سياسةمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

تجديد معاوية في مجال السياسة المالية

من دروس السياسة المالية لمعاوية بن أبي سفيان (ض)/2 -3

د. طه حامد الدليمي

صرف المال على المؤسسات لا الصرف المباشر على الشعب

C:\Users\taha\Desktop\11111111111111.jpg للخير باب يفضي إلى رُحاب. وللشر مثاب ينتهي إلى تباب. والفكرة الرائدة هي الأساس والأصل الذي يبنى عليه. فما هو الأساس الذي بنى عليه معاوية سياسته المالية؟

كان الأساس الذي بنيت عليه السياسة المالية فـي العهد السابق صرف المال في مصالح الناس كأفراد. فلما جاء معاوية قلب المعادلة إلى أساس آخر هو صرف المال في مصالح الناس كمجموع.

فشرع في استعمال المال أولاً في تدعيم الدولة: حكومة وشعباً، وتثبيت أركانها وتشييد مؤسساتها في بُناها العلوية والتحتية: العسكرية والأمنية والقضائية والتعليمية والخدمية وغيرها. فما فائدة بذل المال كله لشعب انقسم إلى قسمين: قسم يتقوى بهذا المال على هدم الدولة، وقسم آخر يتفرج عاجزاً عن فعل شيء ضد هذا التجاوز الخطير؟!

السياسة السابقة وحاجتها إلى تجديد

ساهم المال السابق فـي تهديم ولاء الناس للدولة فعكس معاوية النتيجة بسيره على ذلك الأساس، وصار المال سبباً في تدعيم ولاء الناس للدولة. وقصير النظر يركز على الفعل مجرداً، ولا يدرك غايته فكرةً، ولا نتيجته واقعاً.

وما فعله معاوية فـي هذه الجزئية هو عين سياسة النبي التي كانت تندرج تحت باب (المؤلفة قلوبهم). لكن ذا الخويصرة اعترض عليه حتى تجاوز قدره فقال له: “اعدل يا محمد؛ إنها والله قسمة ما أريد بها وجه الله”! وهو عين ما قاله ويقوله المخالفون لمعاوية حتى اليوم؛ ينظرون إلى الفعل كجزئية مجردة عن أساسها ونتيجتها وحيثياتها. لكن ماذا نفعل إذا كان كثير من الناس: جمهوراً ونخبة باتوا من طراز (ذي الخويصرة) بسبب تلك الثقافة السائدة الفاسدة!

من خلال المصلحة العامة تتحقق المصالح الخاصة .. وليس العكس

لقد كانت السياسة السابقة تستعمل المال في مصلحة الأفراد، فعمل معاوية على سياسة جديدة قوامها استعمال المال في مصلحة الدولة، ومن خلال هذه المصلحة العامة تتحقق المصالح الخاصة للأفراد. ولم يكن في ذلك بخس لحق أحد؛ فحقوق الأفراد المالية المبينة بالشرع مكفولة لا تجاوز فيها عليهم. وإنما الكلام في المال الذي فـي خزينة الدولة (بيت المال). وهو، وإن كان في النهاية موضوعاً لخدمة الناس، لكنه من ناحية ثانية وهي طريقة التصرف فيه، هو حق الدولة المحض، بعد أن أُدِّي فـي أصله حق الناس. مثل خمس الغنيمة بعد صرف أربعة أخماسها على مستحقيها: لا شأن للناس في تحديد طريقة التصرف فيه وتوجيهها. كما أنه لم يرد في الشرع تفصيل فيها؛ فيكون الحق فـي طريقة تصريفه لولي أمر الناس، وليس للناس. وهذا ما عناه معاوية بقوله: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”. لا كما فهمته الظنون الآثمة للمخالفين.

المال مال العامة فالحكومة هي المفوض الوحيد للتصرف فيه لصالح العام

وإذ المال مال العامة؛ فالحكومة هي المفوض الوحيد للتصرف فيه لصالح العام . فعمل معاوية على توجيه عامة مال خزينة الدولة إلى ما يعود على الدولة – أي الشعب ككل – بالفائدة. مثل رواتب الجند وتكاليف تصنيع السلاح وأدوات الجهاد القديمة والمستحدثة مثل صناعة السفن وبناء الأساطيل حفاظاً على إدامة الفتوح ونشر الإسلام. ورواتب الحرس والشرطة وأجهزة الاستخبارات وما يقوم على توطيد الاستقرار والأمن الداخلي. ومصارف الزراعة وما تحتاجه من إصلاح الري وحفر الأنهار وإحياء الموات وغيرها من الاحتياجات. ومصارف (المؤلفة قلوبهم) لترسيخ ولائهم للدولة وكف شرهم عن الفتن. وكذلك مصارف مؤسسات الدولة الأُخرى: القديمة والمستحدثة، مثل ديوان الخاتم والبريد والخراج والتعليم. وما يصرف للفقهاء وطلبة العلم، وعمارة المساجد وبناء المدن وعمارة البلدان وغيرها من المصارف التي تعود بالنفع الخاص على أفراد الناس، ولكن من خلال مؤسسات النفع العام.

وكان أمير المؤمنين يتابع الواقع ويواكب حاجاته بما يناسبها. فحين وقعت حوادث غش وتلاعب في الكتب التي تتضمن صرف المال، استحدث معاوية الخاتم و(ديوان الخاتم). “وصار هذا الديوان الجديد من أهم معالم القواعد المالية الجديدة زمن الأمويين، فكانت له نظم دقيقة، وعمال يقظون، فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور أُحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأُثبتت نسخته فيه، وحُزم بخيط، وختم بشمع، وختم بخاتم صاحب الديوان”([1]).

وقد كانت الدولة  في زمن الأمويين مهتمة بالصالح العام إلى حد قد لا يتخيله البعض. فمن ذلك أن والي الموصل فـي عهد هشام بن عبد الملك، وفـي وقت كانت ترزح فيه خزينة الدولة تحت ضغط مواجهة الأخطار الخارجية، قام بإنشاء مشروع رئيس لجر المياه عبر المدينة، وذلك بحفر قناة متفرعة من نهر دجلة تمر بالمدينة، تبنى عليها ثماني عشرة طاحونة، كلفتها ثمانية ملايين درهم. أنجز المشروع سنة (121هـ) بعد (15) سنة، وعمل عليه (5000) رجل([2]).

إن هذا التصرف فـي استثمار المال العام وتدبيره أولى وأنفع للناس ألف مرة من صرفه عن طريق التوزيع المباشر عليهم.

كانت هذه السياسة من أكبر عوامل الإصلاح والتجديد الذي حققه معاوية، وكان ينبغي أن يفعله عثمان. ويتأكد الواجب أكثر في حق علي؛ فقد اتسع الخرق واشتدت الفتنة، ولم يدرك العلة العميقة ليعالجها، وكانت الأمة آنذاك في أمس الحاجة إلى العلاج وإصلاح الاعوجاج، وهو إبطال (ديوان العطاء) بعد مرور عشر سنين على تأسيسه. أو إعادة النظر فيه وتجديده بتقنينه بما يتناسب والتغيرات المستجدة. والدليل أن علياً – بدل ذلك – عمل العكس، فنفذ ما كان يطالب به أجلاف الفتنة كمالك الأجرب، ومن ورائهم قادتها السريون، أعني الفرس. وذلك تحت شعار (المساواة).

2023/2/2

يتبع

………………………………………………………………………….

  1. – السياسة الشرعية، ص130، مناهج جامعة المدينة العالمية، جامعة المدينة العالمية.
  2. – الدولة الأموية المفترى عليها، ص427، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، القاهرة – جمهورية مصر العربية، 2001.
اظهر المزيد

‫16 تعليقات

  1. جزاكم الله خيرا دكتور على هذا المقالة العظيمة في تفصيلها
    وبيان حقيقة الأمر الذي لوثه الشعوبيون في كتبنا وصار أغلب الناس بل حتى شيوخ الدين يطعنون بالمجدد الاول في الإسلام معاوية بن أبي سفيان رحمه الله تعالى
    جاء دورنا ونحن لها بإذن الله في تنقية كتبنا
    الذي كتبت بايادي شيعية مجوسية
    نحن نصنع التاريخ ونحن نكتبه بإذن الله
    نحن لها ومن قال أنا لها نالها

  2. سياسه رائته في ادارة المال وتوجيه المال الى التنميه بدل صرفها على الافراد بدون حاجه وضروره هذا ما نحتاجه اليوم ان تصرف الاموال في مكانها الصيح وان لا تبقى عرضه للنهب والاهدار

  3. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حياك الله دكتورنا الفاضل على هذه المقالات التي تبين سياسة سيدنا معاوية بن أبي سفيان المالية ولكن اريد تعليقكم حول بعض الاسئله
    ١_ التنازل عن خراج “دارابجرد” للحسن بن علي
    الحسن بن علي قال لعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز موفدي معاوية: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، يريد الحسن ألا يطالبهم معاوية.
    ٢_ التفرقة في العطاء
    أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما قبل ذلك في عهد رسول الله ﷺ، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور انتهاء المعارك، وقد أعطى رسول الله ﷺ المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح، وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين.
    ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب، فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي ﷺ على من عداهم.. ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم، فقد كانوا أنصارهم المخلصين، وهم عماد الجيوش المجاهدة؛ سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح أفريقيا والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم، كما حدث في قتال ابن الأشعث، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بأفريقيا في عهد هشام
    ٣_ التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار
    أنفق معاوية رضي الله عنه أموالاً كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل بها قلوبهم، وقلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من ورائهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول ﷺ المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسلَّ سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية؛ حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك؛ فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟! إن من الحق أن نقول: إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء.
    ٤_ مظاهر الترف عند الأمويين
    هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت عمر بن الخطاب نظر معاوية رضي الله عنهما إليه وهو بعد أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر. ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه. وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وإن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعُّم حراماً.
    القائمة المفتوحة

    شعار قسم مدونات
    سياسة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في صرف الأموال (٢)
    علي الصلابي
    علي الصلابي
    مؤرخ، فقيه، ومفكر سياسي ليبي
    29/12/2021
    blogs – معاوية رضي الله عنه
    رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. (مواقع التواصل الاجتماعي)
    أثار بعض المؤرخين شبهات حول مصارف الأموال في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وذكروا عدة مصارف وسَمُوها بأنها جائرة وغير شرعية؛ منها:

    التنازل عن خراج “دارابجرد” للحسن بن علي
    زعم بعض المؤرخين أن معاوية تنازل للحسن بن علي رضي الله عنهما عن خراج “دارابجرد” وأن يعطيه مما في بيت مال الكوفة مبلغ 5 آلاف درهم مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية، وأن الحسن قد أخذ ما في بيت مال الكوفة ولكنه لم يستطع الحصول على خراج “دارابجرد” إذ إن أهل البصرة قد منعوه منه، ويزعمون أن ذلك كان بتحريض معاوية أو بمبادرة من البصريين، على أن هذه الرواية تنال من الحسن ومعاوية معاً، وتجعلهما في موقف التواطؤ لأكل أموال المسلمين بالباطل، وهذا باطل ولا يصح، والصحيح مثبت في صحيح البخاري بأن الحسن قال لعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز موفدي معاوية: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال.. فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به، فالحسن يتحدث عن أموال سبق أن أصابها هو وغيره من بني عبد المطلب، يريد الحسن ألا يطالبهم معاوية. (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص 64)

    وذكر ابن أعثم: أن الحسن قال: أما المال فليس لمعاوية أن يشترط لي فيء المسلمين، والمعلوم أن جباية الخراج من مهام الدولة، ولا علاقة مباشرة بين الحسن وأهل البصرة في هذا الجانب، ولكن الرواية أشارت إلى أن خراج “دارابجرد” لم يكن في الأموال التي صيرت إلى الحسن (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص 64)

    ورُوي أن الحسن قال لمعاوية: إن عليَّ عِدَّات ودُيوناً، فأطلق له من بيت المال نحو 400 ألف أو أكثر (تاريخ الإسلام، عهد معاوية، ص 7)

    وذكر ابن عساكر: يُسلَّم له بيت المال فيقضي منه ديونه ومواعيده التي عليه، ويتحمل منه هو ومن معه عيال أهل أبيه وولده وأهل بيته، وذهب بعض المؤرخين إلى أن إبقاءه ما في بيت المال معه (5 ملايين درهم)، استبقاه لأولئك المحاربين الذين كانوا معه، يوزِّعه بينهم، ويبقي لمعيشته له ولأهل بيته ولأصحابه. ولا شك أن توزيع الأموال على بعض الجنود يساعد في تخفيف شدة التوتر (في التاريخ الإسلامي، شوقي أبو خليل، ص 268)

    إن الذي جاء في رواية البخاري هو الذي أميل إليه؛ فالأمر لا يكون تجاوز طلب العفو عن الأموال التي أصابها الحسن وآله في الأيام الخالية. وأما الروايات التي تشير إلى أن يجري معاوية للحسن كل عام مليون درهم وأن يحمل إلى أخيه الحسين مليوني درهم في كل عام، ويفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس، وكأن الحسن باع الخلافة لمعاوية، فهذه الروايات وما قيل حولها من تحليل وتفسير لا تُقبل ولا يعتمد عليها، لأنها تصور إحساس الحسن بمصالح الأمة يبدو ضعيفاً أمام مصالحه الخاصة. وأما حقه في العطاء؛ فليس الحسن فيه بواحد من دون المسلمين، ولا يمنع أن يكون حظه منه أكثر من غيره، ولكنه لا يصل إلى عشر معشار ما ذكرته الروايات. (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ص 63)

    التفرقة في العطاء
    أول من سن ديوان العطاء في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما قبل ذلك في عهد رسول الله ﷺ، فكانت غنائم الحرب توزع على المسلمين فور انتهاء المعارك، وقد أعطى رسول الله ﷺ المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، وكان شيئاً كثيراً، فتقرر بذلك أن تفضيل بعض الناس في توزيع الغنائم أمر مباح، وقد يكون مستحباً إذا اقتضت مصلحة المسلمين ذلك، وإن كان ذلك يزيد في غنائمهم عن بقية المسلمين. (الدولة الأموية المفترى عليها، ص 418)

    ثم كثرت بعد ذلك الغنائم المجلوبة إلى حاضرة المسلمين نتيجة اتساع نطاق الغزو زمن عمر بن الخطاب، فاستشار أصحابه وانتهى أمره إلى تدوين ديوان العطاء ليكفل توزيعه على نحو معروف، وفضل أصحاب السابقة والقرابة من النبي ﷺ على من عداهم.. ولما جاء الأمويون فضلوا أهل الشام على من عداهم، فقد كانوا أنصارهم المخلصين، وهم عماد الجيوش المجاهدة؛ سواء في الشمال في جهاد الروم أو في الغرب في فتوح أفريقيا والأندلس، وهم المحافظون على سلامة الدولة وقمع مخالفيها، وكم استنجد بهم ولاة الأمصار حين خرج عليهم خارجون وعجز جند المصر في الدفاع عن أنفسهم ونظامهم، كما حدث في قتال ابن الأشعث، ومواجهة ثورة يزيد بن المهلب زمن يزيد بن عبد الملك، وكما حدث في انتقاض البربر الخوارج بأفريقيا في عهد هشام. نقلاً عن (الدولة الأموية المفترى عليها، ص 420)

    التوسع في إنفاق الأموال لتأليف القلوب واكتساب الأنصار
    أنفق معاوية رضي الله عنه أموالاً كبيرة ليتألف بها قلوب الزعماء والأشراف ويوطد أركان الدولة الإسلامية التي قامت بعد فترات من الصراع والتطاحن، فقد رأى معاوية رضي الله عنه أن إراقة بعض المال خير من إراقة كثير من دماء المسلمين.. فأعطى هؤلاء الرجال المال يستميل بها قلوبهم، وقلوب أتباعهم وأنصارهم، ويعلي به مكانتهم ويسد خلة من ورائهم، ولعله قد فهم من إعطاء الرسول ﷺ المؤلفة قلوبهم بعد فتح مكة ليستميلهم نحو الدين ويسلَّ سخائم نفوسهم، أنه يجوز أن يعطي أمثال هؤلاء الرجال ليتألف قلوبهم ويضمن ولاءهم، والولاء للدين والدولة يختلطان في فهم معاوية وبني أمية؛ حيث قامت دولتهم فيما اعتقدوا لنصرة الدين وجمع شمل أهله، وأخيراً فإن كان معاوية مخطئاً في ذلك؛ فما القول في هؤلاء السادة الذين قبلوا عطاياه وجوائزه وفيهم من اشتهر بالتقوى والورع والخوف من الله تعالى؟! إن من الحق أن نقول: إن المجتمع الإسلامي في ذلك العهد كان يشهد تغيراً كبيراً عن زمن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين حتى صارت بعض فعالياته السياسية ترى أن من حقها التميز في العطاء.

    مظاهر الترف عند الأمويين
    هذا ويحتل الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم مكانة واسعة عند مؤرخينا، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت عمر بن الخطاب نظر معاوية رضي الله عنهما إليه وهو بعد أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر. ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه. وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانثيال الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وإن هذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعُّم حراماً (الدولة الأموية المفترى عليها، ص 424). وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية، خلفائهم وولاتهم. فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية ولا أكثر حرصاً عليه، وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء، وكان العرب يعدون ذلك كرماً، ويتفاخرون به، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم وإن لم يكن حاكماً، والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها.

    إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف، ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في يد الصليبيين، ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية، لذلك يكره الإسلام الترف ويحذر منه أشد التحذير ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *﴾ [الإسراء: 16]. إنه كالحمض الأكَّال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال، ولكن هذا يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله. وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه، ولكنه تصرَّف بشأنه بمنع الفساد، فمنع الصحابة رضوان الله عليهم من الخروج من المدينة للضياع والتجارة؛ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان (الأدبي) على الناس، فيحدث التميز وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة، فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم، وإلى جانب ذلك وقبل ذلك أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس، فيفسد الناس.

    أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر، يسمح بالنفع ويمنع الضرر، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السُنّة الإلهية، لا لأن المال في ذاته هكذا يصنع، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الآفة لم يبذل فتنفرد الآفة وحدها بالسلطان، وآفة المال الترف، وعلاجها في يد ولي الأمر… بنشر روح الجد في المجتمع، وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه، كما فعل الفرس، فالنتيجة هي ما قررته السُنّة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله تعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *﴾ [الروم: 41]

    والترف مُعْدٍ ككل آفة.. فحين لا يعالَج ولا يوقَف؛ فإنه ينتشر ولا بد.. وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمر أسوأ، لأن الحكام دائماً قدوة. وقد كان الأمويون -برغم وجود الترف بينهم- أقل فساداً بالمال من العباسيين، لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى. فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد، ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى.

  4. دكتور؟ المال للدولة، المال العام للدولة،يعني المال الذي تحصل عليه الدولة غنائم جزية جبايات مشاريع تجارية محاصيل زراعية….هذا هو المقصود بالمال العام الذي تمتلكه الدولة وتصرفه في إدارة شأونها
    ثم تتصرف الدولة في ترتيب المستحق من المجتمع مثل إي موضف في دوائر الدولة،
    أما الآليات التي تحث المجتمع المؤمن على الصدقات هذا من الكسب او مايحصل عليه الفرد من أي جهد وضيفي او حرفي…. كم جميل النظام في كل مفاصل الدولة

  5. ذو الخويصرة اليوم يسل سيفه على بناة الحضارة وحماتها ، كان الأجدر بنا اتخاذ هؤلاء العمالقة قدوة ورمزا يباهى بهم — حق على امة أنجبتهم ان تفخر بهم
    واقل الواجب اليوم هو الذود عنهم وعن سيرهم الطيبة
    الاحسان يجازى بالاحسان
    جزاكم الله خيرا وذب عن وجوهكم النار يوم توزن الاعمال بالذرة🌹

  6. كان امير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ينتقي ولاته والعاملين معه من أهل التقوى وحُسن التدين والأمانة. ثم التوسعة على الموظفين في معاشاتهم كأول إجراء إداري. حيث رأى في ذلك الإجراء وقاية لهم من الخيانة، رغم تقتيره على نفسه وأهله، وهو أمير للمؤمنين.
    منعهم كذلك من ممارسة التجارة، إدراكاً منه أن ممارسة الموظفين والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم يكن الاثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتها عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شيء.ثم أخيراً، كان يتابع ولاته ويحاسبهم بنفسه، لاسيما في الجوانب المالية، وتطبيق مبدأ ( من أين لك هذا ) . إن المحافظة على المال العام، وصيانته من النهب والهدر والاستغلال، مسؤولية الحاكم والمحكومين جميعاً. الكل يلتزم بالعمل، بحسب موقع كل شخص ووظيفته، على صيانة هذا المال والمحافظة عليه بكل الطرق والوسائل المتاحة، على اعتبار أن هذا المال في نهاية الأمر هو منهم وإليهم بالعدل.

  7. المال ضرورة من ضروريات الحياة بل هو وسيلة لتحريك الحياة واستمرارها ولولا المال لايقوم أي مشروع يحمي اهله ولابناء دولة تصلح أحوال الناس.
    كان ذكاء وفكر أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يسير بتجاه صحيح على خطى سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قدم الله عزوجل جهاد المال على السيف قال تعالى:
    (ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ) سورة التوبة

  8. الله الله كم هي ناضجة شخصية معاوية بن أبي سفيان في الحكم والسياسة.. ويقول الجاهلون في الحكم والسياسة أن هذه وغيرها هي أخطاء معاوية.. بل هي محامده، وهي ما يدين الله به.

  9. حقيقة بكل حلقة من هذا الحلقات يزداد عندنا الاجلال لهذا الرجل العظيم والعقلية الفذّة التي يجب ان تُدرّس بمنهاج.

  10. بسم الله الرحمن الرحيم
    جزى الله الدكتور الدليمي خير الجزاء
    الذي اريد ان اشير اليه هو ما فصل فيه الدكتور الدليمي سابقا في التفريق بين الأفضل والاصلح، ففي مجال القيادة نحن بحاجة للأصلح وليس للأفضل فقط، فلو قارنا بين الصحابي أبا ذر الغفاري وبين الصحابي خالد ابن الوليد، فقطعا الأفضلية لأبي ذر، ولكن خالد هو الأصلح منه لقيادة الجيش، وبهذا الميزان سيكون الصحابي الجليل معاوية ابن أبي سفيان هو الأصلح لقيادة تلك المرحلة وإن وجد من هو أفضل منه

  11. هذا الرجل هو الرجل الصح في المكان والزمان الصح.
    ولولا سيدنا معاويه رضي الله عنه لنتهت وتفرقت دولة الإسلام. عندما أقرأ هذه السلسة عن هذا المجدد نجده يحمل من الذكاء والفطنه ما اهلتة لقيادة هذه المرحلة الخطرة والمهمة من حياة دولة الإسلام وكأن وجوده خيار رباني.
    رضي الله عن سيدنا معاويه وجزاه الله عن الامه خير الجزاء

  12. رضي الله عن سيدنا معاوية بشخصه وسياسته وقيادته
    قهر كل متهكِّم جاهل لايعي قيادة الجهابذة

  13. جزاك الله خير دكتور طة
    ادق تفصيل واستنباط للتجديد في تجديد معاويه رضي الله عنه
    للسياسة المالية حيث جعل كل انسان مسؤل عن نفسة لا عالة ع الدولة والاخرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى