بحوث ودراسات

الموالي .. ودورهم في خدمة ( المؤسسة العميقة )

دراسة حديثية نفسية اجتماعية مختصرة 

د. طه حامد الدليمي

حين أقرأ في كتب (الجرح والتعديل) التي تقدم للباحث البيانات المطلوبة – كما يُفترض – في تقييم راوي الحديث في سلسلة الإسناد، أخرج في تصور خلاصته هذه البيانات صادرة عن ناس قصروا قواعد التوثيق على الملحظ الديني فقط، ولم يدخلوا علم النفس، مثلاً، في معادلة التقييم، الذي يتعلق بأغوار النفس البشرية. ولا علم الاجتماع وقوانينه التي تختص بالعلاقة المتبادلة بين الشخص والمجتمع والبيئة التي نشأ فيها، والقوم الذي ينتمي إليهم وغيره. ثمت علوم أُخرى كالتاريخ العام ببني البشر، والخاص بأمة معينة أجده غائباً عن معادلة التقييم!

لهذا لم يلتفتوا إلى الفرق بين المولى، والمولى الفارسي على الخصوص، والحر، والحر العربي على وجه الخصوص.. في النفسية والعوائد الاجتماعية والتاريخ القومي الخاص بكل شخص تعلق به التقييم. والتوثيق المبني على عناصر توثيق ناقصة من الطبيعي يكون توثيقاً ناقصاً!

لو أخذنا عنصر (البدعة) في تقييم الراوي، قالوا: إذا كان الراوي صادقاً فنعتمد روايته إلا ما منها في مصلحة بدعته. وهذا يعني أن المبتدع الصادق نتوقع منه الكذب؛ لميله الطبعي إلى نصرة بدعته وقناعته. والميل مع الطبع شيء متوقع من بني آدم. انظر كيف حصروا الميل الذي يلغي أثر الصدق عند صاحبه في أمر ديني بحت هو (البدعة) مع أن الميل شعور نفسي خاضع لمؤثرات عديدة منها البدعة، وليس محصوراً فيها. الإنسان ينحاز إلى أهله وأقربائه أكثر من غيرهم. وإلى عشيرته وقومه ومدينته، كذا إلى حزبه وفئته. ويؤثر الخوف والحب والطمع في المال والمنصب في ميوله. ولو بقيت أسطر أنواع المؤثرات النفسية لخرجت عن السياق؛ فأكتفي بهذا. والعاقل يعتبر بالحاضر عن الغائب.

من هنا جاءت الغفلة التامة من كل وجه عن الموالي وأثر المولوية في زحزحته عن الصدق الذي يبدو عليه في الظاهر، والله وحده أعلم بالسرائر والصرائر، واندرج الفرس في هذه الغفلة فكانت أثخن ستار تغطى به المائلون عن القصد منهم، فعملوا عملهم في تحوير الحديث وصناعته على أعلى ما يريدون ويشتهون! وفيما يلي عرض أكبر لهذا الموضوع.

حشر العلماء أنفسهم في أمور لم يكلفهم الله بها، فرضتها طريقتهم في تصنيف العلوم ولزوم وضع تعاريف لما يطرأ عليها من مفاهيم مثل تعريف (الصحابي). واختلفوا هنا كعادتهم في معظم الأمور الحادثة، وهو شيء طبيعي. لكن حين يتعلق الأمر بالدين يصبح التعريف عند الكثيرين منهم ملزماً وإلا كان المخالف له آثماً، مع أن المختلف فيه من وضع البشر لا من وضع الله جل وعلا . وإذ كان أشهر التعاريف أن الصحابي: “من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين”. وهو تعريف البخاري، كما في (صحيحه)؛ فقد دخل في مفهوم الصحبة الطفل الذي لم يفقه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصحبه ولم يقدم في حياته (حياة النبي) شيئاً للدين والمجتمع، مثل ابن الزبير وابن عباس وحسن وحسين. ومن هنا وجدت (المؤسسة) ضالتها لتندس بين المسلمين بمكائدها. والمطلع يعلم كيف استُثمرت (الصحبة) الممنوحة للأربعة الآنف ذكرهم كحصانة ربانية ضد الأمويين وعظماء رجال الأمة كالحجاج وأمثاله! وقد أدخلوا بعض الموالي في تلك الحصانة؛ فلا يجوز البحث في صدقهم وحالهم. خذ مثلاً المدعو (سفينة)!!!

هل كون الرجل مولى للنبي صلى الله عليه وسلم يمنحه التوثيق المطلق ؟

من حقنا أن نسأل: هل مجرد كون الرجل مولى للنبي صلى الله عليه وسلم يمنحه درجة الثقة في التقييم، حتى مع وجود إبهام في التعريف بشخصيته، وشبهات تحوم حول سيرته؟

روى البخاري في (الصحيح) بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هو في النار)، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلَّها! قال عنه ابن حجر: مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . كان نوبيّا أهداه له هوذة بن علي الحنفي اليمامي فأعتقه. ذكر ذلك أبو سعيد النّيسابوريّ في (شرف المصطفى). وقال ابن منده: له صحبة، ولا تعرف له رواية. وقال الواقديّ: كان يمسك دابة النبي صلى الله عليه وسلم عند القتال يوم خيبر. وأخرج البخاريّ من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً، قال: كان على ثقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات، فذكر الحديث في الترهيب من الغلول([1]). وذكر ابن حجر مولى آخر للنبي e اسمه مدعم وأنه غير كركرة؛ فهذا أهداه إليه هَوذة بن علي، وذاك أهداه إليه رفاعة بن زيد الضبي، وقد غلّ شملة جاءه سهم عائر فقتله وهم بوادي القرى، بينما قتل كركرة في خيبر([2]).

ومن كان على معرفة بالنفس والاجتماع يدرك أن الدين لا يستقر عادةً في النفس دفعةً واحدة، إلا ما ندر. وإنما هو كالبناء سافاً سافاً، وله أساس. وهذان الرجلان لم يمنعهما إسلامهما وكونهما موليين للنبي صلى الله عليه وسلم من الغلول. ومن ذلك الطبائع والأخلاق والسلوكيات والعادات التي دخل الإسلام وهو يحملها، لا سيما إذا كانت طبائع شعوب؛ فهذه وآثارها لا تزول سريعاً، ولا تستبدل كالثوب تنزعه فترتدي غيره. إنما ذلك يستغرق زمناً. هذا مع شرط توفر النية الصالحة على تغيير الذات، مع صدق العزيمة.

شخصية المولى

اشترط أهل الحديث لقبول رواية المبتدع الصدوق أن لا يكون ما يرويه مما يتعلق ببدعته. وذلك حذراً من غلبة الميل الطبعي فيروي الصدوق ما يمليه عليه ميله.

قلت قبل قليل: إن ميل الإنسان غير محصور بالبدعة، بل يتجاوزها إلى القوم والعشيرة والحزب والبلد، وغيرها من ميولات النفس ومواطن أهوائها. والميل إلى القوم من أشد أنواع الميل، وعادة ما يفوق الميل إلى الدين والحزب والمذهب. لكن هذا التنوع الخطير وما ينبني عليه من أزاعيم وأقوال قد تنسب إلى الرسول e نفسه لإكسابها مصداقيةً تجعلها قابلة للتلقي، وتأثير ذلك على ثقافة الجمهور وتوهين المناعة المجتمعية ضد الشيعة.. كل ذلك لم يلفت – حسب علمي – انتباه المحدثين، ولم يعيروا له أهمية؛ ربما لأن كثيراً منهم من الموالي. وتبعهم جمهور العرب لغفلتهم وانخداعهم بظواهر ما يبدو لهم من الشعوب الكثيرة التي انضمت إلى دولتهم. ولحملهم الأمر على مطلق قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) دون تمحيص أو تنزيل على الواقع طبقاً للضوابط.

خذ مثلاً أحاديث الثناء على القبائل، تجد كل قبيلة – إلا القليل – وضعت لها حديثاً على لسان الرسول e يمدحها. كذا بعض الأماكن والبلدان والأمصار. وتجرأ المتجرئون فنسبوا إليه مذامَّ لبعض القبائل والأمم والأمصار، يقابلها محامد ومدائح للبعض الآخر منها. وربما زادوا فذكروا له شتائم لم تمر لحظة من بين شفتيه الكريمتين!

كل هذا أهمله المحدثون، أو كادوا، واقتصروا على ما تعلق بالبدعة فحسب. كما تشددوا في المقابل في رواية أحاديث الأحكام. فكأن الدين ليس سوى سنة وبدعة. أو حكم ثابت وبدعة موضوعة.

كما أُهملوا البعد النفسي: الفردي والجمعي، وأثره على رواية المولى، لا سيما الفارسي، التي تتناغم مع ميله الطبعي الشديد تجاه قومه، فلم يلاحظوا أثر هذا البعد العنصري في نسيج التركيبة النفسية للمرء، اعتماداً – بلا دليل – على أن صدق التدين يقضي على الفروق النفسية المرتبطة بالاختلاف العنصري. مع أنهم – في الوقت نفسه – لم يجدوا في صدق التدين ما يكفي لقبول ما يرويه المبتدع الصادق موافقاً لبدعته! وهذا تناقض.

ومن عرف محركات الإنسان ودوافعه الذاتية وتشابكها وتعقدها، يدرك أن صدق التدين عامل واحد من عوامل المعادلة، يبقى – على أهميته –  قاصراً عن إحداث النتيجة الموضوعية المنشودة في كثير من الأحيان والأحوال والمواقف، إلا عند طراز خاص من البشر.

قال الذهبي: قال الزهري: أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا ابن عمر فقال: ما وجدت في نفسي من أمر هذه الأمة ما وجدت في نفسي من أن أقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله. فقلنا له: ومن ترى هذه الفئة الباغية؟ قال: ابن الزبير بغى على هؤلاء القوم، فأخرجهم من ديارهم ونكث عهدهم([3]). وقال الذهبي في السياق نفسه مباشرة: العوّام بن حوشب، عن عياش العامري، عن سعيد بن جبير قال: لما احتضر ابن عمر قال: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل هذه الفئة الباغية التي نزلت بنا يعني الحجاج. قلت (أي الذهبي): هذا ظن من بعض الرواة، وإلا فهو قد قال: الفئة الباغية ابن الزبير كما تقدم، والله أعلم.إهـ.

لاحظ كيف تغير اللفظ من وضعه الذي عليه في رواية حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه. وفيه أن الفئة الباغية هي فئة ابن الزبير. حتى إذا انتقلت الرواية إلى لسان ابن جبير تغير اللفظ فنسب البغي إلى الحجاج، وكانت الفئة الباغية فئة الحجاج! ولا شك أن حمزة أوثق في الرواية عن أبيه من ابن جبير عنه. والذي حمل الخارجي جبير بن سعيد على ارتكاب هذا العبث هو بغضه غير المسوَّغ للحجاج رحمه الله. علماً أن ابن جبير أصله من بلاد النوبة أي: السودان الحالية.

الفارسي أشد الناس تعصباً لعنصره وقوميته

فإذا جئت إلى الفارسي وجدته أشد تعلقاً وتعصباً لعنصره الفارسي من جميع البشر على اختلاف قومياتهم. والفرس ذوو عنجهية وكبرياء عرفوا بها، وتعالٍ على الأمم لا سيما العرب. لذا كانت القومية الفارسية هي القومية الوحيدة التي أنتجت ديناً جديداً يتلاءم مع طبيعتها، أعني التشيع.

مع هذه العنصرية الفائقة، صاحَب دخولهم في الإسلام ذكريات أليمة عميقة الغور في النفس والعقل؛ فقد أزال الإسلام دولتهم وحطم رموز أمجادهم. وسبى نساءهم وذراريهم، وغنم أموالهم، وتحول كثير منهم من سادة وملوك إلى عبيد وموالي. وهذه الجراحات والندوب والرواسب النفسية والعقلية: الجمعية والفردية حتى مع الصدق في النية لا تزول آثارها إلا بعد آماد ومُدد. وكثير من هؤلاء وجدوا في طلب العلم متنفساً لهم، وسلماً يمثل فرصة للترقي الاجتماعي. هذا عدا من طلب العلم لتخريبه من داخله. ضع أمامك هذه الصورة، وتخيل نفسك مكان هذه الشخصية لتتحسس ما قصدت على حقيقته، تجد أن كره الفارسي للعرب وحكامهم شيء يتفق مع ميله الطبعي. وأما أنا فوجدت بالتجربة والخبرة الناشئة عنها أن كثيراً من الأحاديث المشكلة في سندها مولى أو أكثر.

إن هذا يستدعي وضع قاعدة حديثية تنص على (التوقف في رواية المولى الفارسي الموثق ما يؤيد فارسيته، كمدح الفرس، وذم العرب، والإساءة إلى خلفائهم وأمرائهم وما يشوش سيرتهم ويطعن بنظام حكمهم). وذلك على غرار قاعدة التوقف في رواية المبتدع الموثق ما يؤيد بدعته من بابٍ أولى. وذلك كالتوقف في قبول رواية المبتدع إذا روى ما يوافق بدعته. مذكرين بأن هذا التوقف لا يدخل شرطاً في باب الطعن في صدقه. وإنما يعطى كل راوٍ مستحقه ويقيم بحسبه.

حديث حذيفة في ( الخلافة ) فيه موليان أو أكثر

إن رواية حديث حذيفة في (الخلافة) فيها موليان أو ثلاثة: أبو داود سليمان الطيالسي، وحبيب بن سالم. وقد كان مقصد الطعن في خلفاء الأمويين ظاهراً لمن تأمل الرواية؛ إذ ورد فيها وصف حبيب لما سبق عمر بن عبد العزيز من عهد بأنه ملك عاض وجبري. ففي الحديث زيادة: ” قال حبيب بن سالم (وهو مولى للنعمان بن بشير): فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين – يعني عمر – بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه”. وقد رد الشيخ الألباني استدلال حبيب بن سالم بهذه الزيادة فقال: “ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز، لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة ولم تكن بعد مُلكين: ملك عاض وملك جبرية، والله أعلم”([4]). وإن لم ينتبه – كباقي المحدثين – إلى العلاقة بين العنصرية الفارسية لدى حبيب وحمله الرواية على ذلك المحمل السيئ ضد الحاكم الأموي.

والمولى الثالث داود بن إبراهيم إن كان هو القاضي القزويني. وإن كان غيره فهو مجهول السيرة.

وكذلك حديث سفينة. فسفينة نفسه مولى فارسي. وسعيد بن جمهان مولى، عده الخوئي من رجالهم فقال (معجم رجال الحديث: 9/107): “مولى أم هاني، من رجال السجاد عليه السلام، من أصحابه”. وكذلك من روى عنه وهو حماد بن سلمة قال عنه الذهبي: “الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، أبو سلمة البصري، النحوي، البزاز، الخرقي، البطائني، مولى آل ربيعة بن مالك”([5]).

عقدة ثقات الموالي الخفية من دولة الإسلام

اللافت للنظر أن علماء الحديث عموماً لا يلتفتون عند مناقشة المتن إلى الدوافع والميول النفسية والسياسية لدى الراوي، ومعظم المشتغلين بالحديث من المتأخرين استغرقهم النظر في السند، وغفلوا عن العلل الخفية في المتن، أو اقتصروا على تقليد الأقدمين ولم يضيفوا إليهم شيئاً، ولو تفريعاً على ما أصلوه، مثل الجمود على قاعدة التوقف عن رواية ما يرويه المبتدع مما يوافق بدعته، أو كان داعياً لبدعته، دون تطويرها. مجمل القول أن أهم ما يشغلهم النظر في السند، ومن نظر في المتن اقتصر على بعض العلل وتوقف عندها.

تأمل – مثلاً – حبيب بن سالم، وحشرج بن نباتة، وهما موليان، على أي شيء يركزان؟ وماذا أضاف الأول لحديث حذيفة، والثاني لحديث سفينة؟ هذا على فرض صحة الحديثين!

زاد حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير (“قال حبيب: “فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين، يعني عمر، بعد الملك العاض والجبرية، فأدخلَ كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه” ([6]). فموقف حبيب من خلافة معاوية فمن بعده أنها خلافة عاضة وجبرية. وهو زيادة تثير الشك، وتشير بوضوح بإصبع الريب إلى الموالي وموقفهم من الدولة الإسلامية، وطعنهم فيها وذمهم إياها،. وفي الوقت نفسه يستثمرون الشيء نفسه في التقرب من حكام المسلمين. وهو الحال الذي أدركناهم عليه في زماننا. لا سيما إذا أضفنا إليها زيادة حشرج، وهي زيادة سيئة قبيحة فاضحة!

ووردت هذه الزيادة في (مسند الطيالسي): حدثنا أبو داود قال حدثنا داود الواسطي وكان ثقة قال سمعت حبيب بن سالم (وروى الحديث إلى قوله) فقعد عمر ومعه يزيد بن المعتمر في صحابته فكتبت إليه أذكره الحديث فكتبت إليه إني أرجو أن تكون أمير المؤمنين بعد الجبرية فأخذ يزيد الكتاب فأدخله على عمر وسر به وأعجبه)([7]).

وقد أحسن الشيخ الألباني حين رد معنى الزيادة، وإن صحح ثبوتها، وهي لا تثبت، فقال: “ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن عبد العزيز، لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة ولم تكن بعد ملكين: مُلك عاض وملك جبرية، والله أعلم”([8]).

أما حشرج ففي (سنن الترمذي): حدثنا أحمد بن منيع، قال: حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا حشرج بن نباتة، عن سعيد بن جمهان، قال: حدثني سفينة قال: (وساق حديث الخلافة ثلاثون). قال سعيد: فقلت له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك. وفي الباب عن عمر وعلي قالا: لم يعهد النبي e في الخلافة شيئاً. قال الترمذي: وهذا حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان، ولا نعرفه إلا من حديثه([9]). فلم يكتف حشرج – أو سعيد بن جمهان – بعبارة (الخلافة ثلاثون سنة…) حتى زاد عليها تلك الزيادة القبيحة المنكرة الفاضحة عن الأمويين! وقد أحسن الشيخ الألباني إذ ضعف تلك الزيادة فقال (السلسلة الصحيحة:1/821): وهذه الزيادة تفرد بها حشرج بن نباتة عن سعيد بن جمهان، فهي ضعيفة لأن حشرجاً هذا فيه ضعف.

والزيادات يشبه بعضها بعضاً من حيث استثمار قائلها لأصل النص: ففي الأولى: “قال سفينة: أمسك: خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين، وخلافة عمر رضي الله عنه عشر سنين، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتا عشرة سنة، وخلافة على رضي الله عنه ست سنين”. وفي الثانية: قال سعيد: فقلت له: إن بنى أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك”([10]). ومن حيث الإشارة الواضحة إلى موقف الموالي المريب من دولة الإسلام.

حديث أبي زميل في ( صحيح مسلم ) في ذم أبي سفيان وابنه معاوية وابنته أم المؤمنين

عند التأمل في أصل النص المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم وما بني عليه من معان ومفاهيم من قبل الراوي لا تستبعد الصناعة المقصودة مسبقاً للتوصل إلى تلك المعاني والمفاهيم. وليس هذا بغريب، بل له شواهد لمن تدبر بعض الأحاديث الواردة عن الموالي. ومنها أكثر من حديث في (صحيح مسلم) ضعفها العلماء أحدها ما رواه في (باب من فضائل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه ) حدثني عباس بن عبد العظيم العنبري، وأحمد بن جعفر المعقري، قالا: حدثنا النضر وهو ابن محمد اليمامي، حدثنا عكرمة، حدثنا أبو زميل، حدثني ابن عباس، قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي e: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن؟ قال: (نعم). قال: عندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان، أزوجكها، قال: (نعم). قال: ومعاوية، تجعله كاتباً بين يديك، قال: (نعم). قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: (نعم). قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك، لأنه لم يكن يسأل شيئاً إلا قال: (نعم).

ليس ما يثير في هذه الرواية ضعفها فحسب، وإنما ذكرها في فضائل أبي سفيان! وهي ما تركت فضيلة له إلا ومحتها! فهي أمور منحت له لأنه طلبها؛ ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه إياه. لكن واضعها – كعادة الشعوبيين – يجهل التاريخ والسيرة فوقع في ورطة دعوى تزويج أبي سفيان ابنته أم حبيبة للنبي e ووصفها له وكأنه لم يرها من قبل، مع أنه كان زوجاً لها قبل إسلام أبي سفيان بسنتين! ومن هنا تنبه لها العلماء. فقال النووي: “هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال ووجه الإشكال أن أبا سفيان أنما أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة. وهذا مشهور لا خلاف فيه وكان النبي e قد تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طويل”([11]).

وقد ضعف هذه الرواية كثيرون وبينوا آفتها، وأنها عكرمة بن عمار. وفصَّل ابن القيم في ذلك بعد أن قال: وقد رد هذا الحديث جماعة من الحفاظ وعدوه من الأغلاط في كتاب مسلم. قال ابن حزم: هذا حديث موضوع لا شك في وضعه، والآفة فيه من عكرمة بن عمار فإنه لم يختلف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها قبل الفتح بدهر وأبوها كافر([12]).

وهذا ينبه إلى الحذر من أحاديث الموالي عند مواضع الإشكال؛ فهم يخططون من بعيد، ويضعون الأحاديث ذات المرامي البعيدة، ويحيطونها بقشرة حلوة كي يسهل ازدرادها! وقد وصلوا بسمومهم إلى (صحيح مسلم)!

سفينة يمدح قومه الفرس

وأورد ابن الأثير لسفينة حديث: (لو أن الدين معلق بالثريا لتناوله رجل من أبناء فارس) مسلسلاً بأربعة من أحفاده (ابن عبيد بْن الأسود بْن سويد بْن زياد بْن سفينة)، بعضهم عن بعض عن سفينة([13]). وهذا من أثر الميل إلى الأصل الفارسي. وليس قصدي من هذا النقد ذم أصل الميل إلى القوم؛ فإن ميل المرء إلى قومه لا حرج فيه إن اقتصر عليه. وإنما بيان أن الدين لا يمحو آثار الانتماء إلى الجذور كلياً سواء كانت عنصراً، أم طبيعة شعب، أم عقائد وأفكاراً، أم أخلاقاً، أم سلوكاً. وعلى قدر تدين المرء وتربيته وتطبعه بالواقع الجديد يكون مستوى التغير.

لا أعمم ولا أطعن فيمن دلت سيرته على صدق التدين. إنما أقول: ينبغي أن لا نمنح ما يقوله الثقة صك العصمة من الاندفاع غير الواعي وراء دوافع نفسية خفية جمعية ينبغي أن نضعها في معادلة التقويم عند مواطن الاشتباه. علينا أن نلتفت إلى هذه الملاحظ عند المواطن والأحاديث المشكلة، التي تؤسس لمفاهيم تبنى عليها أمور كبيرة، مثل أصول السياسة، وشكل النظام السياسي؛ فإنه إذا تراوح بين وجوب ما لا يجب وحرمة ما لم يُحرَّم صار مساوياً للأصول في خطورته! والأصول لا تقوم على مثل هذه الأسس الواهية.


[1]– الإصابة في تمييز الصحابة، 5/439، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.

[2]– فتح الباري، 7/490، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني.

[3]– تاريخ الإسلام، 5/276، المكتبة التوفيقية. ورد في حاشية الرواية: خبر صحيح: السير “3/229”. وفي حاشية رواية عن سعيد بن جبير: صحيح: أخرجه ابن سعد “4/ 185”.

[4]– سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/35، محمد ناصر الدين الألباني. وهذا تناقض من الألباني في تصحيحه رواية (أول من يغير سنتي رجل من بني أمية) في (السلسلة الصحيحة:4/357)، وهي ضعيفة متناً وسنداً، وقوله بأن المقصود بالرجل معاوية، وتغيير السنة بتحويل الحكم من الشورى إلى الوراثة. وقوله لا يستقيم.

[5]– سير أعلام النبلاء، 7/444.

[6]– مسند الإمام أحمد بن حنبل، 30/355-366.

[7]–  مسند أبي داود الطيالسي، ص58، سليمان بن داود الطيالسي. مصدر سابق.

[8]– سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/35، محمد ناصر الدين. مصدر سابق.

[9]– سنن الترمذي، 4/73، أبو عيسى الترمذي.

[10]– ضعف الألباني في (السلسلة الصحيحة، 1/821) الزيادة الثانية.

[11]– صحيح مسلم بشرح النووي، 8/62.

[12]– عون المعبود شرح سنن أبي داود، 6/75، عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، محمـد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبد الرحمن، شرف الحق، الصديقي العظيم آبادي (ت 1329هـ)، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية، 1415هـ.

[13]–  أسد الغابة، 2/505.

اظهر المزيد

‫3 تعليقات

  1. ليس كونه من الموالي معناه التسقيط المطلق ..ايها الاخوة الاعزاء مبدئيا نعم هناك تعصب فارسي وجد في سيدنا علي و اولاده وسيلة لتدمير الاسلام بالتشيع كما ان التقية هي انعكاس لتلون الفرس في الوصول الى اعلى المناصب في الدولة لتدميرها و دينها وهو ما نجحوا في خداع مدرسة الحديث الى حد ما فدخلت اكاذيبهم كتب الحديث ..لكن لاعطاء هذا الموضوع حظه من الدراسة و التمحيص الهادئ و المعمق و لاضفاء مصداقية اكثر عليه لا يجوز وضع كل امة الفرس ولا حتى غالبيتها في سلة واحدة هناك حقائق تاريخية لا يمكن تجاوزها في نصرة الفرس عندما كانوا سنة للاسلام السني لن يتسع المجال لذكرها

    1. نعم اخي العزيز خلينا هسه نحمي نفسنا من غدر الفرس و نثقف ناسنا و اهلنا على يد الدكتور و بعدين من نحمي نفسنا و نستقر و يرجع بلدنا و ترجع البلدان الاسلاميه و نرجع المغيبين بعدها نبحث عن مزايا نصره الفرس للمسلمين الي هي ٣ بالميه و ٩٧ بالميه اذيه
      اخي الامه ما محتاجه هسه تنشغل بكم حسنه للفرس اتجاه العرب

  2. جز الله خيراً د. على فضح وبيان حقيقية المؤسسة العميقة الخبيثة!!!
    اين الرموز اين الدعات اين المؤسسات من هذا البحث العميق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى