ديوان القادسيةقصص وخواطرمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

الرحيل

من رواية (هكذا تكلم جنوبشت)

د. طه حامد الدليمي

الفصل الثالث

جِنوبشت

 

“أنا الجِنوب.. هل تعرف من أنا؟”.

صوت جلجل في أذني لحظة ثم توقف. كأنه قادم من أعماق الأرض، أو من غور بعيد من أغوار الزمان.. بينما كنت راقداً على ظهري فوق سطح الدار أرقب النجوم، وأدور ببصري مع الكواكب.. أفكر في سر (المأساة) وسبيل الخلاص.

وعاد ثانية.. لكنه ظل يجلجل دون توقف هَوِيّاً من الليل حتى انتهى إلى ما أراد.

“أنا الجِنوب.. هل تعرف من أنا؟”.

“كائن حي.. أمارس جميع أنشطتي الحيوية. لكنك لا تشعر بي، ولا تدرك ما أقول. هذا هو الفرق.. لا تشعر بي، ولا تدرك ما أقول.

تواضع قليلاً يا أخي..! خفف الوطء شيئاً؛ إن لم يكنْ لأجلي فلأجل هؤلاء المتوارين تحت عباءتي. لا تتبجح بعقلك المحدود فتنكرَ وجود ما لا يتراءى لك عبر شاشته الضيقة، أو يخطر في فضاء خياله الموهوم. أو تطغى فتنفي ما لم تكن لعقلك القدرة على تفسيره أو تصوره. ألم يقل لك عقلك نفسه يوماً: “عدم الدليل ليس دليلاً على العدم؟”. لكنك لا تريد أن تفهم. لا تريد أن تتواضع. تريد أن تتبجح.. تتبجح وحسب.

اسمع قصتي إذن. لا بد أن تسمع؛ فإن سر مأساتك عندي.

سرُّ مأساتك أنك تجهلني بِشرّي وخيري.. ومفتاحها أن تعرف من أنا؟

أنا الجنوب.. فهل تعرف من أنا؟

لن أحدثك عن أور وكلكامش وأنكيدو.. ولا أوتوحيكال وكوديا ولكش والكوتيين. لا.. ولا عن أكاد من قبلُ ثم سومر من بعد. لا لن أحدثك عن كل هذا، ولا عن غزوات الرعاة قطاعي الطرق، الذين كانوا ينساحون من هضبتهم القاحلة في وسط بلاد فارس منذ آلاف السنين، وكيف يدمرون في كل مرة أشيائي، ويبقرون أحشائي، ويحرقون كل ما نسجت يد حضارتي من ثوبي القشيب. ولا عن مقاومة أهل الأرض لأولئك الغزاة.. لأولئك الرعاة قطاعي الطرق. ولا عن مجيء الإسكندر المقدوني وكيف استقبلوه وقد استبد بهم اليأس فرحين مستبشرين. هل علموا أن الدول منذ أن كانت ليست “فاعل خير”. لكن.. ماذا كان بيدهم ليفعلوه، فلم يفعلوه؟

لا.. ولا عن دجلة والفرات، والكأس الفوارة، والبطائح والأهوار. ولا القصب والبردي والسمك والطير. ولا عن أولِ سنبلة ابتسمت للوجود فحياها.. وأخذها.. وتلقاها بحضنه ثم غمسها في التراب ورفع ابتسامتها للسماء فأمطرتْه حُباً وبركة.

دع عنك عشتار وتموز وسميراميس وزنوبيا والحضر وعربايا وسنطروق. لا تلتفت إلى حمورابي البابلي ولا بانيبال الآشوري، ولا إلى أريدو ونُفَّر ولا دور كوري كالزو.. ذلك حديث الخَلِـيِّين.

لعلك تفكر في الحيرة والنعمان وذي قار وبهرام؟  كلا سأطوي كل هذا مرة واحدة.

لا معنى لكل هذا في سر مأساتك.

وأنا أريد أن أبوح لك بهذا السر.

لكي أتخفف منه.

ولكي أجبَّ عن نفسي لعنة التاريخ. تاريخ الخليين.. الذين يكتبون وهم غائبون عن شهود الحقيقة.. أعني سر مأساتك.

إنك تلعنني كثيراً. ولقد آذاني ذلك كثيراً. ليتني أستحق لعنتك لكان وقعها أخف عليّ. أتعرف من يستحق لعنتك؟ إنه من أخفى عنك الحقيقة.. هو من زوّر عليك التاريخ.

دع عنك كل ما قاله الرواة. واسمع مني؛ فأنا من جرتْ على تضاريس جسده كل فصول الحكاية.. أنا.. نعم أنا .. أنا صاحب الرواية.

لكن ها هو الليل قد توغل بعيداً. أتركك إذن ترتاح.. وإلى حين.

وداعاً”.

وتلاشت جلجلة الصوت. وغارت النجوم. واْظْلَمَّت السماء.

وظللت حيرانَ ساهراً أنتظر الصباح لعله يأتي بجواب.

وجاء الليل فعدت إلى مرقدي فوق سطح الدار أرقب النجوم، وأدور ببصري مع الكواكب.. أفكر في سر (المأساة) وسبيل الخلاص.. فإذا الجلجلة في أذني ثانية: “أنا الجِنوب.. هل تعرف من أنا؟”! وتكرر المشهد في الليالي القادمة دون خُلْف، حتى كان يومٌ لم يتأخر كثيراً.. يومٌ اتخذت في صباحه قراراً غريباً ذُهل لغرابته الجميع!

* * *

الفصل الرابع

الرّحيل

 

( 1 )

لبيك..أنا قادم إليك..

أتدري لماذا؟

لشيء واحد.. واحد فقط.

أريد أن أتعرفَ عليك، وأتعرفَ إليك.. أن أفهمك بنفسي دون وساطة.. لعلني أكف لعنة الأجيال عنك.. أو – ربما – أثبتُّها عليك.

لا أريد أن أبقى أسمع عنك من بعيد.. أريد أن أراك، ألمسك، أسمع الرواية من فمك. أقرأ حروفها تنادي عليّ من بين تضاريسك. لعلك لا تدري أنني طبيب! والطب كالزواج لا يكون بالمراسلة؛ هناك مريض.. أسمعُ قصته، أدقق في لونه، أحدق في عينيه، أتحسس جلده، أجس نبضه. وسريرُ فحص أمدده عليه كي أتعرف على تضاريسه أكثر. وفحوصاتٌ ومتابعة. وعلتك أكبر.. أعقد.. أكثر تشابكاً.. لذا…

غادرت جميع المستشفيات.. أقفلت عيادتي، وتفرغت لك..

لك وحدك.

من أجلك فعلت ذلك، أصممت أذني عن لوم اللائمين، وأشحت بصري عن نظرات الزوجة وهي تترجاني بصمتٍ النكوصَ عن هذا القرار الغريب. وأعرضتُ عن نصائح الأهل وانتقادات الأقارب وتساؤلات الأصدقاء.

وها أنا قادم إليك..

فهل أنت على استعداد لأن تستقبلَني؟ تتقبلَني؟

لنرَ..

( 2 )

قال لي الحاج أبو نعيم:

– فكر جيداً وراجع نفسك قبل أن تحسم أمرك. ستواجه (هناك) بيئة استثنائية وأياماً صعاباً، وتعرض لك مخاطر؛ فلا بد أن يكون القرار قرارَك وحدك.

لا أدري لمَ شعرتُ عند الجملة الأخيرة كأنّ صوته ابتعد وابتعد ثم عاد إلي من بعيد! ثم صار يتشتت كأنه أصداء خافتة تنبعثُ من أسفل جُبٍّ، أو صيحاتٌ مختنقة تنبثقُ من جوف كهفٍ. وتساءلتُ: “هل هذا هو صوت صاحبي!”.

كان في هذه اللحظة يضع كفه اليسرى على فمه ويتثاءب. وسَرعان ما شعرت أنا بصداع خفيف يطوق رأسي، وتسري موجته خلال جلدي فيكتسي بها حتى أسفل صدري. فركت مواضع الألم، أحسست بشيء من الراحة، وأغمضت عينيّ ثم عدت لأفتحهما فألفيت جفوني ثقيلة. حاولت وفتحتهما فرأيت صاحبي قد أخذته تواً سِنة من نوم.

المِدفأة النفطية تثير في الجسد إحساساً لذيذاً بالخدر يأخذ عليك كيانك من أطرافه كلها. أغمضت عينيّ ثانية، وبينما أنا بين النوم واليقظة، بل كنت إلى اليقظة أقرب مني إلى النوم، لمحت طيفاً غريباً يحط أمامي وهو يبتسم. لفت انتباهي جلده المتعدد الأشكال والألوان كأنه رُقعٌ خيطت إلى بعضها دون نظام!

واسترسلتُ مع المشهد حتى نسيت نفسي.

كان الطيف يمشي في اتجاهي ويبتسم لي، لكنه رغم ذلك لم يقترب خطوة، وكأنه صورة شبحية محتجزة في صندوق تلفاز تتقدم نحوك دون أن يكون لحركتها أثر.

ماذا تراه يصنع؟

إنه يضغط بإصبعه على رقعة سوداء مشرشرة في نصف وجهه الأيسر. عجباً ها هو فمه تستطيل شفتاه وتستطيل حتى تصل عند أذني اليسرى، ويصدر عنه صوت كالفحيح. إنه يهجس ناصحاً ومحذراً.. “إياك أن تذهب إلى هناك! اسمع نصيحة صاحبك أبي نعيم. غابات ومستنقعات وخنازير. دخان كثيف، غيوم تُمطر دماً. غربان بحجم النسور ستأكل أولادك، تنقر عيونهم.. أنا لك ناصح.. اسمع نصيحة صاحبك.. أولادك سيُخطفون، سيقتلونهم.. أولادك، أو… أولا… أو.. أو.. أولادك… “.

صارت عيونه بلون الدم، وأخذ وجهه يسْوَدُّ ببطء، وتخرج منه خيوط دخان اخترقت رائحتها النفاذة أنفي فأُجفِلتُ منها، وفتحت عيني “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ما هذا؟! أحلمٌ ما أرى أم حقيقة؟ هل كنت نائماً أم ما زلت يقظان؟”. بعد ساعة استيقظ صاحبي وقال لي من لحظته: أرجو أن تدرس الأمر جيداً.. لقد رأيت فيك رؤيا مزعجة.

ابتسمت وقلت له: تريد أن أقصص عليك رؤياك؟

فغر فاهُ وقال مستغرباً: أبا عمر هل أصابك مسّ؟!

لم أجبه على سؤاله وبادرته قائلاً: رأيتَ طيفاً غريباً يبتسم لك. جلده متعدد الأشكال والألوان كأنه رقع خيطت إلى بعضها دون نظام… .

وأكملت المشهد السابق إلى آخره. بُهت صاحبي وقال: أبداً؛ ليس الأمر طبيعياً؛ لا بد أن شيئاً حصل، لا بد! (وسكت قليلاً ثم قال) هل نمت؟

– لا أدري. ربما أخذتني سِنة من نعاس خفق لها رأسي ثم استيقظت.

– إذن رأيت رؤياي نفسها. ها أنت ترى رؤانا قد تواطأت. وهذا يؤكد كلامي لك بدراسة الأمر جيداً. إنني أخاف عليك.

– بل إن هذا يزيدني إصراراً على ما نويت.

نظر إليّ نظرة إشفاق وظل صامتاً، وابتسمت:

– لقد قررت وقضي الأمر.. (ورفعت رأسي ثم خفضته مرتين وأنا أردف) قضي الأمر يا أبا نعيم، قضي الأمر.

( 3 )

الأربعاء 8 شباط 1995/ 9 رمضان 1415 كان يومَ الرحيل إلى (هناك).

اليومَ الذي مثَّل الانعطافةَ الكبرى في تاريخ حياتي، وفي مسار حياة (جنوبشت) من بعد. لم أتوغل كثيراً إلى الداخل. مئةُ كيل عن العاصمة تكفي.. ومن (هناك) يكون الانطلاق.

في صباح ذلك اليوم جاءتنا أم رعد.. أختي، تصحبها ابنتها الصغيرة تودعنا. وبعد أن حمّلْنا العفش في سيارة الحمل أرجعتها في سيارتي إلى بيتها، وعيناها تذرفان.

مسكينة.. لا تدري ماذا يخبئ لها، ولنا، القدر. ولا تدري أن هذا الذي يحزنها ويبكيها سيغدو يوماً من الأيام أمنية من أعز الأماني. لكنها لن تتحقق أبد الآبدين! يوم أنْ سيكون كل واحد منا في بلد، كل واحد تحت نجمة! تفصل بيننا مفاوز وحدود وتأشيرة قد تكون هي الأخرى إحدى الأمنيات العزيزة.

وودعَـنا جارُنا الطيب (تركي)، ومعه عائلته لم يتخلف منهم أحد، حتى الأطفال! تجمعوا مثل كتاكيت صغيرة حول بعضهم وهم ينظرون إلى ما يدور دون أن ينبس أحد منهم بكلمة..

أعيُنُهم قالت كل شيء.

وجاء بقية الجيران. كان الأسف والأسى سيد الأجواء. وكان بعضهم يغالب الدموع.. وبعضهم لم يحتمل حتى أجهش بالبكاء!

هكذا نحن دائماً.

وهكذا أنا.. في كل يومٍ رحيل. وفي كل يومٍ جار جديد. أودع جاراً وأحط إلى جنب آخر. ما إن تشتبك الأرواح وتتشربك الشرايين وتختلط العلائق حتى ينعق الغراب مؤْذِناً بغربة جديدة. وتذكرت حكمة حزينة كثيراً ما ترصدتني على مؤخرة السيارات: “لا تعاشرِ الغرباءَ فإنهم دوماً على رحيل”!

عبثاً حاولت تبديد الأجواء الكئيبة التي ظللتنا بألوانها الداكنة. كان من بين الحاضرين صديقي الدكتور عبد جاء للوداع بصحبة زوجته وطفلة له صغيرة. عبد.. صاحب الشخصية المرحة واللسان الطويل، وصاحب القلب والدمعة أيضاً. لسانه والضحكة كما قلبه والدمعة.. قرينان قريبان من بعضهما جداً. كما أن هاتين المجموعتين الثنائيتين متجاورتان لا يفصل بينهما سوى حاجز رقيق. إذا رأيته ولسانه وضحكته المدوية لا تصدق أنه هو هو صاحب ذلك القلب والعين والدمعة.

استعمل لسانه كثيراً هذا الصباح.

وجارَيْته في ذلك كي أبدد تلك الأجواء الكئيبة. لكنه عند المساء كان له شأن آخر. وبينما نحن نُحمّل الأغراض تفرست في وجه ابنته الصغيرة (طيبة) وكانت تدخل وتخرج مع الأطفال. نظرتُ إلى عينيها الخضراوين ثم ابتسمت قبل أن أضحك وأقول: من أين لك هذا؟ (ثم أردفت) علينا؟! أعمامك كلهم أعرفهم واحداً واحداً، ليس من بينهم مَن له هذا (الموديل) من العيون؛ فمن أين لك هذا؟

وضحك وقال: هازا مال آني.

وأشار بالسبابة اليمنى إلى صدره. قلت: مال آني هاي شنو!

– اسمع إذن هذه القصة التي شهدتها أثناء خدمتي العسكرية في البصرة. في مدينة (الدَّير) كان معمل للورق يشرف عليه خبراء روس، أحدهم مهندس يدعى (بروستاكوف)، لا أدري كيف أقام علاقة من نوع خاص بشابة من المنطقة، زوجها نائب ضابط يدعى (حميزة)، يخدم في جبهة القتال. حملت المرأة وولدت ثلاثة أطفال بيض الوجوه شقر الشعور زرق العيون. بالمجمل كلهم من صنف (مال آني)! كانت بين أطفالها، حين تظهر تخطر ذاهبة آيبة، كبطة بين كتاكيتها. وكان المهندس الروسي كلما رآها استقبلها واحتضن أطفالها وقبلهم واشترى لهم ما يشترى للأطفال من الدكاكين القريبة، وربما نفحهم بعض المال. إلا أن زوجها وعيالها ذوي البشرة السمراء، والشعر الأسود، والعيون ذات النسخ المألوفة.. كانوا فرحين بالأطفال فخورين بألوانهم على جيرانهم وأقاربهم؛ فلأول مرة تنتج العشيرة مثل هذا النسل الغريب!

ومرت الأمور بسلام حتى إذا انتهى عقد الشركة الروسية، وتجهز بروستاكوف للعودة إلى بلاده إذا هو يطالب باصطحاب الأطفال الثلاثة معه.

– بأي حق يا بروستاكوف؟

فيجيب بصراحة يحسد عليها: هازا مال آني!

ويعجب الناس من حوله ويسألونه وهم يتغامزون: مال آني شنو!

ويؤكد قوله مشيراً إلى عينيه وعيونهم ويقول بالصراحة المريحة نفسها: هازا مال آني.. شوفوا عيونا!

بعد أيام يأتي حميزة في إجازة دورية. ويرى الناس من حوله يتهامسون. أخيراً تسلل خبر بروستاكوف إلى أذني حميزة. فما كان منه إلا أن سلّ مسدسه وقتل زوجته والأطفال جميعاً، وركض باتجاه المعمل يبحث عن (المصخّم) بروستاكوف! ويبادر إليه الحرس فيمسكونه ولكن بعد أن جرح حميزة اثنين منهم. وسلِم بروستاكوف بريشه ليطير به في اليوم التالي إلى روسيا”.

هل عرفت الآن عمق كلمة “هازا مال آني”؟

كانت نكتة قوية جداً بقينا نرددها سنين. وأضاف: اطمإن فأنت لم تر جدتها لأمها ذات العينين الخضراوين.

واهتبلت الفرصة ودعوت الجمع الحزين فقصصت عليهم الحكاية فضحكوا من الأعماق.

وحمدت الله؛ لقد نجحت!

( 4 )

سلكنا الطريق السريع، حتى إذا اقتربنا من مشارف المدينة مالت بنا المركبة يميناً بين مزارع القمح والشعير تمرح على مد البصر، تتمايل ذوائبها القصيرة مع الريح. والبساتين يعري الشتاء أشجارها تاركاً أغصانها تتنفس عطر النخيل. وأدركَنا الفطور هناك. لقد كنا في رمضان.. في اليوم التاسع منه.

توقفنا عند ساقية تصاقب الشارع، مددنا البُسط وجلسنا على متنها في العراء الذي أبى جماله البديع إلا أن يوصل إلينا هداياه الرائعة رغم الأجواء الباردة.. كانت (أم عمر) قد هيأت لنا، في بيتنا الذي خلفناه وراءنا، طعاماً خفيفاً، اشتركنا جميعاً في إنزاله وإعداد الأواني. مددنا الخوان وأفطرنا على عَجَل، ثم صلينا واستأنفنا المسير.

وصلنا الحي مع أذان العِشاء، وكان أول شيء سمعته حين توسطناه قول المؤذن: “حي على الفلاح”. ما زلت أذكر تلك اللحظة رغم مرور أكثر من عشرين سنة.. حتى موضع اللوري من الشارع، وأين كنت جالساً أنا من صدر السيارة. تفاءلت خيراً عسى أن تكون بشارةَ فلاح في هذا المكان. وكانت البشارة الثانية على يد أحد المصلين من سكنة الحي اسمه خيري، قال: رأيت في المنام كأن النبي عليه السلام زوّجك ابنته فاطمة.

وما هي إلا دقائق حتى وصلنا، تركتهم يُدخلون العفش إلى البيت الذي يلاصق المسجد من ناحيته الشمال، وتوجهت مباشرة إليه. دخلت الباحة الواسعة، ونظرت فإذا صديقي الدكتور عبد، الذي أصر على مرافقتي، ينتبذ زاوية بعيدة قرب المغاسل تسح عيونه بصمت! كان جلالٌ من سكون يحيط بوجهه الحزين! أثارني المشهد.. لكنني تبسمت وقلت ممازحاً لعلني أخفف عنه شيئاً مما به مع أنني أحوج منه إلى من يواسيني ويخفف عني، وكانت في يده سيجارة: يظهر أن الدخان أثّر على عينيك!

ابتسم وعيناه تبرقان بالدموع.

كان للدكتور عبد بدوات كثيراً ما يفاجئني بها. عاودتْه إحداها في تلك الساعة. فما إن سلمتُ من الصلاة حتى قام من موضعه في الصف ليجلس إلى جانبي ويستقبل المصلين بوجهه. ثم ألقى فيهم كلمة كانت حروفها ممزوجة بدموع حاول عبثاً أن يكبتها فلم يجد غير يده يواري بها ما فاض منها رغماً عنه. وطفق يُطْريني بكلمات أخجلتني فلم أجد أنا أيضاً غير يدي أتقي بها ما كان يصفعني به من كلمات. ثم ودعَنا، هو والأصدقاء الذين حرصوا على مرافقتي، راجعين إلى الديار.

كانت آخر صورة تخلفت عنهم في ذاكرتي حتى الساعة بريق عينيه وهو يلوّح لي بمنديل أبيض كان بيده مبتسماً وقد تحرك بهم اللوري تواً ليبدأ رحلة العودة، وكان قلبي يعلو ويهبط مع هفهفات المنديل.. “آه أنت أنت.. لا تترك بدواتك يا عبد!”.

وتذكرت، وأنا أنظر من موضعي لدى الباب الخارجي للدار الجديدة إلى السيارة التي صارت تبتعد مع كل لحظة، تلك العبارة الحزينة “لا تعاشرِ الغرباءَ فإنهم دوماً على رحيل”!

وابتسمت من خلال (البريق) الذي غزا عيوني أنا هذه المرة، وقلت: يبدو أنه ليس الغرباء فقط.. الأقرباء أيضاً دوماً على رحيل!

وكنت أنظر وراءهم وهم يبتعدون سريعاً. ثم…

ثم اختفوا في الظلام.

* * *

 

اظهر المزيد

‫17 تعليقات

  1. رواية ترويك و تعطيك تجارب تنميك ذاتياً و معنوياً و تنضج فيك شخصاً يحمل همةٌ و اصرار وهذا ما وجدناه عند الصحابة الأخيار والمهاجرين الأنصار وقال تعالى : ♦ ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]

  2. الغرباء دومًا على رحيل
    كلنا غرباء انكيدو وكلكامش واور وتلاهم ابراهيم (ع)
    واليوم تقص علينا رحلة الطبيب المغترب
    لكل رحلة طعم ولون ولكل حديث تفاصيل وشجون

    امتعنا بروايتك وقصصك يادكتور

  3. رواية غاية في الجمال من حبكة من تصوير رائع للاحداث فهي كانها مزيج من المذكرات والخيال

  4. أيّها الأديبُ الفاضلُ
    السلامُ عليكم ، وبعدُ ،
    بمناسبة الذكرى الثلاثون للرحلة العظيمة
    تسكنني روح شفيفة ، تسوقني أحياناً إلى حيث تخلد الذكريات التي أصبحت مختبأةً داخل عالمي قديم ….. فتحتلّني برهة من الزمن …. وأتساءل هل من الممكن أن أخفيها خلف القناع الذهبي الذي يحد من حركة اجتياح هذه الذكريات ، أو أمتطي مركباً يحملني بعيداً عن غبارها الذي التف حولي ،،،، إني لأجد طعم الأنين بين أسوارها….

  5. سأحمل روحي على راحتي.. وألقي بها في مهاوي الردى

    فإمّا حياة تسرّ الصديق.. وإمّا مماتٌ يغيظ العدى

    ونفسُ الشريف لها غايتان.. ورود المنايا ونيلُ المنى

    وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن.. مخوف الجناب حرام الحمى

  6. رااااااائع النسج الخيالي في الرواية !! عندما اراد الدكتور او الشيخ الذهاب للجنوب!! لبيك انا قادم اليك !! لماذا ؟؟ يا دكتور تريد ان تترك بغداد وتذهب للجنوب!! رائعة هذه التحويلة من الواقع الى الخيال الواقعي والحوار الدائر بين الدكتور او الشيخ و جنوبشت!!! يظهر لنا الدافعية لغاية الشيخ بالذهاب الى الجنوب !! لكن بطريقة تصويرية اقرب للخيال لكنها من روح الواقع والحقيقة.
    طريقة النسج ترغم القارئ على الدخول في جو القصة او الرواية وكأنه يستمع الى راديو او مشهد سينمائي..

    لبيك..أنا قادم إليك..
    أتدري لماذا؟
    لشيء واحد.. واحد فقط.
    أريد أن أتعرفَ عليك، وأتعرفَ إليك.. أن أفهمك بنفسي دون وساطة.. لعلني أكف لعنة الأجيال عنك.. أو – ربما – أثبتُّها عليك.
    لا أريد أن أبقى أسمع عنك من بعيد.. أريد أن أراك، ألمسك، أسمع الرواية من فمك. أقرأ حروفها تنادي عليّ من بين تضاريسك. لعلك لا تدري أنني طبيب! والطب كالزواج لا يكون بالمراسلة؛ هناك مريض.. أسمعُ قصته، أدقق في لونه، أحدق في عينيه، أتحسس جلده، أجس نبضه. وسريرُ فحص أمدده عليه كي أتعرف على تضاريسه أكثر. وفحوصاتٌ ومتابعة. وعلتك أكبر.. أعقد.. أكثر تشابكاً.. لذا…
    غادرت جميع المستشفيات.. أقفلت عيادتي، وتفرغت لك..
    لك وحدك.

  7. رواية لها أحداث كبير وشيقة قصص وعبر في مسيرة الرحيل ومهمة للغاية عن تنقيب خطر المؤسسة العميقة من الناحية الثقافية والفكرية والعقائدية والتاريخية والجغرافية

  8. الغربة لها اواجاع لا يعرفها الا من عاشرها ،طريق صعب ووجوه غير مألوفة لكن من أجل القضية سوف أعلن انتصاري عليها ،من الجنوب كانت الانطلاقة فالصعاب تصنع الإرادة ،ما أشد ما عانيت يا مجدد لتصنع لنا هذه الأفكار التي أسست بها جيلا جديدا سيكون التغيير على يديه،بداية الهداية في هذا المسجد الصغير لكنه كان يمثل الانطلاقة الكبيرة للكثير منا نحو الحرية والتخلص من الإرث البالي وفيه تغيرت العقول وبدأت مسيرة النور .

  9. سلمت الانامل وسلم الحس الفني
    حقيقه لا يخطر في بالي حين اتذكر الجنوب الا وقد التصق بشت،لكن بتحاورك الجميل معه وعن تاريخه الحافل بالحضاره زرعت فينا الامل مع جمال وصف السنبله
    “اول سنبلة ابتسمت للوجود فحياها ..واخذها ..وتلقاها بحضنه
    ثم غمسها في التراب ورفع ابتسامتها للسماء فامطرت حباً وبركة”
    عسى ان تعود السنبله وتحرره من الشت.

  10. كيف لي ان أكتب تعليقا عن هذه الرواية العالمية التي لم يكتب أحد قبلكم قط!
    وانا أكتب التعليق الان ودموع الحزن ام الفرح لا أدري تزل على خدي ..!
    دموع الحزن بسبب الرحيل وفراق الأحبة وعدم مجالستهم وبعد المسافات وانتهى المطاف خارج العراق !
    دموع الفرح لولا مشيئة الله أولا ومجيئكم للجنوب لكنا شيعة ومن أشد الناس فتكاً بأهل السنة !!!
    لكن الحمد لله في اللحظة الحاسمة والأخيرة انقذتنا من الظلمات إلى النور ..
    واي نور نور الوحي ونور القران ونور المشروع السني
    الذي بإذن الله سيكون نجاتنا في الدنيا والآخرة
    نسأل الله لنا ولكم الثبات والتوفيق والسداد والإخلاص
    لكم منا كل التحايا شيخنا الجليل 🌹

  11. حين لبيت نداء جنوبشت ولتقيت به
    لما فتحت لك هذه الآفاق وتبينت لك
    هذه الحقائق المغيبة شيخنا الجليل
    وها أنت اليوم تجني ثمرة هذه الغربة
    والمصاعب وفراق الأحبة
    أما طيفون هوا يراود الكثير ويستمر
    في تهويلهم لترك طريق الحق والتخاذل
    عن نصرة دينهم وقضيتهم التي خلقهم الله
    من أجلها ….رواية جنوبشت من قرأها وعاش
    احداثها تجلعه يتمسك بقضيته ونصرة مشروعه
    السُني مهما كانت ظروفه وحياته الاجتماعية
    بوركت جهودك شيخنا المجدد طه الدليمي .

  12. ياشيخ الاسلام طه الدليمي مجدد العقول أطال الله في عمرك جعلتني اعيش القضية والواقع والله من لم يعرفك فليبكي على حاله اتابعك منذو 13سنه وبكيت على حالي وقلبي يبكي دم لست بيننا ونكون جنودك في المشروع ونحن معك في المشروع السني قد ذهب زمانهم وجاء زمننا.. نحن نقدرك سبحان الله الذي علمك هذا العلم عوضك الله الجنه وصحبه الانبياء والصحابة الكرام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى