مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الفرس .. أمة أمية بحكم القانون الرسمي للدولة

د.طه حامد الدليمي

إن منع الشعوب الراضخة تحت الاستعمار الفارسي من تعلم القراءة والكتابة طبقاً للقانون الرسمي مما اتفق عليه المؤرخون، ولم ينكره حتى الفرس منهم.

يقول ويل ديورانت: (كانت الكتابة تبدو للفرس لهواً خليقاً بالنساء لا يكادون يقتطعون له وقتاً من بين مشاغلهم الكثيرة في الحب والحرب والصيد، ولم ينزلوا من عليائهم فينشئوا أدباً. وكان الرجل العادي أمياً راضياً عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض)([1]).

وفي كتاب (دين ضد الدين) يردد الإيراني د. علي شريعتي ما ذكره المؤرخون والباحثون من أن الكتابة كانت محرمة على معظم الشعب الإيراني، الذين يشكلون الطبقة الثالثة من المجتمع حسب التصنيف الطبقي المعتمد بحكم الدين الزرادشتي، حيث تقتصر الطبقة الأولى على الملوك والأمراء والنبلاء، والطبقة الثانية على رجال الدين. فيقول: (وكان النظام الطبقي سائداً في هذا المجتمع على النحو الذي لا يستطيع فيه أي شخص من الطبقة السفلى الارتقاء إلى طبقة أعلى بأي حيلة أو معجزة… تشتمل هذه الطبقة على الصناع وأصحاب الحرف والعسكر والمزارعين. وهي طبقة محرومة من كل مفخرة، وليس لها أي حق اجتماعي؛ لأنها تنتمي إلى عرق نجس، كما هو متعارف في الهند!… إن ابن الإسكافي في العهد الساساني يحرم من الدراسة. لماذا؟! لأنه لو أكمل دراسته سينتمي إلى طبقة الكتاب، وهي طبقة أسمى من طبقته الوضيعة. إذن يجب أن يبقى ابن الحذّاء هذا حذاءً هو وأبناؤه إلى أبد الدهر حتى لو كان من النوابغ. إن عليه حينئذ أن يستخدم نبوغه في صناعة الأحذية فقط)([2]).

وينقل د. نبيل عتوم نصاً عن كتاب (تعليمات اجتماعى) يقول: (قُسم الشعب إلى طبقتين في العهد الساساني: طبقة العظماء وطبقة الناس العاديين. طبقة العظماء النبلاء مكونة من النبلاء والمحاربين ورجال الدين الزرادشتي، وتسلمهم الأعمال المهمة في البلاد. والطبقة العادية مكونة من المزارعين والعمال والحرفيين. وكانوا يعملون ويدفعون الضرائب، وفي وقت الحرب كانوا يشكلون جيش المشاة منهم. وكان تعلم الكتابة والقراءة وركوب الخيل خاصاً بأبناء طبقة العظماء. وكان أفراد الطبقة العادية لا يستطيعون الوصول إلى طبقة العظماء)([3]).

ومن الشواهد على ذلك قصة أوردها الفردوسي (الشاهنامة، ج2، ص163-164) عن الملك كسرى أنوشروان مُفادها أن الملك في إحدى حروبه مع الدولة البيزنطية إحتاج إلى المال لتغطية نفقات الجند، وأرسل رسوله إلى استقراض المال من التجار وأصحاب الأموال في المناطق القريبة من معسكره، وكان من بين أصحاب الأموال رجل إسكافي، وأظهر هذا الرجل استعداده لإقراض الملك مبلغاً كبيراً من المال ولكنه طلب من الرسول أن يستأذن له الملك في إرسال ابنه إلى المؤدبين والمعلمين لتعليمه الخط والأدب، فلما حمل الرسول المال إلى الملك سر به وأمر بالزيادة عليه عند الرد، إلا أنه ما إن سمع بطلب ذلك الرجل حتى أمر الرسول برد المال) ([4]).

الفلسفة التي يقوم عليها منع الشعب الإيراني من الكتابة

يقول د. علي شريعتي عن الأصول القديمة لهذه الفلسفة الطبقية المتخلفة: (ينقل الفردوسي عن “رستم فرخزاذ” قوله: لو أتى الإسلام لساوى بين السيد والعبد ولخلط الأعراق ولضيع الحسب والنسب؛ لأن الحسب والنسب لا يمكن أن يكونا ملاكاً للفضيلة في الإسلام، ويحق للعبد والسيد على حد سواء أن يتصدى لمسؤولية القيادة والحكم في المجتمع الإسلامي). ويعلق د. علي شريعتي على هذا المقتبس قائلاً: (إن هذه الألفاظ التي أراد الفردوسي أن يعيّر بها الإسلام تعد من أكبر المفاخر وأبهى الشعارات المرفوعة في عالم اليوم)([5]).

ولو سألنا: كم يساوي عدد طبقة الملوك وطبقة رجال الدين مقارنة بالمجتمع؟ على أعلى تقدير لا يزيدون على واحد في المئة (1%)؛ فإن هذه النسبة تعني وجود عشرة آلاف (10.000) فرد من تلكما الطبقتين في مدينة مكونة من مليون نسمة. وهو عدد صغير جداً نسبة إلى العدد الكلي. وهذا – كما أسلفت – على أعلى تقدير! إن وجود واحد (1) يجيد القراءة والكتابة بين تسعة وتسعين (99) أمياً في مجتمع يعني أن هذا المجتمع أقل ما يقال عنه إنه مجتمع متخلف علمياً وثقافياً. أي إن هذا المجتمع أبعد ما يكون عن القلم وكل أداة تشير إلى العلم.

فكيف ينسب القلم إلى هذا المجتمع البعيد كل البعد عن القلم؟! وفي الوقت نفسه تسلب هذه الفضيلة من مجتمع أو أمة أقسم كتابها المقدس بالقلم، في سورة اسمها (القلم)، وكانت أول كلمة نزلت في ذلك الكتاب: (اقرأ)!

ليس للفرس خط للكتابة خاص بهم

إن ما سبق من حالة الأمية الفاشية في بلاد فارس بحكم الفكرة أو الفلسفة المسبقة، وبحكم القانون الرسمي الصارم.. يفسر سبب عدم وجود خط للكتابة لدى الفرس خاص بهم؛ فهم أمة – إذا استثنينا القلة المتمثلة بطبقة الأعيان والكهان – لا تكتب من الأصل؛ فما حاجتها للخط؟

لقد دوّن الإخمينيون ما احتاجوا إلى تدوينه – وهو قليل مقارنة بما تركت بقية الأمم من مدونات – بالخط العراقي المسماري أولاً، والخط العيلامي المقتبس من الخط المسماري، ثم الخط الفهلوي القديم، وهو مقتبس كذلك من الخط المسماري مع شيء من التحوير والتبسيط لا يخرج به عن الأصل العراقي. ثم قرر الملك دارا (داريوس) الأول (521 ق.م – 486 ق.م) اعتماد الخط الآرامي لقيامه على الحروف الهجائية.

وبقي الخط المسماري متداولاً في بلاد فارس طوال العهد الإخميني الذي أسقط بابل في سنة (539 ق.م) حتى العهد الفرثي الذي حكم ما بين (247 ق.م – 224 ب.م) لكنه بدرجة أضعف مما كان عليه أيام الإخمينيين. وترك المجال أكثر للخط الآرامي السرياني إلى جانب الخط اليوناني. ولم يتمكن الفرس من امتلاك خط خاص بهم. واستمر الأمر على هذا المنوال حتى اليوم؛ فاللغة الفارسية تكتب اليوم بالحروف العربية([6]).

2020/10/11

 

__________________________________________________

[1]– قصة الحضارة، 2/412.

[2]– دين ضد الدين، مقتطفات من ص67 – ص69، د. علي شريعتي، ترجمة حيدر مجيد، الطبعة الأولى، 1423هـ – 2002م، مؤسسة العطار الثقافية.

[3]– صورة العرب والشعوب في الكتب المدرسية الإيرانية، ص307، د. نبيل العتوم و د. عادل علي عبد الله، دار الدراسات العلمية للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، مكة المكرمة. عن كتاب: تعليمات اجتماعى، جهارم دبستان، إدارة كل جاب وتوزيع كتاب هاى درسى ايران، 1387، ص103.

[4]– مظاهر الحضارة الفارسية.. اللغة – الكتابة – التعليم أنموذجاً، ص12، د. مهدية فيصل صالح الموسوي، د. ميثم عبد الكاظم جواد النوري.

[5]– دين ضد الدين، ص68، د. علي شريعتي.

[6]– مظاهر الحضارة الفارسية، ص10-11، بتصرف.

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. 🌴جزاك الله خيرا //د.طه حامد الدليمي 🌴

    تردد في نفسي سؤال حين اكملت قراءة المقال
    وقلت لماذا يمنع الفرس شعبهم من التعلم ؟؟
    وجاء الجواب:
    اولا:عقدة النقص التي لدى الفرس وهو عدم تداول العلم واعطاءه للشعب هم فقط يريدوه للطبقة الحاكمة .
    ثانيا: حتى يتمكنون من السيطره على عقول شعبهم لان الذي لايعلم يبقى كا العبد لا يعرف من يخدم او من يتحكم به كا انسان
    فقد صاغ الفرس، نظرية الحق الإلهي التي صارت عندهم عقيدة مريعة بمقتضاها يرون أن دماء الآلهة تجري في عروق الملوك، مما جعلهم فوق طبقة البشر العاديين، وجعل غيرهم عبيدا لهم مما قسم سكان فارس إلى آلهة، وعبيد وهذا السبب الذي يقوم على اساسه الفرس بقطع العلم عن الشعب.

    اما الإسلام قد اهتم بالعلم اهتماماً كبيراً، فعندما نزل القرآن الكريم أول كلمة نزلت في القرآن هي اقرأ لعظمة العلم ولعظمة أمرهِ في حياة الإنسان وفي حياة الشخص، والحكمة من نزول كلمة اقرأ هي للتعلم، لأنّ الله لا يعبد بجهالة أو من دون علم قال تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ)

    #شمعة_مضيئة 🌴🌸

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى