سياسةمقالاتمقالات الدكتور طه الدليمي

علي ومعاوية : صراع بين عصرين لا شخصين

د. طه حامد الدليمي

 

يزعم أصحاب الثقافة السائدة أن الخلافة غير المُلك. مع تقديس الخلافة واتهام المُلك بالانحراف عن الدين الحق. على هذا الأساس يكون عثمان بن عفان – عندهم – خليفة، بينما معاوية بن أبي سفيان ملك؛ خالف الشورى وابتدع توريث الحكم. وكل ذلك دون دليل معتبر([1]).

تأملوا إذن الفرق بين (الملك معاوية والخليفة عثمان) في التعامل مع الوضع الجديد، وكيف نجح الأول من حيث أخفق الثاني غفر الله لهما. لكن ليس قبل أن أقول: إن رشاد الحكم متعلق بكفاءة الحاكم في إدارة الدولة، أما الدين فيكفي فيه أداء الواجبات واجتناب المحرمات. إلا أن الجمهور لا ينتبه لهذه الحقيقة. فكثيراً ما يحتج لرشاد الحكم بكثرة صلاة الحاكم وصيامه وقراءته وإن كان ضعيفاً في إدارته. ويبقى علم الأفضل منهما عند الله مقتصراً على الله. على أننا نقول بقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحشر:10). سوى أن هذا التفضيل معناه تفضيل مجموع على مجموع، أما الأفراد فقد يكون فرد من الفريق التالي أفضل من فرد آخر من الفريق السابق.

عثمان ومعاوية .. أيهما كان أصوب ؟

  1. لقد تصرف عثمان إزاء الوضع الجديد تصرف من يغلّب حسن الظن في تقدير الأمور وتفسير الأحداث، ويجنح إلى الزهد والإيمان بصورته المجردة الجميلة المطلقة عن قيد الواقع الثقيل. وإليك هذا المثال الذي يتفق والنهاية الفاجعة التي آلت إليها أمور الدولة على عهد عثمان رضي الله عنه.

روى الطبري بسنده عن سيف، عن المستنير، عن أخيه، قال: والله ما علمت ولا سمعت بأحد غزا عثمان رضي الله عنه ، ولا ركب إليه إلا قتل، لقد اجتمع بالكوفة نفر، فيهم الأشتر وزيد بن صوحان وكعب ابن ذي الحبكة وابو زينب وأبو مورع وكميل بن زياد وعمير بن ضابئ، فقالوا: لا والله لا يرفع رأس ما دام عثمان على الناس. فقال عمير بن ضابئ وكميل بن زياد: نحن نقتله فركبا إلى المدينة، فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل بن زياد فإنه جسـر وثاوره، وكان جالساً يرصده حتى أتى عليه عثمان، فوجأ عثمان وجهه، فوقع على استه، وقال: أوجعتني يا امير المؤمنين! قال: أولست بفاتك! قال: لا والله الذي لا إله إلا هو. واجتمع عليه الناس، فقالوا: نفتشه يا أمير المؤمنين، فقال: لا؛ قد رزق الله العافية، ولا أشتهي أن أطلع منه على غير ما قال. وقال: إن كان كما قلت يا كميل فاقتد (اقتصَّ) مني، وجثا، فو الله ما حسبتك إلا تريدني، وقعد له على قدميه وقال: دونك([2])!

هذا تصرف عثمان. وهذه هي السياسة اللينة، التي انتقدها عبد الملك بن مروان راداً على الفقيه ثعلبة بن مالك القرظي الذي كان يحدثه عن سيرة عمر بن الخطاب وسنته. فقال عبد الملك: ما خالف عثمان عمر في شيء من سيرته إلا باللين فإن عثمان لان لهم حتى رُكب، ولو كان غلظ عليهم جانبه كما غلظ عليهم ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا. وأين الناس الذين كان يسير فيهم عمر بن الخطاب والناس اليوم؟ يا ثعلبة إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، إن ذهب اليوم رجل يسير بتلك السيرة أُغير على الناس في بيوتهم، وقطعت السبل، وتظالم الناس، وكانت الفتن، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه([3]).

  1. بينما تصرف معاوية رضي الله عنه إزاء مثل هذه الظواهر تصرف من يقلب الأمور على وجوهها ويزنها بأبعد مما تبدو عليه، ويوازن بين مقتضيات الإيمان من حيث الأصل غير متعلق بعارض، ومن حيث الفعل مقيداً بعوارضه. وانظر إلى هذا الموقف:

في الموسم الذي سبق مقتل عثمان بعام عقد عثمان مجلساً للتشاور في شأن النازلة التي حلت بالأمة من قبل أهل الفتنة. فأشار معاوية عليه – دون جميع مستشاريه، وفيهم علي وطلحة والزبير وهم من هم في السبق والدين والخبرة والرأي! – قائلاً:

1- انطلق معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به، فإن أهل الشام على الأمر لم يزالوا. فقال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. فقال معاوية:

2- أبعث إليك جنداً منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك. فقال: أنا أقتر على جيران رسول الله e الأرزاق بجند يساكنهم؟ وأضيق على أهل دار الهجرة والنصرة؟ فقال معاوية بعد ذلك:

  1. والله يا أمير المؤمنين لتُغتالَنّ أو لَتُغزَيَنّ. قال: حسبي الله ونعم الوكيل([4]).

حتى إذا مر عام ووقع الخطب وحوصر عثمان واستشار من حوله في الأمر، أشار عليه عبد الله بن الزبير بعدة خيارات منها: اللحاق بالشام، وهو خيار معاوية الأول قبل أن تقع الواقعة، فرفض عثمان. لكنه عمل بالخيار الثاني الذي عرضه عليه معاوية أيضاً حين عرض خياره الأول قبل عام وهو الاستنجاد بأجناد أهل الشام([5])، وبقية الأمصار، فأقبلوا عليه بجيوشهم([6]). وهيهات هيهات؛ لقد فات الأوان! وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

بل كان هذا التدبير المتأخر سبباً في التعجيل بقتله؛ إذ خشي الغوغاء وصول جيوش الأمصار فرأوا أنه لا ينجيهم مما وقعوا  فيه إلا قتل عثمان، لأنه إن قتل انشغل الناس به عنهم. وأما نهي عثمان أهل المدينة عن الدفاع عنه فهو لأجل أنهم ما كان لهم قِبَلٌ بدفع القتلة عنه لتمكنهم منهم، فتكون النتيجة واحدة: القتل بلا طائل وتذهب التضحيات هدراً. أما إذا وصلت النجدات وهو حي فسيُطْبـق على المجرمين من الخارج ومن الداخل فيكون للقتال ثمرة. فلا تعارض بين الأمرين. بينما أسمع الخطباء من قبل أكثر من نصف قرن يقولون: اختار عثمان الصبر على القتل حتى لا يراق دم مسلم في سبيل حمايته. وهذه نظرة سطحية متخلفة، مخالفة للحق والمنطق ولحيثيات الحقيقة والواقع.

لقد تجاوز الزمن هذه السياسة القائمة على فقه يناسب عصراً تولى منذ (20) سنة. وجاء عصر جديد يستدعي مستحقاته من التجديد، لكن لم يستجب له غير معاوية؛ فانتشل الدولة بسياسة أُخرى تناسب العصر وتصلح العهد؛ فكان رجل المرحلة بحق، فكان المجدد الأول في تاريخ الإسلام.

نظام قديم انتهى زمانه ونظام جديد آن أوانه

لو نظرنا إلى هذا المشهد فقط لوجدنا فيه جملة أمور تؤشر إلى زمان جميل لم يعد له وجود. لكن عوائده انسحبت إلى زمان جديد مختلف يتطلب عوائد أُخرى تلبي حاجاته وتناسب متغيراته، لم ينتدب لها سوى معاوية، منها:

  1. بعد نظر معاوية في الأحداث وإدراك عواقبها واستشراف مآلاتها، وكيفية الاستعداد لها ووضع الحلول الناجعة لمواجهتها.
  2. تفوق معاوية في فنون السياسة وإدارة الدولة وعلاج أزماتها على كبار الصحابة كعثمان وعلي فمن دونهما.
  3. تغير الزمن فما عاد الورع والاستغراق في الزهد صالحاً للحفاظ على الدولة.
  4. هناك نوع من الجمود السياسي خيّم على عاصمة الدولة، في حاجة إلى تجديد سريع. فالخليفة وأركان حكمه ما زالوا يعيشون على آثار وأجواء الزمن الجميل، بينما الزمن قد تغير وأصبحت عوائد المرحلة الماضية لا تلبي متطلباته، لكن القيادة تتصـرف وكأنها لا تريد أن تعترف بما حصل من تغير! هل لكم أن تتصوروا كيف أن عاصمة الدولة لا جيش لها يحفظها ولا حرس يحمي خليفتها! وكيف أن الخليفة يحدق به الخطر، ومع هذا توجه جمهور أهل المدينة إلى مكة للحج! وكان ذلك بأمر من أمير المؤمنين عثمان نفسه، واستعمل عليهم عبد الله بن عباس([7]).
  5. إن استنجاد عثمان سراً بأهل الشام وبقية الأمصار لينقذوه من حصار أهل الفتنة، يدل بوضوح على أنه أدرك لحظتها صواب فكرة معاوية؛ ولولا ذلك ما عمل بها. لكن الأمور حين تؤتى في إدبارها ينقلب التدبير إلى عكس المطلوب.
  6. حاجة المرحلة إلى رجل من غير الجيل السابق، وإلا استمرت الدولة في تدهورها.
  7. لم يكن مثل معاوية من يمتلك خبرة الزمن السابق مع امتلاكه لأدوات التعامل مع متطلبات الزمن اللاحق. حتى إذا استلم زمام الأمور استقرت الدولة وعاودت السير على نهجها الأول.
  8. التدهور الذي بدأ منذ النصف الثاني من خلافة عثمان وعامة خلافة علي إنما هو نتيجة تغير الزمن الذي يطالب صامتاً بمستحقاته من التكيف والتغير المناسب، وظل هذا التدهور حتى لبى معاوية هذه المستحقات.
  9. حكم معاوية هو امتداد طبيعي لحكم من سبقه لكن بعوائد جديدة متطورة. فإن حكم الصديق والفاروق في زمانه هو عين حكم معاوية في أوانه.

الصراع الحادث حد التقاتل إذن صراع بين نظام قديم فات زمانه، ونظام جديد آن أوانه. بقي ينتظر من يلبي نداءه حتى كان معاوية بن أبي سفيان هو المنقذ المنتظر بعد أكثر من عشر سنين من الفتن والقلاقل والاضطراب.

2023/2/26

 

________________________________________

[1]–  لبيان عدم الفرق يمكنك الاطلاع عليه في كتابي (الملك الراشد.. خلافة على منهاج النبوة).

[2]–  تاريخ الرسل والملوك، 4/403، الطبري.

[3]– ابن سعد، الطبقات الكبرى، 5/232-233.

[4]– صحيح تاريخ الطبري/الخلافة الراشدة، 3/326، د. محمد طاهر البرزنجي.

[5]– تاريخ دمشق، 39/429، ابن عساكر.

[6]– صحيح الطبري، 3/336-337، د. محمد طاهر البرزنجي.

[7]– تاريخ الرسل والملوك، 4/411، ابن جرير الطبري.

اظهر المزيد

‫16 تعليقات

  1. التجديد ضرورة لأن بقاء الحال على ما هو عليه مستحيل ،فالزمن يتطور واستخدام الأساليب القديمة لحياة جديدة غير مجدي ،هكذا نظر أمير المؤمنين معاوية للامر فكان اهلا لإدارة الدولة وملك أمرها برشد أفعاله .

  2. جزاكم الله خيرا دكتور على هذه المقالة الرائعة
    التجديد إعادة أو إرجاع الشيء إلى وضعه الطبيعي
    وهذا ما انتبه آلية أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
    وكان نجم لامع في الدين والسياسة والاجتماع
    نتمنى من الجميع عامة والسياسيين خاصة دارسة شخصية
    وكيف كان يدير الدولة الأموية

  3. رضي الله عن مؤسس الدولة الاموية معاوية بن ابي سفيان و الصحابة الاخيار ، معاوية رضي الله عنه قدم حكماً يناسب واقعة و التغيير ليس ان تأتي بجديد ونما ان تفعل ما يتطلبه الواقع وما يفرضه عليك الزمان والمكان ، و بين سياسة معاوية و عثمان (رضي الله عنهما) ، الخطأ الجسيم الذي فعله سُنة العراق عندما رضخوا للشيعة وقالو لهم انتم اخواننا بأسم الوطن بينما يفرض علينا الواقع ان ننفصل عنهم بإقليم صراعنا ليس على الاخوة انما مايفرض علينا واقعنا ويستمر الجلد علينا يجب ان نكون ، إذن صراع بين نظام قديم فات زمانه، ونظام جديد آن أوانه.

  4. رضي الله عن امير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان احد دهاة العرب واول مجدد في الاسلام

  5. تحية طيبة دكتور..
    معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه اشتهر بالحلم والدهاء والحنكة، مكث في القيادة أربعين عاما: عشرون منها واليا، وعشرون منها أميرا، وقد استطاع بفضل حلمه وأناته، وحسن سياسته، أن يملك قلوب أعدائه، قبل أودائه وكان يقول: لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا مدّوها أرخيتها، وإذا أرخوها مددتها.

    وما هذا إلا لكمال عقله فقد كان لبيبا عالما حليما، ملكا قويّا، جيّد السياسة حسن التّدبير لأمور الدنيا، حكيما فصيحا، بليغا يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان أغلب عليه.

  6. أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه رجل المرحلة في زمن الاضطرابات والفتن
    والمؤامرات التي تحيط بالدولة الإسلامية كان الخبير في السياسة حين يضع الاشياء في موضعها والحلول في أوانها

  7. سيدنا وأمير المؤمنب أبي يزيد رضى الله عنه وأرضاه ١_صاحب فكره ٢_ مجدد ٣_يقر الواقع: فيستحق يكون نصرا وقائدا في زمانه هذه صفات القائدبدون منازع

  8. يستحق هذا الرجل العظيم ان تدرس سيرته للأجيال المتعاقبة فعلا سيد المرحلة وكل المراحل رضي الله عنه وعنكم وجزاكم الله خيرا

  9. رضي الله عن امير المؤمنين وداهية زمانه ومجدد عصره سيدنا معاوية بن أبي سفيان
    الذي ثبت دعائم وركائز الإسلام في الفترة التي كاد يهلك الإسلام فيها.
    جزا الله هذا الرجل عن الأمة الإسلامية خير الجزاء واحسنه.

  10. إنجازات سيدنا معاويه رضي الله عنه خير دليل على أن الرجل المناسب في المكان والزمان المناسب يولد لنا عظماء أمثال هذا الملك العظيم رغم كل التحديات التي واجهها

  11. معاوية
    قاعدة التجديد وصاحب الهدف البعيد
    لا يدرك ذالك إلا ملهم ومسدد من الله مع الأخذ بالسباب

  12. معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه عمل بفقه الواقع والنوازل فأمة الاسلام اتسعت رقعتها ودخلت فيها اقوام شتى فيهم الصالح والطالح لذلك لزم الامر بسياسة واسلوب جديد يتفق مع الوضع الجديد وهو ما لم يدركه سيدنا عثمان رضي الله عنه لكن ادركه معاوية.

  13. سيدنا معاوية رضي الله عنه
    ارشده الله بنظام تنفيذي في
    تجديد مفاصل الحكم الإسلامي
    بوضع أساسيات نافعة لحفظ الأمة
    وقلع جذور الفتنة والسيطرة على الفوضة الاخلاقة
    واخماد نار الفرس المسعرة في بقاع الجزيرة العربية

  14. بسم الله الرحمن الرحيم
    جزى الله الدكتور الدليمي خير الجزاء
    مقولة عبد الملك ابن مروان: (يا ثعلبة إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس)، اعتبرها قاعدة مهمة جدا في عالم السياسة وإدارة الدولة،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى