يكن صادق الاتباع. وأجرها لا يعدله أجر كما في حديث خيبر الذي يخاطب فيه النبي علياً رضي الله عنه فيقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمُرِ النَّعَم) رواه مسلم.

 

 

 

 

[1]– تفسير القرآن العظيم، ابن كثير الدمشقي، عند تفسير قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة:100).

[2]– كان ذلك صبيحة يوم الجمعة: 17/6/1410 الموافق لـ 16/12/1989.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى