مقالاتمقالات أخرى

السند .. الوسيلة التي تحولت إلى صنمٍ لا يمكن المساس به

أ.العنود الهلالي

ذكرت في المقال السابق خبرا من سيرة فاتح مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه وفي هذا المقال سأفصل في سيرة المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثَّقَفي، أبو عبد الله:

أحد دهاة العرب وقادتهم وولاتهم وأول من سلم عليه بالأمرة.

مغيرة الرأي

يكفي من خبر سيرة هذا الصحابي الجليل أن نذكر أنه ممن خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وكان أبرز حراسه صلى الله عليه وسلم فعندما بعثت قريش عروة بن مسعود (عم المغيرة) ليفاوض النبي صلى الله عليه وسلم جعل عروة يتناول لحية النبي والمغيرة يقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك. فقال عروة: ويحك ما أفضّك وأغلظك فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال هذا ابن أخيك المغيرة.

وكان رضي الله ممن بايع النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وهذه البيعة هي بيعة الرضوان التي قال فيها الله سبحانه وتعالى: (لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ).

شهد اليمامة وفتوح الشام. وذهبت عينه رضي الله عنه باليرموك. وشهد القادسية ونهاوند وهمدان وغيرها. وولاه عمر بن الخطاب على البصرة، ففتح عدة بلاد، وعزله، ثم ولاه الكوفة. وأقره عثمان على الكوفة ثم عزله. ثم ولاه معاوية الكوفة فلم يزل فيها إلى أن مات رضي الله عنه وأرضاه.

نقد التراث على ضوء الرؤية السنية

ليس الهدف من قراءة التاريخ ودراسته معرفة الحوادث الماضية، أو سعيا لتتبع الوعظ التاريخي باسم “الدرس المستفاد” بل الهدف الأهم هو تنمية الوعي التاريخي وتعميقه؛ فالماضي ما هو إلا مكون للحاضر وأحد أبواب فهمه.

ولم أر خير من الرؤية السنية في قراءتها ونقدها للتراث بناءً على أسس بعيدة عن اللوثة الشيعية الشعوبية في الثقافة السنية، وهي بذلك تزيح هيمنة القداسة والقراءة التبجيلية على التراث وتحرر الفكر من سلطته المطلقة من خلال قراءة نقدية تحليلية لدواوين الحديث والتاريخ بعيدا عن لغة التقديس والتبرير التي تحفل بها معظم الدراسات الإسلامية بل جلها إلا ما ندر.

يقول الدكتور طه الدليمي: (كنت أرى أن أخطر مصدر لتسلل الثقافة الشعوبية التي مهدت لنشر التشيع الثقافي في أوساط الأمة، هو التاريخ. ثم تبين لي أخيراً أن الحديث كان دوره أخطر في هذا المجال؛ لمنزلة الحديث وقدسيته عند المسلمين. وينسحب هذا التقديس على الأحاديث التي يتوهم أنها صحيحة، والتي كان لها دور خطير في تشكيل ثقافة شيعية شعوبية صبغت تفكير عامة الأمة السنية: نخباً وجماهير)[1].

وسأضرب لكم مثالاً واحداً على هذه الخطورة:

الرواية التي فيها اتهام للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه بالزنا

الحقيقة أن المرء يشعر بحالة من الغثيان وهو يقرأ تلك الروايات الساقطة، وقد عفّ قلمي عن إيرادها هنا غيرة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن العجيب أن هذه الرواية يقول فيها الألباني في إرواء الغليل: (أثر ” أن عمر رضي الله عنه لما شهد عنده أبو بكرة، ونافع وشبل بن معبد، على المغيرة بن شعبة بالزنى حدهم حد القذف، لما تخلف الرابع زياد فلم يشهد” صحيح.) وقد أورد الرواية بطرق متعددة !!

السؤال هنا: كيف تكون الرواية صحيحة والقصة لم تثبت بطريق متفق على صحته، وإنما رواها سيف بن عمر المؤرخ، وهو مجروح العدالة، وأرسلها معه أبو حذيفة البخاري بغير إسناد، ولا يعرف حاله، وأسندها أبو عتاب الدلال عن أبي كعب صاحب الحرير[2]. ويؤكد ذلك ما ذكره الذهبي في “السير” قال: “ذكر القصة سيف بن عمر، وأبو حذيفة البخاري مطولة بلا سند، وسيف بن عمر هو كالواقدي متروك[3]”.

لقد صدق الدكتور طه الدليمي حين قال إن السند تحول عند كثير من المحدثين إلى صنم لا يمكن المساس به مهما كان المتن الذي يستند إليه متهاوياً! وإن ( كثيراً من المحدثين لاسيما المتأخرين يصححون المتن بمجرد صحة السند، وقلما ينظر أحدهم في المتن ومدى موافقته أو مخالفته للقرآن وبقية المحددات. ويقل النظر حتى ليكاد ينعدم إذا كان المروي من صنف المدسوسات الشيعية نتيجة رسوخ الثقافة الشعوبية.) ويقول أيضا في هذا الخلل الخطير أنه ( تم الانسلال من شرط صحة السند شيئاً فشيئاً. فالسند الضعيف كثيراً ما يُحسَّن بمجرد حيازة الراوي على وصف “الثقة”، وإن كان من بعض علماء الرجال دون بعضهم. مع أن ذلك لا يكفي دون حيازته على وصف “الثبت” المتعلق بالحفظ. والسند الضعيف كثيراً ما يُحسَّن بإضافته إلى سند ضعيف آخر (شواهد ومتابعات) ليرقى إلى درجة (الحسن لغيره).[4]

2022/12/14

___________________________________

[1] مقال هل للمحدثين دور في توهين الثقافة السنية أمام الثقافة الشعوبية

[2] العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (1/ 670).

[3] سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، ط7، 1410هـ/ 1990م، (3/ 27).

[4] مقال جناية المحدثين في صناعة الثقافة الشيعية لدى الأمة السنية

اظهر المزيد

‫16 تعليقات

  1. جزاكم الله خيرا
    الأستاذة الفاضلة العنود الهلالي
    على هذا البيان ونقد التراث على طريقة الرؤية السنية!
    وصدق الدكتور طه الدليمي حين قال
    كنت أرى أن أخطر مصدر لتسلل الثقافة الشعوبية التي مهدت لنشر التشيع الثقافي في أوساط الأمة، هو التاريخ. ثم تبين لي أخيراً أن الحديث كان دوره أخطر في هذا المجال؛ لمنزلة الحديث وقدسيته عند المسلمين. وينسحب هذا التقديس على الأحاديث التي يتوهم أنها صحيحة، والتي كان لها دور خطير في تشكيل ثقافة شيعية شعوبية صبغت تفكير عامة الأمة السنية: نخباً وجماهير

  2. القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يخلو من الدس والتحريف بدلالة هذه الاية الكريمة قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9].
    وهنا نتفكر ان الكتب التي قيل عنها أنها مقدسة ليست كذلك وانما قيل عنها هكذا لإيهام العباد وابعادهم عن المنهج القرآني و ما وجد فيها من اتهامات باطلة للصحابة رضي الله عنهم كل ذلك يصب في صالح الفرس لانهم اخترقوا الإسلام من هذه الكتب ووجب علينا التنقيب والبحث عن صحة ما وجد فيها عن غيرها و جزاكم الله خيرا

    شمعة 🙂

  3. مقاله غنيه ومفيده
    وخصوصا عندما تذكر مقولة الدكتور المجدد
    (تبين لي أخيراً أن الحديث كان دوره أخطر من التاريخ في تسلل الثقافه الشيعيه التي مهدت لنشر التشيع الثقافي في اوساط الامه
    ؛ لمنزلة الحديث وقدسيته عند المسلمين. وينسحب هذا التقديس على الأحاديث التي يتوهم أنها صحيحة، والتي كان لها دور خطير في تشكيل ثقافة شيعية شعوبية صبغت تفكير عامة الأمة السنية: نخباً وجماهير)

  4. شكراً لكِ اختنا الفاضلة على هذه السلسلة، ولقد وقعتي على العلّة الحقيقية، وهي قدسية السند الذي اشار اليه الدكتور طه حفظه الله مِراراً وتكراراً، واكد على هذا الخرق الكبير لعقلية السُني عالِمهم وعاميهم، بحيث اصاب العقل السني الشلل والجمود لانهم استطاعوا اقفاله.

  5. شكرآ للأستاذة العنود على هذا المقال القيم والمهم، الكتاب الوحيد الخالي من التشيع هو القرآن الكريم كما يقول فضيلة الدكتور طه الدليمي…

  6. فعلا كلما ازداد الوعي والثقافه السنيه بدانا ندرك كم نحن مقلدوون ولا نعلم مدى خطورة الحديث وتاثيره في صفوف اهل السنه قبل الشيعه

    1. صدقت إيمان ..
      حين نعي المؤامرة وندرك حقيقة العبث الفارسي .. نستطيع أن نرى بوضوح الخطر الحقيقي الذي يتخفى في دواوين الحديث والتاريخ

  7. بوركت الأفكار المبدعة .
    ولاتمام الفائدة وتناغم الفكرة فهذه رؤية إبن خلدون في نقل الأخبار بعين الذكاء الواعي.
    يقول:
    حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لان الاخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الانساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأيمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثما أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار فضلوا عن الحق.

    1. أحسنت استاذنا ..
      ورؤية ابن خلدون ووعيه التاريخي كان علامة فارقة في الكتابة التاريخية العربية .. فكل من سبقه كان ناقلا وجامعا للخبر .. بعيدا إلا ما ندر عن النقد التاريخي بشقيه الايجابي والسلبي ..

  8. سلمتي وابدعتي لهذه السلسلة التاريخية
    وما تحمله من رؤيا هادفة سُنية في نصرة
    الصحابة رضوان الله عنهم ورموز الأمة العربية
    شكرا أستاذة عنود لجهودك الفكرية
    وما تحمليه من ثقافة سُنية واقعية 💐

  9. حي الله العنود الهلالي، مقال عالي الهمم ،
    والله د. طه شيخنا الغالي أطال الله في عمره ،
    أتانا بحُزم من المفاهيم لم تأتي الأمة بها و ذلك من لطف الله ،
    ومنها مفهوم الحديث أو قواعد علم الحديث
    وأعظم ما ذكر في مفهوم القواعد أو نبه عليه
    هو غياب القرآن عن قواعد علم الحديث ،
    مع ان القرآن هو الميزان في صحة التشريع؟
    كيف يتقدم السند على كتاب لله وهم بشر،
    إلم يكذب فهو ينسا ويسها….
    موفقين

  10. جزاكِ الله خيراً ست عنود على هذه اللمحات والتنويرات التي تبين لنا كيف نقرأ تاريخنا وتراثنا بطريقة اقرب الى الحق ..
    هدانا الله واياكم الى الحق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى