مشروعنا ومنهجنا
مشروعنا ومنهاجنا
المقدمة
بسم الله نبدأ.. وعلى بركته نسير.. ولقاه نرجو (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)([1]). يحدونا صوت البشير النذير، فنحن على آثاره ماضون، ولنصرته مشمرون، فالميدان رحب، والطريق لاحب؛ والصراط مستقيم، والسعيد من رزق البصيرة والثبات على الحق حتى يأتيه اليقين. ويا رب صل وسلم وبارك على نبينا وقائدنا وهادينا ورائدنا محمد، وعلى آله.. أصحابه وأتباعه أجمعين.
وبعد..
فما أصدق هذه العبارة وأجملَها..
“من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين”..!
يا لها من حكمة عظيمة! طرقت سمعي قبل بضع سنين. وما فتئت تراودني كلما تأملت حوادث التاريخ، وتقلبت بين صفحات الدعوات، واستنطقت سيَر روادها الناجحين. وما سألت نفسي عن سر التضحيات الجبارة التي بذلتها حركات التحرر والجهاد في القرن المنصرم، ثم احتضن حصيدها الأغيار، وجنى ثمارها سوى الأخيار: إلا وتبادرت إلى ذاكرتي، ورنت بإيقاعها المعهود..
“من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين”..!
ولم يكن التاريخ هو الشاهد الوحيد، بل الجغرافية والواقع الأليم كان الشاهد الثاني؛ وسحب الزمن علينا – نحن سنة العراق – سلسلته الثقيلة، فكانت (المقاومة العراقية) العظيمة آخر حلقة في سلسلة التضحيات المُهدرة؛ لقد بذل فيها أعظم الأثمان، وحققت أعظم الإنجازات فأخرجت المحتل وأحلافه من العراق وعلى رأسه دولتان عظميان هما أمريكا وبريطانيا، لكنها فشلت في أن تمسك الأرض فسلمتها لغيرها، ولم يكن أمامها سوى هذا الخيار. بل عجزت عن أن تحمي نفسها وأفرادها فهم اليوم بين معتقل ومستخْفٍ وشريد!
وتسأل: لماذا؟ وأجيبك: لأنها سارت في الطريق نفسه التي سلكتها أخواتها من قبل، فدخلت المعمعان وخاضت الحرب العوان بلا مشروع ناضج. ولم تكن المقاومة وحدها التي تعمل بلا مشروع، فالعمل السياسي كان بلا مشروع أيضاً. ومثله العمل الديني والدعوي، والعمل الخيري والإغاثي، وبقية الأعمال والأنشطة الخيرة؛ كلها مبتورة عن نهاياتها، قاصرة عن كمالاتها، فكأنها حبات من الخرز بلا سلك ينظمها، أو حلقات تناثرت بعد أن انقطعت سلسلتها. المصير نفسه كان نهاية ثورات (الربيع العربي). والشيء عينه يجري في سوريا، ومرشح لنهاية مشابهة.
نتائج بائسة لا تتناسب وما يقدمه الأشراف لها من جهد وتضحيات، وكان هناك من يضحي، وآخر يستفيد. بل أصبح من المعتاد أن يكون المضحي هو الضحية! وكنا كالذي يغرس وغيره يجني؛ ولا غرو فإن من يحضر إلى الحصاد ويده خالية من السلة يكون الحصيد من حصة غيره. وتفتش عن الخلل فتقع على أن السلة تنسج دوماً خارج مصنع (المشروع). المشروع إذن هو سبيل الخلاص من هذه المآزق المتكررة. حقاً..
“من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين”..!
وهل يعقل أن المجاهدين لم يكن لديهم من مشروع؟ ونقول: توجد مشاريع لكنها ناقصة، وأهم ما ينقصها وجود سيد المشاريع كلها ألا وهو المشروع المدني؛ فالجميع يعمل ولكن إما في مشروع عسكري أو مشروع سياسي. ويفوتهم أن أساس النجاح هو المشروع المدني قبل المبادرة إلى أي مشروع آخر. المشاريع كلها ينبغي أن تنطلق من هذا المشروع، وإلا كانت النهاية كالذي يبني على غير أساس. وهذا هو الذي بدأ به النبي e عمله لتحقيق هدفه العالمي، فكان النجاح حليفه في آخر المشوار.
الأوهام القاتلة
- يتوهم معظم الناس أن المشروع يعني الجهاد بمفهومه العسكري، وهذا هو النفق الذي ابتلعَنا وما زال يبتلعنا منذ زمن بعيد. وهذا الوهم وإن كان أساسه الإيمان بهذه الفريضة العظيمة، ومبناه على أن أمة الإسلام أمة جهاد، لكن يفوت اصحابه أن الجهاد في الإسلام بمعناه العسكري لم يفرض إلا بعد خمسة عشر عاماً من الجهاد والإعداد السلمي المدني. كما يفوتهم أن جهاد الأمة طيلة تاريخها كان ينطلق من جسم دولة لا وجود لها اليوم البتة. وهذه الدولة هي بمثابة المشروع المدني الحاضن للجهد العسكري.
- ويتوهم آخرون أن العمل السياسي هو االمشروع المطلوب. ونقول فيه ما قلناه آنفاً، فالعمل السياسي في الإسلام – كما سيأتي بيانه لاحقاً – جاء متأخراً في حياة الرسول e. وكلا الجهدين (العسكري والسياسي) لا يشكلان مشروعاً حقيقياً. وإنما هما عبارة عن مشاريع فرعية ساندة ومكملة للمشروع المركزي الكبير، وهو المشروع المدني، ولا يمكن بحال أن يكون أحدهما أو كلاهما بديلاً عنه. (المشروع المدني) بمثابة الجسم القائم، والصدر الحاضن، والقلب النابض، والرأس المفكر. أما العسكرية والسياسة بالنسبة إليه فبمنزلة الجناحين. ولا جناح يخفق بلا جسم يقوم به وصدر يحضن وقلب ينبض ورأس يفكر ويوجه ويقود.
- ويتوهم الكثير من المهتمين بالجهد العسكري وحده، أو السياسي وحده، أنهم ينطلقون من فكر وخطة وإعداد ومنظومة، أليست هذه هي مكونات المشروع المطلوب؟ ويفوتهم أنه ما من مشروع، حتى لو كان إنشاء متجر في سوق، إلا وفيه كل ذلك، لكنه يبقى في حدود التجارة. فالمشروع العسكري وإن تضمن الفكرة والخطة وباقي متطلبات النجاح، لكنه يبقى في نهاية المطاف جهداً عسكرياً يفتقر إلى شمولية المشروع المطلوب. وكذلك الأمر بالنسبة للمشروع السياسي. كما يفوتهم أن الأصل مشروع شمولي تكون القوة أو العمل العسكري سياجاً لحمايته، ويكون العمل السياسي وسيلة للتعبير عنه. ومن دون هذا المشروع الشمولي، الذي نطلق عليه اسم (المشروع المدني) يكون السياج الحامي مبنياً حول فراغ، ووسيلة التعبير تعبّر عن لا شيء.
- أما تسميتنا للمشروع بـ(المدني) فجاءت تمييزاً له عن (العسكري) وكذلك (السياسي) تبعاً، الذي توهمته كل حركات الجهاد والتحرر التي عايشناها أو قرأنا عنها أنه الأساس بسبب ذلك القياس الفارق الذي أشرنا إليه آنفاً. وليس كما يتوهمه البعض من أن المقصود به (المدني مقابل الديني)؛ فهذا – والعياذ بالله – باطل ننبذه، وتردٍّ نترفع عنه.
الفكرة والمنهج
إن الفكرة النابعة من المعاناة التي يشهدها الواقع، وما يترتب عليها من منهج علمي وبرنامج عملي.. هي أساس وعماد كل مشروع. وليست الفكرة شيئاً جامداً، بل يجب أن تتغير ويطرأ عليها التعديل باستمرار، مع الحفاظ على جوهرها، تكيفاً مع الواقع المتغير واستجابة لتحدياته المتغيرة.
يفترض في الناظر إلى الواقع منذ قرن مضى، أن يلحظ أن التحدي الذي واجهته الأمة، متفرقة وما زالت كذلك، قد تغير من غزو خارجي غربي سافر الهوية، إلى غزو داخلي شرقي ملتبس الهوية. وقد اجتمع علينا العدُوّان معاً عن سابق قصد وتآمر منظم، يستعمل أحدهما الآخر لخدمة أغراضه وتحقيق أهدافه. فلا بد من تعديل أو تغيير الفكرة القديمة، ووضع منهج متكامل بناءً على الفكرة المعدلة يلبي هذا التغير، ويتكيف معه. لكن هذا المنهج بصورته المتكاملة، فضلاً عن البرنامج الذي ينطلق منه وينبني عليه، ما زال غائباً مفقوداً، إلا من أفكار مشتتة مبتورة لا يجمع بينها جامع، ولا من أحد يسد ثغراتها ويكمل نقصها.
المشروع المدني هو الحلْقة المفقودة في سلسلة الجهود، واللبنة التي ظل يفتقدها بنيانها الكبير. وأول المشروع الفكرة والمنهج الموضوع.
جاء (المنهج) في ستَّ عشرةَ فقرة أساسية، قابلة – بطبيعتها – للتعديل والتكميل. الفقرات الست الأولى منها أقرب إلى الحركة؛ فهي ألصق بروح (المشروع)، بينما بقية الفقرات أقرب إلى الفكرة؛ فهي ألصق بروح (المنهج)؛ لذا قسمت المنهج الكلي إلى قسمين: المشروع.. والمنهج.
أ. المشروع:
- الإحاطة
- المشروع المدني
- التعريف بالمؤسسة (التيار السني في العراق)
- التقاء السنن الربانية في ( المشروع السني )
- مفهوم الأمة بين التنظير والتجسير
- استراتيجية الحل الجذري للمشكلة التاريخية مع الشيعة وإيران
ب. المنهج
- الركائز العلمية للمنهج
- فقه الهوية
- التجديد والإبداع
- فقه الإيمان والتنمية الإيمانية
- المرأة في مشروعنا
- نظرات في القيادة
- نظرات في السياسة
- نظرات في المال والسياسة المالية
- علوم أساسية في منهاجنا التغييري (النفس والاجتماع والتاريخ)
- موقفنا من العروبة، والقوميات الأخرى (الكرد أُنموذجاً)
حاولت كثيراً أن أشرك غيري في كتابة هذا السفر التأسيسي الكبير، وكلفت بصورة شخصية بعض من توسمت فيه القدرة على ذلك، فلم يستجب أحد، سوى محاولة واحدة ولدت ميتة؛ لأنها جاءت خارج نطاق المنهج: فكرة وحجماً وصياغة وأسلوباً.
لكن استفدت من النقاشات والملاحظات: المباشرة بالمشافهة، وغير المباشرة بالمراسلة. والأهم من ذلك هو العرض العلمي العملي على عشرات المهتمين والعاملين على الإنقاذ، والأساتذة والمتخصصين، على مدار سنوات عديدة، طرح فيها كورقة عمل أخضعت للنقاش والفحص والنقد والإضافة، فخرج على هذه الصورة المتكاملة، ولا أقول الكاملة. مع علمنا أن سر نجاح أي فكرة يكمن في أن تبقى منفتحة النهايات قابلة للتغيير: حقاً مكفولاً، والتطوير: واجباً مفروضاً.
هذا معنى تقييدنا المنهج بوصف (الأمثل) فهو (الأمثل) مقارنة بغيره، وليس (المثالي) أو الأفضل مطلقاً. وهذه النظرة هي التي تحافظ على مرونته وبقائه منفتحاً على النقد البناء، وتحفظ له مرونته، وتزوده بقابلية التطور على الدوام. وهذه خصيصة مهمة جداً من خصائصه، من دونها يفقد المنهج حيويته وقدرته على التغيير والاستمرار.
أطلقنا على (المشروع) اسم (الطريق إلى بغداد) استنباطاً من الهدف الكبير للمشروع، واستبشاراً وتفاؤلاً بتحقيق هذا الهدف العظيم، الذي يمثل إنجازه العلامة البارزة على نجاحه بإذن الله، وبداية (الطريق إلى قم) وتحرير الشعوب التي تعاني من استعمار الفرس لهم وحرمانهم من حق تقرير مصيرهم، الذي هو النصف المتمم للطريق؛ فنحن لسنا طارئين على منطق الجغرافيا، ولا متطفلين على حركة التاريخ، والصراع الأبدي بين هضبة فارس ووادي الرافدين.
ملاحظة/ جرت لهذا السفر كثير من المراجعات: تعديلاً وحذفاً وإضافة، في أوقات متفاوتة. فالتاريخ أسفل المقدمة يمثل السفر في وضعه الأول قبل تلك المراجعات.
الأربعاء
17 شعبان 1434
26 حزيران 2013
[1]– (العنكبوت:6).
القسم الأول : المشروع
1. الإحاطة
2. المشروع المدني
3. التعريف بالمؤسسة ( التيار السني في العراق )
4. التقاء السنن الربانية في المشروع السني
5. مفهوم الأمة بين الفكرة والواقع
6. استراتيجية الحل الجذري للمشكلة التاريخية مع الشيعة وإيران
الإحاطة
قال تعالى: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) (الكهف:68).
قد ينتسب إلى المشروع من يتفاعل معه مندفعاً بالعاطفة، معجباً به من الخارج، قبل أن يدرك حقيقته وحقيقة المؤسسة التي ترعاه، ويتعرف عليه من داخله. ثم بعد مدة يكتشف أشياء ما كان يعرفها ولا يتصور أنها من صلب المشروع، فينكل عنه، ولا يجد ما يصبره على الاستمرار فيه. والآية تقرر أن من لم يحط بالشيء خبراً، أي علم خفاياه، لن يصبر عليه حتى النهاية.
وهناك صنف من الناس يسارع في تكذيب ما لم يحط به علماً كما قال جل جلاله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (يونس:39). فيكون موضوع (الإحاطة) فرصة للعلم به حتى يكون الاختيار عن بينة. وقد أدينا ما علينا. ومن أدى ما عليه فما عليه.
وجاء في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على بني شيبان فقال له المثنى بن حارثة: فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول. وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول. وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً. وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق. إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه)([1]).
فلا يقوم بالمشروع إلا من حاطه من جميع جوانبه: علماً وتحملاً. من هنا نتج موضوع (الإحاطة) بماهية مؤسسة (التيار السني في العراق) ومشروع (الطريق إلى بغداد) والمنهج المؤسس لذلك (من جميع جوانبه) في المشروع، وضرورة تقدمه على كل شيء فيه.
الإحاطة هي المادة العلمية التي تمثل أساس التعرف على المؤسسة بخطوطها العامة قبل اتخاذ القرار بالانتماء إليها وتبني مشروعها. تلقى على شكل جلسات تجمع بين المحاضرة والتحاور والنقاش.
الأهداف
تهدف جلسات الإحاطة إلى تحقيق الفوائد التالية:
- دخول المؤسسة عن بينة واختيار ذاتي، والصبر على ذلك، والمصابرة في سبيل الوصول إلى أهدافها وتحقيق غاياتها. فالقناعة أساس الاختيار الصائب، واليقين بالشيء هو القاعدة المتينة للصبر والمصابرة.
- الالتزام المطلوب بمستحقات الانتماء.
- تصفية الأعضاء بابتعاد العناصر الضعيفة وغير المناسبة.
- اختصار الجهد اللاحق باقتصاره على مستحقيه وعدم تبديده في تجارب معظم الجهد المبذول فيها صادر استهلاك بلا وارد جدوى.
أول فقرة في ( الإحاطة) :
هل تتبنى ( المشروع السني ) لإنقاذ قومك؟ أم لإنقاذ نفسك أولاً ؟
قبل كل شيء يُطرح سؤال مزدوج، ويجاب عنه: هل حرصك على تبني المشروع:
- من أجل إنقاذ قومك؟
- أم من أجل إنقاذ نفسك أولاً؟
والجواب: بل لإنقاذ النفس من النار، والذهاب بها إلى الجنة، بل الدرجة العليا منها. وهذا لا يتحقق إلا بالمرور من خلال المجتمع ومعاناة العمل في سبيل إنقاذه. ومن هنا كان العمل لإنقاذ أهل السنة جزءاً أساسياً من المشروع. ودخلت السياسة في صلب الربانية. والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6). فبدأ بالنفس قبل الأهل. ويقول: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر:15).
وسبكنا خلاصة المطلوب في قالب حكمة صيغت صياغة متسقة:
من أراد غيره فليعمل لنفسه . ومن أراد نفسه فليعمل لغيره
* *
لاحظنا أن أول ما يشغل ذهن الراغب بالعمل في المشروع السؤال بلهفة عن سبيل إنقاذ عاجل لأهل السنة أو أهل العراق عموماً من واقعهم البائس. ويأتي وهو يحمل بين جنبيه أملاً عريضاً بأننا نملك جواباً ناجزاً لسؤاله. وهذا يوقعه في مطب الاستعجال، والدخول في أي تكوين، والشروع في أي جهد يتصوره محققاً لهذا الهدف. وهو مطب مزدوج يؤدي بصاحبه إلى نفقين مظلمين:
- نفق المصلحة العامة: الذي يستدرج العامل شيئاً فشيئاً إلى الخروج عن ضابط الربانية، أي النية الخالصة؛ بحجة جلب المصلحة للناس. فيخسر نفسه في الآخرة ليربح غيره في الدنيا! بينما القاعدة تنص على أن: من أراد غيره فليعمل لنفسه.
- نفق الزمن: الذي يستدرج العامل إلى استعجال القطاف، فإذا أبطأ أُحبط وانقطع؛ فخسر نفسه! بينما القاعدة تنص على أن: من أراد نفسه فليعمل لغيره. ولن تقتصر الخسارة عليه وحده، بل غيره سينقطون أيضاً. أي سيخسر نفسه وغيره!
نحن – قبل كل شيء – مؤسسة ذات مشروع رباني.
والربانية تقتضي منا ضبط البدايات: فكرة وعملاً، وتوحيداً واتباعاً، وإيماناً ونصرة. ولا يقبل العمل من المسلم إلا إذا كان حائزاً على شرطين: أن يكون خالصاً، وأن يكون صائباً. ولا يكون إنقاذ المجتمع خالصاً ما لم يكن القصد – أو الحركة الداخلية منه – إنقاذ النفس أولاً قبل الغير. وهذا هو الذي يحقق العبودية والإيمان. كما لا يكون صائباً تمام الصواب ما لم يكن الفعل – أو الحركة الخارجية منه – طبقاً لمشروع إنقاذ عام. وهذا هو الذي يحقق الاتباع والنصرة.
أهم فقرة في الإحاطة
تلك أول فقرة في (الإحاطة).. فما هي أهم الفقرات؟
والجواب: تحقق الدين – إيماناً ونصرةً – في ( المشروع السني ) دون سواه.
الأمر عندنا أشبه بالمسألة الرياضية. لكنه سهل وواضح لا شبهة فيه ولا تعقيد. وذلك يتبين بالخطوات التالية:
- النجاة من النار ودخول الجنة لا ينال إلا بدين الإسلام.
- والإسلام يقوم على أساسين اثنين: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران:81). وعقب I على ذلك فقال: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) (آل عمران:83)، ثم قال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
- والنصرة هي الجهاد بمفهومه الواسع: المدني والعسكري. قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142). وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (التوبة:16). على أن الجهاد المدني هو الأول وهو الأساس، وهو (البنية التحتية) التي لا جدوى دونها من الجهاد العسكري. وهو أخيراً واجب الوقت بالنسبة لنا سنةَ العراق.
- والجهاد لا يكون إلا بمشروع مدني منظم. يبدأ بهوية، وينتهي بهدف، ويتوسط بخُطة مكتوبة ذات برامج معمولة. يتكامل في نهايته بجناحين: عسكري وسياسي.
- والمشروع لا يتحقق إلا بمنظومة أو مؤسسة ربانية.
- والمشروع مفقود منذ مئات السنين؛ فكان ضياع أهل السنة منذ أن زالت الدولة العباسية سنة (656هـ/ 1258م). وكانت بداياته منذ زوال الدولة الأموية سنة (132هـ/ 750م). فآلت الحال قسمة ضيزى بالتناوب الهمجي ما بين محتل شرقي وآخر غربي. ومن لا مشروع له كان ضحية لمشاريع الآخرين.
- بحثنا كثيراً فلم نجد مؤسسة في العراق، ولا في خارجه – حسب علمنا – ذات مشروع بهوية سنية، وأهداف جادة، وخطة فاعلة، وبرامج منتجة. ولكل متابع أن يستعرض المؤسسات الموجودة على الساحة ليقرر بنفسه مصداقية هذا القول. ثم إن هذه المؤسسات كلها قد آضت إلى تكوينات عَلمانية، حتى تلك التي تدعي منها أو تتوهم الإسلامية. وهي جميعاً فاقدة للقضية السنية.
- لهذا تبنينا على عاتقنا إنشاء مؤسسة ربانية سنية هي (التيار السني في العراق) بمشروع متكامل هو (الطريق إلى بغداد). هذه هي (الفريضة الغائبة) التي يدندن بلفظها البعض، ويقول: إنها الجهاد. ونقول: نعم هي الجهاد، لكن بمفهومه الشامل، الذي يقوم على مشروع متكامل، يبدأ بـ(الفريضة الغائبة).. أي العمل المدني. أما النشاط العسكري والسياسي، فلسنا بصدده الآن حتى يتم المشروع بأساسه المدني. ثم لكل حادث حديثه، ولكل حديث ظروفه.
مميزات المشروع السني
ما يميز المشروع السني اجتماع جملة أمور فيه لم تجتمع في غيره. فهو:
- مكتوب ومنشور.
- رباني: ثابت في الإيمانيات والعبادات والأصول والقطعيات، ومرن في المواقف والسياسات والفروع والظنيات. بين مشاريع إسلامية معاصرة: إما مائعة أو لينة في عقيدتها ومبادئها، وإما جامدة أو متشددة في سياستها ومواقفها.
- يمنح قضيتنا استحقاقها: لأنه ينطلق من خصوصيته العراقية، التي أهم عناصرها أن قضيتنا المركزية تتمحور في العراق، وهي شرقية لا غربية، وعدونا الأول شرقي لا غربي؛ فالعراق يمتاز بأنه يعاني من خطرين كبيرين: أحدهما خارجي وهو إيران، والآخر داخلي وهو الشيعة. هذا هو محور مشكلتنا وأصل قضيتنا. ثم من بعد نعطي لكل عدو موقعه حول المحور، وليس في مركزه.
- محدد الهوية والقضية والهدف.
- مرسوم الخطة. موضوع البرامج.
- مفصل المراحل.
- يقوم على الواقعية التي تراعي العلاقة بين الحلم والواقع.
- يعتمد الفكرة الرائدة أساساً للحركة الراشدة.
- عملي لا تنظيري فقط. من دخل فيه وجد نشاطاً يناسبه ضمن المسار العام للعمل.
- التجديد فيه سنة كونية وفريضة شرعية.
- مفتوح النهايات: يقبل النقد والإضافة والتعديل على المديين: الزماني والمكاني. ويتصف بالمرونة التي تمكنه من التكيف مع المتغيرات. فيمارس فيه التغيير حقاً مباحاً، والتطوير واجباً مفروضاً. وبهذا نضمن له الاستمرار، والتطور الدائم، ومواجهة التحديات بعيداً عن الجمود والتحجر، الذي هو العلة المقعدة لكل المشاريع والجماعات.
أبوية القائد
الأبوية حاجة فطرية: فردية وجمعية. كل الناس يستشعرونها ويسعون لتلبيتها بغض الطرف عن العمر والجنس والمرتبة الاجتماعية.
من تمام التعرف على المشروع وطبيعة العلاقة الرابطة بين أعضاء المؤسسة بيان طبيعة العلاقة بين القائد والأتباع. وتكامل الأبوية بالشورى التشاركية، وتوفير البيئة القيادية.
ليس المقصود بالقائد القائد الأعلى للمؤسسة فحسب، وإنما القادة جميعاً على مختلف مراتب القيادة. فكل قائد هو تابع لمن فوقه في مرتبة القيادة، وهو – في الوقت نفسه – قائد لمن هم دونه في المرتبة.
ما ينبغي قوله هنا أن على أفراد أي منظومة أن تستحضر في رُوعها أن القائد بالنسبة إليهم كالأب نسبةً لعائلته، والشيخ والمعلم نسبة لتلاميذه،. والقائد وإن كان لأتباعه أخاً وصديقاً ومعلماً ومدرباً، لكن هذه العناوين لا تمثله حق التمثيل، إنما (الأب) هو العنوان الذي يمثله ويعبر عنه أصدق تعبير. وفي فقرة (نظرات في القيادة) وبعنوان (أبوية القائد) تفاصيل تستحضر عند طرح موضوع (الإحاطة).
ما تقدمه المؤسسة لأبنائها
قد يسأل سائل: فماذا تقدم المؤسسة لأبنائها؟
والجواب: تقدم المؤسسة لأبنائها شيئاً مفقوداً، لا يقدر بثمن، هو سر النصر. ذلك هو المنظومة الربانية التي من خلالها يعبرون عن دينهم بشقيه. وما عدا ذلك فلا شيء. هذا هو الأصل، والأساس الذي عليه يكون الانتماء والوفاء. وما سواه فكلٌّ بحسبه. جاء في سيرة ابن هشام سؤال الأنصار y في (بيعة العقبة الثانية) رسول الله e: “فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا”؟ قال: (الجنة). قالوا: “ابسط يدك”. فبسط يده فبايعوه.
والناس في هذا قسمان: قسم قال جل جلاله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11). وقسم جاء فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207).
وهنا سيكون العامل بين كماشتي ذئبين خطيرين، لكنهما لن يضرا من سلم في قلبه وأوى إلى ربه: المال والعنوان. قال ربنا جل وعلا: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83). وقال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن:15). وروى الترمذي بسنده عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله تعالى: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
من الضروري أن نشير هنا إلى أن من أكبر عوامل تدمير المؤسسات منح المال لمن ينتمون إليها، أو التكفل بمصاريف أنشطتهم؛ فهذا مطب خطير لعدة أسباب منها:
- جذب مجاميع من النفعيين إليها، يتظاهرون بحمل مشروعها. والحقيقة أن المقصود المادي لا غيره هو عنصر الشد في حملهم إلى داخلها.
- إفساد مجاميع أُخرى بدأوا صادقين لكنهم ينتهون إلى ما انتهى إليه الصنف السابق كناتج تلقائي من نواتج الانتفاع. وذلك لعلة خفية لا ينتبه في العادة إليها إلا الراصد الخبير. وهي أن المنتفع يفقد بالتدريج الشعور بالانتماء والولاء للجهة المنتفع بها. وذلك يعود إلى قانون من قوانين التكوين النفسي للبشر، يتلخص في أن:
– (الولاء للإعطاء لا للأخذ).
– (من أعطى والى ومن استعطى تولى).
– ومن عانى في تحصيل شيء كان أكثر الناس حرصاً عليه. على العكس ممن لم يتعب فيه. فالمستفيد يكون أكثر تفريطاً به متى ما انقطع حبل الفائدة. هذه ظاهرة نفسية يجب أن تُثبَّت كمعلم من معالم التأسيس؛ لأن معظم الناس يتوهم العكس منها، كما كنت أتوهم حتى (تعلمت الدرس). فيحرص على بذل المال والنفع لمن يريد جذبهم واستقطابهم. والله تعالى يقول: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63).
دور المنظومة في تحقيق أعلى درجات الإيمان
ضع في بالك دوماً هذه الحقيقة القرآنية: ما دمت تعمل ضمن منظومة ربانية، فأنت في المراتب العليا في الدنيا والآخرة. ومن لم يكن كذلك فلن يبلغ ذلك. وإليك الأسباب والأدلة:
-
( المشروع السني ) ينجي من النار ويوصل إلى أعلى درجات الجنان
أما النجاة من النار ودخول الجنة، فهذا يتم بفعل ما أوجب وترك ما حرّم.
لكن ما يغفر الذنوب جميعاً بلا استثناء، ويوصل إلى الدرجات العلا في الجنان فهو ما تضمنه قوله Y: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (الصف:10-13). وموضع الشاهد أن المغفرة الكلية للذنوب اقترنت في القرآن بالجهاد فقط.
لهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم جميعهم في الجنة. لأنهم جميعاً كانوا مجاهدين. وهذه الجميعية إنما تحققت بسبب أنهم كانوا بلا استثناء ضمن منظومة الجهاد بصرف النظر عن الأدوار التي أوكلت إليهم: مدنية أم عسكرية. فحسان بن ثابت كان شاعراً لم يمسك السيف قط. والنساء كن على صنفين: صنف مارس الجهاد بنفسه سواء المدني منه والعسكري. وصنف كان عوناً للمجاهد على جهاده. وذلك كله داخل في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122).
-
ما دمت في منظومة فأنت في أعلى الجنان مهما كان دورك في المنظومة
المعنى الشمولي للجهاد مختلط في الذاكرة الجمعية للجمهور، فلا يدرك منه سوى القتال، مع أن جهاد معظم الأنبياء عليهم السلام لم يكن بالقتال قط. إن تعاليم الكتاب ترشدنا إلى أن المسلم ما دام في منظومة جهاد فهو مجاهد مهما كان الدور الذي أنيط به داخل المنظومة: مدنياً كان أم سياسياً أم عسكرياً. وقد كان هذا واضحاً في أذهان الأجيال الأولى من المسلمين.
والجهاد أعظم الأعمال عند الله؛ فدرجته كما أخبر عنها تعالى فقال: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة:20،19). وقال: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:95). ويتجلى هذا المعنى أكثر في الفقرة الآتية.
-
المسلمون .. عامي وعابد وعالم ومجاهد
ومن لطائف أسرار تجلي رحمة الله وعدله في خلقه أن المسلمين ينقسمون بين عامي وعابد وعالم ومجاهد. وأن رتبة العابد فوق رتبة العامي، ورتبة العالم فوق العابد، ورتبة المجاهد فوق العالم. هل تعلم أن العامي الذي لا يمكنه أن ينال رتبة العابد ولا العالم، فتح الله جل شأنه الطريق أمامه لينال أعلى الرتب، ألا وهي الجهاد! فإن كان الله لم يمنحه القدرة على الرتبتين الأوليين فقد منحه القدرة على الرتبة الثالثة التي هي الأعلى. وقد يسأل سائل متعجباً: كيف؟! والجواب: أن يكون هذا العامي في منظومة جهاد يؤدي دوراً جهادياً يتناسب وما منحه الله تعالى من قدرة، مهما كان ذلك الدور: قتالياً أو مدنياً. حتى لو كان عامل نظافة في تلك المنظومة، بشرط أن يستحضر نية الجهاد في الانتماء، ثم ما عليه مما يؤديه من عمل ينصر به الدين. فالنصرة قسمان: مباشرة : بالذات. وغير مباشرة: بإعانة الناصرين للدين.
تاريخ المؤسسة
تتمثل أهمية بيان نبذة عن تاريخ المؤسسة في إثارة الشعور المطلوب لدى المتلقي ليتحول من مجرد عامل يؤدي وظيفة، إلى شخص آخر يربط بينه وبين المؤسسة رابط روحي وثيق يجعله يعتز بالانتماء إليها لا من حيث جودة بنيانها، وإنما من حيث ربانية وإنسانية كيانها.
إن العمل للقضية شيء، والإحساس بها شيء آخر. ربما يعجب الإنسان بمنظومة معينة فيندفع للعمل فيها. لكن لن يعطي لها زهرة جهده وثمرة فؤاده، ولن يحافظ على وجودها ويسعى في تنميتها وتطويرها ما لم يتملكه الإحساس بقيمتها، ولم يتعرف على ما بذل السابقون من جهد وتحملوا من متاعب وواجهوا من مصاعب في سبيل تأسيسها وإعلاء أركانها وإكمال بنيانها، منذ أن كانت حلماً في الخيال ولمحة في ضمير الغيب حتى خرجت إلى عالم الوجود المشهود.
معرفة تاريخ المؤسسة وسيلة متقدمة لإثارة ذلك الإحساس في نفوس العاملين من المعاصرين واللاحقين. على أن الإحساس لا يكتمل، وأثره لا يتم إلا بالعيش للقضية ومعاناة آلامها. عندها فقط يدرك اللاحقون كم بذل السابقون من جهد، وتحملوا من ثقل، وقاسوا من ألم! لا سيما جيل التأسيس. ويعلمون لمَ جعل I العلاقة بين الطرفين ملخصة في هذه الآية العظيمة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
لقد وضعت سِفرين في تاريخ المؤسسة:
- قصة التكوين بين جيلين. وهذا – لأسباب عديدة – في حاجة إلى زمن ليظهر.
- رواية هكذا تكلم جنوبشت. وتمثل بديلاً ممتازاً – على الأقل في المرحلة الراهنة – عن (قصة التكوين). ولا يضيرها أنها عمل أدبي ينتابه الخيال؛ فمعظم أحداثها وقعت حقيقة. وتمتاز عن السِّفر الأول بأنها تثير الإحساس وتيقظ الشعور وتغذيه وتنميه بصورة أعمق وأوسع وأكمل.
مشروع طويل الأمد
التعامل مع القضية السنية يأخذ مسارين:
أ. العمل الإسعافي لإغاثة المنكوبين والمحتاجين. وهذا – على أهميته – ليس من شأننا من حيث الأصل إلا ما كان في سياق العمل الاستراتيجي. إنما له أهله.
ب. المشروع الإنقاذي: وهذا يأخذ مساراً بعيد المدى. وهو الأصل والأساس والركيزة للإنقاذ الجذري. ومن دونه لن يعدو العمل الإسعافي أن يكون ترقيعاً في شق أوسع من مادة الترقيع، وترسيخ لواقع سيئ، وحركة في مسار متدهور.
بهذا يكون (المشروع السني) هو المصداق الحقيقي لقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). وغيره من الآيات التي توصي بالصبر مع التقوى؛ فإن (المشروع) هو التعبير الحقيقي عن (التقوى)، ولا تتم اتقوى إلا بالصبر الطويل على معاناة الطريق.
الفرق بين المؤسسة الربانية والمنظمة الحزبية
يخلط البعض بين العمل المنظم وبين الحزب وما يعتريه من تحزب وتعصب. ويتساءل: أليس التنظيم يعني تكويناً حزبياً؟ ونقول: إن السؤال بهذا الوضع خطأ. نعم كل حزب منظم، لكن ما كل منظم حزباً. وكل شيء في الكون قائم على التنظيم. ودون تنظيم لن يتحقق هدف، ويمسي التنظير الفاقد للتجسير مع الواقع سيد الساحة.
والصحيح أن نسأل: هل يمكن تحقيق الإنقاذ من دون تنظيم؟
كيف يمكن مواجهة عدو منظم على جميع الصعد بعمل غير منظم؟!
العلة ليست في التنظيم نفسه، إنما في التحزب.
والتحزب تعصب بالباطل للفئة المنتمى إليها. وهذا موجود في الجهات غير المنظمة أيضاً. فالتحزب موجود بين العشائر بعضها ضد بعض، وفي الأوساط الدينية: السلفية والصوفية. وبين المذاهب الفقهية. وبين طلاب شيخ تجاه طلاب شيخ آخر. فما الحل؟ إلغاء تلك الجهات؟ أم علاج التحزب؟ علاج التحزب داخل المؤسسة بالطرق السليمة هو الحل، وليس بإزالة المؤسسة نفسها.
الأممية والأحزاب والمؤسسات العابرة للحدود
الأممية من المشكلات الكبرى للأحزاب والحزبية، التي حرصنا على أن لا ننزلق إليها.
والمقصود بالأممية: تكوين سياسي يتركب من ثلاثة عناصر: شعور بالانتماء إلى أمة ما، ينبثق عنه فكر، ينعكس على الواقع نشاطاً منظماً يتجاوز الوضع القطري دون النظر إلى خصوصية كل قطر على حدة.
تتحول الأممية إلى مشكلة وخطر يعم الجميع ، حين تعبر الحدود القطرية أو المحلية كتنظيم لا كفكرة مجردة؛ على اعتبار أننا كعرب أو كمسلمين أمة واحدة. ويغيب عن البال أننا– في الواقع – أقطار منفصلة عن بعضها. لكل قطر خصوصيته السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية والثقافية. ولم نعد كما كنا من قبل في بعض فترات التاريخ أمة لها كيانها السياسي الموحد، وأوضاعها الاجتماعية المتشابهة.
الأممية في زمن القطرية.. هي أسوأ ما أفرزته الأحزاب في الشرق منذ مئة عام.
تتمثل الأممية – أكثر ما تتمثل – في الأحزاب القومية والأحزاب الإسلامية. وقد تكون نشاطاً وطنياً لا يراعي خصوصيات كل مكون داخل القطر. أما أسوأ أشكال الأممية فأممية الكهنوت الديني، وأسوأه نظام (ولاية الفقيه).
لا بأس أن يحلم المرء بوجود أمة جامعة. لكن الحلم شيء والواقع شيء. فأن تعيش الأممية إيماناً وشعوراً وحلماً جميلاً، هذا من حقك. أما عندما تتصرف فعليك أن تستيقظ وتهبط من فضائك الحالم إلى أرض الواقع. وإلا فمن أصر على أن يعيش حلمه واقعاً أمسى الواقع الراهن الذي يرفضه اليوم بعد حين حلماً يتمناه ولا يلقاه. والقائد نعم حالم، لا بأس، لكن عليه وهو يسبح برأسه في السماء أن يحافظ على موضع قدميه من الأرض. والقاعدة تقول: (فكّر عالمياً، لكن تصرف محلياً).
الأممية القطرية
ثمت قسم آخر من أقسام الأممية هو الأممية القطرية. وذلك حين يضم قطر ما عدة مكونات: قومية أو دينية، ليس من اليسير التلاقي أو الاندماج بين مكوناتها دون مراعاة هذا التباين لبناء وضع سياسي يناسب ذلك. والعراق مثال.
حين تتحول الأممية إلى كارثة
يجد الفكر الأممي نفسه ملزماً بما تفرضه الأممية عليه من واجبات، ومنها نقل (تجربته التنظيمية) بمختلف مستوياتها، حزباً كانت أم دولة، إلى خارج نطاق القطر الذي نشأت فيه، دون أن ينتبه إلى ضرورة مراعاة لوازم متغيرات الواقع الحادثة. وهذا أمر شرعي أصولي؛ فالحكم الشرعي يتغير زماناً ومكاناً وأعياناً.
في ظل هذا التناشز الحاد بين الفكر والواقع يواجه الفكر الأممي مشكلتين كبيرتين:
- اصطدام التكوينات الحزبية بالوضع السياسي للقطر الآخر.
- تعميم (تجربته الفكرية) بكل ما فيها دون الانتباه إلى الفروق الموجودة بين بلد وآخر، التي تقتضي تحويراً في الفكر أو تقديم فكرة وتأخير أخرى تبعاً للتحديات الخاصة. وهو ما نسميه بـ(بلدنة الفكرة/الثقافة). وقد نصصت على ذلك في كتاب (لا بد من لعن الظلام) الذي كتبته في العام الأول من القرن الراهن.
أممية الفكرة وقطرية المؤسسة
تتكون المؤسسة من عنصرين: الفكرة وما يبنى عليها من تكوين منظم.
ليست المشكلة في الفكرة ما لم تتحول إلى مؤسسة أو حزب منظم يتجاوز الحدود دون اعتبار للأوضاع الخاصة بالقطر الآخر.
نحن نؤمن بأممية الفكرة، ونرفض أممية الحزب أو المؤسسة. الفكرة بطبعها عابرة للحدود ولا ضرر منها ما دامت تتحرك في نطاق ثلاثة شروط:
– أنها تلبي حاجة القطر أياً كان.
– تكييفها عند التطبيق بما يتوافق والوضع القانوني والسياسي والاجتماعي للبلد.
– أن يكون العمل بها تحت عين الشمس، وليس في دهاليز (الأحزاب) المظلمة.
خذ مثالاً على ذلك: الفكرة السنية، في مواجهة الفكر الشيعي المتخادم مع إيران. كل الأقطار – وأولها أقطار المشرق العربي – في حاجة إليها. لذا نحن ندعو إليها جميع المتضررين بالفكر الشيعي. أما التكييف التطبيقي فمن شأن كل قطر. حسب ما يتناسب ووضعه السياسي والقانوني والاجتماعي
إن وعينا بهذه الجوانب الدقيقة هو الذي جعلنا نطلق على مؤسستنا اسم (التيار السني في العراق). فهي كفكرة عابرة للحدود، لكن كمؤسسة هي خاصة بنا نحن السنة العرب في العراق. داعين كل متضرر من المشروع الإيراني أن تكون له مؤسسته الخاصة به ضمن الشروط التي سبق ذكرها. وهذه إحدى آليات تجاوز الحزبية في مشروعنا السني. علماً أن كل حزب مؤسسة منظمة وليس كل مؤسسة منظمة حزباً. فالمدرسة مؤسسة، والمستشفى والمصرف والصيرفة، كلها مؤسسات منظمة لكنها ليست أحزاباً.
انظروا إلى جناية الأحزاب القومية عندما رأت – بحكم الأممية – أن لها الحق في تجاوز حدودها القطرية ونقل تجربتها التنظيمية خارج تلك الحدود. غزو جمال عبد الناصر لليمن مثال. كذلك غزو صدام حسين للكويت. وانظروا إلى جناية الأحزاب الإسلامية على نفسها وغيرها للسبب نفسه. الفوضى التي تضرب المنطقة من ليبيا إلى اليمن على يد الإسلاميين مثال لا تخطئه العين.
تحوطات الانزلاق إلى الحزبية
إضافة إلى هذا الوعي الذي يضع الحد الفاصل بين العمل المنظم والعمل الحزبي، وضعنا أربعة أسيجة تحيط بالمؤسسة تحول بينها وبين الحزبية:
السياج الأول: العمل على أساس أن الولاء لله وليس الولاء للمؤسسة. وهذا معناه: الانفتاح بالعلاقة والود مع الجميع: من هو داخل المؤسسة ومن هو خارجها ما دام مسلماً: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:55،56).
أما المخالف في الدين فقسمان:
- قسم مسالم: فنسالمه ونحسن إليه؛ تبعاً لقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
- قسم محارب: نهينا عن موالاته، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
السياج الثاني: السياج الذاتي الذي يقوم على الشمولية في المفاهيم والعمل. فهي مؤسسة تقوم أولاً على المفهوم المدني بكل ما فيه من شمولية في العقيدة والفكر، والإيمان والعمل. والأنشطة المتنوعة: دينية ومسجدية وشبابية وحقوقية وتعليمية ونسوية ورياضية وأدبية وخيرية وغيرها من المناشط التي لا تقتصر على العمل السياسي الذي هو أساس الحزبية.
السياج الثالث: لا يتم الانتقال إلى أي خطوة لاحقة إلا بعد اكتمال بناء الجسم المدني.
السياج الرابع: القيادة العليا هي لمؤسسة الرأس القائد في الجسم المدني. والقوة المهيمنة تتركز بيدها. أما القيادات السياسية والعسكرية مهما علا منصبها فهي قيادات تنفيذية تابعية. بهذا نكون ارتقينا بفكرنا إلى مستوى دولة المؤسسات، لا دولة الحزب القائد. وإلى مستوى الأمة بعد الدولة.
العهـــــد
-
الفرق بين العهد والبيعة
يخلط الكثيرون بين العهد والبيعة.
لكننا نفرق بين هذا وهذه؛ فالبيعة للحاكم الشرعي الممكن له. أما العهد فمَـوثِق يجري بين أي جهتين بينعهما عمل مشترك حتى وإن كانت الجهة متكونة من شخص واحد. كما في:
- العهد الذي كان بين الرجل الصالح والنبي الكريم موسى u على رعي الغنم مقابل الزواج من بنته: (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص:28).
- ومثله العهد بتسديد الدين: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:75-77).
فالعهد وعد بالوفاء بالشرط أو العقد موثق بجعل الله تعالى فيه شاهداً وحفيظاً.
ولا توجد دائرة إلا وبين الموظف والدائرة عهد، ولا عمل تجاري أو سياسي أو غيره إلا وبين الطرفين عهد، لكنه على شكل عقد مكتوب وموقع وموثق رسمياً فيه شرط وشرط مقابل. لكننا لسنا جهة رسمية أو تجارية حتى يمكننا فعل ذلك؛ فنكتفي فيه بالتعهد اللفظي بالعمل حسب الاتفاق تعهداً نشهد الله تعالى عليه. هذا كل ما في الأمر. وليس عقود الوظيفة أو التجارة أو السياسة بأعظم من عقد على إنقاذ أهل السنة وتحريرهم من استعباد الشيعة واضطهادهم.
-
وجوب الإيفاء بالعهد وخطورة نقضه
في القرآن الكريم آيات كثيرة توجب الالتزام بالعهد وتحث عليه، وتحذر من نقضه بعد عقده. يجمع مدير جلسات (الإحاطة) إضمامة منها، مثل قوله جل جلاله:
- (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء:34).
- (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).
- (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:75-77).
وليستحضر العامل لله تعالى أنه مهما كانت منزلته فلن يكون كنبي الله ذي النون u. الذي ترك قومه دون أن يستأذن ربه في ذلك. وكيف يأذن له وهو لما يستكمل ما عليه من واجب تجاههم. ورغم منزلته وقربه عاقبه ربه تلك العقوبة الرعيبة!
(وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (النساء:81).
[1] – حسنه ابن حجر في (فتح الباري). وحاط الشيء، وأحاط بالموضوع عرفه وتناوله من جميع جوانبه.
2- المشروع المدني
المَشرُوعُ المَدَنِي
المشروع المدني: منظومة ذات أنشطة فكرية وعملية متكاملة ومنتجة، تتعلق بإصلاح المجتمع وبنائه وتطويره، قبل أي نشاط يتعلق بالقوة والسياسة.
أولاً: الأنشطة الفكرية
تتعلق الأنشطة الفكرية بما يلي:
- العقيدة المؤسسة
3،2. الحاجة الدافعة والهدف المعيَّن
5،4. الهوية المُعَـرّفة والقضية المحدَّدة
- المنهج المكتوب
ثانياً: الأنشطة العملية
تتعلق الأنشطة العملية برسم الخطط ووضع البرامج وإيجاد واستثمار الموارد البشرية والمادية، مع التنمية والتطوير المستمر لهما في سبيل تنفيذ الخطة وتحقيق الهدف.
وهذا في حاجة إلى:
2،1. قيادة موجهة وإدارة منفذة
4،3. جمهور مستهدَف ومؤسسة راعية
لا بد لهذه الأنشطة – بنوعيها: الفكري والعملي – أن تكون متكاملة تسد جميع الفراغات المهمة في الجهد المبذول. متخادمة يشد بعضها بعضاً ويقويه ويضاعف من نتائجه. تتم في نسق واحد فهي ليست أفعالاً معزولة عن بعضها، ولا متنافرة يضادد بعضها بعضاً. تقوم على تنفيذها مؤسسة ناظمة توزع الأدوار فيما بين أفرادها ودوائرها، كي تؤدي إلى الهدف المنشود. ولهذا وصفنا الأنشطة بنوعيها بأنها (منظومة).
وأما وصف الأنشطة بأنها (منتجة) فمعناه قدرة هذه الأنشطة على تحقيق الهدف. وهو إنقاذ المجتمع من حالة جمعية خطيرة واقعة أو مهددة له، والانصراف إلى إنشاء ما يحتاجه من مؤسسات تحقق مصالحه في شتى المجالات العلمية والعملية، وتحفظها وتنميها وتطورها نحو الأحسن على الدوام.
المشروع المدني في عصر النبوة
مشروعنا رباني: ينطلق من الوحي ويعود إليه. فنحتاج إلى أن نتوقف قليلاً لنتعرف على ملامح المشروع المدني في الإسلام أول ظهوره، كي يكون مشروعنا مبنياً على أساس مكين، لا بصفته الواقعية فقط، وإنما الشرعية أيضاً.
مرّ المشروع المدني في تاريخ الإسلام بثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى .. الفكرة وإعداد القادة :
بدأت المرحلة الأولى بكلمة.. هي (اقرأ) التي تضمنها قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). فكانت (الفكرة) وبناء المفاهيم. والفكرة هي بداية الطريق في مشروع الإسلام العظيم. وتشتمل على:
- الغاية العليا: رضا الله جل جلاله، وتحرير الإنسان من ألوهية هواه وعبودية سواه.
- الإيمان (أو العقيدة الفاعلة): (لا إله إلا الله .. محمد رسول الله)، وهي الأساس.
- الهدف: تكوين دولة ربانية، دينها الإسلام. ولأن التحدي هو الكفر كانت هويتها المميِّزة الإسلام كذلك. عالمية التطلع والامتداد، وإن كانت في بدئها محلية التكون والانطلاق؛ فهذا هو التسلسل الطبيعي للأشياء: العالمية للفكرة، والمحلية للتطبيق ضمن القدرة. تتحقق في هذه الدولة العبودية لله وحده، بتطبيق شريعته والخضوع لأوامره على أساس الإيمان بركنيه: الألوهية والنبوة؛ لإيجاد البيئة التي يتحقق فيها التحرر، ويحافظ فيها على الحرية.
- الهوية، وهي الإسلام. فكان الإسلام ديناً، وفي الوقت نفسه كان هويةً.
- القضية: في الطريق نحو الهدف – وهو إقامة مجتمع مسلم يحمل رسالة ربانية عالمية – قامت المعوقات ووجدت التحديات متمثلة بأهل الباطل الذين استثارهم الحق فكانوا لحملته أعداءً. ونشب الصراع فنشأت القضية استجابةً لتحدٍّ مفروض في واقع مشهود. فكانت عملاً دؤوباً لإزاحة المعوقات ومواجهة التحديات تحقيقاً للمصالح العليا للمجتمع المسلم، وتمكيناً له من أداء رسالته إلى الناس أجمعين.
ويدخل مع التبشير بالفكرة في هذه المرحلة، ومن دون فصل، استقطاب القادة وإعدادهم بتوعيتهم بالفكرة، وتربيتهم بالإيمان، وتهيئتهم بالجهاد.
المرحلة الثانية .. العمل المجتمعي :
لا يمكن أن يتقدم المشروع بعد ذلك دون جمهور واعٍ يلتحم بالقيادة، فكان الانطلاق من المجتمع ومعايشة الجمهور بآماله وآلامه وملامسة حاجاته المعنوية والمادية. وبهذا انتقل المشروع من الفكرة إلى العمل المجتمعي، فحصل التلاحم بين الجهات الثلاث فكانت كالجسد الواحد:
- الفكرة: غايةً وعقيدةً وهدفاً وهوية وقضية.
- القيادة: بكافة مستوياتها، وعلى اختلاف أدوارها والمسؤوليات المنوطة بكل مستوى قيادي.
- الجمهور المسلم.
كل ذلك حسب خطة مُمَرحلة طبقاً للظرف، وتناغماً مع السياق العام.
المرحلة الثالثة .. الكيان السياسي :
تكلل ذلك الجهد الجبار بوجود كيان سياسي مستقل (المدينة): يعبر عنه عمل سياسي، ويحميه جهد عسكري وجيش مؤمن. فكان النصر أخيراً. وكانت دولة الإسلام حقيقةً ماثلة. فتحقق الهدف العظيم صعداً نحو الغاية الربانية المنشودة.
وهكذا نرى أن الجهد العسكري يأتي في آخر السلسلة، قبل الجهد السياسي. كما نرى أن أياً من هذين الجهدين (العسكري والسياسي)، أو كليهما، عاجزان عن بلوغ الهدف وتحقيق ذلك الإنجاز ما لم ينطلقا من أساس مكين. فجاء المشروع المدني جواباً على هذا الإشكال، وخروجاً من هذا المأزق. وجسماً حياً نابضاً ينطلق منه الجناحان الملازمان لحفظ حياته وحيويته: القوة والسياسة.
المهام الأساسية للمشروع المدني
في المشروع المدني:
- تولد الفكرة بالتأمل والتدبر، وتنمو بالرعاية والتعاطي، وتنضج بالتهذيب والتجريب، فتكون المعرفة.. ثم تترك مفتوحة النهايات.
- يومض الإلهام، وينبثق التجديد، ويلتمع الإبداع.
- تنمى القدرات وترعى الخبرات حسب الاختصاص؛ (فكل ميسر لما خلق له).
- تمارس الشورى، وتوضع لها الآليات المناسبة.
- يمارس التقنين والتخطيط، وترسم السياسات.
- توزع المهام على القيادات والإدارات ضمن الهيكلية التراتبية، وحسب النظام الداخلي.
- تُهيأ الموارد وتُنمّى وتستثمر.
- تحدد المراحل وتعطى كل مرحلة ما يناسبها من الأنشطة.
- يتم الإشراف على التنفيذ.
- يقوم رأس المؤسسة أو من ينيبه بتمثيلها في المحافل والدوائر الرسمية داخلياً وخارجياً.
باستحضار ما سبق بيانه لا يبقى سوى:
- تفعيل هذه العناصر على الواقع.
- إعداد القوة المانعة قبل المباشرة بالتعبير عن المؤسسة من خلال القيادة السياسية الفاعلة؛ فسياسة بلا قوة مقامرة بأوراق مكشوفة.
- إعداد القيادة السياسية انطلاقاً من الجمهور واعتماداً عليه، للتعبير عن المشروع.
آلية منع الفساد السياسي والطغيان العسكري والتعصب الحزبي
لكي نمنع الثالوث الخطير: الفساد السياسي والطغيان العسكري والتعصب الحزبي، من اجتياح المؤسسة: دولةً فما دونها، نحتاج إلى ثلاثة أمور أساسية:
الأول: أن تكون القيادة المدنية هي القيادة العليا للمشروع برمته، يستوي في ذلك الحال قبل التمكين وبعده.
الثاني (قبل التمكين): منع ممارسة العمل العسكري والسياسي للمؤسسة قبل استكمال بناء الجسم المدني. إنما هو عمل مجتمعي شمولي يُعنى قدر المَكِنة بحاجات الجمهور على تنوعها: فكرية كانت أم تربوية أم خدمية.
الثالث (عند التمكين): منع تجمع القوة بيد الحاكم السياسي أو القائد العسكري. ومن صور تجمع القوة المعروفة أن يكون الحاكم السياسي هو (القائد العام للقوات المسلحة)، أو تولي السلطة السياسية من قبل المؤسسة العسكرية. يجب الفصل بين السلطتين: العسكرية والسياسية. فلا يتولى العسكري منصباً سياسياً ولا السياسي منصباً عسكرياً. بهذا نمنع فساد السياسي وطغيانه، وطغيان العسكري وفساده.
تكون القيادة العسكرية والسياسية جهات تنفيذية وشوروية، لهما ممثلون في القيادة العليا لوضع الاستراتيجيات السياسية والعسكرية بإطارها الفني، ولغايات شوروية لبناء القرار النهائي، الذي هو قرار مدني بحت.
بهذا يتم ضبط القوتين ولجمهما: العسكرية والسياسية ومنع تحكمهما بالقيادة والفكرة المدنية. أي يحال بين العسكري وطغيان القوة التي منها يولد القائد الصنم، وبين السياسي والانزلاق في دهاليز السياسة، الذي يدفعه إلى التمرد والانفلات عند فقدان الرادع، في غياب القيادة العليا بمشروعها المدني الأصيل وذراعها العسكري الطويل. وعلى هذا الأساس يخرج من دائرة القيادة العليا كل من يوكل إليه ممارسة نشاط سياسي أو عسكري.
التوازن بين القوى الثلاث : المدنية والسياسية والعسكرية
يتكلم السياسيون عن الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويُغفلون ذكر التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية، وهذا لا يقل أهمية عن الأول إن لم يكن أهم منه. يقوم هذا التوازن على مبدأ الفصل بين امتلاك القوة وممارستها. وذلك بتطبيق ما يشبه مبدأ المضاربة في التجارة؛ إذ يفوض مالك المال غيره بالمتاجرة بماله. فالمالك لا يقوم بنفسه بالمتاجرة. والمتاجر يتاجر بما لا يملكه. وهذه قمة التوازن. نلخص ذلك بعبارة ذات صياغة واضحة ومتسقة، فنقول: (من يمارِس السلطة لا يملكها. ومن يملك السلطة لا يمارسها).
هكذا يُمنع الجناح السياسي والعسكري (وهو من يمارس السلطة) من امتلاكها. ويُمنع الرأس المدني (وهو من يملك السلطة) من ممارستها. هذا هو الأساس، وللتحقيق تفصيله.
بهذا نبني دولة المؤسسات: دَولة ولكن بمفاهيم أمة. دَولة لا تكون السلطة فيها دُولة بين الأقوياء، كما لا يكون المال فيها دُولة بين الأغنياء([1]).
النظام السياسي في ( المشروع السني ) .. الأسس والضمانات
الإنسان روح متجسدة في هيكل مادي. قانون كوني اقتضى أن تتجسد المعاني الإيمانية في أشكال مادية نراها ونلمسها. فتجسد الحب الإلهي في الكعبة، وتجسدت الصلاة – التي هي دعاء – في حركات محددة، والتكافل الاجتماعي في الزكاة… وهكذا.
لا بد إذن أن تتجسد السياسة في نظام محدد صالح للتطبيق. وعلى هذا الأساس فإن الذي يترشح للانتخابات في الدول المتقدمة يخوضها وبين يديه نظام سياسي ينطلق منه، وبرنامج انتخابي سينفذه بعد فوزه. ولا يكتفي بالبشارات والوعود.
وطبقاً إلى (الإسلامية) التي يستند إليها الإسلاميون – ونحن في الفكر السني نسميها (ربانية) – عليهم أن يبلوروا، مقدماً وقبل كل شيء، نظاماً سياسياً ربانياً محدد المعالم، فيه ضمانات محددة أيضاً من الفساد الذي يمكن أن يعتري الحاكم أو نظامه، ثم يعرضوا نظامهم على الجمهور ومعه ذلك الضمان.
هذه هي الميزة التنافسية لهم على غيرهم، وإلا فالدين والإيمان يمكن أن يدعيه الجميع. وأرى أن هذا لم يفعله الإسلاميون، مكتفين بالشعار الضبابي الشهير (الإسلام هو الحل)، الذي انساق وراءه الكثيرون دون أن ينتبهوا إلى المفارقة بين الإسلام والمسلم، أي الذي ينادي به. وما هي الأسس الواضحة المحددة التي تقوم عليها سياسة المنادي المستندة إلى الإسلام. هنا يكمن سر فشل الإسلاميين وجمهوهم، حتى عادت (الإسلامية) سبة، وأحد الأسباب الكبرى في نفور الجمهور منها ومنهم.
تحديات النظام السياسي
أعظم التحديات التي يواجهها النظام السياسي في أي دولة اثنان، هما:
- الأول: طغيان القوة واستغلال السلطة: وهو أصل كل فساد في الحكم، وأساس كل ظلم يلحق بالمجتمع.
- الثاني: نقل السلطة من الحاكم السابق إلى الحاكم اللاحق: فإذا لم يتم الانتقال بطريقة سلسة بعيدة عن العنف تعرضت الدولة: حكومة وشعباً إلى أزمة قد تودي بها إلى كارثة.
مقدماً لا بد من بيان أن الإسلام لم يقيد العقل بنظام محدد للحكم (ملكي، جمهوري، رئاسي، وزاري…) وترَك ذلك للناس يختارون من الأنظمة ما شاءوا بشرطين:
- تطبيق الشريعة، ومنه: البناء على الأسس التي أمر الله تعالى بها في سياسة الناس من الشورى والعدل ورعاية مصالح العباد في المعاش والمعاد.
- عدم الاصطدام بتعاليم الإسلام الثابتة التي جاءت للتأبيد لا لظرف معين.
وهذا يعني أن المجال مفتوح للعقل المسلم أن يضع ويختار من الأنظمة السياسية ما يشاء داخل ذينِك الإطارين.
رؤية أولية في آلية نقل الصلاحية أو مسؤولية القيادة في ( الفكر السني )
حتى اللحظة لم ينتج العقل البشري أفضل من النظام السياسي الوراثي بكل أشكاله. ففيه يتم انتقال السلطة من السابق إلى اللاحق بصورة عادة ما تكون سلسة آمنة. وفيه يتم تأهيل الحاكم منذ صغره وتدريبُه على القيادة وحسن التعامل مع الشعب. إن هذه المزايا متحققة في النظام الوراثي بنسبة أفضل بكثير من الأنظمة غير الوراثية التي تمتاز بضعف استقرار النظام وكثرة الانقلابات، واستشراء الفساد بنسبة أكبر مما هي عليه في الأنظمة الوراثية.
لكن هل النظام الوراثي هو السقف الأعلى لما يمكن أن يبلغه العقل البشري، ولا مطمع في أن يبلغ ما عداه؟ آخذين بنظر الاعتبار أن النظام التوارثي العائلي يوفر غطاء وفرصة تترصدها النفوس الضعيفة من الحواشي والحاشية في غيبة الرقيب لأن تثري وتتجبر على حساب الآخرين. وهذا وارد ومشاهد، وإن كان في كل الأحوال أقل سوءاً من الجمهوريات.
والجواب: لا.. ونعم.
لا، ليس من سقف؛ فالله تعالى يقول:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف:76)؛ فلا حدود لعقل الإنسان لأن يطور ويبدع ويكتشف ويخترع.
ونعم، هناك سقف؛ إذا أعدنا تدوير توارث السلطة بصورة ثانية.
والسؤال الحتمي: كيف؟ والجواب – في رأيي – أن ذلك يقوم على مبدأين:
- مبدأ التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية.
- مبدأ التوارث المؤسسي لا العائلي.
-
مبدأ التوازن بين القوى الثلاث .. والفرق بين القائد والرئيس
أما مبدأ التوازن بين القوى الثلاث فقد بيناه آنفاً. وأضيف هنا فأقول:
في هذا النظام يكون (القائد) هو الرمز الحقيقي للشعب/الأمة، والرجل الأول في الدولة، ورأس المنظومة المدنية التي تمثل القيادة العليا. يمارس القيادة – وليس السلطة – بالتوازن مع المنظومة العليا التي تتشكل منها مؤسسات رقابية ذات صلاحيات دستورية تحفظ (القائد) من الجنوح نحو التسلط. وذلك كله يجري طبقاً لقاعدة (من يملك السلطة لا يمارسها، ومن يمارس السلطة لا يملكها)، التي سبق ذكرها قبل قليل.
والفرق بين القائد والرئيس أن الرئيس يكون على رأس المنظومة السياسية التنفيذية، وليس على رأس القيادة العليا، إنما هذا حق (القائد). ويمارس الرئيس السلطة السياسية ولا يملك قرارها الأعلى. إنما هذا حق المنظومة أو القيادة المدنية العليا. وإلى جانبه رأس المنظومة العسكرية الذي يمارس السلطة العسكرية ولا يملك قرارها الأعلى. ويجري تغييرهما على فترات ليست طويلة تحدد في حينها.
أما بقية الأمور من الدستور والنظام الداخلي وتفاصيل الآليات والمؤسسات الرقابية وغيرها، فتأتي في حينها كما هي طبيعة الأمور.
-
مبدأ التوارث المؤسسي
إن هذا المبدأ، مع مبدأ (توازن القوى)، يمثلان نقلة نوعية في الفكر السياسي العربي. ونعترف أن مبدأ (التوارث المؤسسي) ما زال في حاجة إلى دراسة معمقة تبلوره بصورة أقرب إلى المنهج العلمي القابل للتطبيق العملي. ولكن طرحته على من معي، وأجريت نقاشات عديدة حوله، وتكونت لي فيه رؤية عامة تصلح لرسم مسار قابل للتطوير في المستقبل إلى نظام حكم يتم نقل السلطة فيه بطريقة أرقى.
لجنة نقل الصلاحية ، وتهيئة المرشحين للقيادة
إن نقل الصلاحيات في المؤسسة، أو السلطة في الدولة.. يتم من خلال لجنة خاصة دائمة تُنتخب من بين أعضاء الهيئة المدنية العليا، تقع على عاتقها تهيئة المرشحين للقيادة، وتعيين الأنسب من بينهم قبل خلو المنصب بفترة مناسبة، ثم نقل المهام القيادية إليه عندما يلزم الأمر، مع تدريب جميع المرشحين على تلك المهام قبل ذلك.
إن هذه الآلية تحقق لنا ثلاث نتائج عظيمة:
- تهيئة القائد لأن يكون صالحاً للقيادة، وتعيينه كقائد قادم قبل فترة مناسبة من رحيل القائد الراهن.
- منع الفساد العائلي.
- نقل السلطة بسلاسة وهدوء.
هذه هي (الميزة التنافسية) – من بين ميزات عديدة – لسياسة (المشروع السني). وهذا هو النظام السياسي الضامن لتحقيق الأهداف والشعارات.
نظام به نجسد الربانية السياسية في هيكل سياسي بارز للعيان، ونخرجها من عالم الأحلام والوعود إلى عالم الواقع المشهود.
كما أننا بهذا النظام نبني دولة المؤسسات: دَولة ولكن بمفاهيم أمة. دَولة لا تكون السلطة فيها دُولة بين الأقوياء، كما لا يكون المال فيها دُولة بين الأغنياء، ولا العلم دولة بين العلماء.
الحكم المدني .. أمثلة من الواقع
كثيراً ما تختلط المفاهيم بسبب اللفظ الاصطلاحي الدال عليها. ومنها مفهوم (الحكم المدني). لقد تبين لي في ضوء الحراكات الشعبية في بعض الدول العربية: السلمية منها والمسلحة، أن الفهم السائد لمعنى (الحكم المدني) و(المشروع المدني) مختل لدى القطاع الأكبر من الجمهور العربي.
ولهذا آثاره الخطيرة، التي تجعل من أي تغيير في نظام الحكم تغييراً يرجع بالمجتمع غالباً إلى الوراء، حتى إن الناس بعد مرور فترة من الزمن يتمنَّون لو أنهم لم يسعوا إلى إزالة النظام السابق.
قبل أن نباشر الدخول في محاولة حل عقدة هذا الإشكال نود أن نطرح الأسئلة التالية:
– ما تعريف المدني بالمفهوم السياسي؟ هل هو غير العسكري؟ فكل من لم يكن عسكرياً هو مدني؟
– هل مفهوم العسكري لا يمكن أن يتداخل أو يدخل ضمن مفهوم (المدني) بالمعنى الحضاري الشامل للمفهوم؟ وبلفظ آخر: هل العسكري هو القسيم المقابل للمدني.. كالليل والنهار، والحر والبرد؟
– بالمختصر: ما تعريف المدني؟ وما تعريف العسكري؟
– هل معنى الحكم المدني أن تؤول إدارة الدولة إلى يد غير العسكري، وحسب؟
– أخيراً.. هل لدى الجماهير الثائرة ونخبها القائدة أجوبة واضحة عن الأسئلة السابقة؟
ما جرى ويجري يثبت أن المشكلة في أصلها هي هي في كل الحراكات (جمع حَراك) التي عمت المنطقة العربية منذ سنة 2003 وحتى اليوم. إنها ظاهرة حتمية تعود إلى غياب الوعي لدى الجمهور: عامة ونخباً، وافتقاره للمقومات التي تؤهله للقيام بمثل ما نصَب له نفسه من مهمة تنوء بحملها الجبال.. وهي تغيير النظام والإتيان ببديل أفضل؛ لهذا آلت أمور الحراكات في المنطقة كلها إلى ما ترون!
العلة إذن في الجمهور نفسه بمن فيه، ومنهم القيادات. إنه ينظر إلى الهدف النهائي أو النقطة الأخيرة في المسار، ولا ينظر إلى المسار نفسه: كيف يقطعه للوصول إلى النهاية! كونك صاحب حق تطالب به، ليس الشرط الوحيد لكي تنجح في الحصول عليه ما لم تسلك السبل الصائبة للوصول إليه، وما لم تكن مؤهلاً للتصرف السليم بذلك الحق بعد حصولك عليه.
ويتوجب الأمر أكثر حين تخرج الحالة من الحق الخاص إلى الحق أو الهدف العام. هذه أمور تتعلق بحقوق الغير، والغير هنا هو الشعب؛ فلا ينبغي أن تسلّم مصائر الشعوب إلى كل من رفع راية للمطالبة بها ما لم يكن رشيداً يملك رؤية صائبة للهدف وطريقة الوصول إليه. وإلا فإن الله تعالى أمر بالحجر على اليتيم فلا يسلم حقه حتى يبلغ الرشد ويحسن التصرف به، فقال سبحانه: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء:6).
ما تطلبه حق، لكن الباطل يكمن في التوقيت، حتى تتحقق الأهلية. وإلا فالقادم أسوأ!
مفهوم ( الحكم المدني ) .. هل هو مفهوم ؟
آخر الأمثلة على هذا الخلل الخطير، وحاجة الجمهور إلى بلوغ الرشد في معرفة وتمثل هذا المفهوم ومفاهيم أُخرى كثيرة.. الحراك السوداني بعد الانقلاب العسكري على الرئيس عمر حسن البشير في نيسان/أبريل 2019([2]). يطالب الجمهور المتظاهر بشيء اسمه (الحكم المدني)، ويريده بعيداً عن سيطرة العسكر. ويترجمه عملياً بالمطالبة بأن يكون للمدنيين نسبة كافية من التمثيل مع العسكريين في إدارة سياسة الدولة؛ بناء على السقف الأدنى لتطبيق مفهوم (الحكم المدني) المنشود. وأحياناً يعبر عن ذلك بالمطالبة بأن تسلم إدارة سياسة الدولة إلى يد (التكنوقراط).
كلام يبدو في ظاهره متماسكاً! لكنه في حقيقته يعكس نسبة كبيرة من سوء الفهم لهذين المصطلحين (المدني والتكنوقراط) لدى الجمهور. فالحكم المدني عنده مفهوم سطحي: وظيفي لا حقيقي، كمي لا نوعي. لا يعني أكثر من أن المدني عكس العسكري.
إذن ما يعنيه الجمهور بالحكم المدني.. يقف عند إشراك عدد من المدنيين يقارب عدد العسكريين في إدارة سياسة البلد. عندها تكون المشكلة قد حُلت. وهذا معنى ساذَج لمطلب سياسي خطير.. لا يرقى إلى أدنى مستوى للحل!
ما مشكلة العسكر ؟
إن مشكلة العسكر تكمن في أنه الجهة الأقوى في المعادلة؛ لأن القوة الفاعلة بيده لا بيد المدنيين. وعلى هذا الأساس.. لو افترضنا أن العسكر استجاب لمطلب الجمهور إلى أبعد الحدود فكان المجلس الحاكم مؤلفاً من عشرين مدنياً وعسكري واحد.. فإن الكفة تبقى راجحة إلى جانب العسكر؛ لأن القوة الحقيقية بيده. وفي هذه الحال يمسي العدد مجرد رقم أجوف لا يمكنه تغيير الواقع على الأرض؛ لأنه منزوع القوة.
هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية فإن وجود العسكر ضرورة يستحيل الاستغناء عنها في كيان أي دولة. بل إن العسكر في لحظات تاريخية معينة يكون هو العامل الأوحد في معادلة التوازن المجتمعي، وإلا انزلق المجتمع إلى فوضى لا يعلم نهايتها إلا الله جل في علاه. ما حصل في مصر بعد تنازل الرئيس حسني مبارك في شباط/فبراير 2011، مثال واضح. والسودان مثال آخر.
ثمت أمر آخر لا يقل أهمية وخطورة!
إن تسليم السلطة إلى غير العسكريين لا يمنع احتمال خضوع البلاد إلى أسوأ نظام استبدادي للحكم. كونك غير عسكري في وظيفتك لا يعني أنك مدني في عقليتك وطريقة تفكيرك وسلوكك. هذا معنى شعبي ساذَج، ليس له أساس علمي يستند إليه سوى قول الناس: فلان عسكري، وفلان مدني؛ فرسخ لدى الجمهور هذا المعنى السطحي. وحين يكون هذا هو مفهوم (المدني) لدى الشعب.. فأيُّ كارثة تنتظره على كل الاحتمالات! سيظل ينتقل من حكم لا يرضاه إلى حكم أسوأ منه.. في دورة لا تنتهي، ما لم تعالج الأسباب المؤدية إلى ذلك. أو يتدخل العسكر – على ما فيه – لمنع البلد من الانزلاق إلى الفوضى.
تقليم مخالب العسكر
من المفارقات اللافتة للنظر أن حاجتنا للعسكر.. كما أن مشكلة العسكر تكمن في شيء واحد… هو القوة! فما العمل إذا كانت المشكلة في الحاجة التي تريدها؟! أو كانت الحاجة إنما إلى المشكلة التي لا تريدها؟!
ما الحل والحالة هذه؟
الحل صعب، أو مستحيل، عندما نفتقر إلى آليات فاعلة لصنع موازنة دقيقة بين الحاجة إلى القوة، وبين المشكلة المنبثقة عنها. لكنه سهل ميسر في وجود تلك الآليات.
وآليات الموازنة تقوم على وجود أنظمة متطورة وقوانين راقية وأجهزة رقابية ذات صلاحيات فاعلة بحيث يستفاد من القوى العسكرية والمدنية والسياسية جميعاً، دون طغيان إحداها على الأخرى. وهذا في حاجة إلى مجتمع مثقف وقيادة واعية. ودون ذلك فإن قوة العسكر تبقى هي المهيمنة، ولو كانت القيادة كلها غير عسكرية.
وفي هذه الحال ستنشأ – ولا بد – علاقة مصلحية متبادلة بين الرئيس (المدني في ظاهره) وبين المنظومة العسكرية؛ يتحول فيها الرئيس إلى طاغية، والشعب الذي ثار إلى قطيع. ثم يعود الشعب إلى الثورة في أقرب فرصة تسنح له، ويعود الوضع المضطرب إلى حاله الذي كان عليه… وهكذا في حتمية دورية لا تنتهي، ما لم ينهض مشروع تجديدي كبير على كل المستويات، بما فيها المستوى المدني والسياسي والعسكري. وهذا يتطلب زمناً لتنضيج المشروع.. ما لم نكن مستعدين لدفعه (أي الزمن) كثمن لا بد من دفعه مرة واحدة مهما طالت السنين.. سنظل ندفعه في كل مرة ضمن تلك الدورية الحتمية. ومن هنا أدركنا أن (المشروع المدني) الذي به يتم (تمدين المجتمع) كله حتى الجيش هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة المتقدمة الراقية.. الدولة العادلة الرحيمة.
إن الثقافة والوعي والقوانين والأجهزة الرقابية، هي التي تجعل من أقوى جيش في العالم، (الجيش الأمريكي مثال)، جيشاً يخدم المجتمع المدني، ويحفظه، ويحافظ عليه. وإن التخلف، وغياب الوعي، وضعف القانون، وعدم وجود أجهزة رقابية، وحصر السلطة بيد الرأس، هو الذي يجعل جيشاً ضعيفاً يتحكم في رقاب الشعب على طول الخط (والجيش الإيراني مثال).
مفهوم الحكم المدني
المدنية مفهوم حضاري.
وهو ترجمة حرفية للفظ الغربي المتعارف عليه (Civilian). ومعناه مدني أو حضاري. وارتباط المدني بالحضاري – تاريخياً – ناتج عن كون أول مدينة بنيت في أوربا كانت على ساحل البحر في جنوب إيطاليا، وذلك على يد العرب الفينيقيين. أما البقية فكانوا يسكنون الكهوف في الشمال. كان ذلك قبل الميلاد بقرون كثيرة. وكلمة (ساحلي) تلفظ بالعربية الفصحى (ساحليٌّ Sahilion)، وبالسريانية (ساحِلْيا Sahilia). ثم أصبحت في اللاتينية والإنكليزية وغيرها من اللغات الأوربية (Civilian).
والمدنية – بالمفهوم الحضاري – تعني أن ننظر إلى المفهوم نظرة نوعية لا كمية أو وظيفية.. نظرة تغوص في عمق المعنى لتجعله في متناول الفهم، وقاعدةً لتشخيص المشكلة، ننطلق منها لوضع الحل المناسب. عندها ندرك سذاجة ذلك الفهم الذي يقصر المدني على غير العسكري بصورة مطلقة. فإن كان عسكرياً فليس هو بمدني بكل اعتبار ولو بالاعتبار الحضاري!
الحقيقة.. أن الحكم المدني هو ما كان فيه كل شيء مدنياً في معطياته ونتائجه، وإن كان عسكرياً في شكله ووظيفته. وعندها ندرك أن الخطوط الفاصلة بين المصطلحين (المدني والعسكري) إنما هي على الصعيد الوظيفي وحسب. أما على صعيد المفهوم الحضاري فلن تجد لتلك الخطوط أثراً إلا بمقدار تحدده معطيات الواقع ثم تذوب الخطوط.
أجيال الهزيمة
في غياب المشروع المدني والمفهوم السليم لمصطلح (المدني والمدنية).. يكون مصيرنا كمصير بني إسرائيل يوم تاهوا في الأرض أربعين سنة، ولم ينتفعوا بوجود قائد هو من أعظم القادة بين الأنبياء عليهم السلام، الذي جازاه شعبه أذى وعصياناً وعقوقاً. وقد سجل القرآن العظيم ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) (الأحزاب:69)، وذلك في سياق تهيئة هذه الأمة لتسلم الأمانة الربانية واستلام زمام قيادة البشرية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:70-72).
ومثلُ بني إسرائيل مع موسى عليه السلام كان شيعة الكوفة مع علي رضي الله عنه. وما يغني القادة (وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:101-103). وفي ذلك درس عظيم، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
جيل النصر
يوم يتم تفعيل عناصر هذا المشروع، ويتكامل الربط بين أجزائه جميعاً، يكون قد ولد فينا (جيل النصر)، الذي يستعصي على القوى الخارجية، والداخلية أيضاً، أن تمنعه من الوصول إلى هدفه، أو أن يقطف ثمار جهده بنفسه لنفسه. أو أن يضطر قادته لأن يكونوا عملاء أو أجراء عند غيرهم. وعندها لن يقاتلوا بعد اليوم بالنيابة عن الأعداء – كما هو الحال التي وجدنا عليها أمتنا منذ مئة عام – ولن يكونوا ضحية لمشاريع الآخرين. وهذا بعد عناية الله تعالى ورعايته.
هذا باختصار مقصودنا بـ(المشروع المدني) المفقود أو الذي بدأ يضعف ويضمحل منذ بدء اضمحلال دولة الإسلام ثم زوالها قبل حوالي مئة عام، الذي نسعى لتأسيسه وتحقيقه في واقع بلدنا محلياً، ثم في محيط أمتنا عالمياً. مستنيرين بكتاب ربنا جل جلاله وسنة نبينا e المطهرة وسيرته العطرة. عاملين بالحكمة القائلة: (فكر عالمياً.. وتصرف محلياً). مترقبين ساعة النصر، وما هي على العاملين المخلصين ببعيد.
[1]– ولا يكون العلم فيها دُولة بين العلماء.
[2]– من مميزات مشروعنا أنه مفتوح النهايات. ولهذا هو يتطور ويتغير.. نضيف إليه ونحذف منه باستمرار. ونحن أول وأولى من يجب عليه ويحق له تطبيق ذلك، وتحويل شعار (مشروعنا مفتوح النهايات) إلى عمل. فكان هذا التاريخ المتأخر مقارنةً بتاريخ الانتهاء من النسخة الأولى لـ(المنهاج).
التيار السني في العراق
( 3 )
التَّعريفُ بالمؤَسّسَة
( التيار السني في العراق )
لا بد للمشروع.. أي مشروع، من جهة راعية: تؤسسه وتبنيه، وتَربُّهُ وتنميه، وتشرف عليه وتطوره وتغير ما احتاج منه إلى تغيير، بفعل توالي الزمن وتتابع التحديات وتجدد العلم والحوادث والاستجابة المناسبة لشتى المواقف والمتغيرات. ألم يقل الله جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). وفي موروثنا الديني: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها)([1]).
وهنا مفترق طريقين؛ فمشروع يبحث أصحابه عن جهة من خارجهم تقوم به: دولة أو مانح أو ما شابه ذلك. وهذا لن يستمر طويلاً لأنه عرضة لمزاج تلك الجهة. ومشروع ينبثق عن الجهة التي وضعته وأسسته، مرتكزها المادي والمعنوي ذاتي، منها وفيها وإليها.
من هنا انبثقت الحاجة لإنشاء المؤسسة الراعية للمشروع، على أن تكون ذاتية داخلية، لا غيرية خارجية. وذلك على وجه الضرورة التي لا تقبل المساومة البتة. فكانت مؤسسة (التيار السني في العراق) هي الراعية لمشروع (الطريق إلى بغداد). وهو الاسم الذي اخترناه عَلَماً على المشروع السني في العراق. فبغداد هي المثابة التي عندها ومنها يعلن الانتصار بعون الله الجبار جل جلاله.
الاسم : التيار السني في العراق
مؤسستنا ليست حزباً أو جماعة أو هيئة أو أي كيان آخر محدود بفئة معينة من أهل السنة، إنما هي تيار جامع وشامل لجميع أهل السنة في العراق، لا سيما العرب منهم؛ وذلك لوقوع الحيف الأكبر عليهم، وتعرضهم للتهميش والتذويب أكثر من غيرهم. لكننا لم نقيد الاسم بالعرب فقط حتى يكون المجال مفتوح الباب أمام أهل السنة من الأعراق الأُخرى الراغبين بالتواصل والتعاون وتبادل الآراء تحت مظلة (السنة)، دون الانتماء العضوي؛ فذلك مخالف لقاعدة (أممية الفكرة ومحلية المؤسسة). من هنا جاء اختيار هذا الاسم (التيار السني في العراق). كما أن في الاسم إشارة إلى أن التيار السني ينبغي أن يكون حيثما تعرض أهل السنة إلى الخطر في أي قطر، وليس في العراق فحسب، فنحن تيار من تيارات السنة محله العراق، ولسنا التيار السني الوحيد.
تيار سني في كل قطر
طموحنا أن تتأسس (تيارات سنية) تنتشر في كل قطر مسلم: عربي وغير عربي، فيه وجود شيعي لمواجهة هذا الطارئ الغريب على نسيج الأمة، الخطير على وجودها. لا سيما في المشرق العربي (الآسيوي) الذي يضم (الأحواز ودول الخليج العربي واليمن والعراق والشام)، تضاف إليه مصر، ولا بد. مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية كل قطر: السياسية والقانونية والاجتماعية، على قاعدة (أممية الفكرة وقطرية المؤسسة)، التي سبق بيانها في فقرة (الإحاطة)؛ حتى لا نقع فيما وقعت فيه الأحزاب من إشكالات وإساءات لغيرها ولنفسها.
إن قضية المشرق العربي الأولى شرقيةٌ لا غربية. والقضية السنية هي قضية الماضي والحاضر والمستقبل في هذا العالم الكبير، الذي يمثل في وزنه المعنوي والواقعي – عدا مصر – ثلاثة أرباع الأمة.
القضية السنية هي القضية الوحيدة الرابطة بين شطري العالم العربي؛ فالمغرب العربي (الإفريقي) لا يمكنه وحده مواجهة التحدي الغربي دون المشرق العربي. إن التحدي الغربي (أمريكا وأوربا وروسيا) مرتبط بالتحدي الشرقي (الشيعة وإيران). ولا يمكن لدول المشرق أن تؤدي دورها في إعانة دول المغرب العربي أمام الغرب قبل حسم معركتها مع الشرق.
القضية السنية هي القضية الجامعة التي تربط بين قضية المشرق العربي وقضية المغرب العربي. وفي غيابها عن ذاكرة الأمة غاب الرابط الجامع فتشرذمت وتفرقت في قضاياها؛ فأمسى لكل قطر قضيته المنفصلة عن قضية القطر الآخر، وغزيت دول المشرق في عقر دارها غزواً واحتلت احتلالاً أشد وأنكى من احتلال الاستعمار الغربي فيما سبق.
التيارات السنية في كل قطر أصبحت ضرورة حتى في فلسطين. لن تتحرر فلسطين ما دام المشرق العربي يرزح تحت نير الاستحلال الشرقي. وشتان بين احتلال واستحلال!
الهويــــة
الهوية: ما ميزك عن غيرك عند الحاجة، والتحدي أهم مفردات الحاجة.
المؤسسة: تكوين جماعي منظم. يستند إلى فكرة ومنهج مكتوب، ويتألف من مقر وقيادة وإدارة وأعضاء لتنفيذ أنشطة مبرمجة تحقيقاً لأهداف محددة.
بناء على هذه الأسس نقول:
مؤسستنا ربانية، سنية، عراقية. اتخذت من مواجهة الخطر الشيعي والخطر الإيراني قضية لها، تتعامل معها طبقاً لمعطيات الواقع، ومقررات الوحي بضوابطه الأصولية. ومشروعها رباني، يتبنى قضية عراقية، بهوية سنية.
– رباني: يرجع إلى الوحي الإلهي طبقاً للضوابط الأصولية.
– سني: يتخذ من كلمة (السني) وصفاً ملازماً له، للدلالة على كينونته الذاتية المميزة له؛ إذ إن أعظم ما يواجهنا من تحدٍّ هو الخطر الفارسي المجوسي الشيعي. خطر يستهدف الشعوب المسلمة، الذين يجمعهم اسم (أهل السنة)، لا سيما العرب منهم. ولأن الهوية لا تحتمل كثرة الأسماء أو الأوصاف والألقاب؛ لا بد إذن من اختيار اسم واحد من بين الأسماء الثلاثة يمكن له أن يمثلها جميعاً دون ذكر الاسمين الآخرين. فكان اسم (السنية) هو المختار؛ لأنه الاسم الوحيد من بينها الذي يجتمع فيه التميز والتناقض الصميمي مع المجوسية والفارسية والشيعية في آن واحد. وإن قيل: إن في الفرس سنة فكيف تعتبر (السنية) ضداً للفارسية؟ كان جوابنا: إن السنية تُخرج الفرس السنة من معادلة الاستهداف والمواجهة، كما تدخل العرب الشيعة في المعادلة. وبهذا تكون (السنية) خير قاسم مشترك بين (أهل السنة) على اختلاف قومياتهم وأقطارهم.
على أن الدين ثابت، والهوية متحركة، أي تتغير حسب نوع التحدي؛ فلا يكون الدين هوية ترفع كعلامة مميزة إلا عند التعريف بدين المتكلم: فرداً أو جماعة، أو تعرض للخطر بسبب دينه الخاص. وبهذا تكون (السنية) هوية سياسية، نسترد بها حقوقنا ونحافظ عليها من الاستلاب من قبل أعدائنا. ولا يلغي كونُ الهوية سياسية المظهر كونَها دينية الجوهر، أو أي حقيقة أُخرى يقوم عليها تكوينها([2]).
– عراقي: له قضيته وخصوصيته العراقية التي ينطلق منها. ويتعامل مع قضايا الأمة في مختلف أقطارها على أساسها.
المشكلة
خطر الشيعة وإيران، وضعف الوعي السني به في الداخل والخارج. وهذه المشكلة ذات طبيعة تاريخية وجغرافية قابلة للتمدد: زماناً ومكاناً، وليست آنية.
الرؤية
رفع الظلم عن أهل السنة في العراق والدول التي يتهددها الخطر الشيعي والإيراني. والحفاظ على هويتهم وحماية دينهم وتحقيق مصالحهم وتمكينهم من امتلاك قدرتهم وحقهم في البناء والتطوير المدني والحضاري لبلوغ القمة التي تليق بهم من بين الأمم.
الأهداف ( المرحلية والبعيدة )
- تمكين أهل السنة من حكم مناطقهم، وتقرير مصيرهم بأنفسهم.
- استعادة الهوية السنية لبغداد.
- عزل الشيعة عن السنة: سياسياً بإقليم (خيار ستراتيجي).. وإلا فجغرافياً بالتقسيم (خيار مرحلي يرتبط بظرفه).
- استعادة حكم العراق من يد الشيعة.
- العمل على تحرير الشيعة من التشيع: عقيدة وعقدة.
- تفكيك إيران.
- ثم لكل حادث ومرحلة حديث، في تحقيق المصلحة ضمن ضوابط الشرع ومقتضيات الواقع.
تسنين السنة وتشييع الشيعة
حتى ينقل الإنسان قدمه ليخطو إلى الأمام يحتاج إلى أن تكون القدم الثانية قد استقرت ثابتة، وإلا تزحلق وسقط.
على هذا الأساس يكون العمل على تسنين الشيعة قبل (تسنين السنة وتشييع الشيعة) حالة عبثية.
تسنين السنة
البيئة السنية تعاني من ظاهرتين:
- شيوع المفاهيم الوطنية في البيئة العراقية. وتوهم أنها منتجة لبناء شراكة وطنية مع الشيعة. ومثالها: تسمم الثقافة الجمعية بمقولة “لا فرق بين شيعي وسني؛ نحن أبناء وطن واحد”. مقولة نظرية تجريدية بمعنى الكلمة، مستخلصة من تعميمات سطحية وقياسات لا منطقية، لا شاهد لها يصدقها لها على صعيد الواقع البتة. بل الواقع يشهد علناً بكذبها، وأن البيئة السنية تحولت بسببها إلى حقل تجارب لا يُلتفت إلى كارثية مخرجاتها! فوق أن التجربة التاريخية قبل 2003، ثم التجربة الميدانية بعد 2003 أثبتت هزلية هذه المقولة مع الشيعة. ولو غادر الوطنيون السنة لبرهة فضاءات أوهامهم وتصفحوا أي مصدر للدين الشيعي أو رسالة عملية لأي مرجع من مراجعهم لوجدوها تعج بما يتناقض مع الوطنية والمواطنة والانتماء للوطن. النتيجة الوحيدة التي خرجنا بها من التجربة التاريخية والميدانية، ومن المعرفة بدين الشيعة: على صعيد المصادر والمراجع هي أن القوم يتخذون من هذه المقولة وأمثالها حقن تخدير لتغييب أهل السنة عن الواقع، ثم القفز على ظهورهم ودق الخوازيق فيهم!
- اختلاط المفاهيم الشيعية في نسيج الثقافة السنية. ومثالها البسيط تقديس العائلة العلوية، وتحويل مفهوم (أهل البيت) من النبي e إلى علي.
وتسنين السنة يقوم على معالجة الظاهرتين معاً، على صعيد المفاهيم وعلى صعيد الواقع. لإيجاد بيئة صحية جديدة خالية من مخلفات الغزو الشيعي: الثقافي والاستيطاني، قديماً وحديثاً. هذا أولاً. وثانياً: تتمتع بمستوى عالٍ من التحصين منعاً لتكرر ظاهرة الاختراق الشيعي وهيمنتهم عليها وسيطرتهم على شؤونها وتحكمهم بمسيرها ومصيرها من جديد في أي فرصة تسنح لاحقاً.
وهذا يتحقق بتفعيل وتنفيذ الفقرات (1-4) في فقرة (الأهداف المرحلية والبعيدة).
تشييع الشيعة
هذه أولى الخطوات في سبيل تحرير الشيعة من عقدهم وعقائدهم. الذي نأمل تحوله إلى حقيقة في الجيل الثاني أو الثالث، حسب العمل المحكم في معالجة الظرف المتحكم.
يتحقق هذا الهدف (تشييع الشيعة) بتحويل الشيعة من تشيعهم المغلظ الذي هم عليه اليوم، إلى تشيع مخفف أقرب إلى دين الإسلام منه إلى دين المجوس. وبهذا تتوفر بيئة مناسبة لعملية تسنينهم عبر الأجيال اللاحقة.
ربانيون .. لا إسلاميون
لم نصف مؤسستنا بـ(الإسلامية) وأبدلنا بها صفة (الربانية) لأربعة أسباب:
- الأضرار المرافقة لاسم (الإسلامية) من حيثيتين:
الأولى: ارتباط وصف (الإسلامي) في الذاكرة الجمعية بإساءات جلبتها الأحزاب الإسلامية؛ فتحول هذا الوصف إلى سابقة ذهنية في حس الجمهور تؤدي إلى النفرة من كل شيء تعلق به، لا سيما في العراق.
الثانية: توهم الكثيرين من أتباع الأحزاب الإسلامية قدسية الحزب وكل ما كان موصوفاً بهذا الاسم، مثل (جماعة إسلامية، حزب إسلامي، تاريخ إسلامي)؛ فيكون الحزب وكل ما وصف به عندهم فوق النقد. وهذا ناشئ من الخلط بين لفظ الإسلام ولفظ الإسلامية. رغم أن اللفظ الأخير لا وجود له في أي نص معتبر في الشرع. وهذا يحللنا من حرج التخلي عنه. وقد يكون هذا الخلط وراء جاذبية شعار (الإسلام هو الحل)، الذي يرفعه الإسلاميون خصوصاً أيام الانتخابات. فلا يفرقون بين الإسلام والإسلامية. ومما يلطف ذكره ما روي من أن أحد الظرفاء قال: نعم، الإسلام هو الحل ولكن أنتم المشكلة!
- ورود كلمة (رباني) في النص الإلهي عكس (الإسلامي).
- الفرق في الأثر الإيماني المتولد في النفس من الكلمة بين الإسلامي والرباني. والأمر لا يحتاج أكثر من التلفظ بالكلمة لتجد الفرق بين وقع الكلمتين في نفسك.
- 4. اقترانها حيث وردت في النص الإلهي ببيان وطيفة الرباني في الحياة، وتنقسم إلى أربع مهام:
أ. تعليم الكتاب ودراسته: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).
ب. تحكيم الشرع: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة:44).
ت. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (المائدة:63).
ث. القتال في سبيل الله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146).
وهذه (النصية مع الوظيفة) ميزة لصفة (الرباني والربانية) لا تملكها صفة (الإسلامي والإسلامية). فكيف وقد صارت مصحوبة بمفاسد لا يستهان بها!
على أن في الأمر سعة، ولكن هذا خيارنا.
فكر عالمياً .. فكّر قومياً .. فكّر وطنياً .. لكن تصرف محلياً
من أجل تحقيق التوازن بين الفكرة (هوية ورؤية وهدفاً) من جهة والواقع من جهة ثانية، نتبع القاعدة الربانية التالية: “فكّر عالمياً، وتصرف محلياً”. أي: على قدر نجاحك محلياً يكون نجاحك عالمياً، فيكون البدء بالبلد، وتحديداً من الإقليم السني، هو المنطلق لتأسيس مشروع على مستوى الأمة: العربية والإسلامية، آخذين بنظر الاعتبار الأقرب فالأقرب.
المشروع والمؤسسة
كيف السبيل إلى تحقيق أهدافنا؟
لا يمكن الوصول إلى أهدافنا إلا من خلال مشروع تضعه وتشرف على تنفيذه وتنميته ورعايته مؤسسة ناظمة بقيادة ناشطة واعية.
والمشروع في أصله يقوم على ثلاث دعامات:
- الهوية: بداية
- الهدف: نهاية
- المحور الواصل بين الهوية والهدف ويتكون من خطين متلازمين:
أ. الخطة المرسومة
ب. البرامج المعمولة
مراحل المشروع
عملياً يمر المشروع بثلاث مراحل:
التحصين التكوين التمكين
النواة الصلبة البؤرة الجاذبة الكتلة الغالبة
فكــــر عمل اجتماعي عمل سياسي محمي بالقوة
-
مرحلة التحصين
أي تحصين السنة في داخل العراق وخارجه خصوصاً، وتوعية العراقيين عموماً بجميع طوائفهم وأديانهم وأعراقهم بالخطر الشيعي والإيراني، ودفعهم باتجاه مواجهته أولاً، والتمسك بحقوقهم ثانياً. وهي المرحلة التي يتم فيها نشر الفكرة، وترسيخ الهوية، وتأهيل القادة. وهي مرحلة بناء (النواة الصلبة).
-
مرحلة التكوين
وهي المرحلة التي ينتقل المشروع فيها من (الفكرة) إلى (العمل الاجتماعي) الذي يلتحم به الجمهور بالقيادة من خلال التفاعل الإيجابي مع حاجاته وهمومه وقضاياه. وهي مرحلة بناء (البؤرة الجاذبة). وفيها نسعى لتحقيق شيئين:
أ. القاعدة القائدة
ب. العمق الجماهيري الساند
وهي المرحلة التي يكتمل فيها بناء (الجسم المدني)، الذي منه – لا من سواه ولا قبله – ينبثق الجناحان: السياسي والعسكري.
-
مرحلة التمكين
وهي المرحلة التي يتم الانتقال فيها من (العمل الاجتماعي) إلى (العمل السياسي) المحمي بالقوة. أي مرحلة انبثاق الجناحين: السياسي والعسكري من الجسم المدني. وهذا هو الذي يؤهل المؤسسة لقيادة السنة. وهي مرحلة بناء (الكتلة الغالبة).
معادلة توحيد القوى المتكافئة
النواة الصلبة البؤرة الجاذبة الكتلة الغالبة
القوى المتكافئة متنافرة .. قانون كوني
المتبادر إلى ذهن معظم الناس أن العمل لتحقيق الهدف يبدأ من وحدة القوى العاملة على الساحة. وهو ليس أكثر من تصور ذهني سطحي جميل. أما على صعيد الواقع فإن هذا التصور خطأ ستراتيجي خطير يجعل من يؤمن به يراوح في مكانه من (المهد) إلى اللحد!، وتكون نهايته الإحباط فاليأس فالقعود.
إن “القوى المتكافئة متنافرة”.. قانون من قوانين الاجتماع تدل عليه كل التجارب التاريخية والراهنة؛ فما اجتمعت القوى المتقاربة في حجمها إلا بقوة جامعة من خارجها. فإن ما بين القوى المتكافئة من أسباب الخلاف والاختلاف ما يكفي لمنع التوحد والائتلاف. وهذه القوة الجامعة ينبغي أن تكون من الفاعلية والتأثير بحيث تتمكن من ضم شتات تلك القوى تحت جناحها: رغبة ورهبة.
إذن.. العمل على توحيد القوى المتكافئة دون وجود تلك القوة الجامعة سعي وراء هدف مستحيل التحقق. والهدف المستحيل ليس بهدف.
بهذا يتبين أن.. “توحيد القوى نتيجة وليس مقدمة”.
فما العمل؟ أو ما الحل؟
الحل يكمن في أن تنمو إحدى القوى ذاتياً حتى تتحول إلى ما نسميه (الكتلة الغالبة). وذلك وفق الخطوات التي تمثلها المراحل الثلاث للمشروع المذكورة آنفاً.
معادلة توحيد القوى
معادلة توحيد القوى إذن تسير وفق المعادلة التالية:
ينبغي أن تنمو القوة الجامعة نمواً ذاتياً طبيعياً، بحيث تنطلق – بعد التوكل على الله – من نفسها، لا من الاعتماد أساساً على جهة من خارجها؛ لأن الاعتماد في أساس القوة على الخارج يجعل القوة الجامعة تابعة لتلك الجهة، منفذة لرؤيتها وإيحاءاتها وأوامرها ومشروعها. فتكون (عميلة) لها، حسب المصطلح السياسي الحديث؛ عن وعي وقصد مسبق. أو عن غير وعي، فالنتيجة واحدة.
لا بأس بالتعاطي مع القوى الخارجية واستثمار العلاقة معها للبناء والتكوين الداخلي، والنمو الطبيعي حسب المكنة الذاتية، لا النمو السريع القائم أساساً على دعم القوى الخارجية. والحذر الحذر من (المال السياسي) فإنه الخطر عينه!
موقفنا من الآخرين في الداخل والخارج
مشروعنا يتفاعل ويتعامل مع كل المشاريع، والجهات الأخرى: دينية وغير دينية، مسلمة وغير مسلمة، ويتعاون مع أصحابها على البر والتقوى؛ ما توفرت ثلاثة شروط هي: أن لا يتعارض ذلك مع منهجيته الربانية، أو قضيته السنية، أو خصوصيته العراقية. يقول تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2).
موقفنا من العروبة
نرى أن العروبة أحد عناصر المشروع. وهذا يتضح بما يلي:
- العروبة أو العربية – في مفهومنا – عربية لسان ونطق لا عربية نسب وعرق؛ فالبشرية في أصلها واحدة، ولسانها في أصله واحد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء:1). ثم تباعدت في أوطانها عبر الزمن ومقتضى الحاجة فصارت شعوباً متعددة الألسن مختلفة الثقافات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). فمن تكلم العربية فهو عربي، ومن تغير لسانه فإلى لسانه ينسَب.
- حب المرء قومه والتعلق بهم فطرة احترمها الإسلام، واستثمرها في سبيل تقوية الروابط وصلة الأرحام فقال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75). وتأسيساً على هذه الرابطة تنشأ الدول.
- من حق العربي أن يعتز بقومه وينتمي إليهم ويخصهم بصلته ويقف معهم بنصرته. وذلك من حق الكردي أيضاً، وكذلك التركي والفارسي والأذري، وبقية الشعوب.
- شيء واحد محذور عقلاً ومحظور شرعاً، هو أن لا يخرجك حبك لقومك عن الحق والعدل، ولا يدخلك في باطل أو ظلم.
- عروبتنا ليست عرقية عنصرية، بل فطرية إنسانية شرعية. تقوم على أساس أن الناس سواسية في أصل الخلقة، وفي نقطة الشروع. وعلى أساس أن من أحب العرب فهو منهم روحاً ووشيجة. بل المجال أمامه مفتوح لأن يكون خيراً من عربي هو دونه في مقياس التقوى والعمل.
- اختار الله تعالى العرب لتنزل الرسالة الخاتمة، فكانوا حملتها الأولين إلى الأمم، ثم شاركتهم بقية الشعوب في حمل الرسالة، وأحبتهم وتعاونت معهم، إلا منافقي الفرس وشيعتهم؛ وذلك لكرههم في الحقيقة لدينهم. لأجل هذا كان كره جنس العرب من النفاق، وحبهم من الإيمان.
- إن عدونا الشعوبي بشقيه الإيراني والشيعي يعادينا كعرب وليس كمسلمين فقط.
- إن العراق مهدد في هويته وانتمائه العربي.
- في آخر الكتاب تفصيل عن موقفنا تجاه الكرد والقضية الكردية، وباقي القوميات.
[1]– هذا الحديث ضعيف المتن والسند. وسأفصل ذلك عند نهاية الفقرة في ملحق خاص به.
[2]– سنتكلم عن الهوية والهوية السنية بالتفصيل في فقرة (فقه الهوية).
التقاء السنن الربانية في المشروع السني
التِقاءُ السُّـنَنِ الرَّبانِيةِ
فِي المَشرُوعِ السُّـني
التِقاءُ السُّـنَنِ الرَّبانِيةِ
فِي المَشرُوعِ السُّـني
يقول جل جلاله : (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات:21،20).
يعمل المسلم ويقيم مشروعه الرباني وعينه على شيئين:
- التوافق مع سنن الشرع.
- والتوافق مع سنن الكون.
فإذا تم التوافق في أبعاده الثلاثة فهو على الحق. وإلا كان عليه إعادة النظر فيما يعمل وما يبني من مشروع.
إن قوانين الله تعالى أو سننه في كونه واحدة، لكنها تتخذ مظاهر متعددة. مثلاً: قانون (الكتلة الصغيرة تنجذب نحو الكتلة الكبيرة)، قانون كوني عام يشمل الحياة في عوالمها المنظورة وغير المنظورة في النفس والآفاق والاجتماع والسياسة والعسكرية. وهو قانون معروف من قوانين الفلك والفيزياء، ومعبر عنه رياضياً بدقة. لكنه في كل مجال وعلم يتخذ مظهراً يناسبه. فالجرم الصغير كالقمر يدور حول الجرم الكبير وهو الكوكب، والكوكب ينجذب نحو الشمس، والشمس نحو المجرة… وهكذا.. هذا في عالم الفلك. والإنسان ينجذب بطبع نفسه إلى من هو أكثر منه علماً فيتبعه، ويخضع لمن هو أقوى منه سلاحاً أو أعلى منه رتبة عسكرية فيطيعه. وأقرب مثال دوران العالم في فلك أمريكا. والفقير يدور حول الغني: فرداً ومجموعاً في عالم الاجتماع. والشخصية الآسرة – إذا انتفت الموانع – تجذب حولها من هو اقل منها آسرية. والجميل مصدر جذب كبير لمن حوله. هذا في مجال عالم النفس.
وسنة الله في شرعه تلتقي بسنته في كونه؛ وسنة الشرع هي قول الله وأمره، كما أن سنة الكون هي فعل الله وخلقه. وقول الله لا يناقض فعله، ولا أمره خلقه.. ولا العكس.
إذن حين يلتقي المشروع: منهجاً وبرنامجاً مع سنة الله في كونه فاعلم يقيناً – كتحصيل حاصل – أنه يتفق مع شرعه؛ فأنت على صواب، وأنت على حق. فامض لما أنت عليه، ودعك من المخالفين والمخذلين والمتخاذلين: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (النمل:79-81).
لنأخذ على ذلك مثالاً من النفس.. جسم الإنسان.
( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) .. جسم الإنسان مثالاً
مكونات جسم الإنسان الرئيسة: رأس وقلب وأعضاء وزيادات.
يمثل الرأس القيادة الأعلى للجسم، بقسميه: غير المنظور (وهو العقل الذي يمثل القائد الأعلى)، والمنظور (وهو الدماغ الذي يمثل منظومة القيادة العليا).
ويمثل القلب القيادة الميدانية للجسم.
أما الأعضاء فتمثل الإدارات التنفيذية.
وهناك زيادات: منها ناتج طبيعي، ومنها تالف: طبيعي أو مرَضي.
جسم الإنسان بأجزائه الأربعة، يمثل المشروع بشقيه: المدني وغير المدني. اذا استحضرته في ذاكرتك كنت على بصيرة دائمة من المشروع. وإليك التفصيل..
-
العقل:
الرأس فيه شيئان: منظور وهو الدماغ. وغير منظور وهو العقل.
العقل – مستعيناً بمؤثرات أُخرى – يحدد مسار الإنسان في حياته. ذا يكون معلماً، وذا فلاحاً، وذا عسكرياً… وهذا ينحو إلى الإلحاد فيميت الروح، وهذا يختار الايمان بفسح المجال للروح لـتأخذ مسارها في إنعاش نفس الإنسان والتحليق بها نحو فضاءات لا تحد من العلو الإيماني.
والعقل هو الذي يقرر متى يستعمل الإنسان رأيه، ومتى يجنح إلى يديه؟ وهكذا بقية القرارات بلا استثناء.
العقل يمثل القائد الأعلى وقمة الهرم في القيادة المدنية للمشروع. هو الذي يحدد المسار الكلي بالشورى التشاركية مع أهل الشأن.
وإليه ينتهي القرار في توجيه القوة العسكرية والقوة السياسية الناشئتين من الجسم المدني، وليس العكس كما هو الواقع، ويقرر متى يستعمل هذه ومتى هذه.
وهو مصدر الإلهام الفكري، ومنبع الحنان الأبوي، والاحتواء الأخوي لأعضاء المؤسسة، والاستيعاب الكلي لهم ولغيرهم.
وهو مغرس الأمل الجميل، ومبعث الحلم اللذيذ. يحلق بالواقع إلى آفاق جديدة فيكتشف الحقائق في فضاءاتها، ويستشرف المستقبل في آمادها. لكن مع هدهدة الواقع فيسحبه مرة ويطلقه أُخرى لتتزن المعادلة السديدة بعنصريها: الحلم المحلق المتجدد والواقع المدقق المقيد.
أعظم جهاز رقابي
والعقل يمثل أعظم الأجهزة أو المؤسسات الرقابية فيما يتعلق بالإرادات والقرارات وضبط الأهواء والرغبات، وكل ما يُعنى بالمعاني المشاعر. وإلى جانبه جهاز رقابي آخر يعنى بالجزء المادي من الإنسان هو الدماغ. فهو الذي يضبط كل ما يتعلق بالجسم من حركة وتفاعل عن طريق الأعصاب وغيرها من النواقل. في دائرة رائعة من التكامل مع الأطراف، يستلم منها المعلومات ثم يحللها ويرسل القرار السليم إليها. وبمحاكاتها نكون قد وضعنا الأسس الراسية للأجهزة الرقابية في الدولة المرتقبة.
-
الروح
لا بد للعقل أن يكون حراكه منضبطاً بإيقاع الوحي، وحكمه مسدداً بمسار الشرع. وهذا معنى كون مؤسستنا ربانية ومشروعنا ربانياً. وهنا تأتي الروح متربعة على عرش العقل لتعطيه معنى الربانية الخالد، وتمنحه تحليقاً على تحليق وتسديداً على تسديد (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور:35).
-
الدماغ
الدماغ هو أشرف عضو في الجسم، يسيطر على حركات الجسم الإرادية وغير الإرادية والواعية وغير الواعية. ويفسر ما يثير حواسه الخمس من محفزات.
يمثل الدماغ – ومن فوقه العقل – في المشروع القيادة العليا التي لها الهيمنة والرقابة والمتابعة والتغيير والتعديل والتشريع ورسم السياسات، تناغماً مع واقع الناس، وقاعدة البيانات الراجعة.
يماثل الرأس في الجسم مرحلة التحصين في (المشروع) الذي يقوم على إنشاء جهاز قيادي أعلى. كما يماثل – من ناحية أُخرى – (النواة الصلبة) في معادلة (توحيد القوى).
-
القلب
روى البخاري عن النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله e يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
يتميز القلب عن بقية الأعضاء بأن علاقة الدماغ به تنظيمية لا تحريكية. تنتج حركته من نبض ذاتي مستقل كلياً عن الدماغ، وذلك من نقطة قرب اتصال الوريد الأجوف العلوي بالأذين الأيمن. أما دور الدماغ فيقتصر على السيطرة والتنظيم طبقاً للحاجة: تسريعاً بواسطة العصب السمبثاوي (sympathitic)، وتبطيئاً بواسطة العصب الباراسمبثاوي (Parasympathitic). وقد تظهر مرَضياً أكثر من بؤرة نبضية في القلب، تستدعي علاجاً قد يصل الى حد التداخل الجراحي. وقد دلت بحوث حديثة على أن للقلب شبكة عصبية تشبه الدماغ في صلتها بالتفكير. ولا عجب فقد قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46).
يمثل القلب القيادة الميدانية (القاعدة القائدة) التي ينبغي أن تفكر وتجتهد وتتصرف ذاتياً ولكن ضمن سقف محدد تحت إشراف القيادة العليا تسريعاً وتبطيئاً، وهي تبث الحياة في الجمهور السني، أو (الحاضنة الساندة)، من خلال أعمال مجتمعية نافعة. على أنه لا يسمح لبروز استقطابات وتكتلات خارج نطاق القيادة الميدانية المتفق عليه، وخارج إشراف وتنظيم القيادة العليا للمشروع.
يمثل القلب بذلك مرحلة (التكوين) – بشقيها: القاعدة القائدة والحاضنة الساندة – في (المشروع السني)، و(البؤرة الجاذبة) في معادلة (توحيد القوى). ومرحلة (التكوين) أهم مرحلة في المشروع. إذا صلحت صلح المشروع كله، وإذا فسدت فسد المشروع كله. وهي ما يفتقر اليها سنة العراق والمنطقة كلياً.
على القائد الميداني أن:
- يعمل بطريقة تجمع بين اللامركزية والمركزية؛ فهو حر يجتهد ويستجيب للتغيرات الحادثة والطارئة، ولا يظل جامداً خامداً هامداً ينتظر الأوامر تفصيلياً من فوق. وذلك ضمن الضوابط والمجال المسموح به من هناك.
- ويتخلص من صفة الإبنوية الكلية التي تعطل الحركة، إلى صفة الأبوية المنضبطة بالأبوية العليا. ولنا دليلاً على هذه القاعدة قصة الطفيل بن عمرو الدوسي نموذجاً واضحاً يؤتسى به.
-
الأعضاء
تختلف أعضاء الجسم عن القلب في أن علاقتها بالدماغ علاقة اعتمادية كلية: تحريكاً وتنظيماً، وليست هي تنظيمية فقط، كما هو الحال مع القلب.
أعضاء الجسم في حاجة إلى إيعاز من الدماغ لتبدأ بالعمل: حركة وحساً. فالعضلات المحركة لا تتحرك ابتداء ما لم يصلها إشارة من الدماغ بواسطة الأعصاب الحركية (Motor nerves)، ومواضع الإحساس ليس لها قدرة على تفسير ما يثير الشعور بالألم والحرارة والنعومة والخشونة وغيرها من أنواع الشعور ما لم تستلم تفسيراً بذلك من الدماغ عن طريق الأعصاب الحسية (Sensory nerves). وجميع الأنشطة الخادمة للجسم الصادرة من الأعضاء المختلفة كالكبد والكلى والجلد والأوعية الدموية لا تتحرك ولا تنظم حركتها إلا بإيعاز من الدماغ يحكمها كلياً.
تمثل الاعضاء الادارات التنفيذية الدنيا للمشروع السني، بأجهزتها وأقسامها. ويأتي الجناح العسكري في مقدمة الإدارات التنفيذية. ويمثلها من الأعضاء اليد الباطشة، والقدم الرافسة. ومعه الجناح السياسي الذي يمثله من الأعضاء اللسان والشفتان الناطقة، محكومة بالعقل منضبطة به.
وهنا تمت مرحلة التمكين، وتكونت الكتلة الغالبة.
بهذا يتبين أن الجهد العسكري والسياسي ليس أول الجهود، بل يكاد يكون آخرها: توقيتاً ورتبة. وهذا يلتقي مع النظرية السياسية في (مشروعنا) القائمة على قاعدة (من يمارس القوة لا يملكها، ومن يملك القوة لا يمارسها). فالتقت السنة الكونية بالسنة الشرعية؛ إذ لم يمارس النبي e العسكرية والسياسة إلا في الثلث الأخير من حياة النبوة.. بعد أن أتم بناء الجسم المدني. بينما الذي عليه الفكر السائد، وما يترتب عليه من عمل ساند، جعْلُ هذين الجناحين في أعلاها.
في إحدى الورش كنت أتكلم عن المشروع ومراحله. ضحك أحد الشباب عندما وصلت إلى نهاية مرحلة التكوين وبداية (التمكين) وقال: “إي! وهنا يأتي العسكري، و(القائد العام للقوات المسلحة) ليستحوذ على كل شيء”! ابتسمت وقلت: اطمإن؛ وضعنا لهذه المفارقة الكارثية علاجها في مشروعنا. وشرحت له نظريتنا السياسية، القائمة على قاعدة (من يمارس القوة لا يملكها، ومن يملك القوة لا يمارسها). وعقبت: لم تأت هذه القواعد المتقدمة عفواً، أو نتيجة تفكير عابر، إنما هذا نتاج سنين من المعاناة والنظر والتفكير في الواقع.
-
الزيادات
الزيادات قسمان:
- قسم: هو نافع يكمل الجسم ويجمله كالشعر وزيادة الظفر.
- قسم: هو ضار يجب التخلص منه. وهذا قسمان أيضاً:
أ. قسم: هو ناتج لازم لأنشطة الجسم وعملياته الأيضية، كالعرق والزفير وما شابه.
ب. وقسم: هو: إما توالف طبيعية يجب التخلص منها، مثل قلامة الظفر والشعر المتساقط ، والخلايا الميتة التي تعوض يومياً بخلايا حية. وإما حالات مرَضية، مثل الأورام الحميدة والخبيثة، والزائدة الدودية الملتهبة، والطحال إذا تحول إلى مدمر لخلايا الدم الحمر في بعض حالات الدم المرضية.
تمثل الزيادات النافعة في (المشروع السني) وجود أشخاص ولجان أو ما شابه تقدم خدمات تكميلية، كالاحتفال والدعاية والكلمة الطيبة في صالحه، وأنشطة أُخرى مشابهة.
والزيادات الضارة فتتمثل في الجانبين: المعنوي والمادي. أما الجانب المعنوي فيتمثل في الأفكار القديمة العاطلة (التي لا نفع فيها) والباطلة (التي تضر ولا تنفع) التي يسميها البعض ثوابت (مثل الوطن، الشيعة العرب، قصر مفهوم الفقيه على فقيه الفروع، البدء بالعسكري والسياسي). ويتمثل الجانب المادي في الأشخاص العاطلين عن أي نشاط نافع، والباطلين الذين يثيرون المشاكل داخل الصف: فردياً، أو جماعياً عن طريق التكتلات المضادة للخط العام لمسار المشروع.
المعارضة الإيجابية ليست من الزيادات
أما المعارضة الإيجابية فلا يتطور مشروع دون وجودها. هي كالعضو الذي يطلق الألم علامة تنبيه على مرض يتطلب علاجاً. الجسم الميت هو الجسم الوحيد الذي لا يتألم. والقاعدة، التي استخلصناها من قصة الهدهد في نظام سليمان u، لتشجيع هذه الحالة الصحية وتنظيمها، تنص على أن (الخروج عن النظام خدمةً للنظام نظام).
لا ينبغي لأحد أن يبغي على أحد بسبب اختلاف المراتب
لا يصح شرعاً وعقلاً وأدباً أن يبغي صنف لرتبته على صنف أدنى منه رتبة. لا ينكر أحد حاجة الجسم إلى الظفر وأهميته ضمن تكوينه، ولا يثبت عاقل قيمة قلب مفصول عنه. يقول الكاتب المختص في علم (الإدارة) روبين سبكيولاند: أعلن الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1960 أن على الأمة أن تلزم نفسها بتحقيق هدف قبل انتهاء هذا العقد هو إنزال رجل على القمر وإعادته سالماً.
واستجاب الجميع لهذا النداء. أراد أحد الصحفيين أن يعرف مدى تأثير رؤية الرئيس على العاملين في وكالة (ناسا)، فقام بزيارة مقر الوكالة، فلاحظ المهندسين والعلماء يعملون بسرعة محمومة، ولكن أكثر شيء أثار دهشة الصحفي هو عامل النظافة الذي كان يمسح الأرض. توقف الصحفي وسأل عامل النظافة: ماذا تفعل هنا؟ عندها رفع عامل النظافة هامته ونظر إلى عين الصحفي مباشرة، وقال: (أنا أساعد في إرسال أول رجل فضاء إلى القمر)([1]).
كن ظفراً في مشروع. ولا تكن دماغاً أو قلباً مفصولاً خارجه.
مصدر الخلل
يشيع الخلل إلى المجتمع من مصادر ثلاثة:
- حين يغيب العقل أي الرأس المدني المفكر المسيطر بأجهزته المدنية على الجمهور فيهمل المشروع المدني، قفزاً إلى العسكري أو السياسي. كانت المقاومة، في حقيقتها، أشباحاً، لا يظهر منها سوى يد تكبس أو قدم ترفس وسط الظلام ثم تختفي بسرعة. لهذا ارتبط وجودها – كنتيجة تلقائية غير مقصودة – بالمحتل؛ اختفت باختفائه ورحلت برحيله. والمفترض – كنتيجة طبيعية مقصودة – أن تظهر لا أن تختفي بزواله! لقد كانت في واقع الأمر مجرد شبح بيد وقدم، لا جسم له!
- أو يوجد الرأس المدني، لكن يكتفي بالعلم والثقافة ونشرهما دون الانتقال إلى مشروع بجسم مدني وجناحين: عسكري وسياسي.
- أن تغيب الربانية، فتنشأ دولة مدنية خارجة على شريعة الإسلام.
الصبر
جمع الله تعالى ما يريده من المسلم بشيئين: التقوى والصبر، وذلك في عدة مواضع من كتابه الكريم، منها: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90).
المشروع برمته يمثل جانب التقوى. فلم يبق إلا الصبر لجني ثمار المشروع.
أساس الصبر اليقين بصواب العمل؛ قال جل جلاله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3). فأمر المؤمنين – بعد اليقين بكونهم على الحق – بالصبر على دفع المستحق. ومثله قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام:58،57). فجعل (البينة) – وهي أحد تعبيرات (الحق) – هي الأصل، فإذا كنت على بينة من أن مشروعك صائب، فما عليك إلا التذرع بالصبر، وأنت ماضٍ في العمل بمشروعك قدماً لا تستعجل قطاف الثمر، وإلا كانت النتيجة – كما قيل – (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه).
كثيراً ما يسألني الناس: كم معك من الأتباع؟ وماذا أنجزتم على الأرض؟ فأقول لمن يسألني: لن أجيبك عن هذا؛ لأنه ليس هو الجانب المهم في الموضوع. إنما المهم هو السؤال عن: كون المشروع يمتلك شروط الحق والصواب أم لا؟ فإذا كان باطلاً فدعه ولو كان أتباعه بالملايين. وإن كان حقاً فما الواجب تجاهه حتى لو كنت وحدك في الميادين؟ فيسكت البعض، ويجيب البعض: إذا كان المشروع حقاً فلا محيص عن حمله وتبنيه. فأقول له: فافترض أنه ليس في المشروع غيري وغيرك واعمل على هذا الأساس بما هو واجب عليك. وليس من شرط أحقية الشيء أن يخلو من كل خطأ، إنما الشرط هو صواب مساره العام، والمجال مفتوح للتصويب.
ثم لا بد حتماً من أن يبدأ المشروع بواحد ثم ثانٍ وثالث… وهكذا حتى يتم الله أمره. لكن للسابقين منزلتهم، أولئك الذين ما تبنوا المشروع وحملوا القضية إلا لذاتها؛ لقد كانت بذرة في ضمير الغيب قبل أن تكون شجرة في عالم الشهادة. وهذه هي ميزة المؤمنين المتقين: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة:3). وهنا أتذكر ما رواه مسلم وغيره عن عمرو بن عبسة t قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان. فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرءاء عليه قومه. فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: (أنا نبي)، فقلت: وما نبي؟ قال: (أرسلني الله)، فقلت: وبأي شيء أرسلك،؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء). قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: (حر وعبد). قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. فقلت: إني متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)([2]).
( وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) .. مكة والمدينة مثالاً
انظر إلى أرض مكة: هل كان يخطر ببال أحد أن تكون منطلقاً لمشروع عالمي؟ ولقد وقفت في ميدان معركة (أُحد) فقادني المشهد لأن أطرح السؤال نفسه!
وها هو اسم النبي صل الله عليه وسلم مقروناً بذكر الله جل جلاله يلف الأرض والسماء في كل لحظة! ولكن اسأل عن مبتدإه قبل منتهاه!
متى قال الله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح:4)؟ وقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3)؟ ومتى تحقق ذلك فنزل قوله تعالى: (ِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) (النصر:2،1)؟ ومتى استعمل النبي e القوة والسياسة لتحقيق النصر؟
وفاز الحر والعبد، ولكن فوزاً دونه فوز من تأخر فصعب عليه أن يتدارك ما فات.. وانتصروا ولكن نصراً دونه نصر الآخرين! (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10).
كان الحُرُّ أفضل الأمة طراً!
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في العبد: (حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَل عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلامِ، فَإِنِّي سمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَديَّ في الجَنَّة)([3])! وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في الحر والعبد: (أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا)([4]).
الواقع
الناظر إلى الواقع اليوم يجد الشعب السني عبارة عن أعضاء مقطعة. يراد لصقها أو دمجها بأي وسيلة. السياسي يلصق ولكن بغراء، والعسكري يدمج ولكن بهراوة.
وإنما نحن في حاجة إلى طبيب يستعمل الدواء الناجع، ويربط الأجزاء بدقة ورويئة.
نعم نحن مشروع عالمي أممي. لكن عالميتنا مرتبطة بنجاح محليتنا. ونجاح محليتنا مرتبط بشيئن: صواب المشروع، والصبر على تحمل الأعباء. هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أمر جل جلاله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (الروم:60). وهكذا نرجو أن نكون ما دمنا موقنين بصواب ما نحن عليه، وأننا على (حق) وعلى (بينة).
لقد التقت سنة الله الكونية وسنة الله الشرعية في (مشروعنا). وحين تلتقي السنتان في أمر فاعلم أنه صواب.
[1]– http://www.nlpnote.com/forum/246977-post1.html
[2]– صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[3]– رواه البخاري، 2/53، عن أبي هريرة. مصدر سابق.
[4]– رواه البخاري، 5/27، عن جابر بن عبد الله. مصدر سابق.
مفهوم الأمة بين الفكرة والواقع
( 5 )
مَفهومُ الأمَّةِ بينَ التنظير والتجسير
من المفاهيم التي أمست اليوم في حاجة ماسة إلى المراجعة مفهوم (الأُمة).
إن هذا المفهوم من حيث المنزلة الدينية هو فكرة نقدسها، وعقيدة نؤمن بها. يقول ربنا سبحانه بعد ذكره موكباً عظيماً من الأنبياء والصالحين، ابتدأه بموسى وهارون، واختتمه بزكريا وزوجه وعيسى وأمه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).
لكننا عندما ننظر إلى الواقع الذي يكتنفنا، نجد مفهوم (الأمة) لا يعدو كونه:
- فكرة مشرقة في الذهن بحاجة إلى تمثيل.
- وحلماً جميلاً في الخيال بحاجة إلى تأويل.
لقد جردنا – دون أن نشعر – الفكرة عن واقعها والحلم عن حقيقته، فوقعنا في مفارقة كبيرة يدفع ثمنها الأغلبية من جماهير الأمة لصالح أقلية ترفع شعار (الأُمة) بصورة لا ترى فيها إلا نفسها. بمعنى أنها تطالب الأُمة بحقوقها عليها، ولا تطالب نفسها بالواجبات المترتبة عليها تجاه (الأمة)!
القطرية المفرقة .. لا الأمة الجامعة
والآن.. اسرح ببصرك نحو الأفق هل يرجع إليك بغير أقطار ودويلات تفصل بينها حدود وضعها المستعمر؟ وبإمكان كل فرد ينتسب إلى الأمة أن يكتشف عند الحد الفاصل أنه لا أمة خارج نطاق الذهن والحلم. وأن بقاءه في بلده – لو توفر له الأمن – خير له، من جوانب كثيرة، من عيشه بين إخوانه في تلك الأقطار والدول والدويلات.
وأهل كل بلد من هذه البلدان – عربية كانت أم إسلامية – مشغولون بهمومهم، ولهم أفكارهم، بحيث ينظرون إلى همك الخاص من خلال تلك الهموم، ولا غير، ويريدون أن يخضعوا أفكارك الخاصة بقضيتك التي في بلدك إلى تلك الأفكار، ولا بد. ومن الصعوبة البالغة أن تزحزحهم عن شيء من ذلك. وأظن أن هذا شيء طبيعي ما دامت الحدود تفصل بيننا وتمنع أبناء الأمة من أن يعيشوا معاً ويختلطوا ببعضهم، فيتشاركوا الهموم ويتبادلوا الأفكار.
النتيجة أنك تُجبر على أن تعيش في عزلة نفسية وفكرية تنعكس على علاقاتك ووضعك الاجتماعي الجديد. وكثيراً ما تمارس الصمت والوجوم أو الابتسام والتصنع إزاء ما ترى وتسمع! عند هذه النقطة تماماً يتبادر إلى ذهنك السؤال الخطير: أين الأمة؟
عندذاك تكتشف أن الأمة المقطعة الأوصال لا وجود لها خارج نطاق المفهوم الذهني والحلم الخيالي، وخارج نطاق بعض الأفراد المتميزين الذين يمتلكون طاقة هائلة لتجاوز فلك القطر عبر الحدود نحو فلك الأمة. وهؤلاء لا غيرهم – في رأيي – هم الأمة اليوم.
مع هذا الاكتشاف المؤلم تكتشف شيئاً آخر أكثر إيلاماً، هو أن بعض الجهات تتكلم باسم الأمة، وترفع شعار (الأُمة) بصورة لا ترى فيها إلا نفسها. بمعنى أنها تطالب الأُمة بحقوقها عليها، ولا تطالب نفسها بالواجبات المترتبة عليها تجاه (الأمة)! هذا والأمة في دوامة الركود الفكري لا تدرك هذه المفارقة الأليمة اللئيمة. فما العمل؟ وما الحل؟
فكّر أممياً .. وتصرف محلياً
عندما ننظر إلى الشرع والمبدأ من جهة، وإلى الواقع والمصلحة من جهة، نجد أن الحل الشرعي الواقعي المنصف هو أن نتبع المعادلة التالية: (فكّر عالمياً “أممياً” وتصرف محلياً)، فإن نجاح عالميتك بنجاحك أولاً في محليتك.
إذن قضيتي القطرية – بل الإقليمية داخل القطر – هي الأولى من الناحية العملية، حتى وإن كانت أولويتها أدنى من الناحية النظرية. وأتعاطى مع قضايا الأمة بعد ذلك بمسلكين محكومين بقيدين:
- حسب القدرة والطاقة الفائضة بحيث لا أفرط بحق ذوي القربي (أهل بلدي) كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75): فأقدم حق الأقارب على المؤمنين ولو كانوا من المهاجرين المجاهدين. فمن حيث الأصل ليس من الشرع الحكيم، ولا النظر القويم، تقديم قضية قطر إسلامي غير عربي على قضية قطر إسلامي عربي، ولا تقديم قضية قطر عربي على قضية قطري الذي أعيش فيه؛ لأن أهل بلدي أقرب رحماً من أهل البلد العربي الثاني، وأهلي العرب أقرب رحماً من أهلي المسلمين غير العرب. هذا بالنظر إلى عامل الرحم فقط. فإذا أدخلنا عامل المصلحة كان الأمر آكد وأقوم.
- أن أبادل الموقف بموقف، والدين بالشعور. فمن لم يقف معي في قضيتي لا أتجاوز دائرة الشعور لأقف معه في قضيته وإن كان مسلماً عابداً؛ فإن هذا الإسلام لم يدفعه لأن يقف معي وأنا أخوه المسلم، فليس من حقه أن يطالب إسلامي بما لم يطالب هو به إسلامه قبل ذلك؛ والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (الأنفال:72). الإيمان وحده لا يصنع قضية ما لم يستتبع نصرة تصدقه وتبنى عليه. فالنصرة إنما هي للقضية وليس لأصل الدين، وبدليل نهاية الآية أيضاً: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). فالميثاق (أي نصرة القضية وليس الدين) من الكافر أقوى من (إيمان) مسلم لم يحمله إيمانه على مشاركة إخوانه في قضيتهم ليتواثق معهم به وينصرهم. وهكذا ترتبت النصرة على القضية (الميثاق ولو من كافر)، لا على أصل الإيمان (الدين).
بذلك أكون واقعياً فأحمل هم (الأمة) فكراً وشعوراً، وأتجاوز ذلك إلى العمل بالشرطين الآنفي الذكر، وأعمل لتغيير الواقع الذي هو تحت طَول يدي لا تفصلني عنه الحدود. وبذلك نتوحد في مشاعرنا ونتفاعل في قضايانا، ونؤدي من ذلك ما نستطيع قياماً بالواجب المفروض بالوسع المقدور.
أولويات التحدي
بعد كل هذا يمكنني أن أحدد أولويات التحدي حين أعرف أن لي قضيتين: قضية خاصة داخل بلدي أقدمها عملاً وتطبيقاً، وقضية عامة على امتداد الأفق الذي تتناثر متفرقة عليه أقطار (الأُمة) قد أقدمها قيمةً وترتيباً.
والآن لننزل هذا الكلام على مورده.
أنا – كعراقي – من الناحية العملية أبذل جهدي لإنقاذ بلدي العراق أولاً، كما يعمل الفلسطيني والسوري – مثلاً – لبلديهما دون أن أطالبهما أن يكونا عراقيين: لا كالعراقي ولا أكثر منه إحساساً وهماً وحملاً لقضيته. كذلك أنا لست فلسطينياً ولا سورياً: لا مثلهم ولا أكثر منهم من باب أولى. إنما نتشارك في الشعور والهم كلٌّ بحسبه، ونتناصر بعد ذلك حسب الموقف والقدرة.
وحين يكون لي إقليم خاص أعمل لمصلحته أولاً، مع مد يد التعاون إلى من يتعاون معي كما يفعل إقليم كردستان. قال جل جلاله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2).
هكذا تتوحد قضايا الأمة وأولوياتها. لأنه عندذاك لن نجد عربياً يصطف مع عدوي كعراقي (وهو إيران) ويريد مني أن أصطف معه ضد عدوه، بل بعضهم يتجاوزني لأهمل قضيتي في سبيل قضيته! ولا نجد مسلماً يصطف مع روسيا ويطمع بنصرة شيشاني له.
ولن نسمع برئيس دولة عربية يزوره رئيس إيران ليصرح من عاصمته أن قضيتهما واحدة، هذا وإيران ذبحتني من الوريد إلى الوريد! لماذا لا يستقبل نتنياهو إذن ويصرح من عاصمته بمثل ما يصرح به مع نجاد؛ ما الفرق؟ ولن نرى عربياً آخر يزور إيران يتلقى منها الأموال، ويصدر بياناً من طهران بمثل بيان الرئيس المذكور؛ لأن (أدب) القضية سيعلمه أدب مراعاة (الأصول). وإلا تمزقت الأمة في قضيتها: شعوراً وهماً، وتطبيقاً وعملاً، بعد تمزقها: أرضاً وحداً وواقعاً، وغزاها العدو في عقر دارها ثقافةً واقتصاداً وسياسةً واجتماعاً، وربما احتلها عسكرياً، وبهتت هويتها وضعف انتماؤها لأوطانها وقومياتها وإسلامها.
هذا هو الذي يحفظ للتحديات أولوياتها، ويحفظ للأمة هوياتها المتنوعة، فليس هناك تحدٍّ واحد، كما أنه ليس من تحد هو الأول بالمطلق دون مراعاة ما سبق. كذلك ليس ثمة من هوية وحيدة تلقف – كعصا موسى – بقية الهويات، بل هي هويات متعددة متساندة.
الملاحظ على (القوميين) خصوصاً العراقيين أنهم أضعفوا انتماءنا الوطني بتركيزهم على العرب خارج حدودهم القطرية؛ فكأن أولوية الاهتمام بالوطن تتناقض مع العروبة. كما أن الملاحظ على (الإسلاميين) أنهم أضعفوا انتماءنا العروبي؛ فكأن العروبة تتناقض مع الإسلام! ولم يكتفوا بهذا حتى أدخلوا إيران ضمن (المنظومة الإسلامية)، وبذلك انتقلوا من المطر إلى المزراب!
بطلان نظرية ( القضية المركزية ) وفشلها
عند هذا الحد نجد أن نظرية (القضية المركزية)، وأن للأمة قضية مركزية واحدة، في حاجة إلى مراجعة تقييماً وتقويماً.
فبوجود الحدود الفاصلة بين أقطار الأمة لا يكون للأمة وجود خارج نطاق الذهن والحلم والأفراد المتميزين، فيكون وجودها معنوياً اعتبارياً لا حقيقياً مؤثراً. وبغياب وجود الأمة الحقيقي المؤثر، لا يمكن أن يكون لها قضية حقيقية حاضرة؛ فالمعلق بالغائب غائب حتى يحضر. إنما لكل قطر قضيته المركزية: فالفلسطينيون لهم قضيتهم، والعراقيون لهم قضيتهم، كذلك الأمر في الشيشان وأفغانستان وسوريا ومصر وليبيا والأحواز والسودان. والمطلوب أن نتفاعل فيما بيننا شعوراً يصنعه الدم ويفرضه الدين، ونتعاون فيما بيننا حسب حسب الموقف المتبادل ثم القدرة الممكنة. ولا قضية تعلو على أُخرى بالنسبة لأهلها. فمن أعطى للآخرين أخذ منهم، ومن أراد الاعتياش والمتاجرة، فمرة يبكي على بابي، وثانية يستجدي على أعتاب عدوي، فلا ينبغي أن يكون له وجود بين أصحاب القضية.
أما القضية المركزية للأمة كلها فلا وجود لها قبل توحيد الأمة وإزالة الحدود الفاصلة بين أقطارها. فإن كان للأمة وجود، وكان أبناء الأمة جادين فيما يقولون فليعملوا على تحقيق أولاً.. وعندها ستولد القضية المركزية للأمة من تلقاء نفسها.
إن أي قطر لا يصلح لأن يكون مركز شد لباقي أقطار الأمة المفرقة. وتوهم ذلك مخالف لسنة الله تعالى في كونه وخلقه. فالكتلة الجاذبة لا بد أن تكون أكبر من مجموع الكتل المجذوبة. فإذا أردت لكتلة أصغر أن تجذب المجموع الأكبر فقد فعلت عبثاً، وكانت النتيجة بعثرة الجميع وتفريقه وشرذمته. فكيف يراد لدويلة صغيرة مثل فلسطين، وقضية صغيرة مثلها، أن تكون مركز الشد وتقوم بهذا العبء الجبار؟! كيف لفلسطين أن تكون قضية مركزية لشعب الشيشان أو تنزانيا أو أندونيسيا؟!
ومن سخريات هذه القضية (المركزية) أن فلسطين نفسها قد انقسمت على نفسها قسمين: كل قسم تابع لقوة طامعة وعدوة للعرب والمسلمين. فرام الله تابعة لأمريكا، وغزة تابعة لإيران!
لا بد أن تكون القضية المركزية قضية تمس حاجة الجميع، ومن الكبر بحيث تكون قادرة على تدويرهم في فلكها.
إن القضية السنية هي القضية المركزية الجامعة.. إنها بمثابة (العصبية) – حسب تعبير ابن خلدون – التي تمثل مرتكز قوة الأمة، ومحور جذبهم ونواة اجتماعهم. فالسنة هم الأمة، والتحدي الشيعي والإيراني صار يفرض نفسه على واقع الأمة، ويتجاوز حدوده الإقليمية القريبة إلى مديات عالمية. ولقد أخذ الفكر السني يفرض نفسه على أشد المعارضين له في الساحة. وهذا يدل على أمرين: قوته وواقعيته، ثم شعور الجميع بالحاجة إليه، وخواء بقية الأفكار وعجزها عن مواكبة الواقع.
إن العرب هم قطب الأمة الإسلامية.. وثلاثة أرباع العرب من حيث الثقل الديني والفكري والسياسي والاجتماعي في المشرق (الجزيرة، والعراق، والشام). وربعها الآخر في المغرب (مصر). ولا يقوى المغرب على مواجهة الخطر الغربي دون المشرق العربي. ولن تتحرر فلسطين قبل تحرر المشرق العربي. ولن يتحرر المشرق إلا بالفكر السني والقضية السنية.
الفكر السني، والمشروع السني هو الفكر والمشروع الجامع. وما عداه فمفرق مشرذم، والواقع شاهد على أن الفكر القومي والإسلامي والليبرالي غير صالح لتوحيد الأمة.
المعادلة الأمنية لدول المشرق العربي
آن للخريطة العربية أن تنفلق عن مصطلح (المشرق العربي) وتحدد دوله بـ(العراق ودول الخليج واليمن والشام). وما بقي فتصنف ضمن (المغرب العربي). وأنهما عالمان، وإن ارتبطا بوشائج لا يستهان بها، مختلفان من نواح جوهرية يجب إدراكها وبناء العلاقات على أساسها. ومن ذلك اختلاف العالمين في أولويات التحدي الأمني. فالتحدي الأمني القومي لدول المشرق العربي شرقي بالدرجة الأولى، وتحدي الثاني غربي. على أنهما في النهاية يشتركان في تحمل التحديين كل بحسبه.
ويبقى فرق آخر كبير هو أن الأمن المغربي يعتمد على متانة الأمن المشرقي وسلامة دول المشرق أكثر من اعتماد الآخر عليه، رغم أن الثقافة المغربية طغت فوجهت ثقافة الأمة المشرقية وجهة أضرت، ليس بها فقط إنما، بالأمتين معاً.
طغيان الثقافة المغربية .. والمشرق العربي يدفع الثمن غالياً
الثقافة المغربية تعطي الأولوية للتحدي الغربي (أمريكا وأوربا) ومعه إسرائيل. وقد ضخمت من هذا الخطر، وكان لثقل مصر السكاني والفكري والإعلامي، ووجود المطابع منذ عهد نابليون نهاية القرن الثامن عشر.. دوره البالغ في هذا التضخيم. في الوقت نفسه ساهمت تلك الثقافة في التهوين من خطر التحدي الشرقي (الشيعة وإيران) حد اعتباره صديقاً، وفي بعض الأحيان أحد مكونات نسيج الأمة العربية (الشيعة) أو الإسلامية (إيران). وكان لـ(الإخوان المسلمين) وتفرعاتها منذ تأسيس الجماعة الأم في علاقتهم بإيران والشيعة وإنشائهم (دار التقريب) في القاهرة، دورهم الكبير والخطير في ذلك. يقابلهم في الطرف الآخر السلفيون في تناقضهم الطبيعي مع الشيعة. لكن الفكر السلفي اقتصر – في الغالب في ميدان المواجهة – على العقيدة والفقه، دون الجوانب الأخرى: الاجتماعية والنفسية والتاريخية والسياسية والأمنية. ومع هوان الدين على شعوب المنطقة – بما تخللها من فكر علماني وليبرالي وركون إلى الدنيا – بدا الخطر العقائدي والفقهي على أهميته، الذي يركز عليه الفكر السلفي، أمراً هيناً، بحيث بات السلفيون متشددين في نظر عامة الجمهور.
دخول فلسطين على الخط، ثم رفع إيران الخميني هذه اللافتة، ودخول التومان الإيراني ميدان المنافسة، ورومانسيات الفكر القومي وحماسياته الحالمة.. كل هذا وغيره كان له دوره في إضعاف الثقافة المشرقية وانحراف معادلتها الأمنية في غير صالح دولها.
منطق الجغرافيا والجيوسياسيا
نظرة واحدة إلى جغرافية المشرق العربي، ثم نظرة أُخرى إلى خريطة العراق (البوابة الشرقية للأمة) تكشفان للناظر كل شيء، ونظرة واحدة إلى سياسة المشرق العربي الأمنية تكشف الخلل الكبير في كل شيء!
تابع معي الخريطة من جنوب “بحر العرب” و”مضيق هرمز” والضفاف الشرقية لـ”الخليج العربي” (أو الغربية للأحواز)، مروراً بـ”شط العرب” والبصرة وصولاً إلى شمال العراق. ماذا ترى؟
قرابة (5000) كيل من المسافات، أخذاً بالاعتبار تعرجات الأرض على طول السواحل، مكشوفة لإيران، العدو التقليدي الخطير للعرب. ثم ارجع البصر وركز في الخريطة أكثر لترى الإباضية في عمان والحوثية وأشباههم في اليمن، والشيعة في شرقية السعودية، وعبر الضفة الشرقية للخليج (في الأحواز) إلى خانقين شمالي العراق، ثم السليمانية في أقصى شماله تقريباً من الشرق التابعة لحزب الاتحاد. ثم توغّل الشيعة في مدن العراق وانتشارهم فيها، لتشكيل (هلالهم) باتجاه سوريا ولبنان.. إذا فعلت ذلك ماذا سترى أيضاً؟!
ديالى ………….!
ألقِ على خريطة العراق (في الصفحة التالية) نظرة أُخرى مستقلة بعض الشيء عن الخريطة الكبرى لدول المشرق. وركز النظر على ديالى والسهم الأحمر الذي يخترقها من أعلاها من خانقين التي ينتشر فيها الشيعة، نحو سوريا. والسهم الأحمر الآخر الذي يخترقها من أدناها باتجاه بغداد، تجد ما يلي:
- تمثل ديالى أقرب الطرق المؤدية إلى العاصمة بغداد من جهة إيران، وذلك عبر منفذي مندلي شمالاً وبدرة (التابعة لمحافظة واسط) جنوباً. إذ ليس بين إيران والعاصمة العراقية أكثر من 60 كم عن طريق ديالى!
- وتمثل ديالى أقصر طريق بري من إيران إلى سوريا؛ لهذا يستعمله وزير النقل هادي العامري في نقل الأسلحة وعناصر الحرس الإيراني إلى سوريا عبر العراق. لا سيما وأن مرور إيران إلى سوريا عبر المحافظات الشيعية في الجنوب يصطدم بعقبة الأنبار، التي تساوي مساحتها مساحة الأردن مرة ونصفاً. وهي عقبة حقيقية يصعب تجاوزها، خصوصاً وأنها محافظة سنية بحتة، وليست كمحافظة صلاح الدين التي فيها تجمعات شيعية في بلد والدجيل والدوز يمكن أن تحمي الطريق المختصر من ديالى إلى سوريا. فكيف لو تحولت الأنبار إلى إقليم؟! وهذا أحد أسباب سعي إيران لمنع تكون الأقاليم في العراق.
سيطرة إيران على ديالى يهدد بغداد ودمشق سياسياً وعسكرياً وديمغرافياً!
- بالسيطرة على ديالى يكتمل ظهور (الهلال الشيعي)، لمحاصرة الأردن ولبنان ودول الخليج والمنطقة ككل. لا سيما والمؤامرة الإيرانية الشيعية جارية على قدم وساق في اليمن وتتمدد في الكويت والسعودية وغيرها من دول الخليج لإحكام الطوق وتحقيق الحلم الفارسي باحتلال مكة واستعادة الإمبراطورية الفارسية.
هذا هو سر البلاء الذي ينهمر على رؤوس أهل ديالى؛ فإيران عملت على تشييع المدن المتاخمة لها فصارت قناطر للعبور إلى العراق إلا ديالى فقد استعصت عليهم عبر التاريخ وبقيت سنية بنسبة لا تقل عن 85%؛ لا بد إذن لإيران من دعس هذه الشوكة السنية وإعادة تشكيلها شيعياً تحضيراً لهضمها في المعدة الإيرانية من أقرب نقطة. وعلى هذا الأساس فإيران جادة في البحث عن وسائل معينة تسيطر بها على هذه المحافظة. لهذا جن جنونها يوم أعلن مجلس محافظة ديالى ذهابه إلى خيار (الإقليم)؛ لأن هذا يجعل المحافظة خارج مرمى المؤامرة. وبهذا يتبين أن رافضي الإقليم شركاء لإيران والشيعة في هذه المؤامرة الخطيرة، وعليهم أن يتحملوا مستقبلاً مسؤولية تواطئهم وحمقهم!
النخيب
هناك خاصرة رخوة أخرى لأمن المشرق العربي، تتمثل في قضاء (النخيب) جنوبي الأنبار. الذي تسعى إيران ودولة الشيعة في العراق حثيثاً إلى فصله عن الأنبار وإلحاقه بكربلاء. وهذا يوصل المحافظات الشيعية بالأردن، ويحقق للعدو الشرقي هدفين خطيرين:
- وصول إيران إلى حدود الأردن، وتطويق الشام من أعلاها وأسفلها.
- وصول إيران إلى الحدود السعودية من شمالها، وعزل سنة العراق وسنة السعودية عن بعضهما. وبشيعة اليمن من الجنوب يكتمل تطويق السعودية من شمالها وجنوبها وشرقيها. ولا يبقى لها سوى البحر الأحمر من جهة الغرب. هذا وإيران وإسرائيل مع أريتريا شغالة عليه.
المحمودية والمدائن
تمثل المحمودية والمدائن (25 كيل جنوبي بغداد)، اللتان يفصل بينهما نهر دجلة، خاصرتين خطيرتين جداً في معادلة الأمن المشرقي.
تنفتح بغداد من جهاتها الثلاث: الشرقية والشمالية والغربية على محيط سني، تتخلل بعضه جزر شيعية هي عبارة عن أقليات في وسط ذلك المحيط. أما جهتها الجنوبية فتنفتح على المحيط الشيعي متمثلاً بالمحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. وهذا الانفتاح يمر عبر بوابتين هما: قضاء المحمودية الواقع في الجانب الغربي لنهر دجلة. وقضاء المدائن الواقع في الجانب الشرقي لنهر دجلة الذي يفصل بينها وبين قضاء المحمودية.
لهذا السبب ركز الشيعة من بداية الاحتلال على هاتين المدينتين؛ لأنهما تمثلان القصبة الهوائية لشيعة بغداد باتجاه رئة الجنوب. ومعبر شيعة الجنوب إلى العاصمة بغداد.
وإذا كان المخطط الإيراني الذي ينفذ بأيد شيعية عراقية وغير عراقية، يهدف إلى الاستيلاء على بغداد وجعلها مدينة شيعية خالصة، أو ذات أغلبية شيعية ساحقة، فإن هذا الهدف لن يتم ما لم يكسر الطوق الأمني المحيط ببغداد، خصوصاً جزأه الجنوبي؛ من أجل التواصل مع التكتل الشيعي في الجنوب. وإلا فإن استمرار هذا الطوق القوي على حالته السُنّية يعني أحد أمرين: إما أن يَترك الشيعة بغداد ويذهبوا إلى الجنوب. وهذا يعني نهاية حلمهم في تشييع العراق، ومن ثم الانطلاق إلى دول الجوار. أو أن يكون وجودهم الشيعي داخل بغداد محصوراً من كل الجهات، وكما قال أحد نوابهم: “سيكون شيعة بغداد رهينة بيد الإرهابيين” (يعني السُنّة)؛ ولذلك تحملت هاتان المدينتان في عهد الاحتلال الأمريكي الثقل الأكبر في برنامج الإبادة الجماعية المنظمة، والتغيير الديموغرافي الممنهج([1]).
واقع المعادلة الأمنية لدول المشرق العربي
- تركزت أنظار شعوب المشرق العربي نحو الخطر الإسرائيلي والخطر الصليبي مولية ظهورها للعدو الأكبر (الشيعة وإيران) وهي تصوب نظرها نحو الغرب قبل أن تلتقي في بؤرة هي فلسطين وتتركز فيها كلياً حتى لا تكاد تغادرها قبل أن ترتفع كليلة نحو الأفق البعيد في أوربا وأمريكا! وقد استهلكت قضية فلسطين دماءً غزيرة وأموالاً طائلة للعرب، وفي مقدمتهم عرب المشرق. عدا إعلامه، وسياسته، وعسكره، وأمنه. وشغلته كثيراً عن بقية قضاياه. فكانت النتيجة أن اجتاحت إيران ومعها جموع الشيعة الأحواز والعراق وسوريا ولبنان واليمن ووصلت شواطئ البحر الأبيض، وفلسطين ما زالت على حالها.
هذا مع ملاحظة أن كيان إسرائيل يبحث عمن يحميه، ويبني حوله الجدران العازلة. ولو ترك وشأنه لما استطاع التقدم كيلاً واحداً خارج جدرانه لعجزه بشرياً واقتصادياً عن الانسياح في الأرض ليحتل بقية العواصم العربية. إن مقولة (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) ليست أكثر من أسطورة غير قابلة للتحقيق. جرى تضخيمها من قبل أطراف عديدة لصرف وجلب أنظار الجماهير، كل حسب مصلحته وشاكلته. وقد استفاد تجار الحروب والسياسة من الفلسطينيين وغيرهم منها أعظم استفادة. مستغلين ببشاعة منقطعة النظير طيبة الجماهير وحماسها وتدينها وهي تبذل أموالها ودماءها رغبة في الثواب.
- في كل اجتماع لجامعة الدول العربية يتصدر بيانها الختامي عبارة “فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية”، تحولت إلى ثقافة امتدت فشملت الأمة الإسلامية فكانت في العقل الجمعي لتلك الثقافة قضيتها المركزية أيضاً. ومع أن هذه العبارة فارغة المضمون، باطلة المعنى. فالأمة العربية أو الإسلامية مفهوم ذهني ليس له كيان سياسي واحد حتى تكون له قضية مركزية واحدة، إنما هي كيانات ولكل كيان قضيته المركزية، بحكم حدوده السياسية. لا يمكن في الواقع أن تقنع السني العراقي – مثلاً – بأن استرجاع فلسطين أولى بالنسبة إليه من استرجاع بغداد وديالى وبيجي وتكريت والمحمودي والفلوجة من يد الشيعة وإيران: لا من الناحية الشرعية؛ فرب العالمين لم يكلفني أن أترك بلدي تحتل أرضه وتستحل عرضه وتستبيح دينه وتنهب ماله عصابات الشيعة لأتوجه أولاً إلى فلسطين، ولا العقل يلزمني بذلك. فكيف يمكن أن تكون فلسطين قضية أولى للشيشاني المحتل من قبل روسيا منذ ثلاثمئة سنة والفلسطينيون يضعون يدهم بيد روسيا؟ أو الإندونيسي الغارق في الدنيا ومكاسب السفر والسياحة؟ هذا مع شكي بـ(نظافة) هذه العبارة، وتساؤلي عن سر سكوت أمريكا والغرب وإسرائيل عنها!
- وقع عرب المشرق في خطأ قاتل يوم اجتمعوا على إزاحة صدام حسين، مع أن صدام يتحمل وزره الكبير في هذا المصير، دون أن يحسبوا حساباً لخطورة البديل القادم، ألا وهو العدو الأخطر: إيران والشيعة. وهم اليوم يرتكبون خطأً مشابهاً؛ إذ يبذلون كل جهدهم في حرب تنظيم الدولة الإسلامية، مع أن تنظيم الدولة يتحمل وزره الكبير في استعدائهم عليه وعلى سنة العراق، دون أن يحسبوا حسابهم عن خطورة البديل القادم. وإذا كنا نعذر المخطئ أول مرة، فما عذره إذ يخطئ الخطأ نفسه، وقد لمس خطورته وجسامته لا على سنة العراق فحسب، بل المشرق العربي أولاً، ثم المغرب العربي وفلسطين.
- ما زال العرب، وعرب المشرق في أولهم، يولون ظهورهم لأخطر جهة في معادلة الأمن العربي، ألا وهي (البوابة الشرقية). ولو قارنت اهتمامهم بالعراق مقارنة بسوريا لأصابك العجب من حجم أهمية العراق، ومرتكزه السنة العرب، مقارنة بسوريا في المعادلة الأمنية، مع حجم الدعم المقدم للسوريين مقارنة بسنة العراق. فالدعم يتناسب عكسياً مع حجم الأهمية! وغاية ما يقوله البعض من غير أصحاب القرار: ننتهي من سوريا ثم نتوجه إلى العراق. مع أن العكس ينبغي أن يكون؛ فالعراق أهم في معادلة أمن المشرق العربي من سوريا أضعافاً.
- يبدو أن العرب يسيرون في مواجهة الأخطار المحدقة طبقاً لمعادلة صفرية أو تحت صفرية. ويمكن الاستشهاد بمشكلة شيعة اليمن من الجنوب ومتى توجهت السعودية لمواجهة خطرهم. أما شيعة العراق من الشمال وشيعة الأحساء من الشرق فنخشى أن تظل المملكة مشغولة بـ(الحرب على الإرهاب) حتى يبلغوا مبالغ يصعب السيطرة عليها. عندها قد تتحرك مفاصل الدولة، وقد يكون الأوان قد تأخر كثيراً. هذا إن لم يكن قد فات!
النتائج
- الأمن العربي المشرقي يختلف عن الأمن العربي المغربي. ولا بد للسياسة العربية في أي حقبة زمنية أن توجه سياستها الأمنية طبقاً لهذا الفرق.
- الحزام الأمني لدول المشرق العربي يمتد من جنوب الخليج العربي حتى شمال العراق مروراً بالأحواز.
- ديالى والمحمودية والمدائن والنخيب تشكل خواصر رخوة خطيرة جداً في معادلة الأمن العربي.
- فلسطين مقارنة بالأحواز والعراق لا تشكل عنصراً جوهرياً في معادلة أمن المشرق العربي. بل ديالى والمحمودية والمدائن والنخيب أكثر منها أهمية وخطورة على أمنه.
- تحتاج معادلة الأمن العربي – بشقيها: المشرقي والمغربي – إلى التكامل لمواجهة الخطرين: الشرقي أولاً، ثم الغربي. وتعطى لفلسطين خصوصية تناسبها. مع ملاحظة غاية في الأهمية، وهي أن تحرير فلسطين يستحيل إنجازه قبل حسم القضية المشرقية، المتمثلة بالخطر الشيعي والخطر الإيراني.
- على الفصائل الفلسطينية الداخلة في حلف أمني مع إيران أن تخرج من هذا الحلف، وإلا كان على العرب مقاطعتها كلياً. وأقول لمن يعترض على كلامي من هذه الفصائل والمتعاطفين معها والمخدوعين بها: إنكم تدّعون أن العرب لا يدعمونكم؛ فلا داعي لاعتراض على أمر لا يزيدكم ولا ينقصكم.
أخيراً أقول: يبدو أن بعض العرب يتبعون سيرة ذلك الشيخ الذي كان عنده شاعر ينشده قصيدة، فلاحظ الشاعر أن عباءة الشيخ سقط ذيلها في كانون النار القريب منه، فقطع الشاعر إنشاده مخاطباً الشيخ: “عباتك مست النار”! فأجابه الشيخ وهو ما زال تحت تأثير القصيد: “صح لسانك”! فكرر الشاعر: “عباتك مست النار”! فكرر الشيخ جوابه: “صح لسانك”! وهنا وصل اللهب إلى حجر الشيخ فصرخ الشاعر: “النار وصلت شليلك يشيخ”!
هنا فقط تنبه الشيخ. لكن بعد فوات الأوان!
[1]– يمكن مراجعة كتابي (جرائم الإبادة الجماعية المنظمة لأهل السنة في العراق من 2005 – 2008، قضاء المحمودية نموذجاً. وكتابي (غربان الخراب في وادي الرافدين) الباب السابع: جرائم التهجير. الفصل الأول: مدينة المدائن مثالاً.
استراتيجية الحل الجذري للمشكلة التاريخية مع الشيعة وإيران
( 6 )
استِرَاتِيجيَّةُ الحَلِّ الجَذريِّ
لِلمُشكلَةِ التاريخِيَّةِ مَعَ الشِّيعَةِ وَإيرَان
العراق مطبخ التشيع..
فلا غرابة في أن يكون ما ينتجه هذا المطبخ أنضج من ناتج غيره من المطابخ. ولا عجب في أن تكون قد سلفت من هنا رؤية استباقية لكثير من الأمور المفصلية كان الناس ينكرونها ثم أثبتت الأيام معروفها. عسى أن يكون ذلك شفيعاً لأن ينظر أهل السنة إلى الحل الذي نقدمه هنا بصورة أكثر اهتماماً وجدية.
ليس غنياً عن القول أن هذه الاستراتيجية هي رؤيا تأصيلية عامة، تصلح لكل بلد يعاني من الوجود الشيعي. أما تنزيلها العملي التفصيلي على البلد المحدد فتبع للواقع والفرص والظروف المحيطة به.
مشكلة الطائفية واتجاهات الحل
لا يبدأ الطبيب بتوصيف العلاج (الحل) قبل دراسة الحالة المرضية (المشكلة). دراسة المشكلة تتقدم التفكير بحلها. وهذا مما اتفق عليه العقلاء حتى إن ثقافتنا الشعبية تنتقد من (يحضر العطبة “الضماد” قبل الفشخة “الجرح”). ويعبر آينشتاين عن هذا تعبيراً واضحاً دقيقاً فيقول: ” لو كان لديّ ساعة لحل مشكلة، فسأرصد خمساً وخمسين دقيقة للتفكير في المشكلة وخمس دقائق فقط للتفكير فى حلها”.
هل درس أصحاب الفكر الوطني من القوميين والاسلاميين والليبراليين المشكلة من طرفيها: الشيعي والسني؟ أم بادروا فوضعوا الحل قبل ذلك؟ هل درسوا الحالة قبل توصيف العلاج؟ أم وصفوا العلاج بناء على أعراض سطحية كما يفعل المضمد حين يحتل دور الطبيب؟
الصراع الديني – أو الطائفي كما يسميه البعض – هو المشكلة التي على محورها تدور رحى الحرب بين السنة والشيعة. وإذا كان هذا حقاً، فهل الحل يكون بالاتجاه أولاً إلى علاج الطائفية، أي العمل على إزالتها من بين الطرفين المحتربين قبل إزالة أسبابها؟ يرى هذا الرأي اليوم جمهور المنتسبين إلى السنة. وهي رؤية سطحية لا تغوص في عمق المشكلة.
إن الفكر السني له رؤية تقوم على التسلسل العلمي في حل المشكلة: بدراستها أولاً. ثم بوضع الحل لها بعد ذلك.
مشكلة الشيعة
التشيع مفهوم له معنيان متشابكان حد الامتزاج والذوبان التام، هما:
- دين الشيعة: ويقوم على العقيدة الشيعية.
- الشخصية الشيعية: ويقوم على شبكة من العقد النفسية.
ولا يكمل مفهومنا وفهمنا للتشيع ما لم نستحضر هذين المعنيين. كما لا تتم معالجتنا للتشيع ما لم نتوجه بالعلاج إلى هذين المرضين كليهما، وفي وقت واحد.
إن الطائفية التي نحن بصددها:
- نابعة من العقيدة كجزء لا يتجزأ من الدين.
- ونابعة من العقدة، وجذورها تمتد عميقاً في نسيج الشخصية الشيعية بحيث تحولت إلى عقدة جمعية تحكم نظرة الشيعة إلى السنة وتوجه جميع تصرفاتهم نحوهم.
لهذا مهما أحسن السنة إلى الشيعة يظل الشيعة يتصرفون تجاه السنة طبقاً لدافع الطائفية؛ وذلك لسببين: الأول ديني عقائدي. والثاني: نفسي عقدوي.
أما الأول فإن من صميم عقيدة الشيعة، هذا الرابوع الخطير:
- تكفير السنة 2. سفك دمائهم 3. إباحة أموالهم 4. استباحة أعراضهم.
وكل ذلك واجب في دين الشيعة وجوباً تواطأ عليه علماؤهم إجماعاً، وشاع لدى عوامهم فلا يجهله أحد منهم إطلاقاً، إلا النادر الذي لا حكم له.
وأما الثاني فإن الشيعة في كل بلد مهما أحسن إليهم السنة يظلون يشعرون بأن السنة ظالمون لهم شعوراً جارفاً تنفجر له عيونهم عند ذكر أول حروف (المظلومية) التي طبعت عليها نفوسهم وأشربت في قلوبهم. الظلم عند الشيعة فكرة ذهنية مجردة لا حركة فعلية مجسمة، والمظلومية عندهم شعور غائر في أعماق النفس لا رد فعل على تصرف صادر ضدهم من قبل الغير.
على هذه العقيدة وهذه العقدة انبنت طائفية الشيعة. العقيدة والعقدة هي العلة، والطائفية هي العرض الحتمي لهذه العلة. وسؤالي للأطباء: هل يمكن علاج العرض قبل زوال علته؟ وسؤالي لعلماء الدين والنفس والاجتماع: هل يمكن علاج هذه الطائفية قبل إزالة علتها المركبة: العقيدة الدينية والعقدة الجمعية؟
هل يمكن تحقيق هذه الإزالة؟ والسؤال الأهم: كيف؟ ومتى؟
هل أنت معي في أن علاج الطائفية الشيعية مع وجود العلة المانعة شيء بعيد المنال؟ إذن لا يصلح أن يكون ذلك هدفاً أولوياً نسعى إلى تحقيقه قبل اقتلاع جذوره. فالقول بأن الخلاص من الطائفية بعلاجها بناء على أنها هي المشكلة، قول سطحي لا يقوم على جهد من البحث والتحليل والاستنتاج العلمي. وهو قول من لا يدري ما يقول، ولا يتصوره.
تزداد السطحية جلاءً حين تكتشف أن العلاج الذي يقدمه هؤلاء مواعظ ونصائح، ثم أقوال يرشوهم بها شيعة لا يتجاوز أثرها تراقيهم طبقاً إلى لعبتهم المعتادة (تعدد أدوار ووحدة هدف). بعدها يطالبون أبناء السنة بالكف عن الطائفية المضادة فيغضوا الطرف ويخيطوا الفم عن ماكنة السحق الشيعية التي امتدت من بلوشستان حتى أقصى الشام، ودار هلالها بخنجره ليمسح اليمن والبحرين حتى أطراف نجد وأعماق الحجاز!
مشكلة السنة
إذا كانت مشكلة الشيعة في طائفيتهم، فمشكلة السنة في وطنيتهم.
ومشكلة العراق وأمثاله من الأقطار المبتلاة بالشيعة في التخادم القائم بين الطائفية الشيعية والوطنية السنية، وعدم وضع حل على هذا الأساس!
لم تكن مشكلة الشيعة في ظل الدولة الوطنية (1921-2003) في طائفية السنة. وليست هذه هي مشكلتنا – نحن السنة – بل مشكلتنا في وطنيتنا. لو كنا طائفيين ما سقط العراق بيد الشيعة في سنة 2003.
وطنية السنة هي التي سمحت للشيعة بالتمدد لينتشروا في العاصمة بغداد وفي الميناء البصرة حتى وصلت نسبتهم في الأولى إلى 35%، وفي الثانية قريباً من 65% في سنة 2003، بعد أن كانت لا تتجاوز 5% في كلتا المدينتين سنة 1921! وهذا مجرد مثال.
ووطنية السنة هي التي سمحت للشيعة بأن يتمددوا في كل دوائر الدولة بلا استثناء، منطلقة من نسب صفرية أو تقرب من الصفر عند بدء الدولة الوطنية سنة 1921 إلى نسب متفوقة بعد ذلك. ففي الجيش كانت نسبتهم 0% سنة 1921. لكن بعد ثمانين سنة وصلت النسبة في الدوائر العسكرية والمدنية والأمنية والحزبية في العراق إلى أكثر من 60%!
أما سبب ضعف هذه النسبة عند بدء تأسيس الدولة فعدم وجود كفاءات شيعية يمكنها شغل الوظائف المنوطة بها؛ لقد كان الشيعة يحرّمون الدراسة في الجامعات العثمانية: عسكرية ومدنية، فليس لهم من تحصيل دراسي سوى العلوم الدينية في حوزاتهم المعروفة. وهذه بعيدة جداً عن قيادة الحياة. وقد عمل الملك فيصل الأول بشتى السبل لردم هذه الهوة تجنباً لتذمر الشيعة واتهامهم الدولة بالانحياز الطائفي. وكان متعجلاً جداً.
يقول توفيق السويدي([1]) في كتابه (وجوه عراقية): (ومن أسباب ضعف فيصل اعتقاده بصحة بعض الأقوال: أن الجعفريين مغموطو الحقوق. واذا فرض أنه موجود – الاعتقاد – فإنه لم يوفق لمعالجته بالطريق المعقول. إذ كان يريد الطفرة ليوصل العناصر الجعفرية إلى الحكم بدون اشتراط كفاءة. وقد كان عمله هذا مناقضا لمبادئه التي بشر بها في احترام القانون والعدل المتكافئ بين الرعية. وقد أقدم علـى تنفيذ نظريته فلم تزد من شأنه بل زادت في النقمة عليه)([2]).
واتبع الملك فيصل لذلك طرقاً غاية في التخلف منها أن رجلاً شيعياً اسمه (ملا شكر) يعمل (روزخزوناً) في حسينية ببغداد – أظنها كانت الوحيدة ببغداد آنذاك – منح صلاحية تزويد أي شاب شيعي بورقة تشهد له بأنه تخرج على يده لكي تعتمد كوثيقة تؤهله لدخول كلية الحقوق، ثم بعد التخرج يرسل في بعثة للتخصص([3]). بمثل هذه الأساليب المتخلفة تسلق الشيعة دوائر الدولة كما يتسلق النمل جثة عنكبوت جريح حتى قضوا عليها. ألم أقل لكم إن الظلم والمظلومية عند الشيعة فكرة ذهنية وشعور نفسي لا رصيد له من الواقع يستند إليه!
وتأمل كيف أن طائفية الشيعة في ظل الوطنية السنية الساذَجة بعد سنة 2003 هي التي أقصت أبناء السنة وسحقتهم حتى تحولت هذه دوائر الدولة إلى يد الشيعة بنسب تقرب من الكلية. وحولت بغداد والمدن المختلطة إلى مدن شبه شيعية. ولو كان الشيعة وطنيين كالسنة ما حصل هذا في بضع سنين. ولو كان السنة طائفيين كالشيعة لتمكنوا من فعل مثل هذا بالشيعة على أتم وجه بين سنتي 1921 و2003؛ فثمانية عقود ونيف تكفي وزيادة لذلك.
الحل
تجربة موسى u مع اليهود
التجربة التي قاساها موسى u مع قومه لم ينفع معها التعليم والوعظ؛ لأن مجال هذا العلاج هو العقل. بينما اليهودي يعاني من خلل شامل يجتاح أصل النسيج النفسي للشخصية الجمعية. ومجال النفس غير مجال العقل، وإن تداخلا فيما بينهما.
أرى أن مصطلح (شخصية العبد) هو العنوان المعبر بدقة عن تلك الشخصية اليهودية. وقد بلغ انحراف هذه الشخصية درجة من التعقيد بحيث لم يعد ينفع معها كل العلاجات المعتادة مع البشر! فكان العلاج الناجع شيئاً آخر غير مألوف في تاريخ الأنبياء عليهم السلام والمصلحين. ألا وهو التيه في الأرض أربعين سنة. وفيها تحققت أربعة أمور هي العناصر الجوهرية المكونة للعلاج الناجع:
- عزل اليهود عن الآخرين؛ لتطويق وباء الشخصية اليهودية (شخصية العبد)، ومنع انتقال الأوبئة الأخرى إليهم.
- إتاحة الفرصة للزمن أن يأخذ مجراه في قرض وانقراض جيل العبيد.
- إتاحة الفرصة لعوامل البيئة لتأخذ دورها في تغيير (شخصية العبد) إلى شخصية أُخرى هي (شخصية الحر).
- إتاحة الفرصة أمام الأنبياء عليهم السلام لتعليم الشعب وتربيته على مفاهيم الحرية بكل معانيها: الدينية والاجتماعية.
هكذا تم تحرير اليهودي: عقيدة وعقدة. وليس عقيدة فقط.
استند العلاج إذن على مبدأين: التطويق والاختراق.
الاستفادة من تجربة بني إسرائيل في علاج الشيعة
إن تطويق الشيعة وعزلهم في إقليم، ثم المباشرة بتطبيق العلاج الرباني عليهم بشقيه: الديني والاجتماعي (النفس جمعي)؛ لتحريرهم من العقيدة والعقدة أولاً.. هو عنصر أساسي من عناصر العلاج والحل الجذري لمشكلة الطائفية الشيعية.
إن تحرير الشيعة يعني أمرين:
- تحرير الشيعة من عقدة التشيع.
- تحرير الشيعة من عقيدة التشيع.
عملياً يتحقق الحل عبر مرحلتين:
- المرحلة الأولى: التطويق: مرحلة التعامل مع المشكلة تمهيداً لعلاجها واجتثاثها.
- المرحلة الثانية: الاختراق: وهي مرحلة الدخول في آلية العلاج الفعلي.
وهو مبدأ أو قانون من قوانين الاجتماع يقوم على قاعدة التخلية قبل التحلية. وهو مبدأ كوني من مظاهره شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)، يحكم المسلم حتى في أذكار. فمن أذكاره (سبحان الله، الحمد لله). بل يحكم قوانين الطب إذ يجمع بين الصحة (التخلية) والعافية (التحلية). فتمام العافية أن يزال المرض أولاً.
-
مرحلة التطويق
الطائفية الشيعية أشد فتكاً بالسنة من الأمراض المعدية الخطيرة. والأطباء مجمعون على شيء اسمه (الحجر الصحي) حيال هذا النوع من الأمراض، وهو عزل المريض بها عن الأصحاء فلا يختلطون بهم إلا وفق إجراءات وقائية صارمة. وإذا كان المتثاقف الغربي أو الشرقي يتهمنا بالطائفية والتخلف فليحتفظ بأخلاقه لنفسه، وليسأل هذه النفس أولاً: لماذا لم يجدوا حلاً لليهود إلا بعزلهم في حارات وأحياء عرفت بـ(الجيتو)، محاطة بأسوار وأسيجة عالية لتعزيز العزل؟ وقد كان ذلك بأمر من البابا بولس الرابع في منتصف القرن السادس عشر (تحديداً سنة 1555م). ثم لم يتحملوهم حتى أجلوهم إلى فلسطين بدايات القرن العشرين!
والشيعة أخطر وأكثر من اليهود أضعافاً مضاعفة.
يكون الحل في الوقت الراهن بالتعامل مع الطائفية الشيعية، وذلك بتطويقها ودفع ضررها. وهذا لا يتم إلا بالعزل بأي صورة من الصور.
يتم تطويق الطائفية الشيعية وعزلها عبر خطوتين:
- عزل الشيعة عن الحكم
- عزل الشيعة عن السنة: بإقليم في حال التمكين. أو بالذهاب إلى التقسيم في حال انسداد السبل أمام إنشاء الإقليم. استعداداً للتمكين والتقدم نحو نظام الأقاليم.
-
مرحلة الاختراق
وتتم مرحلة اختراق المشكلة الشيعية عبر خطوتين أيضاً:
- تحرير الشيعة من التشيع: عقيدة وعقدة
- تفكيك إيران
ملخص الحل
- عزل الشيعة عن الحكم: لا يمكن البدء بأي حل مع الشيعة إلا في بلد يحكمه السنة. فإن كان البلد محكوماً بالشيعة فتكون البداية من العمل على إخراج السلطة من يد الشيعة وإرجاعها إلى صاحبها الشرعي. وإلى أن يتم استرجاع الحق فلا علاج للطائفية الشيعية إلا بالطائفية المضادة، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194).
- الفيدرالية، أو عزل الشيعة عن السنة: العزل الشيعي المنشود يمكن أن يتم اليوم بطريقة حضارية، وهي تحديد إقامتهم في فدراليات أو أقاليم خاصة بهم. والأقلمة نظام سياسي معمول به فيما يقرب من نصف العالم، مثل أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا وبلجيكا والهند والإمارات. ولكل بلد فدراليته الخاصة به. فتكون لنا فدراليات تناسب وضعنا.
وإلى المعارضين ممن يطمح إلى تكوين دولة وطنية أو قومية أو إسلامية نقول: الفدرالية لا تعني تقسيم الوطن إنما تقاسم الحقوق. وهذه الدول وأمثالها شاهد على قصور نظرة الرافضين للفدرالية، وعدم معرفتهم بماهيتها، وإعراضهم عن رؤية حقيقتها الواقعية. من أراد أن يقيم دولة على أي مقاس: وطني أو قومي أو إسلامي، فالفدرالية لا تتعارض معها، بل تدعمها وتحفظها.
- تحرير الشيعة: الدول المبتلاة بالشيعة قسمان: قسم واقع تحت نير الحكم الشيعي كالعراق وسوريا ولبنان، وهذه عليها بالعمل أولاً على أن تخرج حكم البلد من يد الشيعة إلى يدها. وهذا الهدف قد يسبق إقامة الفدرالية أو يتأخر عنها حسب الفرصة المتاحة. فإن تم استرجاع الحكم، أو كان البلد من الأصل يحكمه السنة، فعلى أهله إنشاء إقليم فدرالي للشيعة بما يتناسب والهدف الاستراتيجي، وهو حل المشكلة الشيعية.
بعد ذلك يكون البدء بمشروع تحرير الشيعة. وفي رأيي أن هذا الهدف ممكن بنسبة جيدة إذا قامت على تنفيذه دولة سنية جادة، كما فعل صلاح الدين الأيوبي بمصر. ولدينا أفكار استراتيجية تفصيلية تخدم تحقيقه. هنا يصبح القول بـ(علاج الطائفية) ممكناً بدرجة تستحق الاهتمام والتجربة. ومن تبقى من الشيعة مصراً على شيعيته مع ادعائه الإسلام فيُلزم بمستحقات هذا الادعاء طبقاً لدعواه. وكيفية الإلزام فتترك إلى حينها.
- تفكيك إيران إلى عدة دول. ووضع العوائق الحقيقية الأبدية في طريق التئامها مرة أُخرى.
بهذا نصل إلى الحل الجذري الذي يضمن لنا عدم ظهورها مرة أخرى.
أما أن يكون (علاج الطائفية) بالمواعظ والنصائح وتبويس اللحى فهذه سذاجة، لن تزيد الحالة إلا سوءاً، والوضع إلا تدهوراً.
وإلى أن يتم تفعيل ما يكفي من خطوات الحل، فلا علاج للطائفية إلا بالطائفية المضادة: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194). ولا عزاء للوطنيين الحالمين، ولا للمتطرفين الساذَجين.
[1]– توفيق السويدي ولد سنة 1891. سياسي عراقي تولى منصب رئاسة الوزراء في العهد الملكي في العراق في أربع حكومات في السنوات 1929، 1930، 1946، 1950. توفي سنة 1968.
[2]– الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990، ص360/الهامش، حسن العلوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، إيران – قم.
[3]– الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع، ص93، معروف الرصافي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، بغداد 2007.
الخطوة الأولى : عزل الشيعة عن الحكم
المَرحَلةُ الأُولى : التّطويقُ
الخطوة الأولى : عزل الشيعة عن الحكم
هل الشيعي يصلح لحكم بلد متعدد الطوائف؟
قلنا آنفاً: لا يمكن البدء بأي حل مع الشيعة إلا في بلد يحكمه السنة. فإن كان البلد محكوماً بالشيعة فتكون البداية من العمل على إخراج السلطة من يد الشيعة، وإرجاعها إلى صاحب الحق الشرعي. وإلى أن يتم استرجاع الحق فلا علاج للطائفية الشيعية إلا بالطائفية المضادة، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194). يستند هذا التقرير الغريب على الثقافة العربية السائدة إلى سببين جوهريين: أحدهما سياسي اجتماعي يتعلق بقواعد السلم الأهلي. والآخر شرعي يتعلق بأصول الشريعة.
-
الشخصية الشيعية وإدارة الحكم
الشيعي – بطبعه – مخلوق إقصائي إلى آخر حد.
وهذا الطبع الخطير مشرعن بالفتوى الدينية. وإذا اجتمع الطبع إلى الدين تمت البلوى واستعصى العلاج. لم يكن هذا التقرير لدينا وليد الاحتلال وما اقترفته الشيعة من جرائم بحق مواطنيهم لم يقترفها لا المغول من قبل ولا الأمريكان من بعد، وأمام شاشات الفضاء، والكاميرات والعيون والشجر والحجر. بل كان رؤية واضحة من قبل عشرين سنة من ذلك، استندت إلى عقيدة القوم وتاريخهم وسلوكهم الذي يحسر عن نفسه كلما سنحت لهم فرصة: خاصة أو عامة (الحركة الغوغائية سنة 1991 مثلاً). ولك أن تسأل: لماذا يتصرف الشيعي هكذا؟
عقدة الشعور بالأقلوية
الشيعة قوم لا يحسنون حكم شعوبهم، ولا التعامل السليم مع جيرانهم. وهذا يعود إلى سبب جوهري متأصل في الشخصية الشيعية هو عقدة (الأقلوية) النابعة من عقدة (الشعور بالنقص)، التي هي أهم الخصائص المكونة للشخصية الجمعية الفارسية وسليلتها الشيعية.
وليست هذه العقدة وليدة ظرف مؤقت أو حدث طارئ، وإنما تكونت وتغلغلت في النسيج النفسي الجمعي للشخصية الفارسية وترسخت فيه عبر آلاف السنين حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منه. أما كيف فإن دراسة الوضع (الجيوسياسي) المحيط بالفرس يجيب عنه. إنه العامل الرئيس وراء تكوين هذه العقدة الراسخة المميزة للشعب الفارسي وكل من خالطهم وتأثر بهم. وانتقلت بالحث والعدوى إلى الشيعة (وكثير منهم أدعياء فرس) حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من النسيج النفسي للشخصية الشيعية.
هذه العقدة تجعل من صاحبها ذا شخصية خائفة متوجسة من الآخر، تتوهم على الدوام أن الآخر يتربص بها الشر ويريد إيقاع الأذى بها وإقصاءها وإبادتها (ﭙـارانويا)؛ فتبادر إلى مهاجمته قبل أن يهاجمها كما يخيل لها وهمها، الذي هو حلقة في سلسلة من التوهمات والعمليات النفسية الشاذة، التي تؤدي بالشيعي إلى أن يكون عدوانياً غادراً مخرباً، وفي الوقت نفسه حزيناً كئيباً متألماً يشعر بالمظلومية والحنين إلى البكاء واللطم، مع رغبة جارفة بالانتقام من الآخر والثأر منه بطريقة سادية بشعة، والسعي بكل ما يستطيع لإزاحته ونفيه من الوجود المشترك أو الحياة نفسها.
فإذا تسلمت هذه الطائفة مقاليد الحكم في أي بلد متعدد المكونات عملت كل ما بوسعها لتفجير وإخراج ما في حاوية تلك النفسية المريضة المعقدة من دمامل وقيح وصديد، وعلى أسوأ ما يطوف في الخيال من صور للشر والفساد والتخريب. وهو ما حصل لعرب الأحواز، ولسنة إيران ولبنان والعراق وسوريا والبحرين واليمن، وظهرت بوادره في شرقية السعودية والكويت.
هناك أمر مهم هو أن (الأقلوية) عقدة؛ فلا تتعلق – وهذه هي طبيعة العقدة – بكون الشيعة أغلبية أم أقلية في البلد. العقدة مرض نفسي غائر في أعماق النفس، يوجه لاشعورياً سلوك صاحبه وإن لم يكن له مبرر في الواقع، كالرجل الذي لديه (رهاب/فوبيا) من الصراصر أو الأماكن العالية، فإنه يظل في حالة خوف منها ويهرب من مواجهتها مهما كانت الأدلة على عدم وجود ضرر منها. وما دعاوى الشيعة اللحوحة في أنهم غالبية نفوس العراق – مثلاً – سوى تعبير معكوس عن هذا الشعور. كالخائف في الظلام من الأشباح يرفع صوته عالياً ليعيد لنفسه بعض الاطمئنان المفقود. وهو نوع من (الاستعراض) يعبر عن خواء لا عن امتلاء، تماماً كالطبل كلما كان أكثر فراغاً كان أشد ضجيجاً.
إن هذا يفسر لنا ويكشف عن السر الكامن وراء كون إيران دولة عدوانية بطبيعتها، تثير الحروب من حولها، وتنشر الخراب وتعتدي على جيرانها، ملتمسة شتى المبررات لفعل ذلك. وتعكس هذا العدوان على الطوائف الأخرى المكونة للدولة مع أن الشيعة يشكلون أغلبية السكان فيها.إن الحاكم الإيراني يعاني من (عقدة الأقلوية).
قارن ذلك – مثلاً – بحاكم أصغر دولة عربية (البحرين) لترى الفارق في علاقة هذا الحاكم بالطوائف الأخرى المكونة للدولة.
قانون اجتماسياسي ( Sociopolitical )
من هنا يبرز لنا قانون يتعلق بالاجتماع والسياسة، لم أجد له حضوراً حتى الآن في قاموس السياسة أو الاجتماع. هو أن الطوائف المصابة بـ(عقدة الأقلوية) لا تصلح للحكم، ولا يصح تمكينها من السلطة لا على أساس الديمقراطية ولا غيرها، حتى لو كانت تمثل غالبية المجتمع؛ لأنها ستوقع الظلم بالأقليات التي تحت سيطرتها بصورة شاذة تهدف إلى محوها وتذويبها ونفيها من الوجود. وإيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن وما يجري فيها اليوم من ظلم وخراب وانتقام وتعطيل لمناشط الحياة شاهد على ما أقول. ودليل على أن أسوأ حل في هذه البلدان هو الحل الديمقراطي. إن الديمقراطية وإن اقتربت من الصواب فيما يتعلق بحكم الأغلبية، لكنها بقيت قاصرة من حيث أن هذا ممكن حين تكون الأغلبية سليمة من (عقدة الأقلوية)، وإلا كانت أسوأ الحلول، كما أسلفت. لقد كانت الديمقراطية بتقريرها لحكم الأغلبية سطحية في نظرتها، كمية في معيارها. وما قررناه هنا يتجاوز السطح إلى العمق في نظرته، والكمية إلى النوعية في معياره.
-
الحكم الشرعي لخضوع السنة لحكم الشيعة
أما الحكم الشرعي لخضوع السنة لحكم الشيعة فيتبين جلياً بما يلي:
أ. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59). فإن لم يكن (ولي الأمر) منا لا تجوز طاعته والخضوع لأمره وحكمه. والشيعة ليسوا منا ولا نحن منهم. ولا هم يَعدون أنفسهم منا ولا يعدوننا منهم.
بل هم أشد منا في هذه المسألة؛ إذ يحرمون أن يحكمهم سني ولو كان هو أبا بكر الصديق t نفسه. ويبذلون كل الجهود لخلعه، أو إثارة الفتن والقلاقل في وجهه. ليس هذا فحسب، بل إن الشيعة في أي بلد يعملون بكل وسيلة لتخريب البلد الذي يسكنونه بما فيه من بشر وحجر تحت ظل هذا الحاكم الذي ليس من شيعتهم. ولا خلاف بينهم في ذلك قط؛ إذ شرعن علماؤهم لهم كل ذلك بالروايات المختلقة والفتاوى الجاهزة التي تواطأوا عليها دون نكير أو مخالف. وكتبهم حافلة بما ذكرت من هذا الأمر الخطير، الذي لو تبنته في بلد عصابة مكونة من عشرة أفراد لأشغلوا دوائر الأمن وأشاعوا الرعب بين جمهور الناس. فكيف إذا كان هذا عقيدة وعبادة يتقرب بها إلى الله ملايين الشيعة في كل قطر يستوطنونه؟!
ب. الأمر الآخر هو أن الشيعي إذا حكم السنة سعى إلى تبديل دينهم، وابتغى كل الوسائل إلى الوصول لهذه الغاية مهما كانت وحشية وإجرامية وخارجة على القانون. وما حياة المسلم إذا سُلِب دينه! والله تعالى يقول: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:191).
وعلى أصحاب التنظير (الوطني) أن يعلموا جيداً أن هذه القضية من طرفيها: السني والشيعي مبنية كلياً على الدين؛ فلا يمكن علاجها بالترضية وتقريب أحد الدينين إلى الآخر للالتقاء في وسط الطريق. إن الدين بذاته وطبيعته يأبى ذلك. لا حل – والحالة هذه – إلا بتبديل أحد الدينين. وبهذا يتبين سذاجة ذوي الحلول السياسية والترضوية؛ فالمشكلة ليست سياسية حتى تستجيب للحلول السياسية. ولا عشائرية حتى تحل بالترضية والتعويض بالمال ونحوه. ومن حاول ذلك كان كمن يبغي علاج مشكلة صحية بنظرية هندسية، أو يريد حل مسألة هندسية بوصفة طبية!
هل أدركنا الآن مدى سذاجة الفكر الوطني في بلد خليط من الشيعة وغيرهم، وتخلفه وجنايته على الطرفين؟
الخطوة الثانية : عزل الشيعة عن السنة
الخطوة الثانية : عزل الشيعة عن السنة
ذكرنا سابقاً أن الطائفية لا علاج لها إلا بتغيير إحدى الطائفتين وتذويبها في الطائفة الأخرى؛ لأن الطائفية حالة قائمة على الدين. وبينا أن الحل السياسي القائم على الدمج والتعايش فاشل مع الشيعة بسبب رابوع (العقدة والعقيدة والمرجعية والولاء لإيران). ووصلنا إلى أن الحل يكمن في الاعتراف بوجود المشكلة الطائفية كحقيقة ما دامت موجودة كواقع، ومن ثَم يكون التعامل مع المشكلة بتطويقها ودفع ضررها، لا العلاج لها بمعنى محوها وإزالتها ما دامت الطائفة موجودة، هو الحل المتاح واقعياً حتى يتم تغيير الطائفة وقطع مادتها. المشكلة في الطائفة، أما الطائفية فناتج عنها. وما عداه فتسكين مؤقت، أو حقنة مخدرة للسنة ريثما يتم تقطيعهم وتذويبهم لصالح الجسد الشيعي.
التعامل وليس العلاج، هذا هو توجه الحل في خطوته الأولى: (التطويق)، إزاء الطائفية الشيعية. والآن نأتي إلى الخطوة التالية:
عزل الشيعة عن السنة
وسألنا سابقاً: (هل الشيعي يصلح لحكم بلد متعدد الطوائف؟)، وبينا الأسباب الموضوعية لعدم صلاحية الشخصية الشيعية للحكم. إن هذه الشخصية تعاني من جملة علل أهمها (عقدة الشعور بالأقلوية)، وهي عقدة ترافق الشيعة حتى في البلدان التي لهم الأغلبية العددية فيها؛ لأنها جزء لا يتجزأ من الشخصية؛ فهي عقدة. والعقدة تفاعل لاشعوري يحكم تصرف صاحبه، علم أم لم يعلم. والغالب عليه عدم العلم. ولعل هذا يلقي الضوء على فهم قوله تعالى عن صنف مريض من البشر، مفسد لكنه يتوهم أنه مصلح: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12). هكذا هم الشيعة، وكذلك الفرس، مرضى مفسدون في الأرض ولا يشعرون. فكيف ينتهون عن الفساد وهم يرونه صلاحاً وإصلاحاً؟! مع استثاء قلة قليلة منهم لا أثر لها في عملية الإفساد التي يتبناها الجمهور.
لا يكفي عزل الشيعة عن الحكم، إلا بعزلهم عن المجتمع؛ فليس للطوائف المصابة بعقدة الشعور بـ(الأقلوية) من علاج، والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة؛ فالعدوانية صفة وسلوك مرافق للفرس منذ آلاف السنين، وللشيعة منذ أن وجدوا بعد ذلك؛ لهذا أقول: على كل دولة فيها نسبة معتبرة من الشيعة أن تبادر قبل كل شيء فتعزلهم عن بقية مكونات المجتمع بإقليم، في طريقها إلى استكمال بقية الخطوات.
“الفيدرالية أو الأقلمة أفضل معادلة سياسية ممكنة لحل الخلاف الثقافي والاقتصادي. بما في ذلك الخلافات الدينية والعرقية، والتباين الاجتماعي. فحين تكون الدولة ذات مكونات تختلف في لغتها وهويتها الثقافية، فإن ذلك يؤدي تلقائياً إلى حدوث توترات مختلفة يمكن أن تقود إلى التجزئة والتقسيم بين هذه المكونات ما لم تحكم بالقوة. والشعوب التي تقاد بالقوة يشيع فيها الظلم ويكثر الاضطراب، ومصيرها التفتت والانقسام”.
“والإسلام يعطي حرية واسعة في أمور السياسة، ولا يحصر الأمر في نظام واحد أو شكل واحد. فالأخذ بنظام (الأقلمة) يجنبنا تلك تداعيات للحلول المتعجلة غير المدروسة. وهو أقرب إلى النظام السياسي التي اتبعته الإمبراطورية الإسلامية في عامة عهودها”.
“وعندما يفهم المعارضون أن نظام الأقاليم لا علاقة له بالتقسيم سيدركون أن ذلك لا يتناقض مع المشروع القومي ولا المشروع الإسلامي، بل يخدمها أعظم خدمة. وسيحيص العرب ويحيصون ولا يجدون حلاً لأزماتهم إلا بالأقاليم، ودون ذلك مزيد من الأزمات التي ستنتهي بالتجزئة والتشرذم والتقسيم”.
الأقلمة نظام حضاري وخيار استراتيجي
إن أقلمة الدولة تجعل كل مكون مشاركاً للمكون الآخر في الخير، ومسؤولاً عما يحصل لذاته من شر. فتتفاهم مكوناتها المختلفة وتتعايش وتتقارب فيما بينها. فتستقر الدولة وتنمو وتتطور. وهذا أرقى وضع سياسي يمكن أن تصل إليه دولة. هذا مع وحدة الكيان السياسي وقوته. وهكذا لن يقف نظام الأقاليم عائقاً أمام تكوين أي نظام سياسي: وطنياً كان أم قومياً أم إسلامياً. وبالنسبة للمشكلة الشيعية فإن هذا يوفر أفضل الأجواء لعلاجها، خصوصاً في ظل نظام إسلامي رشيد. فمن ناحية تمكننا الأقلمة من عزل الشيعة في منطقة خاصة بهم، لا يختلطون بالسنة، ولا يمارسون بث سمومهم بين صفوفهم، ولا يمنحون فرصة للتآمر عليهم بالاختلاط بهم. وفي الوقت نفسه يمنحنا الفرصة والوقت الكفيل بوضع استراتيجية تغييرية بسقوف زمنية مناسبة. ثم لكل حادث حديث.
وبهذا يتبين أن نظام الأقاليم نظام حضاري، وخيار استراتيجي، وحل متطور يناسب الجميع. وليس هو مطلب آني للخروج من أزمة، ينتهي مفعولها بانتهائها”.
قلت هذا الكلام الموضوع بين علامتين (“”)، وعقبت عليه عام 2014 قائلاً: “هذا مع علمنا أن الزمن ربما يكون قد فات، وتجاوز الإقليم إلى التقسيم”.
وفي مثل حالنا نحن سنة العراق، إن عجزنا عن استرجاع الحكم من يد الشيعة، أو إقامة إقليم مؤقت ريثما نتعافى فيه، فلا أقل من الانفصال عنهم بدولة، ثم لكل حادث حديث ضمن مسار الحل الرباعي المذكور آنفاً؛ فالمرضى بوباء مُعدٍ خطير لا علاج لهم دون العزل، ثم من بعد تنفذ جميع خطوات العلاج.
الخطوة الثالثة : تحرير الشيعة
المَرحلَةُ الثّانِيَةُ : الاختِرَاق
الخطوة الثالثة : تحرير الشيعة من التشيع
قلنا سابقاً: إن تحرير الشيعة يعني أمرين:
- تحرير الشيعة من عقدة التشيع.
- تحرير الشيعة من عقيدة التشيع.
من هذا المنطلق فإننا – في المشروع السني وفكره – لا نعني بـ(تسنين الشيعة) معناه الأحادي وهو تحريرهم من عقيدة التشيع، إنما بمعناه الشمولي المزدوج الذي يعني تحرير الشيعة: عقدة وعقيدة.
معالم مهمة في طريق تحرير الشيعة من التشيع : عقدة وعقيدة
بداية لا بد من التنويه بأن العمل لـ(تحرير الشيعة) لم يأت وقته بعد. وإنما أذكره هنا لأن البحث في الموضوع الأكبر يستدعيه وهو (الخطة الاستراتيجية للتعامل مع المشكلة الطائفية الشيعية). وسأجعله على شكل معالم رئيسة في خطة استراتيجية توضع لاحقاً عند استحقاقها المرحلي إن شاء الله تعالى.
-
أدب الدعوة أم خطاب المواجهة ؟
تزهد الشخصية الشيعية في كل خطاب ليّن، وتنفر من دواعي التقريب وتحتقر أصحابه، ولا تستجيب لغير الخطاب الاستعلائي القوي.
هذه حقيقة نفسية جمعية.
إن هذا يتطلب أن يكون خطاب المواجهة، لا أدب الدعوة، هو اللغة والأسلوب المتعين مع الشيعة، اليوم وغداً، وكل زمان ومكان.
فإذا أضفت إلى ذلك أن حرباً ضروساً تدور اليوم بين الشيعة والسنة، أراد لها الشيعة أن تكون حرباً استئصالية عامة لجميع السنة، شاملة لكل مناحي حياتهم بلا رحمة ولا هوادة. تأكد ذلك الخطاب خطاً ثابتاً في سياسة التعامل مع الشيعة. ومن المعروف أن للدعوة لغتها وأساليبها التي تميل بالنفس إلى التهدئة واللين. بينما نحن إزاء خصم نحن بأمس الحاجة الدائمة إلى اليقظة والشد والتعبئة النفسية ضده.
-
التحرير الفردي أم الجمعي ؟
أفلحت الدعوة على مدى العقود التي سبقت الاحتلال في هداية عشرات الألوف، وربما مئاتها، من الشيعة. لكن الشيء الذي لا ينتبه إليه كثيراً، هو أن هذا العمل بقي في دائرة التأثير الفردي، دون أن يتمكن من كسر المنظومة الجمعية للشيعة: فلم تهزم مؤسسة دينية لهم، ولم تتسنن مدينة أو قرية شيعية، فضلاً عن دولة. العكس هو الذي حصل. ودونكم العراق والأحواز والسعودية ولبنان وسوريا واليمن ونايجيريا أمثلةً واضحة الدلالة. في العراق خلال ثمانية عقود (1921 – 2003) تشيعت مدينة البصرة، وهي ميناء العراق الوحيد. وارتفعت نسبة الشيعة في العاصمة بغداد، من (5% – 35%). كما ارتفعت نسبة الشيعة في مدينة تلّعْفرَ (الواقعة بين الموصل وسوريا) من (0% – 40%). وطالت نسب أخرى الحلة وديالى وغيرها من مدن العراق. ومن حيث الحقيقة فإن النسبة الأقل للشيعة كانت أقوى تأثيراً وأثراً من النسبة الأكثر للسنة.
الشيعة يتقدمون جمعياً وإن تقهقروا فردياً، بخلاف السنة فإنهم يتقهقرون جمعياً وإن تقدموا فردياً. بل إن هذا التقدم ربما زاد وضعهم سوءاً من حيث أنه يعطي مؤشراً وهمياً إلى أنهم يتفوقون على الشيعة، دون أن يعوا أن هذا التقدم – في الحقيقة – لا يغني عنهم من التشيع الزاحف شيئاً ذا بال. ولا يدركوا أن الإسلام ليس دعوة سائبة، وإنما هو دعوة ضاربة تؤسس لكيان ودولة تلتقي فيها الدعوة والسياسة ولا ينفصلان عن بعضهما بحال. إن الدعوة إلى التسنين الفردي عمل يعاني من غيبوبة الوعي، فهو في حاجة إلى منبه شديد كي يصل إلى أهدافه المنتجة، وإلا فهو خير مشتت وحق مضيَّع.
-
صعوبة عملية تحرير الشيعة
ليس تحرير الشيعة من العقيدة والعقدة هدفاً سهلاً. وربما لا يتحقق بنسبة كافية، وهذا وارد جداً. وسبق لي أن تكلمت عن ذلك في أواخر كتابي (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية)، وذكرت الاحتمالات التي تحتف بهذا الهدف. وربطت بين الحالة الشيعية والحالة اليهودية من حيثيتين: الأولى: موانع الإيمان الخمسة التي حالت دون إسلام اليهود، والتي ذكرتْها الآيات (75-80) من (سورة البقرة) ومجملها: (تحريف الوحي، التقية، عدم تدبر الكتاب، اتخاذ الدين حرفة، الأمان من عذاب الآخرة). وهي موجودة جميعاً عند الشيعة. والثانية: إعادة انتشار اليهود وإخراجهم من جزيرة العرب. وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة وأشكالاً متعددة من الحلول لا تقتصر على التسنين العقائدي والمجهود الدعوي فقط. وبينت هناك أن الشيعة أكثر إدراكاً لتلك الآفاق، واستخداماً للأساليب والقوانين الجماعية في التغيير من أهل السنة. وأن هذا هو سر النجاح المطرد للشيعة على حساب تقهقر أهل السنة.
على أنني لا أستبعد النجاح في الوصول إلى هذا الهدف بنسبة تستحق الاهتمام، إذا وضعنا حينها خطة ريادية فاعلة، تعتمد أوامر الشرع التي ميعها الترضويون، وضوابطه التي غفل عنها الجاهلون، وضيّق نطاقها المتنطعون. وتستند إلى الحلول التي أشار إليها القرآن الكريم، وتستفيد من تجربة النبي العظيم e، وتستلهم تجارب التاريخ في إخفاقاتها ونجاحاتها. وتقوم على معطيات العلوم الحديثة في النفس والاجتماع والسياسة والجغرافيا، وكل العلوم المطلوبة. وتحترم الزمن والظروف والموازنات الخارجية والداخلية. أما تفاصيل الخطة فترجأ إلى ذلك الحين، وهو قادم إن شاء الله.
وعلى هذا ينبغي أن يكون العمل في بقية بلاد العرب المبتلاة بسرطان الشيعة. وذلك قبيل أو مع العمل على تفتيت إيران وتقسيمها إلى دول، ووضع الحواجز الفاعلة دون عودتها إلى حكم الفرس في دولة إيرانية مرة أخرى. وبذلك نكون قد أنهينا خطر الشيعة والتشيع بإذن الله تعالى.. وإلى الأبد.
-
خطة مستقبلية شاملة
تقف عُقد التشيع حائلاً في سبيل تحرير الشيعة من عقيدة التشيع. ومن يتغير منهم: فردياً أو جمعياً تكون عقده سبباً في إفساد المجتمع وخلخلته، وربما تدميره وقلبه. وأرى أن شبيهاً بهذا حصل إبان الفتح الإسلامي. إذ تغلغلت العنصرية في ثوب الدين والمساواة وطلب العلم، وغيرها من المبادئ والمناشط، حتى تحولت إلى شعوبية اتخذت شكل الظاهرة الاجتماعية التي اجتاحت المجتمع.
لهذا تتطلب خطة التحرير أن تكون ذات محور مزدوج بخطين: خط يراعي العقدة، وخط يراعي العقيدة. وهو ما انبنى عليه العلاج الرباني ليهود المصريين من خلال عملية التيه.
بعد تحرير بغداد بإذن الله، وإعادتها إلى حظيرة أهل السنة، ثم إعادة الشيعة إلى مناطقهم الأصلية، في ظل إقليم ذي تشريعات مناسبة تخدم الهدف الأبعد، وتخليص عاصمة العراق وبقية المدن السنية منهم.. يكون التوجه إلى الخطوة اللاحقة وهي وضع خطة ريادية فاعلة تهدف إلى (تسنين الشيعة) وأسلمتهم من جديد: عقيدة وعقدة. في هذه المرحلة فقط – لا قبلها – يكون هذا الهدف ذا جدوى، ويعبر عن وعي حقيقي بالدين والسياسة.
وما ذلك على الله بعسير!
آن الأوان أن نطرح هنا هذا السؤال:
هل المشكلة في إيران أم في الشيعي؟
وهل المشكلة في الشيعي أم في التشيع؟
الخطوة الرابعة والأخيرة : تفكيك إيران
الخطوة الرابعة : تفكيك إيران
من أكثر الأفكار السياسية شيوعاً، وتسليماً إلى حد يكاد يكون مجمعاً عليه، وأكثرها خطراً وضرراً على الأمة.. القول بأن: “إيران قدر أو حتمية جغرافية لا يمكن إزالتها”. أما شيوعها وذيوعها فمعلوم بحيث يمكنني الزعم بإن عامة من قرأ العنوان استغربه ونكره!
لا بأس سأجعله يستغرب أكثر؛ فلا أكتفي بالقول: “إن وجود إيران ليس حتمية جغرافية”، إنما أزيد فأقول: “إن زوال إيران هو الحتمية الجغرافية”.. حقيقة غفل عنها العرب قروناً طويلة. وعلينا أن نزيل قشورها ونضعها على الطاولة.
وأما خطرها وضررها فمن حيث إنها تخصي العقل عن أن يفكر بحل حقيقي يقلع الضرس المتسوس من جذره فيريح الرأس المصدع من أصله. أقصد أنها تمنعه من أن يضع في باله الهدف الاستراتيجي الذي يعالج المشكلة علاجاً كلياً، وهو إزالة هذه الدولة من الوجود. وإلا ستظل الأمة في صداع مستمر كثيراً ما يهيج، وإذا هاج دمر كل شيء في طريقه.
إيران خطأ تاريخي .. علينا تصحيحه جغرافياً
إيران خطأ ديموغرافي تاريخي، علينا تصحيحه جغرافياً.
تعامل جيل الفتح مع دولة فارس على أنها قابلة للابتلاع والذوبان في أحشاء دولة الإسلام، وأن الفارسي بمجرد إسلامه أو تظاهره بالإسلام يصبح (فرداً أو مجموعاً) عنصراً صالحاً داخل نسيج الدولة، مخالفين قول الحكيم المحدَّث: “ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار.
العقل العربي – بما اختص الله I العرب في العموم من طيبة نفس ونقاء سريرة – يصعب عليه مواكبة المكر الفارسي والغوص فيه إلى أقصى أعماقه بما أوتي أصحابه من خبث نفس وفساد طوية. انظر لقد استوعب العرب فارس عسكرياً بينما استوعبت فارس العرب بالحيلة والمكر. الرابح الحقيقي إذن الفرس لا العرب، بل العرب تضرروا ودفعوا من الأثمان ما بلع الربح ورأس المال.
هذا خطأ وعلينا تصحيحه!
في رأيي أن العقل العربي يتأخر عن إدراك المكر الفارسي نصف قرن على الأقل، ويحتاج نصف قرن آخر ليتجاوز (فجوة التفعيل) وهي المسافة بين اكتشاف الفكرة وتفعيلها. لكن الملاحظة الأهم هو أن من وعى الفكرة عادة ما تضيع فكرته وسط ضجيج الجمهور؛ وبهذا يطول زمن التصحيح؛ فتكثر الخسارات في جانب، وتزيد الأرباح في الجانب الآخر.
نحن في حاجة إلى صاحب قرار يقتنع بالفكرة لنتمكن به من تجاوز (فجوة الجمهور) التي تهبط بأقدامنا إلى أعماق (فجوة التفعيل)، وتجعلنا كمجموع نراوح في مكاننا. وإلا فليس أمامنا سوى أن نطور أنفسنا حتى نكون نحن أصحاب القرار.
هل كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب سيتجاوز (فجوة الجمهور) لو بقي بعيداً عن صاحب القرار؟ هذا هو الفرق الجوهري الذي جعله قادراً على تفعيل فكر شيخ الإسلام ابن تيمية، ويجعله حقيقة اجتماعية واقعة وتجربة سياسية رائعة من حيث عجز ابن تيمية نفسه عن فعل ذلك. لا يفوتك أن الشيخ الثاني إنما حرك بعض أفكار الشيخ الأول، بينما بقيت كثير من أفكاره إلى الآن ساكنة في مكانها تنتظر من يحركها.
أخطاء متتالية
والأخطاء التاريخية التي ارتكبها العرب كثيرة!
بدأها الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص t يوم استدرجه الفرس إلى إسكان صفوة الجيش الفارسي “جندشاهنشاه” – البالغ عددهم من غير عوائلهم أربعة آلاف – في الكوفة؛ فكانوا بؤرة استقطاب لكل الحاقدين على الدولة الجديدة. وفي الكوفة، ومن قبل هؤلاء لا غيرهم، وضعت ديانة التشيع الفارسية. وبسبب هؤلاء لا غيرهم شوهت صورة العراق والعراقيين في نظر من حولنا على مر العصور. الكوفة ذات الطابع الفارسي هي السبب.. هي العلة!
وثنى وراءه علي t يوم استدرجه الفرس إلى الكوفة بؤرة التآمر وعش الدبابير، كما كان قريباً من فارس؛ ما يسر على أساطينها إحكام القبضة عليه، بعيداً عن القوم والجيل الذي تربى في كنف الرسول e.
ثم ثلّث العباسيون فخرجوا على الأمويين، وباستدراج من الفرس أيضاً، وقضوا على دولتهم في المشرق؛ فخرجوا بدولة الإسلام من طابعها العربي إلى الطابع الفارسي من يوم أن تأسست تلك الثنائية اللعينة (الخليفة العربي والوزير الفارسي) إلى اليوم التي انتهت فيه على يد المغول باستدراج الفرس إياهم لهذا الغرض بعد 526 سنة.
واستمر الفرس حاضرين في كل الفتن والمآسي التي جرت على العراق والدول المجاورة، حتى تكلل ذلك بتأسيس الدولة الصفوية سنة 1501م، أي بعد 243 سنة من سقوط بغداد. واستمرت هذه الدولة وإن اختلفت أسماؤها وأنظمتها حتى اليوم. ومن قبل كانت ممتدة قبل الإسلام بمئات السنين. كل هذا تسبب في رسوخ فكرة الوجود الجغرافي الحتمي أو الأبدي لإيران، وأن إيران قدر جغرافي لا يزول. والحقيقة أن هذه الفكرة ليست أكثر من ملاحظة انطباعية سطحية لا تقوم على دليل؛ والعكس هو الصحيح. وإليكم البيان:
أيسر الخطوات
في رأيي أن أيسر الخطوات الأربع هي تفكيك إيران إلى خمس دول على الأقل، هي: الأحواز، والبلوش، والكرد، والأذر، والفرس، وإن بدت على خلاف ذلك! غني عن القول أن (أيسر) لا يلزم منه كون الهدف يسيراً، وإنما هو يسير مقارنة بغيره.
يتصور العرب أن إيران دولة قوية متماسكة، بينما هي أبعد ما تكون عن التماسك. والرئيس العراقي صدام حسين استعجل القطاف فركز على العمل العسكري، وكان الأصوب أن يسبق العمل العسكري عمل أمني وفكري وسياسي واقتصادي، ويكون القتال جهداً احتياطياً قد لا نحتاجه، أو هو خاتمة المطاف لضرب البناء الخاوي الموشك على التداعي. قد يقال: إن إيران أعجلته عن ذلك. وأقول: صحيح، ولكن هل كان في وارده خطة طويلة الأمد لتفكيك إيران؟ بل هل في باله هذا الهدف أصلاً؟ لا أظن!
انظر إلى الفرس كيف يعتمدون النفس الطويل، ونخر العدو من الداخل، على العكس من العرب الذين يمتازون بالعجلة، والتركيز على القوة العسكرية. الفرس يركزون على (المناعة) فيضربونها، والعرب يركزون على (المنعة) فيعتمدونها. وعقلية مثل عقلية الفارق عمر بن الخطاب t أظنها نادرة بيننا على مدار التاريخ. لقد كان منزعجاً من التوسع في الفتوحات، والتوغل في بلاد فارس. لكن مجايليه كانوا يلحون عليه، فرضخ مكرها أو مسايراً لهم. وأرى أن هذا كان خطأ ستراتيجياً وقع فيه العرب إذ اجتاحوا تلك البلاد في غضون سنوات معدودات. نعم استوعبوا فارس عسكرياً، لكنهم ضاقوا بها ثقافياً. وكان لهذا آثاره الضارة في الفكر والدين والأمن والسياسة. بدأت من مقتل عمر نفسه، ثم ظهور الفكر الشعوبي، وحركة الوضع في الحديث، وعلم الكلام وتأويل الصفات، والقول بخلق القرآن، وسلسلة طويلة من المضار ما زلنا نعاني منها حتى اللحظة. وكان الصحيح هو التريث والتغلغل شيئاً فشيئاً. فكما أن تثبيت حركة الفتح في حاجة إلى حامية عسكرية، فهو في حاجة أشد إلى (حامية ثقافية) واستيعاب ديني واجتماعي حقيقي لا مظهري. وهذه قضية فكرية تاريخية لا تنال من عظمة ذلك الجيل الدينية والحضارية.
ضعف المرتكز القومي لدولة إيران أساس استراتيجية تفكيكها
النظر إلى الجغرافيا ضرورة من ضرورات السياسة. فماذا تقول جغرافية إيران؟
تتكون دولة إيران من أكثر من خمسة عناصر قومية أهمها: الفرس، الكرد، الأذر، العرب، البلوش، التركمان. وعند مقارنة نسبة الفرس إلى النسبة الكلية لبقية القوميات يظهر الخلل في مرتكز الدولة الذي يقوم عليه بناؤها، ويتبين أن إيران دولة مصطنعة؛ فالفرس يشكلون أقلية قد لا تصل إلى 35% من مجموع السكان. وحسب الأرقام الرسمية يشكل الفرس 51%! وهي نسبة غير حقيقية، المقصود منها إعطاء فكرة وهمية عن أن الفرس هم أغلبية السكان فلهم الحق في حكم الدولة. ومن عرف مدى تمكن خليقة الكذب عند الفرس تيقن من بطلان هذه النسبة، وعرف أيضاً أن نسبة الفرس أقل من ذلك بكثير؛ فلو كانت النسبة تعينهم لما اكتفوا بهذا الرقم المفضوح. هذا وفي الفرس سنة، وهذا يعيننا كثيراً في مشروع التفكيك.
شيء آخر هو أن الفرس لا يكاد يكون لهم امتداد خارج حدود إيران، بخلاف بقية القوميات. وهذا عامل ضعف آخر يكشف عن اصطناعية الكيان السياسي للدولة. أضف إلى ذلك عوامل أخرى مهمة منها العامل الاقتصادي. يكفي أن تعلم أن النفط الإيراني أكثر من 90% منه في الأحواز، وأنابيب التصدير عبر الخليج العربي تمر من خلالها!
القوميات الإيرانية جاهزة للانفصال
تعيش الشعوب الإيرانية حالة مأساوية من الاضطهاد العرقي والثقافي والاقتصدي، وتعاني من الظلم بشتى أنواعه وأشكاله. وهي تتململ وتثور في كل مرة للخلاص من قبضة الفرس الظالمة. لقد ثار العرب في الأحواز مرات منذ الاحتلال الفارسي لها سنة 1924 وحتى اليوم، وكذلك الكرد غربي إيران، الذين نجحوا سنة 1946 في إقامة دولة لهم باسم (جمهورية مهاباد). وشهد العام نفسه محاولات جادة من الأذريين لإيجاد جمهورية مستقلة شمالي إيران. والبلوش أيضاً، وهم الآن في حالة حرب مع دولة فارس.
اعتماد مبدأ (الهجوم خير وسيلة للدفاع) يستلزم ضرورة التحرك الجاد لنصرة هذه الشعوب للخلاص من القبضة الفارسية، وسيفكك الكيان المصطنع لهذه الدولة الشيطانية. بدلاً من لزوم حالة الدفاع والاكتفاء بتلقي الضربات.
وسيرى العالم لأول مرة زوال دولة إيران من الخريطة، وبروز خمس دول جديدة على أنقاضها.
إن الأمن العربي مهدد بالدرجة الأولى والأكبر: خارجياً من إيران، وداخلياً من الشيعة. وهذه الخطة الرباعية كفيلة بعون الله بخفض الخطر الفارسي والشيعي كليهما إلى درجة يمكن السيطرة عليه تماماً.
بعد التفكيك هناك خطوات لاحقة لا بد منها، ولكل حادث حديث. مثلاً: الخريطة الجغرافية تبين أن العراق وأفغانستان كل واحد منهما هو الحزام الأمني للآخر. وبهما يكون الفرس بين فكي كماشة؛ وهذا يستلزم علاقات بينية متينة وإجراءات أمنية وسياسية وغيرها تكفل بقاء الفرس تحت دائرة النظر والسيطرة. هل أدركنا الآن لم استدرجت إيران حمير الأمريكان لإسقاط كابل وبغداد قبل التحرك الأخير لإقامة إمبراطوريتها المنشودة!
إن هذه الخطوة التاريخية لضرب الفرس في عقر دارهم وكيانهم، مع الاستفادة من كل تجارب التاريخ، ومعطيات العلم في النفس والاجتماع والأمن والسياسة والعسكرية، وعدم تعجل القطاف.. باتت ضرورة للخلاص من الصداع المزمن لشعوب المنطقة. كما أنه سيقطع الطريق على التآمر الغربي ضد هذه الشعوب، ومشروعه القائم أصلاً على التحالف مع التآمر الشرقي. إن إزالة إيران من الخريطة كفيل بالأمرين معاً.
لا يفتّـنَّ في عضدك أن هذا العمل غير مسبوق تاريخياً؛ فليس ذلك من شرط حركة التاريخ. إن الأخطار الكبيرة في حاجة إلى استراتيجيات عظيمة. والاستراتيجيات العظيمة في حاجة إلى أفكار بمستوى حجمها، وقادة على قدر التحدي. ونحن لها إن شاء الله.
القسم الثاني : المنهج
القسم الثاني : المنهج |
1. الركائز العملية للمنهج |
2. فقه الهوية |
3. التجديد والإبداع |
4. الإيمان والتنمية الإيمانية |
5. المرأة في مشروعنا |
6. نظرات في القيادة |
7. نظرات في السياسة |
8. نظرات في المال والسياسة المالية |
9. علوم أساسية |
10. موقفنا من العروبة ومن القوميات الأخرى في العراق ( الكرد نموذجاً ) |
مقدمة المنهج
الركَائِزُ العِلميَّةُ لِلمَنهَج
طلعت الشمس، وظهر تحتها كل شيء..
وتبين لنا – بما لا يقبل الشك – أن الشيعة والتشيع الفارسي مشكلة خطيرة، هي من كبريات المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية. بل هي المشكلة المحورية، و(القضية المركزية) في بلد مثل (العراق).
لا يقتصر خطر التشيع على الدين فحسب. إنه يجتاح الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد، ووحدة الوطن والشعور بالانتماء إليه، وإلى الأمة الأكبر وكيانها ومفاهيمها وقيمها وثوابتها. فمواجهته، والتصدي له ضرورة حتمية من أجل إنقاذ هذه القيم جميعاً.
لا بد من المواجهة فماذا أعددنا لها ؟
إن هذا الخطر المتعدد الجوانب يحتم على الجميع مواجهته، ووضع الخطط والبرامج لحل مشكلته، ومعالجة خطره.
في كتاب (التشيع عقيدة دينية أم عقد نفسية؟) أثبتنا بالتفصيل كيف أن المجتمع الشيعي في عمومه – كالمجتمع اليهودي – يعاني من جملة أمراض وعقد نفسية جمعية، هي السبب المتواري وراء كل العقائد والطقوس والسلوك الذي يجنح إليه ذلك المجتمع أينما كان: في أي دولة، أو مدينة، أو إقليم.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الضروري لمن تصدى لهذه المهمة الصعبة أن يضع نصب عينيه ذلك الخليط المتشابك من الأمراض والعقد النفسية، وأن يكون جاداً كل الجد، ومقدراً موقعه فيدرك المسؤولية الدينية والوطنية والقومية، والمسؤولية التاريخية التي ينبغي أن يتحملها كل من وضع نفسه هذا الموضع.
لم نجد في ساحة الدعوة – على الأقل في بلادنا المغزية في عقر دارها بالتشيع – منهجاً واقعياً حكيماً: ينظر إلى الواقع بعين فيحدد المشكلة الكبرى؛ ليدرس أبعادها الفكرية والنفسية والتاريخية والاجتماعية، وإلى الكتاب والسنة بالعين الأخرى؛ كي يضع العلاج المناسب في ضوء ذلك الهدى الرباني الحكيم.
كل الذي وجدنا: رقاعات من هنا وهناك، يمكن تلخيصها بكلمة واحدة هي: البحث عن وسائل قربى تجمع بين أهل الحق وأهل الباطل، ولو على حساب الحق. وهو ما نطلق عليه اسم (المنهج الترضوي). إنه منهج يبحث عن وسائل التعايش والتواؤم، ولو على حساب الحق، وحساب الحقوق، ولا يبحث عن سبل الحل، بل يتطير من ذكره إن كان يسبب أزمة، أو يثير مشكلة، أو يستلزم أي نوع من المواجهة.
وهو منهج فاشل جملة وتفصيلاً، وواقعاً وتأصيلاً. لم يستطع إثبات صلاحيته للمواجهة أمام الهجمة الشعوبية الشاملة الشرسة: لا في علاج الحالة، ولا في إيقاف زحفها وانتشارها. وقد شرحت ذلك مطولاً في كتاب (لا بد من لعن الظلام).
المنهج الأمثل
في هذا الفصل نبين المنهج الذي نراه الأمثل والأفضل من بين (المناهج) التي (وضعت) أو اتبعت دون وضع مسبق في التعامل مع خطر الشيعة. وذلك من خلال النظر في الكتاب والسنة وسيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم وفي مقدمتهم الرسول الأكرم والمعلم الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم التجربة الميدانية الطويلة الأمد، والخبرة المكتسبة من التعامل المباشر، ومعه النظر في الحركات التغييرية على مدى التاريخ: دينية كانت أم دنيوية، صالحة أم منحرفة.
من خصائص منهجنا
إن تقييدنا المنهج بوصف (الأمثل) يعني بقاءه مفتوحاً للنقد والحذف والإضافة، فهو (الأمثل) أي مقارنة بغيره، وليس (المثالي) أو الأفضل مطلقاً. وهذه خصيصة مهمة جداً من خصائصه. ومن دونها يفقد المنهج حيويته ومرونته التي تمنحه قابلية التطور، والقدرة على التغيير والاستمرار.
خريطة المنهج
ارتأيت بدءاً أن ألخص المنهج في نقاط مختصرة وخطوط عريضة. ولا يخفى ما في هذا من فائدة كبيرة؛ إذ هو يجمع المعلومات التي تبدو واسعة مشتتة في خريطة صغيرة مجتمعة، يمكن رؤيتها بكل – ومن كل – جوانبها، ما يجعل القارئ المتطلع، وصاحب القضية المتمعن يسير وفي ذهنه المسار الموصل إلى الهدف واضح محدد.
ركائز المنهج الأساسية
نقصد بـ(الركائز الأساسية) المادة العلمية التي يقوم عليها منهجنا.
وهي ستّ ركائز، مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
- قسم نظري وهو ثلاث ركائز
- وقسم عملي وهو ركيزتان اثنتان
- والقسم الأخير وهو ركيزة واحدة
أولاً : الركائز النظرية
-
المقاصد أو الأهداف الكبرى لمنهج التغيير الذي نبتغي تحقيقه، وهي أربعة:
أ. تحصين الصف الداخلي من الشيعة
ب. توجيه أو تفجير طاقات السنة (الأمة المسلمة) ضدهم
جـ. سحب المشروعية الدينية من الشيعة صراحة، وتثبيتها لأهل السنة فقط
د. تسنين الشيعة ليس مقصوداً قصداً أولياً
-
المنهج القرآني في الاستدلال الأصولي، ويقوم على الأسس الثلاثة التالية :
أ. المرجعية القرآنية في الأصول
ب. محاكمة الأصول إلى محكم القرآن الكريم
جـ. نقض المنهج الشيعي
-
الموضوعات الأساسية للمنهج، وهي خمسة :
أ. بيان العقيدة الربانية الصحيحة
ب. الإعلان بفضح أباطيلهم وخزعبلاتهم بتفاصيلها
جـ. بيان خطر الشيعة وخطر دينهم (التشيع)
د. عرض مخازيهم التاريخية
هـ. تجريدهم من دعوى الانتساب إلى (أهل البيت)
أي.. بهذه الموضوعات، نحقق الأهداف المقصودة، طبقاً للمنهج القرآني.
ثانياً: الركائز العملية
- منهج التغيير الجمعي، والفرق بينه وبين منهج التغيير الفردي
- الأساليب والمبادئ الربانية في طرح القضية
ثالثاً : نقد المنهج الترضوي
1. المقاصد والأهداف الكبرى للمنهج
أولاً : الركائز النظرية
أ. المقاصد والأهداف الكبرى
يتبين من تاريخ دعوة الإسلام أن ثمة أصنافاً من البشر – كالمنافقين واليهود وكثير من النصارى – لم يؤد المنهج الإلهي المنزل، والذي طبقه الرسول e معهم إلى النتيجة المطلوبة من هدايتهم، ولم يتغير منهم سوى أفراد قلائل. لكن المتأمل جيداً يجد هذا المنهج قد أفصح عن ثلاث نتائج عظيمة هي:
أ. سحب المشروعية الدينية من أهل الكتاب، ونقلها إلى المسلمين. وكان هذا الأمر صريحاً قطعياً، بلا أدنى أثر للشك أو الضبابية أو المجاملة، أو اللف والدوران تحت أي ذريعة، أو تقدير أي مصلحة من المصالح. وهذا ساهم مساهمة كبيرة في تقليص حجمهم، وخطر تغلغلهم واندساسهم وقبول الناس لهم، واحترامهم؛ على أساس أنهم أصحاب دين سماوي مقبول عند الله.
ب. تحصين الصف الداخلي منهم.
جـ. وتوجيه طاقات الجماعة المسلمة ضد المعتدي منهم.
أما المنافقون فقد فضحهم، وذكر سماتهم وعلاماتهم، وندد بأفعالهم، وعرّى نواياهم ومقاصدهم، وحذر الجماعة المسلمة منهم تحذيراً أشد من تحذيره من الكفار، سواء كانوا مشركين أم أهل كتاب. وصولاً إلى النتائج السابقة.
إن المقاصد التي نبغي الوصول إليها من وراء منهجنا أربعة، وهي:
أ. تحصين الصف الداخلي من الشيعة
ب. تفجير طاقات السنة (الأمة المسلمة) ضدهم
جـ. سحب المشروعية الدينية من الشيعة صراحة، وتثبيتها لأهل السنة فقط
د. تسنين الشيعة ليس مقصوداً قصداً أولياً
وإليكم عرضاً لها بشيء من التفصيل:
أ. تحصين الصف الداخلي للسنة من الشيعة
تلك هي الخطوة هي أول عناصر أساس العلاج أو المواجهة، وهي تؤدي ضرورة وتخدم وتتزامن مع أهم مقاصد وأهداف المنهج، ألا وهو تحصين الصف الداخلي لأهل السنة والجماعة، وحمايتهم من اختراق الشيعة لهم.
ب. تفجير طاقات السنة (الأمة المسلمة) ضدهم
وإذا تحققت تلكما الخطوتان على أرض الواقع ستتبعهما الخطوة الثالثة تلقائياً، ألا وهي تفجير طاقات المجتمع ضد هذا الخطر. ومن دونهما سيبقى المجتمع السني الملياري مخدراً مشلول الحركة. هنا ندرك السر الأكبر في تقهقر أهل السنة وتراجعهم في المجتمعات المختلطة أمام الزحف الشيعي. إن رجال المؤسسة الدينية والدعوية يخشيان الاقتراب من حمى الخطوة الأولى. فلا خطوة ثانية ولا ثالثة، ولا غيرهما. بل إذا رأيتهم يتحركون فإنما هي حركات مراوحة على طريقة “مكانك سر”. وإذا كان ثمة من نقلة فهي إلى الوراء، وإن كانت الوجوه تشير إلى الأمام.
هذه هي الحقيقة. وهذا هو التشخيص. ومعه العلاج.
جـ. سحب المشروعية الدينية من الشيعة وتثبيتها لأهل السنة فقط
وتأسيساً على ما سبق نقول: إن أول خطوة نخطوها في طريق مواجهة الشيعة وتشيعهم الفارسي، هو سحب بساط المشروعية الدينية من تحتهم.
تكون هذه الخطوة بإيصال الحقيقة الآتية إلى الناس – وأولهم أهل السنة في العراق، وكل مكان أو قطر مشابه – وهي: إن التشيع دين آخر مبتدع لا علاقة له بالإسلام قط. بل أنشئ هذا الدين أصلاً لمحاربة الإسلام وأهله. إن علماء الشيعة لا يؤمنون بهذا الدين الذي جاء به الصحابة رضي الله عنهم إلى أجدادهم المجوس؛ فهم يكفِّرون الصحابة – إلا بضعة نفر منهم – على هذا الأساس. فالصحابة – في اعتقاد الشيعة – لم يكونوا على دين الإسلام الذي تركهم النبي e عليه، وإلا لم يكفِّروهم. إذن الدين الذي عليه الصحابة لا يؤمن به هؤلاء العلماء، بل يَكفُرون به، ويُكفِّرون غيرهم عليه. فماذا بقي لهم من دين الإسلام؟ وعلى أي إسلام هم؟!
هذا وقد أجمعوا على تكفيرنا. لكنهم عند (التقية) يسموننا مسلمين، بمعنى الإسلام الظاهر دون الإيمان الباطن الذي ينجي صاحبه من الكفر والخلود في النار؛ فهو كإسلام المنافقين، الذين يطلق عليهم اسم الإسلام دون الإيمان. ولك أن تلاحظ أنهم حين يشيرون إلى شيعتهم يسمونهم (المؤمنين). وهو اسم لا يطلقونه على سواهم؛ للسبب الذي ذكرناه.
وهذا كله يستدعي موضوعات أخرى مهمة. مثل:
التأكيد على أن دين السنة هو الدين الحق، ودين الشيعة دين باطل لا أساس له.
فضح علاقة الشيعة المزيفة بأهل البيت، وقطع هذه العلاقة من الجذور.
حسم وقطع نسبة الشيعة لأمة الإسلام، وبيان أنهم طائفة لا علاقة لها بهذه الأمة. وأول دلائل هذا القطع هو إجماعهم على تكفير أهل السنة. وثانيها عدم اعترافهم بشرعية هذه الأمة ووجودها والسعي لمحاربتها وإزالتها ما وجدوا لذلك سبيلاً. وثالثها رفضهم الانتساب لأمة الإسلام، واستنكافهم وأنفتهم من ذلك، واعتبار أنفسهم أنهم هم الأمة لا غيرهم، ونفيهم أن يكونوا جزءاً من أمة الإسلام إلا على سبيل المداهنة والتقية.
د. تحويل الشيعة إلى سنة ليس مقصوداً أولاً
لعل قائلاً يقول: فأين هدف دعوة الشيعة إلى التسنن من أهداف منهجك؟
فأقول: تحويل الشيعة إلى دائرة أهل السنة والجماعة مقصد نبيل وهدف عظيم، لو تحقق فإنه يحل الإشكال من الأساس. ولكن.. ما كل ما هو أول في المرتبة، هو أول على مستوى العمل والحركة. بل ربما هناك خطوات لا بد من إنجازها للوصول إليه. والتعجل يفوت الفرصة، ويقطع الطريق. والحكيم من قسّم طريقه إلى مراحل حسب الظرف.
ليست مرحلتنا اليوم هي مرحلة تحويل الشيعة إلى سنة. إن واجب الوقت اليوم، الذي لا يعدله واجب، هو دفع ضرر الشيعة عن السنة، وليس جلب نفعهم بتسنينهم. ودفع الضر مقدم على جلب النفع شرعاً وعقلاً.
كيفية تحصين أهل السنة، وتوعيتهم وتحذيرهم من خطر الشيعة، هو واجبنا الأول في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا. والتقصير فيه انشغالاً بدعوة الشيعة خطل في الرأي، وخطر في النتائج لا يعدله خطر آخر؛ لأنه سيعرض السنة للذوبان والتلاشي في بلد مثل العراق، وتحول أجيالهم إلى التشيع. وذلك الفتنة التي هي أكبر وأشد من القتل.
إن هذه الخطوة ستؤدي حتماً إلى الخطوة اللاحقة وهي تحريك السنة ضد خطر الشيعة. هنا تأتي مرحلة الاختراق، والتفكير في عملية التحويل، التي يدندن حولها غير الخبراء في هذا الميدان، والتقليديون والجامدون والحالمون. أي إن تسنين الشيعة، في برنامجنا، سيكون تحصيل حاصل، فنحقق كسبين في وقت واحد: الحفاظ على رأس المال بتحصين السنة وحمايتهم من الذوبان في التشيع أولاً، وتسنين الشيعة ثانياً وآخراً. بينما القفز على هذه الخطوة سيفقدنا الكسبين معاً: سنخسر رأس المال وهو السنة، فيكون الربح وهو تسنين الشيعة – والحالة هذه – وهماً نبرر به خوفنا وهروبنا من المواجهة؛ وأي ربح يحصل في عدم وجود رأس المال؟!
على أنه حتى لو كان الهدف المرحلي هو دعوة الشيعة إلى التسنن، فليس بلوغ هذا الهدف بالطريقة التقليدية، القائمة على المجاملة، وإخفاء الحقيقة. بل ولا السعي إلى تسنينهم أولاً، إنما الأولوية لتشييع الشيعة. وقد بينت ذلك في بداية الكتاب.
لا بد من الصدع بالحق، وبيان الحقيقة كما هي. بهذا يكون منهجنا سليماً فاعلاً مؤثراً. وسأبين هذا حين أتحدث عن منهج التغيير الجمعي المطلوب، وضرورة التخلي عن المنهج الفردي الذي لم نجد سواه في الواقع.
إن أكثر ركاب قطار الدعوة يسلكون الطريق الأسهل لاتقاء خطر الشيعة، وتجنب شرهم؛ فيجنحون إلى أسلوب المجاملات والمداهنات، المؤطر بدعوى الحكمة، والمقنن بالنصوص الانتقائية؛ ولذلك فغاية ما يهتمون به دعوة الأفراد بعيداً عن الجمهور. بينما المطلوب في سبيل وقاية المجتمع – وكذلك هدايته – أسلوب جماعي غايته تغيير المجتمع ككل. وذلك لا يتم إلا بتحصين أهل السنة أولاً، ثم التحرك على الشيعة ثانياً من أجل رفعهم إلى ذلك المستوى الحضاري، وصولاً إلى تغييرهم النهائي، كهدف أبعد ومرحلة أخيرة في طريق التغيير.
تداخل المراحل
ليس هذا التقسيم للمراحل، هو تقسيم جامد: لا مرونة فيه، ولا يقبل الحركة، والتداخل حسب ما تقتضيه طبيعة الظرف في أي جزء من الأجزاء التي لها خصوصية معينة. ولربما لا يمكن لأحد في مكان ما أن يصرح بالحق أو يعلن بالحقيقة إلا بقدر محدود، لا يتطابق تماماً مع مضمون المنهج. إنما نحن نتكلم عن طبيعة المرحلة بعمومها، وما ينبغي أن يكون عليه المنهج في تسلسل خطواته طبقاً لذلك. وسيرة الرسول e وسنته تعيننا على الفهم الشمولي، الذي ينظر إلى جميع الزوايا في وقت واحد. فطبيعة المرحلة المكية دعوية سلمية، وطبيعة المرحلة المدنية دعوية عسكرية. لكن النجاشي رضي الله عنه كانت له خصوصية اقتضت الاستثناء ليس من مقتضى طبيعة المرحلة المدنية فحسب، بل والمرحلة المكية أيضا! وهكذا.. على أن لا ننساق وراء الرخص والاستثناءات، والتقاط النصوص وعزلها عن سياقها النظري والعملي، حتى يمسي الاستثناء هو القاعدة، والقاعدة تعود هي الاستثناء، وأهلها غرباء. وعلى أن نتبع القاعدة العظيمة التي وردت في حديث رواه البخاري عن النبي e ونصه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). فمن لم يقدر على قول الحق لا يحل له أن يتعداه إلى قول الباطل ومسايرته. إلا إذا كان المرء مكرهاً مضطراً. وباب الإكراه له موضع آخر.
التحصين ثم.. التحصين
مجمل القول: علينا أن ننشغل بتحصين صف أهل السنة، وتنمية مناعتهم ضد التشيع، وتحذيرهم من الشيعة. واستغلال الظرف الحالي قبل فوات الأوان في ترسيخ الحقيقة التي تبين أن الشيعة أصحاب دين يمنعهم من التعايش مع غيرهم من المذاهب. دين يحثهم على قتل المخالف (السني وغيره)، وأخذ ماله وانتهاك عرضه، وإزاحته من أرضه، وإخراجه من وطنه. فضلاً عن تكفيره.
وهذا هو الذي يفجر طاقات المجتمع باتجاه الشيعة، ويجعلها قادرة على التصدي والمواجهة بشتى الوسائل والأساليب. ولا بأس من تعدد الأدوار ما دام الهدف واحداً.
تحصين السنة هو حجر الزاوية، والأساس الذي يعتمد عليه المنهج. ولا يجوز المساس به، والتقصير بشأنه مهما كلف الأمر. وإلا كنا كمن يسير في فراغ، أو يبني بلا أساس.
2. المنهج القرآني في الاستدلال الأصولي
ب. المنهج القرآني في الاستدلال الأصولي
خرجت الشيعة عن الخط العام للإسلام. وكان خروجها بناء على مسائل أصولية استحدثتها لم تكن معروفة لدى المسلمين من قبل، مثل بدعة (الإمامة): هذه العقيدة التي يعتبرها الشيعة الأصل الثاني في الإسلام بعد التوحيد، ويأتي ترتيبها في اعتقاداتهم قبل النبوة. فـ(الإمامة) عند الشيعة أعلى مقاماً من النبوة. وهي فوق المقامات الأخرى – ما عدا مقام الربوبية – التي يمكن أن يصل إليها الإنسان)([1]). ولهم على ذلك أدلة نصية من الروايات، وأقوال صريحة لعلمائهم، هي موضع إجماع عندهم.
وكفَّروا من لم يقر بهذه العقيدة الباطلة. كما في رواياتهم وأقوال علمائهم.
الخلاف مع الشيعة إذن هو خلاف أصول لا فروع. بل هو خلاف بين دينين، لا طائفتين، فضلاً عن أن يكون بين مذهبين.
المنهج الرباني المحكم
وهنا يحق لي أن أسأل وأقول: كيف يكون الرد المحكم على ضلالات الشيعة، بحيث يتبين بوضوح تام، وبسرعة، وبجملة واحدة بطلان ما يدعونه من اعتقادات، ويذكرونه من سفاهات؟ رد يقطع الطريق على الشيعي أن يلف ويدور، ويطيل ويستطيل. ويتمكن به السني الأُميّ من غلبة العالم الشيعي!
لم يقصر العلماء في بيان الحق، وإيراد الحجج التي ألقمت خصوم الباطل الحجر. لكن عامة ما جاءوا به يحتاج المتلقي له إلى أن يكون على مستوى من العلم، بعضه لا يدركه إلا النخبة. بينما المطلوب رد بالشروط السابقة. فإن دين الله الذين نزل للجميع: العالم والجاهل، والقارئ والأمي.
والسبب أنهم اتبعوا في ردهم على ضلالات الشيعة المنهج نفسه الذي يتعاملون به في ردودهم على بعضهم. أي بين أهل السنة أنفسهم. ولا شك أن اختلافات أهل السنة فيما بينهم هي اختلافات فروع لا أصول. وهذه يصح فيها الرد إلى الكتاب والسنة بأدلتهما القطعية والظنية. بل إلى الأدلة العقلية كالقياس وما شابه، وذلك في غياب النص. فالفروع يمكن أن يستدل لها بالحديث وحده، أو بآية ظنية الدلالة، أو حجة عقلية على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه، ولا يشترط لها صريح الآيات فقط. وهذا لا يصح – من حيث المنهجية العلمية لا من حيث النتيجة النهائية – في الخلاف مع الشيعة؛ لأنه خلاف أصول لا فروع وحدها. وهذا فرق جوهري منهجي. يستلزم فرقاً في منهج الرد.
فما هو المنهج الرباني، أو الرد القرآني الذي هو في متناول الجميع دون فرق بين عامي وعالم؟ نريد رداً يليق بالأصول، وليس هو مما يصلح للفروع. رداً يصلح أن يسمى بحجة الله البالغة. إن هذا يقوم على الحقيقتين التالتين:
-
المرجعية القرآنية في الأصول
أي إن القرآن الكريم جامع لكل أصول الدين. وأما السنة فأكدت وفصلت، لكنها لم تنشئ أصلاً جديداً زائداً على ما موجود أساساً في القرآن.
-
محاكمة الأصول إلى محكم القرآن الكريم
الأصول ثابتة في القرآن بالنص الصريح المحكم. فما لم يكن كذلك فليس بأصل.
وثمت حقيقة ثالثة لا تكتمل الحقيقتان السابقتان إلا بها سأذكرها لاحقاً.
وقفة مختصرة مع الحقيقتين السابقتين
من رحمة الله تعالى بخلقه أنه حفظ لهم كتاباً لا يمكن أن يتطرق الخلل إلى حرف واحد من حروفه الشريفة. وقد اشتمل هذا الكتاب على أصول الدين، وأساسيات الهداية جميعها. كما قال تعالى:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89). كل الأصول موجودة في القرآن. وبالنصوص الصريحة.
فهذه ثلاث مسائل، أو مقدمات عظيمة:
- حفظ القرآن الكامل
- اشتمال القرآن الكريم على أصول الدين جميعاً
- وجود هذه الأصول، وثبوتها بالنصوص المحكمة الصريحة
منهج الراسخين ومنهج الزائغين
حين أؤكد على شرط إحكام النص القرآني فإنما أنطلق من قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران:7). هنا منهجان:
- منهج الراسخين: يستندون إلى محكمات الكتاب – وهي نصوصه الصريحة – رادين متشابهاته – وهي ما احتملت أكثر من معنى مختلف متضاد، أو لم يتبين معناها على وجه التحديد – إلى محكماته، أو توقفوا حتى يتبينوا. ولا يبنون دينهم على ما تشابه منه.
- منهج الزائغين: يروغون عن المحكمات الواضحات إلى المتشابهات المحتملات.
الحقيقة الكبرى
هنا نصل إلى الحقيقة الكبرى، وهي: ضرورة أن تكون أدلة الأصول آيات قرآنية محكمة صريحة. وهذا الشرط جامع مانع. فمن بنى أصله على آية متشابهة رددناه مباشرة من الوهلة الأولى؛ لوضوح زيغه وبيان بطلانه. ومن بنى أصله على رأي، أو رواية لا مستند لهما من محكم القرآن، رددناه كذلك؛ لأنه لو كان ما يدعيه أصلاً لورد ذكره في القرآن أولاً، الذي أنزله الله تبياناً لكل شيء على الوصف أو الشرط المذكور.
لا نحتاج إذن في نقاشنا مع الشيعة لنبطل أصولهم من الأساس، ونأتي بنيانهم من القواعد إلا أن نسأل سؤالاً واحداً: هل لك أيها الشيعي على ما تقول نص قرآني صريح؟ وعند الجواب لن يجد إلا المتشابهات من الآيات، والشبهات من الأقاويل والآراء والروايات. وبهذا يتبين باطلهم، ويتغلب جاهلنا على عالمهم.
هذا هو الرد المحكم على سفاهات الشيعة، بحيث يتبين بوضوح تام، وبسرعة، وبجملة واحدة بطلان ما يدعونه من اعتقادات، ويذكرونه من تفاهات. الرد الذي يقطع الطريق على الشيعي أن يلف ويدور، ويطيل ويستطيل. ويتمكن به السني الأُميّ من غلبة العالم الشيعي!
الشيعة على منهج الزائغين
نعم..! يحتج الشيعة بالآيات. ولكن على أي منهج؟ منهج الراسخين الذين يتبعون المحكمات؟ أم منهج الزائغين الذين لا دليل لهم سوى المتشابهات والشبهات؟
من كل ما سبق يتبين بلا شك أن الشيعة على منهج الزائغين المبطلين، (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف:119).
الضربة القاضية
هذه خلاصة المنهج القرآني في إثبات أصول الدين. وهذا المنهج بمثابة الضربة الفنية القاضية، التي تجهز – ومن اللحظة الأولى، وبجملة واحدة – على جميع أصول الشيعة. والمهم في هذا كله أن هذه الجملة يحسن التعبير عنها العالم والجاهل، والأمي والقارئ. وبذلك نختصر الطريق، وتظهر الحقيقة جلية في من هو صاحب الحق؟ ومن هو صاحب الباطل؟ بلا غموض ولا تطويل([2]).
جـ. نقض المنهج الشيعي
لم يبق أمامنا سوى الموضوع الثالث من موضوعات المنهج القرآني الأصولي، ألا وهو نقض المنهج الشيعي في التأصيل، من خلال الحقيقتين السابقتين، فيكون النقض تحصيل حاصل. إن هذا يحتاج منا إلى معرفة المنهجية الشيعية في التأصيل، لنقضها بواسطة المنهج القرآني. يقوم المنهج الشيعي في إثبات الأصول على أساسين اثنين، هما:
-
اعتماد العقل/ الرأي ، وليس الوحي ، في إثبات الأصول
فالعقل عند علماء الشيعة هو الأساس في إثبات الأصول وتقريرها. وعلى ذلك أجمع علماؤهم قديماً وحديثاً([3]). أما الوحي فلا يرجع إليه عندهم في التأصيل إلا على سبيل الاستئناس والتعضيد. وهذه الحقيقة مغيبة على عوام الشيعة، وعلى السنة وأولهم العلماء إلا القلة التي تتناول هذا الموضوع الخطير في دوائر وحلقات خاصة، بعيداً عن الإعلام وأنظار جمهور المسلمين: علماء وعامة.
إن القول بأن النظر العقلي هو الأساس في إثبات الأصول، وأما النصوص الدينية فدورها يقتصر على التأييد والتبعية.. هذا القول كفر صريح مخرج من الملة؛ لأنه يلغي الحاجة إلى النبوة وبعث الأنبياء. ولأنها تعني تعطيل القرآن العظيم ومساواته بكلام البشر. إن هذا قلب للدين، ونقض لما جاء من حقائق في الكتاب المبين، كقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تذَكَّرُونَ) (الأعراف:3). وقوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:106). وقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة:213).
هذه نقطة أساسية، ومفصل بارز من مفاصل البحث، لا ينبغي إغفاله، والقفز مباشرة إلى دلالات النصوص أثناء الحوار مع الشيعة ومناقشتهم وجدالهم، قبل الانتهاء منه وتثبيته كمعلم بارز من معالم التعاطي مع المسائل الأصولية؛ فإن أصول الدين عند الشيعة تثبت بالعقل – كما يقولون – وليس بالوحي أو النقل. فإذا كان الأمر كذلك فطبيعة البحث والنظر تستلزم كشف هذه الحقيقة الفاضحة أولاً، واعتمادها كضربة قاضية تأتي في مقدمة الضربات كلها على الإطلاق لنسف ما اخترعوه من أصول بلا مستند من العلم.
هنا يصبح الخوض في النصوص ومدى دلالتها على المطلوب زيادة نتفضل بها وقد كسبنا المعركة وحسمناها كلياً في الجولة الأولى، وكشفنا زيف تعلق الشيعة الخادع بالنصوص إيهاماً لعامة الناس أنهم يرجعون في دينهم إلى القرآن والسنة.
-
الاستشهاد بمتشابه الآيات، دون محكماتها
إن قول الشيعة بالمرجعية العقلية في الأصول، ألجأتهم إليه ضرورة خلو القرآن الكريم من آية محكمة على أيّ أصل من أصولهم. وحيث أن التصريح بهذا القاعدة غير مقبول في أوساط عامة المسلمين فإنهم يزخرفون كلامهم ببعض الآيات للدلالة على ما يريدون. لكنهم عندما يفعلون ذلك لا يجدون أمامهم سوى المتشابه من الآيات. ثم يعضدون ذلك ببعض الروايات المكذوبة، أو الملفقة من صحيح ومكذوب، أو الصحيحة التي يتعسفون في حملها على المراد. وهنا يقعون في الفخ الذي لا يخرجون منه، حينما نطالبهم بالآيات الصريحة فلا يجدون، فتكون الضربة القاضية الثانية، بعد الضربة الأُولى التي وجهناها إلى القول بمرجعية العقل في الأصول.
[1]– الإمامة وقيادة المجتمع، ص26، كاظم الحائري.
[2]– بينت ذلك في رسالة (القواعد السديدة في إثبات أصول الشريعة والعقيدة)، والتي فصلتها في كتاب (المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأُصول الباطل).
[3]– ذكرت كلام علمائهم في كتاب (المنهج القرآني الفاصل).
3. الموضوعات الأساسية للمنهج
جـ. الموضوعات الأساسية
خمسة محاور أساسية
يتبين من خلال الاستقراء التام للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، للتعرف على موضوعات الخطاب الدعوي الموجه إلى أهل الباطل، وتطبيق هذا الخطاب واقعياً على الشيعة، أن هذه الموضوعات تتلخص في خمسة محاور أساسية هي:
- الصدع بالحق علناً من خلال جميع المنابر الدينية والإعلامية المتاحة إلى دين الإسلام في وضعه الإلهي الأول قبل وجود الفرق. والإعلان بأن دين الشيعة الذي هم عليه اليوم، ليس له من الإسلام إلا الاسم. وتأتي العقيدة الربانية على رأس الموضوعات التي يجب الصدع بها.
- الإعلان بفضح أباطيلهم وخزعبلاتهم بتفاصيلها (تحريف القرآن، شركهم بالقبور ودعاء أهل البيت وتقديسهم إلى حد العبادة الصرفة، تكفير الصحابة، الطعن بأمهات المؤمنين، رد الأحاديث النبوية، العصمة، الإمامة، التقية، المتعة، التقليد، التبعية لإيران وتنفيذ مخططاتها، العمالة للأجنبي، فضح كتب مروياتهم، فضح مخازي علمائهم، إباحتهم دم المخالف وماله وعرضه خصوصاً أهل السنة، مساجد ضرارهم (الحسينيات)، الأذان البدعي، أوقات الصلوات، الوضوء، النياحة واللطميات، التطبير…إلخ).
- بيان خطر الشيعة وخطر دينهم (التشيع). إن هذا الموضوع يسهم إسهاماً فعالاً ومباشراً في تحصين أهل السنة، وتحصيل الوعي بينهم، وإثارتهم نحو هذا الخطر، وإخراج مكامن القوة والعمل السليم باتجاه الهدف.
- عرض مخازيهم التاريخية على مر العهود والعصور، وفضح تزويرهم للتاريخ. لقد آن لنا أن ننهي المعادلة التاريخية الظالمة: أهل السنة يصنعون الأحداث، والشيعة يكتبون تاريخها. (مثال ذلك أبو مخنف الشعوبي واعتماد الطبري عليه في تسجيل أحرج فترة مرت بها في صدر دولة الإسلام، وتاريخ الدولة الأموية).
- تجريدهم من دعوى الانتساب إلى (أهل البيت العلوي أو النبوي). والبيان الواضح أن هذه مجرد دعوى وستار كاذب. وإيقاف جميع التهريجات السنية الرامية إلى التقرب إليهم من باب محاولة إثبات حب (أهل البيت) الفاشلة رغم تكرارها منذ مئات السنين!
من هنا نبدأ
هذه هي الموضوعات الأساسية، التي ينبغي أن نطرحها في منهاجنا التغييري، لمواجهة الخطر الديني أو الفكري للشيعة. من هنا يبدأ التغيير بكل أشكاله: دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية أم غيرها. وهذا هو منهاج الأنبياء عليهم السلام دون استثناء، والمصلحين جميعاً من سلفنا الصالح: الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان.
ورغم وضوح هذه المنهجية في القرآن الكريم، وسنة الرسول e وسيرته المتواترة في دعوته لأهل الباطل، ومواجهته لدعوتهم المضادة، إلا أنني وجدت عامة مشائخ الدين والدعاة والمفكرين والسياسيين السنة يعيشون تخبطاً فاضحاً في تشخيص المنهج ومعرفته، وقد التبست عليهم الأمور – إلا القليل القليل – فهم في حيرة من أمرهم، أو استقروا على منهج مبتور، وتواضعوا على رقاعات من المبادئ الملفقة، والطرائق المزوقة.
وفيما يلي ملاحظات مهمة عن الموضوعات الأساسية:
-
العقيدة ( الإيمان )
بعث الله جل وعلا النبيين عليهم السلام لتحقيق الإصلاح الاجتماعي من جميع نواحيه: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود:88). فكان الأنبياء مصلحين اجتماعيين مؤيدين بالوحي.
إن كونهم (مصلحين) يستلزم وجود خلل يريدون إصلاحه. ومعنى كونهم (اجتماعيين) يستلزم أن يكون الخلل يعاني منه المجتمع حقيقة وواقعاً.
ولا بد لكل إصلاح أو حل جاد من (قاعدة) فكرية يستند إليها وينطلق منها. والقاعدة التي انطلق منها النبيون جميعا هي العقيدة السليمة، أو الإيمان الصادق، أو هي توحيد الله تعالى. كما أخبر سبحانه فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).
أما الخلل الاجتماعي الذي جاهد كل نبي في سبيل إصلاحه، وجعله محوراً لحركته و(قضيته) فاختلف من نبي إلى نبي تبعاً لاختلاف مجتمعاتهم، وأنواع الخلل التي عانى منها كل مجتمع من تلك المجتمعات. فكانت مشكلة نوح عليه السلام عبادة الأصنام. وهي قريبة من مشكلة نبينا إبراهيم عليه السلام. ومشكلة لوط عليه السلام الاجتماعية خلُقية تمثلت في الشذوذ الجنسي الذي اجتاح قومه. وشعيب عليه السلام ركز على معالجة الانحراف الاقتصادي في أسواق قريته. وموسى عليه السلام كان يناضل من أجل تخليص أمته من الاضطهاد السياسي متمثلاً بفرعون، والانحراف الاقتصادي متمثلاً بقارون. ثم خرج بقومه من أجل أن يقيم لهم دولة التوحيد في الأرض المقدسة. ولكن كل ذلك كان على ضوء التوحيد. وهكذا بقية الأنبياء عليهم السلام.
فالمشروع يقوم على ركنين:
- العقيدة (وهي أساس الإيمان والربانية)
- القضية
العقيدة أصول وردود
تنقسم العقيدة التي نريد بيانها، والدعوة إليها، ومواجهة أهل الباطل، وتصحيح باطلهم بها إلى قسمين:
- قسم هو أصول ثابتة، وأساسيات لا بد من معرفتها، والعمل بمقتضاها. مثل الإيمان بالله تعالى والرسول e والملئكة والكتاب واليوم الآخر والجنة والنار.
- وقسم هو ردود على الأباطيل الطارئة على أساسيات العقيدة. مثل تفاصيل الشرك الذي يقع فيه عوام الناس، أو الأصول الاعتقادية التي اخترعتها الفرق الضالة، كـ(الإمامة) و(العصمة) والطعن بالصحابة.
بين العقيدة كأصل ثابت والردود كضرورة طارئة متغيرة
أساس العقيدة التوحيد. والتوحيد أصل ثابت، لا بد من معرفته لصحة الدين. أما الشرك فمظاهر متغيرة، كثيراً ما تختلف من قوم لقوم، ومن مكان لمكان، وزمان لزمان. فلكل قوم مظاهرهم الشركية: فقد تكون أحجارا وقد تكون كواكب ونجوماً، وقد تكون أشجاراً، وقد تكون مراقد ومشاهد، وقد تكون تحاكماً إلى شرع غير شرع الله. كما قد تكون شركاً اقتصادياً أو سياسياً. وتكون اتخاذاً للعلماء أرباباً من دون الله. وتكون إلحاداً في أسماء الله وصفاته. وتكون عبادة للبقر أو أي صنف من أصناف الحيوانات. وتكون إنكاراً لربوبية الله – وإن كان هذا كفراً خالصاً – وقد تكون مظاهر أخرى. أو تكون هذا كله مجتمعاً أو مقترنا بنسبة أو بأخرى.
وبما أن مظاهر الشرك تتغير؛ لذا وجب أن تتغير ردودنا بتغير هذه المظاهر وجوداً وعدماً. ونجدد من الردود حسب الحاجة. ونعتبر ذلك من العقيدة التي نهتم بها. ولا يصح أن نجمد على ردود معينة قد لا يكون لها مورد شركي على الواقع يمكن أن تعالجه.
أذكر أنه في عام 1998 أعطيت كتاب (العصمة) لأحد الأصدقاء من أهل (المحاويل) ذي الغالبية الشيعية. وصاحبي هذا من المهتمين بالدعوة على أساس العقيدة السليمة، ويخطب الجمعة في بعض الأحيان. فتناوله، ونظر فيه، ثم التفت إلي وقال: أليس الصحيح أن نبدأ فندعو إلى العقيدة أولاً، قبل هذا الكتاب وأمثاله من الكتب؟ فكان جوابي له: وهذا الكتاب يعالج موضوعاً من صلب العقيدة. إنه دفاع عن أصل النبوة، ورد على عقيدة فاسدة يتبناها الملايين من الناس يشاركوننا العيش في بلد واحد.
إن هذا الخلل في النظرة إلى العقيدة المطلوب طرحها، سببه عدم التفريق بين العقيدة التي هي أصل ثابت، وبين العقيدة التي هي ردود على الخلل الطارئ على ذلك الأصل. تلك نؤمن بها وندعو إليها على كل حال. وهذه مرتبطة بالواقع الذي يختلف من مجتمع إلى آخر.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أكد على موضوعات الشرك المتعلقة بالأولياء ودعائهم وزيارة قبورهم وما إلى ذلك. وهذا نحتاجه تفصيلاً في مثل مجتمعنا نحن أهل العراق. ولكننا نحتاج معه إلى التأكيد على الموضوعات المتعلقة بما أضافه الشيعة إلى الدين من أصول وفروع باطلة. وهي موضوعات لم يفصل فيها الشيخ كثيراً؛ لأنه واجه – في العموم – مجتمعاً منتسباً إلى أهل السنة، ولم تكن معاناته الأساسية مع الشيعة وأباطيلهم. حتى إنه في كتابه الأشهر (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لم يقف عند (توحيد الأسماء والصفات) إلا في بابين من مجموع أبواب الكتاب الذي فاق الستين باباً. وهذا شيء طبيعي في دعوة كل مصلح أو مجدد؛ لضرورة ارتباط الإصلاح الاجتماعي بواقع المجتمع الذي يتحرك فيه المصلح، ويريد له الصلاح. فليس ثمة تقصير ينسب إلى الأول. إنما التقصير ينشأ من جمودنا على أقوال الأولين، دون اعتبار لما يطرأ من ألوان جديدة للشرك أو الخلل الاجتماعي، والذي يحتاج إلى طرح جديد يتناسب معه.
مرجعية القرآن
من الأمور الأساسية التي ينبغي أن نتخذها مساراً ثابتاً في دعوتنا، أن نعتمد في طرح عقيدتنا، وإبطال عقائد الشيعة على القرآن الكريم. وهذا مبني على قواعد ثلاث:
- الأول أن القرآن جمع أمهات العقيدة وأصولها، وبينها بياناً شافياً، سهلاً ميسراً للجميع على اختلاف مداركهم، وتحصيلهم العلمي.
- والثاني: أن خلاف الشيعة لنا هو خلاف أصول. والأصول كلها في القرآن بالنص المحكم الصريح الذي يفهمه كل قارئ أو سامع. وبما أننا نجزم بصحة أصولنا، وبطلان أصول الشيعة؛ فنحن وحدنا الذين يمكن لهم أن يحتجوا لصحة ما لديهم من أصول بنصوص القرآن الصريحة. وهذا شيء لا يتوفر للشيعة قط. إذ ليس لديهم من نصوص القرآن سوى المتشابه. والمتشابه لا تقوم به حجة. كما قال سبحانه: (هُوَ الــَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) (آل عمران:7). وهنا تكمن (الضربة القاضية)، التي نجتث بها أصول الشيعة، ويتبين لطالبي الحق منهم بطلان دينهم، وصحة ديننا جزماً ويقيناً لا شك فيه.
- أن القرآن الكريم هو الرابط الوحيد – ولو ظاهراً – الذي يمكن أن يجمع بين السنة والشيعة كمرجع للاحتجاج. بينما لا رابط يجمع بيننا وبينهم من الحديث أو التفسير، أو غيرهما. فلا نحن نؤمن بمروياتهم، ولا هم يؤمنون بمروياتنا. وكذلك التفسير، وآراء العلماء.
قد يقال: إن الشيعة يعتقدون بتحريف القرآن. أو لا يعتقدون في الأصول بغير مرجعية العقل. وهذا صحيح، لكن ثمة تفصيل يفيدنا. وهو أن هذا شيء لا يستطيع علماؤهم أن يصرحوا به علناً أمام الناس، إنما – في هذه الحال – يقرون بصحة القرآن، وينكرون قولهم الآخر؛ فيمكن لنا أن نلزمهم الحجة أمام الجمهور من خلال نصوصه المحكمة. كما أنهم يتخوفون من التصريح لعوامهم بأنهم لا يرجعون إلى القرآن في إثبات أصولهم، وإنما إلى العقل وحده. وهذا شيء ينفعنا عند دعوة هؤلاء العوام، أو محاججتهم. ثم إن كثيراً من هؤلاء العوام لا يعتقدون أصلاً بهذه العقيدة الفاسدة، بل لا يعلمون أنها عقيدة مسلّمة لدى علمائهم. فيبقى القرآن الكريم هو الرابط الوحيد الذي يمكن أن يجمع بيننا وبينهم عند دعوتهم أو محاججتهم.
أما ضمن مجتمعنا السني، فلنا أن نرجع إلى السنة النبوية الشريفة، وإلى أقوال العلماء المعتبرين وهذا في غير الأصول – ما دام الاتفاق حاصلاً على ذلك كله كمرجعية مسلَّمة. على أننا نظل نؤكد على ضرورة ربط الناس بمحكم القرآن، وإعطاء هذا الأمر أولوية خاصة؛ لأسباب كثيرة ليس هذا موضعها.
ب. بيان خطر الشيعة والتشيع
2. بيان خطر الشيعة والتشيع
يتركز المحور الثاني للموضوعات الأساسية التي تتطلب المواجهة التغييرية طرحها، حول بيان خطر الشيعة وخطر دينهم (التشيع)، وفضح أباطيلهم وتعرية خزعبلاتهم. إن هذا يسهم إسهاماً فعالاً ومباشراً في تحصين أهل السنة، وتحصيل الوعي بينهم، وإثارتهم نحو هذا الخطر، وإخراج مكامن القوة والعمل السليم باتجاه الهدف. ينتظم ذلك تحت قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
جوانب الخطر الشيعي
علينا أن نبين لقومنا أن التشيع مشكلة خطيرة، هي من كبريات المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية، لاسيما في بلدنا (العراق). وليس هذا الخطر قاصراً على الدين فحسب. بل هو خطر عميم وشر مستطير يجتاح الدين، والأخلاق، والسياسة، والاقتصاد، والوطنية، وكيان الأمة ومفاهيمها، وقيمها وثوابتها. فالتصدي له ضرورة حتمية من أجل إنقاذ هذه القيم جميعاً.
التشيع:
- طقوس تعطل الحياة
- وعقائد تعطل الدين
- ودين يعطل العقل
- وعقل يدمر نفسه
- ومشاعر تفسد النفس
لست في مقام الشرح والتفصيل. وإنما في بيان المهمات الأساسية. والشرح يأتي في وقته ومحله بإذن الله. فأقف الآن وقفات سريعة وأساسية حيال الخطر الشيعي على أهم جوانب الدين ومفاصل المجتمع:
1. الدين: التشيع دين أراد له واضعوه أن يكون ديناً بديلاً عن الإسلام. ويكفي في هذا المقام أن تذكر بعض العناوين الرئيسة لهذا الدين: الإمامة، العصمة، تقليد المرجع، اتخاذه رباً من دون الله، تحريف القرآن، إنكار السنة، تكفير الصحابة، الخمس، المتعة.. حتى ترى الصورة البشعة التي هو عليها!
- الأخلاق والمجتمع: التقية – مثلاً – عند الشيعة تدرب صاحبها على الكذب وتروضه على الخداع. ونكاح المتعة ينشر الرذيلة والفاحشة، ويسقط أخلاق المرأة والرجل، ويفكك الأسرة، ويكثر به اللقطاء، وتنتشر الأمراض. وإباحة أموال الآخر – لا سيما السنة – تعلمه السرقة والخيانة. وتكفيره وإباحة دمه وعرضه تنشر الفتن والمقاتل والحروب، وتجعل الشيعة يشعرون بالعزلة، ويطبقونها واقعاً. وتقليد المرجع وتقديسه يجعل الشيعي ذليلاً مهيناً متمسكناً. وأكل أموال الناس باسم الخمس وغيره يجعل المال دولة بين المراجع وعوائلهم ويفسد أبناءهم، ويجعل من الدين مهنة، والعمامة زياً (رسمياً) لها. ولهذا يحرص هؤلاء على لبس العمامة – رغم فراغها وخوائها – حرصهم على أرواحهم. وبهذا صار الشيعة طبقات مفككة متناحرة.
هل هناك أفسد وأخطر من فرد أو جماعة تتمتع بكل هذا الشذوذ من الأخلاق؟! فإذا علمت أن دين الشيعة يبيح لأتباعه عمل ما يشاءون من الذنوب والجرائم، دون أن يتحملوا تبعتها يوم القيامة ما داموا يدينون بـ(ولاية أهل البيت)! أدركت ماذا يمكن أن يكون حالهم في الواقع؟! وخطرهم على المجتمع؟!!!
- الاقتصاد: الشيعي لا يشعر بالانتماء إلا إلى طائفته، فإذا استوطن مجتمعاً يخالفه فإنه سيكون معول هدم وتخريب لاقتصاده؛ لأنه لا يفكر إلا في نهبه وسرقته. فإذا سيطر عليه سيكون الفساد والسرقة بالكتل المليارية. وواقع العراق اليوم يشهد بوضوح تام على هذه الحقيقة.
- السياسة: الشيعي في أي قطر تلزمه عقيدته باعتبار المرجع الديني هو (الحاكم الأعلى)، الذي يرجع إليه في شؤون دينه ودنياه، ومنها السياسة، واعتبار الشيعة في ذلك القطر هم شعبه الذي ينتمي إليه دون غيرهم، مع عدم الاعتراف بحق الوجود والحياة والملكية لذلك الغير. وبهذا يكون الشيعة في أي دولة (دولة داخل دولة). وهذه حالة شاذة تمثل أخطر علاقة سياسية اجتماعية في العالم. كما تلزم تلك العقيدة الشيعي بتكفير الحاكم غير الشيعي، ووجوب عصيانه والانقلاب عليه، وسرقة أموال الدولة، وتخريب ممتلكاتها. وإذا دخل الشيعة حزباً أو مؤسسة من مؤسساتها فلتجويفها ونخرها من الداخل. كما فعلوا مع حزب البعث، ودوائر الأمن والمخابرات ومؤسسة الجيش السابق في العراق. وإذا شعروا بالقوة مارسوا العنف ضد الدولة، كما هو حالهم في البحرين اليوم، ويتطلعون إلى مثلها في الكويت وغيرها من دول الخليج. كما تلزمهم هذه العقيدة بتكفير المجتمع الذي يعيشون فيه، واعتباره مجتمعاً معادياً يجب تحطيمه بأي وسيلة. ومن هنا يجنح الشيعة دوماً إلى التآمر مع الأجنبي ضد البلد الذي يعيشون فيه، كما فعلوا بالعراق سابقاً، ولاحقاً.
- كيان الأمة وتاريخها وقيمها وثوابتها: لا أراني – بعد الذي ذكرته آنفاً – في حاجة إلى الوقوف عنده؛ حتى لا يطول بنا المقام.
التعايش مع الشيعة
يبرز هنا اعتراض شائع، مُفاده: الشيعة طائفة كبيرة في العراق، ويستحيل علينا أن نلغيهم من الوجود؛ فلا بد من التعايش معهم. وما تقوله يلغي هذا الخيار، الذي لا خيار سواه، من الأساس.
وأقول: المشكلة أن بعض (الحلول) هي في حقيقتها عبارة عن هروب من الحل، أو قفز على المشكلة، ومحاولة حلها بعدم مواجهتها؛ تنصلاً من تحمل تبعات الحل الحقيقي، وتهرباً من دفع ثمنه.
لقد قلت ما قلته تشخيصاً للداء، وتقريراً لواقع موجود. فإن كان ما قلته صحيحاً، فليس ذنباً أن أنطق حقاً، وأقول صدقاً. إنما الذنب ذنب من يتجاهل الحق، ويزعجه الصدق. وإن لم يكن الأمر كذلك فيكن الاعتراض مبنياً على أن ما أقوله غير صحيح. وعندها يأخذ النقاش منحى آخر.
إن هذا الذي أقوله هو الحقيقة عينها. ومما يدل على حقيقته الاعتراض المذكور. وما أقوله لا يلغي مبدأ التعايش. بل هو الذي يوجده ويثبته؛ لأنه يجعله قائماً على ركن ركين، ويبنيه على أساس مكين. لا على الوهم، والمجاملات الزائفة والمداهنات الخاطئة الكاذبة. التي لا يحرص عليها سوى المنتفعين والنفعيين من أهل السياسة، أو الواهمين الحالمين من ذوي القلوب (الطيبة) والعقول الساذجة.
أنا لا أقول هذا لأنني لا أؤمن بالتعايش واقعاً، أو لا أريده بدايةً. إنما أريد أن أقول: إذا كنا مضطرين للتعايش، فلا يعني هذا أننا نقبل به على أية حال. حتى حال الذل والمسكنة والهوان. ولا يلزمنا هذا بدخول الساحة كالعميان، دون أخذ العدة، وتوفير الشروط اللازمة لصحة الأمر وثباته ودوامه.
إن التعايش بين طائفتين كعقد البيع والشراء، أو الزواج بين اثنين: يعد باطلاً وغير ممكن التحقيق ما لم تكن الرغبة والموافقة حاصلة بين الطرفين. وما لم يتسلم كل طرف حقه المنصوص عليه في العقد.
موانع التعايش
أربعة موانع تحول بين الشيعة والتعايش مع السنة:
- العقدة، وأهمها (الشعور العميق بالاضطهاد) تجاه السنة؛ ما يدفعهم للانفجار والثأر والانتقام على الدوام.
- العقيدة، وعلى رأسها (الإمامة)، التي تلزم الشيعة بقتل السنة كفراً محاربين، واستباحة أموالهم غنائم، وأعراضهم سبايا.
- التقليد كعقيدة عند الشيعي يلزمه بتقديس قول المرجع الديني لزوماً يخرجه إن خالف من الملة. والمرجع مرتبط بإيران، وإيران تدفعه إلى الثورة والعدوان.
- الولاء لإيران. وليس من مصلحة إيران تعايش الشيعة مع السنة.
هذه أهم الموانع التي تحول بين الشيعة والتعايش مع السنة. وكل واحد منها يمثل عائقاً مستحيل الاجتياز؛ لأنه يُعدِم عند الشيعي إرادة ذلك من الأساس، وتجعل فكره محصوراً في كيفية طرد السني، أو تهميشه والسيطرة عليه. والوضع في العراق اليوم شاهد صارخ على هذه الحقيقة.
في المناطق والدول التي يضعف أو يقل وجود الشيعة فيها، تجد الشيعي يتبع أسلوب التمسكن والتمظلم، طارحاً شعارات الأخوة والحوار والتقارب والتعايش والدين الواحد، وما إلى ذلك. لكنه ما إن يتمكن حتى يتنكر لذلك كله. وإيران – والعراق أيضاً – يشهد على صحة هذه الحقيقة. لقد تنكر الخميني لوعوده لقادة أهل السنة، وجازاهم جزاء سنمار. يكفي أن يُعلم أن طهران لا وجود لمسجد سني واحد فيها، مع سبق المنع والإصرار. وكذلك فعل قادة الأحزاب الشيعية في العراق مع أهل السنة، الذين صدَّقوا وعودهم، ولم يعتبروا بغيرهم.
الشيعي لا رغبة لديه في التعايش، ما لم يكن مضطراً أو ملجأً إلجاءً إليه.
نعم ليس الشيعة كلهم هكذا. ولكن هؤلاء المخالفين قلة غير مؤثرة؛ فلا يمكن أن نعول عليها كثيراً، ولا قليلاً. إلا في الجانب الدعوي، أو محاولة استثمارهم، والأخذ بأيديهم نحو المقاصد الخيرة. دون أن نفرط بأخذ الاحتياط الواجب في امتلاك القوة، التي هي الأساس الوحيد للتعايش المنشود.
وعلى هذا الأساس لا مهرب لنا – إذا أردنا التعايش مع الشيعة – من امتلاك القوة، وأن نكون نحن الحاكمين؛ لنمنع الشيعة من تدميرنا، وتدمير أنفسهم معنا. يجب علينا أن نكون أرحم بأنفسنا من أن ندعها بأيدي السفهاء يلعبون بها. وأن يعلم السفهاء أننا بذلك نكون أرحم بهم من أنفسهم عليها.
ولكن لهذا الحل مقتلاً ليس من السهل بل ولا الممكن تفاديه! ألا وهو عدم وجود ضمان دائم ببقاء القوة في يد السنة. كما حصل لنا في العراق سنة 2003، وانهدمت دولة استمرت (82) سنة رغم امتلاكها القوة.
إذن امتلاك القوة وحده لا يكفي، ما لم يكن معه الضمان باستمرار امتلاكها. وهذا مستحيل. فما الحل؟
لا أجد حلاً لهذه المعضلة سوى الانحياز عن الشيعة بإحدى طريقتين:
- إما الفدرالية وتكوين الإقليم السني. وهذا خيار محفوف بالمنغصات.
- أو الانفصال التام.
-
إنكار أباطيل الشيعة
يفرض علينا المنهج الرباني في الكتاب والسنة عند تنزيله على الشيعة أن نتناول أباطيلهم بالفضح والإنكار والعلاج بتفاصيلها، صراحة ومواجهة. مثل تحريف الكتاب و(التقية) والتلون والنفاق، وعدم علم عامتهموعلمائهم بالقرآن والسنة، وأكل أموال الناس بالباطل باسم (الخمس) وما يسمونه زوراً بـ(الحقوق الشرعية)، وادعاء النجاة في الآخرة مهما اجترحوا من كبائر، والتقليد الأعمى لرجال دينهم واتخاذهم أرباباً من دون الله. إضافة لقتل دعاة الحق، واستحلال أموال المخالفين ونقض عهودهم ، وغيرها وغيرها من المنكرات والأباطيل الشائعة بينهم.
-
عرض المخازي التاريخية للشيعة
في سورة (البقرة) وكثير من آيات الكتاب الكريم عرض تفصيلي لتاريخ اليهود ومخازيهم على مدى العصور. وفي هذا درس قرآني عظيم أن من شمخ بأنف قائم على تاريخ مخزٍ فإن المجاملة لا تنفع معه بل ينبغي أن يدمغ بذلك التاريخ ليعرف حقيقة نفسه ويرى أن الناس يعرفونه على حقيقته، فيردعه ذلك ويجعله يعيش حالة من الشعور بالنقص والصغار، أو- على الأقل- يتأدب وهو يتعامل مع الأتقياء الأطهار.
قارن هذا بتاريخ مساحته أربعة عشر قرناً من المخـازي والآثام، يحمله الشيعة على ظهورهم ابتداءً بقتل عمر وعثمان وعلي وظهور عبد الله بن سبأ والحركات الباطنية الهدامة على مر التاريخ، واستمر وهو يتضخم بالمخازي والآثام إلى يومنا هذا في عامنا هذا في بلدنا هذا الذي يلعنون فيه (خير أمة أخرجت للناس) ويطعنون بأشرف نسوة كن في بيت ويدعون تحريف الكتاب والسنة. ناهيك عن أكل أموال الناس بالباطل واستحلال الكذب والدجل والعمل (بالتقية) أي النفاق وهتك ستر المحصنات تحت لافتة (المتعة) أي الزنا باسم الشرع. وآخر مخازيهم جلبهم الغزاة إلى العراق وخدمتهم والتعاون معهم على أبنائه الشرفاء. ثم هم مع كل هذه الخزايا والدنايا يشمخون بأنوف ترعد، ويطلقون على أهل السنة اسم (أبناء العامة) أي أنهم أبناء الخاصة! تماماً كاليهود الذين مع خزاياهم ودناياهم يدعون أهم (شعب الله المختار) وأنهم (أبناء الله وأحباؤه).
عرض مخازي الشيعة التاريخية على مر العهود والعصور، وفضح تزويرهم للتاريخ من صلب المنهج الرباني الذي نتبعه في معركتنا مع إيران وشيعتها.
-
تجريد الشيعة من الانتساب المزيف إلى ( أهل البيت )
لا تجد جماعة مبطلة إلا وتتعلق برمز صالح من الأقدمين، تنتسب إليه، وتستمد مشروعيتها من هذا الانتساب المزور. إن فضح هذا الزيف ضرورة من ضرورات إضعاف أهل الباطل؛ لأنه يسحب بساط المشروعية التي يعتاشون عليها، ويستمدون بقاءهم واستمرارهم من خلالها. لذا يؤكد القرآن الكريم على قطع هذه الصلة بين أهل الباطل ورموزهم الصالحة التي يدّعون الانتساب إليها من الأنبياء وغيرهم من الصالحين. كما قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67). وقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:68) .
يعتمد التشيع الفارسي في بقائه على ادعائه الانتساب إلى (أهل البيت)، ويستمد قوته وأسباب وجوده واستمراره من هذه الدعوى. فتجريده منها يسحب البساط من تحته ويظهر وجهه الكالح على حقيقته. وهو ما يلزمنا به المنهج القرآني. أما الاقتصار على مدح علي t فهو اعتراف ضمني بصحة تلك النسبة المزيفة، وهو منهج المنهزمين البائسين. وقد آن الأوان لأن نضرب على يد أولئك الحمقى المنهزمين كي ينتهوا عن هذا العبث.
تجريد الشيعة من حق الانتساب إلى (أهل البيت العلوي أو النبوي). والبيان الواضح أن هذه مجرد دعوى وستار كاذب. وإيقاف جميع التهريجات السنية الرامية إلى التقرب إليهم من باب محاولة إثبات حب (أهل البيت) الفاشلة رغم تكرارها منذ مئات السنين.. ركن أصيل من أركان المنهج الأمثل في مواجهة الشيعة ووالانتصار عليهم والقضاء على خطرهم.
القسم الثاني: الركائز العملية
ثانياً : الركائز العملية
أ. منهج التغيير الجمعي ، والفرق بينه وبين منهج التغيير الفردي
أهم أسباب التغول الشيعي والفشل السني في مواجهته، الطريقة القاصرة المتبعة في التغيير؛ تقتصر على دعوة الفرد، وتكتفي بذلك دون الخطو باتجاه دعوة المجتمع الدعوة القادرة على تغييره جمعياً ككتلة متلازمة، لا كأفرادٍ في مجموعة مفككة، اعتماداً على أدوات وأساليب ومبادئ التغيير الجماعي، والتي تختلف عن أدوات وأساليب ومبادئ التغيير الفردي.
إن هذه الطريقة القاصرة تفترض أن (تغيير الفرد يؤدي إلى تغيير الأُسرة، وتغيير الأُسرة يؤدي إلى تغيير المجتمع). وهذه قاعدة في حاجة إلى مراجعة، وتنظير غير علمي طبقاً لمبادئ علم الاجتماع المجربة عملياً، بل المستخلصة أصلاً من الواقع العملي. فالمجتمع ليس حاصل جمع مجرد لمجموعة الأفراد الذين يكونونه. يغفل الأنظمة والتفاعلات التي تغير من طبيعة الفرد عندما يتصرف محكوماً بشخصيته الجمعية، عنه عندما يستحضر شخصيته الفردية.
نحن نهدف إلى تغيير المجتمع ككل، ولا نكتفي بتغيير الفرد، ولا نتوهم أن تغيير الأفراد سيؤدي لزوماً إلى تغيير المجتمع ذلك التغيير الكلي الجمعي. منهجنا إذن يقوم على مبادئ التغيير الجماعي، دون أن يغفل أهمية تغيير الأفراد. يتوضح صواب منهجنا ببيان الخطوط العامة التالية([1]):
المجتمع غير الفرد
يختلف الفرد عن المجتمع الذي يعيش فيه من حيث العقلية ومستوى الذكاء والنفسية، وحيثيات أخرى كثيرة، والمؤثرات أو المحركات المتعلقة بذلك كله. فقد يكون الفرد عاقلاً مثقفاً لا يؤمن بالخرافات، ويعيش في مجتمع خرافي متخلف. ويكون الفرد ذا نفسية متزنة مستقرة، ويعيش في مجتمع عاطفي متأزم ثوري السلوك. ومن هنا أطلق علماء النفس مصطلح (العقل الجمعي)، و(النفسية الجمعية) و(السلوك الجمعي)، وما شابه من المصطلحات؛ للتفريق بينها وبين ما يقابلها مما يخص الفرد، كما أن هناك (علم نفس أو سيكولوجية الجماهير) وهو يختلف عن (علم نفس أو سيكولوجية الفرد).
وهذا يقودنا – بطبيعة الحال – إلى الحقيقة الآتية: لا بد أن يكون الخطاب – بما فيه من مؤثرات ومحركات عقلية ونفسية – المتوجه إلى المجموع مختلفاً عن الخطاب المتوجه إلى الفرد.
السلوك الفردي والسلوك الجمعي
للفرد نوعان من السلوك: أحدهما يمثل سلوكه حين يتصرف كفرد بعيداً عن المجتمع أو أي مجموعة منه. والآخر حين يكون الفرد ضمن مجموع معين، أو حين يحسب سلوكه على المجموع، وتكون المسؤولية والتوصيف جماعياً لا فردياً.
فالجبان مع الشجعان يسلك سلوكاً شجاعاً. وقد ينهزم الشجاع مع المجموع المنهزم، لكنه قد يثبت إذا رأى أن الموقف يحسب عليه. ويتعرض الفرد وحده إلى ما يثير عاطفته كغناء أو أهزوجة، فلا تراه يتحرك، فإن كان مع حشد مستثار إذا أنت تراه قد استثير معهم. ومن هنا تأتي خطورة المظاهرات الحاشدة، وصعوبة السيطرة عليها؛ إذ ربما – في لحظة معينة – اندفع العقلاء مع الدهماء، فلا تكاد تفرق بين سلوك الطرفين. وهو ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح (حاكمية المجموع). سواء كان المجموع هذا ديناً، أم طائفة، أم مذهباً، أم حزباً، أم حشداً، أم مجتمعاً أكبر.
مما ينبغي التنبيه عليه أن الفرد قد يسلك السلوك الجمعي هذا وإن كان وحده، متى ما كان تحت تأثير المجموع بأي صورة من الصور! وهو ما يمكن أن نسميه (التأثير الجمعي عن بعد).
الفرد إذن له عقليتان، ونفسيتان، وسلوكان: عقلية فردية وأخرى جمعية. ونفسية فردية وأخرى جمعية. وسلوك فردي وآخر جماعي.
ومن هنا لا بد أن يكون لنا نوعان من الخطاب. لا نوع واحد.
قانونان : أحدهما لتغيير الفرد ، والآخر لتغيير المجتمع
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي والأساليب الفردية المحدودة. والحوار لا يلزم – كما هو شائع خطأً – أسلوباً واحداً. وإنما يتنوع: فلربما نحى منحى الطرح المباشر: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37). وربما نحى منحى الطرح غير المباشر: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ:24)
وقد يلين: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) (مريم:45) وقد يشتد: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء:102). وذلك كله حسب ما تقتضيه الحال. والسعيد من وفقه الله تعالى لحسن الاختيار.
وقد يسلك مسلك الحجج العقلية أو المنطقية، إذا كان المخاطب ذكياً عاقلاً مثقفاً، طالباً للحق، متبعاً للحجة. وقد يسلك مسلك المؤثرات النفسية والمداراة العقلية، إن كان المخاطب بسيط التفكير، أو ساذجاً.
وقد يتحول الحوار إلى جدل. والجدل نوعان: أحدهما (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مع من التزم حدود الأدب. أما سيئ الخلق فله أسلوب آخر: (إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت:46). بَيْدَ أن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولن يتأثر به، ما لم نتخذ إليه وسائله الصحيحة، وأدواته الصالحة لذلك. وأهمها الصدع المؤكد المكرر العلني بالحقيقة بشقيها: كشفاً عن الحق تارة، وتعرية للباطل تارة أخرى. ويستغرق زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة.
إن المحاججات العقلية الباردة لا تغير المجتمع.
والتردد في قول الحقيقة، والدوران حولها دون الطرح الصريح الواضح المباشر، لا يمكن أبداً أن يبلغ هدفه من العقل الجمعي للجمهور. على العكس سيعطي انطباعاً لديهم أن المتكلم خائف جبان متردد؛ ولولا أنه على باطل لما كان كذلك.
لا بد إذن من الجزم الصريح المعلن من صاحب الحق أنه على حق، وأن الآخر على باطل. ولا بد أن يستصحب هذا النوع من الخطاب المؤثرات النفسية التي تبلغ به عقول ونفوس الجمهور.
إن المجتمع لا يتغير بالحجة والمنطق، ما لم تنقع له في إدام المؤثرات والمحركات والإيحاءات العاطفية. وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام جميعاً يفعلون. ولن تجد في تاريخ الدعوات الدينية أحداً تمكن من تغيير المجتمع من دون اتباع هذا الأسلوب بشقيه متلازمين: الصراحة العلنية الجازمة المؤكدة المستمرة، والمؤثرات النفسية.
إن العقل الجمعي للمجتمع لا يتغير قط إلا بهذا الأسلوب الذي يجعله يتأثر ويستجيب – بوعي وبلا وعي، وشيئاً فشيئاً- لدواعي الحق الذي تتغلغل فقراته على مدى الزمن المطلوب حتى يأتي يوم يكون فيه مهيأً للضربة الأخيرة فيسقط الجدار. وقد يكون سقوطه فجأة لطول ما تفاعلت فيه عوامل التغيير مثله كمثل بحيرة ماء تضرب أمواجها جداراً من طين، أو تحفر في ذراته شيئاً فشيئاً. إنه يتصدع – ولو ببطء – حتى يأتي يوم فينهار. وبهذا الأسلوب كذلك تمكن أهل الباطل من نشر أباطيلهم وخرافاتهم وزخارف أقاويلهم ونظرياتهم.
صحيح أن هذا الأسلوب يتسبب في نفرة المجتمع في بداية الأمر، وإثارة المشاكل كما حصل لرسول الله e. ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم جدواه. وليس العلاج بالترك والنكوص. ومن قال بذلك فإنه لا يعرف مراحل العلاج أو محطات السير باتجاه الهدف المطلوب.
إن من العلاج ما يثير السخونة أو الشعور بالمرارة أولاً. وقد يسبب التقيؤ أو انقلاب المزاج. ولكن الطبيب يقول: اصبر على هذه الآثار الجانبية، وإلا لن يحصل الشفاء. فالعلاج إذن بالصبر والمصابرة والمرابطة. المشكلة أن الكثيرين لا يريدون أن يتسببوا في مشكلة، ولا يتحملوا الآثار الجانبية للعلاج. ويجعلون من أي حالة عارضة غير مرغوبة دليلاً على الفشل.
وهذه عقبة ما لم نقتحمها ونتجاوزها لنذوق حلاوة عاقبتها فلن نصل إلى الهدف أبداً.
لا تعارض مع التغيير الفردي
إن تطبيق المنهج القرآني من أجل إحداث التغيير الجماعي أو الاجتماعي لا يتعارض مع الدعوة الفردية أو الحوار الخاص وتكوين العلاقات وعقد اللقاءات، كما يبدو لمن ينظر إلى الأمر من خارجه. فلكل أسلوبه ومجاله.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الأمرين، بحيث لم يجعل من أحدهما سبباً لإلغاء الآخر أو معارضته. ولم يقف إعلانه بالدعوة عائقا أمام تلك الحوارات واللقاءات.
على العكس فإن الصدع بالحق يحرك السواكن، ويثير العقول، ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله – كما أوصى ربنا – بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة – إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية؛ ما يعطي للأفراد فرصة أكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية. فالمنهج القرآني يكسب الفرد والمجتمع، أما المنهج الترضوي فيخسر المجتمع على وهم ربح الفرد. ولكن لا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج.
نزيد العدد أم نغير المجتمع؟
قد تؤدي المجاملة على حساب الحقائق المزعجة إلى كسب سريع لعدد من الأشخاص قلوا أم كثروا. هذا صحيح وواقع. وقد يغري هذا العدد البعض من (الدعاة) ويجعلهم يتوهمون النجاح دون أن ينتبهوا إلى أن الثمن المدفوع مقدما مقابل هذا النجاح الموهوم باهض جداً لا تعوضه كل الأرباح المتوهمة؛ لأنه هو المجتمع نفسه! فنكون قد ضيعنا الكل مقابل جزء لا قيمة له: لا من حيث الكمية، ولا من حيث النوعية.
أما الكمية: فما قيمة عشرة أشخاص أو مئة أو ألف أو أقل أو أكثر، في هذا المجتمع المتلاطم؟ إن هذا العدد يمكن الحصول عليه بوسائل أخرى أكثر (هدوءاً) وأبعد عن حصول المشاكل مثل تشجيع الزواج المبكر وتعدد الزوجات دونما داع لهذه الجهود المضنية المزعجة.
لقد تغير في العقود الأخيرة عشرات الآلاف من أفراد الشيعة، وتحولوا إلى سنة. فماذا تغير من المعادلة الاجتماعية؟ وهل أثرت هذه الأعداد على سير المعركة في العراق، أو خففت من المأساة شيئاً؟ لقد ظلت آثارها فردية. بينما كان الشيعة يركزون على التغيير الجماعي، وبالأساليب الجماعية، فغيروا من ديموغرافية بغداد، وواسط وبعقوبة وبابل والبصرة وبلد وتلعفر؛ فكان لذلك أكبر الآثار في الإضرار بأهل السنة، وسير المعركة في غير صالحهم([2]).
وأما من حيث النوعية فإن أغلب هؤلاء الأفراد لم يتغيروا إلى المستوى المطلوب. بل لا زالوا يعانون من رواسبهم القديمة التي يعجز المنهج الترضوي عن إزالتها. فهم معرضون للاهتزاز والارتكاس بمجرد أن يسمعوا كلمة الحق والحقيقة المزعجة.
أفنظل نكتم عنهم هذه الكلمة؟! فما قيمة الاجتماع على الباطل؟!
[1]– يمكن مراجعة تفصيلاتها في كتاب (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية).
[2]– كتبت هذا الكلام سنة 2001، أي قبل الاحتلال بعامين، في كتاب (لا بد من لعن الظلام).
تغيير المجتمع يبدأ من القمة بعد تكوين القاعدة
تغيير المجتمع يبدأ من القمة بعد تكوين القاعدة
بعد تكوين ثلة من الأفراد تصلح كقاعدة منظمة قائدة، ينبغي أن يتغير الاتجاه التغييري فيكون من الأعلى إلى الأسفل، أي اعتماد منهجية تغيير قادة ورؤساء ووجوه المجتمع، وأصحاب النفوذ والتأثير فيه، أو الإمساك بمصادر القوة مباشرة لممارسة التغيير. أما الاقتصار على الخطاب الفردي على طول الخط فلن يغير من وضع المجتمع شيئاً.
تشير التجارب التاريخية: الإسلامية وغير الإسلامية، إلى أن التغييرات الاجتماعية بدأت من تغيير الرأس الذي بيده الأمر: ملكاً كان أم أميراً أم شيخ قبيلة. لقد ركز النبي e على دعوة هؤلاء الرؤوس وبدأ بهم، بعد فترة قصيرة هيأ فيها ثلة صالحة لحمل الدعوة. وكان في المواسم يبحث عن رأس يحمله إلى قومه ليبلغ دعوة ربه. وكان بداية التمكين في المدينة إسلام شيخ الأوس سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير رضي الله عنهما. ثم صار النبي e يبعث الكتب للملوك وشيوخ القبائل. وحين خرجت جيوش المسلمين لتبليغ الرسالة كانت شروطهم: إما أن يسلم الرأس، أو يستسلم فيدفع الجزية ويكون خاضعاً لسلطان الإسلام. وإلا فالسيف هو الحكم بينهما. على أية حال أو شرط، في نهاية المطاف، يكون الأمر والحكم بيد المسلمين، ومن ثم يكون التغيير. وهكذا أسلمت المجتمعات المختلفة.
وانظر إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أين ابتدأ؟ لقد ابتدأ من شيخ القبيلة القوي. ولما تخلى عنه الأول، ذهب إلى شيخ قبيلة أخرى، ومن هناك كان التأسيس والمنطلق. والعكس صحيح. فالأندلس رجعت إلى الكفر بالطريقة نفسها. وتغيرت إيران من المجوسية إلى الإسلام، ومن الإسلام إلى التشيع. وهكذا تغيرت المجتمعات من الكفر إلى الإسلام وبالعكس، سواء بالفعل السلمي المدني أو العمل العسكري.
أما القول بأن التغيير يبدأ من الفرد فالأسرة فالمجتمع، فينبغي إعادة النظر فيه، لأخذ ما يصلح منه، وترك ما لا يصلح. فالمجتمع ليس حاصل جمع كمي أو عددي لما فيه من أفراد. إن التفاعل الاجتماعي تفاعل كيميائي لا فيزيائي. إن عنصر الفرد حين يكون في المجموع يحصل له من التغيير والذوبان في الشخصية الجمعية لذلك المجموع، ما يحصل لأي عنصر في الطبيعة عندما يتفاعل كيميائياً مع غيره من العناصر.
المجتمع ناتج تفاعل الأفراد والقوى الناظمة
أما القول بأن التغيير يبدأ من (الفرد فالأسرة فالمجتمع)، فينبغي إعادة النظر فيه لأخذ ما يصلح منه، وترك ما لا يصلح. فالمجتمع ليس حاصل جمع كمي أو عددي لما فيه من أفراد. إن المجتمع عبارة عن ناتج تفاعل بين شيئين أحدهما منظور والآخر مستور، هما:
- أفراد المجتمع
- الأنظمة والقوانين والأعراف والتقاليد والقوى الأخرى غير المنظورة: داخلية وخارجية.
هذه القوى مجتمعة تسلط ضغطاً على مكونات المجتمع من الأفراد والأسر فتصهرهم، وتجعلهم يتفاعلون فيما بينهم بحيث يكون حاصل التفاعل شيئاً آخر غير الفرد.
التفاعل الاجتماعي أشبه بالتفاعل الكيميائي، لا الفيزيائي، الذي ينتج عنه مركب يختلف كلياً في ذاته وخصائصه عن أي عنصر شارك في إنتاجه. فالماء – مثلاً – عبارة عن ناتج تفاعل كيميائي بين غاز الأوكسجين وغاز الهيدروجين. ولا يوجد أي شبه بين سائل الماء أو أي صفة من صفاته وبين أي عنصر من العنصرين الغازيين الذين تفاعلا فيما بينهما فتسببا في إنتاجه! إن عنصر الفرد حين يكون في المجموع يحصل له من التغيير والذوبان في الشخصية الجمعية لذلك المجموع، ما يحصل لأي عنصر في الطبيعة عندما يتفاعل كيميائياً مع غيره من العناصر.
الشيعة أكثر استخداماً للأساليب الجماعية
إن سر النجاح المطرد للشيعة على حساب تقهقر أهل السنة هو اعتماد الشيعة في نشر مذهبهم على الأساليب الجماعية في التغيير، دون أن يهملوا التعامل مع الأفراد.
من هذه الأساليب المعتمدة:
- أسلوب الدعاية والإشاعة، على طريقة غوبلز مدير دعاية هتلر: (اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس) الذي لا يعدو أن يكون قزماً قميئاً أمام عمالقة الكذب والدعاية الشيعية. ومن شواهد ذلك أسطورة بغض السنة لأهل البيت: كيف ثبتت في أذهان جمهور الشيعة، مع أنها لا أساس لها من الواقع البتة!!
- أسلوب الإيحاء باستعمال مثيرات العاطفة والخيال كالصور والتمثيل وما يسمى بـ(الشعائر الحسينية) من النواح واللطم الجماعي وما يسمى بـ(التشابيه) وهي قصص المآسي التي يمثلونها مسرحياً في الشوارع والساحات العامة في أيام معينة. واستعمال (الملايات) اللواتي يدرن على البيوت حيث تجتمع النساء فتقوم (الملاية) بقراءة أسطورة المقتل على مسامعهن بصوت حزين مع الضرب على الصدور، الذي يتطور إلى نواح ولطم وعويل.
- أسلوب الاستعراض، مثل مسيرات المشي على الأقدام إلى المراقد في مناسبات خاصة تتكرر على مدار السنة، خصوصاً في محرم وصفر. ومنه بناء القباب الزخرفة على المراقد، ورفع المنارات العالية لها.
- أسلوب الإعلان بدعوتهم بما فيها من أفكار شاذة وتهجم على الآخرين وتكفيرهم، مع أن أصل دعوتهم باطنية تعتمد على مبدأ (التقية)!
- أسلوب الهجوم المكشوف (ومنه السب والتشهير)، والابتعاد عن أسلوب الدفاع
- أسلوب التهجير والتطهير العرقي ومضايقة المخالفين من أهل السنة. وهذا قد حصل في إيران ولبنان والعراق وغيرها.
- أسلوب التخويف وإرهاب المخالف وتشكيل عصابات القتل والغدر والاغتيال على مر التاريخ. وبهذا أسكتوا الخصوم، وتسببوا في إصابتهم بعقدة (الرُّهاب Phobia) التي لم يسلم منها أشجع الرجال. وهي السبب في المجاملات والمداهنات السنية للشيعة. وهذا هو الذي أضاع الحق على عامة الناس، الذين لم يعودوا يدركون حقيقة الخطر ما داموا يسمعون من علمائهم عبارات التقريب الرنانة التي من أشهرها: (لا فرق بين شيعي وسني) وهي عبارة مجملة موهمة قد تسوغ في المزايدات السياسية، وليس في دائرة الدين القائمة على الوضوح والحق المبين. فسكت من سكت، وهاجر من هاجر. ومن بقي ذاب إلا من رحم، خصوصاً مع التضييق عليهم في أرزاقهم وأشغالهم. ومن أبرز الأمثلة الناجحة على هذا الأسلوب في تاريخ الشيعة ما فعله الصفويون في إيران، وقتلهم الذريع لأهل السنة وإرعابهم وتشريدهم حتى تحولت إيران بفعل هذا الأسلوب من دولة سنية إلى أخرى شيعية. ولم يشغلوا أنفسهم بأي نقاش علمي، أو مناظرة كلامية أو غيرها من الأساليب العقلانية التي لا نحسن غيرها، هذا والماء – كما يقال – يجري من تحتنا.
- أسلوب الهجرة والتوطين، أو الغزو السكاني الجماعي للمناطق السنية. فقضاء الزبير في البصرة لم تتغير صبغته السنية الصافية بسبب تحول أهله إلى شيعة، وإنما صار أهل الناصرية والعمارة وغيرهم يتحولون فيسكنون فيه بالجملة. وهكذا فبعد أن كان قضاء الزبير قبل أربعين سنة منطقة سنية مغلقة صار اليوم ما يقارب الأربعين بالمائة (40٪) من أهله شيعة. فهذا أسلوب تغييري جماعي ناجح غفلنا عنه وانشغلنا متفاخرين – بسذاجة نحسد عليها – بنتائج التغيير الفردي!
ونجح الشيعة في أسلوبهم هذا أيما نجاح خصوصاً في العاصمة بغداد قلب العراق وشريان العروبة النابض. فقبل خمسين عاماً لم تكن نسبة الشيعة في بغداد تتجاوز السدس ارتفعت النسبة اليوم إلى ما يتجاوز الثلث.
وبالأسلوب النفساني، لا العقلاني، تغير قضاء تلعفر في الموصل من أغلبية سنية شبه كاملة (أكثر من 95٪) في منتصف القرن الماضي، إلى أغلبية ضعيفة اليوم (70٪) وقد بدأ تشييعها في عام 1947 عندما استلم رئاسة الوزارة في العراق (محمد الصدر) والذي تسلم (عام 1949) رئاسة مجلس الأعيان.
والآن هل انتبهت إلى قصور النظرية القائلة: (نغير الفرد فالأسرة فالمجتمع)؟ وتبينت أن قاعدة للتغيير هي بالمقلوب: نغير المجتمع فيتغير الجميع؟
2. الأساليب والمبادئ الربانية في التغيير وبيان ( القضية )
ب. الأساليب والمبادئ الربانية في التغيير وبيان ( القضية )
الشيعة كمجموع – ننظر إليه كأي مجموع آخر – يسري عليه القانون العام في التغيير الجماعي كما يسري على غيره. أما إذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصياته النفسية والعقلية التي يفترق بها عن غيره فلا بد أن يؤثر ذلك في المعادلة؛ فنحتاج إلى تعديلات أو إضافات تتناسب وتلك الخصوصيات. وبناءً على هذا سنقسم الأساليب إلى صنفين:
الصنف الأول: يبحث في الأساليب والمبادئ العامة للتغيير
الصنف الثاني: يبحث في الأساليب والمبادئ الخاصة بالشيعة
وفيما يلي بيان هذين القسمين باختصار محيلاً التفصيل إلى الفصل الأخير من كتاب (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية):
الصنف الأول : الأساليب والمبادئ العامة
-
تبني مبدأ (القضية)
وجدت أغلب الناس – بمن فيهم كثير من المفكرين والمنظرين – ينظر إلى المسائل التي تشغله: دنيوية كانت أم دينية، نظرة جزئية تفكيكية. بمعنى أنه ينشغل بمسألة ما فيجعلها محط نظره ومحور اهتمامه وحركته ليهمل بقية المسائل. أو يعالج كل مسألة على حدة، دون أن يسلكها بخيط واحد، ويرجع بعضها إلى بعض. وهكذا يفعل كل فريق. وفي النهاية ينقسم المسلمون في البلد الواحد أقساماً غير متجانسة، تتنافر فيما بينها وتختلف تبعاً لاختلاف المسائل التي تبناها كل فريق على حدة دون اتفاق أو تنسيق. وهذا ما نهى الله عنه وذمه بقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:35). إن هذا يقطع المقتسمين أنفسهم ويحيلهم شيعاً وأحزاباً متنافرة كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14). فأخذ بعض الدين ونسيان بعضه يؤدي إلى هذه النتيجة المأساوية.
وللخروج من هذا المأزق لا بد من اللجوء إلى نظرية (القضية). فبها وحدها نتمكن من حل جميع الإشكالات، ونعطي جميع المسائل الممكنة ما يناسبها من اهتمام. إن نظرية (القضية) تعلمنا – نحن كربانيين – أن للدعوة محوراً هو المشكلة، أو المسألة الكبرى في الواقع المعين تدور حوله (القضية) استناداً إلى قاعدة التوحيد.
إن محورية الدعوة لا تعني أبدا إهمال المسائل الأخرى غير المحورية، وهي تقترب أو تبتعد عن المركز الذي تستقر فيه المسألة الكبرى وتتحرك لتكون هي محور الاهتمام أو (القضية). بل الأمر على العكس تماماً. فإن وضع اليد على المحور، وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة، أو مغلفة لا حراك فيها.
إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات العقد ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد. إن لكل دعوة قضية تنبع من واقعها تشد المسائل المطروحة كما يشد النظام حبات العقد فإذا انفقدت (القضية) انفرط عقد هذه المسائل وفقدت حيويتها وصارت بلا هدف يمكن تحقيقه من ورائها.
وبهذا يتبخر الاعتراض القائل بأن الدعوة لا يصح أن تحصر في قضية مواجهة التشيع أو المشروع الإيراني، وتهمل بقية القضايا. حيث قد أصبح واضحاً أن تبني هذه القضية لا يلغي أياً من القضايا المطلوبة، بل يمنحها الحيوية والحياة، ويجعلها تتحرك وتدور حول محور يمور بالفاعلية والحركة والنشاط :
فمن جعل التوحيد وتصحيح العقيدة غايته نقول له: إن هذا المطلب أول خطوة في طريق (القضية).
ومن جعل التقوى والتزكية القلبية شاغله نقول له: إن هذا هو لب التوحيد وعماد العقيدة.
ومن جعل العبادة هدفه ووجهته نقول له: إن (قضيتنا) لا يصلح لحملها إلا جيل عابد.
ومن جعل الجهاد طريقه ووسيلته قلنا له: لا (قضية) بلا جهاد، ولا جهاد بلا (قضية). وجهادنا أعظم الجهاد في الواقع الذي نعيشه لأنه يجاهد المنكر الأكبر والأصعب فيه.
ومن أراد حشد الناس وتأليفهم، وتنظيمهم في جماعة معينة، قلنا له: إن الحشد والجمع لا بد أن يكون من أجل (قضية)؛ فالقضية الحقيقية أعظم وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فتبني هذه القضية تحل مشاكل العراق دينياً واجتماعيا وسياسياً.
ثم.. إن (قضيتنا) لا تنجح دون وعي بالسياسة والواقع وما يدور في العالم.
وتحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية وصيغ التعامل معها والسنن الكونية في التغيير. والى معرفة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والجغرافية كذلك. واللغة والعقائد والفرق. وإلى التعرف على الدسائس والمؤامرات وعلاقات الفرس باليهودية والصليبية.
ولا يحملها إلا وطني صادق وعروبي غيور، ضمن إطار الشريعة.
… وهكذا ما من مسألة ولا علم مهم أو ضروري إلا وتجد القضية في حاجة إليه، وتعطيه من الاهتمام ما يناسبه. فرق جوهري هو أن هذه المسائل والعلوم تكون حية متوهجة متحركة حين تكون في خدمة (القضية)، وميتة خامدة جامدة حين تنعزل منفردة على قارعة الطريق.
قانون ( القاعدة والمحور )
إن القاعدة التي انطلق منها الأنبياء عليهم السلام للإصلاح هي التوحيد. لكن محور حركتهم دار حول معالجة القضية الاجتماعية الكبرى. وقد مر بنا بيان هذا في موضوع (العقيدة). تأتي أهمية هذا القانون (القاعدة والمحور) مما يلي:
- قدرته على تحقيق تجانس الفكر والعمل؛ فتحل المشكلة الفكرية والعملية:
- فالخلاف الفكري ومثاله: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ) (البقرة: 189)، حله بالقضية: (وقاتلوا في سبيل الله) (البقرة:190).
- والفرقة الاجتماعية: (ولا تفرقوا) (آل عمران:103)، حلها بالقضية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (آل عمران:104).
وإلا فبفقدان القضية الجامعة يقع المجتمع في مطب الخلاف؛ بسبب التفات كل طائفة منه إلى مسألة معينة على حساب المسائل الأُخرى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (المؤمنون:53). ثم ينزلق إلى نفق العداوة والتفرق كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14).
- كيف يتحقق التجانس الفكري والعملي ؟
- إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات عقد كل المسائل الاجتماعية المطلوب حلها، ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد.
- إن محورية القضية يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها قرباً وبعداً وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة أو مغلفة لا حراك فيها.
- لا بأس بتعدد القضايا بشرط الدوران في فلك القضية المركزية.
قضيتنا المركزية
ما هي قضيتنا نحن أهل العراق، وبقية المناطق أو الأقطار المشابهة؟
إننا في العراق نواجه – ومنذ فجر التاريخ – خطراً هو أكبر الأخطار بل هو مجمع الشر وأم الخبائث من الشرك والنفاق واستباحة الدماء والأموال والأعراض والطائفية والفرقة والتآمر والكيد والدس والاغتيال الفكري والجسدي والولاء للأجنبي والطعن في الكتاب والسنة والتاريخ والرموز…الخ. وقد استطاع أن يجند لصالحه الملايين.
هذا الخطر هو الشعوبية أو المجوسية المقنعة. إنه التشيع الفارسي أو الصفوي. إنه الغزو الشرقي قبل الغربي. فالوقوف بوجه هذا الخطر هو (قضيتنا) الأولى. وهي القضية التي نستطيع توجيه كل الجهود نظريا وعملياً علماء وعامة قادة وجماهير باتجاهها، وحشدها لحلها وعلاجها.
2. الصدع بالحق
2. الصدع بالحق
الإسلام دين جماعي. أي جاء لتغيير الجماعة قبل الفرد. والإسلام ليس علاقة قاصرة بين الفرد وربه، مجردة عن المجتمع، أو بعيدة عنه. نعم هو علاقة بين العبد أو الفرد وربه، ولكن من خلال المجتمع.
إذن جاء الإسلام لتغيير المجتمع، وتصدى لمخاطبته ككل، وليس لخطاب فرد أو مجموعة من الأفراد. لهذا اتجه الرسول e بدعوته إلى المجتمع، ولم يقتصر بها على الأفراد. فكان يصعد على جبل الصفا ويصيح في جموع قريش، ويغشاهم في نواديهم وأسواقهم، ومواسمهم. وهكذا فعل أصحابه رضي الله عنهم. ولم تشغله دعوته الفردية عن هذه المهمة الاجتماعية. بل سخر الأولى لخدمة الثانية.
إن منهج الإسلام التغييري الجماعي يقوم أول ما يقوم على الإعلان الواضح بالدعوة، والصدع المستمر – وبلا انقطاع – بالحق، وإنكار ما عليه المجتمع من باطل جهراً، دون الاكتفاء بطرح الأفكار في الزوايا الضيقة.
وكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقاً أميناً لما جاء في ذلك من توجيهات الوحي النازل عليه. كما قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:2،1). وقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34). بهذا الأسلوب توصل نبينا من تغيير المجتمع. وبه تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم.
إن السكوت وعدم الإعلان بالحقيقة الصريحة في وسط المجتمع خشية أن نفقد عدة أشخاص تربطنا معهم علاقة من أي نوع، أو جاءوا إلى المسجد القريب مثلاً يؤدي إلى أن يظل المجتمع سادراً في غيه، جاهلاً بحاله، مستمراً في ضلاله. لأنه لم يجد أو يسمع من يعرفه بالحق من الباطل.
إن الصدع بالحق يحرك السواكن ويثير العقول ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله – كما أوصى ربنا – بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة – إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية مما يعطي للأفراد فرصة اكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية كذلك.
لا بد إذن من التفريق بوضوح بين أسلوب الإعلان بالدعوة خطاباً للمجتمع، وبين الحوار الفردي في الزوايا الضيقة أو اللقاءات الخاصة أو عن طريق العلاقات الاجتماعية الفردية، الذي لن يؤدي – في أحسن أحوال – إلى أكثر من تغيير أفراد معدودين، مهما كثروا لن يحدثوا تأثيراً له وزنه في تغيير معادلة المجتمع المختلة، بالاتجاه الصحيح، نحو الهدف المطلوب.
3.التكرار والطرق المستمر
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي، والأساليب العقلانية في دوائر النقاش، وتبادل الآراء في اللقاءات الخاصة، والاجتماعات المحدودة. ولكن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولا يتأثر به إلى الحد الذي يمكن اعتباره جذرياً وشاملاً، ما لم يحصل الصدع بالفكرة مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
يقول د. علي الوردي: إن عيب البرهان المنطقي أنه لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة. فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون في تبديل أخلاق الناس، أو تغيير عقائدهم إلا نادراً. فهم يحاولون دائماً أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل، وإقامة الدليل، وما أشبه. هذا بينما الناس يسيرون في أمورهم الفكرية والاجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم. فهتلر لم يبعث في الأمة الألمانية تلك الحماسة، وذلك التعصب العجيب لآرائه بواسطة الإقناع المنطقي. إنما هو قد فعل ذلك بالإيحاء والتلقين والتكرار، وبواسطة الاحتفالات والاجتماعات والاستعراضات: حيث كانت الموسيقى تعزف، والأعوان تهتف، والرايات تخفق، والطيارات تملأ بهديرها الفضاء.
إن كلمةً تكرِّر قولهـا على نفسك مرة بعد مرة ، لقـادرة أن تطبـع في عقلك الباطن شيئاً مـن الإيمان بها قليلاً أو كثيراً. والإيمان يزلزل الجبال كما يقولون([1]).
4.التكامل
إن هذا التأثير – حتى يتم – يحتاج إلى تكامل دعوي يقترن فيه الصدع بالحق من قبل ما يكفي من الدعاة والكتاب والخطباء والإعلاميين والصحفيين والمفكرين والمحاضرين والسياسيين، وغيرهم من الذين يتقدمون الصفوف، بالحركة أمام الجمهور الواعي المساند، الحامل لـ(القضية)، بعد أن يكون قد أدرك أبعادها مسبقاً بواسطة أولئك المتقدمين. فالصدع بالحق لا بد أن يقترن بالحركة من قبل ذلك الجمهور نحو الآخر، متمثلة بالحوار الشخصي، وتقديم الوسائل البيانية من مثل الكتاب الهادف، والمطوية، والمنشور، والصحيفة والشريط المناسب: مسموعاً كان أم مرئياً، وغير ذلك من الوسائل. إن هذا كله ينشط التغيير الفردي ويكسب باستمرار مزيداً من الأنصار الحقيقيين، وليسوا أرقاما فارغة لا قيمة لها. وفي الوقت نفسه نكون قد قمنا بواجبنا تجاه المجتمع الذي نأمل أن يتغير باتجاه الهدف متى ما تكاملت فيه عناصر التغيير ضمن مدى معين من الزمن. فلا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج والتأثير.
إن أجزاء العمل التغييري كأجزاء العربة: المحرك، والإطارات، والجسم، والمِقود وبقية الأجزاء: ما لم تكتمل وتتكامل هذه كلها مع بعضها، لن تتحرك السيارة مهما كانت الأجزاء الأخرى متقنة وصالحة للعمل.
5.فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
من أسباب انتشار التشيع قلة المتصدين لفضحه وتعريته بتفاصيله التي هو عليها. على العكس! فلقد قعّد الدعاة في المنع من ذلك قواعد أشهرها:
- “بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة”
- و”بيان الحق كفيل بزوال الباطل”
- اعتماد الرفق مبدءاً متبعاً على طول الخط دون استثناء
فصار عندهم كل من تطرق إلى باطل الشيعة وخزعبلاتهم من المتشددين المتعنتين. وما دروا – أو دروا لا أدري – أن دين الله تعالى مبني على:
- تقديم مبدأ إنكار الباطل على بيان الحق.
- وبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
- وأن فضح الباطل جاء فيه أكثر تفصيلاً من بيان الحق. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل.
- وأن التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل أصل من أصول التغيير (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37).
[1]– خوارق اللاشعور، ص128، الدكتور علي الوردي.
6. التأكيد على وجود عدو حقيقي ميداني
6. التأكيد على وجود عدو حقيقي ميداني
تتبين ضرورة اعتماد هذا المبدأ بعرض حقيقتين اجتماعيتين مهمتين، هما:
الحقيقة الأولى : الحب المجرد لا يكفي
الحب أساس الدين، ولكن هذا لا يكفي وحده لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. ومن أول سورة نزلت من القرآن العظيم كانت هذه القضية حاضرة فيه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى) (العلق:10،9). وما إن أهبط أبونا آدم عليه السلام إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
الحقيقة الثانية : وجود العدو سنة كونية
إن وجود العدو سنة من سنن الكون. وفي ذلك يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31). والسر في ذلك يتكشف من النظر في أمور منها:
- أن الإنسان إذا أمن خمد، وقل نشاطه واندفاعه. فإذا تعرض أمنه إلى الخطر تحرك وانطلق، وتفجرت طاقاته من مكامنها، وبحث عمن يعينه ويعزز أمنه وحياته؛ فتزداد القوة، ويحصل التماسك بين المجموع. وهذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. وتقرر الدراسات العلمية الحديثة أن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع([1]).
- تأكيد القرآن العظيم على أهمية تحديد الخصم، ووضوح صورته في ذاكرة المؤمنين، وإبراز خطره، والتلويح به دوماً أمام أعينهم. كما قال: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101)، وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر:6). كما أنه قال: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
لقد أجاد الخصوم دورهم في خدمة هذه المسألة العظيمة، والتلويح لشعوبهم وأتباعهم بخطر الأعداء والخصوم، من أجل تنفيذ مآربهم، وتحقيق أهدافهم، كما تفعل أمريكا اليوم. والحال لا يحتاج إلى شرح. كما أجاد أساطين الشيعة الدور في التلويح لشيعتهم بأن الخطر كل الخطر يأتي من ناحية العرب عموماً وأهل السنة خصوصاً. ولغتهم الخاصة غنية بالمصطلحات التي تعبر عن مقاصدهم مثل: نواصب، وهابيين، إرهابيين، تكفيريين، أُمويين وغيرها. هذا إن لم يذكروا أهل السنة باسمهم صراحة.
بينما فشل أهل السنة – في العراق خصوصاً – فشلاً تاريخياً ذريعاً في تجلية الخصم أو العدو الحقيقي الذي يهدد وجودهم، ويريد ابتلاعهم وتدمير هويتهم الدينية والقومية، بل والوطنية ! ألا وهو الشيعة، وإيران وذيولها.
إن هذا الفشل الغبي هو الذي خدر أهل السنة: خاصتهم وعامتهم، وساعد في تشتيت صفهم، وترسيخ تفككه، وضعف تماسكه.
السياسة اللادينية تسلك أسلوب ترهيب الجماهير من العدو المحدد، والسياسة الدينية أو الشرعية تسلك السبيل نفسه. وبهذا يتبين أن السنة لم يسلكوا لا سبيل السياسة البراغماتية، ولا سبيل السياسة الشرعية. وهذا هو المؤشر على عامة الحركات الدينية السنية في زماننا التي دخلت معترك السياسة. إن أساليبها قديمة، أو إنهم لا يحسنون تنزيل الصالح منها على مواردها.
ضرورة تحديد العدو بدقة
حتى تتم الاستفادة من هذا المبدأ (أي التأكيد على وجود العدو)، لا بد أن تتوفر في العدو المقصود ثلاثة شروط:
أ. أن يتم تحديده بدقة.
ب. أن يكون موجوداً ضمن الرقعة الجغرافية: إما في داخلها أو ما يليها.
جـ. في حالة تعدد الأعداء يكون هو الأخطر من بينهم، ثم ننزل حسب درجة الخطورة.
فمن غير الصواب أن يقال لسنة العراق: إن عدوك هو أميركا دون إيران، أو الذهاب إلى عدو خارج الميدان، وهو إسرائيل، بينما الشيعة هم العدو الذي يصول ويجول في الميدان. وبتطبيق الشروط الثلاثة السابقة يتبين لنا مايلي:
الشعوبية ( إيران والشيعة ) عدونا الأول
إن العدو الأول لنا في العراق، ومن كان على شاكلتنا في موقعه الجغرافي، هو الشعوبية متمثلة بإيران والشيعة. وعلى رأس الشيعة يأتي السيستاني وآل الخوئي وآل الحكيم وآل الصدر ومن اتبعهم وسار في فلكهم من الأحزاب الدينية وتلك المتظاهرة بالعلمانية. وهؤلاء يشكلون جمهور شيعة العراق، إلا استثناءات قليلة.
ونحن – إذ نقرر هذا – لا نهون من شأن الخطر الغربي، إنما نعيب على من يهون من شأن الخطر الشرقي، ويريدنا أن نصطف معه في رؤيته للعدو وأنه الغرب وإسرائيل وكفى. ونسيان هذا العدو أو التغافل عنه لا يقوم على رؤية منصفة، أو أسس علمية معتبرة: لا واقعية ولا تاريخية.
الانشطار الثقافي العربي إلى شرقي وغربي
ولتوضيح هذا العول في الميزان، والتطفيف في المكيال نقول:
تنشطر الثقافة العربية في موقفها إزاء الأعداء التاريخيين للأمة؛ تبعاً لموقعها الجغرافي إلى شطرين: شطر شرقي، وآخر غربي. ولكل منهما أولويته في تقييم وترتيب الأعداء.
الشطر شرقي يضم العراق ودول الخليج واليمن، والشطر غربي يضم الشام ومصر وباقي الدول العربية في إفريقيا.
- أما الشطر الشرقي فعدوه الأول إيران والشيعة. لكن طرأت عليه عوامل كثيرة تضافرت فيما بينها فجعلت ثقافته غائبة ومغيبة عن الواقع، تخضع لثقافة الشطر الغربي، وتكاد تذوب فيها؛ نتيجة للإعلام والدعاية وضعف القيادات، وعدم بروز قائد تاريخي أو قيادات ذات بعد فكري استراتيجي، سليمة النظرة، عميقة الفكر، مؤثرة في الجماهير، محركة لها.
- وأما الشطر الغربي فتغلب عليه ثقافة مشبعة بمعاداة الغرب الصليبي، إلى درجة الغيبوبة عن الخطر الشرقي الشعوبي. زاد من حدة هذه الثقافة ورسوخها وجود كيان إسرائيل في منتصف القرن الماضي، المحتضن والمدعوم من قبل الغرب. تتزعم هذا التوجه دولة مصر بثقلها الفكري والإعلامي، ومعها سوريا والإعلام الفلسطيني متدرعاً بمنزلة فلسطين في قلوب العرب والمسلمين. كل هذا وغيره أدى إلى طغيان الرؤية العربية الغربية وامتدادها حتى إنها ذوبت أو غمرت الثقافة العربية الشرقية في داخلها، فأصبحت الثقافة العربية في العموم ثقافة لا ترى عدواً غير الغرب وإسرائيل.
ثمة عوامل أُخرى مساعدة صبت في هذا المصب، يأتي على رأسها اعتبار الشيعة من (أهل القبلة)، ومنهم من اشتط فرأى أن الخلاف الشيعي خلاف فرعي مذهبي. وتبعاً لذلك كان إدخال إيران ضمن المنظومة الإسلامية تحصيل حاصل! وقد استغلت إيران ذلك أبشع استغلال فرفعت شعار القدس وتحرير فلسطين. وزادت فصار تتفضل على مرتزقة الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها إلا القليل، وأكثره تغلب عليه الصبغة السلفية.
ومن هذه العوامل الثقافة اليسارية التي دخلت على الخط بواسطة الشيوعيين واليساريين الذين تحولوا فدخلوا في التنظيمات الإسلامية والقومية والعلمانية، وصاروا قادة فيها. وهؤلاء يحملون رواسب قوية من معاداة الغرب والإمبريالية الأمريكية، كان لها دورها في ترسيخ الثقافة الغربية.
وهكذا وجدنا أنفسنا نحن جيل الثمانينيات نكاد نختنق وسط هذه الدوامة التي تريد ابتلاعنا. وكان أحدنا كمن يصرخ في أنبوب واسع كبير، لا يرجع إليه منه غير الصدى والضجيج! حتى جاءت الأحداث الأخيرة ابتداءً من احتلال العراق، ومروراً بالثورة السورية التي كشفت المستور، وأعادت للثقافة العربية الشرقية روحها. ساعد على ذلك بعض القنوات الفضائية السلفية من قبل الحدث السوري، والتغطية الإعلامية للحدث من قبل الكثير من الفضائيات الأُخرى.
[1]– أساليب الإقناع ، ص54،63. جي. إي. براون، ترجمة د. عبد اللطيف الخياط.
فقه الهوية - مقدمة
فقه الهوية
مدخل
فقه النوازل (العلم المتعلق ببيان أحكام المسائل الواقعية والمستجدة) هو فقه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم من بعده ومن تبعهم بإحسان فـي القرون الفاضلة. وأشرفه نوعان:
الأول: الكليات والأصول والقواعد التي تندرج تحتها فروع كثيرة.
والثاني: ما تعلق منه بحاجة الناس ومصلحة المجتمع ومسيرته وصيرورته.
ولم يكن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الفقه أن يشغل أصحابه بأحكام غير واقعية، أو مسائل فرعية بعيداً عن قواعدها الكلية. وأعظم ما يتجلى هذا الفقه في القرآن الكريم، الذي كانت آياته تتنزل حسب الوقائع التي تحدث في حياة الناس وتشغل اهتمامهم وتحقق مصالحهم وتحدد مسارهم ومصيرهم. ومن هنا ولد علم (أسباب النزول).
ثم بدأ الخلل يدب شيئاً فشيئاً حتى انتهى الفقه إلى وضعه الحالي، مجلدات من أحكام فرعية غالبها الأعم يدخل في باب (العلم الذي لا ينفع)، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه! وصار مسمى الفقيه إذا أطلق ينصرف إلى ذلك الرجل المعمم الساكن المعزول عن الحياة وحركتها
وضجيجها. ولذلك هو بعيد – عادة – عن نوازل المجتمع، لا سيما تلك التي تترتب عليها تبعات ومسؤوليات تقلق سكونه وتقض مضجعه.
فـي العراق اليوم، والبلدان المشابهة، تتعرض هوية الأمة إلى عملية مسخ ومحو متعمد، ويعاني أهل السنة هناك من حركة تشييع خطيرة، إن لم يسارع أهل الشأن بتدارك الأمر فإن المستقبل لا يبشر بخير. والمشكلة الخطيرة أن عامة من يتسمَّون بـ(الفقهاء) أول المشاركين في هذه الخطيئة، فهم ما فتئوا يرددون عبارات وأحكاماً تدور حول وحدة الدين الشيعي والسني، وأنه لا فرق بين الشيعة والسنة من جميع الوجوه (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا) (الكهف:5).
فكانت (الهوية) من أهم النوازل في هذه المرحلة، التي ينبغي وضعها في مقدمة المسائل التي تتطلب فقهاً شمولياً متعدد الجوانب: شرعياً وسياسياً وتاريخياً وحالاً ومآلاً، ثم توعية الجمهور السني بكل ذلك.
وهو أمر نكل عنه أولئك (الفقهاء) الساكنون الجامدون. فتقدمنا بفضل الله متوكلين عليه مستمدين منه الهداية والتوفيق، فكتبنا هذه الورقات في (فقه الهوية). وما من شك في وجود ثغرات ونقص فيما كتبت؛ فهذا شأن كل جهد رائد، ومن طبيعة أي نتاج واعد.
لذلك أدعو ذوي الشأن إلى إغناء البحث في هذا الموضوع الخطير، والعمل على نشره في أوساط (أهل السنة والجماعة) في العراق وخارجه.
لا قضية بلا هوية
في الباحة الخلفية للمسجد النبوي الشريف، كنت أتمشى جيئة وذهاباً مع أحد الإخوة الفلسطينيين الذين هجرتهم المليشيات الشيعية من العراق، نتحدث عن همومنا المشتركة وكيفية مواجهتها. وجرنا الحديث إلى (الهوية السنية) والحاجة إلى الانضواء تحت رايتها، والتكلم باسمها كضرورة من ضرورات هذه المرحلة. قلت له:
– في عام 1948، العام الذي قسمت فيه فلسطين وتأسست (دولة إسرائيل)، كانت بلدان العرب ترزح تحت نير الاستعمار. فلو افترضنا أن الفلسطينيين لم يتكلموا بشيء اسمه (القضية الفلسطينية)؛ متوهمين أن ذلك يتعارض مع قضية الأمة العربية، فكانت مطالبهم كلها باسم العرب دون ذكر ما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم، والمطالبة بما لهم من حق: هل يمكن أن تكون لهم قضية يستحصلون بها ما يمكن أن يستحصل من حقوق، ويتلقون من دعم عربي وعالمي، وتقف معهم دول ومنظمات عالمية؟
قال: أبداً؛ فإن الحقوق الخاصة تحتاج لأخذها إلى اسم وهوية خاصة.
قلت: هذا هو السر فـي أن (السنة العرب) في العراق بذلوا أعظم الجهود والتضحيات، وتحملوا وحدهم ضريبة الغزو: احتلالاً وإجلاءً، لكنهم فـي النهاية لم يحصلوا على شيء! والسبب أن (السنة العرب) تكلموا وعملوا ودافعوا باسم (العراق) وليس باسمهم الخاص.
لم نجد مؤسسة أو حزباً أو هيئةً أو فصيلاً رفع راية (السنة العرب) وتكلم باسمها وتصرف على أساسها. بينما الشيعة تكلموا باسم الشيعة ورفعوا شعار المظلومية الشيعية، والكرد – كذلك – تكلموا باسم الكرد ورفعوا شعار المأساة الكردية. فحصل الطرفان على ما يريدان. أما نحن فبترت أطرافنا العليا والسفلى، ولم نحصل على ما نريد؛ لأنه لم يشاهد أحد لنا من راية ولم يسمع بهوية، سوى هوية العراق الذي سيطر عليه الشيعة اليوم، وصاروا يتكلمون باسمه فأصبحت الثمار السنية والشيعية كلها تسقط في سلة العراق.. أي في سلة الشيعة.
هل تعلم……. أن العراق بلعَنا نحن السنة العرب، وإذ بلع الشيعةُ العراقَ فقد صرنا نحن في بطن الشيعة كتحصيل حاصل. أما الكرد فبسبب من تمسكهم بهويتهم الخاصة لم يستطع الشيعة ابتلاعهم باسم العراق.
وهل تعلم…… عندما رفع السنة العرب هوية العراق العامة متناسين هويتهم الخاصة، ورفعوا صوتهم عالياً في المحافل الدولية عن (العراق المحتل)، وقاوموا الغزاة دفاعاً عن (العراق) وباسم (العراق)، تكون لدى العالم أجمع قريبه وبعيده انطباع مؤداه أن أزمة العراق تكمن فـي الاحتلال فإذا جلا عنهم عولجت الأزمة وانتهت المشكلة، بل هذا ما صرح به سنة العراق أنفسهم! فماذا ترتب على هذا الانطباع؟
لقد قرر المحتل الأمريكي الانسحاب من العراق، وأعلن عن اكتمال جلاء قواته بنهاية سنة 2011، وها هو يتهيأ لسحب آخر جنوده. إذن وصلت محنة العراق في تصور العالم إلى شوطها الأخير وقد قاربت نهايتها، وعندها سيغلق ملف مأساة العراق بعناوينه الرئيسة. حتى إن بعض الدول بدأت تأمر اللاجئين العراقيين فيها بالعودة إلى بلدهم. وهذا شاهد على صحة أن العالم يتصور أن محنة العراق تنتهي بانتهاء الاحتلال.
فهل هذه هي الحقيقة؟ هل انتهت محنة (السنة العرب) بانتهاء محنة (العراق) كما هو مفترض كنتيجة طبيعية لذلك؟ أم إن محنة (السنة العرب) الآن بدأت؟
ما عاد ( العراق ) يعبر عن ( السنة العرب ) ..!
والسؤال الجوهري: إذا كانت محنة العراق تزول بجلاء المحتل، فلماذا لا تزول محنة السنة بهذا الجلاء، أي بانتهاء محنة (العراق)؟
أليس معنى هذا أن (العراق) بمفهومه الحالي ما عاد في الواقع يمثل السنة أو يعبر عنهم؟ فعن أي عراق دافع السنة وقاموا المحتل وضحوا بخيرة شبابهم إذن؟
هناك شقاق حصل دون أن نشعر بين مفهوم (العراق) ومفهوم (السنة) بحيث أصبح العراق شيئاً آخر ليس (السنة العرب) من مكوناته، ولو كانوا كذلك لشملهم غُنمه كما عمَّهم غُرمه!
أما الغُرم فقد جلبناه على أنفسنا لتخلف ثقافتنا وتخلخل فكرنا. والغُنم فقد حرمنا منه؛ لأن الحقيقة تفرض نفسها، حقيقة أن (العراق) ما عاد يمثلنا.
فهل فطن السنة لهذه المفارقة الكارثية؟
وهل عندهم من فكر جديد يرسم معادلة جديدة لحل هذه المفارقة العجيبة؟! أم سيظلون غائبين في سمادير الكهوف الخربة لذلك الموروث الثقافي القديم والثقافة (الوطنية) البالية الخائبة؟ آن الأوان ليتحدث السنة العرب ويعملوا تحت عنوان (الهوية السنية) تخصيصاً، ولا يكتفوا بـ(الهوية العراقية) تعميماً.
إن جهود وتضحيات السنة لأكثر من ثماني سنين أريقت هدراً بسبب فقدان هذه الهوية التي من دونها لا يمكن جني ثمرة أي جهد لصالحهم.
جذور الهوية السنية
السنية .. بيـن الهوية السياسية والهوية الدينية
يتفاجأ كل من ألتقيهم من أهل السنة حين أقول: إن السنية هي الهوية السياسية الوحيدة التي تمثلنا نحن السنة العرب في العراق، وكل من هو في مثل حالنا من السنة خارج العراق! ومع إزالة أسباب المفاجأة عليك هنا أيضاً أن تجيب عن السؤال التالي: كيف تكون السنية هوية سياسية وهي لا تخرج عن دائرة المفهوم الديني؟!
حين تكون الهوية عاجزة ذاتياً عن تمثيلك في حفظ حقوقك، واسترجاع ما سُلب منها؛ فاعلم أنك وقعت على الهوية الخطأ. فسارع إلى نبذها ورفعِ الهوية الأنسب لوضعك.
وحين يكون حفظ الحقوق، فضلاً عن استرجاع المسلوب منهايكون بين طرفين متنازعين على مستوى دولة، تتحول الهوية إلى مفهوم سياسي.
ولأن حقوقنا – نحن السنة في كل بلد حكمه الشيعة ومن ورائهم إيران – سُلبت لا على مستوى صراع محدود في حي أو قرية أو مدينة، إنما على مستوى الوطن كله، ولم تكن الهوية العراقية سوى محامٍ فاشل ساهم في خسارة القضية؛ والسبب أن الهوية الوطنية في وسط صراع طرفه الأقوى طائفي ديني حد النخاع ليست هي الهوية السليمة. وإذ إن هوية هذا الطرف شيعية فالهوية المقابلة لها لا بد أن تكون سنية.
إذن السنية تمثل– في الصميم – هويتنا السياسية التي بها نحفظ حقوقنا ونسترد ما سلبه الشيعة منها. وليست السنية – وحال الصراع على ما وصفت – مجرد هوية دينية يستخسر الأكثرون فيها حتى من اعتبارها كذلك، إنما ينظرون إليها على أنها هوية طائفية! وفي الوقت الذي يغرق الشيعة في بحر الاستهتار بهويتهم الشيعية يتهموننا بالطائفية لمجرد الانتساب إليها من قبل قلة من أهل السنة! ويشاركهم الاتهام كثير من الداخل السني!! وشتان بين متهم مختلِق، وآخر مختنق؛ إما بجهله أو بنفاقه ومداهنته.
كلا أيها المنكرون .. المختلق منكم والمختنق!
إن هويتنا سنية. ونحن – لله الحمد – واعون بـ(فقه الهوية) إلى الحد الذي نعرف به متى تكون السنية هوية سياسية، ومتى تكون هوية دينية.
جذور الهوية السنية
ليست (الهوية السنية) بدعاً من القول، ولا هي طارئاً غريباً على عقيدة الأمة وفكرها وثقافتها. بل هي – بشقيها المتلازمين: (السنة) و(الجماعة) – تمثل العنوان الآخر الذي يعبر عن أمة الإسلام تمام التعبير. وجاء في الإرث التاريخي ما يفيد أن الهوية السنية ظهرت في زمن الصحابة y. وقد تداولتها أمة الإسلام عبر أجيالها المتتابعة. ولم يحدث أن نكلت عن هذا العنوان (أهل السنة والجماعة) إلا في زمن العَلمانية الطارئة وربيبتها (الوطنية) الساذجة.
ومن تتبع جذور هذه الهوية في تاريخ الإسلام يقف أمام علامة فارقة في تاريخ الهوية وكيف أنها مرتبطة بنوع التحدي، فهو الذي يفرضها ويظهرها، وهو الذي يمنحها عنوانها وسِمَتها.
ففـي البدء كان الصراع بين الإسلام وخصومه خارجياً، وهذا شيء طبيعي فـي مسيرة الدعوات، ثم بعد فترة ليست قصيرة بدأت الدوامات بالتكون داخل التيار. فكان الإسلام – قبل حدوث الصراعات الداخلية – هو الهوية المعبرة عن الأمة أمام خصومها؛ لأنهم كفار واضحو الكفر والوجهة. وكان هناك فسطاطان فقط: فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر. فكان الإسلام هو الهوية الجامعة المانعة. ثم لما تحول جزء من الصراع العقائدي إلى الداخل الإسلامي جعلت الأمة تعبر عن نفسها وتشهر في وجه تلك التحديات الداخلية هوية داخلية إلى جانب الهوية الخارجية التي تعبر بها عن نفسها وتبرزها في وجه التحديات الخارجية.
تلخصت التحديات الداخلية بظهور فرقتين في عهد الصحابة هما: الخوارج والروافض. وكان أجلى ما يميز الطائفتين معاً: مخالفة السنة بالبدعة، والخروج على سلطان الأمة بالفرقة. فظهرت الحاجة إلى هوية داخلية تميزهم عن المخالفين للسنة المفارقين للجماعة، فاصطلح ذلك الجيل على هوية تسد تلك الحاجة، فكانت الهوية (أهل السنة والجماعة).
روى مسلم في مقدمة (صحيحه) عن ابن سيرين قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُـنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)([1]). لم يقل: (ينظر إلى المسلمين…، وينظر إلى الكافرين…)؛ لأن اسم (الإسلامية) لا يحقق الغرض منه؛ إذ إن هؤلاء يندرجون تحت هوية الإسلام العامة؛ فلا يتم التميز به عن الطائفتين. على العكس من اسم (أهل السنة).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسـير قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيـَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْـوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران:106) قال: (يعني يومَ القيامة حين تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة؛ وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفرقة)([2]).
المعنى العام والمعنى الخاص لـ( أهل السنة )
ويُراد بهذا الاسم (أهل السنة والجماعة) معنيان: معنى عام هم جميع المسلمين عدا الرافضة، ومعنى خاص هم أهل السنة المحضة. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة. وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة ، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة)([3]).
وبهذين المعنيين نؤسس لـ(هويتنا السنية)، كما أن كلا المعنيين مقصودان عندنا كلٌّ بحسب الحاجة والموقف: فأهل السنة فـي العراق اليوم مستهدفون جميعاً من قبل الشيعة وإيران دون تفريق بين مذهب ومذهب؛ فهنا يكون المعنى العام الذي يشمل جميع السنة هو مقصودنا بـ(أهل السنة والجماعة) أو (أهل السنة) أو (السنة). فتكون الهوية السنية اسماً جامعاً لكل السنة بجميع مذاهبهم، مانعاً لكل الشيعة بجميع طوائفهم. فمن قال: أنا سني وعمل تحت هذا العنوان فهو السني. ولكننا عند تبني المنهج السليم اعتقاداً ودعوة وإيماناً ونصرة، وعند تربية القيادات عليه وتهيئتهم لأخذ دورهم في قيادة المجتمع، وقبولهم في خاصة مشروعنا، نقصد المعنى الخاص حصراً.
[1]– ترك هذا المعيار منذ وقت مبكر بحجة أن إعماله يؤدي إلى ضياع كثير من الحديث!
[2]– شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة،1/72. الإمام هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي. ونقله عنه ابن كثير في تفسيره.
[3]– منهاج السنة النبوية (2/221).
الهوية الخاصة والهوية العامة
الهويةالخاصة والهوية العامة
تعدد الهويات
يرى كثيرون أن الانتساب للسنة والاحتماء بالهوية السنية نوع من الطائفية يتناقض مع الهوية العراقية. وهذا كلام غير دقيق، لا يستند إلى أساس علمي سوى الثقافة القديمة التي ما عادت تلبي حاجة التطورات الجديدة والتغيرات والتبدلات السياسية والاجتماعية. بل تحولت إلى عبء ثقيل، علينا أن نبادر إلى مراجعته والنظر فيه كي نطرح جانباً الضار منه، وما لم يعد نافعاً، وما لسنا في حاجة إليه، ونبقي على ما سوى ذلك، ثم نضيف إليه ما يتطلبه الواقع الجديد بمتغيراته وتبدلاته.
إن الهوية العامة أو الأكبر ليست في حاجة إلى إلغاء الهوية الخاصة أو الأصغر، متى ما روعيت الضوابط المطلوبة. فالهوية الشخصية لا تتعارض مع الهوية العائلية، والتحدث باسم العائلة لا يتناقض والانتسابَ إلى العشيرة، والهوية العشائرية لا تقف بالضد من الهوية الوطنية، إلا إذا خالفنا الضوابط المرعية. أي إن الأمر من حيث الأصل لا إشكال فيه.
هكذا لا حرج في تتعدد الهويات ما دامت ماضية فـي نسق متجانس باتجاه واحد: فالهوية العراقية لا تتضارب مع الهوية العربية، وكذلك الهوية العربية مع الهوية الإسلامية.
والناظر في الواقع يجدنا نؤمن بكل هذه الهويات ولا نشعر بالحرج من الجمع بينها، حتى إذا وصلنا إلى (الهوية السنية) بدأ مؤشر التناقض مع الهوية العراقية بالظهور على لوحة الأمان! ولا علة لهذه المفارقة الغريبة سوى الموروث الثقافي الجمعي أو الثقافة الجمعية القديمة.
حين يعمل أبناء العراق لمصلحة العراق، ويتكلمون باسمه، ويرفعون علماً خاصاً به، ويسنون دستوراً له، ويؤسسون المشاريع المختلفة لخدمته: لا يمكن لأحد أن يدعي أن هذا يتناقض مع الهوية العربية.. إلا إذا كان القصد مبيتاً لجعل الهوية القطرية عوضاً عن الهوية القومية. وكذلك العمل لأجل الأمة العربية وباسمها لا يقف حائلاً أمام العمل للأمة الإسلامية. بل إن هذا هو السياق الصحيح والتسلسل الطبيعي للأمور خصوصاً ما تعلق منها بالحركة والعمل. وهكذا الشأن مع العراقي غير العربي في ارتباطه بهويته القومية الخاصة به، والإسلامية التي تجمعه مع بقية المسلمين. كل ذلك لا حرج فيه.
صحيح أن الهوية الإسلامية أعلى مرتبة من الهوية القومية، وهذه أعلى من الهوية الوطنية. ولكن هذا من الناحية الاعتبارية الذهنية.
أما من الناحية العملية فالبدء لا يكون إلا من المحلية باتجاه العالمية، فالله تعالى يقول: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75). فما كل أول فـي المرتبة أول في الترتيب، ولا كل أول في المنزلة أول في التنزيل.
ولذلك قيل: (فكّر عالمياً وتصرّف محلياً). فالمحلية لا تتناقض مع العالمية، وإنما تُسندها وتساندها. بل إن نجاحك عالمياً لا يمكن تحقيقه قبل نجاحك محلياً. والقطر الضعيف المجزأ لا يمكن له العمل على توحيد الأمة – خارج نطاق الفكر والحلم – قبل لملمة أجزائه وإعادة تكوين ذاته واستعادة قوته. وفي مثل هذه الحالة يكون التوفيق بين الهويتين باتباع قاعدة: (فكر عربياً وتصرف قطرياً) هو الحل.
فكّر عراقياً وتصرّف سنياً
كذلك الحال بالنسبة لنا نحن (السنة العرب): علينا أن نتصرف سنياً أولاً إن كنا جادين في التفكير عراقياً. بذلك نجمع بين الأمرين. وهكذا نتجنب ما يبدو لأصحاب الثقافة القديمة من تناقض بين (السنية) و(العراقية). بل لا تناقض من الأساس كما أنه لا تناقض بين العراقية والعربية، ولا العربية والإسلامية، ولا هذه مع الإنسانية. بل لا يمكننا أن نشارك في تدعيم وحدة العراق المهددة قبل أن نلتفت إلى داخلنا السني نلملمه ونكونه ونقويه.
هذا مع ملاحظة أن الشيعة لا يمكن التعايش معهم حتى وإن كانت القوة بأيدينا؛ فإن دوام الحال من المحال، فلا بد من عزلهم فدرالياً على الأقل. هذا في الوقت الحاضر. ثم لكل حال ما يناسبه.
بين السنية والوطنية
جمعتنا ليلة رمضانية مع بعض القوميين، وكان اعتراضهم أن السنية تحجيم للعراقية، كيف نهتم بشأن السنة ونترك العراق كله؟ قلت لهم: منذ زمن طويل ونحن لا نسمع منكم غير كلمة “العراق العراق”! فأين الأمة العربية من اهتمامكم؟ فلنا أن نقول لكم بالمنطق نفسه: إن العراقية تحجيم للعربية، كيف نهتم بشأن العراق ونترك العرب كلهم؟ فأجاب أحدهم: ألا ترى حال العراق من التمزق والضياع؛ لا بد من علاج وضع العراق أولاً ثم نلتفت إلى الأمة. فأجبته: وكذلك الأمر مع أهل السنة؛ لا يمكن لنا أن نعالج وضع العراق أو نكون مشاركين فاعلين فيه ما لم نصحح وضعنا نحن السنة أولاً، ثم من بعد ذلك نلتفت إلى العراق.
لقد ضيع الإسلاميون العرب، وضيع القوميون العراق! أتدرون لماذا؟ لأنهم يعملون ضد منطق الاجتماع، فينطلقون من العالمية إلى المحلية، بينما المنطق يقتضي العكس من ذلك. عملياً لا يكون الانطلاق مجدياً ما لم يكن من المحلية إلى العالمية. ثبّت قدمك أولاً ثم انقل خطوتك.
وهكذا ضيع الطرفان المحلية والعالمية. فالإسلاميون لا يهمهم شأن العرب بقدر ما يهمهم شأن المسلمين، فضيعوا العرب والمسلمين معاً. وأما القوميون فلا يهمهم شأن العراقيين بقدر العرب فشغلوا أنفسهم وغيرهم بقضايا لم يأن أوانها بعد فضيعوا العراق والعرب معاً. ويأتي الوطنيون اليوم ليضيعوا السنة باسم الوطن! هذه مهزلة ما عادت مقبولة، ولن نتسامح معها قط. إنهم يقعون في المأزق نفسه: لا يهمهم شأن السنة بقدر العراق، فتكون الوطنية على حساب السنية، والنتيجة تضييع الجهتين. يكفينا تجربة القوميين والإسلاميين أيها الوطنيون! يكفينا مئة عام من الضياع.
وكان معي صاحب لي فأضاف: إذا كنتم كعلمانيين لا يهمكم أمر الدين وتعتبرون السنية طائفية، فهذا شأنكم. أما نحن فناس إسلاميون سنة فلا نسمح بالاستهانة بديننا وسنيتنا تحت أي حجة أو ذريعة.
حين تكون الهوية الخاصة مهددة من الهوية العامة
هناك عامل آخر في غاية الأهمية، هو أن الشعور بالهوية الخاصة والتحدث باسمها والتصرف على أساسها، يصبح ضرورة كضرورة الحياة حين تكون الهوية الأكبر نافية ومهدِّدة للهوية الأصغر.
فلو افترضنا أن عائلة ما اجتمعت على ظلم أحد أفرادها، وكانت تتوزع خيراتها -التي تحصل عليها باسم العائلة -فيما بينها دونه، ففي هذه الحالة يصبح من حق ذلك الفرد أن يعلن عن نفسه ويتكــلم باسمه، ويطالب الآخرين أن يفرزوا له باسمه الخاص حصته من الخيرات التي ما عاد يحصل عليها باسم العائلة العام. وكذلك لو اجتمعت عشيرة على ظلم بيت منها. والشيء نفسه مطلوب لو اجتمع مكون أكبر على ظلم عشيرة ومطاردتها ومحاولة محوها.. عند ذاك يصبح ترك الدفاع عن المكون الأصغر بحجة احترام المكون الأكبر نوعاً من الهبل والخبل والسذاجة التي لا يستحق صاحبها الاحترام، بل لا يستحق الحياة! ولو افترضنا أن العشيرة الظالمة لتلك العائلة وقع عليها ظلم وتعرضت لغزو أصابها بالضرر وطالبت بتعويض لها باسم العشيرة، وزعته على بيوتها دون ذلك البيت، وأن أفراد ذلك البيت طالبوا بتعويض العشيرة الظالمة لهم دون المطالبة بما لبيتهم من حصة باسمه، ثم لم يحصلوا على شيء، ومع ذلك ظلوا ملتزمين بالاسم الأكبر مع استمرار الظلم والسحق: فإن هؤلاء ليسوا أكثر من قطيع حمقى لا محل لهم إلا في الهامش السفلي من الحياة.
الهوية السنية .. أسباب الفقدان
الهوية السنية .. أسباب الفقدان
فقدان الهوية السنية
بالرغم من تعرض أهل السنة إلى الظلم والإقصاء الطائفي المعلن على يد الشيعة في البلدان التي يكثرون فيها كالعراق ولبنان، أو يسيطرون فيها على مقاليد الحكم كسوريا، لكن السنة إلى اليوم يعانون من فقدان (الهوية السنية) وتناسيها إلى حد الخجل من ذكرها، والتنصل من الانتماء إليها، ولم يدركوا سر قوتها وارتباط وجودهم بالإعلان عنها. السنة فقط هم الساكتون دون سواهم؛ فلا حرج اجتماعياً في أن يقول الشيعي: أنا شيعي، ويعتز بشيعيته، والكردي: أنا كردي، ويعتز بكرديته، والمسيحي والفيلي، وحتى اليزيدي. كما أن الانتماء إلى الهوية العشائرية أو العائلية لا يجد صاحبه تناشزاً فيه مع الهوية القطرية، ولا غضاضة لو جمع بين الهويتين السابقتين مع الهوية القومية، وفي الوقت نفسه ينتمي إلى الهوية الإسلامية، ولا يرى تناقضاً بين هذه الهويات مجتمعة، حتى إذا وصل الأمر إلى (السنة) بدأ مؤشر الخطر بالظهور!
العلة ثقافية لا موضوعية
في مئة السنة الماضية شاعت (الثقافة الوطنية) في أوساطنا، بحيث أصبحت نداً للهوية المذهبية التي أمست توصم بالطائفية. ومن أسباب ذلك أن حكام العراق – ومعظمهم سنة – وجدوا أنفسهم متورطين في معادلة اجتماعية صعبة الحل، وحكم دولة منقسمة على نفسها بين مكونات رئيسة ثلاثة (السنة والشيعة والكرد) انقساماً مزمناً لم يجدوا إزاءه علاجاً ناجعاً. وإذ عجزوا عن وضع حل سياسي متطور، لجأوا إلى حيلة ساذَجة هي الدعوى بأن العراق شعب واحد، وأن هذا (الشعب) أعظم من أن يفرقه دين أو مذهب أو عرق، وأكبر من أن يفكر في مثل هذه الأمور (الصغيرة). فلجأوا إلى المسكنات الظاهرية، ورفعوا شعار الوطن والمواطنة والوطنية، ولعلهم توهموا أن في تلك الشعارات يكمن الحل!
لقد عالجوا الموقف بعبور اللغم لا بتفكيكه وإزالته، فانفجر علينا سنة 2003! ولم يكن ذلك عن جهل منهم بطبيعة تكوين البلد فالملك فيصل الأول – مثلاً – يقول في مذكراته: (أقولها وقلبي ملآن أسى، إنه في اعتقادي لا يوجد شعب في العراق، إنما هناك تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية، مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمعهم جامعة، ميالون للفوضى، سماعون للسوء).
النتيجة أن العرب السنة هم الوحيدون الذين بلعوا الطعم، وتبنوا (الوطنية) بصدق: حكومة وشعباً؛ بسبب من شخصيتهم (الأبوية) التي
يتمتعون بها من الأصل، والتي تميل إلى الجمع وتنفر من التفرق؛ فهم ورثة حضارة وسليلو ملك ولديهم إرث تراكمي في القيادة والحكم يقدر بآلاف السنين. وقد حكموا دولاً وإمبراطوريات يشيع فيها التعدد العرقي والديني، تعاملوا معه بروح حضارية جاء الإسلام فرسخها وعززها بمثل قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
كيف حافظ الشيعة والكرد على هوياتهم الخاصة دون السنة
أما الشيعة والكرد فلم يتأثروا بتلك الشعارات؛ والسبب قوة الانتماء الطائفي لدى الشيعة بحيث أن البراء من السنة يشكل عندهم عقيدة لا يمكن التخلي عنها إلا في حالة واحدة هي الكفر. يسند هذا العامل العقائدي عامل نفسي متجذر لا يمكن قلعه بحال؛ فالشيعي يعاني من (المظلومية) تجاه السنة إلى حد (العقدة). هذا بالإضافة إلى عُقد أخرى متعددة وخطيرة كالثأر والانتقام والحقد والعدوانية.
فإذا أضفت إليها الولاء لإيران، ثم تقديس الشيعي للمرجع الذي يشحنه بالمعاني السابقة وتبعيته له، اكتملت سواتر الدفاع ضد الثقافة الوطنية، وتحولت إلى مجرد ادعاء يستعمله عند الحاجة ثم ينزعه، تساعده على هذه الازدواجية عقيدة (التقية).
وأما الكرد فقد كان التطلع إلى كيان قومي وتأسيس دولة كردية هو الهوية الطاغية على شعورهم، الجامعة لهم المانعة من الانسياق وراء الدعوات الوطنية؛ لأنهم أدركوا التناقض بين الهويتين. هكذا عمل الشيعة والكرد كلٌّ لخدمة كيانه في ظل هويته الخاصة.
وحتى يتجنب الحكام والسياسيون إثارة الطائفتين فقد حصلت مداراة نسبية، وغض طرف عن التكلم بالخصوصيات الذاتية لكل منهما. وهكذا صارت (الهوية الوطنية) تقبل كل هوية.. الشيعية والكردية والتركمانية والمسيحية واليزيدية… إلا (الهوية السنية)، فقد أمست هذه الهوية مثار تشنج عند الحكومة وعند المكونات الأخرى؛ لأنها تشعر بخطورتها عليها. وتحول ذلك بمرور الزمن إلى ثقافة اجتماعية. فلا أحد يعجب أو يشير إلى تناقض الثقافة (الوطنية) وضعف منطقها فـي تعاملها مع التشكيلة التالية من الهويات: (زيباري، سني، عراقي، كردي، مسلم)، أو (دليمي، سني، عراقي، عربي، مسلم). انتبه! ثمت هوية واحدة (ناشزة متناشزة) بين هذه الهويات!
لقد أمست الثقافة الوطنية تقبل هذه الهويات جميعاً إلا واحدة هي (السنية)! من العيب أن تذكرها. عليك أن تخجل عندما تقول: (أنا سني) في مجتمع عام كدائرة رسمية، أو اجتماع حزبي، أو إذاعة، أو تلفزيون، أو صحيفة، أو حتى على منبر مسجد فـي خطبة جمعة! بل ربما لا تسلم من تهمة (الطائفيــة) صعوداً إلى (الوهابية). قل: (أنا دليمي، عراقي، عربي، مسلم) لا شيء في ذلك. أما (سني) فلا!
لا أحد يجرؤ على أن يقول: ما المشكلة في أن يجمع المرء بين هذه الهويات؛ بشرط تلاؤمها في منظومة تأخذ فيها كل قيمة من هذه القيم استحقاقها بحيث لا يطغى بعضها على بعض في سلم الاستحقاق التراتبي الذي يرعى التوازن نظرياً وعملياً؟!
العلة إذن في الثقافة، وليست فـي الهوية.
سيرورة الأمور بين الدعوى الوطنية والانتماءات الطائفية
حقيقة العراق أنه بلد يتألف من عدة مكونات عرقية ودينية (لا تجمعهم جامعة)، يأتي على رأسها المكونات الثلاثة الرئيسة: السنة والشيعة والكرد.
طيلة العقود الثمانية (1921-2003) التي استغرقها عمر (الدولة الحديثة) كان الشيعة والكرد – دون السنة – كل منهما يعلن بهويته، ويسوق لمظلوميته، ويطالب بحقوقه، فكانت له (قضية) وصلت حد (التدويل) الذي تمكن به من لفت أنظار العالم الخارجي، وجلب معونته بشتى صورها، وآخرها الاحتلال. وبما أن المكون الثالث (السنة) ساكت يأنف من تسمية نفسه بالاسم المُناظر، ورأس الحكم (الملك أو الرئيس) من هذا المكون دون المكونين الآخرين، فقد تشكل انطباع عام بأن السنة هم الجانب الظالم في المعادلة الثلاثية. هذا لا يعني أنني أنفي حصول ظلم من الحكومات المتعاقبة. لكن هناك فرق بين أن يكون الظلم (طائفياً) يسلطه (السنة) كسنة على الشيعة كشيعة، والكرد ككرد، وبين أن يكون الظلم (سياسياً) تمارسه الدولة لأسباب سياسية: الشيعة يريدون إزاحة الحاكم والاستيلاء على الحكم لأسباب طائفية دينية، والكرد يريدون الانفصال وتكوين دولة قومية تجمع الأكراد في المنطقة لأسباب قومية عرقية. وليس من المستغرب -فـي وسط هذا الصراع -أن تظهر بروزات طائفية (دينية أو قومية) هنا أو هناك، لكنها ناشزة عن الخط العام الذي هو سياسي بامتياز؛ والدليل أن السنة العرب نالهم من الظلم الكثير، وربما بصورة أشد من المكونين الآخرين. فالظلم بأنواعه لم تكن الحكومة تمتنع من توجيهه إلى السنة متى ما اقتربوا من كرسي الحكم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الدولة لم تكن دينية سنية، وإنما كانت علمانية وطنية حقاً.
وكان الحزب الأكبر للسنة وهو (الإخوان المسلمون) ممنوعاً قانوناً في دولة (البعث)، مضيقاً على أتباعه، لا يجرؤ أحدهم أن يفصح عن انتمائه؛ فتلك جريمة قد تصل بصاحبها إلى الإعدام! وكان السلفيون، و(الوهابية) – حسب التعبير الأمني والمجتمعي – مضيقاً عليهم، مرصودة حركاتهم، يحاسَبون على حركة الإصبع في الصلاة! فضلاً عن الهدي الظاهر من إطالة اللحية وتقصير الثوب.
مجمل القول أن (السنة) نظر إليهم المكونان الآخران نظرة طائفية كل من زاويته الخاصة: فبدل أن ينظر الشيعة إلى السنة كعرب، وينظر الكرد إليهم كسنة -كما يدّعي التسطيحيون الحالمون -كان الأمر معكوساً تماماً؛ فهم في نظر الشيعة (سنة)، وفي نظر الكرد (عرب). وظهروا في نظر العالم بمظهر الظالم المتسلط. وهكذا وعلى أساس هويتهم (السنية) جرى تهميشهم وإقصاؤهم بعد الاحتلال، وصار الشيعة والكرد حلفاً واحداً في مقابل السنة، الذين ظلوا يصرخون: نحن عراقيون: لا فرق بين شيعي وسني، وكردي وعربي. ويتقربون للكردي أكثر فيقولون له: نحن جميعاً سنة. لكن دون أن يصغي إليهم أحد، سوى تعاطف طبيعي مبهم من عوام الشعب الكردي وعمومه، لم يتجاوز العاطفة إلى الفعل المؤثر. ولا ألقي باللوم على غيرنا، فحتى تريد لا بد أن تكون، وحتى تكون لا بد أن تتكون. ولا كيان بلا هوية. والهوية ضائعة!
هكذا لم يلتزم بالهوية الوطنية أو العقد الوطني ويبتعد عن المسميات الخاصة سوى السنة، الذين ابتعدوا عن هويتهم فخسروا ذاتهم ووطنهم، وكما قال ناعق الشيعة يوماً: “لكم الوطنية ولنا الوطن”! وهي مقولة تلخص حقيقة المأساة، وتضع الأصبع على موضع الداء.
الهوية السنية بين عرب المشرق وعرب المغرب
للجغرافيا والموقع المكاني أثر كبير فـي تكوين سياسة المجتمع وفكره وثقافته وتشكيل هويته والتعبير عن دينه.
يعاني المشرق العربي (الأحواز ودول الخليج العربي واليمن والعراق والشام، باستثناء فلسطين) من تحدٍّ خطير يميزه عن المغرب العربي بحكم موقعه الجغرافي، هو التحدي الإيراني الشيعي (التحدي الشرقي).
ينظر المغرب العربي (ثقافياً نعتبر مصر داخلة ضمن هذه المنظومة المغربية) إلى التحدي الشرقي بتثاؤب؛ عاداً إياه أخاً مسلماً وصديقاً ودوداً. وفي أشد الحالات خطراً مبالغاً فيه. وما يثيره بعض المشرقيين من شكوى تجاهه فسببه (التطرف المذهبي)، وهو وراء التصرف (الطائفي) ضد (إخوانهم) الشيعة. أو بسبب العنصرية (القومية) عند القوميين العرب ضد (إخوانهم الفرس المسلمين).
هكذا اختل الميزان بحيث تجاوز الأمر المساواة بين الجلاد والضحية إلى انقلاب الضحية جلاداً والجلاد ضحية!
ضعف الشعور بـ( الهوية السنية ) عند عرب المشرق
المفارقة الكبرى في هذا التمايز هي ضعف الإحساس بالخطر الشرقي لدى عرب المشرق أنفسهم ضعفاً يصل بالأغلبية منهم إلى درجة الانعدام التام. ولولا العقيدة السلفية، عند طائفة من المتدينين التي هي بالضد
من العقيدة الشيعية، ولولا (القومية) العربية عند طائفة من السياسيين، التي هي بالضد من (الشعوبية) الفارسية لما بقي أحد يستشعــر الخطــر الشرقي ! لكن فريق المتدينين ينظــر إلى الخطــر مـن
زاويته العقائدية أكثر من جوانبه الاجتماعية والسياسية. وفريق القوميين ينظر إليه من زاويته السياسية أكثر من جوانبه العقائدية والدينية والاجتماعية. متخلين عن الموقف الصحيح.. وهو المزج بين الأمرين. وهو ما صارت السلفية تحث الخطى نحوه، والقومية تتجه إليه ولكن ببطء.
إن المغرب العربي كان تحديه على مر التاريخ غربياً خارجياً، فضمر لديه الشعور بالخطر الإيراني الشرقي ورديفه الشيعي، وتبعاً لذلك ضعفت الحاجة عنده إلى (الهوية السنية) الداخلية. وجاء الاحتلال اليهودي فزاد الضعف ضعفاً إلى درجة تقرب من العدم. فهو يرفع الهوية الإسلامية دون شعور بالحاجة إلى ما هو دونها من الهوية السنية. وهذا انعكس بدوره سلباً على المشرق العربي ففقد -أو كاد -(هويته العربية السنية) أمام التحديات الفارسية الشيعية.
أسباب ساعدت على تغييب ( الهوية السنية )
مما ساعد على تغييب حاجة عرب المشرق لهذه الهوية أمور منها:
- سعة انتشار الثقافة العربية المغربية بسبب قوة إعلامها، وكثرة دعاتها.
- الاستعمار الغربي الذي اجتاح المنطقة العربية بمشرقها ومغربها، فأزاح الأنظار عن دائرة التركيز على الخطر الشرقي.
- احتلال اليهود لفلسطين، وتدنيسهم لبيت المقدس، وما لهذا البيت من قدسية في نفوس العرب والمسلمين. فكان ذلك سبباً لطغيان القضية الفلسطينية على القضية السنية. وتمت المصيبة بتظاهر إيران بالدفاع عن فلسطين، ولاقى ذلك هوى عند كثير من الفلسطينيين، فصاروا يلمعون صورة إيران وشيعتها في أنظار الآخرين.
- الحكم العلماني الذي يتطير من ذكر دين الإسلام والمذاهب والطوائف. وتنفث أبواقه فكرة اللافرق بين الشيعة والسنة، جاعلة من الفكرة و(الهوية الوطنية) البديل لذلك. وحتى القوميون الذين يعادون إيران إنما ينظرون إليها من زاوية (القومية) لا من زاوية الدين و(السنية). فأقروا التشيع ودافعوا عن الشيعة.
- شيوع فكرة (المذهبية) تعبيراً عن الفرق بين السنة والشيعة إن احتاجوا إليه، معتبرين التتشيع مذهباً إسلامياً معتبراً كباقي المذاهب الإسلامية، وليس ديناً آخر.
إن هذا جعل المجتمع يتقبل الشيعة كجزء من النسيج الاجتماعي، ويبتعد عن تبني الهوية السنية كأداة تعبير أمام الهوية الشيعية، عاداً ذلك نوعاً من الفتنة والفرقة والطائفية المرفوضة بحكم الشرع أولاً وقبل أي اعتبار آخر، وعلى لسان (رجال الدين). حتى قال لي أحد العلماء المقدمين فـي (هيئة علماء المسلمين): ليس من الإسلام القول بالفرق بين السنة والشيعة!
لكن ما حصل بعد احتلال العراق وتداعياته من تغول الشيعة وتمددهم في دول المشرق وتجاوزهم في حماقاتهم إلى بعض دول المغرب لفت الأنظار إلى خطر الشيعة وإيران. وهذا يوفر لنا مُناخاً مناسباً للتبشير بـ(الهوية السنية)، وإبرازها وترسيخها في أوساط عرب المشرق وتذكير عرب المغرب بها. وأنها هي (الهوية) المعبرة عنا في مواجهة أخطر التحديات؛ فالخطر الذي يجتاحنا اليوم خطر داخلي متمثلاً بـ(الخطر الشرقي): الشيعة وإيران، أكثر مما هو خطر خارجي غربي متمثلاً بالغرب واليهود. وليس بالإمكان تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائلي قبل تحرير العراق والمشرق العربي من الاحتلال الشيعي والإيراني.
الهوية السنية .. دواعي الوجدان وضرورات الإعلان
الهوية السنية .. دواعي الوجدان وضرورات الإعلان
عمل الشيعة منذ تأسيس الدولة الوطنية في العراق سنة 1921 على خدمة كيانهم كشيعة – وإن سايروا التيار أحياناً بشعارات وطنية لا يؤمنون بها – وبرز هذا التوجه بوضوح بعد الاحتلال الأمريكي. كذلك عمل الكرد على خدمة كيانهم ككرد وتقويته والمطالبة بحقوقهم على هذا الأساس بلا مواربة. وذلك على العكس من موقف السنة العرب إزاء هويتهم السنية؛ فحفاظاً على (الوحدة الوطنية) التي لا أساس لها يمكن أن تقوم عليه في العراق، تجنبوا ذكرها في العلن، ونهروا من فعل ذلك. وبمرور الزمن، ولوجود الأرضية الجمعية الخصبة التي تقويها الثقافة الأبوية المتوارثة لديهم، وعدم وجود مانع عقائدي (كالشيعة) أو معارض قومي (كالكرد) صاروا يترددون من ذكرها، ويخجلون من الانتساب إليها، وساروا على النهج الوطني: شعاراً وتطبيقاً، قبل الاحتلال وبعده.. حتى تحولت (الوطنية) – في الذاكرة الجمعية – إلى دين بديل عن الإسلام، وصارت الهوية (العراقية) ناسخة للهوية (السنية).
تلك هي المقدمة بكل اختصار.. فماذا كانت النتيجة؟
- قويَ الشيعة حتى سيطروا على مقاليد البلد.
- قويَ الكرد حتى صارت لهم حكومة وبرلمان وجيش.
- ضعُفَ أهل السنة حتى لم يعد لهم اليوم من كيان يؤويهم، أو جهة تمثلهم، ولا حتى شخص ينطق باسمهم!
والسؤال الأهم: ” لماذا ؟ ” والجواب يكمن في المقدمة.
من ضرورات الإعلان بالهوية السنية
لو جرى الالتزام بالعقد الوطني من جميع المكونات العراقية، فلم يعلن الشيعي بشيعيته والكردي بكرديته ويعملا على هذا الأساس، لكان بالإمكان أن يؤتي العقد الوطني ثماره بصورة عادلة. ولكن الالتزام كان من طرف واحد فاختلت المعادلة. فأصبح الإعلان بـ(الهوية السنية) في بلد مثل العراق ضرورة، ليس من الناحية الدينية فقط، بل السياسية أيضاً.
لقد كوّن الشيعة دولتهم، والكرد إقليمهم. وبقي السنة بلا دولة ولا إقليم، بل ولا مكان تحت الشمس يمَكّنهم من العيش بكرامة وحرية وأمان! والأهم من ذلك هو أن (سنة العراق)، لا سيما العرب منهم، استهدفهم الشيعة بالظلم بناءً على هويتهم السنية؛ إذ يكفي حتى تحرم
من حققك أن تكون سنياً. ويصل هذا الظلم إلى حد الحرمان من حق الحياة! إضافة إلى حق الكسب، وحق الحرية، وحق الكرامة.
إن هذا الحرمان يمارسه الشيعي كإجراء عادل عليه أن يؤديه خدمة للإنسانية التي لا يستحقها الآخر، بعد أن تمت عملية شيطنة السني و”تشييئه”([1]) في الذاكرة الجمعية الشيعية منذ أمد بعيد. وتزداد الصورة بشاعة حين تعلم أن حرمان السني من حقوقه، وعلى رأسها حق الحياة، يمارسه الشيعة طبقاً لعقيدتهم؛ فليس الأمر واقعاً لسبب عارض كما يتظالم البشر فيما بينهم، إنما ظلم السنة أمر مقصود أخلاقياً ودينياً، ويجري تنفيذه منهجياً.
كل هذه الأمور مجتمعة تستدعي من السنة في العراق وما شابهه من أقطار أن يلجأوا إلى هويتهم السنية فيعلنوا بالانتماء إليها، ويبرزوها ويعتزوا بها.
مكاسب ( الهوية السنية )
إن رفع لافتة (الهوية السنية) يحقق للسنة مكسبين عظيمين في طريق رفع الظلم عنهم واستحصال حقوقهم:
الأول: تأسيس (قضية) لهم فـي الداخل، تجعلهم يلتئمون عليها فيما بينهم، ويتجمعون في كيان واحد يمكنهم به أن يدفعوا الحيف عن أنفسهم، ويستحصلوا حقوقهم، ويبنوا مناطقهم، ويعمروا إقليمهم، أو دولتهم. وليعتبروا بإقليم كردستان وما فيه من أمان وتطور وعمران، وتمتعه بقوة قادرة على ردع الحكومة المركزية الشيعية من ظلمهم وهضم حقوقهم. من دون هذه الخطوة يستحيل عليهم استعادة العراق من يد الشيعة وتخليصه من التبعية لإيران.
والثاني: (تدويل القضية) في الخارج. وهذا الأمر مهم لاستكمال تحقيق المكسب الأول. فلو خرج السنة بقضيتهم إلى المنابر الدولية، وصرخوا في آذان المنظمات الحقوقية والمحاكم الدولية، وأسمعوهم صوتهم، وقدموا وثائق الإدانة للحكومة الشيعية بتوابعها من أحزاب ومليشيات ورجال دين أوغلوا في الدم السني، وبصورة منهجية وصلت إلى حد الإبادة الجماعية المنظمة، وبينوا أن ذلك كله يجري طائفياً، وأن طائفة كبيرة في العراق هي (السنة) يتم إبادتها على يد طائفة أخرى تمسك بزمام القوة هي (الشيعة).. لو فعلوا هذا لسمع العالم صوتهم، واستجابت المنظمات الحقوقية، والمحاكم الدولية، بنسبة أو باُخرى، لقضيتهم.
ولاستثار ذلك أبناء العرب (وهم سنة) في الأقطار العربية حولهم، وكسبوا عطف الكرد (وهم سنة) وموقفهم، وحوصر الشيعة من كل جانب في جحرهم. وبهذا نكون قد انتزعنا العراق العظيم من أيدي الشيعة، فضلاً عن التمكين لنا في مناطقنا. وهذا ربح زائد على الربح أو المكسب الأول، لا يتناقض معه بل يقويه. ولا يتوقف عليه جهدنا وجهادنا ونضالنا إن لم يحصل كما ينبغي؛ فهو للاعتضاد لا للاعتماد.
وأعظم من ذينك المكسبين حيازة رضا الرب؛ فالله تعالى لا يعين قوماً لا يرفعون لدينه راية. فرفع الراية السنية تستجلب رضا الرب جل جلاله، وتدفع غضبه الذي حل بنا منذ أن كذبنا عليه وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى دينه وعلى خلقه بقولنا: “لا فرق بين السنة والشيعة”، بينما الفرق بينهما كما بين الثرى والثريا. وتجاوز هذا الكذب الفاضح طاولة السياسة، لينزو على منبر الدين!
لقد فقد سنة العراق هويتهم في زمن تغول الهويات، ففقدوا كيانهم، وأضاعوا حقوقهم. و(نسوا الله فنسيهم) ووكلهم إلى أنفسهم. فإن راجعوا أنفسهم ورجعوا إلى دينهم وهويتهم، وقرأوا جيداً مفردات واقعهم، عاد إليهم عزهم، واستعادوا عراقهم، والله معهم ولن يترهم أعمالكم. وإلا فلن ينتظرهم سوى التشرذم والزوال وبؤس الحال وسوء المآل.
[1]– التشيـيء (Chosification) هو اختزال وجود كائن إنساني إلى مرتبة الشيء. يتعلق هذا المصطلح بعمليات التبخيس التي تصيب قيمة الإنسان كآخر شبيه بنا ومعادل لنا في علاقة تكافؤ، فيحل محل الاعتراف بإنسانيته انهيار لقيمته في نظرنا. حتى تفقد هذه الإنسانية قدسيتها وما تستوجبه من احترام، وما تتطلبه من التزام تجاهها. يتحول الآخر في هذه الحالة إلى مجرد شيء، أو أداة، أو رمز، أو أسطورة، ويفقد خصوصيته كإنسان واستقلاليته كلياً ويدمج في مخططات مضطهده. ويتحول إلى شيء، إلى رمز مجرد للشر يجب إبادته.
الهوية بين الإسلامية والسنية
الهوية بيـن الإسلامية والسنية
يخلط الكثيرون فـي باب الهوية بين ثلاثة أشياء: الإسلام، والإسلامية، والسنية. وهذا ناتج عن عدم المعرفة بفقه الهوية؛ ولا عجب فهو فقه جديد كل الجدة، ومجهول كل المجهولية من قبل (فقهاء الفروع).
ما هي الهوية؟
الهوية هي ما ميّزك عن غيرك، وعبّر عن خصوصيتك عند الحاجة إلى التميز.
ومن شرطها علينا كمسلمين أن لا تتناقض مع الدين. لكن ليس من شرط الهوية أن تكون دينية. فقد تكون الهوية بحسب المهنة: فهذا فلاح، وهذا معلم، وذاك جندي، وآخر تاجر. وقد تكون بحسب العشيرة: فهذا جبوري، وهذا دليمي، وذاك مشهداني، وآخر تميمي. وقد تكون قطرية: فتنقسم ما بين عراقي وسوري وكويتي ومغربي. وقد تكون نسبة إلى القومية: فهذا عربي وهذا كردي وثالث ألماني ورابع هندي.. وهكذا.
رغم أن هذه الهويات جميعاً ليست دينية، لكنها سائغة شرعاً ما دام أنها لا تتعارض مع الدين. وقد تكون الهوية دينية عندما يكون التقابل بين أصحاب الديانات المختلفة: فهذا مسلم، وذاك نصراني، وهذا بوذي وذلك يهودي.
حاجة الهوية إلى التناظر
انظر إلى العبارات التالية: حسين معلم وشمعون يهودي، أو سلمان جبوري وجلبرت ألماني، تجد هناك تناشزاً غير مستساغ؛ فما الرابط بين كون أحدهم معلماً والآخر يهودياً، وما العلاقة بين كون فلان جبورياً وفلان ألمانياً. لكن لو قيل: حسين معلم وشمعون عتال، وسلمان عربي وجلبرت ألماني، تكون العبارات متناسقة. والسبب أن الهويات إنما تطلق متناظرة: فهي إما مهنية أو قومية أو عشائرية… وهكذا.
وهنا نصل إلى مكمن الخلل في قول البعض: لماذا نقول “سني” ولا نقول “مسلم”؛ أليس الإسلام أعظم وأشرف من كل هوية؟ ونقول: بلى، ولكن الهوية ليست هي الديانة شرطاً، والإسلام – في عرف المجتمع الداخلي والخارجي – يضم الشيعة إلى جانب السنة، فالهوية الإسلامية لا تمنح السني التميز المطلوب عن الشيعي. ونحن في هذه المرحلة في أمس الحاجة إلى تميز الشيعة عن السنة. والتشيع – في العرف المحلي والعالمي – يعتبر مذهباً من مذاهب الإسلام. نعم هو – في حقيقته – دين آخر غير الإسلام، ولكن هذه الحقيقة لم تأخذ مداها وحجمها لتصبح حقيقة مسلمة متعارفاً عليها، بحيث إذا أطلقت فهمها الجميع على أنها دين قائم بذاته غير دين الإسلام. وإلى ذلك الحين نحتاج إلى تمييزه والتميز عنه باسم فارق لا جامع، وليس غير اسم (السنة) يحقق هذا التميز، فتكون (السنية) هي (الهوية) المميزة في زمن ما زال الإسلام هو الهوية الجامعة. وما نحتاجه اليوم هو الهوية المميزة الفارقة لا الهوية الخالطة الجامعة.
وبهذا تدرك الخلل في قول بعضهم: لماذا لا نقول نحن (إسلاميون) ونكتفي بـ(الإسلامية) بدلاً عن (السنية)؟ فـ(الإسلامية) هي الهوية المميزة عن (العلمانية)، ولا تمنح التميز المطلوب عن الشيعة والهوية (الشيعية)، الأمر الذي لا يحققه غير السنة والهوية (السنية). التحدي الذي نحن بصدده شيعي لا علماني، فلا بد أن تكون الهوية نظيرة له، و(الإسلامية) نظيرة (العلمانية) لا (الشيعية)، فنرفعها هوية مميزة عندما نكون بصدد التحدي العلماني. والإسلام دين نظيره الكفر أو الأديان الكفرية، فنرفعه كهوية عندما نكون وجهاً لوجه أمام التحدي المعروف بكفره. وهنا يكون الإسلام ديناً وهوية في وقت واحد.
حاجة الهوية إلى النظير المنافس
أساس منشأ (الهوية) هو وجود نظير منافس بهوية أو اسم يميزه. فالإسلام – في البديئة – كان هو الهوية إضافة إلى كونه هو الدين بطبيعة الحال. ثم لما وجدت الفرق المنافسة التي تدعي الحق وتمثيل الإسلام – وأولها الرافضة والخوارج – احتاج المسلمون إلى هوية تميزهم عــن هــؤلاء لكونهم يصطبغون بالإسلام فيختلــط أمرهــم علــى الناس، ويلتبس الحق بالباطل. وذلك من التميز الذي دعا إليه القرآن فـي عدة مواضع كقوله سبحانه: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال:37)، وقوله: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55)؛ فكانت (السنة والجماعة) هي الهوية المميزة لأهل الحق في مقابل هذه الفرق. وغني عن القول بقاء الإسلام هو الهوية أمام الديانات الخارجية كاليهودية والمسيحية. وهذا يعني أن الهوية النظيرة لها ملحظان: فهي علة منشئة، وهي حاجة مميِّـزة (بكسر الياء).
وعلى هذا الأساس نقول: حتى تتم الفائدة من تبني (الهوية السنية) والتأكيد عليها، يحتاج ذلك شرطاً إلى ذكر (الهوية الشيعية) والتنديد بها. لقد اضطر البعض – على قلة -فـي الأوان الأخير، أو تجرأوا -على خوف -فصاروا ينطقون باسم (السنة)، لكنهم يُعرضون عن ذكر (الشيعة). وهذا نقص في (الهوية) يمنع حصول التأثير المنشود لتبني (الهوية السنية) ما لم تذكر (الهوية) النظيرة المنافسة، ويصرح بأن الشيعة هم خصومنا، وهم أعداؤنا، وهم آكلو حقوقنا وظالمونا، بلا مواربة.
العلاقة بين الهوية والتحدي
وإذا كانت (الهوية) تنشأ من الجذور التي ينبع منها التكوين، فإن التحدي هو الذي يظهرها، أي يظهر أي جذر من الجذور هو المطلوب ظهوره على السطح معبراً عن الكيان المتحدى.
ففي حالة حصول خصومة واحتراب بين قبيلتين تلجأ كل قبيلة إلى اسمها القبيلي الخاص كهوية تعبر بها عن ذاتها تعينها على خوض الصراع ودفع الظلم وتحصيل الحق. بينما تتغير الهوية فتأخذ اسماً أوسع عندما يكون الصراع بين دولتين من القومية نفسها أو الدين نفسه. وتضيق الهوية بضيق المكون.
يلاحظ هنا أن الهوية العامة الجامعة، لا يتم تبنيها في حال وقوع الخصومة الخاصة الفارقة؛ فالقبيلة تلجأ إلى اسمها الخاص بها المميز لها، والدولة كذلك. فلو احترب العراق – مثلاً – مع الكويت، يقال: الحرب بين العراق والكويت. لكن عندما تكون الحرب بين مجموعة من الدول العربية وإسرائيل – مثلاً – يلجأ إلى الاسم العام فيقال: الحرب بين العرب وإسرائيل. ولو افترضنا أن دولاً إسلامية خاضت الحرب إلى جانب العرب، هنا يكون اللجوء إلى اسم عام أوسع هوية تجمع بين الأطراف وتعبر عنهم مجتمعين، هو الإسلام، فيقال: الحرب بين المسلمين واليهود.
إذن كلما اتسعت دائرة التحدي كبر الاسم أو (الهوية) المعبرة، وكلما ضاقت الدائرة صغر الاسم والهوية. وهكذا هو الشأن في الصراعات الداخلية: المذهبية، والطائفية، والقبيلية، والطبقية، وحتى الوظيفية. فيعطى لكل تحد ما يناسبه من هوية. ولا يصح خلط الأمور وقلبها بحيث يكون التعبير عن التحدي الأصغر بالهوية الأكبر، وعن التحدي الأكبر بالهوية الأصغر. وعلى هذا الأســاس لا تكون الهويــة الإسلامية الأكبر معبرة عن الهوية المطلوبة في صراعنا مع الشيعة، وليس غير الهوية السنية يقوم مقامها في هذا الصراع.
إن التحدي الخارجي يواجه بالهوية العامة. والتحدي الداخلي يواجه بالهوية الخاصة. فالتحدي الغربي اليهودي يواجه بالهوية الإسلامية العامة. لكن التحدي الإيراني الشيعي يواجه بالهوية الخاصة وهي (الهوية السنية)؛ لأن الأول خارجي، والثاني داخلي على اختلاف درجات الداخلية، فإيران إلى جانب شيعيتها تحمل الهوية الفارسية العنصرية وتواجه الهويات القومية الأُخرى – كالعربية والكردية والبلوشية والأذرية – بشعوبية حاقدة، فيصبح إبراز (الهوية القومية) ضمن المدى الشرعي جزءاً من معادلة المواجهة.
الخلاصة
نخرج مما سبق بخلاصات مختصرة أهمها:
- الهوية ما ميزك عن غيرك، وعبّر عن خصوصيتك عند الحاجة إلى التميز. وأعظم الحاجة حين تدخل معركة مصير مع من تحتاج إلى التميز عنه. وسوى السنية لا يميزنا عن الشيعة.
- أنا مع الكافر مسلم ومع الفرنسي عربي ومع العربي عراقي ومع العراقي دليمي ومع الدليمي حلبوسي… وهكذا. كما أنني مع الشيعي سني.
- ليس من شرط الهوية أن يقحم الدين فيها ضرورةً.
- يتوهم البعض أن الإسلام أو الإسلامية هي هوية المعركة مع الشيعة. الإسلام دينك وهو هويتك مع الكافر، والإسلامية صفتك وهي هويتك مقابل العلمانية.
- معركتنا اليوم مع الشيعة، فينبغي للمسلم أن يبرز الهوية السنية دون غيرها. الإسلام والإسلامية لا يعبران عن هوية معركتنا مع هذا الصنف من الأعداء. وانظروا كيف تحرص إيران والشيعة على التخفي وراء (الهوية الإسلامية) كما يتخفى السرطان في نسيج الجسم نفسه؛ إن الشيعة يلبسون لباس الإسلام فلا يعزلهم عنا ويعجل في نهايتهم سوى الهوية السنية. وكان من أسباب حصاد الشيعة لجهود المقاومة السنية عدم وضوح هويتها في معركة وجودها. لقد توهمت أن (العراقية) والمسحة الدينية يكفيان لكسب المعركة.
الوطنية والمواطنة عند الشيعي
الوطنية والمواطنة عند الشيعي
الوطنية كالقومية – فـي أصلها – فطرة، وفكرة، وشعور طبيعي.
لكن ما كل ما هو طبيعي في أصله يبقى كذلك بعد انفصاله عن مجال الفكر والشعور الداخلي، واتصاله أو انتقاله إلى الواقع الخارجي. يقول النبي e: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)([1]). الوطنية مجّستها الشيعة ونجستها فاستحالت مع الزمن نجَساً لا يطهر إلا بالحرق.
والأُخوة أقرب رحماً من الوطنية، لكنها -مع من يسيء إليها ولا يرعى حرمتها ولا يرعوي عن التمادي في استغلالها -ضرر محض لا يسوغ عقلاً ولا يصح شرعاً مراعاتها، بل قد يتوجب نبذها والكفر بها حفظاً للنفس والمال والعرض. وكذلك الحال مع الوطنية إذا كانت كذلك.
لقد سار السنة على أساس المعادلة الوطنية تسعين سنة فما جنوا منها غير الأذى في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم. فهل عليهم أن يوروثوها ذراريهم وأجيالهم القادمة؟ لقد آن الأوان لفصمها مع الشيعة كما يفصم عقد شراكة لم يجلب لأحد الشريكين، أو كليهما، غيرَ الخسارة والبلاء. لكن أصحاب الفكر الجامد والفقه الراكد لا يدركون هذا ولا يفقهون ما نقول، في عملية إصرار مقرفة تمتهن العقل، وتلغي الواقع وتخضعه قسراً لحسابات آيدلوجية مسبقة على طريقة (عنزة وإن طارت)!
الوطن والوطنية والمواطنة
في (لسان العرب) لابن منظور: الوَطَنُ: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحَله.. وواطنهُ على الأَمر: أَضمر فعله معه، فإن أَراد معنى وافقه قال: واطأَه. تقول: واطنْتُ فلاناً على هذا الأَمر إذا جعلتما في أَنفسكما أَن تفعلاه، وتَوْطِينُ النفس على الشيء: كالتمهيد. ابن سيده: وَطَّنَ نفسَهُ على الشيء وله فتَوَطَّنَتْ: حملها عليه فتحَمَّلَتْ وذَلَّتْ له. وفي (القاموس المحيط) للفيروزآبادي: واطنه على الأمر: وافقه.إ.هـ.
(المواطنة) إذن مشتقة في الأصل من كلمة (وطن)، ومأخوذة مباشرة من الفعل (واطَنَ)، على وزن (فاعَلَ) – بفتح العين – ويعني المشاركة في الفعل من طرفين. و(المواطن) هو الشخص الذي يشارك غيره النزول في وطن. وهذا يستلزم لتحقيقه أن يكون الموصوف بوصف (المواطن) يضمر ويؤمن في داخله بحق مشاركة الآخر له العيش في الوطن المشترك بينهما. هذا الإيمان هو ركن من أركان الحكم على الشخص بذلك الوصف، من دونه يفقد صلاحيته للتسمي باسم (المواطن)، وتسقط عنه استحقاقاته، ولم يعد من الصواب ولا من الحكمة ولا المصلحة تسميته بذلك. إلا إذا كانت التسميات تطلق جزافاً بلا ضابط يُرجع إليه.
الوطن إذن هو قطعة الأرض المحددة، التي يعيش عليها مجموعة متوافقة من البشر. و(الوطنية) شعور يقوم على الحب والانتماء للوطن وما عليه من بشر وعمران مع الاستعداد للتضحية من أجله. وأما المواطنة فهي علاقة اجتماعية على أساسها يتشارك مجموعة من البشر العيش في وطن معين على مبدأ المساواة أداءً للواجبات وتمتعاً بالحقوق. والشيعة قوم يعيشون في وطن، لكن دون التزام بالمواطنة. وغاية (الوطنية) عندهم حنين غريزي مبهم للمكان المألوف، وهو شعور موجود بين الحيوانات أيضاً، بل إن بعضها يتفوق عليهم في هذا الشعور من ناحية الدفاع عن مكانه الذي يؤويه، وصاحبه الذي يحسن إليه. بينما يشهد تاريخ الشيعة أنهم عون للمحتل على غزو بلادهم التي يشاركهم العيش فيها غيرهم، ويبدأون بأذى من يحسن إليهم.
ولا غرابة فيما أقول؛ فالله تعالى وصف كثيراً من الخلق بأنهم أدنى مستوى من الحيوان فقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179). وقد عبر الشيعة عن موقفهم تجاه الوطن بقولهم عند احتلال العراق:
“لكم الوطنية ولنا الوطن”. فهم يريدون وطناً بحقوق كاملة وواجبات معطلة. وطناً لا حق فيه لأحد سواهم. أي وطناً بلا وطنية ولا مواطنة. وما يتشدقون به من وطنية فليس سوى وسيلة وستار لأكل الآخر. وكلامي هذا هو عصارة تجربة استغرقت عمراً طوله بضعة عقود، وخلاصة معرفة استغرقت تاريخاً طوله أكثر من عشرة قرون.
الآخر في منظور الشيعي
أزمة الشيعي تكمن في أربعة أشياء: (عقيدته، وعقدته، ومرجعيته، وولائه لإيران)، هي عبارة عن عوائق ذاتية مستحيلة الاجتياز، تجعل من الاستحالة أن يكون الشيعي مواطناً صالحاً في وطن يشاركه فيه آخرون من غير دينه ومعتقده:
وإليكم باختصار كيف تقضي هذه الأشياء الأربعة على (الوطنية)، وتلغي مفهوم (المواطنة)، وتسلب صفة (المواطن) من الشيعي، وتجعله مجرد جسم غريب، وعنصر طفيلي يعتاش على الآخرين، ويؤذيهم في الوقت نفسه.
1.العقيدة
أما عقيدة الشيعي فتأتي على رأسها (الإمامة). وهذه العقيدة لا تتوقف عند تكفير المخالف، حتى توجب على معتنقها أمرين متى ما قدر على ذلك:
- وجوب قتله
- واستباحة ماله
- الشيعي إذن لا يؤمن بحق الحياة، ولا حق التملك للآخر.
- وهما أعظم حقين يقوم عليهما السلم الاجتماعي.
- يضاف إلى ذلك استباحة العرض مع وقف التنفيذ نظرياً حتى ظهور خرافة (المهدي). أما عملياً فقد أثبتت أحداث العراق وغيره أن الشيعة لا يترددون عند التمكن عن اغتصاب النساء واستباحة الأعراض. (هذا مع إعراضنا عن مناقشة بقية العقائد وانعكاساتها الخطرة على المواطنة).
2. العقدة
تغذي هذه العقيدة المبتدعة، الملغومة بالتكفير وحرمان الآخر من حق الحياة والتملك، عقد نفسية تزيدها تأججاً، وتجعلها قابلة للانفجار في كل لحظة، وعلى رأسها عقدة (المظلومية) و(الحقد) و(الثأر)، التي تجر خلفها سلسلة من العقد أحصيت منها -فـي كتابي (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية -(20) عقدة.
3.المرجعية
بعد هذا يأتي ارتباط الشيعي بالمرجعية الدينية في كل شؤونه: الديني منها والدنيوي، ومنها السياسة والعسكرية والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وغيرها. فالشيعي فـي كل مجتمع لا يشعر بالارتبــاط بالدولة التي يقطنها: حكومة وشعباً. بقدر ارتباطه بالمرجع الديني، الذي يسمى فـي المصطلح الفقهي عندهم بـ(الحاكم الأعلى)! واتخاذه بديلاً عن الحاكم. كما يتخذ من أبناء طائفته شعباً بديلاً عن الشعب الذي يواطنه ويساكنه. أضف إلى ذلك أن المرجع عادة ما يكون إيرانياً يوالي بطبيعة الحال بلده الأصلي إيران، وهو موظف أساساً من قِبَله لجعل أتباعه في أي بلد موالين لإيران إلى حد التعصب والطائفية المقيتة. ومن لم يكن من المراجع إيرانياً -وهذا نادر -فهو مستعجم. والمستعجم شر من العجمي صليبة.
4.الولاء لإيران
ومع العقدة والعقيدة والمرجع يرتبط الشيعي تلقائياً بإيران. وإيران تعمل على سلخ كل شيعي من الشعور بالانتماء لبلده، بل لا تتوقف حتى تحوله إلى معاد له يعمل على محاربته وتخريبه بشتى الوسائل والسبل. كل ذلك باسم الدين والولاء للمذهب.
الشيعة في كل دولة ( دولة داخل دولة )
إن عقيدة الشيعي وعقدته تجعله متناقضاً مع المجتمع الذي يعيش فيه، ومنسلخاً عن العلاقة الاجتماعية التي تربطه به.
كما أن مرجعية الشيعي تجعله متناقضاً مع الحاكم الذي يحكمه، ومنسلخاً عن طاعته، ومهيأً للخروج عليه عند أقرب فرصة.
هنا يكوِّن الشيعة دوماً في كل دولة (دولةً داخل دولة).
فإذا أضفت إلى هذه الخلطة الخطيرة نزعة الولاء لإيران المتأصلة في نفس كل شيعي تمت البلية، وتبين أن الشيعي ليس أكثر من مشروع فتنة في أي دولة يقطن أو يحل فيها.
هل توضح الآن تماماً، وثبت علمياً أن الشيعي غير مؤهل لاكتساب صفة (المواطن)؟ وأن القاعدة التي تحكم علاقة الشيعي بدولته هي… (وطن الشيعي طائفته لا دولته).
مستوطن ؟ أم متوطن ؟
أجد بعد هذا أن أنسب توصيف قانوني للشيعي ينظم علاقته بالآخر هو وصف (مستوطن)، الذي يطلق على اليهودي في فلسطين وعلاقته بسكانها الأصليين.
وهذا في أحسن الأحوال؛ فالشيعي حين تمكن في العراق عبَّر عن هذه العلاقة مع السنة أسوأ مما عبر عنها اليهودي مع الفلسطينيين. وذلك أن (المستوطن) اليهودي بالمقارنة مع الشيعي يمتلك من عناصر المواطنة
أكثر مما يمتلكه الشيعي في العراق وغيره من البلدان، وإن كانت لا تؤهله لاكتساب وصف (المواطن). ولو دققنا في الأمر أكثر ربما سنجد أن الشيعي يقصر عن وصف (المستوطن) لينزل إلى صفة (المتوطن)، إذا استعنا بالمصطلحات الطبية المتعلقة بالأمراض المعدية، فهناك أمراض (وبائية) تهيج في ظرف معين ثم تنتهي، وهناك أمراض (متوطنة) تهيج فترة، ثم تخبو فترة دون أن تنتهي كلياً.
مما سبق يظهر جلياً أن أسخف شيء وأدله على ضعف العقل البشري حين يتصور أقطاب السياسة أن الديمقراطية هي الآلية التي يمكن بها التعايش مع الشيعة! وأن (التعايش) هو الحل الذي ينظم العلاقة بين الشيعي والآخر في وطن واحد.
دونكم البلدان التي تمكن فيها الشيعة من أن يشكلوا نسبة أغلبية أو أقلية في أي برلمان أو مجلس نيابي! أو سمحت لهم قوانين الدولة أن تكون دوائر الدولة كلها، لاسيما الحساسة منها كالوزارات والأمن والمخابرات والجيش والحدود والاقتصاد، مفتوحة أمامهم كبقية المواطنين.
انظروا إليها.. وتأملوا أي دور يلعبه الشيعة هناك!
وأمامكم العراق مثالاً صارخاً!
انظروا كيف انتشروا فيه كخلايا السرطان في الجسد الفاقد المناعة، وكيف جوفوا الحزب حين انتموا إليه، وأفرغوا جميع الدوائر من محتواها لصالح الشيعة وحدهم بالضد من غيرهم ممن يواطنـهم في البـلد، حتـى انتهى الأمر إلى ما انتهـى إليـه. واليـوم هـم
يتحكمون بمصير السنة فيقصونهم ويستأصلونهم ولا تسمح أنفسهم بإعطاء أي حق لهم من حقوقهم كـ(مواطنين).
إن عملية التجويف هذه تشبه تمام الشبة عملية التجويف الديني الذي يمارسه الشيعة مع مصطلحات ومسميات الشرع: يحافظون على الاسم ويغيرون المسمى. الإمامة مثلاً مصطلح شرعي، لكنه عند الشيعي يأخذ معناه منحى آخر غير مقصود في وضعه الأصلي الذي هو عليه، كذلك الديمقراطية والقانون والتعايش وغيرها من مصطلحات السياسة.
وهذه لبنان وتجربة “أمل” و”حزب الله” شاهد آخر. إنهم يكادون يشلون حركة الحياة في البلد! حتى أطلق عليهم اسم (الثلث المعطل). الشيء نفسه حاصل في اليمن مع شيعة الحوثية، وفي البحرين، والكويت، والسعودية وغيرها. هذا مع إلقاء المسؤولية على الآخر!
[1]– رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الهوية الوطنية وخطرها على سنة العراق والأقطار المختلطة
الهوية الوطنية .. وخطرها على سنة العراق والأقطار المختلطة
في ضوء ما تقدم يتبين أن الهوية الوطنية في مجتمع خليط بين الشيعة وغيرهم ليست سوى مظلة يمارس تحتها الشيعة قضم الآخر وتدميره وإنهاءه. ولهذا كان الدمار مصير كل من عمل على أساس الوطنية في أي بلد فيه شيعة بنسبة مؤثرة. إلا من احتمى بهويته الخاصة فقد سلم ونجا. ولنا عبرة في تجربة الكرد في العراق إذ لم ينج من الشيعة غيرهم؛ لأنهم تبنوا قضية خاصة بهوية خاصة. وفي المقابل كان الخسار والبوار نصيب السنة العرب؛ لأنهم نظروا إلى الوطنية نظرة تجريدية ولم يخضعوها للواقع، فكان مثلهم كمثل من حرص على نثر بذروره الصالحة في أرض سبخة، فكان الندم نصيبه أوان الحصاد. بينما عمل آخرون على اقتطاع مساحة من تلك الأرض وقاموا باستصلاحها وزراعتها فجنوا منها أطيب الثمار.
الفكر الوطني هو السبب في كل ما جناه السنة على أنفسهم في العراق، فلا يصلح أن يكون أساساً لهوية يشتركون فيها مع الشيعة؛ لأن الشيعة يكونون في هذا الوضع كالورم السرطاني الذي لا ينمو إلا على حساب الجسم الذي ينبت فيه.
لا خلاص لسنة العراق إلا بالهوية السنية التي تميزهم عن الشيعة وتفصلهم عنهم وضعهم وجهاً لوجه أمام جرائمهم وما جنته أيديهم، وتوفر للسنة البيئة الصالحة للسلامة والأمن والعيش الكريم.
فشل المشروع الوطني في العراق
إن تجربة ثمانية عقود من الزمن (1921-2003) مضافاً إليها عقد آخر منذ الاحتلال، أثبتت الفشل التام للمشروع الوطني في العراق. وكشفت أنه لم يكن أكثر من أسطورة، مَن صدقها لم يعد منها بغير الخسران والخذلان.
ومن دلائل فشل المشروع الوطني عجزه التام عن الجواب على سؤال هو أهم الأسئلة ذلكم هو: كيف يمكن تحكيم شريعة الإسلام في بلد مختلط فيه نسبة من الشيعة تتجاوز الثلث؟
فنحن – والحالة هذه – بين خيارات ثلاثة كلها عاجزة عن الجواب: فإما أن نخضع لشريعة الشيعة، وهذا لا يحقق المطلوب الشرعي من الأصل، وهو مرفوض من السنة واقعاً. وإما تحكيم شريعة السنة، وهذا مرفوض من قبل الشيعة. وإما أن نلجأ إلى الخيار العلماني، وهذا -إضافة إلى أنه مرفوض شرعاً -قد جرب فزاد الطين بلة، والمرض علة، فكانت العلمانية: ديمقراطية أم استبداديةً في بلد خليط بالسنة والشيعة مثل العراق من أسوأ خيارات الحل!
لقد كانت نتائج الشراكة الوطنية كارثية بالنسبة للوطنيين (السنة العرب): إذ تشيعت نسبة كبيرة من العاصمة بغداد، وغلب التشيع على البصرة، إضافة إلى مناطق أخرى غزيت بالتشيع مثل قضاء تلعفر في الموصل وبلد والدجيل في صلاح الدين. وهذا مؤشر على ضعف المناعة السنية تجاه الشيعة. وهذا قبل الاحتلال. أما بعد احتلال العراق وسيطرة الشيعة على مقاليد البلد فقد ازدادت عملية التشييع ضراوة. ناهيك عن القتل والتهجير والاعتقال وهتك الأعراض وقطع الأرزاق وفقدان الأمان وخراب الديار وضياع المستقبل. ولم يسلم من هذا الشر سوى كردستان، التي احتمت بهويتها القومية الخاصة وتدرعت بإقليمها الخاص.
فأي مصاب أكبر من أن يصاب شعب في دينه ودنياه؟!
وأي مشروع أخطر وأفشل من مشروع هذه نتائجه وآثاره؟!
وأي فكر أتفه وأخيب من فكر كان الأساس لكل هذه الكوارث والشرور؟!
إنه المشروع الوطني الفاشل، والفكر الوطني الخائب.
والسؤال المهم: ما الحل مع الشيعة؟ وكيف نتعامل معهم؟
والجواب: لا حل واقعياً منتجاً لمشكلة الشيعة إلا بعزلهم كلياً في مجتمعات خاصة بهم. وللعزل صور متعددة، يبدو لي منها اليوم صورتان: الإقليم، والانفصال التام. أي لا بد أن يعزل الشيعة عنا، وننعزل عنهم: إما سياسياً بالإقليم، أو جغرافياً بالتقسيم، حتى يأذن الله تعالى بحلول أُخرى في قابل الأيام.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
التجديد والإبداع
التجديد والإبداع
هذه خلاصات تجربة حياة.
لم أقرأها، أو أقتنص نصوصها من كتاب – وإن أضفت إليها قطوفاً من هنا وهناك – إنما رأيتها مسطرة على قراطيس الكون. وتعلمت لغتها في ضجيج الواقع الذي يعج بحركة الحياة حلوة ومرة. فمن رحم المعاناة يولد الفكر.. وفي الميدان ينضج بالتجربة فيتحول إلى معرفة نابضة.
ألقيت بعضها في مسجد الإمام عثمان بن عفان t في ريف اللطيفية خريف 2003. موضوعها التجديد والإبداع ، وعلاقتهما بقضيتنا، وخدمة منهجنا. ومحاولة الاستفادة من هذا الموضوع الكبير من خلال ربطه العضوي بالواقع الذي نعيشه، أسميتها (محطات على طريق التجديد).
إن أحد العلل الكبرى التي أضرت بقضيتنا نحن سنة العراق – العرب منهم على وجه الخصوص – هو الفكر القديم الذي يكرر نفسه دون قدرة على مواكبة التغيرات الحادثة على طول الطريق في مسيرة الحياة بكل مفاصلها، ما جعلنا مشلولين عن الحركة السديدة التي تخدم وجودنا، وتستخلص حقوقنا، وتحفظ كياننا من الذوبان أمام خصوم يريدون ابتلاع كل شيء على حساب وجودنا وحقوقنا وكياننا.
ثمة أجزاء تالفة في حاجة ماسّة إلى اجتثاث، إلى جانبها أجزاء جيدة تتطلب إدامة قبل أن يتسلل إليها التلف بالحث والتسرب والعدوى، وإلى جانب هذا وذاك لا بد من الإضافة وإعادة الخلط والتركيب.
والمجدد هدامٌ بناء: يهدم، لا لأجل الهدم؛ فذلك هو التخريب والفساد، وإنما لأجل البناء القائم بلبناته الصالحة، السالم من العناصر الفاسدة.
لا بد إذن من أن نمسك بفأس أبينا إبراهيم u، ونرفعها لنهوي بها على أصنام ذلك الفكر العقيم، كي نقيم محلها بناء قويماً من الفكر السليم، القادر على الرؤية التي تفرز الصالح لتبقيه من الفاسد لتعزله وتحرقه. وتضيف إلى ما تبقى ما تحتاجه عملية التغيير والتطوير من أفكار إبداعية خلاقة.
إن هذا لا يكون دون وجود القائد الذي يرصد حركة الحياة ويتعامل معها بطريقة استثنائية. وذلك هو المجدد المبدع. ولا مجدد حقيقياً دون قابلية على الإبداع، والإتيان بالجديد الذي يطور الفكر ويقفز به، ويحسن العمل، ويجود الأدوات، ويضاعف الطاقة، ويقلل الجهد، ويصل إلى الهدف من أقرب طريق، مع مراعاة الذوق والجمال، ليبقى التكامل بين الوظيفة والجمالية محفوظاً قابلاً للمزيد.
ولا أقصد بالقائد، الواحد الفرد؛ فذلك هو الصنم، وإن كان في نهاية المطاف سيكون على رأس القائمة واحد هو القائد الأعلى، وإنما أقصد به مجموعة القادة الذين تتشكل منهم مؤسسة التغيير. علماً أنه لا ثمرة ترتجى من وراء العمل التجديدي المبدع ما لم ترتبط الجهود وتتناسق في منظومة أو مؤسسة منظمة تحرك أجزاء العمل كلها بتناغم موحد يذوب الجزء فيه بالكل، ويأخذ الكل بحركة الجزء ويفعِّلها ويتفاعل معها ويضاعف من فعاليتها نحو نهايتها المحددة سلفاً، المتوحدة بنهايات أجزاء المنظومة جميعاً.
التجديد القائم على الإبداع هو الإطار الذي يتحرك في فضائه (منهجنا)، والمسار (أو البرنامج) الذي يسلكه للوصول إلى الهدف المنشود. بل هو الروح التي بدونها سيموت كل شيء، وتمسي المؤسسة مجرد هياكل وإدارات وموظفين ينتظرون مصيرهم كأي شيء زائد في الحياة.
ما هو التجديد؟ وما هو الإبداع؟ وكيف يختلط أثرهما في النسغ الصاعد في جذع القضية؛ وصولاً إلى تخليق أطيب الثمار وأحلها وأحلاها، منطلقين من الشرع وإليه ونحن نرود مسافات.. ونتوغل في مساحات.. ونتغلغل في زوايا قد لا تكون مكتشفة حتى الآن، ولا ينبغي أن تظل مطمورة تحت أتربة المنهجية القديمة والأفكار السقيمة.. هو موضوع هذه الورقات، أضعه بين أيديكم مؤكداً على أنه من دون إبداع وقدرة على التجدد وتقمص روح التجديد واستمراريته لا يمكن أن نحدث الأثر المطلوب، ونحقق الهدف المنشود. أرجو أن أسد به ثغرة، وأضع لبنة في بناء القضية العظيم.
أَهَمِّيةُ مَوضُوعِ التَّجدِيد
إن الأسباب التي دفعتني للاهتمام بموضوع (التجديد) متعددة ومتنوعة، سيجدها القارئ في ثنايا الكتاب. ولكن أود التنويه من بينها بسببين بالغَي الأهمية والخطورة، حملاني على إدخاله في موضوعات المنهج، وهما:
- قانون طول الأمد: هو – في رأيي – أحد قوانين الاجتماع الخطيرة. يتمثل بوجود جماعات ومؤسسات كان لها حضور حيوي وتأثير إيجابي لا ينكر، ثم أصيبت من بعدُ بالجمود وضعفت قابليتها على التجدد فترهلت وتضخمت ثم خمدت وهمدت، وأمست عقبات وأحجاراً يعثر بها السائرون على الطريق.
هذا أمر مقلق لكل صاحب قضية يؤسس لمنظومة تحملها ويخشى أن يصيبها ما أصاب مثيلاتها من قبل. فلم أرَ كالتجديد – إذا فهم على وجهه، ثم حوِّل إلى قصده – شيئاً يمكن أن يزود المؤسسة بالقدرة الذاتية على الاستمرار بالعطاء المتجدد فكراً وعملاً، ويمنحها القابلية المتطورة على التعامل مع المتغيرات الحادثة على طول الخط، والحيلولة بينها وبين تحولها – عاجلاً أم آجلاً – إلى مجرد إدارة تؤدي أعمالاً وظيفية نمطية مكررة. أي إلى هيكل قائم لا روح فيه، كما هو شأن تلك المؤسسات الخاملة التي جمدت فترهلت فتحولت إلى عبء زائد على كاهل الحياة. والله تعالى أمرنا أن نأخذ العبرة ممن سبقنا حتى لا يصيبنا ما أصابهم فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16). ثم قال بعدها، نافخاً الروح في النفوس، ونافحاً الأمل في القلوب، وباعثاً الهمم في الرمم: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17).
- ظاهرة (الصنمية): وبروزها في المؤسسات المترهلة، بدءاً بالصنم الكبير ونزولاً إلى أصغر وثن فيها. وهي ظاهرة متفشية في تلك المؤسسات. بل سبب جوهري من أسباب جمودها وفسادها. وذلك أمر مقلق أيضاً يدعو إلى البحث عن جذور هذه العلة وبقية العلل الجمعية الشائعة في المجتمعات الاضطهادية – ومنها مجتمعنا العراقي – للمسارعة في علاجها قبل أن تؤدي في النهاية إلى وجود وبروز تلك الظاهرة التي تمثل الخطر الأكبر على كيان المؤسسة والأهداف العظيمة التي أنشئت لأجلها، والغايات السامية التي تتطلع لبلوغها.
التجديد وفقهه، ثم تحويله إلى جزء لا يتجزأ من كيان المؤسسة: في نظامها المكتوب، وبرنامجها المعمول، وفي مقدمة ذلك أمران:
- فهم الدوافع النفسية الفردية والجمعية التي تصنع الصنمية
- ومبدأ (الشورى التشاركية)
هو الذي يمنع بروز ظاهرة الصنمية، ويمنح المؤسسة القابلية على التجدد وترميم الذات والقدرة على المطاولة في الاستثمار المنتج المتطور المواكب للتغيرات المتجددة كإحدى سنن الاجتماع غير القابلة للتبديل والتحويل.
التجديد في الإسلام
التَجدِيدُ فِي الإسلام
التجديد سنة كونية وفريضة شرعية
التجديد سنة كونية وفريضة شرعية. فلقد أقام الله عز وجل هذا الكون على سنة التجدد المستمر بحيث كلما وصل الأمر إلى نهايته أعاده جل وعلا إلى بدايته. ومصداقه هذه الآية وأمثالها: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الروم:11). وظاهرة إعادة الشيء إلى ما بُدئ به أول مرة في الكون، هو التجديد عينه في الشرع. وقد ورد ذلك في هذا الموضع (الروم:11) شاهداً على نشوء الدول وفنائها. وأن ذلك يحدث ضمن دورة كونية كدورة الليل والنهار التي تستحق التسبيح والتحميد مساء وصبحاً وعشياً وظهراً. ودورة إخراج الحي من الميت والميت من الحي. ودورة أو ظاهرة الحياة والموت بدءاً بالخلق ثم الموت ثم إعادة الحياة. لافتاً النظر إلى التخليق من التراب ثم العودة إليه، وهي شبيهة بتخليق النبات في دورة لا تنتهي حتى تعود. ذكر جل وعلا هذا متخللاً الآيات (17-26) مختومة بما بدئت به، وهو قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27).
ومن شواهد هذه السُّنّة الكونية: (دورة الماء في الطبيعة)؛ إذ يبدأ من البحر بخاراً بفعل حرارة الشمس، ثم يتكاثف في الجو سحاباً تحمله الرياح لينعقد مطراً يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. ومنه ما يكون ثلوجاً في قلل الجبال تذوب أنهاراً وتُسلك ينابيع في الأرض حتى تعود كلها إلى البحر مرة أُخرى وهكذا أبد الدهر حتى يأذن الله تعالى بزوال الأرض وما فيها. تلك الظاهرة التي أشار إليها جل وعلا في سورة (الروم) نفسها منصصاً ومعقباً فقال: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:48-50).
على أن ثمة فرقاً جوهرياً بين سنة الله في ظواهر الكون، وسنته في ظاهرة نشوء الدول وفنائها. ذلك أن الأولى تكون ضمن قوانين نافذة خارج نطاق قدرة الخلق، على العكس من الثانية. التي جعلها الله تابعة لإرادة البشر: فإن أحسنوا سلموا، وإن أساءوا هلكوا. فقال جل وعلا وفي السورة نفسها: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (الروم:41-45).
حديث التجديد في ( سنن أبي داود ) : متناً وسنداً
روى أبو داود في (سننه) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها). والحديث – وإن صححه بعض العلماء وضعفه آخرون – يذكر ظاهرة التجديد صراحة. وهو خبر يراد به الأمر. ففيه حث للأمة على ممارسة التجديد، وإلا تعرضت للأدواء ودهتها عوادي الفناء.
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في (عون المعبود لشرح سنن أبي داود): قال المناوي في فتح القدير: أخرجه أبو داود في الملاحم والحاكم في الفتن وصححه، والبيهقي في كتاب المعرفة.. كلهم عن أبي هريرة. قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح. وقال أيضاً: ( فِيمَا أَعْلَم ) الظَّاهِر أَنَّ قَائِله أَبُو عَلْقَمَة يَقُول فِي عِلْمِي أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيث مَرْفُوعًا لَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ… قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الرَّاوِي لَمْ يَجْزِم بِرَفْعِهِ. اِنْتَهَى. قُلْت: نَعَمْ لَكِنْ مِثْل ذَلِكَ لَا يُقَال مِنْ قِبَل الرَّأْي، إِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْن النُّبُوَّة، فَتَعَيَّنَ كَوْنه مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ e. إهـ قول المناوي([1]).
وقال الدكتور عداب الحمش (المهدي المنتظر/296) بعد بحث مطول في الحديث سنداً ومتناً: لكل ما سبق أقرر مطمئناً أن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن. إهـ.
على أن متن الحديث من حيث المدة التي تستدعي التجديد (مئة عام)، لا يتطابق مع الواقع، ولا الأصل اللغوي للفظ (القرن). ويستحيل أن يناقض خبر الرب قدره. وللخروج من الإشكال فإني أرى أن الحديث روي بالمعنى. فحتى يصح واقعاً لا بد أن يكون أصل النص الحديثي (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها دينها)، وليس (على رأس كل مئة عام). لكن أحد الرواة تصرف فيه فرواه بالمعنى على اعتبار أن القرن مئة عام، فبدل أن يقول (قرن) قال: (مئة عام) على الشائع من معنى كلمة (القرن). لكن هذا معنى واحد من معانيه. وهو معنى اصطلاحي لم يكن معروفاً في أصل اللغة والله أعلم.
فمن معاني القرن الجيل من الناس، ولم يرد في القرآن الكريم سوى هذا المعنى رغم أنه تكرر خمس مرات، كقوله جل وعلا: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) (الأنعام:6).
وهذا هو الأوفق للواقع؛ إذ إن لكل جيل عوائده وظروفه وتحدياته التي تفرض عليه ما يناسبها من أنواع العمل والاستجابة؛ فيقتضي ذلك عند نهاية كل جيل ورأس الجيل الذي يليه أنواعاً أُخرى من الأعمال والاستجابات. وهذا هو التجديد المقصود. وهو ما يقتضي أن يرد نص الحديث بلفظ (القرن) أي الجيل من الناس؛ فهذا هو الموافق لعوائد الخلق وواقع الأمر، وليس بلفظ (مئة عام)؛ فهذا مخالف لسنن الاجتماع؛ فالأمة التي تبقى جامدة على ما هي عليه مئة عام أمة خاملة خامدة لا تصلح لقيادة الحياة. ونحن من خلال فهمنا للأقدار وعلاقتها بالأسباب نرى الترابط الموضوعي بين السنة الكونية والفريضة الشرعية. على الأمة إذن أن تمارس عملية التجديد مع كل جيل حتى لا تجمد فتخمد فتفنى.
والحديث – بصرف النظر عن صحته من ضعفه – يذكر ظاهرة التجديد صراحة. وقد جاء النص بصيغة خبر يراد به الأمر كقوله جل وعلا: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس:9). وهو أمر بتزكية النفس جاء بصيغة الخبر. فيكون في الحديث حث للأمة على ممارسة التجديد، وإلا تعرضت للأدواء ودهتها عوادي الفناء
فمن معاني القرن الجيل من الناس، ولم يرد في القرآن الكريم سوى هذا المعنى رغم أنه تكرر خمس مرات، منها قوله جل وعلا: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) (الأنعام:6). فالهلاك إنما يقع على مجموع الجيل الواحد المقارن بعضه لبعض في المكان والزمان. واللفظ مأخوذ من الاقتران أي المصاحبة والمعاصرة. ومنه قول الشاعر:
إذا ما مضى القَرْنُ الذي أَنتَ فيهمُ وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ، فأَنتَ غَرِيبُ
وقال ابن منظور في (لسان العرب) ما حاصله: والقَرْنُ من الناس: أَهلُ زمان واحد. وذكر اختلاف العلماء في تقدير مدته. قال الأَزهري: وإنما اشتقاق القَرْن من الاقْتِران، فتأَويله أَن القَرْنَ الذين كانوا مُقْتَرِنين في ذلك الوقت والذين يأْتون من بعدهم ذوو اقْتِرانٍ آخر. إهـ.
[1]– هذا القول: “مِثْل ذَلِكَ لَا يُقَال مِنْ قِبَل الرَّأْي، إِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْن النُّبُوَّة، فَتَعَيَّنَ كَوْنه مَرْفُوعًا”، في رفع الحديث الموقوف يمثل أحد القواعد الخطيرة في تصحيح الأحاديث الضعيفة؛ لأنها غير محكمة، تصيب وتخطئ، وتخضع لمزاج القائل وقناعته.
المعنى الرباني للتجديد
المعنى الرباني للتجديد
جاء في (لسان العرب) لابن منظور: تجدَّد الشيءُ: صار جديداً. وأَجَدَّه وجَدَّده واسْتَجَدَّه أَي صَيَّرَهُ جديداً. إهـ. وصيرورة الشيء جديداً تعني بعد أن صار قديماً أو بالياً. والذي يبلى من الدين هو دين الناس؛ بتغير مفاهيمه في نفوسهم. وليس الدين نفسه.
وجدت أجمع تعريف للتجديد قوله جل وعلا: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18). أي يتخيرون أنسب ما يكون من الوحي الثابت لإنزاله على الواقع المتغير. وذلك يشمل أمور الدين وشؤون الدنيا، والأخذ بأسباب التطور والحضارة.
فالحسن هنا حسن تناسب إذن، لا الحسن بمعناه المطلق. يدل على ذلك أن الله عز وجل خيّر المسلم – في مواضع عديدة من كتابه – بين أمرين مرغباً إياه في أحدهما، كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40). لكن العفو ليس هو الأحسن في كل حال، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال:68).
روى مسلم في سبب نزول هذه الآيات في أسرى (بدر) عن ابن عباس قال: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى)؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار. فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب)؟ قلت: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنّا فنضرب أعناقهم. فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان (نسيبٍ لعمر) فأضرب عنقه. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت. وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)، شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله عز وجل: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ – إلى قوله – فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) (الأنفال:67 – 69) فأحل الله الغنيمة لهم.
فكان قتل الأُسارى هو (الأحسن) إلى درجة الوجوب الذي يستحق تركه العقوبة، وليس العفو عنهم. وقد بيّن الله تعالى سبب رفع العذاب على أخذ الفداء، وهو سبق كتابه وقضاؤه في أن لا يعذب مجتهداً باجتهاده.
إنزال الوحي الثابت على الواقع المتغير
التجديد في الإسلام إذن: إنزال الوحي الثابت على الواقع المتغير.
وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ففي حال يكون العمل بآية ما أحسن من العمل بآية أُخرى، وفي حال يكون العمل بغيرها هو الأحسن. يقول جل وعلا: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف:145). قال بعض المفسرين: ظاهر قوله: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) يدل على أن بين التكليفين فرقاً وهو أن التكليف كان على موسى أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره من قومه). فكان (الأحسن) ما كان فيه مراعاة لأحوال الناس قوة وضعفاً وظرفاً. فيكون المقصود بـ(الأحسن) الأنسب للحال.
ومعرفة ذلك على وجه الدقة مهمة المجددين الربانيين، الذين يعرفون لكل حال ما يصلح لها. وهذه أعلى المراتب. ويختلف العلماء في درجاتها على قدر فهمهم وقربهم من الله عز وجل فمنهم المسرع المحلق، ومنهم دون ذلك. وقد تنزل المرتبة بالمخذولين إلى حد الصرف التام عن الفهم، كما قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146). وهذا لا ينفي أن يكون الصرف درجات ومستويات على قدر معصية العبد، فمنهم المكثر ومنهم المقل. فمن قواعد التفسير أن لكل آية طرفين ووسطاً. فهناك الصرف التام، ويقابله الحسن التام الذي هو أخذ الأمر بقوة كشأن أولي العزم من الرسل، ومنهم موسى عليه السلام. وما بين هذا وهذا درجات علمها عند الله!
فالتوراة أُنزلت كاملة؛ فلا بد من الاجتهاد في تنزيل آياتها الثابتة على الواقع المتغير. وقد كانت الآيات في عصر الوحي تتنزل طبقاً للواقع، حتى إذا تم نزول القرآن الكريم صار القرآن بين أيدينا كالتوراة بين يدي بني إسرائيل، فنجتهد في تنزيل آياته على واقعنا فيكون لكل جيل تنزيل. وهذا هو ما أفهمه من معنى التجديد في مطلوب الشرع.
مجمل القول: لقد تنزل القرآن الكريم موضعياً وجمع موضوعياً. وعلينا اليوم أن نفهمه موضوعياً وننزّله موضعياً.
تعدد المجددين وتجزؤ التجديد
تَعَدُّدُ المجَدِّدِينَ .. وَتجَزُّؤُ التَّجدِيد .. والحاكم أولـى به من العالم
تجزؤ التجديد
التجديد – كباقي العلوم – قابل للتجزؤ، وموضوعاته كثيرة، كذلك الإبداع. وليس من شرط المجدد المبدع أن يكون موسوعياً، وليس ذلك في مقدور إنسان؛ فالمجدد يكون مجدداً في مجال أو أكثر، وليس في كل مجال.
تعدد المجددين
المجدد إذن قد يكون مجدداً في موضوع، وجامداً في موضوع آخر. فكلمة (من يجـدد) الواردة في الحديث المروي عن النبي e لا يلزم منها أن يكون المجدد فرداً، بل لا بد للتجديد الحقيقي من مجموعة مجددين، فهناك مجدد في الحكم، ومجدد في السياسة، ومجدد في التفسير، ومجدد في التاريخ، ومجدد في العسكرية وفي علوم الطبيعة.. وهكذا. وكمال التجديد – بل شرطه الذي من دونه لا تظهر نتيجته، ولا تقطف ثمرته – أن يكون ضمن منظومة تنسق عملهم، تزاوج بينه وتخرجه إلى حيز الوجود. لهذا علينا أن نحترم الاختصاص. كما علينا أن لا ننساق وراء المبدعين في كل المجالات، إنما نتبعهم في مجال إبداعهم واختصاصهم فقط.
قال ابن الأثير الجزري: (لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المئة رجلاً واحداً وإنما قد يكون واحداً، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة (مَنْ) تقع على الواحد والجمع. وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاءَ خاصة – كما ذهب إليه بعض العلماء – فإن انتفاع الأمة بالفقهاء، وإن كان نفعاً عاماً في أمور الدين، فإنّ انتفاعهم بغيرهم أيضاً كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فإن كل قومٍ ينفعون بفن لا ينفع به الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر.. فإذا تحمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة، وأشبه بالحكمة.. فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعةٍ من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة، يجددون للناس دينهم)([1]).
لا مجدد فرداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم
باستحضار الحقائق الأربعة السابقة، وهي:
- الإبداع ممارسة جماعية
- الفكر المبدع نتاج فعل اجتماعي نسقي
- تجزؤ التجديد
- تعدد المجددين
نصل إلى نتيجة مهمة هي أنه من غير الممكن أن يكون المجدد واحداً في كل عصر، بل التجديد مهمة كبيرة لا يقوى على حملها أحد منفرداً بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو النبي الذي اجتمع فيه كل الأنبياء، وليس ذلك لأحد من قبله ولا من بعده. ويمكننا طبقاً لهذه النتيجة أن نوسع من دائرة النظر لتشمل العديد من الرجال – ولا مانع يقف أمام النساء من ذلك – في كل زمان يمكن أن ينطبق عليهم وصف التجديد. وحين تكسر الحواجز المادية والمعنوية بين هؤلاء، ويتم الاتصال بينهم في زمان معين تحصل النهضة للأمة في ذلك الزمان، وحين تتناسق جهودهم في مكان معين تحصل النهضة للأمة في ذلك المكان.
وهذه النتيجة تقوي من الرأي القائل بأنه لا مهدي بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه في كل زمان يوجد مهديون متعددون مبثوثون في الأمة، هم المصلحون المجددون.
الحاكم أولى بوصف ( المجدد ) من العالم
من تأمل الكلام السابق، وتدبر فنظر في الزمان والدعوات وحاجتها إلى التجدد وعملية التجديد، عرف أنه لا تمر فترة (25) عاماً حتى تتطلب أي دعوة أو دولة أو مؤسسة تجديداً تحافظ به على حيويتها وتمتلك به قابليتها على الاستمرار. وهذا يقوي القول بأن الصحيح في نص الحديث – وإن اختلف في صحته – لفظ (قرن) أي الجيل من الناس كما سبق بيانه في حاشية تخريج الحديث، وليس لفظ (مئة عام). وأرى – طبقاً لهذه الحيثيات مجتمعة – أن المجدد الحقيقي أو المجدد بمعناه المطلق هو الحاكم المسلم، وأن الحاكم أولى من العالم بهذا الوصف؛ لأنه الوحيد الذي يمكن أن يعم تجديده فيسري في جميع مفاصل الدين بمعناه الذي هو عليه والذي يشمل حركة الحياة كلها خاضعة لشرع الله تعالى، وبصورة عمل تديره منظومة تنتج فعلاً اجتماعياً نسقياً، مبني على معرفة قابلة للاختبار. على أن هذا لا يغمط العالم حقه ووصفه وكونه (مجدداً) ما دام أنه يمارس عملية التجديد فكراً وتطبيقاً. لاسيما في فترات تخلي الحكام عن وظيفتهم الحضارية الكبرى، كما في هذا الزمان، وقبله بكثير. لكن تجديده يبقى محصوراً في المجال الذي يمكنه أن يتحرك فيه. وهذا يضيق ويتسع طبقاً لقدرته وظرفه.
كما أرى أن أول حركة تجديد في تاريخنا كانت خلافة معاوية رضي الله عنه، فمعاوية أول مجدد في تاريخ الإسلام. وكانت هذه الحركة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين عاماً. وقد ولدت ولادة متعسرة ابتدأت قبل ذلك بخمسة أعوام.
[1]– جامع الأصول، 11/319، أبو السعادات بن محمد الجزري، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان الطبعة الأولى، 1392هـ/1972م.
حقائق شرعية واجتماعية
أُسُسُ التَّجدِيد
أولاً : حقائق شرعية واجتماعية
استمرارية تجدد حركة الحياة
- كل تحدٍّ يتطلب استجابة لمواجهته، هكذا يقول علماء التاريخ والاجتماع.
- ولا بد أن تكون الاستجابة متناسبة مع التحدي نوعاً وكماً حتى تتم معالجة الموقف.
- انقلاب الاستجابة إلى تحدٍّ يتطلب استجابة جديدة: فإذا تحقق الهدف، وهو المعالجة، وتجاوز المستجيب – فرداً أو جماعة – الأزمة، انقلبت الحالة، بطبيعتها، إلى تحدٍّ آخر يحتاج إلى استجابة جديدة مناسبة. كالنجاح في الامتحان: ما لم يستثمر لتحقيق نجاح لاحق ضعفت الفائدة، أو جمدت الحركة، أو انقلب الوضع إلى فشل. وانظر إلى ما ورد في حكمة السالكين من أن حسنة أدخلت صاحبها النار، وسيئة أدخلته الجنة. وتأمل في غرور الأقوياء، وخذ العبرة من عاقبة طغيان الأغنياء.
وبهذا نكتشف سنة أو قانوناً من قوانين الاجتماع ندرك من خلاله أن حركة الحياة لا تتوقف عند نقطة معينة، بل هي سلسلة من الحركات الجزئية يؤدي بعضها إلى بعض، وينقلب بعضها عن بعض في تناوب متدفق بين استجابة وتحد، هكذا إلى الأبد.
استغلال الحدث أهم من الحدث
ونكتشف أيضاً من خلال هذه الاستمرارية الانقلابية في حركة الحياة قانوناً آخر من قوانين الاجتماع هو أن “استغلال الحدث أهم من الحدث نفسه”. فمن لم يستعد للمواجهة المستمرة المتغيرة جمد وقدم وطال عليه الأمد، وأمسى خارج نطاق الحياة، في مفارقة تنفصل بها الجغرافية عن التاريخ. يقول تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16). ثم يقول بعدها مباشرة: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17)؛ فطول الأمد وقسوة القلب من الجمود، والإحياء بعد الموت من التجديد.
إذن.. أهم من الحدث استغلال الحدث..
هذه حقيقة يجهلها الكثيرون من عميان السياسة والدين والمجتمع. ومن علِمها منهم تبقى مسافة كبيرة تفصل بين بعضهم وبين تحويل العلم إلى عمل، والمعرفة إلى ممارسة فاعلة في الحياة باتجاه الهدف.
لكن الشيعة لهم شأن آخر.. إنهم أساتذة هذا الفن.. وفرسان ميدان تطبيق هذه الحكمة العظيمة، وإن اقتضى الأمر عندهم الخروج عن جادة المشروع والمعقول. بل ليس لديهم أصلاً خطوط فاصلة، ولا حدود يتقيدون بها وهم يُسَخِّرون طاقاتهم إلى آخر حد في سبيل استغلال الحدث بأي وسيلة كانت أو تكون. الكذب والتزوير والسرقة والادعاء بعض أدواتهم الفاعلة، ومنها سرقة التأريخ، وجهود الآخرين، ونسبة الأحداث المهمة لهم، ورمي التهم والجرائم التي يرتكبونها على غيرهم، واختلاق القصص والحكايات المشوشة والمشوهة ورمي الآخرين بها، مع ادعاء عريض للمظلومية والاضطهاد، وتباكٍ لا يملون من تكراره، وولولة وتمسكن يستدرون به حتى عطف الضحية! وما شابه من الوسائل والأساليب. ناهيك عن استغلال الصحافة والإعلام والمطبوعات والنشريات، أضف إليه الطرق المستمر لأبواب المحاكم لتسجيل الدعاوى وتقديم الشكاوى، والدوران بين المحافل والمنظمات والهيئات المحلية والدولية.
في زمن الحكومة السابقة للاحتلال وجدنا أهل السنة يسمعون في بعض المناطق سب الصحابة بآذانهم ينطلق من أجهزة التكبير المنصوبة فوق الحسينيات الشيعية. لم أرَ أو أسمع أحداً منهم قدّم في يوم ما شكوى إلى الجهة المختصة ضد هذه المنكرات الشرعية المغلظة، والتي هي في الوقت نفسه جرائم يعاقب عليها القانون. بينما نحن نترضى عن سيدنا علي وأهل بيته، وتقارير الشيعة علينا بالأكوام لدى دوائر الأمن والحزب تتهمنا بالتهجم على “أهل البيت” وسبهم! لقد أوصلوا أهل السنة إلى حالة لا يطمعون فيها بأكثر من سكوت الشيعة عنهم؛ فهم يتطيرون من إثارتهم أو تهييجهم حتى ولو بتقديم شكوى قانونية لدى الجهات المعنية. ولسان حال الواحد منهم يقول: أنا لم أسلَم وأنا بعيد عنهم، فكيف لو اقتربت منهم، أو تحرشت بهم؟! وهذه الحالة غزت نفوس المسؤولين بحيث لم يكونوا يطلبون غير رضى الشيعة وسكوتهم عنهم! وهو عكس ما يشيعه الشيعة عن الحكومة السابقة! وهو نوع من فن استغلال الحدث، أتقنه الشيعة إلى آخر قطرة.
المجددون بشر مثلنا
في يوم من أيام شتاء عام 1997 كنت ضيفاً على صديق لي في قرية (السجارية) الجميلة شرقي (الرمادي)، وعلى عادة أهلها في الاحتفاء بالضيف يتجمع الجيران والأحباب. قال أحد الحاضرين: ما أحوجنا لرجل كعمر بن الخطاب! لو كان بيننا الآن عمر بن الخطاب t لانصلحت حالنا. فقلت له: بل ما أحوجنا إلى الأُمة التي تحتضن عمر وأمثاله! لو كان عمر بن الخطاب بيننا ما استطاع أن يغير الحال بلمسة سحرية، ولربما كان مأواه الآن بقعة مظلمة وراء القضبان. كم في الأُمة اليوم من عمر! ولقد قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) (الواقعة:10-14). كم يبلغ (القليل) في أمة تعدادها مليار ونصف المليار؟ لا شك أنهم بالملايين. وحين يأذن الله تعالى سيأتي اليوم الذي تغير فيه هذه الملايين المنتشرين في نسغ الأمة واقعها إلى الحد الذي تصلح أن تكون حاضنة لهم فتستحق بذلك النصر. لم أجد من يؤيدني في ذلك الجمع من أحد: فبعضهم عارضني، وبعضهم ظل ساكتاً. بعد انفضاض المجلس أسر إليّ أحد المعارضين أنه مقتنع بكلامي، لكنه كان يداري صاحب البيت! فعجبت مما قال، وعلمت أن الشوط ما زال طويلاً.
* *
المجددون يخرجون من بيننا، وهم من طينتنا يسري عليهم قانون الخطأ والصواب. ليس من شرط المجدد أن يكون (سوبرماناً) يتميز بخصائص لا يملكها بقية أبناء جنسه وعصره.
المجددون ليس لديهم أجنحة تطير، ولا تطوى لهم الأرض بلمسة قدم.
إنهم بشر يضحكون ويبكون، ويفرحون ويحزنون، يجوعون ويعطشون، يغفلون وينسون، ويتعبون وينامون، يضعفون فيخطئون ويذنبون، ويضعفون أيضاً فيخافون حتى تبلغ قلوبهم الحناجر ويظنون بالله الظنونا. يعلمون أشياء ويجهلون أشياء… لكن لهم عقولاً لماحة وهمماً عالية طماحة، تتدارك ضعفهم، وتمسح أخطاءهم، وتبيض صحائفهم، خصوصاً حين يكونون في ذمة الخلود فتبهت تلك الأخطاء، وتشتد تلك الصحائف تألقاً؛ لأن مناكفات المعاصرة، وتحاسد المقارنة، ومضايقات المنافسة كلها تكون قد ماتت مع أصحابها؛ فإذا كتب عنهم الكاتبون لم يسجلوا إلا جوانب العظمة منهم.
ولهذا مردود سلبي من أكثر من وجه:
- ينعكس على الجمهور فتهبط همته حين يجد نفسه عاجزاً عن مجاراة تلك الجوانب، والاقتداء بتلك الخلائق.
- وينعكس على المجددين أنفسهم أثناء حياتهم فيعانون ما يعانون من صدود المجتمع ونفرته، واستهزائه وسخريته، وعدائه ولدده. وقد يفضي بهم ذلك إلى القتل أو الاعتقال، أو التشرد في البلدان! لأن المجتمع يتصور المجددين والعظماء طرازاً من البشر بلا ضعف ولا أخطاء؛ فيفوته إدراك مرامي المجدد، وينشغل بالنبش دون النقش، وبالتنقير دون التغيير.
إن هذه أحدى جوانب معاناة الأنبياء ب مع أقوامهم. فإن من دواعي نفرة قوم النبي منه تصورهم الأنبياء خلقاً غير خلقهم، أو جنساً غير جنسهم، وأن النبي شخص لا يجوز عليه الخطأ ولا التقصير. أما هذا الذي يدّعي أنه نبي فهو شخص عايشوه وشاهدوه يتحرك بينهم، فلاحظوا عليه شيئاً من ذلك؛ فكيف يكون نبياً؟! انظر كيف ذكّر فرعون موسى u بسابقة قتله للقبطي، وفي ذهنه كيف يمكن للنبي أن يكون قاتلاً؟! (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (الشعراء:18-20).
ولعل هذا أحد الأسباب التي من أجلها عرض القرآن العظيم حياة الأنبياء ب بما لها وما عليها، فتطرق إلى ذكر بعض ما عملوه مما لامهم الله عليه. فكانت صورة متوازنة تلتقي فيها الذرات الأرضية بالأنوار السماوية، وتمتزج الشخصية البشرية بلوازم الوظيفة الربانية النبوية، بحيث يبقى ذلك الكائن السماوي النبوي بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؛ من أجل أن يبقى حقيقة ماثلة ومثلاً حقيقياً للاقتداء. هذا هو حال النبي الذي يأتيه الوحي من السماء، فكيف بالمجدد الذي هو إنسان عادي مجرد من هذا الامتياز؟
أرأيت لمَ تعظِّم الأقوام الأنبياء السابقين، وتتنكر لمن بعث بينهم نبياً من النبيين؟ الشيء نفسه ينطبق على المجددين!
صفات المجدد
صفات المجدد
ومما يثبط الهمم، ويقعد عن بلوغ القمم ما يذكر بعض الخائضين في الأمر من شروط تعجيزية وصفات كمالية للمجددين، ما أنزل الله بها من سلطان. مثل أن يكون جامعاً لكل فن من العلم، وأن يكون مجتهداً في الفقه، وبعضهم اشترط الاجتهاد المطلق. وإذا علمت أن واضعي هذه الشروط لا يعتبرون شيخ الإسلام ابن تيمية مجتهداً مطلقاً، أدركت بعدهم عن الواقع. لقد كان صلاح الدين الأيوبي والشيخ محمد بن عبد الوهاب مجددين، ولم يكن الأول من أهل التخصص في الفقه، ولم يبلغ الثاني في نظر الفقه التقليدي درجة الاجتهاد، فكان ماذا؟ وبلغ من تنطعات بعضهم أن اشترط للمجدد كونه من أهل البيت، كما قاله السيوطي في منظومته عن (المجددين)، محتجاً بحديث باطل ينسب للنبي e يروى عن الإمام أحمد أنه قال فيه: يُروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مئة سنة، برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم). والحديث لا يعرف سنده فيما فوق الإمام أحمد، فهو معضل في أشد حالات الإعضال.
إنما يكفي المجدد أن يكون مدركاً لأدواء الأمة وتحدياتها الكبرى، ناشطاً في علاجها ومواجهتها. يتمتع بملَكة الاستنباط واستخراج المعاني الدقيقة والحلول الناجعة لا سيما تلك التي تتعلق بالنوازل العامة التي تهم المجتمع، ولديه من العلم الشرعي ما يكفي للتصدي لما هو بصدده من جوانب التجديد والإصلاح. ومعه ثلة من أهل الشأن يستشيرهم ويأخذ برأيهم سداً لما يعتريه من نقص. وبطبيعة الحال لا يكون المجدد في الإسلام من غير أهل السنة.
المجددون يسبقون عصرهم
المجدد والقائد هو الرجل القادم من المستقبل إلى الحاضر؛ ليأخذ بيد الحاضر ويتجه به إلى المستقبل. فالمجددون يسبقون عصرهم فإما أن يقفزوا به، إن كان المجتمع مستعداً لذلك. وإما أن لا يتحمل العصر تجديدهم فينتهون على أيدي معاصريهم جسدياً أو معنوياً.
ومشكلتنا في رموز تتحرك في الحاضر، لكنها متجهة به إلى الماضي!
المجدد يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم
يجد الناظر في تاريخ النبوات أنه كلما بعث نبي ثم تقادم العهد، وحصل التغيير والتحريف والركود، وظهرت طبقة (رجال الدين) الذين يتخذون من الدين مهنة للارتزاق، ووسيلة للارتقاء: بعث الله تعالى نبياً يعيد الناس إلى الدين الأول، مع الأخذ بالاعتبار مستجدات الواقع الذي يبعث فيه؛ فتتغير بعض الأحكام الفقهية، أو يكون التركيز على قضية لم تكن ظاهرة على أيام النبي السابق، أو النبي الآخَر في مكان ثانٍ، فيجعلها هي المحور الذي تدور عليه رحى دعوته القائمة على قاعدة التوحيد أساساً.
وهذا هو معنى التصديق للكتاب السابق والهيمنة عليه، الوارد في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48). قال الشوكاني في (فتح القدير): (والمعنى أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة، ومقرراً لما فيها مما لم ينسخ، وناسخاً لما خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لما فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك).
وإذ ختم الله تعالى النبوة؛ فقد جعل للأنبياء عليهم السلام ورثة يقومون مقامهم، هم القادة، لا كما هو شائع عن النبي e أنه قال (العلماء ورثة الأنبياء)([1])، ما لم يكن العالم من طراز القائد؛ فإنك لو حللت شخصية النبي وجدتها تقوم على ثلاثة عناصر أساسية:
- النبوة.
- العلم.
- العمل: وعلى رأسه مواجهة التحديات الواقعية.
ووريث النبي – بعد ختم النبوة – يتبقى له عنصران هما: العلم والعمل به لكن في مواجهة تحديات الواقع. وهذا هو القائد. أو العالم العامل. ولا يكون العالم عاملاً بعلمه وهو منصرف عن مهمته الأساسية في التصدي لمعالجة الواقع. ولأن مفهوم العمل انحسر ليقتصر على العمل بالدين المجرد، حصل الفصام النكد بين العلم والقيادة؛ فصار العلم قاعداً لا قائداً، والعالم هو القائل لا القائد.
وإذ تقرر أن مهمة النبي الأساسية هي تجديد الدين في عقول ونفوس وواقع المجتمع، فإن تمام الوراثة الربانية أن يكون العالم قائداً مجدداً، وذلك ببعث الوحي من جديد في حياة الأمة. ومن هنا يتبين خطورة موقع العالم، وعظمة المسؤولية المناطة به من جهة، ويتضح حجم الأجر وسمو الشرف الذي يتقلده حين يمارس دوره كقائد يترسم خطى الأنبياء عليهم السلام من جهة أخرى.
ليس من شرط التجديد الإتيان بجديد
كان أحد مشايخ الدين في مدينة الحلة يتكلم بحماس وهو يعرض على لجنة التوعية الدينية في دائرة الأوقاف أن تقوم بتوجيه دعوة رسمية إلى أحد الأساتذة المعروفين في بغداد ليتحدث في مسجده عن (العولمة). كان ذلك في نهايات عقد التسعينيات!
ما الذي يعالج موضوع (العولمة) من مشاكل أهل السنة في الحلة؟ وما مدى حاجتهم إليه؟ علماً أن الإتيان بمثل ذلك الأستاذ من بغداد إلى الحلة مُكْلف جهداً ووقتاً ومالاً. لا سيما مع إهمال أو تضييع هذا الشيخ ونظرائه في ذلك المكان الموضوعات الأساسية التي ينبغي أن يهتموا بها! لقد كان يكفي المصلين في مسجد ذلك الشيخ أن يتحدث هو لهم عن ذلك في بعض خطبه أو يعقد له محاضرة، أو يشرح لهم الموضوع في جلسة عامة أو خاصة. ويوفر ذلك الجهد للموضوعات التي تمس الواقع.
انظر إلى قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189). لقد نزل رداً على بعض الصحابة حين سألوا النبي u عن القمر كيف يبدو هلالاً ثم يكبر حتى يصير بدراً ثم يصغر حتى يعود هلالاً ؟ فبين لهم الله تعالى أن الأولى بهم أن يهتموا بتصحيح أوضاعهم ويلتفتوا إلى تقاليدهم المتخلفة التي ما زالوا عليها مثل التشاؤم حين الرجوع من السفر من دخول البيت من بابه، فيتسور أحدهم الجدار بدلاً من ذلك! أما تلك المسائل العلمية الكبيرة فهو غير مهيأ لإدراكها بسبب فقدانه لمقدماتها العلمية؛ فيكون البحث فيها نوعاً من الترف أو العبث العقلي الذي لا طائل من ورائه. ولو أجابهم القرآن العظيم إلى ما طلبوا ما استطاعوا فهم جوابه ولانشغلوا عن الواقع بجدل عقيم يضر أكثر مما ينفع. وهذا شبيه بدخول البيوت من غير أبوابها. هذا رغم كون الموضوع جديداً! وهكذا هو حال ذلك الشيخ في مثالنا آنف الذكر. إذن قد يكون الجديد مدعاة للجمود والتقهقر بدلاً من التجديد والتقدم.
لم يأت الشيخ محمد عبد الوهاب على خطاب شيخ الإسلام ابن تيمية بجديد. لكنه كان مجدداً؛ حين بعث في الواقع الجديد ما يناسبه ويحتاجه من الخطاب القديم. وذلك داخل في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18).
هذه من كبريات المشاكل الفكرية في واقعنا؛ إن أصحاب المؤسسة الدينية والسياسية وغيرها من المؤسسات التي تتولى قيادة الجمهور بأي شكل معظمهم متخلفون علمياً وفكرياً. وأمثلهم طريقة من يجعل شغله الشاغل كسب العواطف وشد الانتباه. وهذا يدعوه إلى محاولة الإتيان في كل مرة بجديد أو غريب بصرف النظر عن مساسه بحياتهم وواقعهم.
- المشكلة أن جمهور الناس مغرم بكل طريف وغريب وعاطفي حتى لو كان خيالياً أو خرافياً! فتراه يلهث وراء من يلبي هذه النزعة المريضة فيه. وهذا يجعل من الخطيب أو المحاضر بهلواناً لا هم له إلا شد انتباه الجمهور وإن كان ذلك على حساب حاجته، بل عقله وفكره! هذا حال الخيرة من الخطباء! فكيف بالبقية ممن لا همّ لهم إلا التمسك بالمنبر أو بالبيت التابع للمسجد مهما كان الثمن؟! هذا مع احتفاظنا باستثناء القليل النادر منهم.
وهكذا صار المنبر من أكبر أسباب الجمود الديني بدلاً من أن يكون السبب الأول في التجديد! رغم أن بعضه يطرح مسائل جديدة، لكنها لا تحرك الواقع المتجمد بسبب عدم أو ضعف مساسها به.
ثانياً : عناصر التجديد .. ومجالات التطبيق
إن العناصر التي تقوم عليها عملية التجديد الرباني في الإسلام ثلاثة: الوحي والعقل والواقع. أما المجالات تجري عليها عملية التجديد، فلا شك أن الدين، الذي هو نصوص الوحي متمثلاً بـ(الكتاب والسنة)، ثابت لا يتغير ولا يقبل التجديد؛ فلا بد أن يكون المقصود بتلك المجالات هو الدين بمعنى حركة الإنسان بالوحي، متمثلةً بشيئين: فهمه وعمله المستند إليه. لذا قيل في العرف: فلان دينه ضعيف، وفلان دينه قوي. أو أهل البلد الفلاني دينهم منحرف، والبلد الآخر دينهم قويم. فيكون المقصود بالدين الذي يتجدد هو الدين الذي عليه الفرد، أو المجتمع في واقعه الذي هو عليه.
[1]– الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. والحديث جمع بين ضعف المتن وضعف السند. رده كبار العلماء، كالدارقطني وابن القطان والترمذي بسبب ما فيه من مجاهيل واضطراب وعدم اتصال. نعم هناك من يحسنه بشواهده، لكن يبقى لا طريق له صحيح السند. والتحسين هنا؛ لخطورة المفهوم، غير معتبر.
عناصر التجديد وموارده
ثانياً : عناصر التجديد .. ومجالات التطبيق
إن العناصر التي تقوم عليها عملية التجديد الرباني في الإسلام ثلاثة: الوحي والعقل والواقع. أما المجالات تجري عليها عملية التجديد، فلا شك أن الدين، الذي هو نصوص الوحي متمثلاً بـ(الكتاب والسنة)، ثابت لا يتغير ولا يقبل التجديد؛ فلا بد أن يكون المقصود بتلك المجالات هو الدين بمعنى حركة الإنسان بالوحي، متمثلةً بشيئين: فهمه وعمله المستند إليه. لذا قيل في العرف: فلان دينه ضعيف، وفلان دينه قوي. أو أهل البلد الفلاني دينهم منحرف، والبلد الآخر دينهم قويم. فيكون المقصود بالدين الذي يتجدد هو الدين الذي عليه الفرد، أو المجتمع في واقعه الذي هو عليه.
عناصر ( الدين ) المتجدد
إن عناصر هذا الدين، أو هذه الحركة: عقل يتكيف بالعلم، وواقع متغير بالمؤثرات([1]). فيتحصل لدينا مما سبق أن الدين حاصل جمع تفاعلي بين عناصر ثلاثة: الوحي: وهذا ثابت، والعقل والواقع: وهذان متغيران: فالعقل يتسع ويضيق تبعاً لخلقته ومحتواه من العلم، والواقع يتغير نتيجة لطروء المؤثرات المختلفة.
مجالات عمل عناصر الدين
الدين أصول وفروع، وعقائد وعبادات ومعاملات، وأخلاق وسلوك وآداب. وعلى هذه المجالات المتنوعة والمتشابكة تجري عملية تفعيل العناصر الثلاثة للتجديد (الوحي، العقل، الواقع). وتتفرع عن هذه المحطة عدة محطات نتناولها فيما يلي بالتفصيل:
1. عنصر الوحي
صحيح أن الوحي – كنص رباني – ثابت، لكنْ ثمت تفاصيل تتعلق بآلية التعامل مع النص وكيفية تنزيله على الواقع، لا بد من استحضارها وتفعيلها في عملية التجديد التي نحن بصددها.. أهم تلك التفاصيل ثلاثة:
أ. الأول: يتعلق بدرجة ثبوت النص:
وهذا مختص بالحديث فقط؛ لأن نصوص القرآن قطعية الثبوت. أما الحديث فمنه ما هو ثابت قطعاً. وهذا هو الذي يصح أطلاق وصف أو مصطلح (السنة) عليه. وينحصر في السنن العملية التي شاهدها الصحابة y ونقلوها بالتطبيق العملي إلى من بعدهم… وهكذا تناقلها أجيال المسلمين نقلاً جمعياً مشاهَداً بالعين جيلاً عن جيل. خذ – مثلاً – كلمات الأذان، ركعات الصلاة، شعائر الحج. يؤسفني أن هذا الفرق بين السنة والحديث نادراً ما يُنتبه إليه عند قرن السنة بالكتاب في قولنا: (الكتاب والسنة).
ب. الثاني: التفريق بين السنة والحديث:
السنة هي ما صح قطعاً من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك في أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله يجب الإيمان به دون تردد، ولكن متى ما ثبت ذلك عنه قطعاً. وما دونه في الثبوت ففيه تفصيل على الوضع التالي:
ينقسم الحديث – عدا القطعي الصحة منه – إلى ما صح ظناً. وهو عامة الحديث الذي يطلق عليه مصطلح (الحديث الصحيح). وإلى ضعيف، وهو قسمان: قسم يحتمل الصحة ظناً، وقسم لا يحتمل غير الضعف قطعاً.
بهذا ينقسم النص الديني إلى ثلاثة أقسام رئيسة ينبغي أن تُعلم بوضوح لا مرية فيه:
- الكتاب.
- السنة.
- الحديث.
فالسنة – كما أسلفت – ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً بالتناقل الجمعي.
والحديث منه ما هو صحيح طبقاً للشروط الموضوعة، وهي ظنية تقبل الاختلاف. ومنه ما هو ضعيف. فالصحيح يختلف عن (السنة) بأنه ظني الثبوت (على قول جمهور العلماء)، وهو ما أجزم به دون تردد. والضعيف منه ما يحتمل الصحة ظناً، ومنه ما لا يحتمل سوى الضعف قطعاً.
إن هذا التقسيم من حيث الأصل لا يكاد يختلف عليه العلماء. إن أي عالم بالشريعة يقر بخصوصية النص القرآني من حيث الثبوت. ويعلم يقيناً أن مما نقل عن النبي u ما هو قطعي الثبوت وما هو ظني. ويعلم كذلك أن من الظني ما هو ضعيف يحتمل الصحة ظناً، وضعيف لا يحتمل غير الضعف قطعاً. لكنه ربما واجهك بالاستغراب والنكير على هذا التقسيم؛ لا لشيء سوى جدته على المفردات والمحفوظات العلمية المستقرة في ذهنه سلفاً! مع أن هذا الفرز مطلوب ضرورة بسبب ما ينبني على الخلط فيه من أمور ضارة تنعكس على الدين والمجتمع. وأن القاعدة العلمية تنص على أنه (لا مشاحَّة في الاصطلاح).
جـ. الثالث: تحديد الوظيفة الخاصة بكل من الكتاب والسنة والحديث:
من الثابت دون خلاف أن الشريعة تشترط لثبوت الأمور الخطيرة من أدلة الصحة غير ما تشترطه لثبوت ما هو دونها. فشروط ثبوت الزنا أشد من شروط ثبوت السرقة. ورؤية هلال الصيام تثبت – عند البعض – بواحد، بينما لا بد من اثنين لثبوت رؤية هلال الفطر. وبعض الأقضية تثبت بشاهد ويمين، وبعضها لا تثبت دون إتمام نصاب الشهادة.
وهنا لا بد من تثبيت ملحظ مهم يتضح بمثال: لو أن ثلاثة من العدول لا رابع لهم اتهموا رجلاً بالزنا وأنهم شهدوا الواقعة كالميل في المِكحلة، فإن شهادتهم ترد ويقام عليهم حد القذف وهو ثمانون جلدة. ولو شهد اثنان من هؤلاء الثلاثة على واقعة سرقة قبلت شهادتهم وأقيم الحد على المتهم.
والملحظ المقصود هو أن القبول والرد لا يقتصر على النظر في مدى توفر شروط الصدق (أو الصحة) لدى الشاهد (أو الراوي) فحسب، بل لا بد من النظر إلى خطورة ( أو منزلة) الموضوع (أو الحكم) الذي يبنى على الشهادة (= الحديث المروي) في الواقعة.
بعبارة ثانية، إن الحكم بالضعف والصحة على الحديث طبقاً للقواعد المعلومة لا يكفي ما لم يكتمل بالنظر إلى تناسب الحديث المروي مع خطورة الحكم الذي يتضمنه. فقد ينقل حديث بسند يحكم على متنه بالصحة ويبنى عليه حكم في واقعة معينة، بينما يُحكم بالضعف على حديث آخر نقل بالسند نفسه في واقعة أُخرى لكنها أخطر من الأولى. فيُحتاط في الثانية ويشدد في شروط صحة وقوعها ما لا يحتاط في الأولى بالدرجة نفسها.
هكذا يجب التفريق بين شروط اعتماد النقل طبقاً للفرق في خطورة أو منزلة الأمر الذي ورد فيه النص. فشروط اعتماد النقل في أمور الإيمان والعقيدة تختلف عنها في الأحكام، وعنها في الآداب. وشروط الاعتماد في الأحكام القاسية تختلف عنها فيما هو دونها، وعنها فيما هو دون الدون. ولا يصح تسوية الجميع أمام شروط ثبوت نقل النص أو تحقق الواقعة.
للأسف يكاد هذا المقياس يختفي من ذاكرة الفقيه والمحدث، لاسيما في العصور المتأخرة، وربما ما هو أقدم منها. والأمر من الناحية التاريخية في حاجة إلى بحث. أما المحدثون فقد درجوا على التساهل في شروط التصحيح إلى درجة الخروج على حد تعريف الحديث الصحيح في كتب (المصطلح). وممن نبه على ذلك ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)([2]). وقعّدوا للتساهل قواعد رخوة قابلة لأن تتناسل عن قواعد أكثر رخاوة منها. هذا مع إهمال النظر إلى التحوط في الأمور الخطيرة. وأما الفقيه فقد لا يملك سوى تقليد المحدث فيقع في المحذور.
لنأخذ – تجنباً للتطويل؛ فالكتاب لم يوضع للتأصيل الفقهي – مثالاً واحداً على ما قلت، وليكن أصول الدين، يتبين من خلاله المقصود بصورة أوضح.
حصر الأصول في محكمات الكتاب
إن وظيفة القرآن الأساسية التي يتفرد بها عن السنة والحديث، إلا على سبيل التأييد والتأكيد أو التفصيل والتفريع.. هي وضع أصول الدين الكبرى، كالتوحيد والمعاد والنبوة وحفظ الكتاب، والواجبات العملية كالصلاة والزكاة والجهاد، والمحرمات كالزنا والكذب والربا.
إن المرجعية الأصولية محصورة في القرآن الكريم فحسب، بآياته المحكمة القطعية فقط لا المتشابهة الظنية. وهذا ما نادى به القرآن في آيات كثيرة كقوله Y: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران:7). وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل:89). وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38).
ونحن بأمس الحاجة في هذا الزمان، ومنذ عدة قرون، إلى هذه المفردة من التجديد ( أي حصر الأصول في محكمات الكتاب)، وإلى أن تشاع على كل لسان. فهذا هو الذي به تظهر بوضوح لا غبش فيه، ويقين لا ريب فيه الفرقة صاحبة الحق الصريح تخفق رايتها تطاول السماء من بين الفرق الكثيرة التي تعيث في ساحة الأديان وما يتفرع عنها من ساحات اجتماعية وسياسية وغيرها من ساحات. وبه نستغني عن هذا الركام الهائل من الردود المرهقة المكررة. أما السنة فمجالها تأكيد وتفريع ما جاء في القرآن من أصول سواء كانت هذه الأصول في العقائد أو العبادات أو المعاملات. وكل ما ليس له أصل ثابت صراحة في الكتاب مما نسب إلى النبي e فهو هراء وهباء.
هذه المفردة هي من أكبر ثمرات التجديد التأصيلي، التي قدمها المشروع السني للأمة في صراعها الحضاري الطويل مع الشرق الفارسي البغيض.
[1]– تجديد الفكر الإسلامي، الدكتور حسن الترابي.
[2]– النكت على كتاب ابن الصلاح، 1/416-419، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق ربيع بن هادي عمير المدخلي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1404هـ/1984م. هذا مع أن ابن حجر نفسه واقع في هذا التساهل.
2. عنصر العقل
للعقل دور كبير في عملية التجديد في مجاليها الديني والدنيوي. وبتلاقح المجالين، وقيام العقل بأداء دوره الصحيح فيهما نشأت حضارة الإسلام. ونأمل أن نعاود الكرة مرة أخرى في دورة التاريخ القادمة متى ما أذن الله تعالى، حين يقوم الإنسان المسلم بما عليه من ذلك.
أولاً: دور العقل في مجال الدين
ويبرز في المحاور التالية:
- تلقي نصوص الوحي، وتعقلها، وفهم معانيها.
- الاجتهاد في تفسير النصوص الظنية وحملها على أرجح معانيها المقصودة.
- الاجتهاد في استخراج الحكم الشرعي فيما لا نص فيه.
- تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع.
ثانياً: دور العقل في مجال الدنيا
هنا يبرز دور العقل أكثر، وذلك في مجالات الحياة الدنيوية مثل العلم والثقافة، السياسة والاجتماع، العسكرية والقتال، المال والاقتصاد، البناء والإعمار، وغيرها من المجالات. قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) (النساء:83). وذلك مع مراعاة ما يلي:
- ما يشير به الوحي أولاً في هذه المسائل. وهذه هي سنة المصطفى وسيرته بين أصحابه ، فعلمهم – وتعلموا – كيف يراعون ذلك. كما سأل الحباب بن المنذر في معركة بدر رسول الله : أهو منزل أنزلكه الله؟ فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فلما أخبره بأن الأمر رأي مطروح للنقاش وليس حتماً نازلاً من السماء أشار عليه بغيره، وأخذ النبي بمشورته. فارتحل من مكانه ذاك إلى مكان أنسب عسكرياً.
- هذا مع الانتباه إلى أن النص الديني في مسألة من المسائل ربما يكون باعثه واقع قد تغير؛ فهو مركب على ذلك الواقع. فالتوصية بالخيل في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (الأنفال:60) ليست مطلوبة ولا صالحة في كل زمان ومكان. وقد قال النبي : (كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله)[1]. ويكون بعض هذا من اللهو الباطل في كثير من ميادين واقعنا، وإلا كان المترفون الذين يصرفون أوقاتهم في سباقات الخيل من أقرب المقربين عند الله جل وعلا.
هنا يأتي دور الأذكياء في استعمال عقولهم وتكييفها بأحدث معطيات العلم. ورفد المسيرة بأنسب الحلول للواقع الذي نعيشه ونعاني منه. ولكن نحتاج الأذكياء العقلاء؛ فما كل ذكي عاقل. وإن كان كل عاقل ذكياً. الذكاء كمية والعقل نوعية، أو هو العامل الذي يبرمج مضامين الذكاء.
ليس كل ذكي مبدعاً. ولكن كل مبدع ذكي. وهكذا كل مجدد: لا بد أن يكون ذكياً عاقلاً عالماً بما اختص فيه. إن كثيراً من الأذكياء تقليديون جامدون. وهذا هو السبب في نشوء طبقات من العلماء الأذكياء غير العقلاء، من أصحاب التصانيف غير النافعة وإن ضخمت لضعف أو عدم مناسبتها للواقع.
3. عنصر الواقع
إن روح التجديد، والمحور الذي ينظم جميع عناصر الإبداع وأسس التجديد، هو ما يظهر لنا من النظر في العنصر الثالث من عناصر الدين (بمعنى حركة الإنسان بالوحي) وهو الواقع.
إن عزل الوحي عن الواقع يحول الدين إلى عبادة محضة، وحركة جامدة لا علاقة لها بالحياة. وهو انحراف يولد الجدل، وينتج البدع. لهذا نزل القرآن منجماً على الحوادث، وكانت تطبيقات النبي متوائمة مع الحدث والبيئة الحاضنة، ومتساوقة مع الهدف المرسوم.
وعزل العقل عن الواقع ينتج الفلسفة، والمنطق الأرسطوي الفارغ، ويجمد الفكر، وما ينتج من ذلك ففكر مترف لا يحل مشكلة ولا يعالج أزمة.
بتفاعل الوحي والعقل مع الواقع، تكون (القضية). وبـ(القضية) يتجدد الدين، ويحصل الإبداع، وتتطور الحياة، وتنبني المدنية، وتزدهر الحضارة.
ميزة جيل التجديد على المعارض اللاديني
المعارض اللاديني: يريد التجديد دون الرجوع إلى الوحي. إنما بالعقل وما اكتسبه وحواه من العلم، في مسرح الواقع المتغير. أما الدين والشريعة فينظر إليها على أنها شيء جامد؛ لذلك هو يريد أن يبعد الوحي عن طريقه. وينظر إلى المتدينين على أنهم رجعيون. ويعمم هذه النظرة دون فرز علمي منصف.
ميزة جيل التجديد على المعارض الديني
المعارض الديني: هو الذي يجمد:
- إما على نصوص الوحي فيفهمها دون اعتبار لدور العقل والعلم من جهة، ولا الواقع المتغير من جهة أخرى، فينعزل عن الزمان والمكان.
- أو على واقع معين في زمان ما، أي مرحلة تاريخية حصلت فيها حركة تجديد ونهوض مشرقة، أو في مكان ما، أي بلد معاصر ظهرت فيه مثل هذه الحركة. فهو يريد أن ينقل أو يطبق ظواهر التجديد فيها على واقعه، دون أن ينتبه إلى التغير أو الفارق الحاصل بين الواقعين بما يجعل تلك المظاهر غير صالحة للتأثير إيجابياً، بل هي لذلك الفارق قد تحولت إلى معوقات في طريق التجديد. مثاله إشغال المجتمع بمحاور الصراع الفكري التي حصلت في القرن الثاني الهجري مثلاً، دون اعتبار لحاجة الناس من عدمها إلى ذلك.
هؤلاء غافلون عن معنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18)، وقوله سبحانه لسيدنا موسى عليه السلام حين أنزل عليه الألواح، وهي جملة واحدة: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف:145) أي أنسبها للواقع أو الواقعة المعينة؛ فيكون أحسن في علاجها وأنسب؛ فينبغي أن يتبع ويطبق دون غيره، وهذا معنى تنزيله على موارده. كما أنهم لا يدركون سر نزول القرآن مفرقاً على الحوادث والأسباب الواقعة.
وللجمود الديني مظاهر أخرى سنتطرق إليها لاحقاً: ضمناً أو تصريحاً.
_________________________________
- – أخرجه الإمام أحمد والأربعة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً، وصححه ابن خزيمة رحمه الله وغيره. ومعنى باطل: أي لا أجر فيه، وليس بمعنى الحرام. ↑
استراتيجية التغيير الجماعي لا الفردي
استِرَاتِيجِيَّةُ التَّغيِيرِ الجَمعِيِّ لا الفَرْدِي
بالنظر التجديدي نفسه، توصلنا – وبالجهد الخاص قبل الاطلاع على علم الاجتماع أو شيء اسمه سيكولوجية الجماهير – إلى أن للمجتمع سنناً أو قوانينَ تحركه وتؤثر به كمجموع غير تلك السنن التي تؤثر بالفرد وتحركه وتغيره. واكتشفنا المعادلات الاجتماعية التالية. وقد بسطناها أكثر في بداية الجزء الثاني من (منهاجنا) عند الحديث عن (الركَائِزُ العِلميَّةُ لِلمَنهَج).
-
المجتمع غير الفرد شخصية وسلوكاً
ولأن المجتمع له كيان وشخصية جمعية يختلف فيها عن الفرد، كما أن الفرد له سلوكان: فردي وجمعي، فلا بد أن يكون الخطاب الموجه إلى المجموع مختلفاً عن الخطاب الموجه إلى الفرد. وعلى هذا الأساس يكون لنا قانونان للتغيير لا قانون واحد.
-
حاكمية المجموع
يسلط المجتمع على الفرد ضغطاً غير مُحس أو منظور يجعله يتصرف ضمن المجموع بصورة تختلف عن تصرفه الذي يعبر به عن نفسه فيما لو كان وحده خارج ذلك الفلك الضاغط. لهذا تجد الفرد عادة ما تذوب صفاته في وسط المجموع أو الجمهور، وتتشكل نفسيته حينما يواجه موقفاً جماعياً تشكلاً جديداً يتقمص أو يتماهى به مع نفسية المجموع، فيمسي تصرفه معبراً عن النفسية الجمعية أكثر مما يعبر عن أصل خصائصه النفسية الذاتية، التي تبرز في المواقف الفردية. مثال ذلك أن الفرد قد يكون شجاعاً، لكنه ضمن مجموع معين (كطائفة أو حزب) يعاني من عقدة خوف أو هزيمة نفسية تجاه أمر ما، أو مجموع ما، ضمن هذا المجموع يتصرف جمعياً كجبان. وهذا هو (الجبن الجمعي) الذي يمكن أن تتصف به جماعة أو منظومة أفرادها شجعان! وهذا يفسر السلوك المتردد والجبان الذي عليه بعض الأحزاب الإسلامية في العراق رغم شجاعة أفرادها. كما يعطي تفسيراً لظاهرة (ركوب الموجة) و(الانتهازية) التي باتت سمة بارزة لها.
-
تغيير المجتمع بين القمة والقاعدة
بعد تكوين ثلة من الأفراد تصلح كقاعدة منظمة قائدة، ينبغي أن يتغير الاتجاه التغييري فيكون من الأعلى إلى الأسفل، أي اعتماد منهجية تغيير قادة ورؤساء ووجوه المجتمع وأصحاب النفوذ والتأثير ، أو -بمعنى آخر – الإمساك بمصادر القوة مباشرة لممارسة التغيير. أما الاقتصار على الخطاب الفردي على طول الخط فلن يغير من وضع المجتمع شيئاً. كما تشير إلى ذلك التجارب التاريخية: الإسلامية وغيرها.
-
التحصين
علينا أن ننشغل اليوم بتحصين الصف السني أولاً ، وتنمية مناعتهم ضد التشيع، وتحذيرهم من الشيعة. ويقدم هذا على هدف تسنين الشيعة وهدايتهم إلى الدين الحق؛ فالوضع الذي نحن فيه يلزمنا باتباع قاعدة (دفع الضر مقدم على جلب النفع). وهذا هو الذي يفجر كل الطاقات – الدعوية وغيرها – باتجاه الشيعة.
إن تحصين السنة هو الأساس الذي يعتمد عليه المنهج. ولا يجوز المساس به، والتقصير بشأنه مهما كلف الأمر. وإلا كنا كمن يسير في فراغ، أو يبني بلا أساس.
-
مبدأ المواجهة ، لا المعايشة
العقد الاجتماعي – كأي عقد – يقوم على أساس موافقة حاصلة سلفاً بين طرفين أو أكثر من أطراف العقد. وتخلف موافقة أي طرف من هذه الأطراف يجعل العقد لاغياً لا قيمة له. وحيث أن (الإمامة) هي الركن الأول في عقيدة الشيعة؛ فعقد التعايش مع الآخر لا أساس له عند القوم يمكن أن يبنى عليه ذلك العقد؛ بسبب أن هذه العقيدة تلزم الشيعي بوجوب قتل المخالف وأخذ ماله بأي وسيلة ممكنة. الشيعة إذن طائفة لا يمكن التعايش معها إلا في حالة واحدة، وهي حين تكون محكومة لا حاكمة، فيفرض عليها العقد من فوق بالقوة لا بالتراضي. مبدأ المواجهة، الذي ينبني على المكاشفة والصراحة والهجوم الواعي والرد بالمثل هو الأسلوب الوحيد الذي يمكنا به أن نحجم من خطر الشيعة ووقف مشروعهم الخطير.
-
فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
دين الله تعالى مبني على تقديم مبدأ إنكار الباطل على مبدأ بيان الحق. كما أن فضح الباطل جاء فيه مفصلاً، بينما بيان الحق جاء فيه مجملاً. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل. وهذا المبدأ مذكور من أول كلمة يطالب بها الإنسان للدخول في رحاب الإسلام : “لا إله إلا الله”. والله تعالى يقول: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256). ويقول: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). ويقول: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37). فبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
-
مبدأ الهجوم لا الدفاع
الناظر في دعوات الأنبياء ب، وكل الدعوات التغييرية – الإصلاحية منها والإفسادية – يجد أنها لم تقف من مجتمعها أبداً موقف الدفاع، وإنما بدأت بتحديد مواطن النقد أو الخلل، ثم راحت تهاجمها علناً وعلى رؤوس الملأ. والقرآن الكريم وسيرة النبي e وغيره من الأنبياء ب تشهد بوضوح على ذلك.
-
الخطاب الشجاع أو الصدع بالأمر
عندما تجمع في صفحة واحدة بين عقدة النقص الجمعية الشيعية، والهزيمة النفسية الجمعية السنية تجد أن الوصفة الأفضل لعلاجهما دواء واحد يصلح لكليهما مرة واحدة، ولا حاجة لتعدد الأدوية وتشتيتها. ذلكم هو (الخطاب الشجاع)؛ فالشيعة يعبدون القوة ولا ينفذ إلى نفوسهم وعقولهم أي خطاب ضعيف أو متردد أو يحاول الالتقاء في منتصف الطريق. والسنة في حاجة ماسة إلى قوة ترفع معنوياتهم، وتخرجهم من إفرازات (الشخصية الأبوية) التي لا تناسب الحال التي هم عليها من زوال ملكهم وتهميشهم وإقصائهم توصلاً إلى إلغائهم من معادلة الوجود الاجتماعي والسياسي بجميع لوازمه ومعانيه. ولا يمكن أن ينتفع بها الشيعة الانتفاع الإيجابي الذي يبني الحياة ويحقق السلم المجتمعي. إضافة إلى عدم موافقتها لأحكام الدين في الدعوة ولا قواعد التغيير.
وهذا ما قررته مبادئ علم الاجتماع الحديث، وتحديداً علم (سيكولوجية الجمهور). وهو عين ما جاء في قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). قال ابن منظور في (لسان العرب): صَدَعْتُ الشيء: أَظْهَرْتُه وبَيَّنْتُه. وصَدَعَ بالأَمرِ يَصْدَعُ صَدْعاً: أَصابَ به موضِعَه وجاهَرَ به. وصَدَعَ بالحق: تكلم به جهاراً. وفي التنزيل: (فاصدع بما تؤمر)؛ قال بعض المفسرين: اجْهَرْ بالقرآن، وقال أَبو إِسحق: أَظْهِرْ ما تُؤْمَرُ به ولا تَخفْ أَحداً، أُخِذَ من الصَّدِيع وهو الصبح. وقال ابن عرفة: أَي فَرِّقْ بين الحق والباطل من قوله عز وجل: (يومئذ يَصَدَّعون)، أَي يتفرَّقُون. وقال ابن الأَعرابي في قوله: فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ، أَي شُقَّ جماعتهم بالتوحيد. وقال غيره: فَرِّقِ القول فيهم مجتمعين وفُرادى. فالصدع إذن هو الإظهار والبيان الواضح المؤكد، والجهر بالقول دون خوف من أحد. وهذا هو الذي يفرق بين الحق والباطل بياناً، ويشق جماعة المبطلين حالاً.
-
مبدأ التكرار والطرق المستمر
ولا يكتمل أثر الصدع بالفكرة إلا مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
-
التأكيد على وجود عدو واقعي محدد
الحب أساس الدين، هذا صحيح، ولكن الحب لوحده لا يكفي لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. فما إن أهبط أبونا آدم u إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
هذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. بل إن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع.
من شرط العدو أن يكون محدداً باسمه، وواقعياً ضمن القطر، وليس وهمياً خارج حدود البلد، كما يشغل العراقي بعداوة اليهود تاركاً الشيعي يصول ويجول في بلده.
-
المشكلة جزء من معادلة الحل
يقول تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
كل دعوة نجحت على مر التاريخ شكلت في زمانها مشكلة اجتماعية كبيرة في مجتمعها في أول مرحلة من مراحلها!
-
صنع النموذج الجغرافي
كل دعوة نجحت تمكنت من صنع نموذج لها في مكان ما. ثم تتابعت بقية المناطق تحذو حذوها، وتستنسخ تجربتها. ولا بد أن يكون هذا المكان بحيث يكون محطاً للأنظار، وتسليط الأضواء، وقريباً من ملتقى الناس، وفي مجمع الطرق. وله قدرة مناسبة على التعشق ببقية المناطق. ويمتلك جاذبية خاصة في حياتها: اقتصادية أو دينية أو سياسية أو غير ذلك؛ حتى تتهيأ للناس فرصة التأثر المستمر بما يحصل فيه من تغير جديد.
-
تكوين مؤسسة رائدة
إن هذه القواعد الذهبية والتقريرات المنهجية التي استخلصناها من رحم المعاناة، وعصارة الفكر، وطول النظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه e وسيرته وسيرة الأنبياء عليهم السلام والمصلحين، ستظل هائمة دون إحداث الأثر المطلوب، ما لم يتم تبنيها من قبل مؤسسة أو جماعة تنشأ بناءً على ذلك المنهج وتلك القواعد. لقد علمتنا التجربة أن قوة الكلمة عند أكثر العالمين لا تنبع من ذاتها، إنما تستمد قوتها من وزن قائلها، وكم وراءه من رجال وأتباع.
-
تخلف المنهج الترضوي
يقابل هذا المنهج الرباني العظيم منهج متخلف هزيل، لكنه متفشٍّ كالسرطان في أوساط السنة في العراق وخارجه، يقوم على فكرة بائسة فاشلة رغم كل محاولات التجريب على مدى أزمنة متطاولة، هي التقريب بين السنة الشيعة، مهما كان الثمن: كتماً للحق، وتحريفاً للحقيقة، وتضييعاً للحقوق. ذلكم هو (المنهج الترضوي).
منهج تقليدي جامد، متخلف غير مبني على معطيات العلم، وإنما على الفوضوية والتقليد والتقاط النصوص والشواهد من هنا وهناك على قاعدة (التفكير الارتغابي). يتطير من التجدد والإبداع. يقاوم كل فكرة جديدة يتوهمها مهددة لوجوده. يجهل الحقائق والقواعد العلمية السابقة: الفكرية والنفسية والاجتماعية. يغرس (الجبن الجمعي) في نفوس أتباعه فهم فاقدون للشجاعة الأدبية فيما يتعلق بكيانهم وسنيتهم، حتى أوصل السني إلى دركات خطيرة من الشعور بالنقص والهزيمة النفسية إلى حد أنه يخجل من نفسه والتصريح بسنيته!
آن الأوان لخلع هذا المنهج البائس ورميه في مزابل النسيان. والتأسيس للمنهج الرباني النبوي الذي بدأت بشائره بالظهور والانتشار والاستعلاء. وقد عجل من نضوجه في أذهان الجمهور هذه الأحداث العاصفة التي جعلته يقتنع شيئاً فشيئاً بعدم جدوى ذلك المنهج الخانع البئيس، ويتطلع إلى منهج جديد ينتشله من واقعه الخطير.
التجديد والقضية
التَّجدِيدُ وَالقَضِيَّة
بالنظر التجديدي إلى واقع العراق والدول المحيطة به، ذلك النظر العقلاني الذي يرجع إلى الشرع ملتزماً بأوامره ومراعياً حدوده، ويتأثر بالواقع ويتكيف – سعة وعمقاً ودقة – بالعلم: اكتشفنا أهم الأفكار التي تتعلق بـ(القضية) تنظيراً وتطبيقاً. وهذه خطوط عريضة سريعة ومركزة لتلك الأفكار([1])، التي بغيابها غبنا– نحن السنة في العراق – عن الوجود كحقيقة معتبرة وواقع مؤثر، فعاد كياننا هشاً هامشياً لا يملك من أمره شيئاً، يتلاعب بمصيرنا شذاذ الآفاق وأسافل الخلق.. وما عدنا نقود الحياة:
-
الدين قسمان: عبادة وقضية
ودليله قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُـرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81) وغيره من الآيات وهو كثير. لكننا في العراق نعيش مفارقة كبيرة أدت إلى ذلك الغياب عن قيادة الحياة، نبه إليها الشهيد إياد العزي رحمه الله بقوله: (السنة عبادة بلا قضية، والشيعة قضية بلا عبادة).
-
كافر ينصر (القضية) خير لنا([2]) من مسلم يعيش لنفسه
ودليله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:72). فقطع الله تعالى الولاية والنصرة الكاملة بين المسلمين الذين أرادوا الإسلام مجرد عبادة دون تحمل تكاليف (القضية) فلم يهاجروا، وبين المهاجرين والأنصار أصحاب (القضية). قال ابن العربي في (أحكام القرآن)، وكذا قال غيره من المفسرين كابن كثير والقرطبي والشوكاني: (يُرِيدُ إنْ دَعَوْا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لاسْتِنْقَاذِهِمْ، فَأَعِينُوهُمْ؛ فَذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَرْضٌ، إلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَلا تُقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ حَتَّى يَتِمَّ الْعَهْدُ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ).
-
الواقع يسبق الوحي ، وليس العكس
الواقع يحدد (القضية)، والوحي يضع أسس الحل. وبذلك يكون الواقع سابقاً لا لاحقاً في علاقته بالوحي. وأسباب النزول تفصح بوضوح عن هذه الحقيقة. والعقل يستفيد من هذا كله في تحديد القضية، وتنزيل أسس الحل على الواقع، والتوسع في تفاصيله بالاستفادة من معطيات العلم، ووضع كل شئ في موضعه مكاناً وزماناً.
-
عناصر القضية
تتكون القضية من هدف اجتماعي يحتاج إلى تحقيق. ومعوق يحتاج إلى إزاحة عن الطريق. فالقضية تقوم على ركنين اثنين هما:
- هدف أعلى: مأمور كل مسلم بتحقيقه.
- وواقع أدنى: يتم من خلاله تحقيق ذلك الهدف.
أما الهدف الأعلى فثابت لا يتغير بالنسبة للمسلم، ألا وهو إقامة الدين وتحقيق مقتضيات ألوهية الله تعالى وحاكميته في أرضه: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف:84). ونعبر عنه أيضاً فنقول: هو إقامة دولة الإسلام طبقاً لمراد الله وشرعه. وهذا ثابت لا يتغير. وبه تفترق الربانية (التي يسمونها إسلامية) عن العَلمانية.
وأما الواقع الأدنى فمتغير، وينتظم فيه عنصران اثنان هما:
- التحدي أو المعوق الذي يعترض طريق الهدف.
- الاستجابة المطلوبة تجاه التحدي، أو إزالة المعوق القائم في الطريق.
-
الأولوية للمشكلة الواقعية الكبرى
يحتاج المرء وهو يواجه التحديات والمعوقات إلى أمرين اثنين:
- أن يستوي قصده إلى التحدي أو المشكلة الكبرى في المجتمع فيجعلها المحور الذي ينتظم باقي التحديات والمشاكل الأدنى. وهذا هو التشخيص. وهو نصف العلاج. أزمة (الإسلاميين) في العراق اليوم البحث عن علاج لمرض يخطئون في تشخيصه فلا يهتدون إليه.
- أن يستجيب لهذا التحدي الاستجابة الصحيحة المناسبة. وهذا هو العلاج، الذي ينبغي أن يكون بديعاً متطوراً.
عندما يكون التشخيص صائباً والعلاج دقيقاً، نكون قد سلكنا طريق الحل.
-
تغير القضية بتغير الواقع
بتغير الواقع يتغير التحدي، فتتغير – تبعاً له – الاستجابة المطلوبة. وما لم تتغير الاستجابة تبعاً لتغير التحدي، نصاب بالجمود، وننعزل عن الحياة، ويتحول الدين إلى عبادة محضة تشيع فيها البدع والمحدثات.
(القضية) إذن تتغير بتغير الواقع أو المجتمع. وهذا هو الدين الذي يتجدد. فمن لم تكن عنده قضية فليس على الدين المتجدد القويم. إنما هو على دين جامد سقيم، في حاجة إلى تحريك وتجديد.
-
دور المجددين
هنا يأتي دور المجددين. وهو دور الأنبياء نفسه: فالأنبياء ب يعيدون الناس إلى الدين كلما ابتعدوا عنه. أي إعادتهم إلى:
- الوحي كلما أصابه التحريف نصاً أو تأويلاً.
- والهدف كلما حصل الانحراف عنه غياً أو تضليلاً.
- والقضية كلما تركت خوفاً أو جهلاً وتجهيلاً.
بهذا نكون قد جمعنا بين الواجبات الثلاث: الاتباع والاجتهاد والجهاد.
-
مبدأ قاعدة الانطلاق ومحور الحركة
لا بد لكل (قضية) من (قاعدة) فكرية تستند إليها وتنطلق منها عند نقطة الشروع. ولا بد لها – أيضاً – من محور يدور حوله الجهد الفاعل بعد التحول من تلك النقطة إلى ميدان الحركة.
إن القاعدة التي انطلق منها النبيون جميعاً هي توحيد الله تعالى كما أخبر سبحانه فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).
وإذا كان التوحيد أو العقيدة هي قاعدة الانطلاق لقضية المسلم، فإن المحور الذي تدور حوله حركته هو المشكلة الواقعية الكبرى من أجل مواجهتها أو إيجاد حل لها. وهذه تختلف من نبي إلى نبي تبعاً لاختلاف مجتمعاتهم وأنواع المشكلة التي عانى منها كل مجتمع من تلك المجتمعات. أي إن القاعدة ثابتة والمحور متغير.
-
اتفاق الأنبياء في قاعدة الانطلاق واختلافهم في محور الحركة
لقد اختلف الأنبياء في المحاور التي دارت حولها قضاياهم مع اتفاقهم في قاعدة الانطلاق. لقد اجتمعوا في القاعدة أو المنطلق الذي هو التوحيد أو العقيدة. وافترقوا في القضية أو المحور الذي هو المشكلة الاجتماعية التي انصرفوا لعلاجها.
كما أن الأنبياء ب اجتمعوا في أهدافهم العليا، لكنهم اختلفوا في قضاياهم الكبرى كل حسب واقعه ونوع التحدي الموجود فيه: فقضية موسى u كانت سياسية، بينما قضية شعيب uاقتصادية، وقضية لوط u كانت خلقية.
وكما قد يختلف نبيان في قضيتهما، كذلك قد يختلف مصلحان – كل في بيئة – في قضيتهما. وهكذا تكون الحاجة لازمة لتجديد الدعوات باستمرار.
-
محورية القضية لا تستلزم إهمال القضايا الجانبية
إن وضع اليد على المحور وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة أو مغلفة لا حراك فيها.
-
لا بأس بتعدد القضايا بشرط الدوران في فلك القضية
عادة ما توجد قضية محورية كبرى وإلى جانبها قضية أو قضايا جانبية أصغر منها. نعم مشكلتنا الكبرى هي الشيعة، وهي أكبر من كل المشاكل والتحديات. هذه هي قضيتنا المركزية في العراق. لكن هذا لا يلغي الاهتمام ببقية المشاكل والتحديات. بل على العكس ينمي الاستجابة لها ويرَشِّدها.
-
القضية عامة وخاصة
للأمة قضاياها. ولكل بلد ينتمي إلى الأمة خصوصيته وقضيته طبقاً لتلك الخصوصية.
ومطلوب منا في أي بلد نكون أن نتفاعل مع قضايا أمتنا وإلا فقدنا هويتنا وانتماءنا وقوتنا ووحدتنا. لكن لا يصح أن نكون أمميين إلى الدرجة التي ننسى فيها قضايانا الخاصة، أو نقصر فيها، أو نتلهى عنها بحجة أننا مشغولون بقضية الأمة التي قد لا نستطيع عملياً أن نفعل لها أكثر من التفرج واجترار الأحاديث. إذن ليس كل ما هو أول مرتبياً، هو أول عملياً. وفي غياب هذه القواعد تحولت فلسطين إلى (ثقب أسود) يمتص طاقات الأمة على حساب التوزيع العادل على قضايا العرب والمسلمين أجمعين. لهذا حصل تسطيح فاضح لبقية القضايا – كقضية الأحواز مثلاً – وتهميشها وصرف الأنظار عنها، صرفاً يصل أحياناً إلى حد النسيان التام.
-
بطلان نظرية ( القضية المركزية )
عشنا عقوداً طويلة على مصطلح (القضية المركزية) للأمة وكون فلسطين هي تلك القضية. إن عدم واقعية هذه الفكرة – بغض النظر عن كون بعض دعاتها صادقين أو غير صادقين في ادعائها – هو الذي انتهى بها إلى هذه النهاية، فما عادت تتردد على الألسن إلا قليلاً، وإن ترسخت في العقل الجمعي العربي، وكان لذلك أثمان دفعها البعض واستفاد منها آخرون.
السبب في عدم صوابية فكرة (القضية المركزية) مضافة إلى الأمة بسيط جداً هو عدم وجود هذه الأمة المضافة إليها تلك القضية. وبعدم المضاف إليه يكون عدم المضاف ناتجاً طبيعياً، وأمراً تلقائياً. كل ما موجود من الأمة منذ سقوط الدولة العثمانية هو أقطار مفصولة عن بعضها بحدود تجعل من كل قطر أمة بحالها. ليست الأمة حاصل جمع عددي لأرقام بينها فوارز. بل متى ما أزيلت تلك الفوارز والفواصل كانت الأمة وكان لها قضية مركزية، وقضايا أُخرى دونها في المنزلة.
الصحيح، في غياب وجود الأمة: إطاراً ومضموناً، أن لكل بلد قضيته المركزية، وعلى أهله أن يقدموها على كل قضية. وفي الوقت نفسه يتفاعلون مع القضايا الخارجية على حسب طاقتهم متى ما أدوا المطلوب منهم داخلياً، ووجب عليهم نصرة تلك القضايا، وبشرط أن يكون التفاعل من الطرفين لا من طرف واحد.
-
نفكر عالمياً ونتحرك محلياً
ولهذا قيل: نفكر عالمياً ونتحرك محلياً. إنها معادلة ذكية من عقل راجح. فتذكر دوماً أن نجاح عالمية فكرك في نجاح محلية حركتك. فلا نجاح عالمياً لم يسبقه نجاح محلي. وهذا مسارنا.
-
بلدنة القضية وعرقنتها
تتنازع بيئتنا الدينية العراقية ثقافات وافدة متعددة. وهذا شيء طبيعي، يجعل الثقافات تتلاقح فيما بينها فتقوى وتشتد وتتوسع وتتطور.. بشرط أن لا تبتلع الثقافة الوافدة الثقافة السائدة، فنقع في مطب التغريب. الذي يجعل أهل العراق يفكرون في قضايا الخارج العربي أو العالمي أكثر من قضية الداخل العراقي، فينشغلون بقضايا جانبية بالنسبة إليهم، وإن كانت مركزية بالنسبة لغيرهم، أكثر من انشغالهم بقضيتهم المركزية. ولك أن تضع بدل (العراق) أي بلد آخر أنت فيه وتطبق عليه هذا التقعيد.
حين تنتقل الطروحات الفكرية مجردة عن واقعها، عن طريق (الاستنساخ) و(النقل) الحرفي المباشر دون النظر إلى جوانب الافتراق التي يفرضها طبيعياً اختلاف البيئتين تحدث مشكلة لا تحل إلا بإدراك أهمية ما يمكن أن نطلق عليه (بلدنة الثقافة).
إن التعامل الحرفي مع الثقافات الوافدة، دون اعتبار لاختلاف الواقع هو الذي أدى بالفكر العراقي: دينياً وعلمانياً إلى أن يكون – في عمومه – فكراً ترفياً جامداً يراوح في مكانه، محنطاً لا يتفاعل مع الحياة، مشلولاً بطيء الحركة في بلاد الرافدين.
-
قضيتنا شرقية لا غربية
بهذا نصل إلى الحقيقة التالية التي تنتصب الآن ماثلة للعيان، وهي أن قضيتنا المركزية نحن العراقيين – ومن على شاكلتنا كأهل الأحواز والخليج العربي – شرقية أكثر منها غربية.
ومن درس التاريخ أو قرأه، وعاش الواقع عيشة معاناة ورصد وتحليل وربط بينه وبين الماضي أدرك هذه الحقيقة، وعجب كيف يغفل عنها أصحاب (القضية)!
[1]– تناولت هذا الموضوع في كتاب ( لا بد من لعن الظلام ) وغيره. وسأكتفي هنا – قدر الإمكان – بعناوين الموضوعات الموجودة هناك منعاً للتكرار، فيرجع إليها في أصلها.
[2]– أرجو ملاحظة قيد (لنا)، التي تعني الخيرية مقيدة بالميثاق، لا مطلقة.
آفات التجديد
آفَاتُ التجدِيد
للتجديد آفات خفية تقرضه وتأكل منسأته. وبغلبة هذه القوارض الآكلة على أي حركة تجديدية تتحول – بعد حين من الدهر – إلى ممارسة تقليدية تعاني من الرتابة والجمود؛ لأنها خضعت لقانون (طول الأمد) وبذلك يحق عليها قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).
هل لنا أن نشخص هذه الآفات حتى تكون ضمن دائرة الرصد الدائم فنعالجها قبل أن تستفحل، وبذلك يمكن أن نضمن لحركتنا التجديدية الاستمرار والدوام إلى ما شاء الله من الأزمان والحقب؟
بالمعايشة والمعاناة الواقعية والرصد الميداني والنظر في تجارب الأمم، لا سيما تجربتنا الإسلامية، وتقليب الفكر والنقاش الإيجابي توصلت إلى مجموعة آفات أهمها ما يلي:
- التقديس
- قصور النظر (أو تخلف العلم)
- هبوط الهمة (أو ضعف العزم)
- الفردانية (افتقاد المنظومة أو المؤسسة)
- الاستحمار (أو خلو الفكر من القضية)
- التقوقع (أو عدم التواصل مع الخارج)
وفيما يلي وقفات قصيرة عند كل واحدة من هذه الآفات:
- التَّقدِيس
التقديس.. آفة التجديد ونقيضه. ولن تجد مجدداً أو حركة تجديدية تعرف التقديس لغير الوحي وحملته من الأنبياء والمرسلين.
- التقديس يُشل الفكر ويعطل الحركة.
- وأهل السنة – إذ يعاني الشيعة من العصمة – يعانون من آفة التقديس. وإن كانت النسبة بينهما متفاوتة. فما هي هذا الآفة؟
إن مفهوم التقديس لدى السنة يشبه العصمة عند الشيعة. صحيح أنك لا تجد سنياً يقر بعصمة أحد من الناس، لكن المشكلة أنك عند التطبيق تجد كثيرين منا يضيقون بمن ينسب خطأً ما إلى صحابي أو إمام من أئمة الدين. وقد يصل الضيق به إلى حد الاتهام والمقاطعة.
وبين هذا وذاك يوصي ديننا بمبدأ (الاحترام)، وهو غير التقديس العصموي البدعي. وقد فصَل القرآن العظيم وميّز بينهما بقوله تعالى بعد ذكر المهاجرين والأنصار: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
تأمل كيف جعلت الآية العلاقة بين اللاحق والسابق علاقة استغفار يمتزج بالحب الخالي مما يضادده (الغل). والاستغفار إنما هو من الزلل. وهكذا يتجدد البناء ويستمر العطاء. نحن إذن نؤسس على بناء الأولين ونعدل فيه، ونحبهم ونستغفر لهم ونثني عليهم.
لكن الناس في موقفهم من الصحابة y فمن بعدهم من الأسلاف ثلاثة أصناف: طرفان ووسط. فالشيعة يسبونهم، فهذا طرف. وهناك من السنة من لا يتحمل نسبة الخطأ إلى واحد منهم (وهذا هو التقديس البدعي)، وهو طرف. والصواب أن نحبهم ونحترمهم ونقتدي بهم ونتبعهم، ولكن لا نرفعهم فوق مستوى أن يخطئوا (وهذا هو الاحترام الشرعي).
- التقديس يؤدي إلى الجمود على تراث المجدد أو المؤسس الأول. وبهذا تفقد الحركة عنصر التحرك الإيجابي، إذ يتحول جهدها إلى حركة في فراغ؛ لانعزالها عن الواقع الذي تتحرك فيه. إن فكر أي عالم مهما بلغ من العلم يعتريه عاملان يتطلبان التقويم المستمر:
- فهو بشر عادي غير معصوم. وهذا يستلزم وجود أخطاء وفجوات في الفكر التجديدي من الأساس.
- إن كل فكر بشري، وإن استند إلى الوحي، يمتاز بالقصور عن علاج أدواء أُخرى خارج نطاق واقعه: مكاناً وزماناً. فاختلاف المكان يعني اختلاف نوع المشكلة ولو في بعض جوانبها؛ وهذا يواجه بتعديل العلاج. وكذلك اختلاف الزمان ولو في المكان الواحد.
وإذ يؤدي التقديس إلى الاستنساخ الحرفي لفكر المجدد الأول، فالنتيجة تخلف التجربة الأولى (بسبب الخطأ الأصلي أو القصور النسبي) عن التجاوب مع التحديات المستجدة. وهذا يقتل التجربة أو يضعف حيويتها ويعيق قابليتها على العطاء والاستمرار.
أُذكِّر بأننا قلنا – سابقاً – إن المجدد هدام بناء. فهو يهدم لأجل البناء، وهذا هو الهدم الإيجابي أو البنّاء. والتقديس يعطل القدرة على الهدم البنّاء؛ وذلك يؤدي إلى توقف عملية التجديد الضرورية للاستمرار؛ بعد أن يكون التجديد قد فقد أهم عناصره الحيوية.
- إن تقديس الفكر يستتبع تقديس البشر. فالتقديس يصنع من البشر أصناماً يتجاوز بها بشريتها. وحين يتحول المؤسس في نظر مؤسسته أو أتباعه إلى صنم تموت القضية من الأصل، وتتشرذم المنظومة، وتسقط في نفق الصراعات الداخلية. وبذلك يكون الهلاك.
لا بد إذن من أن نستعمل الإزميل أو المطرقة الصغيرة، للتعامل مع البروزات والفجوات الفكرية والعملية في بناء التجربة كي نحذف ونضيف بتُؤَدة وهدوء، وبهذا يتعزز البناء ويعلو صعداً. وعلينا ألا نضيق بذلك، بل نشجعه ونفرح به، بل نبحث عمن يجيد ذلك من البنائين. وإلا اضطَرَرنا الآخرين، أو اضطررنا نحن، لأن نمسك بفأس أبينا إبراهيم u، ونرفعها لنهوي بها على أصنام وأزلام الفكر العقيم، كي نقيم محلها بناء قويماً من الفكر السليم، القادر على الرؤية التي تفرز الصالح لتبقيه من الفاسد لتعزله وتزيله. وتضيف إلى ما تبقى ما تحتاجه عملية التغيير والبناء والتطوير من أفكار إبداعية خلاقة.
- كثيرة هي آثار آفة التقديس التي تعطل حركة التجديد، ليس آخرها احتقار الذات. كم منا من لم يسمع من الأساتذة مقولة: (أين نحن من أولئك)؟ وهل ثمة أكثر من الخطباء والمتحدثين الذين يفترون في كل خطبة وحديث عن جلد أنفسهم ومخاطبيهم؟ يصمونهم بالتقصير الفاضح عما فعل الأولون إلى درجة الإحباط وزرع اليأس في النفوس! فالمقدسون للأسلاف يعانون من احتقار لاواعٍ لذواتهم يمنعهم من ممارسة الإبداع والتجديد؛ لأنهم فاقدو الثقة بأنفسهم من الأساس. و(يسقطون) هذا الاحتقار بطريقة لاواعية أيضاً على غيرهم لا سيما أتباعهم. وهكذا يسدون على أنفسهم وغيرهم منافذ العمل الإيجابي المبدع، وتختفي حالة الإبداع ليحل محلها الاستنساخ والتقليد.
لا مناص إذن من المسارعة إلى مكافحة التقديس هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة، واستبدال الاحترام بها؛ لتتواصل الأجيال فيما بينها بحلقات متتابعة من سلسلة التجديد التي ما كان لها إلا أن تدوم.
2. قصور النظر ( أو تخلف العلم )
2. قُصُور ِالنَّظَرِ
العلم الحقيقي يقوم على استنطاق النصوص لا على حفظها فقط.
والعلم الحقيقي يقوم على مواجهة الواقع ومعالجته، لا الهروب منه أو تجاهله.
العلم – بمعناه الشرعي – هو الفكر الناتج من تحريك العقل في ميدان الواقع، ثم إعادة ذلك الناتج لغرسه في ذلك الواقع ورعايته وتزكيته: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9،10).
حفظ النصوص وترديد ما قاله الأولون، أو عزلها عن الواقع، يؤدي إلى (استنساخ) التجارب و(حَرْفية) النقل دون اعتبار للزمان أو المكان. وذلك هو الجمود المناقض للتجديد.
ضوابط (القراءة) أو العلم
إن أول رسالة وصلت الأرض بالسماء، على فترة من الرسل، كانت (اقْرَأْ) (العلق:1). إنما قراءة مقيدة بثلاثة أمور أساسية:
- قراءة العابد الخالص: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:19).
- قراءة تحرك العقل للنظر في آيات الكون وتدبرها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5).
- قراءة عملية حيوية هدفها الواقع لتدرسه وتتعرف عليه أولاً، بأهم عناصره وهو (الإنسان): (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6). وثانياً: لترى ما فيه من تحديات ومن فيه من أعداء كي تتصدى لهم وتواجههم. وبذلك تولد (القضية): (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) (العلق:10،9).
العلم هو الذي يصل الإنسان بإنسانيته، بأن يحمله على تبني (قضية) مجتمعه. وما عداه ففلسفة وترف، الإسلام أبعد ما يكون عنه.
معالم مفصلية
إليكم هذه الأسئلة والنقاط أو المعالم الفكرية المفصلية:
- أنزل الله جل وعلا كتابه العظيم مفرقاً ليقرأه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم على الناس على مكث، ولم ينزله جملة واحدة. لماذا؟ من أجل أن يدربنا على إعمال الفكر في نصوصه المنزلة لنأخذ بـ(أحسنها) وأنسبها للواقع؟ لا أن نخر عليها صماً وعمياناً.
- لم يكتب لنا النبي صلى الله عليه وسلم (تفسيراً) للقرآن، وهو أعلم الخلق بمراد الرب بكلامه. لماذا؟ لقد ترك ذلك الكتاب العظيم مفتوحاً على فضاء الاجتهاد والتفكر والتدبر وتنزيل الوارد على المورد. وهذا أحد الأسباب. فإذا كان كتاب الله عز وجل لا يصح أن نتعامل معه بطريقة (الحفظ) فقط، والنسخ الحرفي لمعانيه التي نقلت إلينا من أسلافنا، فما دونه أولى.
- يتكلم الفقهاء عن شيء اسمه (واجب الوقت). وهذا يعني أن لكل ظرف وتحدٍّ ما يتطلبه من عمل واستجابة. وكما يقال: “لكل حادث حديث”.
كان الدعاة في العراق – ومن شتى المشارب – يركزون على (واجب الدعوة)، وهو حق. وعند وقوع العراق تحت الاحتلال وتغير الظرف في تحدياته وحاجته إلى استجابات أُخرى، رأينا كثيراً من الدعاة مع حفظهم لقاعدة (واجب الوقت) بقوا على (واجب الدعوة) وتغافلوا عن بقية الواجبات. قال لي يوماً الأخ الشيخ إياد العزي رحمه الله ونحن في مركز الكرخ الجنوبي للحزب الإسلامي الذي كان يترأسه: نحن اليوم إلى (رجال دولة) أحوج منا إلى (رجال دعوة)، لكن كثيراً من رجالنا لا يحسنون الانتقال من الدعوة إلى الدولة.
فجوة التفعيل
من خلال التجربة لاحظت أن القابلية على المعرفة لا تكفي دون القابلية على إعمالها وتفعيلها لتحويلها إلى حركة حيوية منتجة. وهذه نقطة مفصلية تمثل إحدى محطات الجمود، حين تُغفَل، أو التجديد، حين تُعمَل. من حيث إننا لاحظنا أن بعض العلماء الذين لهم القدرة على توليد الأفكار، ليس لديهم القدرة على تطبيقها عند الممارسة. إن هناك فجوة يمكن أن نطلق عليها: “فجوة التفعيل” بين الوعي بالفكرة وبين التحمل الفكري والنفسي للعمل بها!
خذ مثلاً تعريف الحديث الصحيح، وهو (الحديث المسند المتصل برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة). يقول العلماء أن المراد من “الشذوذ”: مخالفة الراوي الثقة لمن هو أوثق منه. وهذا يشمل المتن كما يشمل السند. أما “العلة” فهي السبب الخفي الذي يقدح في صحة الحديث، مع أن ظاهره السلامة من مظاهر الضعف. وهي كذلك تشمل السند والمتن. والواقع يثبت أن كثيراً ممن (يحفظ) هذا التعريف ويعرف معناه، يكتفي بتطبيق القاعدة على السند.. ولا يتحمل العبور بها إلى المتن! ومن هنا دخلت علينا آفات (المناقب والفضائل).
وبذلك وجدنا أن من رفع شعار (من الوحي إلى الواقع) لم يُجِدْ تطبيقه وتفعيله. وبقي الطرق مقتصراً على (المنظومة الغربية) في مكان قضيته الأولى شرقية لا غربية!
بهذا نؤسس لحاجة الحركات التجديدية إلى مجددين يجمعون بين:
- توهج الفكر 2. وقوة العزم 3. والميدانية أو الواقعية.
فبالفكر المتوهج تكتشف الحقيقة، وبقوة العزم يثبت الحق، وبالميدانية يكون الفكر واقعياً لا تهويمياً خيالياً، ومجرباً لا افتراضياً؛ فالسلاح لا يدخل ساحة المعركة قبل استعماله في ميدان التجريب.
3. هبوط الهمة أو ضعف العزيمة
3.هُبُوطِ الهِمَّة
أ. التشخيص
إن الفكرة المشرقة لا تكفي لإحداث التغيير التجديدي ما لم يتم اختبارها على أرض الواقع. بذلك وحده نعرف مدى صلاحيتها، وحاجتها إلى التعديل والترصين، وحتى التبديل إن استدعى الأمر.
بقي أن نعرف أن هذا الاختبار لا يمكن أن يصدر إلا من شخص رابط الجأش، شجاع النفس، عالي الهمة، اقتحامي الشخصية، يقوم بممارسته في المجتمع المشحون بالمعارضين، لا سيما في زمن التقهقر والجمود. إذ يقوم هؤلاء المعارضون الجامدون بالرد والاتهام وتشويه السمعة والتحريض جهلاً أو غيّاً. ومنهم من لا يتردد في استعمال القوة! هذه الأساليب المزعجة والخطرة يهابها كثير من المفكرين ذوي العقل الوهاج والذكاء اللماح، فيكونون أمام خيارات انهزامية متعددة:
– إما يسكتون وينكفئون.
– أو ينعزلون مكتفين بالنظر إلى حركة المجتمع من فوق أو من بعيد تجنباً لأشواك الاختلاط بالمجتمع ومواجهته.
– ومنهم يحاولون دفع غيرهم للأمام، أما هم فيقفون للتفرج من خلف ثقوب الجدران.
ولا غرابة؛ فلقد أخبرنا القرآن الكريم عن صفة فطرية في الإنسان هي جنوحه للطرق المتيسرة والوسائل السهلة لبلوغ أهدافه، ورغبته في الابتعاد عن المشاق والطرق الوعرة والوسائل الصعبة كما في قوله تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (الأنفال:7). وذلك في سياق آيات تشحذ العزيمة وترفع الهمة تعقيباً على معركة بدر الكبرى.
كن في صدر الصورة وعنوان الكتاب
رأينا في طريق الحياة الطويل الكثير من ذوي الهمم الهابطة والنفوس المحبَطة المثبطة، يسيرون إلى جانب الحيطان بعيداً عن جادة المدافعة والمزاحمة.
حدث هذا ذات يوم..
توقف أمر إزاحة أَحد المفسدين من موقعه على توقيع رئيس دائرة في بغداد. لكن الرئيس أبى أن يمنحنا توقيعه المحترم! وبدلاً من ذلك قعد يحكي لنا عن معاناته الشخصية من مقالب ذلك الرجل المفسد وخبثه ما نعلم وما لم نكن نعلم! ولما استفسرنا عن سبب رفضه مع علمه بكل هذا؟ راح بنا في جولة واسعة من الوعظ والتنظير لقاعدة شهيرة من قواعد (الترضويين) والمهزومين.. (عدم الظهور في الصورة). أي كن دائماً خلف الصف وحرض غيرك ليفعل. ثم راح يرسم لنا خطة خيالية تقوم على التدرج في كشف معائب المذكور شيئاً فشيئاً أمام الناس، ودفعهم سراً إلى تقديم شكاوى وتواقيع للجهات المسؤولة، حتى يأتي يوم يتحقق فيه المراد ويزاح فيه صاحب الفساد. قلت له: ولم كل هذا؟ ومن منا لديه الفراغ لتنفيذ هذه الخطة ورعايتها؟ وكم من الناس سيقتنع؟ وكم من هؤلاء من يتجرأ ليضع توقيعه ويجازف (للظهور في الصورة)؟ سيما وأن مثل هذه الأساليب تفشل عادة في الوصول إلى المطلوب. لم كل هذا العناء والأمر لا يحتاج إلى أكثر من حركة بسيطة من قلمك على هذه الورقة لا تستغرق منك غير ثوانٍ معدودة؟
وتذكرت ذلك الرجل الذي قيل إنه اشترى دواء على شكل (بودرة) ضد البعوض، ثم في اليوم التالي رجع إلى البائع يشكو إليه عدم جدوى الدواء! فقال له: هل لك أن تخبرني كيف استعملته؟ قال: نثرت البودرة في أرجاء البيت وعلى الفراش. قال: سامحك الله؛ لقد أسأت الاستعمال. قال: فكيف أفعل إذن؟ فأجابه: تطارد البعوضة أولاً فإذا أمسكت بها قم بدغدغة بطنها حتى إذا فتحت فاها أدخلت السم فيه!
بعد أخذ ورد ومواعظ وحكم قلت له: يا فلان! لقد فرحنا لما صرت في هذا المنصب، والمفترض أنه كلما يكبر الإنسان في عمره ومنصبه يكبر معه أثره ونفعه لقضيته وإخوانه، لا أن يصبح هاجسه كيف يحافظ على مكانته ووظيفته. ألا فلتعلم أن المناصب لا تدوم، وأنها سرعان ما تزول. بعد ذلك بقليل وقعت كارثة الاحتلال، وفقد صاحبنا موقعه، ثم اختطف بعد ذلك من قبل مجهولين واختفى أثره رحمه الله. وما زال ذلك المفسد في مكانه لم يتزحزح عنه أنملة حتى اليوم!
ما أكثر أمثال هذا الموقف التي اعترضت حياتي! والتي يعمل أصحابها وفق قاعدة (لا تظهر في الصورة).
أحد هؤلاء الذين تضطرك الظروف أن تتعثر بهم، جئت أدعوه ليصحبني في مهمة نمر بها على بعض المسؤولين، فإذا هو يقول: لا لا؛ إن هذا يكشفنا! عليك أن تتصرف بحكمة.. ادفع الشباب للتحرك، وإياك إياك أن (تظهر في الصورة)! قلت له: كيف يتحرك الشباب وهم يرون قادتهم في الكواليس والصفوف الخلفية؟ من يعطيهم المثل للتقدم إذا كنا لا نتقدمهم؟ ثم كيف بعد ذلك نطمح لقيادتهم، ونطمع في أن يمشوا وراءنا؟ وإن تقدم أحد منهم وضعنا في طريقه العراقيل، واتهمناه بحب الظهور!
لو افترضنا وجود مفكرين مبدعين من بين هؤلاء – وهو وارد وملموس – كيف يمكن لفكرهم أن ينتشر الانتشار الجماعي الذي يستهدف المجتمع، لا الفردي الذي يقتصر على بعض الأفراد؟ هذا أولاً. ثم كيف يمكن اختبار صلاحية ذلك الفكر، وهو بعيد عن واقع التجريب، غارق في متاهات التجريد؟
أنا مسلم : مقامي أول الناس .. وطموحي قيادتهم وإمامتهم
لقد عالج الإسلام هذه الظاهرة فحث على التقدم في الخير، والبروز بذلك في المجتمع، والمبادرة إلى استلام زمام القيادة، مع مراعاة النية الخالصة والاجتهاد في الإتيان بالأعمال الصالحة الصائبة. فـ(عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان:64،63) هم أنفسهم الذين يدعون الله جل وعلا أن يجعلهم قادة يحملون راية الإصلاح ويتقدمون صفوف المتقين فـ(يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74). وهم أنفسهم الذين يرددون في افتتاح صلواتهم لاسيما صلاة التهجد: (وجَّهتُ وجهيَ لِلَّذِي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حَنِيفًا مسلماً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). انظر.. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)؛ حتى لا يقولن أحد إنها خاصة بالرسل، بل هي شعار كل مسلم يقيم الصلاة!
وقد ذكر القرآن الكريم الكثير من قصص الأنبياء عليهم السلام، ومواقف أتباعهم في الشجاعة في قول الحق، وقوة العزم في مواجهةالباطل. كموقف سيدنا إبراهيم وهو وحيد فريد يواجه سطوة الظالمين ويستهزئ بعقائدهم. وموقف مؤمن آل فرعون ومؤمن سورة (يس)!
ليس التأخر عن الخير حالة محمودة في ديننا، بل هي مذمومة بالنص. فقد روى مسلم عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: (تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ). والشاهد في عموم لفظ آخر الحديث: (لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ)، لا فــــــي خصوص السبب في أوله.
وليس التأخر على إطلاقه من التواضع، بل قد يعبر عن ضعف وضعة. ولانسحاب تلك المعاني العظيمة من حياة مجتمعاتنا بحكم طول معاناة الظلم والكبت والاغتيال الفكري والجسدي حتى من المجتمع بعضه على بعض، نجد هذه الضعة قد تحولت إلى (حكمة) عند أغلب الناس وفي مقدمتهم كثير بل أكثر مشائخ الدين، دعك من الأساتذة والتربويين والموجهين والصحفيين والإعلاميين وأمثالهم! وبذلك شاعت في أوساطنا تلك الكلمة التي لطالما سمعتها من المشائخ، كأنهم تواصوا بها صاغراً عن صاغر، كلما استدعى الأمر التقدم وكان في ذلك رائحة أذى ولو بكلمة، ولو من بعيد، ولو توهماً: (لا تظهر في الصورة)! ألا ما أصعب المَهمة! ألا ما أطول الطريق! ولكن يعيش له الجهابذة!
نحنُ ..
جيلٌ قد كفرنا
بتراتيلِ الزوايا
وترانيمِ البغايا
والتهاويمِ الخفيةْ
ورُقاعاتِ التُّقيةْ
وخرجنا
نزرعُ الأفكارَ والأحلامَ
ما بين البريةْ
بوضوحٍ ورَويِّةْ
نحن ..
قومٌ نضعُ العنوانَ في أعلى الهويةْ
الهمة2
ب. العلاج
تحدثت آنفاً عن تشخيص هذه الآفة، وفيما يلي أود توصيف العلاج تأسيساً على معرفة الواقع، مع محاولة سريعة لاتباع طريقة (التحليل النفسي) تكملةً للتشخيص، وتجربةَ أسلوب (الإيحاء) علاجاً لبعض الحالات.
الحاجة ماسة إلى تربية عميقة الأثر واسعة الانتشار طويلة الأمد للجيل الذي نعايشه، تساعده على الانسلاخ من طوق تلك التربية الجبانة المجبنة، ثم اجتثاثها من مضمون الثقافة الجمعية السائدة في المجتمع. تربية تغرس الثقة في نفس الناشئة، وتشجعهم على تقمص الشخصية الاقتحامية حتى تكون سجية طبيعية، وتشرب روحية الهمة العالية، وامتلاك العزيمة الشديدة، والاتصاف بالشجاعة الأدبية، وعدم التردد من قول الحق. وليكن شعارنا: (هي كلمة.. إن قلتها مُتّْ.. وإن لم تقلْها مُتّْ؛ فقلها ومُتّْ).
الشخصية الحقيقية والشخصية الإيحائية
لنحيي في النفوس المجدبة توجيهات القرآن والسنة والسيرة وتاريخ العظماء. ولنستثمر علم النفس والاجتماع. وتعالوا بنا نقف عند قول علماء النفس: إن للإنسان شخصيتين: شخصيته التي هو عليها، وشخصيته التي يتصورها إيحاءً من ذاته أو غيره. وليس ضرورة أن يتطابق التصور مع الحقيقة، بل كثيراً ما يختلفان! لكن نفسية الإنسان وسلوكه وتصرفاته تخضع – على كل حال – لتصوره ورؤيته عن شخصيته لا كما هي عليه في الحقيقة. أي إن الإنسان هو الذي يصنع شخصيته، أو تصنع له!
وهذا له علاقة كبيرة بما تلقاه من تربية وإيحاء في الصغر. فمن كان يلقى التشجيع وكلمات الإعجاب، ويوصف بالشجاعة والقدرة والقوة والذكاء ومحاسن الخلق، نشأ واثقاً من نفسه شجاعاً غير هياب، خلوقاً ذا علاقات طيبة مع الناس. ومن نُشِّئ على الكبت والتنقيص وأنه لا شيء، ويوصم بالجبن والضعف والعار، كان كذلك في غالب الأحوال.
إن هذا يفتح لنا باباً عظيماً من أبواب الخير والأمل والتفاؤل، من حيث أن ذلك يعني أنه من الممكن للمريض بذلك أن يتعالج مما هو فيه، ويعالج نفسه بطرق من أهمها الإيحاء الإيجابي والهمس لنفسه دوماً بأنه قادر وشجاع وذكي ومتفائل وسليم، ويردد: “لا شيء مستحيل إلا المستحيل”، وأن يضع له أهدافاً عظيمة يسعى إلى تحقيقها، ويحشد الآخرين لها، ويصبر ويتصبر على طول الطريق.
يفسر علماء النفس هذه الظاهرة بأن العقل اللاواعي يتقبل الإيحاءات دون مناقشة، ويتشربها ويحولها إلى النفس لتتصف بها، ويقوم بتصديرها إلى العقل الواعي فيقتنع بها.
من السيرة والسيَر
قرأت سيرة أعظم العظماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت التشجيع يحوطه من كل جانب! وكذا سيرة كثير من العظماء.
فقد ورد أن بعض علماء أهل الكتاب رأوه وهو صغير فتوسموا فيه أنه النبي الخاتم. وقد تكرر هذا مراراً على مرأى منه ومسمع، ومن ذلك قصة بحيرا الراهب. وكان رسول الله بعد موت أمه مع جده عبد المطلب بن هاشم فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجرؤ أحد منهم على أن يجلس عليه إجلالاً له. إلا حفيده محمد فكان يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا، وفي رواية: دعوا ابني إنه يؤسس ملكا. ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.
وقال يوماً قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به.
وانظر إلى هذه المرأة العظيمة هند بنت عتبة رضي الله عنها وتأمل شموخ هامتها وعلو همتها. مر عليها بعض متفرسي العرب وعندها ابنها معاوية صغيراً، فقال لها: إنني أتوسم فيه أن يسود قومه. فما كان منها إلا أن ردت عليه قائلة: ثكلتُه إن لم يسد إلا قومه! فهي تريد منه أن يسود العرب بأجمعهم، لا قومه فقط. وهكذا كان!
يقول: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فإني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته”. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “المرء حيث وضع نفسه”. ويقول أبو فراس الحمداني: رب همة أحيت أمة. وهذا المتنبي يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
وقال غيره:
ونحنُ أناسٌ لا توسطَ بيننا
لنا الصدرُ دونَ العالمين أو القبرُ
نعم.. هذا صحيح جداً. وأنا أؤمن بقدرات الإنسان غير المحددة بسقف، ما دام ذلك الإنسان متكلاً على ربه، واثقاً بنفسه، يعرف مسار الطريق، ومثابات الوصول. لذا أنصح كل قائد بهذه القاعدة: (عرض أصحابك للتحدي وانظر كيف سيأتونك بالعجائب). حتى قيل: “امنحه ثقتك وارمه في البحر”. ومن لا يرى ذلك فبسبب أنه فاقد للثقة بنفسه أساساً، فيسقط ذلك على أقرب أتباعه. فهؤلاء مرضى في حاجة إلى علاج، أو حجْر، بله أن يتسلموا زمام القيادة!
الهمة3
جـ. تجربة شخصية
لي صاحب أتوسم فيه قدرات قيادية جيدة، بيْدَ أنني حينما أكلفه بمَهَمَّةٍ قيادية أجده يتلكأ ويُبدي التواضع مردداً: “أنا جندي مطيع”، فأقول له: الجنود كثر، ولكنني أبحث عن القائد. ولكن دون جدوى.
وعدت أفكر بصمت وأدرس حالته مع نفسي، فترجح عندي أن (رؤيته لشخصيته) مهتزة؛ وهذا ما يدعوه لأن يهاب التقدم، ويطلب السير وراء الآخرين. هو خريج كلية الشريعة، ومارس الإمامة والخطابة سنين في عدة مساجد، ويعمل مدرساً في إحدى الثانويات. من خلال تجربتي تبين لي أن الثقافة الدينية التقليدية السائدة في أوساطنا تعاني من عدم وجود أجواء صحية تشجع على بروز الشخصية القيادية لدى طلبة العلم. العكس هو الصحيح؛ إذ شعارهم التواضع واحتقار الذات، و(حب الظهور يقصم الظهور)، بعيداً عن التوسط.
هذا مع تعظيم مفْرط للأولين بحيث يصورونهم كأنهم مخلوقات قدسية مقدسة، ما إن يذكروا في مجلس حتى تجد من يردد مثل هذه العبارات: (أين نحن من أولئك؟)، و(من نحن؟). وذلك على النقيض من منهج القرآن الكريم إذ يذكر السابقين بإيجابياتهم وسلبياتهم، ليعلمنا أن العظيم ليس من شرطه العصمة من الخطأ والتقصير والذنب. وعلى هذا الأساس فكل إنسان – رغم ذلك – مرشح لأن يكون عظيماً. تأمل كيف جعل القرآن علاقة الأجيال اللاحقة كلها بخير جيل قائمة على هذه الآية العظيمة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)! انظر إلى بعض الفوائد المستقاة من الآية:
- فهم إخواننا أولاً، وفي ذلك رفع من شأننا.
- علينا أن نستغفر لهم كما نستغفر لأنفسنا. ولولا الذنب ما كان الاستغفار. فتلك لوازم بشرية إن وجدت هنا وهنا لا تقدح في العظمة، ولا تمنع التأسي والاقتداء.
- كما أن فيها دفعاً لنا إلى الانطلاق، وأن لا نجمد على ميراث الأولين، بل علينا ولنا أن نراجعه ونضيف ونحذف منه، وإن نظرنا إليه وإليهم بعين التقدير والاحترام والاتباع. ومن معانيه الحكمة القائلة “كم ترك الأول للآخر”.
- ومنها تقدير الذات والتوافق معها وعدم الشعور بالذنب أو العار خارج نطاق التوبة والاستغفار، ومن دون أن يترك ذلك ندوباً عقدوية في نسيج التركيبة النفسية.
وذلك كله أو بعضه – على الأقل – تفتقده أوساطنا الدينية والاجتماعية. فنحن مع غفلتنا عن هذه المعاني العظيمة واقعون في مطب (إما التقديس أو التدنيس). تقديس الأولين دون التوقف عند حد (التقدير)، وهو الواجب الشرعي والطبيعي الذي يمثل سقف النظر إلى أسلافنا وعظمائنا. وتدنيس الآخرين بمن فيهم جيلنا وذواتنا. وهذا هو السبب في ظاهرة جلد الذات وإسقاط النقائص على الجيل الحاضر، الشائعة في المدارس والكليات، لا سيما الدينية منها، بصورة تجاوزت الحد الوسط، وفي المساجد والخطب والمحاضرات وغيرها من الأماكن والمنتديات، وحتى البيوت! فتجد عامة المتخرجين من هذه الأوساط لا يجيد سوى الكلام والمواعظ والتوجيهات الفوقية، دون قدرة على ممارسة القيادة الحقيقية.
قدرت أن صاحبي ضحية هذه التربية المغلوطة، سيما وأنني على صلة قديمة بوالده رحمه الله وكان ذا شخصية قيادية بالفطرة خلفت أثراً طيباً في تغيير وإصلاح مجتمعها ضمن دائرة العشيرة والدوائر المحيطة. فبدأت معه بممارسة علاج نفسي يساعده على اكتشاف شخصيته الحقيقية كما أراها أنا، محاولاً إبعاده شيئاً فشيئاً عن (شخصيته التوهمية) كما يراها هو.
العلاج بالإيحاء
يقوم هذا العلاج على جملة مشجعات ومحفزات توقظ في الهدف شخصيته القوية النائمة المخدرة، لتنهض طاردة تلك الشخصية الضعيفة المسيطرة. علمت صاحبي أن الإنسان هو ابن أفكاره. وأن شخصيته هي ما يراه هو عن نفسه. صحح فكرتك عن نفسك وانظر إليها بعين الإكبار والتقدير، وأنك سليم الجسم والعقل، مرن الفكر متوهجه، ذو خيال خصب وأحلام كبيرة، قادر على القيادة والإنجاز والتغيير، يمكنك التأثير في الناس وحشدهم وقيادتهم، وأن القادة العظام ليس شرطاً أنهم كانوا أفضل منك شكلاً ولا جسماً ولا عقلاً ولا مَكِنَة، إنما الثقة بالنفس وعلو الهمة والتخطيط هو الذي صنعهم. (قل: “هذه شخصيتي” تكن أنت تلك الشخصية).
علمته هذا الشعار، وبأكثر من لفظ: (قل: أنا لها تنالَها)، (من قال: أنا لها نالها)، ورددته على مسامعه كثيراً، وطلبت منه ترديده على مسامعي، حتى اقتنع به، بل صار يعمل على أساسه.
وكانت بيني وبينه مراسلات ومساجلات على شبكة النت. ضربت له يوماً مثالاً من حياتي الشخصية، فكان أن كتب لي:
– أنت ذكي (وين أكو منك)، كما قال أبو بكر t: “عقمت النساء أن يلدن مثل خالد”! فكتبت له:
– وأنت أيضا ذكي. (ثق بالله اولاً ثم بنفسك تسلس لك المعجزات). واعلم أن الامة لم تعقم، ولم تتوقف عند خالد، ولا خالد وحده صنع الأمة. بل لولا الأمة ما كان (خالد) هو (خالد) الذي عرفناه.
وكلفته يوماً بعمل يتطلب القيادة، فأخذ يعتذر ويقول نصاً: “أنا لست بهذا المستوى”، واقترح عليّ آخرين بدله سماهم بأسمائهم، مع أنني أعرف أنه أقدر وأصلح منهم. فرددت عليه برسالة جاء فيها: (سأقطع علاقتي بك إن ذكرت مرة أخرى أنك لست بالمستوى المطلوب. بل أنت بالمستوى، إن لم تكن اليوم فغداً، ونحن أعلم منك بك، وفلان ليس أفضل منك إذا جمعنا عناصر التفضيل إلى بعضها. (قل: أنا لها تكن لك) واجعل شعارك دوماً: (من قال: أنا لها.. نالها).
ومن رسالة أُخرى إليه أقتطع هذه العبارات: (لا تترك للاحباط الى نفسك منفذاً، واذا نظرت الى النصف الفارغ من الكأس فتذكر أن إلى جانبه نصفاً مملوءاً. نحن نعالج ركاماً متنوع المواد والأصناف، وما تراه فغباره وترابه وعقاربه، بل ربما ستجد فيه أفاعي وبنات آوى.
المتساقطون على الطريق لا يهموننا كثيراً؛ ما دمنا نعمل على التعويض والزيادة ونرجو من الله تعالى البركة. ونحن متيقنون أن (استغلال الحدث أهم من الحدث)، وبهذا ينقلب الفشل الى نجاح، كما أن النجاح – إن لم يتم استثماره – ينقلب الى فشل. نحن كالمُبِلِّ حديثاً من مرض: لا يهم إن ارتعشت قدماه قليلاً أو تعثر أو اتكأ على جدار؛ ما دامت العافية تسري ويتضاعف سريانها في أنساغ جسده. جسدنا يتعافى: يطرد الخلايا الضارة والزائدة ويستبدل بها خلايا جديدة حية نشطة. فلا تنظر إلى ما تساقط من الموات، بل انظر الى اهتزازات الحياة مستفيداً مما يناقضها مما تراه أو يعثر بك.
الأمور بخير.. ولكن نحتاج الى وقت تتراكم فيه الجهود الصائبة لتظهر الثمار الطيبة. وبوجودكم تنشرح الصدور وتوضع الأوزار ويرتفع الذكر بإذن الله: (إن مع العسر يسراً . ان مع العسر يسراً).
ومن رسالة أُخرى: (إننا نعمل مع الله جل في علاه؛ فمع خلوص النية وصدق العزيمة تكون المنح السماوية للنتائج الأرضية عنصراً أصيلاً مضافاً يجعل تلك النتائج شيئاً آخر مختلفاً عما تكون عليه نتائج العاملين مع غيره سبحانه. والله تعالى يقول في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً…) الحديث. ولا يفوتنك أن المقارنة ليست بين شبر وذراع مجردين، وإنما بينهما منسوبين كلاً إلى جهته: فشبر العبد لا يقاس بذراع الرب، ولله المثل الأعلى، فكل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك. علينا قطع الشبر الأرضي، لننتظر الذراع السماوي. وشعارنا….. (أَدِّ الذي عليك و….. ما عليك).
وهكذا… وهكذا… حتى كتبت إليه أخيراً أقول: (انظر الى نفسك وقارن بينها قبل سنتين وبينها الآن)!
الآن..؟ الآن هو شخصية أُخرى غير تلك الشخصية المترددة الضعيفة المقيدة، التي كان يتوهمها ويتصرف من خلالها. لقد استيقظت في نفسه وحسه، وفي فكره وقناعته عوامل الخير والقوة وعناصر التأثير والقيادة، فطردت غربان الضعف والهواجس والخوف والتردد والانزواء في الصفوف الخلفية خارج نطاق الصورة الواضحة المتحدية الشامخة، بإطارها الذهبي الجميل.
هذه تجربة واحدة من تجارب عديدة عشتها، وأراها يقيناً صالحة للتجريب مع الجميع. بل تجربتي مع نفسي وصناعتها بنفسي لها شبه بهذه القصة.
4. الفردانية أو ( فقدان المؤسسة أو المنظومة )
4.الفَردَانِيَّة ( غِيَابِ العَمَلِ المُؤَسَّسِي )
سببان أساسيان يدعوان المجدد إلى التحول من التفكير والعمل الفردي إلى التحرك ضمن دائرة العمل المؤسسي، هما:
أ. اختبار صلاحية الفكر
عرفنا أن الإبداع – حتى ينضج ويترصن ويُختبر – لا بد أن يتحول إلى ممارسة جماعية منظمة، وأن (الفكر المبدع إنما هو نتاج فعل اجتماعي نسقي. فالعمل المجتمعي هو علة التطور والارتقاء في الفكر والجسد، كما وأنه أساس تصحيح الأخطاء في الإدراك والتقدير والتوقع. والعمل المجتمعي هو منطلق الشعور بأزمة الفكر في التعامل مع تحديات الواقع؛ وبذا يكون العمل هو الحافز إلى التغيير، ومظهر انتماء الفكر والتاريخ([1]).
وما لم يتعرض الفكر للاختبار سيتحول من التجديد إلى التجريد بعيداً عن الواقع، وبذلك يجمد ويأسن ويتفسخ ويمسي حجر عثرة في طريق التجديد والنهوض.
ب. استجابة المجتمع لنداء المجدد
ثمت سبب جوهري آخر لضرورة وجود الفكر التجديدي المبدع ضمن منظومة فاعلة، هو أن هذه المنظومة لا بد منها لضمان سريان أثر الإبداع في نسغ المجتمع. فقد علمتنا الخبرة أن الشعور بقوة الكلمة لدى الآخرين، وتأثرهم بها، واستجابتهم لها: لا تنبع من ذاتها فقط، إنما ذلك يُستمد شرطاً من وزن قائلها أيضاً، وكم وراءه من رجال وأتباع. والمنظومة – لا غيرها – هي مصنع الرجال ووسيلة استثمار طاقاتهم وتجييشها مجتمعة لتبعث الهيبة في النفوس، وتفرض على خصومها وأصدقائها الاحترام، وتمنحها قوة القرار، والقدرة على جعل الآخرين يستجيبون لها ويحسبون حسابها.
لن يخرج الفكر مهما كان راقياً مُبدعاً إلى نور الحياة ونسيمها ما لم تتبناه منظومة ذات هيكلية إدارية ونظام داخلي ينسق بين الجهود ويضع العاملين في خلية المنظومة كل في مكانه المناسب من سُلَّمها التراتبي؛ فإنه لا يمكن نقل الإبداع من مجاله الفردي إلى نطاقه الجماعي، من أجل أن يتحول إلى فعل تجديدي يعطي ناتجاً اجتماعياً يسهم في تطور المجتمع وبنائه الحضاري المتقدم، دون وجود منظومة فاعلة تجمع الطاقات الإبداعية المتناثرة في دائرة نسقية واحدة، تضع كل شيء في مكانه المناسب، الذي يخدم من ذلك المكان أجزاء المنظومة كلها والمجتمع برمته.
وبذلك يمكننا القول: لا تجديد حقيقياً: يجمع بين سلامة الفكر الداخلي من ناحية، وحيوية الأثر الخارجي من ناحية أُخرى إلا في نطاق مؤسسة منظمة، تتمتع أجواؤها بحرية الرأي عند التعبير، وتشاركيته عند التقرير. وستظل نتاجات الفكر المتجدد المبدع هائمة دون إحداث الأثر المطلوب، ما لم يتم تبنيها من قبل مؤسسة منظمة ذات منهج فكري واضح وبرنامج عملي واقعي فاعل.
الخوف من الحزبية
قلت لأحد شيوخ الدين، شاب متحمس ومتفاعل مع مشروعنا: أما آن الأوان لأن تضع يدك في يدنا وتعمل ضمن مؤسستنا؟ فأجابني على استحياء بأن أعفيه من هذا التكليف! قلت: ما السبب؟ قال: أنا لا أؤمن بالحزبية.
وحين ناقشته في الأمر تبين أنه – كمعظم الذين يهربون من كل تكليف منظم – يزعم أو يتصور أن (الحزبية) تعني لديه كل عمل منظم! وكأن الأصل في سنن الكون أن تكون فاقدة للنظام، والأصل في شريعة الرب أن توضع في سياق نشاط لا رابط بين أجزائه، فإذا خرجت عن هذا السياق فكانت ضمن عمل نسقي ممنهج فقد صارت حزباً وأصحابها حزبيين! وأنا معه لو كانت الحزبية تعني العصبية والتعصب فإنها مذمومة شرعاً وعقلاً. لكن ما لمسته من جميع الذامين للحزبية هو ذم العمل المنظم. فيا لَلتخلف!
لقد انعكس الأمر في أذهان هؤلاء فتوهموا أن كل عمل منظم هو عمل (حزبي). والحقيقة أن كل حزبٍ منظمٌ لكن ليس كل منظم حزباً. العلة ليست في التنظيم، فهو سنة كونية وفريضة شرعية، أين هو من قوله تعال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105،104)؟! والعمل على غير نسق منظم صورة من صور التفرق، يستحيل معه أن تصل أمة إلى أهدافها. بلى، العلة ليست في التنظيم، إنما في الحزبية بمعنى التعصب.
يجد القارئ في (منهاجنا) رؤية واضحة عن موقف (التيار السني في العراق) من الحزبية والأحزاب، أجد من المناسب تقييدها في هذا الموضع.
الفرق بين المؤسسة الربانية والمنظمة الحزبية
يخلط البعض بين العمل المنظم وبين الحزب وما يعتريه من تحزب. ويتساءل: أليس التنظيم معناه تكويناً حزبياً؟ ونقول: إن السؤال بهذا الوضع خطأ. والصحيح أن نسأل: هل يمكن تحقيق الإنقاذ دون تنظيم؟
فإن كان الجواب بالإيجاب قلنا: ليتك أثبت لنا ذلك! كيف يمكن مواجهة عدو منظم على جميع الصعد بعمل لا نظام فيه؟! وإن كان الجواب بالنفي قلنا: العلة ليست في التنظيم؛ فليس كل تنظيم حزباً بالمعنى السائد، وإنما العلة في الحزبية والتحزب. فتعال معي نتعرف على ماهية التحزب.
إنه التعصب بالباطل للفئة المنتمى إليها. وهذا له وجوده في الجهات غير المنظمة أيضاً. فالتحزب شائع بين العشائر بعضها ضد بعض. وفي الأوساط الدينية بمختلف توجهاتها. وبين أتباع المذاهب الفقهية، وعند طلاب شيخ تجاه طلاب شيخ آخر. فما الحل؟ هل بإلغاء تلك الجهات؟ أم بعلاج التعصب والتحزب؟ إن التحزب يمكن أن تلمسه داخل المؤسسة الواحدة، وعلاجه أو إزالته يكون باتباع الطرق السليمة، وليس بإزالة المؤسسة نفسها.
الأممية والأحزاب والمؤسسات العابرة للحدود
من مشاكل الأحزاب والحزبية، التي حرصنا على أن لا ننزلق إليها هي الأممية. والمقصود بالأممية: تكوين سياسي يتركب من ثلاثة عناصر: شعور بالانتماء إلى أمة ما، ينبثق عنه فكر، ينعكس على الواقع نشاطاً منظماً يتجاوز الوضع القطري دون النظر إلى خصوصية كل قطر على حدة.
تتحول الأممية إلى مشكلة وخطر على الجميع: أصحابها وغيرهم، حين تعبر الحدود القطرية للبلد، لا كفكرة فحسب، وإنما كتنظيم أيضاً؛ على اعتبار أننا كعرب أو مسلمين أمة واحدة. ويغيب عن البال أننا – في الواقع – أقطار منفصلة عن بعضها. لكل قطر منها خصوصيته السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية والثقافية. ولم نعد كما كنا من قبل في بعض الفترات التاريخية أمة لها كيان سياسي واحد.
الأممية في زمن القطرية.. هي أسوأ ما أفرزته الأحزاب في الشرق منذ مئة عام.
تتمثل الأممية – أكثر ما تتمثل – في الأحزاب القومية والإسلامية. وقد تكون نشاطاً وطنياً لا يراعي خصوصيات كل مكون داخل القطر. أما أسوأ أشكال الأممية فأممية (ولاية الفقيه).
لا بأس أن يحلم المرء بوجود أمة جامعة. لكن الحلم شيء والواقع شيء. فأن تعيش الأممية إيماناً وشعوراً وحلماً جميلاً، هذا من حقك. أما عندما تتصرف فعليك أن تستيقظ وتهبط من فضاء الحلم إلى أرض الواقع. وإلا فمن أراد أن يعيش حلمه واقعاً أمسى الواقع الراهن الذي يرفضه اليوم بعد حين حلماً يتمناه ولا يلقاه. والقائد حالم لا بأس، ولكن رأسه في السماء وقدماه على الأرض. والقاعدة تقول: (فكّر عالمياً، لكن تصرف محلياً).
الأممية القطرية
ثمت قسم آخر من أقسام الأممية هو الأممية القطرية. وذلك حين يضم قطر ما عدة مكونات: قومية أو دينية وما شابه ذلك، ليس من اليسير التلاقي أو الاندماج بين مكوناتها دون مراعاة هذا التباين لبناء وضع سياسي يناسب ذلك. والعراق مثال.
حين تتحول الأممية إلى كارثة
يجد الفكر الأممي نفسه ملزماً بما تفرضه الأممية عليه من واجبات، ومنها نقل (تجربته التنظيمية) بمختلف مستوياتها، حزباً كانت أم دولة، إلى خارج نطاق القطر الذي نشأت فيه، دون أن ينتبه إلى ضرورة مراعاة لوازم متغيرات الواقع الحادثة. وهذا أمر شرعي أصولي؛ فالحكم الشرعي يتغير زماناً ومكاناً وأعياناً.
في ظل هذا التناشز الحاد بين الفكر والواقع يواجه الفكر الأممي مشكلتين كبيرتين:
- اصطدام التكوينات الحزبية بالوضع السياسي للقطر الآخر.
- تعميم (تجربته الفكرية) بكل ما فيها دون الانتباه إلى الفروق الموجودة بين بلد وآخر، التي تقتضي تحويراً في الفكر أو تقديم فكرة وتأخير أخرى تبعاً للتحديات الخاصة. وهو ما نسميه بـ(بلدنة الفكرة أو الثقافة).
أممية الفكرة وقطرية المؤسسة
تتكون المؤسسة من عنصرين: الفكرة والتكوين المنظم الذي ينبني عليها.
ليست المشكلة في الفكرة ما لم تتحول إلى مؤسسة أو حزب منظم يتجاوز الحدود دون اعتبار للأوضاع الخاصة بالقطر الآخر.
نحن نؤمن بأممية الفكرة، ونرفض أممية الحزب أو المؤسسة. الفكرة بطبعها عابرة للحدود ولا ضرر منها ما دامت تتحرك في نطاق شروط ثلاثة:
– تلبية حاجة القطر أياً كان.
– تكييفها عند التطبيق بما يتوافق والوضع القانوني للبلد.
– أن يكون العمل بها تحت عين الشمس، وليس في الدهاليز الخفية.
خذ مثالاً على ذلك: الفكرة السنية، في مواجهة الفكر الشيعي المتخادم مع إيران. كل الأقطار – وأولها أقطار المشرق العربي – في حاجة إليها. لذا نحن ندعو إليها جميع المتضررين بالفكر الشيعي. أما التكييف التطبيقي فمن شأن كل قطر حسب ما يتناسب ووضعه السياسي والقانوني والاجتماعي.
إن وعينا بهذه الجوانب الدقيقة هو الذي جعلنا نطلق على مؤسستنا اسم (التيار السني في العراق). فهي كفكرة عابرة للحدود، لكن كمؤسسة هي خاصة بنا نحن السنة العرب في العراق. داعين كل متضرر من المشروع الإيراني أن تكون له مؤسسته الخاصة به ضمن الشروط التي سبق ذكرها. وهذه إحدى آليات تجاوز الحزبية في مشروعنا. علماً أن كل حزب مؤسسة منظمة وليس كل مؤسسة منظمة حزباً. فالمدرسة مؤسسة، والمستشفى والمصرف والصيرفة، كلها مؤسسات منظمة لكنها ليست أحزاباً.
انظروا إلى جناية الأحزاب القومية عندما رأت – بحكم الأممية – أن لها الحق في تجاوز حدودها القطرية ونقل تجربتها التنظيمية خارج تلك الحدود. غزو جمال عبد الناصر لليمن مثال، كذلك غزو صدام حسين للكويت. وانظروا إلى جناية الأحزاب الإسلامية على نفسها وغيرها للسبب نفسه. الفوضى التي تضرب المنطقة من ليبيا إلى اليمن على يد الإسلاميين مثال لا تخطئه العين.
تحوطات الانزلاق نحو الحزبية
إضافة إلى هذا الوعي الذي يضع الحد الفاصل بين العمل المنظم والعمل الحزبي، وضعنا ثلاثة أسيجة تحيط بالمؤسسة تحول بينها وبين الحزبية:
الأول: السياج الذاتي الذي يقوم على الشمولية في المفاهيم والعمل. فهي مؤسسة تقوم أولاً على المفهوم المدني بكل ما فيه من شمولية في العقيدة والفكر والإيمان والعمل. والأنشطة المتنوعة: دينية ومسجدية وشبابية وحقوقية وتعليمية ونسوية ورياضية وأدبية وخيرية وغيرها من المناشط التي لا تقتصر على العمل السياسي الذي هو أساس الحزبية.
الثاني: لا يتم الانتقال إلى أي خطوة لاحقة قبل اكتمال بناء الجسم المدني.
الثالث: القيادة العليا هي لمؤسسة الرأس القائد في الجسم المدني. والقوة المهيمنة تتركز بيدها. أما القيادات السياسية والعسكرية فهي قيادات تنفيذية تابعية. بهذا نكون ارتقينا بفكرنا إلى مستوى دولة المؤسسات، لا دولة الحزب القائد. وإلى مستوى الأمة بعد الدولة.
[1]– الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل، ص60-61، شوقي جلال، مكتبة مدبولي، 2002، بتصرف.
5. الاستحمار ( أو خلو الفكر من القضية )
5. الاستِحمَارُ ( خُلُوُّ الفِكرِ مِنَ القَضِيَّة )
لا أريد أن أطوح بكم في تنظيرات ومقدمات مطولة، بل أقول لكم مباشرة: هما شخصان اشتهرا بعقيدة التوحيد في المجتمع المكي: ورقة بن نوفل t، ومحمد بن عبد الله e. حظي الأول بالاحترام والاعتراف بحقه في الحياة والعيش آمناً مطمئناً، بل كان مرجعاً دينياً لطائفة منهم دون أن يثير ذلك أي حساسية لدى كبراء المجتمع ورؤسائه وقادته. بينما حورب الثاني ومُنع أتباعه من اللقاء به، وعُذبوا واضطُهدوا وشُردوا، وكان حاله في مجتمعه كما قال Y: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (القلم:51). فلماذا؟
العقيدة بين الفكرة والقضية
ورقة بن نوفل عاش العقيدة كفكرة واختيار شخصي، ولم يعشها كقضية واختيار اجتماعي بمعنى اتخاذ العقيدة كأساس لتغيير المجتمع ومعارضته بما فيه من تواضعات في العبادات والقوانين والشرائع والأعراف والسلوك والعادات. مثل هذا الشخص يتقبل المجتمع وجوده فيه مهما بلغ من العلم ورصانة الفكر، وكان ذلك مخالفاً لتواضعاته.
أما محمد بن عبد الله e فعاش العقيدة بالمعاني السابقة كلها: فكرة وقضية واختياراً شخصياً واجتماعياً. صدع بشعار التوحيد (لا إله إلا الله) بين ظهراني المشركين، وصك به آذانهم لا تلاوة وترنماً فقط، وإنما منهاج حياة يصلح الفرد والمجتمع بالقول السديد والحكم العادل الرشيد. لهذا قامت قائمة الملأ منهم وانطلقوا يحاربون الداعي بكل سبيل.
ولقد كان الداعي والمدعو يعلم خطورة كلمة التوحيد حين تخرج من حيز الفكرة الشخصية إلى رحاب القضية الاجتماعية. والمنصف من المشركين يقول له بصراحة: (إن هذا أمر تكرهه الملوك). وأما الباغي منهم فقام بالعدوان عالماً بخطورة من يعاديه وما يعاديه!
الإسلام دعوة تغييرية وقضية اجتماعية
الإسلام دعوة تغييرية تدخل في صميم المشاكل والانحرافات الاجتماعية بما فيها قضايا الحكم والسياسة، وتعمل على تغييرها طبقاً لقاعدة التوحيد. وليس هو فكرة فلسفية تبحث عن الحقيقة المطلقة بما في فكر الفلاسفة وقوانين المناطقة وأحكام المتفقهة من تجريد وبعد عن الواقع، كما أنه ليس عاطفة مجنحة أو مشاعر روحانية حالمة تهيم في أودية الخيال وألوانه الزاهية البراقة.
ليس الإسلام في أُسِّهِ ومبناه علماً من العلوم الطبيعية أو الاجتماعية أو حتى الدينية، تطرح كبحوث جامعية، وتنشر في الكتب وصفحات المجلات والدوريات العلمية، دون تلامس فعال مع ضمير الناس، ينزل إلى الأعماق ليستخرج منها الضر وينثر فيها الدر. وإن كانت هذه العلوم كلها من الإسلام بمعناه الأرحب. فالعالم في مختبره والعابد في محرابه والتاجر في متجره كلهم عباد في المسجد الكوني لهذا الرب العظيم، ولكن بشرط وجود المنظومة الإسلامية التي تتبنى قضية اجتماعية محلية وعالمية.
كيف يكون الاستحمار
الحمار حيوان من الحيوانات التي يركب ظهرها وتمتطى من غيرها ليصل بها إلى ما يريد من مكان، دون أن يدري المركوب بمراد الراكب. من هنا اشتق عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي مصطلح (الاستحمار)؛ من حيث إن العلوم والأفكار إذا خلت من القضية، وكانت في معزل عن هموم الناس ومشاكلهم وقضاياهم وأزماتهم لا سيما السياسية والاقتصادية والخلقية، إنما هي في هذه الحالة أدوات استحالة يفرح لها الطغاة وتلقى منهم الدعم والتشجيع؛ لأنهم يعرفون أنها خير وسيلة لتحويل الشعوب إلى ظهور يمتطونها للوصول إلى ما يريدون، لاهية ساهية عما تريد. حتى علوم الدين والشريعة حين تتحول إلى فكر مجرد وفقه محدد، فاقد للقابلية على التماس مع المشاكل الاجتماعية.
كل علم أو فكر أو خطاب أو كتاب، مهما كان راقياً وقيماً من حيث الذات، لكنه لا صلة له بالمجتمع، أو لم يكن ضمن منظومة حركية تعرف أين تضعه، وكيف ترعاه وتنميه لتستفيد منه باتجاه الهدف، فذلك لهو باطل، هو أفضل وسيلة لاستحمار الشعوب. وخير ما أجدني أستشهد به هنا من القرآن الكريم هو قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189). ففي الآية ذم للبحث في علم بعيد عن متناول عقول الناس، ولا فائدة عملية ترجى من ورائه، وإن كان في أصله راقياً محترماً كالسؤال عن ظاهرة فلكية هي الهلال وكيف يبدو صغيراً ثم يكبر حتى يكون بدراً، ثم يعود صغيراً حتى ينمحي ويكون محاقاً. كان هذا محور سؤالهم الذي تعاملت معه الآية. فالعلوم والأفكار لا ينظر إليها من حيث ذاتها أولاً، ما لم تكن علوماً نافعة تلامس قضايا المجتمع ومشاكله وهمومه.
الاستحمار وجمود الفكر
بالاستحمار إذن تجمد الأفكار وتنعدم الفرصة أمام المفكر لاختبار فكره على أرض الواقع. وفي هذا يكمن الخطر، وبه يقضى على التجديد.
لا بد إذن أن ننأى بفكرنا عن التجريد، ونقترب به من الواقع حتى يخالطه ويتفاعل معه، ونجعله فكراً يدور مع القضية حيث تدور. عندها سيكون فكراً تجديدياً مهما تقادم الزمن، وطال الأمد.
6. التقوقع والتشتت
6. التَّقَوقُعُ والتَّشَتُّت
التقوقع الفكري آفة خطيرة من الآفات التي تصيب حركة الفكر فتجعله فكراً ذاتياً أو محلياً منعزلاً عن محيطه الأبعد. أما التشتت الفكري فأقصد به عكس ما قصدته بـ(التقوقع) حين ينشغل الفكر بقضايا خارج نطاق محيطه الأقرب، الذي هو مدار حركته. والصواب هو في التوازن بين هذا وذاك.
أ. التقوقع الفكري
الأفكار مثل الريح لا تحدها حدود. ولكن الريح تحتاج إلى نوع من التعامل أو التكيف والتكييف يختلف من مكان إلى آخر. فلا يمكن لأي فكر أن ينمو نمواً طبيعياً يتسم بالحيوية والنضج منكفئاً على ذاته، أو في معزل عن أحداث العالم من حوله؛ فالفكر الفعال القادر على التغيير هو ذلك الفكر الذي يمتاز بميزتين مهمتين تكمل إحداهما الأُخرى: التأثر والتأثير.
إن أخطر أنواع التقوقع هو تمحور المفكر حول نفسه أو عشيرته أو فئته وحزبه أو وطنه ومنطقته دون التعاطي مع القضايا التي تدور رحاها خارج هذه المسميات وما شاكلها. إن أقل ما في هذا التقوقع من أضرار هو الوقوع في مطب القياس على (الذات)، عندما ينظر المفكر لقضايا الغير من ثقب قضيته أو بيئته، فيتوهم تطابق القضايا دون اعتبار لخصوصياتها، ويعطي – بناءً على ذلك – أحكاماً مرتجلة دون أن يُدخل في المعادلة العناصر الخاصة بكل حالة على حدة. وقديماً قال الحكيم: (أهل مكة أدرى بشعابها).
خذ مثالاً على ذلك انشغال الفكر العربي: الإسلامي والعلماني على حد سواء، في مصر والشام والمغرب العربي: بالتحدي الغربي، وقياس التحدي الدائر في العراق على ذلك، مغمضاً العين عن خصوصية القضية العراقية من حيث أن التحدي الأول والأخطر الذي يواجهها هو التحدي الشرقي (إيران وشيعتها). ولا يكتفي هذا الفكر بإهمال القضية العراقية حتى يتطاول عليها ويتعالم على أهلها يريد صرفهم عن قضيتهم الأولى إلى قضايا أُخرى هي الأُولى والأَولى بالنسبة لأهلها فقط لا لغيرهم.
الرئيس التونسي الحالي محمد المرزوقي يشارك في وِقفة احتجاجية سابقة أمام سفارة البحرين في العاصمة التونسية ويردد الشعار الشيعي الداعي لتنحي ملك البحرين! ويعلن مناصرته لما سماه “ثورة الشعب البحريني”. وكان من ضمن ما قال أثناء المظاهرة: “إن الثورة البحرينية ليست طائفية بل هي في اطارِ قضية شعوب عربية ترزح تحت سطوة الدكتاتوريات”. وذكر – والظاهر أن الرجل لم يزر البحرين قط! – أن “البحرينيين يعانون ما عانى التونسيون من فساد وظلم وقمع”، متهماً “النظام البحريني” بأنه “يريد اللعب بالورقة الطائفية أي السنة والشيعة، ولكن نحن السنة في تونس نعتبر أن القضية ليست قضية السنة ولا الشيعة، بل هي قضية شعوب عربية ترزح للديكتاتوريات ولا يفرق هؤلاء الديكتاتوريون بين السنة والشيعة” وقال: “نقول لاخواننا في البحرين نحن معكم قلباً وقالباً ونحن نتألم عندما تتألمون ونعتبر معركتكم هي جزء من معركتنا”. لقد فات الرجل حتى ملاحظة أن المعترضين على ملك البحرين والذين يتظاهرون ضده هم الشيعة فقط دون السنة! والرجل – كما أحسبه – صادق مع نفسه؛ فالخلل في فكره لا في قصده! وهو ناشئ عن (التقوقع) وعدم معرفة واقع الحال. وهذا اختلال كبير في الفكر يقف حاجزاً بين المحلية والعالمية التي هي من سمات الفكر التجديدي.
الأمر نفسه يعاني منه الفكر في العالم الإسلامي خارج المنطقة العربية (تركيا مثلاً). ولا يستثنى من ذلك بدرجة مقبولة سوى بعض دول الخليج العربي؛ وذلك لقربها من إيران فكان هذا مشتركاً بيننا وبينهم، ومن آثاره ظهور قناة (صفا) و(وصال) الفضائيتين.
ب. التشتت الفكري
على الضد من ذلك يتجه (التشتت) الفكري، حين يقفز إلى العالَمية متخطياً بيئته المحلية يريد عبورها دون التوقف عندها لاتخاذها منطلقاً للوصول! فتجد العراقي – مثلاً – يفكر في أفغانستان والفلبين والمسلمين في جنوب إفريقيا، وربما يعرف عنهم أكثر مما يعرف عن الشيعة وإيران وخطر هؤلاء عليه ديناً وهوية ووجوداً. وذلك نوع من أنواع الهروب من الواقع، وعدم الاستعداد للمواجهة ودفع الثمن.
في هذه الحالة يكون الفكر قد ولد ميتاً. فهو عاجز عن تسويق نفسه إلى بيئته، فضلاً عن تصدير بضاعته إلى بيئة أُخرى غريبة أو بعيدة عنه!
الاتباع الواعي هو الحل
في التجربة النبوية خير درس؛ إذ انطلقت من (المحلية) إلى (العالمية) سالكة المسار الطبيعي لكل فكر تجديدي حي، ودعوة تغييرية ناجحة. لقد تمكنت محلياً أولاً، ثم من بعدُ انطلقت خارج بيئتها لتحقق رسالتها عالمياً. وقد حافظت على التوازن بين الطرفين عن طريق اتباع القاعدة التالية: (فكر عالمياً وتصرف محلياً). بمعنى أنها ابتدأت فركزت فكرها وعملها على الداخل، في الوقت الذي كان هذا الفكر يذكر أن غاياته عالمية تتخطى الحدود والأعراق والشعوب. بمعنى أنه حافظ على ثلاثة عناصر مهمة للنمو والحيوية والتأثر والتأثير: اثنان منهما محليان، والثالث عالمي. أما المحليان فالتفكير والعمل، وأما العالمي فالتفكير على قدر معين، حتى إذا جاء دور التمدد عبر البيئة الأولية (المحلية) جاء دور العمل، وتمدد الفكر وتركز بما يتناسب والدور الجديد.
بالمحافظة على هذا التوازن الدقيق يكون فكرنا تجديدياً عالمياً؛ لأنه فكر واقعي يمتاز بالمرونة تأثراً وتأثيراً، خاضع على الدوام للاختبار والتعديل والتطوير.
أعداء التجديد
أَعدَاءُ التَّجدِيد
شر الأعداء ما كان منك وفيك. أما أعداء الخارج فما دمت متماسكاً فإن الطرق لا يزيد المسمار إلا ثباتاً. أعداء المشاريع الخطرون هم أصحابها، وحواشيها. وعادة ما يكون هؤلاء أقرب الأتباع للمجدد أو المؤسس في العمل أو النسب.
عندما تتحول المشاريع والمؤسسات، والمؤسسون والمجددون، لا سيما بعد حياتهم، إلى مشروع تجاري، أو هدف اعتباري. وذلك من أبخس البخس.
عندما تنقلب المؤسسة إلى دائرة، والقيادة إلى إدارة، والدَّولة إلى دُولة، والقضية إلى تراث، والجغرافية إلى تاريخ.
عندما يذهب جيل التأسيس، ويأتي جيل لا يعرف شيئاً عن معاناة السابقين وماذا فعلوا وبذلوا، وكم ضحوا وخسروا، وكيف ابتدأوا البناء من نقطة ما (تحت الصفر)، والناس تصيح بهم من كل جانب: سيبدلون دينكم ويُظهرون في الأرض الفساد.
عندما ينتمي إلى المؤسسة بعض الكسالى والقاعدين يتجملون باسمها، ويبغون الاستفادة منها. حتى إذا جد الجد وطولبوا بالعمل دون أجر تنكروا لها، وابتغوا لها العيوب. وما علموا أن القضية في حاجة إلى من يحملها لا إلى من تحمله. وأن القضية التي تحمل أهلها سرعان ما تكبو قبل إكمال الطريق.
احذروا المتعصبين …….!
أول أعداء التجديد المتحمسون الفارغون، أو المتعصبون للمجدد، ولأفكاره وما تواضعت عليه المؤسسة. المتعصب عنصر خطير يجب المسارعة إلى عزله وإخراجه من المؤسسة، وحرمانه من صفة العضوية فيها، قبل أن يقضي عليها ويحولها إلى هيكل بلا مضمون، وجسد بلا روح، ورماد لا جذوة فيه.
ما سجلناه على الأحزاب والجماعات التقليدية التي انطفأت جذوتها بعد ذهاب أجيالها الأولى: أنها تبحث عن هذه النماذج المتعصبة، فتصبح جاذبة لها طاردة لمن سواها، فلا يجد ذوو الأفكار النيرة المتوهجة ممن يصلحون أن يكونوا لبنات للتجديد، موضعاً لهم فيها. إذذاك يمسي مدى (الولاء للجماعة) من عداه، (أي التعصب) هو مقياس التقييم، وليس الأداء في معادلة دقيقة تجمع بين الولاء والأداء بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
وهؤلاء ثلاثة أصناف: جاهلون ووصوليون وأقارب.
- المتعصبون الجاهلون
لا أقصد بالجاهل ذلك الشخص الذي لا يقرأ وليس لديه علم أو ثقافة. بل قد يكون قارئاً جيداً وعالماً باختصاصه، وذا ثقافة واطلاع! لكنه تقليدي جامد. العلم عنده مجموعة من المعلومات والمحفوظات المكدسة بعضها إلى جنب بعض، لا تتفاعل فيما بينها ولا تتلاقح ولا تتوالد. فالفرق بينه وبين الأمي أو الجاهل فرق كمي لا نوعي. ذاك أمي الحرف، وهذا أمي الفكر. والجاهل يهدم أكثر مما يبني.
- المتعصبون الوصوليون
صنف آخر متعصب لا بسبب الجهل، وإنما هم طائفة من الوصوليين الذين يتظاهرون بالحرص على المؤسسة وحب المؤسس والخوف على أفكاره من التبديل. يفعلون ما يفعل الجاهل، ولكن بنوايا مختلفة.
- المتعصبون الأقارب
صنف ثالث من المتعصبين هم (أهل بيت) المؤسس من أبنائه وأقربائه، والمتأثلين منهم بالانتساب إليه. بهذه الطريقة تنشأ البيوتات التي يشار إليها بالبنان. وبالطريقة نفسها تولد ظاهرة بيوت الدين التي تتوارث القيمومة على الأديان. وهو ما خاف منه نبينا زكريا u فقال: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 6،5). والموالي هم أقرب الأقارب. خاف أن لا يحفظوا ميراث النبوة، ويقوموا بتبليغه على الوجه المطلوب. إنما يستغلون قرابتهم منه، ويتخذوا منه غرضاً اعتبارياً ومشروعاً اقتصادياً فتكون لهم الوجاهة والمال. وبهذين العنصرين يكتمل لهم الكهنوت الديني.
إنه لولا حفظ الله بنفسه لدينه الأخير لقضي على هذا الدين العظيم بيد المتأكلين بأنسابهم والمتفاخرين بأحسابهم. فكم حاول هؤلاء أو الأدعياء أن ينشئوا لهم (بيوتاً) فلم يفلحوا إلا على مستوى محدود، لم يتمكنوا من أن يكونوا به الوارث الأوحد أو الأكبر؛ لأن الله تعالى أبى للدين الخاتم إلا أن يبقى كما أراده وكما ينبغي أن يكون الدين.
إن هذا القانون الاجتماعي، الذي يفعل فعله في غياب الورع والتقوى، يفسر كثيراً من الصراعات التي حصلت بعد جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ودفعت الأمة أثمانها جهلاً من بعض وبغياً من بعض.
كيف يقضي أبناء المؤسسة التجديدية عليها
يشترك هؤلاء جميعاً بتمسكهم الحرفي بالأفكار الخاصة دون النظر إليها بموضوعية. فيحاربون كل فكرة مغايرة؛ لا لسبب سوى أنها مغايرة للمألوف. يحاربونها بلا هوادة! وبذلك يجنون على مؤسستهم أضراراً متنوعة:
- نفرة الناس، والسمعة السيئة، وفوات الحق الذي يطرح لأنه غريب، والجمود الذي هو سوسة التجديد.
- الجاهل المتعصب لا يدرك أن الأفكار التجديدية تنتابها جملة أمور تقتضي التغيير أو التكييف والتحوير:
- فقد يكون بعضها خطأ من الأصل؛ فليس المجدد معصوماً، وهذه في حاجة إلى تصحيح وتسديد.
- وبعضها يصلح لمكان دون مكان، وهو يريدها مطلقة عن حدود المكان بما فيه من اختلاف في المذاهب والنفسيات والتقاليد والقوى والمخاطر وغيرها.
- وبعضها فقد صلاحيته بفعل الزمن وتغير المشاكل والتحديات.
الجاهل أو ذو العقل التقليدي يفوته كل هذا فيعادي أي بادرة للتغيير والتجديد، ويثير حولها الغبار، ويعادي المجددين طاعناً في نواياهم. فإذا كان ممن يتسنم موقعاً مؤثراً في المؤسسة، ووجد له أعواناً مثله أو من الوصوليين المنتفعين، لاسيما إذا أمسك بالقلم وصار يكتب وينظّر، ابتعد الأشراف عن هذا الجو الموبوء، واضطر المجددون والمفكرون والعاملون العالمون إلى مغادرة المؤسسة والتسلل منها الواحد تلو الآخر! عند ذلك تتحول المؤسسة إلى دائرة، والمنتسبون إليها إلى مجموعة موظفين، وبذلك يموت التجديد وينتهى كل شيء! ولو خرج المؤسس أو المجدد الأول من عالمه الذي هو فيه ورأى ما رأى لطرد هؤلاء الحثالة من الجهلة المتعصبين وحاشيتهم المنتفعين، قائلاً لهم: اخرجوا منها مذؤومين مدحورين.
على أبناء المؤسسة المخلصين أن يبادروا فيبعدوا المتعصبين بكل أصنافهم، وإذا احتاجوا إلى البعض منهم فليختاروا صاحب النية الصالحة، وبشرط أن لا يكون في موضع قيادي أو مؤثر، ولا يكثر عدده بحيث يصعب السيطرة عليه. وخير ما يحمي المؤسسة هو نظام داخلي متطور لا يسمح بوصول أي شخص إلى القيادة بكل مستوياتها لغير المؤهلين من ذوي الفكر الميداني المرن المتجدد القادر على التكيف مع المستجدات والمتغيرات.
* * *
الابداع
الإبدَاع
-
تعريف الإبداع
الإبداع: هو الإتيان بشيء مبتكر يحقق منفعة، بصورة استثنائية.
وخاصية الإبداع تجعل صاحبها يتعامل مع الأشياء بطريقة جديدة مبتكرة، تُطَور الفكر وتقفز به، وتُحسّن العمل وتُجوّد الأدوات، وتضاعف الإنتاج وتقلل الجهد، وتختصر المسافة لتصل إلى الهدف من أقرب طريق.
ولتوضيح الفكرة يمكن ضرب المثال بالماديات الملموسة التي حولنا؛ كالسيارات والطيارات والبواخر والأدوية والطب الحديث والمصباح والمروحة والمذياع والهاتف والتلفاز، وغيرها من المبتكرات التي لا تحصى، كلها أمثلة على الإبداع.
أما الفرق بين الإبداع والتجديد فنجده في قاعدة (ليس من شرط التجديد الإتيان بجديد)، بينما الإتيان بجديد، ومنه الابتكار والاختراع، شرط أساسي من شروط الإبداع. وهذا يتجلى بوضوح من النظر في الجذر اللغوي للكلمة. قال ابن منظور في (لسان العرب): بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. وبدَع الرَّكِيّة: اسْتَنْبَطَها وأَحدَثها. ورَكِيٌّ بَدِيعٌ: حَدِيثةُ الحَفْر. والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً. وفي التنزيل: (قُل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل)؛ أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ، قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير… والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: المُبْدِعُ. وأَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْته لا على مِثال. والبَديع: من أَسماء الله تعالى لإِبْداعِه الأِشياء وإِحْداثِه إِيَّاها. وهو البديع الأَوّل قبل كل شيء، ويجوز أَن يكون بمعنى مُبدِع أَو يكون من بَدَع الخلْقَ أَي بَدَأَه، والله تعالى كما قال سبحانه: (بَدِيعُ السمواتِ والأَرض)؛ أَي خالقها ومُبْدِعُها فهو سبحانه الخالق المُخْتَرعُ لا عن مثال سابق إ.هـ.
وردت تعريفات عديدة للإبداع، لم أجد فيها ما يكفي ويشفي لرسم صورة واضحة مبسطة، هي للشرح وبيان آلية الإبداع أقرب منها للتعريف، سأكتفي بواحد منها كمثال: الإبداع هو البحث عن حلول، وإضافة فرضيات واختبارها، وصياغتها وتعديلها باستخدام المعطيات الجديدة للوصول إلى نتائج نافعة لتقدم الآخرين ([1]). ويأتي الفكر على رأس مجالات الإبداع. فلا إبداع في أي مجال بلا فكر بديع. وهذا أمر بديهي.
-
من صفات الشخص المبدع
الإنسان المبدع هو من اتصف تفكيره بالجدة أو الأصالة، والنمو أو الطلاقة، والمرونة أو عدم التصلب الذهني، والإحساس المرهف بالمشكلات، والنظر الكلي الذي لا يتوقف عند الجزئيات. ومن صفات المبدع الثقة العالية بالنفس. وهناك صفات أُخرى تطلب في مظانها.
وإذا كان الإبداع قدرة عقلية عامة تدفع صاحبها للبحث عن الجديد وإنتاجه، فمن مميزات المبدع:
- الذكاء: لا يمكن أن يكون الإبداع نتاج عقل عادي؛ فالإبداع جهد فكري كبير متعدد الجوانب، يستند إلى قواعد عديدة للتفكير. على أنه وإن كان كل مبدع ذكياً، لكن ليس شرطاً أن يكون كل ذكي مبدعاً. إن ذكاء كثير من الأذكياء يقتصر على القدرة على حفظ المعلومات دون القدرة على هضمها وفقهها واستنباط الأفكار الجديدة منها. مثله كمثل من ورث ثروة كبيرة لكنه عاجز عن استثمارها. إنه ذكاء كمي، وما نحتاجه للإبداع ذكاء نوعي.
- الأصالة: وهي القدرة على إنتاج الأفكار والحلول والمقترحات الجديدة والطريفة. التي تتميز بأنها أجود من سواها. فالمبدع الأصيل لا يكرر الأفكار والحلول التقليدية للمشكلات.
- الطلاقة: أي القدرة على إنتاج أكبر عدد ممكن من الأفكار عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة. أي كلما ارتفع حظ الشخص من القدرة على تحقيق السيولة في الأفكار ارتفع حظه من القدرة الإبداعية.
- الحساسية
أو الإحساس المرهف بالمشكلات: أي القدرة على رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد. فهو يعي الأخطاء في الأشياء التي حوله، ويدرك نواحي النقص والقصور ويحس بالمشكلات إحساساً مرهفاً. والمشكلة حالة تحريض للذهن. وهذا يدفعه لخوض غمار البحث فتزداد الفرص أمامه نحو الخلق والإبداع.
- المرونة الفكرية: أي القدرة على تغيير الحالة الذهنية والأفكار بتغير الموقف. وتقبل آراء الغير ووجهات النظر الأُخرى. والمشاركة الوجدانية وتحسس مشاعر الآخرين وآمالهم. وهي عكس ما يسمى بـ(التصلب الذهني) و(الجمود)، الذي يصف بعض أشكال التفكير التي يتميز أصحابها باعتناق أفكار ثابتة محددة يواجهون بها مواقف الحياة مهما تنوعت واختلفت.
- النظر الكلي: أي القدرة على اكتشاف العلاقات بين الأشياء، واكتشاف القوانين الكلية التي تربط بين الجزئيات والظواهر التي تبدو غير مترابطة، أو متناقضة. إن كل فكرة إبداعية تقوم في الحقيقة على خلق نظام جديد من العلاقات بين الأشياء بعضها ببعض، بصورة لم يلاحظها أحد من قبل. والمبدع شخص يستطيع ترتيب عناصر سابقة غير مترابطة في صياغة جديدة فاعلة. فكما يحول الأديب خبرته بالبشر إلى رواية أو مسرحية، فإن العالم يختبر البيانات التي جمعها ويحولها إلى نظرية جديدة. وهناك أدلة تثبت أن كبار المبدعين امتازوا بهذه القدرة العقلية([2]).
- الواقعية: إن المعاناة المنبثقة عن معايشة المشكلات ومواجهة التحديات تدفع صاحبها للتفكير في وجود حلول جديدة لما يواجهه من مشكلات وتحديات. كما أن من أهم آليات اختبار الفكرة القديمة لمعرفة مدى صحتها وصلاحيتها للحياة، ومدى حاجتها للتغيير والتطوير، هو تجربتها، أو النظر في آثارها السابقة على الواقع. وهذا يدعو إلى التنقيب عن جوانب النقص فيها لتلافيها، أو التوصل إلى أنها ما عادت صالحة للحياة؛ وذلك يستدعي إزاحتها والبحث عن فكرة جديدة تحل محَلها.
- الثقة بالنفس: فالمبدعون متكيفون اجتماعياً، ولديهم رغبة في التفاعل الاجتماعي وإقامة علاقات ناجحة. وغالباً ما يعزون الفشل إلى نقص في الجهد المبذول، وليس إلى نقص في مقدرتهم. ولا يترددون من الاعتراف بالخطأ أو الفشل، بل يستطيعون الاستفادة منه باعتباره جزءاً من معادلة النجاح وليس خارجاً عنها، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). وذلك بخلاف العاديين إذ يعزون الفشل أو النجاح إلى الحظ أو صعوبة أو سهولة المهمات الموكلة إليهم، أو إلى أسباب أخرى بمبررات انفعالية. وغالباً ما يصنعون لأنفسهم أهدافاً كبيرة يسعون إلى تحقيقها، فإذا لم تتحقق تلك الأهداف فإنهم يشعرون باليأس والإحباط([3]).
[1]– الإبداع ذروة العقل الخلاق، ص9-10، أنس شكشك، الطبعة الأولى 2007م، كتابنا للنشر، لبنان: المنصورية. بتصرف قليل.
[2]– المصدر السابق، ص30-32. بتصرف.
[3]– المصدر نفسه، ص114-115.
ما يهمنا من الإبداع
ما يهمنا من الإبداع
الإبداع علم قائم بذاته. بدأ الاهتمام به مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي كموضوع رئيس في علم النفس الحديث؛ إذ اعتبر عملية نفسية تستلزم قوى عقلية متعددة وخبرات، وترجع لعوامل العاطفة القوية والحساسية المرهفة([1]).
وما يهمنا منه في منهجنا جملة أمور تدخل في مجالي الفكر والعمل، والتطوير، ونترك الباقي للجهد الشخصي في البحث والاستقصاء، ولورش التدريب والدورات التطويرية. من هذه الأمور:
- الإبداع ظاهرة إنسانية عامة
من أبرز التطورات التي أدت إليها الدراسة العلمية للإبداع هي أن كلاً منا قادر على أن يكون مبدعاً لو عرف الطريق لاكتشاف الخصائص والقدرات الدالة على الابتكار والتجديد الكامنة فيه، ووعاها ونمّاها… فالإبداع ظاهرة إنسانية طبيعية، وليس قاصراً على ذوي الموهبة. أي إن الإبداع موجود لدى البشر بدرجات متفاوتة، وأساليب متنوعة. وهذا يزيد الثقة بالنفس، ويفتح السبل أمام العامل للتحليق وتطوير القدرة على الإبداع، ويجعل التحدي الحقيقي يتلخص في أمرين:
- كيف يكتشف ما لديه من مَكِنات أو طاقات وقدرات إبداعية؟
- وكيف ينمي ويطور ثم يوظف ما لديه من مكنونات الإبداع.
ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن علماء النفس مجمعون على توقع الأعمال الإبداعية من الأذكياء أكثر من غيرهم. على أنهم يضيفون: ليس كل شخص حاد الذكاء عبقرياً، وإن كان العكس صحيحاً، أي أن كل مبدع عبقري هو حاد الذكاء([2]).
2. الإبداع ممارسة جماعية
من أجل أن يتحول الإبداع إلى روح تسري في الأمة، لا بد أن يخرج من نطاقه على مستوى الفرد إلى انطلاقه على مستوى الجماعة. نحن بأمس الحاجة إلى أن نتخلص من المفهوم القديم الذي يفترض لكل قرن مجدداً واحداً، ثم يتعسف في تعيينه من يكون؟ لنعلم أن الإبداع الفردي لا قيمة له في الحياة سوى الإعجاب بالمبدعين، وهذا لا معنى له ولا ثمرة ترتجى من ورائه ما لم يتحول إلى فعل وممارسة جماعية، تثار فيها القوى مجتمعة: كل حسب طاقته وإمكانيته وما يحسنه، وكل حسب موقعه المناسب.
3. الفكر المبدع نتاج فعل اجتماعي نسقي
يقول شوقي جلال: إن الإنسان يفكر إبداعياً حين يعمل، وإذا تعطل العمل غاب العقل المبدع. ونعني بالعمل العمل الاجتماعي القائم على التفاعل المشترك (النسقي) نحو أهداف محددة. ومن ثَم يكون الفكر منتَجاً اجتماعياً حين يرتكز على التفاعل الذي يدعم التلاحم والانتماء، والذي يتجسد في مشروع قومي أو استراتيجية تنموية تطورية اجتماعية.
وتؤكد الدراسات أن الإنسان الذي يعمل هو الذي يبدع فكراً ويرتقي سلم التطور الحضاري. إن من يقبع في مكانه والنظارة على عينيه لا يتكيف مع الواقع، على عكس من يتحرك ويحاول العمل بيديه، أي التفاعل مع البيئة، فإن صورة الواقع تتعدل وسرعان ما يتكيف مع الواقع ويتعامل معه بنجاح.
إن العمل المجتمعي شرط التكيف مع الواقع المتغير . وهو أداة تلاحم، ومِحك مراجعة، ومعيار صدق، وشرط الإبداع والتجديد الفكري.
من خلال العمل تتجدد الاحتياجات العملية للمجتمع، ومهام المستقبل، ومعوقات الحركة المادية والفكرية، وتتعدد تيارات الفكر في تفسير الواقع وتتلاقح فيما بينها تناسقياً وإيجابياً.
بالعمل تكون المعرفة رداً على سؤال يطرحه العلم على أرضية الواقع. وإذا تعطل العمل توقفت التساؤلات، وحلق التفكير في فراغ التهويمات العاجية. ويدور الجدل في حيز نظري افتراضي مجرد لا مجال لاختبار صحة فرضيته . فالعمل هو مجال اختبار الفروض، والتكيف ضد أي تشويه مضاد للصورة أو الفكرة.
العمل المجتمعي هو علة التطور والارتقاء في الفكر والجسد، كما وأنه هو أساس تصحيح الأخطاء في الإدراك والتقدير والتوقع. والعمل المجتمعي هو منطلق الشعور بأزمة الفكر في التعامل مع تحديات الواقع؛ وبذا يكون العمل هو الحافز إلى التغيير، ومظهر انتماء الفكر والتاريخ([3]).
4. وجود المنظومة
لا يمكن نقل الإبداع من مجاله الفردي إلى نطاقه الجماعي، من أجل أن يتحول إلى فعل تجديدي يعطي ناتجاً اجتماعياً يسهم في تطور المجتمع وبنائه الحضاري المتقدم، دون وجود منظومة فاعلة تجمع الطاقات الإبداعية المتناثرة في دائرة نسقية واحدة، تضع كل شيء في مكانه المناسب، الذي يخدم من ذلك المكان أجزاء المنظومة كلها.
5. إن لم تكن مبدعاً فكن ناقلاً للإبداع
حين يكون الإبداع ممارسة جماعية، تحكمها منظومة اجتماعية، يكون الجميع مبدعين! فمن لم يكن مبدعاً سيكون ناقلاً للإبداع؛ فما كل فرد تتهيأ له الفرصة -أو هو مهيأ أساساً -لفعل الإبداع. لكن عملية الإبداع حتى تتحول إلى واقع في حاجة إلى فعل جماعي يأخذ فيه كل فرد في المنظومة دوره. فمن لم يكن مبدعاً بذاته، يمكنه أن يكون مبدعاً بغيره؛ حين يقوم بنقل الإبداع وإيصاله إلى أهدافه. وبذلك يكون غير المبدع مبدعاً.
[1]– المصدر نفسه، ص11.
[2]– المصدر نفسه، ص6، 12-13.
[3]– الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل، ص60-61 ، شوقي جلال، مكتبة مدبولي، 2002 ، بتصرف.
الإيمان والتنمية الإيمانية
فقهُ الإيمان والتَّنمِيَةِ الإيمَانِيَّة
إن مؤسستنا مؤسسة ربانية، ومشروعنا مشروع رباني. وهذا يعني اعتماد (الإيمان): عقيدةً وتزكيةً وسلوكاً، مبدأً أساسياً يحتل المرتبة العليا الأولى في سلم أساسيات مشروعنا، وترسيخه في نفوس القادة والدعاة وحملة القضية، ونشره في حاضرتهم الدعوية وصولاً إلى جعله ظاهرة اجتماعية.. أول مهام هذه المؤسسة وكل مؤسسة ربانية. ولا غرابة؛ فالإيمان أصل الدين وروحه، ومظهره وجوهره.
ولتحقيق هذه الغاية نحتاج إلى إفراد موضوع الإيمان بفقرة خاصة إلى جانب بقية فقرات منهجنا. نركز فيها على عشرة أمور هي:
- نحن دعوة ربانية قبل أن نكون قضية سياسية.
- تعريف الإيمان تعريفاً سهلاً ميسراً يعتمد على صريح القرآن الكريم وصحيح السنة، دون تطويل أو تعقيد أو خوض في طرق المتكلمين.
- الجمع بين ركنَي الإيمان والنصرة، بلا فصل يجعل الإيمان معزولاً أو مشلولاً عن تحريك الروح والنماء في مفاصل الحياة، أو يجعل مبدأ النصرة معلولاً لا يستقيم على الصراط القويم.
- اعتماد مبدأ التنمية الذاتية للإيمان. أي كيف ينمي المسلم إيمانه ذاتياً، ويرعاه بنفسه شخصياً، ويزكيه ويباركه دون الاعتماد على حث الآخرين وموعظتهم؛ وذلك من خلال إطلاق طاقة النظر والتدبر ثم طاقة الشعور والتأثر في آيات الأكوان من ناحية، وآيات القرآن من ناحية ثانية، ورعايتها حتى تصل إلى غايتها من الإيمان وعمل الأركان.
- الإيمان بالقدر؛ فإن هذا الموضوع في حاجة إلى تجلية خاصة تتناسب ومشاكل العصر، وبصورة سهلة قدر الإمكان. إضافة إلى أهميته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَآمَنَ بِالْقَدَرِ، فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصَامَ لَهَا. وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُ بِالْقَدَرِ نَقْضٌ لِلتَّوْحِيدِ)!
- تحريك عناصر الإيمان وتفعيلها في مفاصل المؤسسة لبنائها ورصها وتماسكها أولاً، ولحمايتها من عوامل الهدم الداخلي ثانياً. فالإيمان ليس قوة هائمة في فضاء، وإنما طاقة فاعلة في بناء، يشكل الأفراد المؤمنون لبناته الصالحة، ولكن مجتمعين لا متفرقين.
- متممات الإيمان:
- أن نجعل من مجالسنا مجالس موعظة وذكر، كما هي مجالس يقظة وفكر سواء بسواء، بحيث لا ينفصل هذا عن ذاك. وأن نحدز من الانزلاق شيئاً فشيئاً إلى الانشغال بالتفكير والحركة الخارجية في رحاب الأفق، على حساب الخشوع والحركة الداخلية في خبايا النفس.
- إشاعة مفهوم في كل عصر صحابة. فهذا أمر يكاد يغيب غياباً عاماً عن مناهج التربية الإيمانية. وإحضاره أمام عين السالك إلى الله تعالى يمنحه ثقة عالية بنفسه، وهمة ونشاطاً إلى عمله، ويزيد في طموحه، ويجعله متحفزاً لمنافسة السابقين ترقياً في مدارج السالكين. على العكس من المنهج الشائع.
- تجديد الكلمات الإيمانية بما يتناسب مع الحال والواقع، لتغذية الإيمان وتنشيطه بصورة أفضل وأكثر فاعلية في الأنفس والآفاق.
- التنبيه إلى أهمية مبدأ ساعة وساعة الذي سنه النبي e، للتعبير التلقائي عن طبيعة النفس البشرية واحتياجاتها، والترويح الذي تستدعيه الفطرة كسراً لحدة حركة الحياة، وتخفيفاً عن ثقل مسؤوليتها، وأداء لحق النفس والأهل والرفيق. ولكن بالضوابط الشرعية، والمحسنات الذوقية قدر المستطاع.
في ضوء هذه المقاصد العشرة يمكننا أن نشير إلى المعالم التالية؛ تحقيقاً لتلك المقاصد العالية.
دعوة ربانية قبل أن تكون قضية سياسية
( 1 )
دَعْوَةٌ رَبّانِيةٌ قَبلَ أنْ تكُونَ قَضِيّةً سِيَاسِيّة
1. الربانية والتزكية
– لغة – نسبة
|
2. الربانية والقضية
|
مؤسستنا موصوفة بأنها مؤسسة ربانية، ومشروعنا مشروع رباني. فنحن دعوة ربانية قبل أن نكون قضية سياسية؛ وهذا يعني اعتماد (الإيمان) أولاً..
– عقيدةً
– وتزكيةً
– وسلوكاً
والربانية في فهمنا المنبثق عن القرآن الكريم تعني شيئين: التزكية، والعمل للقضية. منطلقين من القرآن: ابتداء ورجوعاً وانتهاء.
الربانية والتزكية
أما التزكية فتفهم من معنى الرباني: لغة ونسبة.
أما اللغة.. ففي (لسان العرب) ما يكفي ويشفي، وهذا ملخص منه: قال ابن منظور: قيل: الرَّبَّانِـيُّ الذي يَعْبُد الرَّبَّ، زِيدت الأَلف والنون للمبالغة في النسب. وقال سيبويه: زادوا أَلفاً ونوناً في الرَّبَّاني إِذا أَرادوا تخصيصاً بعِلْم الرَّبِّ دون غيره، كأَن معناه: صاحِبُ عِلم بالرَّبِّ دون غيره من العُلوم؛ وهو كما يقال: رجل شَعْرانِـيٌّ، ولِحْيانِـيٌّ، ورَقَبانِـيٌّ إِذا خُصَّ بكثرة الشعر، وطول اللِّحْيَة، وغِلَظِ الرَّقبةِ؛ فإِذا نسبوا إِلى الشَّعر قالوا: شَعْرِيٌّ، وإِلى الرَّقبةِ قالوا: رَقَبِـيٌّ، وإِلى اللِّحْيةِ: لِـحْيِـيٌّ.
الرَّبِّـيُّ: منسوب إِلى الرَّبِّ. والرَّبَّانِـيُّ: الموصوف بعلم الرَّبِّ. قال ابن الأَثير: هو منسوب إِلى الرَّبِّ، بزيادة الأَلف والنون للمبالغة؛ قال: وقيل: هو من الرَّبِّ، بمعنى التربيةِ، كانوا يُرَبُّونَ الـمُتَعَلِّمينَ بِصغار العُلوم، قبلَ كبارِها. والرَّبَّانِـيُّ: العالم الرَّاسِخُ في العِلم والدين، أَو الذي يَطْلُب بِعلْمِه وجهَ اللّهِ.
الرَّبَّانيُّ: الـمُتَـأَلِّه، العارِفُ باللّه تعالى.
قال الأَخفش: الرِّبيون منسوبون إِلى الرَّبِّ. قال أَبو العباس: ينبغي أَن تفتح الراءُ، على قوله، قال: وهو على قول الفرّاء من الرَّبَّةِ، وهي الجماعة. وقال الزجاج: رِبِّـيُّون، بكسر الراء وضمّها، وهم الجماعة الكثيرة. وقيل: الربيون العلماء الأَتقياءُ الصُّـبُر؛ وكلا القولين حَسَنٌ جميلٌ. وقرأَ ابن عباس: رَبِّـيُّون، بفتح الراءِ.
والتأمل في المعنى اللغوي يكفي وحده لفتح آفاق علمية وروحية للمتأمل في العلاقة بينه وبين (الربانية).
وأما النسبة.. ففي التفكر في شرف إضافة العبد إلى الرب يطيش العقل، ويطير القلب، وتتحرر النفس، وتحلق الروح، وينبعث الشوق، وينخلع هذا الكيان الطيني من وهدته ليصبح حراً طليقاً من جاذبية فلك العنصر المادي إلى رحاب العلو النوراني. فمن أنا حتى ينسبني الرب الجليل الجميل إلى نفسه؟! ويضيفني إلى ذاته؟! ويكرمني هذا الإكرام؟! سبحانه هو الذي خلق الإنسان من علق! وهو الذي أكرمه فجعل منه إنساناً يمسك بالقلم عالماً ومعلماً! ثم زاده فألحقه به ونسبه إليه فكان (ربانياً)، بهذه الصيغة الباذخة الشامخة. ولو كان (رَبياً) لكفى به تكريماً وتشريفاً، فكيف وقد رفعه هذه الرِّفعة الجليلة، وصاغه هذه الصياغة الجميلة.. فكان (رَبانياً) لا (رَبياً) وحسب!
هل يقرأ مسلم حاضر القلب هذه المعاني ولا يسأل نفسه ويستفهم غيرهَ: كيف أكون مسلماً (ربانياً)؟ ما الذي عليّ أن أفعله؟ وكيف أحافظ على هذا النسب الشريف، واللقب المنيف؟ إذن إليك الجواب..
الربانية والقضية
هذا المفهوم الجليل نلمسه من اقتران (الربانية) حيث وردت في النص الإلهي ببيان مَهَمَّة (الرباني) ودوره أو وظيفته في الحياة. وهي على أربعة أقسام:
- تعليم الكتاب ودراسته: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).
- تحكيم شرع الله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة:44).
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (المائدة:63).
- الجهاد أو القتال في سبيل الله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146).
والقضية تأتي بعد الربانية في المرتبة، وإن كانت لا تنفصل عنها. لكنها كالبناء بعد الأساس. والسياسة جزء من مفهوم (القضية)، كما تشير إليها الآيات آنفة الذكر. وكما يدل المفهوم بالتضمن واللزوم. فهي من هذه الناحية أيضاً تأتي بعد الربانية تبعاً للقضية.
هذه هي (الربانية) في منهجنا.. تزكية وقضية، إيمان ونصرة، زاد وجهاد. لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
الإيمان .. تعريفه وحقيقته
( 2 )
الإيمَانُ .. تَعرِيفُهُ وحَقِيقَتُه
1. تعريف الإيمان
|
2. بين الإيمان والعقيدة
|
تعريف الإيمان
الإيمان في كتابنا قول وعمل، يزيد وينقص. قول بالقلب واللسان، وعمل بالجوارح والأركان.
أما قول القلب فاعتقاده وتصديقه، وأما قول اللسان فذكره ولفظه. وذلك لا يَصْدُق حتى يشهد له البدن بالعمل. وأما زيادته فبالعلم والتدبر والطاعة. ونقصانه فبالجهل والغفلة والمعصية.
قال Y: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:2-4). فهذه الآية تحصر تعريف المؤمنين بمن اكتمل لهم عمل القلب بعمل الجوارح.
وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15). وفيه أن المسلم لا يبلغ عمله به إلى أن يكون مؤمناً حتى يكون مجاهداً. فالجهاد هو الحد الفاصل بين الإسلام والإيمان.
والمقصود بالإيمان هنا ليس أصله الذي به يصدق على المرء اسم المسلم ويصح به العمل، إنما الإيمان الذي يؤهل المسلم لدخول الجنة كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142). وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
والجهاد أبواب كثيرة: فتارة بالكلمة والتبليغ والإعلام، وتارة بالإنفاق وبذل المال، وثالثة بالمنصب والجاه، ورابعة بالقتال… وهكذا. وقد قال رسول الله e كما جاء في (الصحيحين): (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). بشرط أن يكون ذلك كله في خدمة القضية من جوانبها المتعددة ضمن منظومة تجعل من هذا التنوع حالة تكاملية في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود. إلا إذا فقدت المنظومة وعجز الفرد عن إنشائها فيكون عمله حسب طاقته: علماً وقدرة.
بين الإيمان والعقيدة
(الإيمان) هو كلمة الرب سبحانه التي اختارها ليخاطب بها كيان عبده كله: عقلاً وعقيدة وفكراً، وقلباً وشعوراً ووجلاً، وبدناً وسلوكاً وعملاً.
كلمة تتجه إلى العقل فتصلح من فكره وعقيدته، وإلى القلب فتصلح من شعوره وانفعاله وعاطفته، وإلى الجوارح فتصلح من عملها وسلوك صاحبها. اقرأ – مثلاً – قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67). كيف عرضت الآية لإصلاح الفكر والعقيدة، وكيف خاطبت العقل من خلال القلب الذي يكاد ينخلع ويتصدع وهو يقرأ ويستشعر عظمة الله جل في علاه عبر هذه الصورة الرائعة الجليلة المهيبة! التي ترسمها الآية وهي في صدد معالجة عقيدة الشرك والتحذير منها، لا سيما وقد قال – سبحانه – قبلها مباشرة: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر:66،65).
ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم الأسلوب نفسه في عرضه للعقيدة. انظر إليه كيف يتجه إلى العقل فيثبت العقيدة، وإلى القلب ليحدث الانفعال ويورث العمل بخطاب واحد! روى الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلمفنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ (وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).
بهذا الأسلوب وصل الخطاب إلى مرماه المطلوب من التغيير الذي جاء الإسلام من أجله. فحصل التغيير في العقل أي الفكر والعقيدة، كما حصل في القلب أي الشعور والعاطفة، وكذلك البدن أي السلوك والعمل.. أو الإيمان بتعبير آخر.
ولما كان مصطلح (العقيدة) لا يتسع للتعبير عن المجالات الثلاثة معاً، وكان الاقتصار عليه يؤدي إلى نتائج سلبية خطيرة تتلخص في انشطار العلم عن العمل، كان لا بد للوحي من أن يعدل إلى مصطلح آخر يتسع لهما جميعاً؛ فكان مصطلح (الإيمان).
إن مصطلح (العقيدة) مصطلح فكري بحت يتعلق بما استقر في العقل من رأي أو فكر، ولا علاقة له بما ينجم عنه في القلب من انفعال أو عمل. إنه لفظ يعبر عن تصديق القلب وقوله وليس عن انفعاله وفعله. وهذه – فيما أرى – هي النقطة المهمة الحساسة التي جعلت نصوص الوحي تعرض عن استعمال هذا اللفظ وتجوزه إلى غيره.
عملياً علينا أن نستعمل كلمة (الإيمان) و (التوحيد) أكثر من استعمال كلمة (العقيدة) حذراً من الوقوع في ما يؤدي إليه التركيز عليها من انشطار العلم عن العمل، فنكون أمة أقوال لا أمة فعال([1]). وأن لا نجنح إلى مصطلح (العقيدة) إلا عند الحاجة إليه، وأهمها التفريق بين ما نحن عليه من عقيدة سليمة وما عليه الفرق الأخرى من أخطاء أو ضلال.
[1] – راجع للتفصيل خاتمة كتابي (التوحيد والشرك في ضوء القرآن الكريم).
الإيمان والنصرة
(3)
الإيمَانُ وَالنُّصرَة
يقول تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(آل عمران:82،81). فالدين الحق ما جمع بين ركنين: الإيمان والنصرة. ولهذا قال سبحانه بعدها: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83) ثم قال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85). ويقول تعالى في موضع آخر: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)؛ فالإيمان هو الإيمان بالله ورسوله مع اليقين، والنصرة هي الجهاد بالمال والنفس. ولا يكون المرء صادقاً في دعواه الإيمان ما لم يجمع بين الإيمان والجهاد أو الإيمان والنصرة. ولهذا سفه الله تعالى دعوى الأعراب الإيمان فقال قبلها مباشرة: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:14). ثم قال منكراً عليهم بشدة: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحجرات:16). وفي الآيات دليل على أن من كان كذلك فليس بكافر، وإنما هو مسلم لم يرتق إلى مرتبة الإيمان؛ ولولا ذلك ما قبلت أعمال الأعراب: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا).
والجمع بين الإيمان والنصرة هو الدين الذي يصلح به شأن الدنيا والآخرة. وبه لا بغيره تقوم دولة الإسلام، ويعز أهلها، وتقمع دولة الكفر ويذل أهلها. والفصل بينهما هو الذي سلب من شيخ الدين قابلية القيادة، وحرمه من التحقق بصفة القائد؛ فإن من أخذ الدين (إيماناً) ولم يأخذه (نصرة) لا يجد نفسه في حاجة إلى معاناة العمل الذي ينهض بالمجتمع. وذلك هو الشطر الأصعب من الدين، الذي يستدعي التفكير العميق لوضع الفكرة وتعيين الهوية وتحديد الأهداف ورسم الخطط وتهيئة الموارد وإعداد العاملين وتحشيد الأتباع وكسب المؤيدين.
لهذا يجنح معظم المتدينين – وعلى رأسهم الخطباء – إلى الاهتمام بشطر (الإيمان)، ومن جانبه السهل المتيسر. وهذا في الأعم الأغلب لا يحتاج لأكثر من المواعظ والكلام؛ فكانوا يقولون ما لا يفعلون! بل كانوا – إلا من رحم – أولى الناس بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف:3،2)! والسبب أنهم اقتسموا الدين وقسموه فولوا وجوههم شطر (الإيمان) وأداروا ظهورهم لشطر (النصرة). ثم كروا على ما تبقى فشطروه صنفين، أخذوا منهما ما لا يزعج الطرف الشيعي؛ فأخذوا من التوحيد – مثلاً – عمومياته، وتغاضوا عن إنكار شركهم وأباطيلهم، والنكير على طقوسهم وعباداتهم، وخرسوا فلم يتهموهم قط بما يحصل للسنة من فظائع. وغاية ما يقولونه – عند الاضطرار – أن يرموا بمسؤولية ذلك على المليشيات وأمثالها.
كم شهدت ساحات الاعتصام طوال سنة 2013 من خطبة عصماء وخطيب مِصقَع! تدوي تكبيراتهم في ذلك اليباب كأنها قذائف المدافع! يعدون الوعود وينثرون البشارات. وإذا تحققت من حقيقة هذه الخطب المدوية فإنك لا تجد لقائلها بعد أن يغادر المنصة من خطة عمل وجهد يبذل بناء عليها يحقق ما قاله أو يتناسب معه. لقد عودتهم المناهج العلمية العرجاء أن يقولوا ولا يفعلوا؛ لأنها فصلت بين الإيمان والنصرة، بين الإيمان والجهاد.
التنمية الذاتية للإيمان
( 4 )
التَّنمِيَةُ الذَّاتِيَّةُ لِلإيمَان
أولاً : النظر في آيات القرآن
- إطلاق طاقة التفكر والتدبر
- إطلاق طاقة الشعور والتأثر
ثانياً: النظر في آيات الأكوان
- إطلاق طاقة التفكر والتدبر
- إطلاق طاقة الشعور والتأثر
ثالثاً: رعاية الإيمان
- 1. مجاهدة النفس
- العمل بالعلم
- المداومة على العمل
يعتمد جمهور الناس: عامةً ونخبة في معرفة دينهم وتزكية أنفسهم على إمام المسجد وخطيبه في أغلب الأحوال، لا سيما يوم الجمعة إذ يؤدون صلاتها ويستمعون إلى خطبتها. وقلما يحظى المصلون بخطيب مِصقع يلامس بكلماته القلوب فتجلُ بذكر الله وتخشع، ويزداد بتلاوة آياته إيمانهم فيربو ويتجدد، وتنشط جوارحهم وأبدانهم للعمل. وإن حصلوا في بعض الأحيان على مثل هذا الخطيب الذي يهز القلوب وينفض ما علق فيها من درن، فإنما هي موعظة ساعة، سرعان ما تدرج في أكفان الحياة ومعاناتها. وهذا أحد أسباب ضعف الإيمان في المجتمع.
بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها
إيمان جمهورنا إذن يستورد من الخارج بالتلقين والحث، وليس من الداخل بالحوار الفاعل بين الوحي والأفق والنفس. بينما الحكمة تقول: بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها. وفي طلب المؤمنين الهداية من الله في آخر سورة (الفاتحة): (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)، وجوابه تعالى لهم في أول سورة (البقرة) قائلاً: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) إشارة إلى أن الهداية لا تمنح من الخارج منحة حتى لو كان المانح هو الله الذي هو على كل شيء قدير! ما لم تصنع من الداخل صناعة قوامها العبد الراجي والكتاب الهادي، فدونكم هذا الكتاب فخذوا بما فيه هدىً للمتقين العاملين لا لغيرهم.
كيف يمكن أن ينمي المسلم إيمانه ذاتياً، ويرعاه بنفسه، ويزكيه دون الاعتماد بصورة أساسية على حث الآخرين وموعظتهم وتأثيرهم؟
من خلال تدبر آيات الكتاب الكريم وجدنا لتحقيق ذلك ثلاث آليات متلازمة: النظر في آيات القرآن، والنظر في آيات الأكوان، مع رعاية الإيمان. وفيما يلي بيان لكل واحدة من تلك الآيات العظيمة.
1. إطلاق طاقة التدبر والتفكر
أولاً : النَّظَرُ في آيَاتِ القُرآن
- إطلاق طاقة التدبر والتفكر
أ. الافتقار إلى مدد القهار
ب. قراءة تجمع بين العلم والعبادة والقضية
جـ. التفكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله
د. ثق بقدرتك وقدرات الآخرين
هـ. اسأل وناقش
أمر الله تعالى عباده بتدبر معاني القرآن الكريم فقال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29). وهذا الخطاب يستغرق كل مسلم دون استثناء إلا الأبله والمجنون وأمثالهم. ولهذا عمّ بالذم المعرضين عن التدبر والمعطلين لآلة التفكر في آيات القرآن فقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)، ثم قال بعدها مباشرة: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74). فصاحب العقل التقبلي الجامد والفهم التقليدي الراكد لا يكون قائداً لا في بيته ولا مجتمعه. إنما ذلك الرِّبِّي الذي يقرأ كتابه قراءة ربانية تحقق قوله Y الذي هو أول كلمة طرقت سمع النبي e: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). اقرأ.. ولكن باسم ربك.. وتحسس كلمة (اسم) من حيث لفظها وجرْسها! أولها (همز) هو أول حروف المعاني ولكنه همز وصل يصلك بربك. وآخرها (ميم) تجمع له شفتيك كما تفعل حين تقول (اللهمَّ) فتجمع به كل أسماء الربوبية. ووسطها (سين) تطرد به كل وساوس الشياطين!
إذن كانت القراءة الربانية حاضرة مع القرآن منذ أول لحظة.. منذ أول لفظة! فما هي معالم هذه القراءة؟
أ. الافتقار إلى مدد القهار
أول وأعظم ما يستعان به على تدبر كتاب الله تعالى اللجوء إليه، والانطراح بين يديه، وطرح بساط الافتقار إليه، ودعاؤه والإلحاح في طلب العلم وفتح مغاليق الفهم. ويتم ذلك بشيئين: دعاء وعمل.
وفي سورة الفاتحة صورة رائعة لذلك؛ فلما دعا العبد ربه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة:6)، جاءت الاستجابة مباشرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2): “اهدنا، هدى”. أي من أراد الهداية فهذا الكتاب دونكموه.. اقرأوه وافقهوه، واعملوا به.
وفي صراط الذين أنعم الله عليهم بيان وائتساء. فهذا شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله – على سيلان ذهنه وسعة علمه وجلالة قدره – يقول: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني.
يقول تلميذه ابن القيم: وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك. وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا مُعَلِّم إبراهيم عَلِّمْنِي، ويُكْثِر الاستعانة بذلك اقتداءً بمعاذ بن جبل t، حيث قال لِمَالِك بن يَخامر السكسكي عند موته، وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دُنيا كنت أُصِيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك. فقال معاذ بن جبل t: إن العلم والإيمان مكانهما مَن ابتغاهما وَجدهما؛ اطْلُب العِلْم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذَكَر الرابع، فإن عَجَز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعْجَز، فعليك بِمُعَلِّم إبراهيم صلوات الله عليه.
ومن أجمل ما قرأت ما قصه علينا سيدنا الفاروق t فقال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب (موضع فوق سرف على مرحلة من مكة) من أضاة بني غفار (أرض تمسك الماء فيتكون فيها الطين) فوق سَرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن… وعندما نزلت الآية (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) الآية، كتبها عمر وأرسل بها إلى هشام بن العاصي بمكة، فوجد صعوبة في فهمها، فدعا الله أن يفهمه إياها، فألقى الله في قلبه أنها نزلت في أمثاله. فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة([1]).
ب. قراءة ربانية تجمع بين العلم والعبادة والقضية
لنبدأ مع رحلة الوحي من أولها. كانت سورة (العلق) أول سورة تطرق سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أول كلمة فيها هي كلمة (اقرَأْ)! بينما كانت (اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) آخر كلمة فيها. وبين (اقرَأْ) و (اسْجُدْ) توسطت (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى)؛ فلم يتم الانتقال من القراءة والعلم إلى السجود والعبادة إلا عبر الاهتمام بالعدو، وبهذا الهم تولد القضية.
والقراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ)، فهي قراءة ربانية تجمع بين أمرين: الخشوع والوعي. فهي من ناحية متعلقة بجناب الرب جل في علاه تلهج باسمه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، ومن ناحية تجول في رحاب الكون تتفكر في آيات مبدعه (الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، وتكر على خبايا النفس تتعرف على جوانب قوتها وضعفها (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، ثم ترجع أخيراً إلى ربها: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، تستعين به على عدوها (الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى)! وتؤمن بأن عاقبته سيئة (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ)، وتختم جولتها بطاعة ربها والاستمداد منه وحده، مستعلية على طاعة عدوه، لتنتهي بالسجود بين يديه متقربة إليه (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).
إن القراءة الربانية لا تؤتي أُكلها من العلم بالتفكر وزيادته بالتدبر وثمرته بالخشوع وغايته بالعمل إلا للعاملين المجاهدين، الذين يعانون تصاريف الحياة في سبيل قضية ربانية سامية. فيكتشفون دوماً معاني جديدة للآيات فاعلة مؤثرة تتعشق حاجاتهم، وتلامس أطراف مشاعرهم لتنزل معها إلى الأعماق، فتلهج الألسن بالدعاء، وتتحرك القلوب للالتجاء، وتتندى العيون بالخشوع، وتبرق بالأمل المطمئن بالإيواء إلى ركن شديد.
وإن ابتعاد الناس عن العمل بمستحقات القضية خوفاً من تبعاتها، وجنوحهم إلى الأعمال الفردية رغبة في سلامتها أحد الأسباب الكبرى في تحول قراءتهم للقرآن العظيم إلى قراءة تقوم على التكاثر والهذرمة، غايتها عدد المرات التي يختم المسلم فيها القرآن أكثر من التوقف للتفكر والتدبر من أجل زيادة العلم وإحسان العمل. ومن جرّب عرف!
قراءة تبدأ بالعلم وتثني بالخلُق وتتوسط بالعبادة وتتكلل بالقضية
عندما تتفكر في سر تسلسل السور الأربع الأول نزولاً في القرآن الكريم: (العلق فالقلم فالمزمِّل فالمدثِّر) يمكنك الوصول إلى ما يلي:
إذا اعتبرنا أن تربية الوحي للإنسان وإعداده للخلافة الربانية قد بدأت من العلم فأمرته بالقراءة في سورة (العلق)، فإن مسيرة هذه التربية كانت خطوتها الثانية تعظيم الخُلُق في سورة (القلم) بعد التأكيد على سمو منزلة العلم حين أقسم بالقلم فقال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4). ثم ذكر خوارم الخلق في جولة سريعة استغرقت (8) آيات ابتدأت بقوله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (القلم:8) وانتهت بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (القلم:15).
الخلُق إذن هو المطلوب الثاني في عملية التربية الربانية قبل الانتقال إلى المطلوب الثالث، ألا وهو العبادة بالصلاة وتلاوة القرآن في سورة (المزمل): (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) (المزمل:1-4).
لماذا كل هذا: العلم والخلق والعبادة؟ هل من أمر آخر تنتهي عنده كل هذه الأمور؟ أم لا شيء بعد ذلك؟ فالعبادة المجردة هي المطلوب النهائي؟
ويأتي الجواب من النص نفسه: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل:5). والآية جملة سببية للجملة السابقة لها؛ فالجملة بعد الجملة إما تفسيرية أو سببية. أي افعل هذا كله استعداداً لأمر ثقيل سنلقيه عليك لما يحن وقت إلقائه بعد، فهيئ نفسك بالعلم والخلق والعبادة لاستقباله!
وتأتي السورة الرابعة لتفصح عن هذا القول الثقيل، وثقل القول إنما هو بثقل ما فيه من أمر، وعاقبته من نصر، وجزائه من أجر، فقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:2،1). هنا انتقل العبد العالم العابد ذو الخلق العظيم من مجال العلاقة بين العبد والرب إلى العلاقة بين العبد والخَلْق، فصار يكابد هم مجتمع عليه أن يقوم بإنذاره وتخويفه من المصير السيئ الذي يتربص به. أي صار يحمل هم قضية، وذلك هو الجهاد الذي يبدأ بالإنذار وينتهي بالقتال. فاكتملت الدائرة وتمت العبادة بمعناها الشامل. وزال الإشكال الذي يمكن أن يرد على قولنا بأن العبادة ليست هي نهاية المراحل، إنما ذلك هو الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، مع أن الله تعالى يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56). إذ العبادة لا تتم إلا بالجهاد، وما قبله عدة وزاد.
[1]– رواها ابن حجر مختصرة بقوله (الإصابة في معرفة الصحابة، 3/223): وأخرج بن السكن بسند صحيح عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص حين أردنا أن نهاجر وأينا تخلف عن الصبح فقد حبس فلينطلق غيره قال: فأصبحت أنا وعياش وحبس هشام وفتن فافتتن… الحديث.إ.هـ.
حـ. أعظم التدبر والتفكر هو في أسمائه تعالى وصفاته وأفعاله
حـ. أعظم التدبر والتفكر هو في أسمائه تعالى وصفاته وأفعاله
أعظم ما ينمي الإيمان في قلب العبد التعرف على الرب سبحانه من خلال النظر في أسمائه وصفاته الواردة في آيات القرآن، ومن خلال النظر في عجيب أفعاله المتجلية في عظيم خلقه، والاستدلال بالمخلوق على صفات الخالق.
قف عند هذه الآية: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59). وتأمل!
د. ثق بقدرتك وقدرات الآخرين
وإذ كلف الله تعالى جميع عباده بالتدبر والتفكر، فهذا يستلزم أن ذلك مقدور لهم جميعاً؛ فالله لا يأمر بشيء هو خارج نطاق القدرة. لكن ثمت فرق بين أن تفكر وتتدبر لنفسك، وبين أن تُصَدِّر ذلك علماً لغيرك، فهذا من شأن العلماء المختصين، وذلك واجب على كل المسلمين. وأظن الخلط بين الأمرين أحد أسباب ضعف التدبر. والعلاج يكون بتشجيع الجميع على التمعن في الآيات وإثارة العقل باتجاه فهمها واستنباط أسرارها.
عملياً يتم ذلك بعقد حلقات قرآنية يطلب فيها من كل واحد من الحاضرين أن يقول رأيه في معنى الآية ومتعلقاته. وسيجد من ذلك عجائب وأسراراً لا تتهيأ له بالقراءة وحدها، ومن أشخاص يبدون في نظره عاديين، ليسوا هم بأهل اختصاص!
قال جلال الدين السيوطي: من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها: من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) (القيامة:16) الآيات فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً، فإن السورة كلها في أحوال القيامة حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى ذهب القفال فيما حكاه الفخر الرازي أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل في قوله: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) (القيامة:13). قال: يعرض عليه كتابه فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفاً فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت ثم إن علينا بيان أمر الإنسان وما يتعلق بعقوبته.. انتهى. وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي e لسانه حالة نزول الوحي عليه([1]).
لكن هذا الأمر الذي تعسر على العلماء، ومنهم السيوطي نفسه، ولم يجدوا له جواباً شافياً، نطقت به صبية لي لم تتجاوز عامها الرابع عشر!
كان ذلك بعد مدة من قراءتي لقول السيوطي وعجزي عن إدراك المناسبة المطلوبة. وفجأة ومن دون تفكير طفا المعنى المناسب على ذاكرتي وكأنني ألمسه بيدي! كنت أصلي صلاة الصبح بالعائلة، فقرأت بهم سورة (القيامة)، فاكتشفت أن (الجمع) هو المعنى الرابط بين الآيات. التفتّ بعد انتهاء الصلاة لأخبرهم بهذه المفارقة. فإذا ابنتي فاطمة تقول مباشرة قبل أن أبين لهم ما اكتشفته: الأمر سهل. هناك معنى واحد تدور حوله الآيات هو الجمع المذكور مع العظام، ومع الشمس والقمر، ومع القرآن في صدر النبي صل الله عليه وسلم. فالذي يقدر على إحياء الإنسان وجمع عظامه بعد الموت، وجمع الشمس والقمر عند الخسوف، قادر على جمع القرآن في صدر النبي دون نسيان بلا حاجة لتحريك اللسان وترديد الكلام! فهذه صبية اهتدت في لحظة إلى ما عسر تحصيله على أفذاذ العلماء في قرون!
من لطائف التأمل
– تأملت في سر قراءة (آية الكرسي) بعد كل صلاة! فعجبت كيف لحاكم يفعل ذلك ويتيه على الناس بكرسيه أو يتكبر عليهم بملكه، وفوقه رب (وسع كرسيه السموات والأرض)!
– وذات يوم وقد انتهيت من قراءة كتاب ممتع، فأحزنني أن كلماته وصفحاته الممتعة قد انتهت، وشعرت كأن الكتاب قد مات، وليس بيني وبينه إلا أن أضعه في تابوت الرف. كنت أتفكر في هذا وأقول مع نفسي: كل كتاب تنتهي حياته عند آخر صفحة من صفحاته، ويموت هناك. ثم ذكرت القرآن العظيم فتضايقت من تلك الفكرة، قلت: لو كانت صحيحة لشملت القرآن أيضاً، بَيْدَ أن القرآن حي لا يموت. فهل الفكرة مجرد حديث نفس أو خاطرة خاطئة؟ كلا فكل كتاب يموت إلا القرآن. وأكر على الفكرة مرة ثانية وثالثة، إنها قوية؛ فكيف؟! وفي لحظة توهج خاطفة اكتشفت سراً من أسرار القرآن!
لقد انتهى هذا الكتاب العظيم بالاستعاذة. أليس كذلك؟ والاستعاذة تعني الشروع في قراءة القرآن: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)! وإذن أنت حين تقرأ سورة (الناس) فكأنك تستعيذ من الشيطان لتبدأ قراءة القرآن من جديد، وليس لتنتهي وتتوقف عن القراءة. إنها بداية إذن وليست نهاية.
هنا قفز إلى ذهني قول روي عن النبي e: (أفضل الأعمال الحال المرتحل)([2]). قيل: هو الذي لا ينتهي من قراءة أو ختمة حتى يرتحل فيحل في أُخرى. وروي أن السلف كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن أن يقرأوا من أوله آيات.
وجدت أفضل طريقة للتدبر هي ما جمعت بين ثلاثة وسائل: التدبر الذاتي، والاطلاع على تفسير العلماء، مع نقاش الجلساء والأصدقاء.
هـ. اسأل وناقش
كثير من لطائف التفسير وأسرار القرآن العظيم استفدتها من المجالس والنقاشات الخاصة، وبالتفكر والتدبر الذاتي.
تساءلت عن سر انقسام سورة (آل عمران) بين الحديث عن النصارى وضلالاتهم، وبين الحديث عن معركة (أُحد)؟ فبادرني تلميذ لي – وكان جالساً معي في السيارة وهي تتهادى بنا في ريف اللطيفية – قائلاً: بنيت السورة على الأمر باتباع المحكم والنهي عن اتباع المتشابه ولو كان قرآناً نازلاً من الله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)! وكلا الفريقين خسر بسبب اتباع المتشابه وترك المحكم: النصارى خسروا دينهم حين تركوا محكم الإنجيل وكلام المسيح u، واتبعوا متشابه الصليب متخذين من الحكايات التي نسجت حوله ذريعة لتأليهه دون الله. والثلة التي على التل في (أُحد) خسروا معركتهم حين تركوا محكم وصية النبي e لهم وأمره الجازم بعدم النزول من التل سواء أبيد المسلمون عن آخرهم أو انتصروا على عدوهم حتى يأتيهم الأمر منه، واتبعوا المتشابه طمعاً في الغنائم فخسروا بذلك المعركة. وهكذا تجد بقية مشاهد السورة كذكر فرعون الذي يضل الناس بمتشابه السحر، وكفر الناس اتباعاً لزينة الدنيا وشهواتها، وهي كالسحر خيال في خيال.
[1]– الإتقان في علوم القرآن (2/221-222)، دار الكتاب العربي، 1419/1999.
[2]– رواه الترمذي وقال: غريب، أي ضعيف. ورواه البيهقي وسكت عنه. وضعفه بعض العلماء، وحسنه بعضهم، وقطع بصحته آخرون.
2. إطلاق طاقة الشعور والتأثر من خلال القرآن الكريم
2. إطلاق طاقة الشعور والتأثر
أ. إرادة الانتفاع ب. تخلية القلْب من القَـبْل
جـ. تهيئ تربة الإيمان لزرع القرآن د. القراءة المتدبرة
ثمت خطوات متسلسلة في مدارج الوصول إلى الشعور والتأثر بتلاوة القرآن الكريم. وعلى قدر توفر هذه القوى في القلب يكون تحصيل الشعور كماً ونوعاً. وهي: توجه الإرادة إلى الخشوع والانتفاع. ثم تخلية القلب والسعي في علاجه. ثم توفير بيئة الإيمان لزرع القرآن. وأخيراً يأتي دور التدبر والقراءة المتأنية. وذلك من معنى قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق:37): فالقلب قلبان: قلب جاهز، وقلب يتجهز: بالإنصات وتفريغ القابل من الشاغل.
التدبر مع الإرادة المنبعثة من قلب خالٍ من العوارض: شبهات وشهوات، هو الذي يطلق طاقة الشعور في ذلك القلب فيعتريه الوجل إذا ذكر الله، وازداد إيماناً بتلاوة القرآن، وانطلقت بقية قواه الكامنة – وأولها التوكل – ففاضت على الجوارح عبادة وطاعة وإخباتاً: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 2-4). وفيما يلي بيان لذلك:
أ. إرادة الانتفاع
يقول تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:86). لكنه مع هذا الحكم، الذي يبدو في ظاهره تيئيساً من هداية أمثال هؤلاء، يستثني سبحانه فيقول: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:89). فمهما بلغ الإنسان من تردٍّ في مهاوي الظلم، يمكنه الخلاص بالإقلاع عنه والتوبة منه متى ما أراد ذلك. ودون الإرادة لا يكون شيء. ولكن الإرادة بداية، تحتاج إلى خطوات تكملها. وهي:
ب. تخلية القلْب من القَـبْل
ودون التخلية لا تكون تحلية. ولم أجد كقوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) مرشداً لكيفية القراءة النافعة! فالقرآن بذاته هدى، ولكن لصنف خاص من القراء فقط، أولئك هم (المتقون). وهم الذين يقرأون القرآن بنية الانتفاع. وبقلب قابل للانصياع، وهو الخالي مما يفسد أثر التلاوة في محلها القابل لها. فالتقوى لا تكون قبل أن يفرغ العبد قلبَه مما قبلَه.
وهو سوابق الأمراض: شكاً وشبهة، وهوى وشهوة؛ فالعطر لا يزيد الجسم المحمل بالدرن إلا عفونة. وكما قال اللطيف الخبير: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت:44). وقال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27،26). فإذا فرغت قلبك لقراءة كتابه سبحانه، لم يبق إلا أن تقرأه تحقيقاً لمجاهدة نفسك أولاً.. ولجهاد عدوك ثانياً.
جـ. تهيئة تربة الإيمان لزرع القرآن
فإذا أخليت قلبك من دغل الشبهات ودغش الشهوات، فقد هيأت البيئة الحاضنة للقرآن، ألا وهي الإيمان. فالقرآن نزل للفهم والتأثر والعمل. وما لم تقرأه بهذه النية، وتدعمه بتلك الإرادة لن تنتفع كثيراً به. وقد علم الصحابة y هذه التِّقنية العظيمة الباهرة فعملوا بها وعلموها للأجيال اللاحقة. فعن حذيفة بن اليمان t قال حدثنا رسول الله e: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) متفق عليه. قال ابن تيمية: والأمانة هي الإيمان، أنزلها في أصل قلوب الرجال.
ومما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان). وعنه أيضاً: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد e فيتعلمَ حلالها و حرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآنَ. ثم لقد رأيتُ اليوم رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل)([1]).
ويقول جندب بن عبد الله t: (كنا مع النبي e ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ)([2]).
وهذا المعنى قريب من قول أمنا عائشة رضي الله عنها: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار. حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد e وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده) متفق عليه.
فما نراه في المساجد ومعاهد العلم الشرعي وجامعاته من الدأب على حفظ رسوم الكتاب وحشو رؤوس الطلاب بالنصوص دون تغذية قلوبهم بالفصوص هو أحد أسباب الضعف في أوساط المتدينين قبل غيرهم. وبروز ظاهرة الشيوخ الذين يغلب عليهم القول دون الفعل، حتى قال أحد الشيوخ الربانيين: إن فقهاء الشريعة أحق الناس بقوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)!
وقد اطلعت على جملة من تفاسير العلماء لهذا القول الجليل: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً)، فوجدتها تدور على الأسئلة الثلاثة التالية: (ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟). فإذا أجبت عن هذه الأسئلة كان القرآن الكريم محركاً لمكامن الإيمان فيك، ووسيلة لبلوغ درجة الإحسان منك.
أما ماذا؟ فأن تعلم ماذا تحوز بين يديك؟ وما الذي تقرأ؟! إنه كلام الله جلّ في علاه، أنزله من فوق سمواته، يخاطبك به أنت العبد الصغير القليل! فمن أنت حتى تكون أهلاً لهذه الكرامة؟! أهلاً لأن (تقرأ)! وتقرأ ماذا؟
هلا ذكرت أصلك، ومن أي مادة خلقت؟ وإلى أي شيء تخلقت؟ لقد كنت ذرة تراب، تحولت نطفةً تخلقت علقةً! أتدري ما العلقة؟ دودة تائهة في مياه البرك الراكدة، وحبة دم عالقة بجدار رحم في ظلمة هامدة! فمن أنت لولا كرامة (الأكرم) الذي تكرم عليك بها فنقلك من هذه الدركة الواطئة إلى تلك الدرجة السامية إنساناً قادراً على تلقي العلم من الله، يمسك بالقلم ليكتب ما علمه الله!
هل تخيلت مدى النقلة؟! وهل أدركت عظم الكرامة التي منّ الله بها على علقة حتى صارت إنساناً يجلس بين يدي كتاب الله تعالى أهلاً لقراءته وتدبره وكتابة ما يجود به الرب عليه من فيوضات العلم وأسرار المعرفة؟! هل علمت الآن ماذا؟
وهذا يدخل في قانون رباني لطيف هو (التكامل)، الذي يعني ترابط الكلمات الربانية والأوامر الشرعية، وانتظامها في سلك كلي يجمعها وإن تفرقت – ظاهراً – أجزاؤها، وكثرت تفاصيلها. سيأتي الكلام عنه لاحقاً.
وأما لماذا؟ فلماذا تقرأ؟ ما الغاية من القراءة؟ ولأي شيء أنزل هذا الذي تقرأ؟ إنه للتدبر والتفكر والتأثر، ثم للعمل به: مجاهدةً للنفس أولاً.. وجهاداً للعدو ثانياً، كما قال منزله سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:52).
د. القراءة المتدبرة
فإذا علمت ماذا ولماذا، فتعال معاً نتعلم كيف؟ كيف نقرأه القراءة الربانية الخاشعة الواعية؟ وذلك بالقراءة المتأنية المتدبرة، وليس بالهذرمة السريعة المتعجلة، وكأني بصاحبها داخل تحت طائلة قوله Y: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر:2،1)!
إذن فقه المقصود بكلامه سبحانه مقدم على عدد مرات قرآنه. وكما روي عن ابْنِ عُمَرَ أيضاً أنه قَالَ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِنَّ أَحَدَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ, وَفِي لَفْظٍ: إنَّا كُنَّا صُدُورَ هَذِهِ الْأُمَّةِ, وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَصَالِحِيهِمْ مَا يُقِيمُ إلَّا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ, وَكَانَ الْقُرْآنُ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ وَرُزِقُوا عِلْمًا بِهِ وَعَمَلًا, وَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الصَّبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًاً).
ومن أعظم طرق القراءة نفعاً أن تقرأ القرآن الكريم قراءة موضوعية تحاول بها معرفة الربط بين السورة والسورة والآية والآية ومحور السورة وعلاقة الآيات به، طبقاً لما صار يعرف بـ(التفسير الموضوعي). فالنظر إلى الكون والأشياء والمعاني جزئياً غيره حين تنظر إليها كلياً؛ ففي الحالة الأولى ترى المعاني ومفردات الجمال موزعة، وهنا ترى صورة جميلة مكتملة، وتكتشف معاني وأسراراً فاعلة؛ لأن اجتماع الأشياء يؤدي إلى كمالها فتتكامل معنوياً وحسياً وجمالياً، وبترابطها تولد علاقات وقوانين جديدة أعمق وأجمل وأكثر فاعلية. وسيأتي مزيد بحث لهذا عند الكلام عن (النظر في آيات الأكوان)؛ لأنه داخل في إطار قانون كوني رائع نسميه (قانون الكلية).
[1]– لا يصح؛ في سنده أكثر من راو ضعيف، وإن حسنه البعض وصححه آخرون. والدَّقَل: رديء التمر.
[2]– رواه الطبراني في (الكبير)، والبخاري في (التاريخ الكبير) والخلال في (السنة)، وغيرهم. وصححه الألباني وغيره. والحزاورة جمع حَزْوَر وهو الغلام إذا قارب البلوغ.
ثانياً : النظر في آيات الأكوان
ثانياً : النَّظَرُ في آيَاتِ الأكوَان
مع النظر في آيات القرآن (وهو الكتاب المسطور) يحتاج المؤمن إلى النظر في آيات الأكوان (وهو الكتاب المنظور). وكما أننا في حاجة إلى تعلم الكيفية التي بها ننتفع من تلك الآيات، فنحن كذلك في حاجة إلى تعلم الكيفية التي بها ننتفع من هذه الآيات.
- إطلاق طاقة التفكر والتدبر في آيات الأكوان
إن النظر المجرد إلى عجائب الخلق يقود الناظر إلى ربوبية الخالق وعظمتها، وأنه لا بد وراء هذا الخلق من خالق يستحق الحمد والثناء والعبادة والدعاء قلباً ولساناً وبدناً وكياناً.
لكننا في حاجة إلى ما هو أبعد من ذلك كي نحقق إسلامنا. النظر الرابط بين آيات الأكوان وآيات القرآن؛ فبهذه ينتقل الإنسان من دائرة الإيمان العام إلى دائرة الإيمان الخاص الذي هو الإسلام حق الإسلام، وبه دون سواه تكون النجاة من النار.
لقد توفر – بفضل العلماء والباحثين – تحت أيدينا من هذه الكشوفات الكثير الكثير، بحيث لا يمكن لأحد أن يطلع على بعضها وتبقى في نفسه فضلة من شك في أن هذا الكتاب منزل من عند الله!ومن أعظم ما يحقق هذا الربط هو النظر في كشوفات العلم الحديث، التي تضمّنها القرآن بصورة لا تقبل الشك.
تأمل البرزخ الذي ذكره القرآن بين كل بحر وبحر، وكيف ثبت وجوده علمياً بصورة قطعية، مع أنه خفي لا يمكن إدراكه بالبصر أو الوسائل المتوفرة. فيستحيل على بشر في زمن تنزل القرآن أن يعلم عن شيء غير منظور يفصل بين بحر وبحر بحيث يحفظ لكل بحر خصاصه دون أن يبغي واحد على آخر فيغير من تلك الخصائص لصالحه! فليس عجيباً أن يؤمن بسبب ذلك عالم البحار الفرنسي الشهير جاك كوستو!
ومن أشهر العلماء الذين اهتموا بهذا الموضوع الشيخ اليماني عبد المجيد الزنداني. استمعت قبل ربع قرن إلى محاضرة له مصورة عن الإعجاز العلمي في قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج:73). إذ حاول علماء الغرب أن يخلقوا خلية حية من خلال العمل على المادة الوراثية المعروفة بالـ(DNA)، فوجدوا أن أفضل حيوان تتم دراسته وإجراء التجارب عليه هو ذبابة الفاكهة، فكانت المحاولة أن يجربوا تخليق أصل ذبابة الفاكهة. والنتيجة أنهم أعلنوا عجزهم التام بسبب أنهم لم يتجاوزوا عتبة صنع مادة كيميائية ميتة، وتوقفوا عند هذا الحد؛ لأنهم وجودوا أن الحياة شيء آخر فوق المادة!
وهنا علق الشيخ الزنداني قائلاً: فمن أخبر محمداً e أن التجربة ستجري على الذباب؟! في تلك اللحظة شعرت بتوقان شديد إلى الهوي على الأرض والسجود تعظيماً لله وتعجباً من آياته! نعم.. (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج74).
بعض جوانب إعجاز القرآن
التعرف على جوانب إعجاز القرآن الكريم، أو بعضها، يمنح المسلم اليقين الذي هو أساس الإيمان والاطمئنان. ومن أطيب ثماره الثبات في المحن والشدائد، مع الأجر العظيم، وزيادة الهدى على الصراط المستقيم، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء:66-70).
وجوانب الإعجاز متعددة يصعب إحصاؤها، وعلى قدر علم المسلم وسعة عقله يمكنه استيعاب هذه الجوانب والاستفادة منها. القرآن الكريم نفسه بنفسه معجز: معجز في لغته وصياغاته، وفي نسجه وترتيبه، ومعجز في علمه ومضمونه، وحججه وبراهينه. كما أنه معجز في لوازمه ومتعلقاته، وأهمها الآثار العظيمة التي ظهرت في المجتمع على مستوى الجزيرة وما حولها والعالم كله.
خذ مثلاً جمع القرآن في قلب النبي e. فمن المعلوم صعوبة حفظ القرآن وشدة تفلته من قلب حافظه دون تعهده المستمر بالقراءة والمراجعة، فكيف تم ذلك لشخص منهي أصلاً عن مراجعته وتحريك لسانه به؟ فضلاً عن استغناء القرآن عن المراجعة للتصحيح والتعديل الذي من المستحيل استغناء أي كتاب عنه؛ إذ لم يوجد ولن يوجد كتاب تكون نسخته الأولى هي الأخيرة مع توفر عنصر الأرقى والأكمل المطلق! لهذا قرن الله تعالى معجزة الجمع هذه بمعجزة جمع العظام للإحياء، ومعجزة جمع الشمس والقمر للخسوف. فقال سبحانه: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة:4،3)، وقال عن الثانية: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (القيامة:9،8)، وقال عن الثالثة: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) (القيامة:16-18). إن معجزة جمع القرآن في قلب النبي e ظهرت في وقت تنزله مع استحالتها لغيره. ومعجزة معرفة حدوث الخسوف باجتماع الشمس والقمر مع الأرض في خط واحد ظهرت بعد ذلك بعدة قرون، فلم يبق إلا جمع عظام الموتى وقيامهم من الموت للحساب، فهل من دليل على تحققها مستقبلاً؟ والجواب أن الذي وعد بمعجزة الحفظ فتحققت، وأخبر بالكيفية العلمية لحدوث ظاهرة الخسوف فثبتت، هو نفسه الذي أخبر بإحياء الموتى. فتحقق معجزتين من قبله دليل قطعي على تحقق المعجزة الثالثة!
القرآن العظيم إذن معجز بذاته لذاته، ويثبت نفسه بنفسه.
التحديات من أعظم جوانب الإعجاز، وأولها وروداً في القرآن الكريم، وهذه إشارة إلى أهميتها وتقدمها، تحدي العرب بأن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن! سورة ولو بقدر سورة (الكوثر)، لكنهم عجزوا! فقال سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:24،23).
الإخبار بالغيب جانب آخر، ومنه أمور غيبية بعيدة التصديق وعد القرآن بوقوعها، مثل غلبة الروم على الفرس في بضع سنين، وقد راهن رجال قريش أبا بكر الصديق على مئة ناقة! وهذا دليل واضح على استبعادهم الجازم أن يكون مثل هذا في مثل هذه الفترة الزمنية القصيرة، بعد غلبة فارس للروم غلبة وصلوا بها إلى القسطنطينية. وراهنهم الصديق فكسب الرهان إيماناً بقوله جل جلاله: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:1-6). ويستحيل على عاقل أن يعد بهذا جازماً فيعرض دعواه إلى خطر التكذيب لولا أن الوعد نازل من العليم الخبير!
ومن إخبارات الغيب العجيبة إخبار القرآن الكريم بعدم وقوع أمور من السهل جداً أن تقع لا سيما مع التحدي بعدم ذلك، ومع ذلك لم يجرؤ أحد من المكذبين على الاستجابة للتحدي بمثله. هذا والاستجابة في متناول اليد وسهلة جداً، ونتيجتها إثبات كذب الدعوى بكل وضوح وزوال القضية من أساسها. فهل هناك شيء يغري أكثر من هذا؟ ولكن جبن الجميع بلا استثاء عن التحدي. من ذلك ما جاء في قوله تعالى مخاطباً اليهود: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (الجمعة:7،6)! من يستطيع الجزم كهذا الجزم غير الله جلّ في علاه؟!
وشبيه به الجزم بعدم إيمان مجموعة من الكفار كأبي لهب وامرأته وأبي جهل والوليد، والشهادة لهم بالنار وسوء المصير. والسكوت عن آخرين آمنوا بأخرة – كأبي سفيان وخالد بن الوليد – آذوا الإسلام والمسلمين أكثر من بعض أولئك! ولولا أن الأمر نازل من السماء ما كان ذلك كذلك بهذه الدقة من الفصل بين الفريقين، بل لحصل الخلط فكانت الفضيحة!
2. إطلاق طاقة الشعور والتأثر بالأشياء
2.إطلاق طاقة الشعور والتأثر بالأشياء
الشعور بالشيء زائد على وجوده. وإذا انعدم الشعور بالأشياء تساوى وجودها وعدمها.
كم من نعمة يَسبح العبد بنعيمها لا حسَّ لها في ذاته، ولا أثر في واقعه؛ بسبب من عدم الشعور بها! وكم ممن يردد ويقول: ما الذي أعطاني الله؟ وهو غارق في عطاياه!
الإحساس أساس النعمة؛ فلا نعمة بلا إحساس كما أنه لا بناء بلا أساس.
ها أنت في طريق تكتنفه المروج والأشجار، وتتخلله الأنهار والأوراد والثمار، وتصدح في فضائه الطيور والعصافير. وتنظر فتجد من معك غارقين في نقاش، أو مطرقين لا يأبهون بهذا (الكرنفال) الذي أقامت الطبيعة بأمر ربها سرادقه لهم، فكأنها وكأنهم رسول ودود لا يواجهه قومه بسوى الإعراض والجحود!
صحيح أن تكرر الأشياء على الحس يؤدي إلى حالة من الإدمان تضعف حاسية تذوقها، والإحساس المستمر بجاذبيتها وسحر جمالها. لكن العمل على تجديد الشعور بوجودها وشحذ الإحساس بجمالها يعالج تلك الحالة، كما تُشحذ السكين بالمِسَن فتعود كما كانت.
الوردة و .. الكلمة !
ويختلف الناس في التفاعل مع محركات الإحساس.
لو سألتني لقلت لك: لذتي من الوجود اثنتان، هما عندي أجمل ما فيه: الوردة والكلمة. سبحان الخالق! لا أكاد أشبع من رِياهما، ولا ينقضي عجبي منهما ومن نجواهما!
كم يثيرني الورد فيخلب اللب بأشكاله وألوانه! وتغزوني الكلمة فتسلب القلب بصورها وتعابيرها! حتى إنني لأذكر الجنة فلا أرى إلا روضاً من الورود على امتداد الوجود. وأتخيل الزوجة هناك فلا يسبق لذهني سوى منظر وردة حمراء أو بيضاء! وكثيراً ما طرَّيتُ عطوره بأشجان ناظري، وطرّبتُ أوراقه بمكنونات محاجري.
وما من مرة رأيت الورد إلا وشعرت كأنني أُصرع..! وإلا سرحت بخيالي فأخذني إلى الجنة، فرأيت قصوراً تتلألأ، ورياضاً تتماوج فيها الورود على مد البصر! ولم أسمع كلمة مشحونة بالصورة والمعاني والشجن إلا كدت أصرخ أو أُصعق، ولكن الحياء يمنعني فيخرسني ويمسكني. وفي الحال ينتقل بي الخيال إلى الجنة، فأتمتم مشتاقاً مبهوراً.
تأملوا هذه التشكيلة الرائعة من المعاني والصور كيف أُودعت هذه الكلمة التي قالها أ. حسن البنا رحمه الله: “ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف. وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة. ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة. ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد”!
ما هذه الروعة؟!
والناس أشكال وأذواق. فهذا يثيره الليل البهيم، وذلك يسحره القمر الباسم. وآخر يفتنه الفجر بشفقه، ورابع يهيم بالغروب وغسقه. ومصادر الجمال ومثيرات الشعور لا تنتهي: الطير والشجر، والبحر والنهر. وهناك السحب والغيوم في الأعالي، لا سيما لحظات تدفق الودق من خلاله، واندلاق البرَد من سلاله، والأشجار ترتعش من القُر، والنخيل ترتعد وسط الريح، والبحر يموج، والشراع يلوّح من بعيد يعلو ويهبط، والطير أوت إلى أعشاشها (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (النور:41).
فوا عجباً كيفَ يُعصى الإلهُ أمْ كيفَ يجحدُهُ الجاحدُ |
وهذا ينظر إلى بعوضة فيستفزه الشعور بلطف صنعها فيقول:
يا مَنْ يَرى مَدَّ البعوضِ جناحَهُ |
في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الألْـيَــلِ والمخُّ في تلكَ العظامِ النُّحّــــلِ متنقلاً من مِفصلٍ في مفصــــلِ في سيرِها وحثيثِها المستعجلِ |
|
ويرى ويسمعُ حسَّ ما هو دونَها اُمنُنْ عليَّ بتوبةٍ تمحو بهــــــــا |
في قاعِ بحرٍ مظلمٍ متهـــــولِ
ما كانَ مني في الزمانِ الأولِ |
وآخر يسمع هتاف حمامة على غصنها في هدأة الليل، فتفيض نفسه بهذا الشعور الذي تسيل لحره القلوب:
لقدْ هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ |
على فننٍ وهناً وإني لنائـــــــمُ لقلبيَ فيما قدْ رأيتُ لَلائـــــــمُ لربي ولا أبكي وتبكي الحمائمُ لما سبقتْـني بالبكاءِ البهائــــمُ |
أنت شيء ؛ فتنبه ..!
(وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات:21،20). ويقول عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53). فانظر إلى ما أسبغ الله عليك من نعم، وما جعل في نفسك من آيات وحكم. كم فيك من عناصر الجمال ظاهرة وباطنة، مادية ومعنوية؛ بل لا أبالغ إذا قلت: أنت أجمل ما في الكون! استشعر ذلك واشكره وزكه ونمه. وكن جميلاً في مظهرك فذلك شيء يحبه الله جل جلاله. وفي منطقك وتعبيرك: لساناً جسداً.
والشعور مطلوب من الجانب الآخر، وهو جانب الخلل، فينظر إلى جوانب الاختلال في النفس كما ينظر إلى جوانب الكمال والجمال: فجمود العين، وقساوة القلب، واسترسال الجوارح بالمعاصي، واستصغار محقرات الذنوب، يحتاج من العبد إلى التفات قبل الفوات، وإلا كانت الهلكة. كما أسرع أبونا آدم u بالإياب إلى الجناب، ولم يضيع الفرصة بالجدل وشطط القول بعد سوء العمل.
ومما يروى في كتب الرقائق أن أحد أحبار بني إسرائيل دعا ربه فقال: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن يقول له: “كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك لذيذ مناجاتي”؟!
ويقول ابن عطاء السكندري: “من جهلِ المريد أن يسيء الأدب؛ فتؤخر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد، وأوجب الإبعاد. فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد. وقد يقام مقام البعد وهو لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد”.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”)([1]).
والمخلصون يحذرون اللمم ويخشون أن يمردوا عليه، فيكونوا كمن اتبعوا خطوات الشيطان خطوة بعد خطوة. فقد روى الترمذي عن سَهْل بْن سَعْد عن النبي e قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ, وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ)([2]).
يقول الفضيل بن عياض: “بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله”. ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهلكات”. ويقول هلال بن سعد: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى مَنْ عصيت”.
ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟!، قال: “والله ما أبكي لذنبٍ أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم”.
هكذا جاء في الأثر عنهم رحمهم الله تعالى. والله أعلم.
[1]– رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني.
[2]– قال ابن حجر: أَخْرَجَهُ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ, وَنَحْوه عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود, وَعِنْد النَّسَائِيِّ وَابْن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَة إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّه طَالِبًا) وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان.
قانون التكامل الكوني
قَانُونُ التَّكَامُلِ الكَونِي
أ. التكامل بين المخلوقات ب. التكامل بين العبادات
جـ. التكامل في التربية .. ومبدأ ( التكامل التربوي ) في الإسلام
قلنا سابقاً: النظر إلى الكون والأشياء والمعاني جزئياً غيره حين تنظر إليها كلياً؛ ففي الحالة الأولى ترى المعاني ومفردات الجمال موزعة، وهنا ترى صورة جميلة مكتملة، وتكتشف معاني وأسراراً فاعلة؛ لأن اجتماع الأشياء: تقابلاً أو إتماماً يؤدي إلى تكاملها مادياً ومعنوياً وحسياً وجمالياً، وبترابطها تولد علاقات وقوانين جديدة أعمق وأجمل وأكثر فاعلية. وسأتتبع هذا القانون في ثلاثة مظاهر: المخلوقات، والعبادات، والتربية.
أ. التكامل بين المخلوقات
حين تنظر إلى الكون تلك النظرة التي تعبر الجزئيات إلى الكليات تكتشف دقة صنعه، ولطف جماله، وأنه ما من شيء إلا وله مكانه الذي يتطلبه من هذا النسيج. لكنك بالنظر إلى كل جزء على حدة تفوتك رؤية هذا القانون التكاملي للكون، الذي به تدرك الوظيفة والجمال الجمعي للأشياء.
انظر إلى الوردة الجميلة وتتبع أغصانها وانزل إلى جذورها، وتأمل كيف يخرج هذا الجمال من هذه الأوحال؟! وتأمّل أكثر ستجد أن وراء كل وردة جذوراً غاطسة في الطين. ثم ارجع البصر كرة أُخرى ستكتشف أنه ما من ثمرة تقطف، ونتيجة تستحصل إلا وخلفها جهود بذلت لا ترى إلا آثارها، وأناس تعبت وشقت وتحملت أوضارها، لكنك قد لا تعرفهم ولا تتحسس جهودهم. فاذكرهم عند قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
إِنِّي لأضحكُ والآلامُ في كَبِدي كالوردِ يَزهو ويعطي الناسَ رونقَهُ |
مثلَ الخناجرِ أو لَفحِ البراكينِ وجذرُهُ غارقٌ في لُجَّةِ الطينِ |
وهذا تكامل إتمام، يمنح العامل طاقة للعمل دون النظر إلى رؤية البشر.
وخرجنا يوماً لصلاة الفجر في إحدى القرى التي تتوسد شاطئ الفرات، وكان المسجد بعيداً شيئاً ما عن البيت. انطلقنا وما زال الظلام يكتنف الوجود. كانت السماء تنث الأرض برذاذ خفيف من قطيرات المطر، تتساقط فوق زجاج سيارتنا وهي تخترق الحقول المترامية حولنا فأسمع لتساقطها إيقاعاً يلامس شغاف القلوب فيأخذ بمجامعها. ويتابع رذاذ المطر سقوطه متحرشاً بزجاج السيارة وكأنه ينزل على قلبي. والنخل يتمايل مع الريح، وكأنه يريد أن يجاذب الأشجار التي تحتف به العناق والقبل! وما بين الجنان المتناثرة عن يمين وشمال يتناهى إلى سمعي صوت غراب يأتي من أعماق السماء.. يمد من ألف (غاقه) بطيئاً طويلاً.. وقبل أن يرجع الصدى، الذي تتجاوب به جنبات الفضاء والحقول والبساتين، يُتبعه بـ(غاق) آخر، وآخر.. وتختلط الأصوات بالأصداء..