ديوان القادسيةقصص وخواطرمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

جفاف أهوار العراق .. هل هي إرهاصات قدر لنهاية حكم الهمج

من فصل (أجراس المساجد) في رواية (هكذا تكلم جنوبشت)

د. طه حامد الدليمي

عرضنا على الشيخ سليم أن يصحبنا إلى ناحية (سوق الشيوخ). رحب الشيخ بالعرض ومضينا إلى (هناك).

في المدينة نسبة كبيرة من السنة! منهم قبائل قدمت في زمن قد غبرَ من جزيرة العرب.. من نجد تحديداً، ما زالوا يحتفظون باسم نجد ويعتزون به.. المحلة التي يسكنونها اشتقوا لها اسماً تفرعت حروفه عن (نجد)؛ فكان (النجادة) هو الاسم.. والمسجد الذي بنوه يحمل الاسم نفسه. نزلنا عند رجل منهم يدعى (أبا مالك).. سلام لك مني يا أبا مالك، أبثه عبر المسافات من بعد عشرين حجة.. لا يهم أن محيت من ذاكرتي معالم وجهك الكريم ما دام أنها احتفظت لي بما هو أهم.. السجايا الأصيلة.. واللهجة العذبة التي ما زالت تحتفظ بنفحة صحراء تستنزل القطر من أعماق السماء!). وأفضى إلينا أبو مالك بما تختزنه نفسه من معتقات همومه.. لم يَشْكُ من النسيان والإهمال؛ فعَرْض الحال يغني عن كل شكوى. ولم يُدخل نفسه في هذا الاستعراض. كان حديثه عن المساجد التي تشكو بصمت، وحسبْ.. ورددت بصوت خفيض: (أين الناس؟).

جامع (النجادة) ليس له من إمام راتب ولا خطيب. قبل سنين نقل إليه بِعُقوبة رسمية شيخ من (هيت) غربي الأنبار. لقد أمسى نقل شيخ الدين إلى (هناك) عقوبة! لهذا ما إن سنحت للشيخ (المعاقَب) أول فرصة كان يترصدها حتى تركه وعاد إلى منطقته.

جامع (السوق الكبير) أحسن حالاً من بقية المساجد. لقد وجد له محسناً من مدينة (كبيسة).  قام بهدمه وإعادة بنائه.. ووجدوا له شاباً ما زال في طور الدراسة يقيم فيه صلاة الجمعة متطوعاً دون إذن رسمي.. أيش يعني دون سند رسمي؟ يعني بلا سند يحميه.. بلا راتب أيضاً. أما مسجد (الصفا) فأشبه بمنزل قديم مهجور. ولولا بعض عوام الناس من الجيران والطُّراء ينتابونه الفينة بعد الفينة، يصلون فيه كيفما اتُّفِق.. لتلاشت منه، ومن عدة مساجد أُخرى، صلاة الجمعة منذ سنين!

وامتد بأبي مالك الألم الصامت فإذا نحن في ناحية (الغراف) التابع لقضاء (الشطرة).. مدينة تقطنها نسبة لا بأس بها من السنة. وفيها جامع ما زال في طور الإنشاء.. الخطير في الأمر أنه يتعرض لمحاولة استيلاء منظمة، ترُسم خطواتها بالتنسيق بين الثنائي العتيد جهازَي الحزب والأمن. وقد كتبوا على قاعة المناسبات أسماء (الأئمة الاثني عشر)! وهذا أول (الغيث)!

كنت أنظر إلى ما كان وذهني مشغول بما سيكون. وعندما مددت خط الزمن سنيهاتٍ إلى الأمام هالني ما رأيت. واستعذت بالله مما رأيت. أجريت تمريناً لعضلات وجهي كي أظهر بمظهر المبتسم. كانت غايتي تبديد دخان الكآبة الذي خيم على جو المجلس، على الأقل كرامةً لأبي مالك ذلك الرجل الواثق الصبور، وقلت:

– أبو مالك؟

– عونك يا شيخ!

– لماذا مالك حزين؟

وأجاب على السجية دون أن ينتبه إلى مرمى السؤال، وابتسم الشيخ حسين؛ فهو يعرف لغتي وما أخبئ فيها أحياناً من متفجرات:

– لا أظن. هل لاحظت عليه شيئاً؟

واتسعت ابتسامتي وضحك الشيخ حسين وأنا أقول:

– إذن لماذا أسموه (مالك الحزين)؟

وضحك أبو مالك وضحك الحاضرون، وقال:

– إيهِ يا شيخ، لو كان لـ(مالك الحزين) فهم البشر وإحساسهم لانتحر من زمن بعيد، وما اكتفى بالحزن صامتاً على ما يرى.. لكننا نحمد الله سبحانه على أن جعلنا بشراً ندرك ونحس ونصبر ونتصبر ونكتم لنؤجر، ولم يجعلنا طيراً. هذا الطير يا شيخ، وفيُّ لأرضه. حين يجف الهور الذي فيه حياته، يبقى حواليه لا يبارحه، سوى أنه يقف مطأطأ الرأس، كأنه حزين على ما اعتراه من جفاف. لا يكون الطير أوفى منا لأرضه.. هذا الذي يصبرنا. ولولا ذلك لغادرنا هذا الجفاف منذ أن أصبح ماؤه غوراً، في غفلة عامة ونسيان تام من إخواننا في الشمال! آهِ لو تعلم كم فرحت برؤيتكم! شعرت كأن روحي المهاجرة عادت إلي.. قيعانها التي جفت عادت إليها مياهها! أدري أنه ليس في أيديكم شيء يمكن أن يغير الحال، لكنكم فعلتم ما بأيديكم. شاركتمونا الشعور على الأقل. وهذا شيء كبير.

وداعاً يا أبا مالك، وداعاً.

واستأنفنا المسير عائدين باتجاه الناصرية.. تركنا الشيخ سليم عند باب المسجد. وانطلقنا جنوباً نحو المحطة الخامسة. لكن ليس قبل أن أرسم بسمة على وجه الشيخ الحزين – أو ربما ضحكة؛ من يدري؟

تذكرت أن الشيخ إذا ذكر أحداً ألحق به  أو  بغيره أذى بالغاً، ردد غاضباً: “والله لو بيدي لضربته مئة حذاء على رأسه”. وقد يستبدل الجملة فيقول: “والله لو بيدي لقطَّعت على رأسه حذائي هذا”! قلت في نفسي: “جاءت وجاء بها الله!”. فأخرجت رأسي من النافذة ملوحاً له بيدي الشمال ورفعت صوتي قائلاً، وأنا لا أكاد أسيطر على نفسي شدة الضحك:

– شيخ سليم، يا شيخ سليم!

وما إن التفت إلي حتى بادرته قائلاً:

– دير بالك على حذائك يا شيخ سليم (ما أوَصّيكْ، أخُويَ اْخُويْ)!

وكانت نكتة قوية، ظل صاحباي يذكرانها، ويضحكان كلما تذكراها طوال الطريق!

2022/10/8

اظهر المزيد

‫18 تعليقات

  1. سبحان الله كل الخيرات جفت وجف أهلها معها
    والأسباب إختلاف العقيدة وتغيير الفكر والبعد عن طريق الحق : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]
    ((آية عظيمة تدل على أن الله تبارك وتعالى بكمال عدله وكمال حكمته لا يُغير ما بقوم من خير إلى شر، ومن شر إلى خير، ومن رخاء إلى شدة، ومن شدة إلى رخاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيروا غير الله عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات جزاء وفاقا،)) بأذن الله يزول الفرس وعبيدهم الهمج
    وحكمهم للعراق.

    1. من يبتعد عن الله يُبعد الله عنه بركته وخيره ويحل به الحزن والهم على لاشيء ويُسود كل بياض في عينية وهذا ماهم علية الان ان اللجوء إلى الله حياة والى غيره ذُله فيقول تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) وتلتجئ إلى من في التراب غَريق؟
      جزاك الله خيراً شيخنا

  2. : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]؟((آية عظيمة تدل على أن الله تبارك وتعالى بكمال عدله وكمال حكمته لا يُغير ما بقوم من خير إلى شر، ومن شر إلى خير، ومن رخاء إلى شدة، ومن شدة إلى رخاء، حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا كانوا في صلاح واستقامة وغيروا غير الله عليهم بالعقوبات والنكبات والشدائد والجدب والقحط والتفرق وغير هذا من أنواع العقوبات جزاء وفاقا،))
    بأذن الله يزول الفرس وعبيدهم الهمج وحكمهم للعراق
    دائمًا هناك آمل يغير الواقع المرير لنا في الله ظن لا يخيب …وفقك الله ورعاك شيخنا المجدد

  3. أغلب أهل السنة هم كالشيخ أبي مالك، و كل سني صادق أحس بإحساس أبي مالك في وسط الحزن والأسى و ضياع الوطن من قبل الهمج الدخلاء… وفي وسط غمرة هذا الحب المخنوق الحارق الذي يجعل الإنسان لا يستسلم للدمار النفسي الذي قد يسبب الانتحار بسبب الظروف، رأيناكم يا دكتورنا العزيز و أدخلت الفرحة و الأمل في قلوبنا.. ونحن لن نشاهدك تذهب للناصرية (النصر) لوحدك مع خاصتك بل أبي مالك ترك الحزن يغفو وأطلق العنان نحو أهداف مشروعك، فوالله لقد أحييت قلوب السنة بعد موتها بفضل الله… شكراً على هذه الفقرة من الرواية التي اغرورقت عيناي منها 🌹🤍

    1. ما لاحظته هو ما ينبغي ان يكون عليه أصحاب مشاريع الإنقاذ والإصلاح والبناء .. واجب حتم لا اختيار فيه. وإلا ما كانوا. ولا كانوا!
      وبعد.. فمن حقك أن تغرق عيناك بالدمع. لكن ألم يشرق حلقومك بالضحك من قصة حذاء الشيخ سليم؟
      ملاحظة/ بعد الاحتلال الفارسي قتلوا الشيخ سليم رحمه الله.

      1. عصابة الكفر المجوسية عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، والله إننا عندما نبني مجتمعنا السني الفكري و النضال من أجل أهداف مشروع التيار السني لنعيد الضحكة و الابتسامة إلى أرواح الشهداء كالشيخ سليم رحمه الله.. فهذا ثأر قومنا منذ بداية الخلق و ليس عندي شك بأن الملائكة تطمئن أرواح البررة على أحوال هذا الكفاح المقدس … سنحكي هذه الحكايات الجميلة بما فيها من مآسي و نكت مضحكة لأطفالنا بعد أن يروا إقليمهم الذي يحفظ حقوقهم و حقوق الأجيال بأعينهم. آمين 🌹

      2. ارتكبوا كل المحرمات واستباحوا كل الحرُمات …اول الغيث قطره ماء واثر الظلم جفاف الماء
        لاتحزن يامالك الخير قادم باذن الله

  4. ماذا يكون مصيره المحتوم من خرج عن دين الله
    وحارب الله ورسوله والمؤمنين وسعى في الأرض للفساد ،مصيره الخسارة والهلاك في الدنيا والآخرة ،
    ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)

    1. ماذا يكون مصيره المحتوم من خرج عن دين الله
      وحارب الله ورسوله والمؤمنين وسعى في الأرض للفساد ،مصيره الخسارة والهلاك في الدنيا والآخرة ،
      ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)

  5. جزاكَ الله خير الجزاء على هذهِ المقال الجميل تحياتي لك ولأهل التيار السني 👏🏻🍀

  6. السلام عليكم بارك الله فيك د.طه على هذه المقاله وهذه والمفاهيم وجزاك الله خيرا أجزاء…

  7. ان هذه الاحداث بسبب سيرهم إلى الطريق الخاطئ وتركهم لدين الله تعالى ( وتحياتي لك دكتور طه الدليمي)

  8. بارك الله في سعيك

    نعم انشاء الله إرهاصات النهاية
    لهاذا الحكم فقد جف كل شيئ وخاصة الجفاف الديني الذي صاحب الشخص العرب وتحوله الى شخص (فارسي)

  9. بشائرُ النصر لاحت في دجى الظلم *** تزفُّ في نورها البشرى لذي الهممِ
    بشائر النصر تدعو كل ذي شرفٍ: *** يا طالب العزّ ثِقْ بالله واعتصمِ
    فالنصر آتٍ وقد لاحت كواكبه *** رغم اشتداد ظلام الموج والخضمِ
    النصر آتٍ وقد لاحت كتائبه *** – واهاً لهم- هُمْ ليوث الغاب والأجمِ
    من كلّ حرًّ سَمَا عن كل ناقصة *** يَهْوي الشموخ قويًّ فارس وكَمِي
    هم فتية طهّر الإسلام أنفسَهم *** بتوبة فارتووا من طيّب القيمِ

اترك رداً على أنس الأندلسي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى