مقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

حفظ ميزات الوضع القديم وتلبية متطلبات الوضع الجديد

من دروس السياسة المالية لمعاوية بن أبي سفيان (ض)/3-3

د.طه حامد الدليمي

 

ما من شك في أن نصيب الناس من الموارد المحددة لهم شرعاً، كالزكوات والصدقات والغنائم وغيرها، لم تتأثر بالتغييرات الجديدة. وكذلك أعطيات النساء والمواليد الجدد. ومستحقات النوازل والكوارث التي تحل بالناس، وحقوق المرضى مثل العميان والمجذومين. فلم يوقف معاوية العمل بـ(ديوان العطاء) كلياً، لكن من المؤكد أن الأساس الذي سار عليه معاوية في سياسة المال أثر على الديوان، ولصالح الدولة: شعباً وحكومة.

وقد ورد ما يشير إلى هذا. ذلك أن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان خطب الناس فبيّن لهم أن المال مال الدولة تتصرف فيه بما تشاء مما تراه قائماً بمصالح الناس وإصلاحهم، وليس مال الناس بحيث أنهم يملكون التصرف فيه وليس للحكومة غير إجراءات الصرف. والنص الوارد عنه في ذلك قوله: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”([1]).

لكن يبدو أن النص حصل فيه تصرف من القادحين والمادحين على السواء. أما القادحون فقد جعلوا النص دليلاً على تعسف معاوية وتصرفه بالمال خارج ضوابط الشرع. مع أن ما يشبهه ورد عن عثمان بن عفان حين خطب الناس أيام الفتنة فقال: (ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليلحق فليحتلبنه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد). لكن الانحياز أعور.

وأما المادحون فقد أشكل عليهم النص – كما أرى – فوضعوا له زيادة أفادت بأن معاوية إنما قال ذلك اختباراً لغاية دينية سامية، ولم يقله مؤمناً به متبنياً له. ولو نظروا إلى النص نظر من عرف السياسة الشرعية في المال، ودرس الوضع الاجتماعي في تلك الفترة، لوضعوا القول موضعه. وعلموا أن معاوية إنما أراد بذلك أنه لا حق للناس في التحكم بمصارف هذا المال، فهذا الحق كله للدولة تعمل فيه ما تشاء من المباحات والمستحبات والواجبات على ما يرى القائمون عليه من أهل الشأن والتكليف والخبرة وأولهم الخليفة، لا على ما يرى عامة الناس ممن لا شأن لهم ولا تكليف ولا خبرة. والمال بهذا الحق مال الدولة ممثلة بالخليفة ونوابه والفيء فيئها؛ تعطي من تشاء وتمنع من تشاء. وليس هذا نفياً لحق الناس العام فيه.

إن الشيء ينفى باعتبار ويثبت باعتبار. لقد أثبت الله تعالى المشيئة الحرة للإنسان فقال: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) (الإنسان:29)، ثم نفاها فقال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان:30). فتلك مشيئة السبب، وهذه مشيئة القدر. وليست مشيئة القدر تجري اعتباطاً بلا حكمة؛ لذا عقّب عليها فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الإنسان:30). وعلى هذا يُحمل قول معاوية: “من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”؛ فليس هو عطاء ومنع بلا ضوابط مشروعة معقولة.

وفي هذا المعنى يروي ابن تيمية في (منهاج السنة:6/234) فيقول: روى محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: “إن في بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة عليّ، فإنه ليس بمالي، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم”([2]). فهنا يقول معاوية بأن المال ليس ماله وإنما مال الله الذي أفاء عليهم. فالنفي باعتبار والإثبات باعتبار. اعتبر في الأول حق التصرف فأضاف المال إلى نفسه، واعتبر في الثاني حق الانتفاع فنفاه ذلك عنها.

وفي النص ما يفيد أن معاوية اختط خطاً وسطاً بين عوائد العهد الماضي ومطالب العهد الراهن. وأنه سار على سياسة استعمال المال في مصلحة الدولة أو الصالح العام، لكنه لم يهمل استعماله في مصالح الأفراد.

لم يكن معاوية ممن يتصرف بالمال دون شعور بالمسؤولية الشرعية، حاشى وكلا. لكنه كان يجتهد كما يجتهد غيره ممن سبقه مثل علي والحسن، أو لحقه كالوليد وعمر بن عبد العزيز وهشام. ومما يدل على حرصه على سلامة دينه في المال أنه لما حُضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال. كان أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله”([3]).

 

_____________________

[1]- أصل النص ( كما في السلسلة الصحيحة للألباني، 4/398-399): أخرجه أبو يعلى (4/1781) من طريق ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي (قبيل) قال: “خطبنا معاوية في يوم جمعة، فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن يشهد المسجد، فقال: كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا من حال بينه وبيننا حاكمناه بأسيافنا. فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياه الله، سمعت رسول الله eيقول: “سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة”، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم”.

قال الألباني عن الحديث المرفوع: وهذا إسناد حسن لولا أن ابن عقبة لم أعرفه. لكنه قد توبع، فأخرجه أبو يعلى أيضا.. وذكر ما أثبته أعلاه. فكان ما أثبته قد ذكر للمتابعة. والحديث لا يرقى إلى مرتبة الحسن بسبب ابن عقبة. ثم قال الألباني: وأخرج المرفوع منه الطبراني في “الأوسط ” (رقم – 5444) والزيادة له، وقال: “لم يروه عن أبي قبيل إلا ضمام”. قلت: وهما ثقتان، على ضعف يسير في الأول منهما. والحديث قال الهيثمي في “المجمع ” (5/236): “رواه الطبراني في “الكبير” و “الأوسط ” وأبو يعلى، ورجاله ثقات”. إهـ. قلت: ويتبين من هذا أن الزيادة – وهي القصة – لا ترقى إلى درجة الصحة.

[2]- ورواه الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 3/152) فقال: أبو اليمان: حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس، قال: خطبنا معاوية، فقال: “إن في بيت مالكم فضلا عن عطائكم، وأنا قاسمه بينكم”.

[3]- صحيح تاريخ الطبري، الخلافة في عهد الأمويين، المجلد الرابع، 4/38، د. محمد بن طاهر البرزنجي، بإشراف ومراجعة المحقق محمد صبحي حسن حلاق، راجع فصولاً منه وأبدى ملاحظاته كل من: أ.د أكرم ضياء العمري و أ.د عماد الدين خليل، دار ابن كثير/ دمشق – بيروت/ الطبعة الأولى 1428هـ – 2007م.

اظهر المزيد

‫20 تعليقات

    1. اكيد معاوية ابن أبي سفيان رجل عصره في ذاك الزمان متمكن في السياسه الماليه ومتمكن في الاقتصاد لأنه عمله بلمشروع المدني

  1. رضي الله عن امير المؤمنين معاوية بن ابي سفيان
    وجزاك الله خيرا دكتور طه الدليمي مقال غني وقيم

  2. قيادة حكيمة لها دورها الفعال من الأساس بني سفيان على الفطرة وأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه رجل المرحلة في مسيرته التاريخية ولهذا توجهت الأنظار أليهم

  3. رضي الله عن امير المؤمنين معاوية مجدد زمانه. رجل فطن راجح العقل فكأن الله اختاره لهذه المرحلة الحرجة مراحل الإسلام.

  4. ما كان لهذه الدولة العظيمة دولة بني أمية أن تقوم لولا أن أمير المؤمنين معاوية شيد اهم ركن لقيام الدول الا وهو الاقتصاد ،فالسياسة المالية عنوان لتطور الأمم .

  5. بسم الله الرحمن الرحيم
    جزى الله الدكتور الدليمي خير الجزاء
    واضح ان هذه السياسة المالية قضت على مبررات الفتن ووفرت للدولة قدرة مالية كبيرة مكنتها من تطوير مؤسساتها وبناء اسطول بحري كبير بعد ان كان الروم هم سادة البحر، وتوسعت الدولة بفتوحاتها وابعدت الخطر عنها

  6. لا نبالغ إذاً عندما نُمجد معاوية رضي الله عنه وأنه رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كيف تعلّم كل هذا، اصلاح امني، واصلاح اقتصادي، واصلاح مالي، وهلم جر، خريجو كليات لا يستطيعون احتوائها جميعاً فكيف به.

  7. رحم الله معاوية حكم فعدل واصلح كان حاكما ومجددا كل شخصية عربية عليها جدال وتقليل من دوره فأعلم انه اذى الفرس وشيعتها رضي الله عن ابي يزيد

  8. جزاك الله خيراً وبارك الله فيك مقاله جميله رحم الله القائد المجدد معاوية ابن ابي سفيان

  9. تحية طيبة دكتور..
    المال العام مال المصالح، ومال المصالح العامة، وفي هذه الإضافة إشارة إلى ضابط في غاية الأهمية من ضوابط الإنفاق العام، بل هو أساسها، وهو: المصلحة العامة، وهي ضد المفسدة، فلا بد أن يحقق الإنفاق مصلحة للمسلمين

  10. جزاك الله خير عظماء الأمة يستحقون الدفاع عنهم والحقيقة أننا بدفاعنا عنهم ندفع الخطر الثقافي الداهم عنا

  11. رضي الله عن الخليفة المجدد معاوية بن أبي سفيان.. من القائدة الأخيار والملك العدل والفارس الشجاع.

  12. معاوية (رض) كان ذو حكمةً ، متمكناً سياسيًا واقتصادياً ،
    ومن غير معاوية يُمثل القيادة بكُل حذافيرها؟ فهوه اعطى القيادة حقُها الأسْمى , كعادتك يا دكتور مُبدع بكُل ما تكتبُ .

  13. جزاكم الله خير الجزاء ورضي الله عن الملك والقائد العظيم امير المؤمنين معاويه بن ابي سفيان

  14. أمير المؤمنين أبو يزيد محرر المؤمنين وقامع المتسللين ♕꧁꧂♕ ملك الاﻤم

    معاوية متوازن وهذا ما جعله يتوفق على أهل زمانه ويأسس للأجيال التي أتت بعده؟
    ولهاذا جاء في قوله المشهور بشعرة معاوية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى