د.طه حامد الدليمي
إن تجربة الشيخ محمد سعيد النقشبندي (ت: 1339هـ) جديرة بالاهتمام لعدة أسباب:
– لأنها تمثل وعي فرد وغيبوبة أمة، وسعيه لتحويل الوعي– وهذا أمر غريب على ثقافة (رجل الدين) – إلى عمل رباني يناسب التحدي الواقعي، ولم يقتصر على تدريس العلم المحنط والوعظ المجرد وإطلاق الصيحات في وسط الضجيج ثم الخلود إلى البيت، كما هو شأن عامة (رجال الدين)! وذاك هو (الهدى). فالهدى ليس هو العلم كما يظن عامة الشيوخ فيكتفون به تحصيلاً ثم تدريساً، وهو غاية ما يطمحون إليه في مسيرتهم إلى الله جل في علاه. إنما الهدى مزيج مركب من ثلاثة عناصر تتفاعل فتنتج مشروعاً ترعاه مؤسسة. والعناصر هي علم وعمل وواقع. فيكون العلم واحداً من ثلاثة وليس هو العنصر الأوحد كما هو الشائع. ولنا في تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية درس بليغ. وعلى هذه السنة سار النبي صلى الله عليه وسلم في سياسته التغييرية.
– ولأنها تقول لنا: لو كان لأهل السنة ذلك الوعي وذلك السعي اللذين كانا يتمتع بهما الشيخ النقشبندي ما انتشر التشيع فغزانا في عقر دارنا. ومن وعي الشيخ إدراكه لضرورة الاستعانة بقوة الدولة واستثمار تلك القوة لصالح المشروع.
– ولأن تاريخ الرجال الذين تركوا أثراً بارزاً في مسيرة التصدي للشيعة، والحفاظ على وجود أهل السنة.. يهمنا كثيراً نحن مؤسسي (التيار السني) وحملته. وهو جزء من التاريخ المطلوب إحياؤه وكتابته ونشره.
البداية
يقول د. علي الوردي: (صار الشيرازي بعد استقراره في سامراء ينفق الأموال الطائلة فيها، فشيّد فيها مدرسة دينية تتسع لمئتين من الطلاب، وهي ما زالت قائمة تعرف باسم “مدرسة الميرزا”، كما بنى حسينية، و حماماً للرجال وآخر للنساء، وسوقاً كبيرة، ودوراً كثيرة. ثم نصب جسراً من القوارب على دجلة بلغت تكاليفه ألف ليرة عثمانية).
وهذا يعني أن الرجل على وعي تام بضرورة العمل المدني بشقيه: الفكري والعملي. وأنه جاء عن قصد مدعم بمشروع، ولم يكن مجيئه عفوياً أو لأسباب ثانوية مثل إصابته بداء السل فقصد سامراء مستشفياً لطيب هوائها، كما ذكر الوردي عن بعض الشيعة([1]).
(وكثرت هجرة الشيعة الى سامراء من شتى الأنحاء حتى أصبحت بلدة عامرة. مع العلم أنها لم تكن قبل ذلك سوى قرية صغيرة بيوتها من طين. وكان السكان القدامى يذوبون في خضم هذا النمو السريع. وأخذ الشيرازي يبذل لهم العطاء بغية تأليف قلوبهم، فأحبه الكثير منهم. وصار الشيعة يقيمون طقوس العزاء الحسيني على عاداتهم في كل بلدة يحلون فيها. وهي طقوس كانت في تلك الأيام تؤثر في النفوس تأثيراً عاطفياً عميقاً خاصة في أوساط العامة وأبناء العشائر؛ فوقع أهل سامراء تحت تأثيرها وشرعوا هم أنفسهم يخرجون مواكب العزاء تقليداً للشيعة. ومعنى هذا أنهم بدأوا يسيرون في طريق التشيع شيئاً فشيئاً على نحو ما فعل الكثير من سكان العراق قبلهم). وكانت ممارسات الشيرازي تحظى بتأييد القنصلين البريطاني والروسي([2]).
الشيخ محمد سعيد النقشبندي وسفره إلى الأستانة لمواجهة السلطان
ويستمر الوردي قائلاً تحت عنوان (رد الفعل): (إن هذا التحول الهام الذي حدث في سامراء أدى الى ظهور رد فعل شديد ضده بين علماء السنة في بغداد فتحفزوا للعمل في سبيل “انقاذ” سامراء، وكان أشدهم حماساً في ذلك الشيخ محمد سعيد النقشبندي؛ فقابل والي بغداد الحاج حسن باشا وباحثه في الأمر، وأبرق هذا إلى السلطان عبد الحميد يخبره بالخطر للذي يهدد سامراء. كان السلطان عبد الحميد في تلك الآونة يسعى نحو توحيد كلمة المسلمين للالتفاف حوله، ولعله لم يكن يحب أن تتطور قضية سامراء بحيث تؤدي الى توتر العلاقة بينه وبين الشاه ناصر الدين. والظاهر أنه أرسل إلى والي بغداد يأمره أن يعالج القضية بهدوء، فإذا كان الشيرازي قد فتح مدرسة شيعية في سامراء فليفتح الوالي أزاءها مدرسة سنية، ولا يزيد على ذلك شيئاً. سافر الشيخ محمد سعيد النقشبندي إلى سامراء مخولاً بفتح المدرسة في سامراء واستأجر النقشبندي داراً جعلها مدرسة له وأخذ يشتغل بالتدريس والوعظ والارشاد)([3]).
وبهذا الموقف الكريم الذي وقفه المرحوم الشيخ محمد سعيد أفندي النقشبندي توقفت حركة المتحركين وشلت أيدي المبتدعين فتفرقوا أيدي سبا، ولم ترتفع لهم راية ولم يثر لهم ثائر، وكل منهم رجع إلى كوخه وعشه بعد أن كانت لهم الكلمة المسموعة، ويؤيدهم الرأي العام… .
وبقي مثابراً على التدريس – بعد ان نجح في مقصده النجاح الباهر- والوعظ والإرشاد من حين تعيينه بهذه الوظيفة إلى نهاية سنة 1316هـ. وبهذه المدة تقدمت المدرسة تقدماً باهراً، ونبغ فيها جمع لا يستهان بهم، ومنهم من تأهل للوعظ والإرشاد والتدريس([4]).
يوافق هذا العام (1316هـ) – عام انتقال الشيخ سعيد من سامراء إلى بغداد للتدريس في مدرسة الإمام الأعظم بالأعظمية – عام 1898م. أي إنه توجه إلى سامراء عام 1894م. وإذا رجعنا بالذاكرة إلى الوراء وقارنا بينه وبين العام الذي قدم فيه الشيرازي إلى سامراء، وهو 1874م.. تبين لنا أن العمل السني لإنقاذ سامراء قد تأخر 20 سنة. وهي مدة طويلة حتى بمقياس تلك المرحلة. وفي ذلك دلالة على النوم العميق الذي كان يغط فيه علماء الدين على ذلك العهد! مع أنهم يعيشون في ظل دولة سنية المذهب! واستمر هذا النوم الذي هو ديدن العلماء إلى هذا اليوم. وهذا ما عنيته بكلامي أول الحديث عن تجربة إنقاذ سامراء من التشيع على يد الشيخ محمد سعيد النقشبندي حين قلت: إنها تمثل وعي فرد وغيبوبة أمة!
2021/3/3
______________________
[1]- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء الثالث، ص115، الدكتور علي الوردي. الفرات للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى لشركة دار الوراق للنشر المحدودة: 2007.
https://www.kachaf.com/wiki.php?n=5ed8d96c67717625af0dec6e
[3]- الوردي، 116-117، المصدر السابق.
[4]- موقع العلامة الشيخ أحمد الراوي. والشاهد مقتبس من نص الرسالة التي كتبها الشيخ أحمد الراوي عن تاريخ المدرسة العلمية الدينية في سامراء والمنشورة في كتاب تاريخ علماء سامراء/ تأليف الشيخ يونس إبراهيم السامرائي (1966م). الرابط: https://sites.google.com/site/amamalrawi/al.