مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

سخافة الديمقراطية

د.طه حامد الدليمي

يقول ونستون تشرشل: “الديمقراطية نظام سيئ، ولكنه الأفضل من بين خيارات كلها سيئة”. لكن مراهقي السياسة والمهزومين حضارياً والمفتونين بكل بضاعة غريبة يسوقون الديمقراطية في مجتمعاتنا على أنها منتج مقدس، ويتبجحون بها وبالانتساب إليها مهما كانت ثقافتهم اضطهادية، وتصرفاتهم تقطر استبداداً وسادية!

من الناحية العلمية التي يصعب إنكارها أو الجدال فيها أن الحياة قائمة على التخصص، والرجوع في كل علم وصنعة لأهل الخبرة بها. فمحرك السيارة إذا أصابه عطل رجعنا به إلى المختص بالميكانيك، وبناء الجسور إلى المهندس، والمريض يرجع به إلى الطبيب… وهكذا. وكذلك شؤون السياسة. والله تعالى يقول: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) (الفرقان:59). وفي كلام أهل التفسير مثل ابن كثير والقرطبي وغيرهما ما يفيد الاحتجاج بالآية على عموم لفظ (الخبير).

هل يعقل أن يكون الرجوع في عطل السيارة إلى العاملين في ورشة التصليح بمن فيهم من مساعدين وعمال غير ماهرين وحراس وكسبة ومن جاورهم في السوق، ثم نعمل تصويتاً لمعرفة نوع الخلل وكيفية تصليحه؟ أم نسأل المصلح المختص ونسلم له دون سواه؟ وإذا أردنا بناء جسر هل نجمع أهل المدينة ونجري استفتاءً فيما بينهم لتصميم وتنفيذ البناء، أم نسلم الأمر للمهندسين المختصين؟ ولو افترضنا حصول خلاف بين المهندسين هل نشرك غيرهم في حسمه، أم نترك الأمر لهم في ذلك؟ وإذا مرض أحدنا وذهبنا به إلى المستشفى هل نقول لكل موظفيه والعاملين فيه: اعملوا استفتاء فيما بينكم لتوصيف علاجه، أم نذهب به من فورنا إلى الطبيب دون سواه؟ وقد يختلف الأطباء في مرضه: تشخيصاً وعلاجاً، فهل سمعتم يوماً أن وزارة الصحة وكلت الأمر إلى أبناء العشيرة أو سكان المدينة ليدلوا بآرائهم في صندوق ثم يؤخذ برأي الأغلبية؟ هل يعقل هذا؟!

لكن هذا ما يلزمنا به منطق الديمقراطية في أمر هو أصعب على الفهم وأعقد على الحل من الميكانيك والهندسة والطب وغيره، إنه السياسة!!!

الديمقراطية تلغي العقل في السياسة

يقول غوستاف لوبون: (الديمقراطية تعني أن عالم الرياضيات وماسح حذائه سواء). أظنني قرأت هذا القول في كتابه (سيكولوجية الجماهير).

وصدق غوستاف؛ فالديمقراطية تلغي الخبرة والكفاءة، وتساوي بين الخبير والخفير في أخطر شيء في حياة البشر، هو الحكم وتسيير أمور الشعب ورعاية مصالحه! فهي تمنح الحق لجميع الناس في الترشح لأي منصب، وما تشترطه لذلك من شروط فهي سهلة وخفيفة ويمكن تزويرها والتلاعب بها، وغالبها ليست منتجة ولا علاقة مؤثرة بينها وبين المنصب المفتوح الوصول إليه من الأصل، مثل حيازته على شهادة الثانوية. وبعد الترشح يسلم أمر انتخاب المرشح لا إلى النخبة من أهل الخبرة والاختصاص، وإنما إلى الجمهور، الذي يتفق جميع علماء الاجتماع أنه عاطفي ومنخفض الوعي.

والواقع يشهد أن الجمهور لا ينتخب المرشح لأسباب موضوعية قائمة على أساس علمي، إنما لأسباب غالبها خارج نطاق الخبرة والاستحقاق؛ فتجد الواحد منهم ينتخب المرشح المثبت اسمه في بطاقة الانتخاب لكونه قريبه، أو نسيبه أو صديقه أو من عشيرته، أو حزبه، أو تجمع بينه وبينه مصلحة، أو اتباعاً لفتوى (السيد) أو (الفقيه) البعيد عن السياسة من الأساس. وبعض المرشحين يعطي لكل ناخب بعض المال – عشرة دولارات مثلاً – ويحلفه عند باب المركز الانتخابي على أن لا ينتخب أحداً سواه. وقد يكون الاختيار لأسباب مزاجية تتعلق بقيافة المرشح وشكله وجنسه.

والأسباب السخيفة التي يتم التصويت لفلان دون فلان بناءً عليها لا يمكن حصرها، وتتعدد وتتنوع حسب آليات الانتخاب. قيل لإحدى الناخبات وقد لون الحبر إصبعها: من انتخبت؟ فأجابت: انتخبت قائمة السيد السيستاني، بعد عيني! أم تريد مني انتخاب هؤلاء السفلة أحمد الچلبي وإبراهيم الجعفري؟ المسكينة لا تدري أن “هؤلاء السفلة” في رأس قائمة (المرجع الأعلى)!

هكذا يجتمع (السيد) والديمقراطية على الناس ليجعلوا منهم قطعاناً تسير خلف من ينعق بها دعاءً ونداءً . ويأتي آخر متحيراً يسأل المشرفين على الصندوق: من ترون الأنسب للتصويت؟ وثالث يعمل (خيرة). ورابع يتيه بين الأرقام. وخامس وسادس وعاشر.

هذا ونحن ما زلنا في مرحلة ما قبل الصندوق. فإذا ما جئنا إلى الخط الواصل بينه وبين إعلان نتائج الاقتراع، وتتبعنا مساره الطويل خطوة خطوة، وجدنا أن الخطى تكثر، وبين كل خطوة وخطوة نافذة للتلاعب والتزوير! وشرح ذلك يطول في غير ما طائل. وهكذا لا يبرز لإدارة شؤون الدولة في الأعم الأغلب إلا من هم خارج دائرة الصنعة. والمشكلة حين تترسخ أقدام هؤلاء مادياً وعلائقياً فتجد الوجوه والشوارب نفسها عند كل دورة انتخابية!

لعبة الخبثاء على الفقراء

لا تظنوا هذا السخف مقتصراً على العراق أو دول العالم المتخلف، بل هي ظاهرة عامة في كل العالم. فالديقراطية لعبة الخبثاء والأغنياء على المغفلين والفقراء. انظروا إلى أمريكا أم الديمقراطية: هل سمعتم بفقير فاز برئاسة أو وزارة أو عضوية مجلس؟ الحكم في أمريكا ومنذ أكثر من مئتي عام يتداوله الأثرياء فقط! وهؤلاء انقسموا فريقين في الظاهر (جمهوريين وديمقراطيين)، بينما هم في الباطن يديرون لعبة من طرفين لا أكثر، نتيجتها على الدوام في صالحهما معاً؛ تماماً كمسرحية تدور وقائعها بين شرطة ولصوص، وبعد انتهاء العرض يجلس الفريقان خلف الستار ليقتسموا بالسوية ما حصلوا عليه من جيوب الجمهور.

رقي نظام الشورى وتخلف نظام الديمقراطية

أين هذا التردي الذي ساقتنا إليه الديمقراطية من رقي الإسلام الذي وكل اختيار القادة والسياسيين والذين يديرون شؤون الدولة إلى أهل الخبرة في كل شأن، وجعل لذلك آلية راقية هي الشورى؟ والشورى لأهل الخبرة لا للدهماء، وللنخبة لا للعامة. وإذا كنا نعذر تشرشل في اختياره الأفضل السيئ لأنه لم يجد أمامه إلا خيارات جميعها سيئة، فلا نعذر أمة تتبع نعيقه وقد شرفها ربها فأنزل عليها قرآناً: (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9)؛ أقوم مطلقاً بلا نسبة أو مقارنة. وفي كل شيء من أمر دينها ودنياها. وكيف نعذر أحداً بالنكوب عن نظامه والحكم بغير شرعه والله سبحانه يقول: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:49،50)!

 

9 تشرين الثاني2020

 

اظهر المزيد

‫7 تعليقات

  1. بالضبط الديمقراطية الغربية للأثرياء والاغنياء فقط، وعلى الجمهور ان يختار احد الخيارين الذين لم يختارهما !!
    المشكلة هو في انبهار المواطن العربي ببريق خادع وحرية مزيفة اختلقها الاعلام الموجه..

  2. اول بدايات حكم الجماهير هي فكرة شعوبية بدأت على يد الشعوبية على يد الخوارج وقد تبنت الاحزاب السياسية لليوم الحاضر هذه الافكار ومنهم علماء وفقهاء بل تجاوزا على ذلك لعن الملك الاسلامي والتآمر مع الدول الغربية والشرقية وما ابن الاشعث ابن الاشعث الا مثالا ووقود ثورته المةالي منهم سعيد بن جبير .

  3. الديمقراطية كما يعرّفها أهلها هي : ( حكم الأغلبية ) أو ( حكومة : يكون الشعب فيها هو صاحب السلطة العليا ) أو ( حكم الشعب بالشعب ) .. وفي ضوء ما تقدم من تعريفات للديموقراطية , يمكن أن نخلص إلى أن الديموقراطية : عقد اجتماعي بين الشعب والحاكم , بين الشعب كمصدر للتشريع , وبين الحاكم كجهة تنفيذية.
    أما البيعة : ( فهي حكم الشعب وفق شرعة الله تعالى. .. على أساس من عقد الإيمان ) , ليقوم الحاكم المفوض من الشعب بتصريف وتنظيم حياة الناس , وتحقيق مصالحهم على أساس من شرعة الله , ووفق ميثاق التعاقد بينه وبين الشعب ” الدستور أو نظام الحكم ” .. وهذا يعني أن البيعة ” عقد إيماني وعقد اجتماعي ” , إي أنه عقد مركب من عقدين اثنين هما:
    عقد إيمان : وهو عقد بين الله تعالى وبين الأمة ” الشـعب والحاكم ” يلتزم الجميع على أساسه بتطبيق شريعة الله .
    عقد أداء : وهو عقد بين الشعب والحاكم لتحقيق مصالح الأمة وفق عقد الإيمان , ووفق ميثاق العاقد بينهما أي ” الدستور أو نظام الحكم “

  4. لله درك يا دكتور طه الدليمي.
    دوماً تضع النقاط على الحروف، والبلسم على الجراح، حقاً انت صيرت الطب الجسدي الى طب وطبيب مجتمعي تعالج امراض الواقع بخير علاج.
    ..
    عندما قرأت المقال تذكرت جواب نبي الله موسى لقومه في قوله تعالى: ( قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ… الاية).. أتستبدلون الذي ادنى وهي (الديمقراطة)…. بالذي هو خير وهو (الشورى) …
    مقالك هذا حفظك الله ليس منطقياً وعقلياً، وواقعياً فحسب… بل هو حل جذري لما نمر به من مأساة ومصائب… وكذلك قلع للفاسدين والسراق والمجرمين الذين تسلطوا على رقاب الناس..
    حفظك الله… لا حرمنا الله من مداد قلمك وعلمك وجزاك الله خير ما يجازي به مجدد عن امة.

  5. يحق لنا أن نفخر لما نجد في الأمة من يجدد فكرها ويصحح مسارها وينفض غبار الجهل والتخلف المتراكم عليها. والذي أفضى بها لتغيير مسارها وانحراف سلوكها..
    يقول عليه الصلاة والسلام.. يولد المولود على الفطرة فابواه يهودانه أو ينصرانيه أو يمجسانه..أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
    هذهِ الأمة تغير مسارها بفعل وقول من تصدروا لقيادتها وأذكر في القريب.. د. محمد عياش الكبيسي.. وهو اخواني التوجه والتربية والسلوك ومن وجهاء الحزب الإسلامي العراقي..في مناظرة من على قناة الجزيرة سُئل عن صناديق الإنتخابات وفق الديمقراطية وصفها بالعدالة والإنصاف.. قيل له وإن جاءت بشيعي.؟ .. فتمم وإن جاءت بشيعي..
    بلابل ربي ماخرست ولكن بوم الشوم ربها..
    نعم بهذا وأمثاله تتقهقر الأمة وتتدحرج لهاوية التخلف والعوق الفكري لانحراف المسار بفعل الحمار الذي يحمل أسفارا..
    ولهذا برزت الحاجة للتجديد وتصحيح المسار من خلال استنباطها من الأصل الذي بنيت عليه كتاب الله الذي لا ياته الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد..
    وكما نوهت بذكره.. بقوله تعالى..
    أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون..
    جزاك الله خيرا. د. طه الدليمي تشخيصا واستدلالا وتجدبدا .

  6. عندنا في منهج السادس في مادة الاسلامية موضوع (الاسلام والدمقراطية) يعرف معنى الدمقراطية ب( سُلطة الشعب) ويحاول كاتب الموضوع جهد الامكان بالصاقها بمبادئ الاسلام وانها خيار مفضّل للشعوب الاسلامية.

  7. الشورى مبدأ شرعيّ إسلاميّ لا تحيد عنه ولا تتجاوز أحكامه بدعوى قلّة أو كثرة، فلا يخرج أهل الشورى عن الإطار الشرعيّ المُستَمدّ من القرآن والسُنّة ومقاصده الشّريعة والكفاآت المتخصص بأمور الدولة القيادة العامة،
    أمّا الديمقراطيّة والارتباط بالأكثريّة؛ فالاعتبار كلّه لكثرة العدد والأغلبيّة، فلا ارتباط بشريعة، ولا ضابط محدد إلا رأي الأغلبيّة الذي قد يُناقِض ويتناقض بين الحين والآخر، فرُبّما كان رأي الأغلبيّة اليوم كذا، وفيما بعد يكون رأي الأغلبيّة على النّقيض تماماً لغياب الكفاآت التي تمسك زمام الأمور في الدولة ، والارتباط الوحيد هو رأي الأغلبيّة الذي قد يتحكّم فيه فساد ماليّ وسياسيّ، أو حتى الأمزجة المُتعدّدة لرأي العامة الغوغائيّة غير المُنضبطة بخبرة أو معرفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى