مشروعنا ومنهجنا
مشروعنا ومنهاجنا
المقدمة
بسم الله نبدأ.. وعلى بركته نسير.. ولقاه نرجو (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)([1]). يحدونا صوت البشير النذير، فنحن على آثاره ماضون، ولنصرته مشمرون، فالميدان رحب، والطريق لاحب؛ والصراط مستقيم، والسعيد من رزق البصيرة والثبات على الحق حتى يأتيه اليقين. ويا رب صل وسلم وبارك على نبينا وقائدنا وهادينا ورائدنا محمد، وعلى آله.. أصحابه وأتباعه أجمعين.
وبعد..
فما أصدق هذه العبارة وأجملَها..
“من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين”..!
يا لها من حكمة عظيمة! طرقت سمعي قبل بضع سنين. وما فتئت تراودني كلما تأملت حوادث التاريخ، وتقلبت بين صفحات الدعوات، واستنطقت سيَر روادها الناجحين. وما سألت نفسي عن سر التضحيات الجبارة التي بذلتها حركات التحرر والجهاد في القرن المنصرم، ثم احتضن حصيدها الأغيار، وجنى ثمارها سوى الأخيار: إلا وتبادرت إلى ذاكرتي، ورنت بإيقاعها المعهود..
“من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين”..!
ولم يكن التاريخ هو الشاهد الوحيد، بل الجغرافية والواقع الأليم كان الشاهد الثاني؛ وسحب الزمن علينا – نحن سنة العراق – سلسلته الثقيلة، فكانت (المقاومة العراقية) العظيمة آخر حلقة في سلسلة التضحيات المُهدرة؛ لقد بذل فيها أعظم الأثمان، وحققت أعظم الإنجازات فأخرجت المحتل وأحلافه من العراق وعلى رأسه دولتان عظميان هما أمريكا وبريطانيا، لكنها فشلت في أن تمسك الأرض فسلمتها لغيرها، ولم يكن أمامها سوى هذا الخيار. بل عجزت عن أن تحمي نفسها وأفرادها فهم اليوم بين معتقل ومستخْفٍ وشريد!
وتسأل: لماذا؟ وأجيبك: لأنها سارت في الطريق نفسه التي سلكتها أخواتها من قبل، فدخلت المعمعان وخاضت الحرب العوان بلا مشروع ناضج. ولم تكن المقاومة وحدها التي تعمل بلا مشروع، فالعمل السياسي كان بلا مشروع أيضاً. ومثله العمل الديني والدعوي، والعمل الخيري والإغاثي، وبقية الأعمال والأنشطة الخيرة؛ كلها مبتورة عن نهاياتها، قاصرة عن كمالاتها، فكأنها حبات من الخرز بلا سلك ينظمها، أو حلقات تناثرت بعد أن انقطعت سلسلتها. المصير نفسه كان نهاية ثورات (الربيع العربي). والشيء عينه يجري في سوريا، ومرشح لنهاية مشابهة.
نتائج بائسة لا تتناسب وما يقدمه الأشراف لها من جهد وتضحيات، وكان هناك من يضحي، وآخر يستفيد. بل أصبح من المعتاد أن يكون المضحي هو الضحية! وكنا كالذي يغرس وغيره يجني؛ ولا غرو فإن من يحضر إلى الحصاد ويده خالية من السلة يكون الحصيد من حصة غيره. وتفتش عن الخلل فتقع على أن السلة تنسج دوماً خارج مصنع (المشروع). المشروع إذن هو سبيل الخلاص من هذه المآزق المتكررة. حقاً..
“من لم يكن له مشروع كان ضحية لمشاريع الآخرين”..!
وهل يعقل أن المجاهدين لم يكن لديهم من مشروع؟ ونقول: توجد مشاريع لكنها ناقصة، وأهم ما ينقصها وجود سيد المشاريع كلها ألا وهو المشروع المدني؛ فالجميع يعمل ولكن إما في مشروع عسكري أو مشروع سياسي. ويفوتهم أن أساس النجاح هو المشروع المدني قبل المبادرة إلى أي مشروع آخر. المشاريع كلها ينبغي أن تنطلق من هذا المشروع، وإلا كانت النهاية كالذي يبني على غير أساس. وهذا هو الذي بدأ به النبي e عمله لتحقيق هدفه العالمي، فكان النجاح حليفه في آخر المشوار.
الأوهام القاتلة
- يتوهم معظم الناس أن المشروع يعني الجهاد بمفهومه العسكري، وهذا هو النفق الذي ابتلعَنا وما زال يبتلعنا منذ زمن بعيد. وهذا الوهم وإن كان أساسه الإيمان بهذه الفريضة العظيمة، ومبناه على أن أمة الإسلام أمة جهاد، لكن يفوت اصحابه أن الجهاد في الإسلام بمعناه العسكري لم يفرض إلا بعد خمسة عشر عاماً من الجهاد والإعداد السلمي المدني. كما يفوتهم أن جهاد الأمة طيلة تاريخها كان ينطلق من جسم دولة لا وجود لها اليوم البتة. وهذه الدولة هي بمثابة المشروع المدني الحاضن للجهد العسكري.
- ويتوهم آخرون أن العمل السياسي هو االمشروع المطلوب. ونقول فيه ما قلناه آنفاً، فالعمل السياسي في الإسلام – كما سيأتي بيانه لاحقاً – جاء متأخراً في حياة الرسول e. وكلا الجهدين (العسكري والسياسي) لا يشكلان مشروعاً حقيقياً. وإنما هما عبارة عن مشاريع فرعية ساندة ومكملة للمشروع المركزي الكبير، وهو المشروع المدني، ولا يمكن بحال أن يكون أحدهما أو كلاهما بديلاً عنه. (المشروع المدني) بمثابة الجسم القائم، والصدر الحاضن، والقلب النابض، والرأس المفكر. أما العسكرية والسياسة بالنسبة إليه فبمنزلة الجناحين. ولا جناح يخفق بلا جسم يقوم به وصدر يحضن وقلب ينبض ورأس يفكر ويوجه ويقود.
- ويتوهم الكثير من المهتمين بالجهد العسكري وحده، أو السياسي وحده، أنهم ينطلقون من فكر وخطة وإعداد ومنظومة، أليست هذه هي مكونات المشروع المطلوب؟ ويفوتهم أنه ما من مشروع، حتى لو كان إنشاء متجر في سوق، إلا وفيه كل ذلك، لكنه يبقى في حدود التجارة. فالمشروع العسكري وإن تضمن الفكرة والخطة وباقي متطلبات النجاح، لكنه يبقى في نهاية المطاف جهداً عسكرياً يفتقر إلى شمولية المشروع المطلوب. وكذلك الأمر بالنسبة للمشروع السياسي. كما يفوتهم أن الأصل مشروع شمولي تكون القوة أو العمل العسكري سياجاً لحمايته، ويكون العمل السياسي وسيلة للتعبير عنه. ومن دون هذا المشروع الشمولي، الذي نطلق عليه اسم (المشروع المدني) يكون السياج الحامي مبنياً حول فراغ، ووسيلة التعبير تعبّر عن لا شيء.
- أما تسميتنا للمشروع بـ(المدني) فجاءت تمييزاً له عن (العسكري) وكذلك (السياسي) تبعاً، الذي توهمته كل حركات الجهاد والتحرر التي عايشناها أو قرأنا عنها أنه الأساس بسبب ذلك القياس الفارق الذي أشرنا إليه آنفاً. وليس كما يتوهمه البعض من أن المقصود به (المدني مقابل الديني)؛ فهذا – والعياذ بالله – باطل ننبذه، وتردٍّ نترفع عنه.
الفكرة والمنهج
إن الفكرة النابعة من المعاناة التي يشهدها الواقع، وما يترتب عليها من منهج علمي وبرنامج عملي.. هي أساس وعماد كل مشروع. وليست الفكرة شيئاً جامداً، بل يجب أن تتغير ويطرأ عليها التعديل باستمرار، مع الحفاظ على جوهرها، تكيفاً مع الواقع المتغير واستجابة لتحدياته المتغيرة.
يفترض في الناظر إلى الواقع منذ قرن مضى، أن يلحظ أن التحدي الذي واجهته الأمة، متفرقة وما زالت كذلك، قد تغير من غزو خارجي غربي سافر الهوية، إلى غزو داخلي شرقي ملتبس الهوية. وقد اجتمع علينا العدُوّان معاً عن سابق قصد وتآمر منظم، يستعمل أحدهما الآخر لخدمة أغراضه وتحقيق أهدافه. فلا بد من تعديل أو تغيير الفكرة القديمة، ووضع منهج متكامل بناءً على الفكرة المعدلة يلبي هذا التغير، ويتكيف معه. لكن هذا المنهج بصورته المتكاملة، فضلاً عن البرنامج الذي ينطلق منه وينبني عليه، ما زال غائباً مفقوداً، إلا من أفكار مشتتة مبتورة لا يجمع بينها جامع، ولا من أحد يسد ثغراتها ويكمل نقصها.
المشروع المدني هو الحلْقة المفقودة في سلسلة الجهود، واللبنة التي ظل يفتقدها بنيانها الكبير. وأول المشروع الفكرة والمنهج الموضوع.
جاء (المنهج) في ستَّ عشرةَ فقرة أساسية، قابلة – بطبيعتها – للتعديل والتكميل. الفقرات الست الأولى منها أقرب إلى الحركة؛ فهي ألصق بروح (المشروع)، بينما بقية الفقرات أقرب إلى الفكرة؛ فهي ألصق بروح (المنهج)؛ لذا قسمت المنهج الكلي إلى قسمين: المشروع.. والمنهج.
أ. المشروع:
- الإحاطة
- المشروع المدني
- التعريف بالمؤسسة (التيار السني في العراق)
- التقاء السنن الربانية في ( المشروع السني )
- مفهوم الأمة بين التنظير والتجسير
- استراتيجية الحل الجذري للمشكلة التاريخية مع الشيعة وإيران
ب. المنهج
- الركائز العلمية للمنهج
- فقه الهوية
- التجديد والإبداع
- فقه الإيمان والتنمية الإيمانية
- المرأة في مشروعنا
- نظرات في القيادة
- نظرات في السياسة
- نظرات في المال والسياسة المالية
- علوم أساسية في منهاجنا التغييري (النفس والاجتماع والتاريخ)
- موقفنا من العروبة، والقوميات الأخرى (الكرد أُنموذجاً)
حاولت كثيراً أن أشرك غيري في كتابة هذا السفر التأسيسي الكبير، وكلفت بصورة شخصية بعض من توسمت فيه القدرة على ذلك، فلم يستجب أحد، سوى محاولة واحدة ولدت ميتة؛ لأنها جاءت خارج نطاق المنهج: فكرة وحجماً وصياغة وأسلوباً.
لكن استفدت من النقاشات والملاحظات: المباشرة بالمشافهة، وغير المباشرة بالمراسلة. والأهم من ذلك هو العرض العلمي العملي على عشرات المهتمين والعاملين على الإنقاذ، والأساتذة والمتخصصين، على مدار سنوات عديدة، طرح فيها كورقة عمل أخضعت للنقاش والفحص والنقد والإضافة، فخرج على هذه الصورة المتكاملة، ولا أقول الكاملة. مع علمنا أن سر نجاح أي فكرة يكمن في أن تبقى منفتحة النهايات قابلة للتغيير: حقاً مكفولاً، والتطوير: واجباً مفروضاً.
هذا معنى تقييدنا المنهج بوصف (الأمثل) فهو (الأمثل) مقارنة بغيره، وليس (المثالي) أو الأفضل مطلقاً. وهذه النظرة هي التي تحافظ على مرونته وبقائه منفتحاً على النقد البناء، وتحفظ له مرونته، وتزوده بقابلية التطور على الدوام. وهذه خصيصة مهمة جداً من خصائصه، من دونها يفقد المنهج حيويته وقدرته على التغيير والاستمرار.
أطلقنا على (المشروع) اسم (الطريق إلى بغداد) استنباطاً من الهدف الكبير للمشروع، واستبشاراً وتفاؤلاً بتحقيق هذا الهدف العظيم، الذي يمثل إنجازه العلامة البارزة على نجاحه بإذن الله، وبداية (الطريق إلى قم) وتحرير الشعوب التي تعاني من استعمار الفرس لهم وحرمانهم من حق تقرير مصيرهم، الذي هو النصف المتمم للطريق؛ فنحن لسنا طارئين على منطق الجغرافيا، ولا متطفلين على حركة التاريخ، والصراع الأبدي بين هضبة فارس ووادي الرافدين.
ملاحظة/ جرت لهذا السفر كثير من المراجعات: تعديلاً وحذفاً وإضافة، في أوقات متفاوتة. فالتاريخ أسفل المقدمة يمثل السفر في وضعه الأول قبل تلك المراجعات.
الأربعاء
17 شعبان 1434
26 حزيران 2013
[1]– (العنكبوت:6).
القسم الأول : المشروع
1. الإحاطة
2. المشروع المدني
3. التعريف بالمؤسسة ( التيار السني في العراق )
4. التقاء السنن الربانية في المشروع السني
5. مفهوم الأمة بين الفكرة والواقع
6. استراتيجية الحل الجذري للمشكلة التاريخية مع الشيعة وإيران
الإحاطة
قال تعالى: (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) (الكهف:68).
قد ينتسب إلى المشروع من يتفاعل معه مندفعاً بالعاطفة، معجباً به من الخارج، قبل أن يدرك حقيقته وحقيقة المؤسسة التي ترعاه، ويتعرف عليه من داخله. ثم بعد مدة يكتشف أشياء ما كان يعرفها ولا يتصور أنها من صلب المشروع، فينكل عنه، ولا يجد ما يصبره على الاستمرار فيه. والآية تقرر أن من لم يحط بالشيء خبراً، أي علم خفاياه، لن يصبر عليه حتى النهاية.
وهناك صنف من الناس يسارع في تكذيب ما لم يحط به علماً كما قال جل جلاله: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) (يونس:39). فيكون موضوع (الإحاطة) فرصة للعلم به حتى يكون الاختيار عن بينة. وقد أدينا ما علينا. ومن أدى ما عليه فما عليه.
وجاء في السيرة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على بني شيبان فقال له المثنى بن حارثة: فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول. وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول. وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً. وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق. إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه)([1]).
فلا يقوم بالمشروع إلا من حاطه من جميع جوانبه: علماً وتحملاً. من هنا نتج موضوع (الإحاطة) بماهية مؤسسة (التيار السني في العراق) ومشروع (الطريق إلى بغداد) والمنهج المؤسس لذلك (من جميع جوانبه) في المشروع، وضرورة تقدمه على كل شيء فيه.
الإحاطة هي المادة العلمية التي تمثل أساس التعرف على المؤسسة بخطوطها العامة قبل اتخاذ القرار بالانتماء إليها وتبني مشروعها. تلقى على شكل جلسات تجمع بين المحاضرة والتحاور والنقاش.
الأهداف
تهدف جلسات الإحاطة إلى تحقيق الفوائد التالية:
- دخول المؤسسة عن بينة واختيار ذاتي، والصبر على ذلك، والمصابرة في سبيل الوصول إلى أهدافها وتحقيق غاياتها. فالقناعة أساس الاختيار الصائب، واليقين بالشيء هو القاعدة المتينة للصبر والمصابرة.
- الالتزام المطلوب بمستحقات الانتماء.
- تصفية الأعضاء بابتعاد العناصر الضعيفة وغير المناسبة.
- اختصار الجهد اللاحق باقتصاره على مستحقيه وعدم تبديده في تجارب معظم الجهد المبذول فيها صادر استهلاك بلا وارد جدوى.
أول فقرة في ( الإحاطة) :
هل تتبنى ( المشروع السني ) لإنقاذ قومك؟ أم لإنقاذ نفسك أولاً ؟
قبل كل شيء يُطرح سؤال مزدوج، ويجاب عنه: هل حرصك على تبني المشروع:
- من أجل إنقاذ قومك؟
- أم من أجل إنقاذ نفسك أولاً؟
والجواب: بل لإنقاذ النفس من النار، والذهاب بها إلى الجنة، بل الدرجة العليا منها. وهذا لا يتحقق إلا بالمرور من خلال المجتمع ومعاناة العمل في سبيل إنقاذه. ومن هنا كان العمل لإنقاذ أهل السنة جزءاً أساسياً من المشروع. ودخلت السياسة في صلب الربانية. والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6). فبدأ بالنفس قبل الأهل. ويقول: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر:15).
وسبكنا خلاصة المطلوب في قالب حكمة صيغت صياغة متسقة:
من أراد غيره فليعمل لنفسه . ومن أراد نفسه فليعمل لغيره
* *
لاحظنا أن أول ما يشغل ذهن الراغب بالعمل في المشروع السؤال بلهفة عن سبيل إنقاذ عاجل لأهل السنة أو أهل العراق عموماً من واقعهم البائس. ويأتي وهو يحمل بين جنبيه أملاً عريضاً بأننا نملك جواباً ناجزاً لسؤاله. وهذا يوقعه في مطب الاستعجال، والدخول في أي تكوين، والشروع في أي جهد يتصوره محققاً لهذا الهدف. وهو مطب مزدوج يؤدي بصاحبه إلى نفقين مظلمين:
- نفق المصلحة العامة: الذي يستدرج العامل شيئاً فشيئاً إلى الخروج عن ضابط الربانية، أي النية الخالصة؛ بحجة جلب المصلحة للناس. فيخسر نفسه في الآخرة ليربح غيره في الدنيا! بينما القاعدة تنص على أن: من أراد غيره فليعمل لنفسه.
- نفق الزمن: الذي يستدرج العامل إلى استعجال القطاف، فإذا أبطأ أُحبط وانقطع؛ فخسر نفسه! بينما القاعدة تنص على أن: من أراد نفسه فليعمل لغيره. ولن تقتصر الخسارة عليه وحده، بل غيره سينقطون أيضاً. أي سيخسر نفسه وغيره!
نحن – قبل كل شيء – مؤسسة ذات مشروع رباني.
والربانية تقتضي منا ضبط البدايات: فكرة وعملاً، وتوحيداً واتباعاً، وإيماناً ونصرة. ولا يقبل العمل من المسلم إلا إذا كان حائزاً على شرطين: أن يكون خالصاً، وأن يكون صائباً. ولا يكون إنقاذ المجتمع خالصاً ما لم يكن القصد – أو الحركة الداخلية منه – إنقاذ النفس أولاً قبل الغير. وهذا هو الذي يحقق العبودية والإيمان. كما لا يكون صائباً تمام الصواب ما لم يكن الفعل – أو الحركة الخارجية منه – طبقاً لمشروع إنقاذ عام. وهذا هو الذي يحقق الاتباع والنصرة.
أهم فقرة في الإحاطة
تلك أول فقرة في (الإحاطة).. فما هي أهم الفقرات؟
والجواب: تحقق الدين – إيماناً ونصرةً – في ( المشروع السني ) دون سواه.
الأمر عندنا أشبه بالمسألة الرياضية. لكنه سهل وواضح لا شبهة فيه ولا تعقيد. وذلك يتبين بالخطوات التالية:
- النجاة من النار ودخول الجنة لا ينال إلا بدين الإسلام.
- والإسلام يقوم على أساسين اثنين: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران:81). وعقب I على ذلك فقال: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) (آل عمران:83)، ثم قال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85).
- والنصرة هي الجهاد بمفهومه الواسع: المدني والعسكري. قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142). وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (التوبة:16). على أن الجهاد المدني هو الأول وهو الأساس، وهو (البنية التحتية) التي لا جدوى دونها من الجهاد العسكري. وهو أخيراً واجب الوقت بالنسبة لنا سنةَ العراق.
- والجهاد لا يكون إلا بمشروع مدني منظم. يبدأ بهوية، وينتهي بهدف، ويتوسط بخُطة مكتوبة ذات برامج معمولة. يتكامل في نهايته بجناحين: عسكري وسياسي.
- والمشروع لا يتحقق إلا بمنظومة أو مؤسسة ربانية.
- والمشروع مفقود منذ مئات السنين؛ فكان ضياع أهل السنة منذ أن زالت الدولة العباسية سنة (656هـ/ 1258م). وكانت بداياته منذ زوال الدولة الأموية سنة (132هـ/ 750م). فآلت الحال قسمة ضيزى بالتناوب الهمجي ما بين محتل شرقي وآخر غربي. ومن لا مشروع له كان ضحية لمشاريع الآخرين.
- بحثنا كثيراً فلم نجد مؤسسة في العراق، ولا في خارجه – حسب علمنا – ذات مشروع بهوية سنية، وأهداف جادة، وخطة فاعلة، وبرامج منتجة. ولكل متابع أن يستعرض المؤسسات الموجودة على الساحة ليقرر بنفسه مصداقية هذا القول. ثم إن هذه المؤسسات كلها قد آضت إلى تكوينات عَلمانية، حتى تلك التي تدعي منها أو تتوهم الإسلامية. وهي جميعاً فاقدة للقضية السنية.
- لهذا تبنينا على عاتقنا إنشاء مؤسسة ربانية سنية هي (التيار السني في العراق) بمشروع متكامل هو (الطريق إلى بغداد). هذه هي (الفريضة الغائبة) التي يدندن بلفظها البعض، ويقول: إنها الجهاد. ونقول: نعم هي الجهاد، لكن بمفهومه الشامل، الذي يقوم على مشروع متكامل، يبدأ بـ(الفريضة الغائبة).. أي العمل المدني. أما النشاط العسكري والسياسي، فلسنا بصدده الآن حتى يتم المشروع بأساسه المدني. ثم لكل حادث حديثه، ولكل حديث ظروفه.
مميزات المشروع السني
ما يميز المشروع السني اجتماع جملة أمور فيه لم تجتمع في غيره. فهو:
- مكتوب ومنشور.
- رباني: ثابت في الإيمانيات والعبادات والأصول والقطعيات، ومرن في المواقف والسياسات والفروع والظنيات. بين مشاريع إسلامية معاصرة: إما مائعة أو لينة في عقيدتها ومبادئها، وإما جامدة أو متشددة في سياستها ومواقفها.
- يمنح قضيتنا استحقاقها: لأنه ينطلق من خصوصيته العراقية، التي أهم عناصرها أن قضيتنا المركزية تتمحور في العراق، وهي شرقية لا غربية، وعدونا الأول شرقي لا غربي؛ فالعراق يمتاز بأنه يعاني من خطرين كبيرين: أحدهما خارجي وهو إيران، والآخر داخلي وهو الشيعة. هذا هو محور مشكلتنا وأصل قضيتنا. ثم من بعد نعطي لكل عدو موقعه حول المحور، وليس في مركزه.
- محدد الهوية والقضية والهدف.
- مرسوم الخطة. موضوع البرامج.
- مفصل المراحل.
- يقوم على الواقعية التي تراعي العلاقة بين الحلم والواقع.
- يعتمد الفكرة الرائدة أساساً للحركة الراشدة.
- عملي لا تنظيري فقط. من دخل فيه وجد نشاطاً يناسبه ضمن المسار العام للعمل.
- التجديد فيه سنة كونية وفريضة شرعية.
- مفتوح النهايات: يقبل النقد والإضافة والتعديل على المديين: الزماني والمكاني. ويتصف بالمرونة التي تمكنه من التكيف مع المتغيرات. فيمارس فيه التغيير حقاً مباحاً، والتطوير واجباً مفروضاً. وبهذا نضمن له الاستمرار، والتطور الدائم، ومواجهة التحديات بعيداً عن الجمود والتحجر، الذي هو العلة المقعدة لكل المشاريع والجماعات.
أبوية القائد
الأبوية حاجة فطرية: فردية وجمعية. كل الناس يستشعرونها ويسعون لتلبيتها بغض الطرف عن العمر والجنس والمرتبة الاجتماعية.
من تمام التعرف على المشروع وطبيعة العلاقة الرابطة بين أعضاء المؤسسة بيان طبيعة العلاقة بين القائد والأتباع. وتكامل الأبوية بالشورى التشاركية، وتوفير البيئة القيادية.
ليس المقصود بالقائد القائد الأعلى للمؤسسة فحسب، وإنما القادة جميعاً على مختلف مراتب القيادة. فكل قائد هو تابع لمن فوقه في مرتبة القيادة، وهو – في الوقت نفسه – قائد لمن هم دونه في المرتبة.
ما ينبغي قوله هنا أن على أفراد أي منظومة أن تستحضر في رُوعها أن القائد بالنسبة إليهم كالأب نسبةً لعائلته، والشيخ والمعلم نسبة لتلاميذه،. والقائد وإن كان لأتباعه أخاً وصديقاً ومعلماً ومدرباً، لكن هذه العناوين لا تمثله حق التمثيل، إنما (الأب) هو العنوان الذي يمثله ويعبر عنه أصدق تعبير. وفي فقرة (نظرات في القيادة) وبعنوان (أبوية القائد) تفاصيل تستحضر عند طرح موضوع (الإحاطة).
ما تقدمه المؤسسة لأبنائها
قد يسأل سائل: فماذا تقدم المؤسسة لأبنائها؟
والجواب: تقدم المؤسسة لأبنائها شيئاً مفقوداً، لا يقدر بثمن، هو سر النصر. ذلك هو المنظومة الربانية التي من خلالها يعبرون عن دينهم بشقيه. وما عدا ذلك فلا شيء. هذا هو الأصل، والأساس الذي عليه يكون الانتماء والوفاء. وما سواه فكلٌّ بحسبه. جاء في سيرة ابن هشام سؤال الأنصار y في (بيعة العقبة الثانية) رسول الله e: “فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا”؟ قال: (الجنة). قالوا: “ابسط يدك”. فبسط يده فبايعوه.
والناس في هذا قسمان: قسم قال جل جلاله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11). وقسم جاء فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207).
وهنا سيكون العامل بين كماشتي ذئبين خطيرين، لكنهما لن يضرا من سلم في قلبه وأوى إلى ربه: المال والعنوان. قال ربنا جل وعلا: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83). وقال: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن:15). وروى الترمذي بسنده عن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله تعالى: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
من الضروري أن نشير هنا إلى أن من أكبر عوامل تدمير المؤسسات منح المال لمن ينتمون إليها، أو التكفل بمصاريف أنشطتهم؛ فهذا مطب خطير لعدة أسباب منها:
- جذب مجاميع من النفعيين إليها، يتظاهرون بحمل مشروعها. والحقيقة أن المقصود المادي لا غيره هو عنصر الشد في حملهم إلى داخلها.
- إفساد مجاميع أُخرى بدأوا صادقين لكنهم ينتهون إلى ما انتهى إليه الصنف السابق كناتج تلقائي من نواتج الانتفاع. وذلك لعلة خفية لا ينتبه في العادة إليها إلا الراصد الخبير. وهي أن المنتفع يفقد بالتدريج الشعور بالانتماء والولاء للجهة المنتفع بها. وذلك يعود إلى قانون من قوانين التكوين النفسي للبشر، يتلخص في أن:
– (الولاء للإعطاء لا للأخذ).
– (من أعطى والى ومن استعطى تولى).
– ومن عانى في تحصيل شيء كان أكثر الناس حرصاً عليه. على العكس ممن لم يتعب فيه. فالمستفيد يكون أكثر تفريطاً به متى ما انقطع حبل الفائدة. هذه ظاهرة نفسية يجب أن تُثبَّت كمعلم من معالم التأسيس؛ لأن معظم الناس يتوهم العكس منها، كما كنت أتوهم حتى (تعلمت الدرس). فيحرص على بذل المال والنفع لمن يريد جذبهم واستقطابهم. والله تعالى يقول: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63).
دور المنظومة في تحقيق أعلى درجات الإيمان
ضع في بالك دوماً هذه الحقيقة القرآنية: ما دمت تعمل ضمن منظومة ربانية، فأنت في المراتب العليا في الدنيا والآخرة. ومن لم يكن كذلك فلن يبلغ ذلك. وإليك الأسباب والأدلة:
-
( المشروع السني ) ينجي من النار ويوصل إلى أعلى درجات الجنان
أما النجاة من النار ودخول الجنة، فهذا يتم بفعل ما أوجب وترك ما حرّم.
لكن ما يغفر الذنوب جميعاً بلا استثناء، ويوصل إلى الدرجات العلا في الجنان فهو ما تضمنه قوله Y: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (الصف:10-13). وموضع الشاهد أن المغفرة الكلية للذنوب اقترنت في القرآن بالجهاد فقط.
لهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم جميعهم في الجنة. لأنهم جميعاً كانوا مجاهدين. وهذه الجميعية إنما تحققت بسبب أنهم كانوا بلا استثناء ضمن منظومة الجهاد بصرف النظر عن الأدوار التي أوكلت إليهم: مدنية أم عسكرية. فحسان بن ثابت كان شاعراً لم يمسك السيف قط. والنساء كن على صنفين: صنف مارس الجهاد بنفسه سواء المدني منه والعسكري. وصنف كان عوناً للمجاهد على جهاده. وذلك كله داخل في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122).
-
ما دمت في منظومة فأنت في أعلى الجنان مهما كان دورك في المنظومة
المعنى الشمولي للجهاد مختلط في الذاكرة الجمعية للجمهور، فلا يدرك منه سوى القتال، مع أن جهاد معظم الأنبياء عليهم السلام لم يكن بالقتال قط. إن تعاليم الكتاب ترشدنا إلى أن المسلم ما دام في منظومة جهاد فهو مجاهد مهما كان الدور الذي أنيط به داخل المنظومة: مدنياً كان أم سياسياً أم عسكرياً. وقد كان هذا واضحاً في أذهان الأجيال الأولى من المسلمين.
والجهاد أعظم الأعمال عند الله؛ فدرجته كما أخبر عنها تعالى فقال: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة:20،19). وقال: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء:95). ويتجلى هذا المعنى أكثر في الفقرة الآتية.
-
المسلمون .. عامي وعابد وعالم ومجاهد
ومن لطائف أسرار تجلي رحمة الله وعدله في خلقه أن المسلمين ينقسمون بين عامي وعابد وعالم ومجاهد. وأن رتبة العابد فوق رتبة العامي، ورتبة العالم فوق العابد، ورتبة المجاهد فوق العالم. هل تعلم أن العامي الذي لا يمكنه أن ينال رتبة العابد ولا العالم، فتح الله جل شأنه الطريق أمامه لينال أعلى الرتب، ألا وهي الجهاد! فإن كان الله لم يمنحه القدرة على الرتبتين الأوليين فقد منحه القدرة على الرتبة الثالثة التي هي الأعلى. وقد يسأل سائل متعجباً: كيف؟! والجواب: أن يكون هذا العامي في منظومة جهاد يؤدي دوراً جهادياً يتناسب وما منحه الله تعالى من قدرة، مهما كان ذلك الدور: قتالياً أو مدنياً. حتى لو كان عامل نظافة في تلك المنظومة، بشرط أن يستحضر نية الجهاد في الانتماء، ثم ما عليه مما يؤديه من عمل ينصر به الدين. فالنصرة قسمان: مباشرة : بالذات. وغير مباشرة: بإعانة الناصرين للدين.
تاريخ المؤسسة
تتمثل أهمية بيان نبذة عن تاريخ المؤسسة في إثارة الشعور المطلوب لدى المتلقي ليتحول من مجرد عامل يؤدي وظيفة، إلى شخص آخر يربط بينه وبين المؤسسة رابط روحي وثيق يجعله يعتز بالانتماء إليها لا من حيث جودة بنيانها، وإنما من حيث ربانية وإنسانية كيانها.
إن العمل للقضية شيء، والإحساس بها شيء آخر. ربما يعجب الإنسان بمنظومة معينة فيندفع للعمل فيها. لكن لن يعطي لها زهرة جهده وثمرة فؤاده، ولن يحافظ على وجودها ويسعى في تنميتها وتطويرها ما لم يتملكه الإحساس بقيمتها، ولم يتعرف على ما بذل السابقون من جهد وتحملوا من متاعب وواجهوا من مصاعب في سبيل تأسيسها وإعلاء أركانها وإكمال بنيانها، منذ أن كانت حلماً في الخيال ولمحة في ضمير الغيب حتى خرجت إلى عالم الوجود المشهود.
معرفة تاريخ المؤسسة وسيلة متقدمة لإثارة ذلك الإحساس في نفوس العاملين من المعاصرين واللاحقين. على أن الإحساس لا يكتمل، وأثره لا يتم إلا بالعيش للقضية ومعاناة آلامها. عندها فقط يدرك اللاحقون كم بذل السابقون من جهد، وتحملوا من ثقل، وقاسوا من ألم! لا سيما جيل التأسيس. ويعلمون لمَ جعل I العلاقة بين الطرفين ملخصة في هذه الآية العظيمة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
لقد وضعت سِفرين في تاريخ المؤسسة:
- قصة التكوين بين جيلين. وهذا – لأسباب عديدة – في حاجة إلى زمن ليظهر.
- رواية هكذا تكلم جنوبشت. وتمثل بديلاً ممتازاً – على الأقل في المرحلة الراهنة – عن (قصة التكوين). ولا يضيرها أنها عمل أدبي ينتابه الخيال؛ فمعظم أحداثها وقعت حقيقة. وتمتاز عن السِّفر الأول بأنها تثير الإحساس وتيقظ الشعور وتغذيه وتنميه بصورة أعمق وأوسع وأكمل.
مشروع طويل الأمد
التعامل مع القضية السنية يأخذ مسارين:
أ. العمل الإسعافي لإغاثة المنكوبين والمحتاجين. وهذا – على أهميته – ليس من شأننا من حيث الأصل إلا ما كان في سياق العمل الاستراتيجي. إنما له أهله.
ب. المشروع الإنقاذي: وهذا يأخذ مساراً بعيد المدى. وهو الأصل والأساس والركيزة للإنقاذ الجذري. ومن دونه لن يعدو العمل الإسعافي أن يكون ترقيعاً في شق أوسع من مادة الترقيع، وترسيخ لواقع سيئ، وحركة في مسار متدهور.
بهذا يكون (المشروع السني) هو المصداق الحقيقي لقوله تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). وغيره من الآيات التي توصي بالصبر مع التقوى؛ فإن (المشروع) هو التعبير الحقيقي عن (التقوى)، ولا تتم اتقوى إلا بالصبر الطويل على معاناة الطريق.
الفرق بين المؤسسة الربانية والمنظمة الحزبية
يخلط البعض بين العمل المنظم وبين الحزب وما يعتريه من تحزب وتعصب. ويتساءل: أليس التنظيم يعني تكويناً حزبياً؟ ونقول: إن السؤال بهذا الوضع خطأ. نعم كل حزب منظم، لكن ما كل منظم حزباً. وكل شيء في الكون قائم على التنظيم. ودون تنظيم لن يتحقق هدف، ويمسي التنظير الفاقد للتجسير مع الواقع سيد الساحة.
والصحيح أن نسأل: هل يمكن تحقيق الإنقاذ من دون تنظيم؟
كيف يمكن مواجهة عدو منظم على جميع الصعد بعمل غير منظم؟!
العلة ليست في التنظيم نفسه، إنما في التحزب.
والتحزب تعصب بالباطل للفئة المنتمى إليها. وهذا موجود في الجهات غير المنظمة أيضاً. فالتحزب موجود بين العشائر بعضها ضد بعض، وفي الأوساط الدينية: السلفية والصوفية. وبين المذاهب الفقهية. وبين طلاب شيخ تجاه طلاب شيخ آخر. فما الحل؟ إلغاء تلك الجهات؟ أم علاج التحزب؟ علاج التحزب داخل المؤسسة بالطرق السليمة هو الحل، وليس بإزالة المؤسسة نفسها.
الأممية والأحزاب والمؤسسات العابرة للحدود
الأممية من المشكلات الكبرى للأحزاب والحزبية، التي حرصنا على أن لا ننزلق إليها.
والمقصود بالأممية: تكوين سياسي يتركب من ثلاثة عناصر: شعور بالانتماء إلى أمة ما، ينبثق عنه فكر، ينعكس على الواقع نشاطاً منظماً يتجاوز الوضع القطري دون النظر إلى خصوصية كل قطر على حدة.
تتحول الأممية إلى مشكلة وخطر يعم الجميع ، حين تعبر الحدود القطرية أو المحلية كتنظيم لا كفكرة مجردة؛ على اعتبار أننا كعرب أو كمسلمين أمة واحدة. ويغيب عن البال أننا– في الواقع – أقطار منفصلة عن بعضها. لكل قطر خصوصيته السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية والثقافية. ولم نعد كما كنا من قبل في بعض فترات التاريخ أمة لها كيانها السياسي الموحد، وأوضاعها الاجتماعية المتشابهة.
الأممية في زمن القطرية.. هي أسوأ ما أفرزته الأحزاب في الشرق منذ مئة عام.
تتمثل الأممية – أكثر ما تتمثل – في الأحزاب القومية والأحزاب الإسلامية. وقد تكون نشاطاً وطنياً لا يراعي خصوصيات كل مكون داخل القطر. أما أسوأ أشكال الأممية فأممية الكهنوت الديني، وأسوأه نظام (ولاية الفقيه).
لا بأس أن يحلم المرء بوجود أمة جامعة. لكن الحلم شيء والواقع شيء. فأن تعيش الأممية إيماناً وشعوراً وحلماً جميلاً، هذا من حقك. أما عندما تتصرف فعليك أن تستيقظ وتهبط من فضائك الحالم إلى أرض الواقع. وإلا فمن أصر على أن يعيش حلمه واقعاً أمسى الواقع الراهن الذي يرفضه اليوم بعد حين حلماً يتمناه ولا يلقاه. والقائد نعم حالم، لا بأس، لكن عليه وهو يسبح برأسه في السماء أن يحافظ على موضع قدميه من الأرض. والقاعدة تقول: (فكّر عالمياً، لكن تصرف محلياً).
الأممية القطرية
ثمت قسم آخر من أقسام الأممية هو الأممية القطرية. وذلك حين يضم قطر ما عدة مكونات: قومية أو دينية، ليس من اليسير التلاقي أو الاندماج بين مكوناتها دون مراعاة هذا التباين لبناء وضع سياسي يناسب ذلك. والعراق مثال.
حين تتحول الأممية إلى كارثة
يجد الفكر الأممي نفسه ملزماً بما تفرضه الأممية عليه من واجبات، ومنها نقل (تجربته التنظيمية) بمختلف مستوياتها، حزباً كانت أم دولة، إلى خارج نطاق القطر الذي نشأت فيه، دون أن ينتبه إلى ضرورة مراعاة لوازم متغيرات الواقع الحادثة. وهذا أمر شرعي أصولي؛ فالحكم الشرعي يتغير زماناً ومكاناً وأعياناً.
في ظل هذا التناشز الحاد بين الفكر والواقع يواجه الفكر الأممي مشكلتين كبيرتين:
- اصطدام التكوينات الحزبية بالوضع السياسي للقطر الآخر.
- تعميم (تجربته الفكرية) بكل ما فيها دون الانتباه إلى الفروق الموجودة بين بلد وآخر، التي تقتضي تحويراً في الفكر أو تقديم فكرة وتأخير أخرى تبعاً للتحديات الخاصة. وهو ما نسميه بـ(بلدنة الفكرة/الثقافة). وقد نصصت على ذلك في كتاب (لا بد من لعن الظلام) الذي كتبته في العام الأول من القرن الراهن.
أممية الفكرة وقطرية المؤسسة
تتكون المؤسسة من عنصرين: الفكرة وما يبنى عليها من تكوين منظم.
ليست المشكلة في الفكرة ما لم تتحول إلى مؤسسة أو حزب منظم يتجاوز الحدود دون اعتبار للأوضاع الخاصة بالقطر الآخر.
نحن نؤمن بأممية الفكرة، ونرفض أممية الحزب أو المؤسسة. الفكرة بطبعها عابرة للحدود ولا ضرر منها ما دامت تتحرك في نطاق ثلاثة شروط:
– أنها تلبي حاجة القطر أياً كان.
– تكييفها عند التطبيق بما يتوافق والوضع القانوني والسياسي والاجتماعي للبلد.
– أن يكون العمل بها تحت عين الشمس، وليس في دهاليز (الأحزاب) المظلمة.
خذ مثالاً على ذلك: الفكرة السنية، في مواجهة الفكر الشيعي المتخادم مع إيران. كل الأقطار – وأولها أقطار المشرق العربي – في حاجة إليها. لذا نحن ندعو إليها جميع المتضررين بالفكر الشيعي. أما التكييف التطبيقي فمن شأن كل قطر. حسب ما يتناسب ووضعه السياسي والقانوني والاجتماعي
إن وعينا بهذه الجوانب الدقيقة هو الذي جعلنا نطلق على مؤسستنا اسم (التيار السني في العراق). فهي كفكرة عابرة للحدود، لكن كمؤسسة هي خاصة بنا نحن السنة العرب في العراق. داعين كل متضرر من المشروع الإيراني أن تكون له مؤسسته الخاصة به ضمن الشروط التي سبق ذكرها. وهذه إحدى آليات تجاوز الحزبية في مشروعنا السني. علماً أن كل حزب مؤسسة منظمة وليس كل مؤسسة منظمة حزباً. فالمدرسة مؤسسة، والمستشفى والمصرف والصيرفة، كلها مؤسسات منظمة لكنها ليست أحزاباً.
انظروا إلى جناية الأحزاب القومية عندما رأت – بحكم الأممية – أن لها الحق في تجاوز حدودها القطرية ونقل تجربتها التنظيمية خارج تلك الحدود. غزو جمال عبد الناصر لليمن مثال. كذلك غزو صدام حسين للكويت. وانظروا إلى جناية الأحزاب الإسلامية على نفسها وغيرها للسبب نفسه. الفوضى التي تضرب المنطقة من ليبيا إلى اليمن على يد الإسلاميين مثال لا تخطئه العين.
تحوطات الانزلاق إلى الحزبية
إضافة إلى هذا الوعي الذي يضع الحد الفاصل بين العمل المنظم والعمل الحزبي، وضعنا أربعة أسيجة تحيط بالمؤسسة تحول بينها وبين الحزبية:
السياج الأول: العمل على أساس أن الولاء لله وليس الولاء للمؤسسة. وهذا معناه: الانفتاح بالعلاقة والود مع الجميع: من هو داخل المؤسسة ومن هو خارجها ما دام مسلماً: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:55،56).
أما المخالف في الدين فقسمان:
- قسم مسالم: فنسالمه ونحسن إليه؛ تبعاً لقوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
- قسم محارب: نهينا عن موالاته، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
السياج الثاني: السياج الذاتي الذي يقوم على الشمولية في المفاهيم والعمل. فهي مؤسسة تقوم أولاً على المفهوم المدني بكل ما فيه من شمولية في العقيدة والفكر، والإيمان والعمل. والأنشطة المتنوعة: دينية ومسجدية وشبابية وحقوقية وتعليمية ونسوية ورياضية وأدبية وخيرية وغيرها من المناشط التي لا تقتصر على العمل السياسي الذي هو أساس الحزبية.
السياج الثالث: لا يتم الانتقال إلى أي خطوة لاحقة إلا بعد اكتمال بناء الجسم المدني.
السياج الرابع: القيادة العليا هي لمؤسسة الرأس القائد في الجسم المدني. والقوة المهيمنة تتركز بيدها. أما القيادات السياسية والعسكرية مهما علا منصبها فهي قيادات تنفيذية تابعية. بهذا نكون ارتقينا بفكرنا إلى مستوى دولة المؤسسات، لا دولة الحزب القائد. وإلى مستوى الأمة بعد الدولة.
العهـــــد
-
الفرق بين العهد والبيعة
يخلط الكثيرون بين العهد والبيعة.
لكننا نفرق بين هذا وهذه؛ فالبيعة للحاكم الشرعي الممكن له. أما العهد فمَـوثِق يجري بين أي جهتين بينعهما عمل مشترك حتى وإن كانت الجهة متكونة من شخص واحد. كما في:
- العهد الذي كان بين الرجل الصالح والنبي الكريم موسى u على رعي الغنم مقابل الزواج من بنته: (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص:28).
- ومثله العهد بتسديد الدين: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:75-77).
فالعهد وعد بالوفاء بالشرط أو العقد موثق بجعل الله تعالى فيه شاهداً وحفيظاً.
ولا توجد دائرة إلا وبين الموظف والدائرة عهد، ولا عمل تجاري أو سياسي أو غيره إلا وبين الطرفين عهد، لكنه على شكل عقد مكتوب وموقع وموثق رسمياً فيه شرط وشرط مقابل. لكننا لسنا جهة رسمية أو تجارية حتى يمكننا فعل ذلك؛ فنكتفي فيه بالتعهد اللفظي بالعمل حسب الاتفاق تعهداً نشهد الله تعالى عليه. هذا كل ما في الأمر. وليس عقود الوظيفة أو التجارة أو السياسة بأعظم من عقد على إنقاذ أهل السنة وتحريرهم من استعباد الشيعة واضطهادهم.
-
وجوب الإيفاء بالعهد وخطورة نقضه
في القرآن الكريم آيات كثيرة توجب الالتزام بالعهد وتحث عليه، وتحذر من نقضه بعد عقده. يجمع مدير جلسات (الإحاطة) إضمامة منها، مثل قوله جل جلاله:
- (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) (الإسراء:34).
- (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون:8).
- (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:75-77).
وليستحضر العامل لله تعالى أنه مهما كانت منزلته فلن يكون كنبي الله ذي النون u. الذي ترك قومه دون أن يستأذن ربه في ذلك. وكيف يأذن له وهو لما يستكمل ما عليه من واجب تجاههم. ورغم منزلته وقربه عاقبه ربه تلك العقوبة الرعيبة!
(وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (النساء:81).
[1] – حسنه ابن حجر في (فتح الباري). وحاط الشيء، وأحاط بالموضوع عرفه وتناوله من جميع جوانبه.
2- المشروع المدني
المَشرُوعُ المَدَنِي
المشروع المدني: منظومة ذات أنشطة فكرية وعملية متكاملة ومنتجة، تتعلق بإصلاح المجتمع وبنائه وتطويره، قبل أي نشاط يتعلق بالقوة والسياسة.
أولاً: الأنشطة الفكرية
تتعلق الأنشطة الفكرية بما يلي:
- العقيدة المؤسسة
3،2. الحاجة الدافعة والهدف المعيَّن
5،4. الهوية المُعَـرّفة والقضية المحدَّدة
- المنهج المكتوب
ثانياً: الأنشطة العملية
تتعلق الأنشطة العملية برسم الخطط ووضع البرامج وإيجاد واستثمار الموارد البشرية والمادية، مع التنمية والتطوير المستمر لهما في سبيل تنفيذ الخطة وتحقيق الهدف.
وهذا في حاجة إلى:
2،1. قيادة موجهة وإدارة منفذة
4،3. جمهور مستهدَف ومؤسسة راعية
لا بد لهذه الأنشطة – بنوعيها: الفكري والعملي – أن تكون متكاملة تسد جميع الفراغات المهمة في الجهد المبذول. متخادمة يشد بعضها بعضاً ويقويه ويضاعف من نتائجه. تتم في نسق واحد فهي ليست أفعالاً معزولة عن بعضها، ولا متنافرة يضادد بعضها بعضاً. تقوم على تنفيذها مؤسسة ناظمة توزع الأدوار فيما بين أفرادها ودوائرها، كي تؤدي إلى الهدف المنشود. ولهذا وصفنا الأنشطة بنوعيها بأنها (منظومة).
وأما وصف الأنشطة بأنها (منتجة) فمعناه قدرة هذه الأنشطة على تحقيق الهدف. وهو إنقاذ المجتمع من حالة جمعية خطيرة واقعة أو مهددة له، والانصراف إلى إنشاء ما يحتاجه من مؤسسات تحقق مصالحه في شتى المجالات العلمية والعملية، وتحفظها وتنميها وتطورها نحو الأحسن على الدوام.
المشروع المدني في عصر النبوة
مشروعنا رباني: ينطلق من الوحي ويعود إليه. فنحتاج إلى أن نتوقف قليلاً لنتعرف على ملامح المشروع المدني في الإسلام أول ظهوره، كي يكون مشروعنا مبنياً على أساس مكين، لا بصفته الواقعية فقط، وإنما الشرعية أيضاً.
مرّ المشروع المدني في تاريخ الإسلام بثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى .. الفكرة وإعداد القادة :
بدأت المرحلة الأولى بكلمة.. هي (اقرأ) التي تضمنها قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). فكانت (الفكرة) وبناء المفاهيم. والفكرة هي بداية الطريق في مشروع الإسلام العظيم. وتشتمل على:
- الغاية العليا: رضا الله جل جلاله، وتحرير الإنسان من ألوهية هواه وعبودية سواه.
- الإيمان (أو العقيدة الفاعلة): (لا إله إلا الله .. محمد رسول الله)، وهي الأساس.
- الهدف: تكوين دولة ربانية، دينها الإسلام. ولأن التحدي هو الكفر كانت هويتها المميِّزة الإسلام كذلك. عالمية التطلع والامتداد، وإن كانت في بدئها محلية التكون والانطلاق؛ فهذا هو التسلسل الطبيعي للأشياء: العالمية للفكرة، والمحلية للتطبيق ضمن القدرة. تتحقق في هذه الدولة العبودية لله وحده، بتطبيق شريعته والخضوع لأوامره على أساس الإيمان بركنيه: الألوهية والنبوة؛ لإيجاد البيئة التي يتحقق فيها التحرر، ويحافظ فيها على الحرية.
- الهوية، وهي الإسلام. فكان الإسلام ديناً، وفي الوقت نفسه كان هويةً.
- القضية: في الطريق نحو الهدف – وهو إقامة مجتمع مسلم يحمل رسالة ربانية عالمية – قامت المعوقات ووجدت التحديات متمثلة بأهل الباطل الذين استثارهم الحق فكانوا لحملته أعداءً. ونشب الصراع فنشأت القضية استجابةً لتحدٍّ مفروض في واقع مشهود. فكانت عملاً دؤوباً لإزاحة المعوقات ومواجهة التحديات تحقيقاً للمصالح العليا للمجتمع المسلم، وتمكيناً له من أداء رسالته إلى الناس أجمعين.
ويدخل مع التبشير بالفكرة في هذه المرحلة، ومن دون فصل، استقطاب القادة وإعدادهم بتوعيتهم بالفكرة، وتربيتهم بالإيمان، وتهيئتهم بالجهاد.
المرحلة الثانية .. العمل المجتمعي :
لا يمكن أن يتقدم المشروع بعد ذلك دون جمهور واعٍ يلتحم بالقيادة، فكان الانطلاق من المجتمع ومعايشة الجمهور بآماله وآلامه وملامسة حاجاته المعنوية والمادية. وبهذا انتقل المشروع من الفكرة إلى العمل المجتمعي، فحصل التلاحم بين الجهات الثلاث فكانت كالجسد الواحد:
- الفكرة: غايةً وعقيدةً وهدفاً وهوية وقضية.
- القيادة: بكافة مستوياتها، وعلى اختلاف أدوارها والمسؤوليات المنوطة بكل مستوى قيادي.
- الجمهور المسلم.
كل ذلك حسب خطة مُمَرحلة طبقاً للظرف، وتناغماً مع السياق العام.
المرحلة الثالثة .. الكيان السياسي :
تكلل ذلك الجهد الجبار بوجود كيان سياسي مستقل (المدينة): يعبر عنه عمل سياسي، ويحميه جهد عسكري وجيش مؤمن. فكان النصر أخيراً. وكانت دولة الإسلام حقيقةً ماثلة. فتحقق الهدف العظيم صعداً نحو الغاية الربانية المنشودة.
وهكذا نرى أن الجهد العسكري يأتي في آخر السلسلة، قبل الجهد السياسي. كما نرى أن أياً من هذين الجهدين (العسكري والسياسي)، أو كليهما، عاجزان عن بلوغ الهدف وتحقيق ذلك الإنجاز ما لم ينطلقا من أساس مكين. فجاء المشروع المدني جواباً على هذا الإشكال، وخروجاً من هذا المأزق. وجسماً حياً نابضاً ينطلق منه الجناحان الملازمان لحفظ حياته وحيويته: القوة والسياسة.
المهام الأساسية للمشروع المدني
في المشروع المدني:
- تولد الفكرة بالتأمل والتدبر، وتنمو بالرعاية والتعاطي، وتنضج بالتهذيب والتجريب، فتكون المعرفة.. ثم تترك مفتوحة النهايات.
- يومض الإلهام، وينبثق التجديد، ويلتمع الإبداع.
- تنمى القدرات وترعى الخبرات حسب الاختصاص؛ (فكل ميسر لما خلق له).
- تمارس الشورى، وتوضع لها الآليات المناسبة.
- يمارس التقنين والتخطيط، وترسم السياسات.
- توزع المهام على القيادات والإدارات ضمن الهيكلية التراتبية، وحسب النظام الداخلي.
- تُهيأ الموارد وتُنمّى وتستثمر.
- تحدد المراحل وتعطى كل مرحلة ما يناسبها من الأنشطة.
- يتم الإشراف على التنفيذ.
- يقوم رأس المؤسسة أو من ينيبه بتمثيلها في المحافل والدوائر الرسمية داخلياً وخارجياً.
باستحضار ما سبق بيانه لا يبقى سوى:
- تفعيل هذه العناصر على الواقع.
- إعداد القوة المانعة قبل المباشرة بالتعبير عن المؤسسة من خلال القيادة السياسية الفاعلة؛ فسياسة بلا قوة مقامرة بأوراق مكشوفة.
- إعداد القيادة السياسية انطلاقاً من الجمهور واعتماداً عليه، للتعبير عن المشروع.
آلية منع الفساد السياسي والطغيان العسكري والتعصب الحزبي
لكي نمنع الثالوث الخطير: الفساد السياسي والطغيان العسكري والتعصب الحزبي، من اجتياح المؤسسة: دولةً فما دونها، نحتاج إلى ثلاثة أمور أساسية:
الأول: أن تكون القيادة المدنية هي القيادة العليا للمشروع برمته، يستوي في ذلك الحال قبل التمكين وبعده.
الثاني (قبل التمكين): منع ممارسة العمل العسكري والسياسي للمؤسسة قبل استكمال بناء الجسم المدني. إنما هو عمل مجتمعي شمولي يُعنى قدر المَكِنة بحاجات الجمهور على تنوعها: فكرية كانت أم تربوية أم خدمية.
الثالث (عند التمكين): منع تجمع القوة بيد الحاكم السياسي أو القائد العسكري. ومن صور تجمع القوة المعروفة أن يكون الحاكم السياسي هو (القائد العام للقوات المسلحة)، أو تولي السلطة السياسية من قبل المؤسسة العسكرية. يجب الفصل بين السلطتين: العسكرية والسياسية. فلا يتولى العسكري منصباً سياسياً ولا السياسي منصباً عسكرياً. بهذا نمنع فساد السياسي وطغيانه، وطغيان العسكري وفساده.
تكون القيادة العسكرية والسياسية جهات تنفيذية وشوروية، لهما ممثلون في القيادة العليا لوضع الاستراتيجيات السياسية والعسكرية بإطارها الفني، ولغايات شوروية لبناء القرار النهائي، الذي هو قرار مدني بحت.
بهذا يتم ضبط القوتين ولجمهما: العسكرية والسياسية ومنع تحكمهما بالقيادة والفكرة المدنية. أي يحال بين العسكري وطغيان القوة التي منها يولد القائد الصنم، وبين السياسي والانزلاق في دهاليز السياسة، الذي يدفعه إلى التمرد والانفلات عند فقدان الرادع، في غياب القيادة العليا بمشروعها المدني الأصيل وذراعها العسكري الطويل. وعلى هذا الأساس يخرج من دائرة القيادة العليا كل من يوكل إليه ممارسة نشاط سياسي أو عسكري.
التوازن بين القوى الثلاث : المدنية والسياسية والعسكرية
يتكلم السياسيون عن الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويُغفلون ذكر التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية، وهذا لا يقل أهمية عن الأول إن لم يكن أهم منه. يقوم هذا التوازن على مبدأ الفصل بين امتلاك القوة وممارستها. وذلك بتطبيق ما يشبه مبدأ المضاربة في التجارة؛ إذ يفوض مالك المال غيره بالمتاجرة بماله. فالمالك لا يقوم بنفسه بالمتاجرة. والمتاجر يتاجر بما لا يملكه. وهذه قمة التوازن. نلخص ذلك بعبارة ذات صياغة واضحة ومتسقة، فنقول: (من يمارِس السلطة لا يملكها. ومن يملك السلطة لا يمارسها).
هكذا يُمنع الجناح السياسي والعسكري (وهو من يمارس السلطة) من امتلاكها. ويُمنع الرأس المدني (وهو من يملك السلطة) من ممارستها. هذا هو الأساس، وللتحقيق تفصيله.
بهذا نبني دولة المؤسسات: دَولة ولكن بمفاهيم أمة. دَولة لا تكون السلطة فيها دُولة بين الأقوياء، كما لا يكون المال فيها دُولة بين الأغنياء([1]).
النظام السياسي في ( المشروع السني ) .. الأسس والضمانات
الإنسان روح متجسدة في هيكل مادي. قانون كوني اقتضى أن تتجسد المعاني الإيمانية في أشكال مادية نراها ونلمسها. فتجسد الحب الإلهي في الكعبة، وتجسدت الصلاة – التي هي دعاء – في حركات محددة، والتكافل الاجتماعي في الزكاة… وهكذا.
لا بد إذن أن تتجسد السياسة في نظام محدد صالح للتطبيق. وعلى هذا الأساس فإن الذي يترشح للانتخابات في الدول المتقدمة يخوضها وبين يديه نظام سياسي ينطلق منه، وبرنامج انتخابي سينفذه بعد فوزه. ولا يكتفي بالبشارات والوعود.
وطبقاً إلى (الإسلامية) التي يستند إليها الإسلاميون – ونحن في الفكر السني نسميها (ربانية) – عليهم أن يبلوروا، مقدماً وقبل كل شيء، نظاماً سياسياً ربانياً محدد المعالم، فيه ضمانات محددة أيضاً من الفساد الذي يمكن أن يعتري الحاكم أو نظامه، ثم يعرضوا نظامهم على الجمهور ومعه ذلك الضمان.
هذه هي الميزة التنافسية لهم على غيرهم، وإلا فالدين والإيمان يمكن أن يدعيه الجميع. وأرى أن هذا لم يفعله الإسلاميون، مكتفين بالشعار الضبابي الشهير (الإسلام هو الحل)، الذي انساق وراءه الكثيرون دون أن ينتبهوا إلى المفارقة بين الإسلام والمسلم، أي الذي ينادي به. وما هي الأسس الواضحة المحددة التي تقوم عليها سياسة المنادي المستندة إلى الإسلام. هنا يكمن سر فشل الإسلاميين وجمهوهم، حتى عادت (الإسلامية) سبة، وأحد الأسباب الكبرى في نفور الجمهور منها ومنهم.
تحديات النظام السياسي
أعظم التحديات التي يواجهها النظام السياسي في أي دولة اثنان، هما:
- الأول: طغيان القوة واستغلال السلطة: وهو أصل كل فساد في الحكم، وأساس كل ظلم يلحق بالمجتمع.
- الثاني: نقل السلطة من الحاكم السابق إلى الحاكم اللاحق: فإذا لم يتم الانتقال بطريقة سلسة بعيدة عن العنف تعرضت الدولة: حكومة وشعباً إلى أزمة قد تودي بها إلى كارثة.
مقدماً لا بد من بيان أن الإسلام لم يقيد العقل بنظام محدد للحكم (ملكي، جمهوري، رئاسي، وزاري…) وترَك ذلك للناس يختارون من الأنظمة ما شاءوا بشرطين:
- تطبيق الشريعة، ومنه: البناء على الأسس التي أمر الله تعالى بها في سياسة الناس من الشورى والعدل ورعاية مصالح العباد في المعاش والمعاد.
- عدم الاصطدام بتعاليم الإسلام الثابتة التي جاءت للتأبيد لا لظرف معين.
وهذا يعني أن المجال مفتوح للعقل المسلم أن يضع ويختار من الأنظمة السياسية ما يشاء داخل ذينِك الإطارين.
رؤية أولية في آلية نقل الصلاحية أو مسؤولية القيادة في ( الفكر السني )
حتى اللحظة لم ينتج العقل البشري أفضل من النظام السياسي الوراثي بكل أشكاله. ففيه يتم انتقال السلطة من السابق إلى اللاحق بصورة عادة ما تكون سلسة آمنة. وفيه يتم تأهيل الحاكم منذ صغره وتدريبُه على القيادة وحسن التعامل مع الشعب. إن هذه المزايا متحققة في النظام الوراثي بنسبة أفضل بكثير من الأنظمة غير الوراثية التي تمتاز بضعف استقرار النظام وكثرة الانقلابات، واستشراء الفساد بنسبة أكبر مما هي عليه في الأنظمة الوراثية.
لكن هل النظام الوراثي هو السقف الأعلى لما يمكن أن يبلغه العقل البشري، ولا مطمع في أن يبلغ ما عداه؟ آخذين بنظر الاعتبار أن النظام التوارثي العائلي يوفر غطاء وفرصة تترصدها النفوس الضعيفة من الحواشي والحاشية في غيبة الرقيب لأن تثري وتتجبر على حساب الآخرين. وهذا وارد ومشاهد، وإن كان في كل الأحوال أقل سوءاً من الجمهوريات.
والجواب: لا.. ونعم.
لا، ليس من سقف؛ فالله تعالى يقول:( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف:76)؛ فلا حدود لعقل الإنسان لأن يطور ويبدع ويكتشف ويخترع.
ونعم، هناك سقف؛ إذا أعدنا تدوير توارث السلطة بصورة ثانية.
والسؤال الحتمي: كيف؟ والجواب – في رأيي – أن ذلك يقوم على مبدأين:
- مبدأ التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية.
- مبدأ التوارث المؤسسي لا العائلي.
-
مبدأ التوازن بين القوى الثلاث .. والفرق بين القائد والرئيس
أما مبدأ التوازن بين القوى الثلاث فقد بيناه آنفاً. وأضيف هنا فأقول:
في هذا النظام يكون (القائد) هو الرمز الحقيقي للشعب/الأمة، والرجل الأول في الدولة، ورأس المنظومة المدنية التي تمثل القيادة العليا. يمارس القيادة – وليس السلطة – بالتوازن مع المنظومة العليا التي تتشكل منها مؤسسات رقابية ذات صلاحيات دستورية تحفظ (القائد) من الجنوح نحو التسلط. وذلك كله يجري طبقاً لقاعدة (من يملك السلطة لا يمارسها، ومن يمارس السلطة لا يملكها)، التي سبق ذكرها قبل قليل.
والفرق بين القائد والرئيس أن الرئيس يكون على رأس المنظومة السياسية التنفيذية، وليس على رأس القيادة العليا، إنما هذا حق (القائد). ويمارس الرئيس السلطة السياسية ولا يملك قرارها الأعلى. إنما هذا حق المنظومة أو القيادة المدنية العليا. وإلى جانبه رأس المنظومة العسكرية الذي يمارس السلطة العسكرية ولا يملك قرارها الأعلى. ويجري تغييرهما على فترات ليست طويلة تحدد في حينها.
أما بقية الأمور من الدستور والنظام الداخلي وتفاصيل الآليات والمؤسسات الرقابية وغيرها، فتأتي في حينها كما هي طبيعة الأمور.
-
مبدأ التوارث المؤسسي
إن هذا المبدأ، مع مبدأ (توازن القوى)، يمثلان نقلة نوعية في الفكر السياسي العربي. ونعترف أن مبدأ (التوارث المؤسسي) ما زال في حاجة إلى دراسة معمقة تبلوره بصورة أقرب إلى المنهج العلمي القابل للتطبيق العملي. ولكن طرحته على من معي، وأجريت نقاشات عديدة حوله، وتكونت لي فيه رؤية عامة تصلح لرسم مسار قابل للتطوير في المستقبل إلى نظام حكم يتم نقل السلطة فيه بطريقة أرقى.
لجنة نقل الصلاحية ، وتهيئة المرشحين للقيادة
إن نقل الصلاحيات في المؤسسة، أو السلطة في الدولة.. يتم من خلال لجنة خاصة دائمة تُنتخب من بين أعضاء الهيئة المدنية العليا، تقع على عاتقها تهيئة المرشحين للقيادة، وتعيين الأنسب من بينهم قبل خلو المنصب بفترة مناسبة، ثم نقل المهام القيادية إليه عندما يلزم الأمر، مع تدريب جميع المرشحين على تلك المهام قبل ذلك.
إن هذه الآلية تحقق لنا ثلاث نتائج عظيمة:
- تهيئة القائد لأن يكون صالحاً للقيادة، وتعيينه كقائد قادم قبل فترة مناسبة من رحيل القائد الراهن.
- منع الفساد العائلي.
- نقل السلطة بسلاسة وهدوء.
هذه هي (الميزة التنافسية) – من بين ميزات عديدة – لسياسة (المشروع السني). وهذا هو النظام السياسي الضامن لتحقيق الأهداف والشعارات.
نظام به نجسد الربانية السياسية في هيكل سياسي بارز للعيان، ونخرجها من عالم الأحلام والوعود إلى عالم الواقع المشهود.
كما أننا بهذا النظام نبني دولة المؤسسات: دَولة ولكن بمفاهيم أمة. دَولة لا تكون السلطة فيها دُولة بين الأقوياء، كما لا يكون المال فيها دُولة بين الأغنياء، ولا العلم دولة بين العلماء.
الحكم المدني .. أمثلة من الواقع
كثيراً ما تختلط المفاهيم بسبب اللفظ الاصطلاحي الدال عليها. ومنها مفهوم (الحكم المدني). لقد تبين لي في ضوء الحراكات الشعبية في بعض الدول العربية: السلمية منها والمسلحة، أن الفهم السائد لمعنى (الحكم المدني) و(المشروع المدني) مختل لدى القطاع الأكبر من الجمهور العربي.
ولهذا آثاره الخطيرة، التي تجعل من أي تغيير في نظام الحكم تغييراً يرجع بالمجتمع غالباً إلى الوراء، حتى إن الناس بعد مرور فترة من الزمن يتمنَّون لو أنهم لم يسعوا إلى إزالة النظام السابق.
قبل أن نباشر الدخول في محاولة حل عقدة هذا الإشكال نود أن نطرح الأسئلة التالية:
– ما تعريف المدني بالمفهوم السياسي؟ هل هو غير العسكري؟ فكل من لم يكن عسكرياً هو مدني؟
– هل مفهوم العسكري لا يمكن أن يتداخل أو يدخل ضمن مفهوم (المدني) بالمعنى الحضاري الشامل للمفهوم؟ وبلفظ آخر: هل العسكري هو القسيم المقابل للمدني.. كالليل والنهار، والحر والبرد؟
– بالمختصر: ما تعريف المدني؟ وما تعريف العسكري؟
– هل معنى الحكم المدني أن تؤول إدارة الدولة إلى يد غير العسكري، وحسب؟
– أخيراً.. هل لدى الجماهير الثائرة ونخبها القائدة أجوبة واضحة عن الأسئلة السابقة؟
ما جرى ويجري يثبت أن المشكلة في أصلها هي هي في كل الحراكات (جمع حَراك) التي عمت المنطقة العربية منذ سنة 2003 وحتى اليوم. إنها ظاهرة حتمية تعود إلى غياب الوعي لدى الجمهور: عامة ونخباً، وافتقاره للمقومات التي تؤهله للقيام بمثل ما نصَب له نفسه من مهمة تنوء بحملها الجبال.. وهي تغيير النظام والإتيان ببديل أفضل؛ لهذا آلت أمور الحراكات في المنطقة كلها إلى ما ترون!
العلة إذن في الجمهور نفسه بمن فيه، ومنهم القيادات. إنه ينظر إلى الهدف النهائي أو النقطة الأخيرة في المسار، ولا ينظر إلى المسار نفسه: كيف يقطعه للوصول إلى النهاية! كونك صاحب حق تطالب به، ليس الشرط الوحيد لكي تنجح في الحصول عليه ما لم تسلك السبل الصائبة للوصول إليه، وما لم تكن مؤهلاً للتصرف السليم بذلك الحق بعد حصولك عليه.
ويتوجب الأمر أكثر حين تخرج الحالة من الحق الخاص إلى الحق أو الهدف العام. هذه أمور تتعلق بحقوق الغير، والغير هنا هو الشعب؛ فلا ينبغي أن تسلّم مصائر الشعوب إلى كل من رفع راية للمطالبة بها ما لم يكن رشيداً يملك رؤية صائبة للهدف وطريقة الوصول إليه. وإلا فإن الله تعالى أمر بالحجر على اليتيم فلا يسلم حقه حتى يبلغ الرشد ويحسن التصرف به، فقال سبحانه: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) (النساء:6).
ما تطلبه حق، لكن الباطل يكمن في التوقيت، حتى تتحقق الأهلية. وإلا فالقادم أسوأ!
مفهوم ( الحكم المدني ) .. هل هو مفهوم ؟
آخر الأمثلة على هذا الخلل الخطير، وحاجة الجمهور إلى بلوغ الرشد في معرفة وتمثل هذا المفهوم ومفاهيم أُخرى كثيرة.. الحراك السوداني بعد الانقلاب العسكري على الرئيس عمر حسن البشير في نيسان/أبريل 2019([2]). يطالب الجمهور المتظاهر بشيء اسمه (الحكم المدني)، ويريده بعيداً عن سيطرة العسكر. ويترجمه عملياً بالمطالبة بأن يكون للمدنيين نسبة كافية من التمثيل مع العسكريين في إدارة سياسة الدولة؛ بناء على السقف الأدنى لتطبيق مفهوم (الحكم المدني) المنشود. وأحياناً يعبر عن ذلك بالمطالبة بأن تسلم إدارة سياسة الدولة إلى يد (التكنوقراط).
كلام يبدو في ظاهره متماسكاً! لكنه في حقيقته يعكس نسبة كبيرة من سوء الفهم لهذين المصطلحين (المدني والتكنوقراط) لدى الجمهور. فالحكم المدني عنده مفهوم سطحي: وظيفي لا حقيقي، كمي لا نوعي. لا يعني أكثر من أن المدني عكس العسكري.
إذن ما يعنيه الجمهور بالحكم المدني.. يقف عند إشراك عدد من المدنيين يقارب عدد العسكريين في إدارة سياسة البلد. عندها تكون المشكلة قد حُلت. وهذا معنى ساذَج لمطلب سياسي خطير.. لا يرقى إلى أدنى مستوى للحل!
ما مشكلة العسكر ؟
إن مشكلة العسكر تكمن في أنه الجهة الأقوى في المعادلة؛ لأن القوة الفاعلة بيده لا بيد المدنيين. وعلى هذا الأساس.. لو افترضنا أن العسكر استجاب لمطلب الجمهور إلى أبعد الحدود فكان المجلس الحاكم مؤلفاً من عشرين مدنياً وعسكري واحد.. فإن الكفة تبقى راجحة إلى جانب العسكر؛ لأن القوة الحقيقية بيده. وفي هذه الحال يمسي العدد مجرد رقم أجوف لا يمكنه تغيير الواقع على الأرض؛ لأنه منزوع القوة.
هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية فإن وجود العسكر ضرورة يستحيل الاستغناء عنها في كيان أي دولة. بل إن العسكر في لحظات تاريخية معينة يكون هو العامل الأوحد في معادلة التوازن المجتمعي، وإلا انزلق المجتمع إلى فوضى لا يعلم نهايتها إلا الله جل في علاه. ما حصل في مصر بعد تنازل الرئيس حسني مبارك في شباط/فبراير 2011، مثال واضح. والسودان مثال آخر.
ثمت أمر آخر لا يقل أهمية وخطورة!
إن تسليم السلطة إلى غير العسكريين لا يمنع احتمال خضوع البلاد إلى أسوأ نظام استبدادي للحكم. كونك غير عسكري في وظيفتك لا يعني أنك مدني في عقليتك وطريقة تفكيرك وسلوكك. هذا معنى شعبي ساذَج، ليس له أساس علمي يستند إليه سوى قول الناس: فلان عسكري، وفلان مدني؛ فرسخ لدى الجمهور هذا المعنى السطحي. وحين يكون هذا هو مفهوم (المدني) لدى الشعب.. فأيُّ كارثة تنتظره على كل الاحتمالات! سيظل ينتقل من حكم لا يرضاه إلى حكم أسوأ منه.. في دورة لا تنتهي، ما لم تعالج الأسباب المؤدية إلى ذلك. أو يتدخل العسكر – على ما فيه – لمنع البلد من الانزلاق إلى الفوضى.
تقليم مخالب العسكر
من المفارقات اللافتة للنظر أن حاجتنا للعسكر.. كما أن مشكلة العسكر تكمن في شيء واحد… هو القوة! فما العمل إذا كانت المشكلة في الحاجة التي تريدها؟! أو كانت الحاجة إنما إلى المشكلة التي لا تريدها؟!
ما الحل والحالة هذه؟
الحل صعب، أو مستحيل، عندما نفتقر إلى آليات فاعلة لصنع موازنة دقيقة بين الحاجة إلى القوة، وبين المشكلة المنبثقة عنها. لكنه سهل ميسر في وجود تلك الآليات.
وآليات الموازنة تقوم على وجود أنظمة متطورة وقوانين راقية وأجهزة رقابية ذات صلاحيات فاعلة بحيث يستفاد من القوى العسكرية والمدنية والسياسية جميعاً، دون طغيان إحداها على الأخرى. وهذا في حاجة إلى مجتمع مثقف وقيادة واعية. ودون ذلك فإن قوة العسكر تبقى هي المهيمنة، ولو كانت القيادة كلها غير عسكرية.
وفي هذه الحال ستنشأ – ولا بد – علاقة مصلحية متبادلة بين الرئيس (المدني في ظاهره) وبين المنظومة العسكرية؛ يتحول فيها الرئيس إلى طاغية، والشعب الذي ثار إلى قطيع. ثم يعود الشعب إلى الثورة في أقرب فرصة تسنح له، ويعود الوضع المضطرب إلى حاله الذي كان عليه… وهكذا في حتمية دورية لا تنتهي، ما لم ينهض مشروع تجديدي كبير على كل المستويات، بما فيها المستوى المدني والسياسي والعسكري. وهذا يتطلب زمناً لتنضيج المشروع.. ما لم نكن مستعدين لدفعه (أي الزمن) كثمن لا بد من دفعه مرة واحدة مهما طالت السنين.. سنظل ندفعه في كل مرة ضمن تلك الدورية الحتمية. ومن هنا أدركنا أن (المشروع المدني) الذي به يتم (تمدين المجتمع) كله حتى الجيش هو الأساس الذي تقوم عليه الدولة المتقدمة الراقية.. الدولة العادلة الرحيمة.
إن الثقافة والوعي والقوانين والأجهزة الرقابية، هي التي تجعل من أقوى جيش في العالم، (الجيش الأمريكي مثال)، جيشاً يخدم المجتمع المدني، ويحفظه، ويحافظ عليه. وإن التخلف، وغياب الوعي، وضعف القانون، وعدم وجود أجهزة رقابية، وحصر السلطة بيد الرأس، هو الذي يجعل جيشاً ضعيفاً يتحكم في رقاب الشعب على طول الخط (والجيش الإيراني مثال).
مفهوم الحكم المدني
المدنية مفهوم حضاري.
وهو ترجمة حرفية للفظ الغربي المتعارف عليه (Civilian). ومعناه مدني أو حضاري. وارتباط المدني بالحضاري – تاريخياً – ناتج عن كون أول مدينة بنيت في أوربا كانت على ساحل البحر في جنوب إيطاليا، وذلك على يد العرب الفينيقيين. أما البقية فكانوا يسكنون الكهوف في الشمال. كان ذلك قبل الميلاد بقرون كثيرة. وكلمة (ساحلي) تلفظ بالعربية الفصحى (ساحليٌّ Sahilion)، وبالسريانية (ساحِلْيا Sahilia). ثم أصبحت في اللاتينية والإنكليزية وغيرها من اللغات الأوربية (Civilian).
والمدنية – بالمفهوم الحضاري – تعني أن ننظر إلى المفهوم نظرة نوعية لا كمية أو وظيفية.. نظرة تغوص في عمق المعنى لتجعله في متناول الفهم، وقاعدةً لتشخيص المشكلة، ننطلق منها لوضع الحل المناسب. عندها ندرك سذاجة ذلك الفهم الذي يقصر المدني على غير العسكري بصورة مطلقة. فإن كان عسكرياً فليس هو بمدني بكل اعتبار ولو بالاعتبار الحضاري!
الحقيقة.. أن الحكم المدني هو ما كان فيه كل شيء مدنياً في معطياته ونتائجه، وإن كان عسكرياً في شكله ووظيفته. وعندها ندرك أن الخطوط الفاصلة بين المصطلحين (المدني والعسكري) إنما هي على الصعيد الوظيفي وحسب. أما على صعيد المفهوم الحضاري فلن تجد لتلك الخطوط أثراً إلا بمقدار تحدده معطيات الواقع ثم تذوب الخطوط.
أجيال الهزيمة
في غياب المشروع المدني والمفهوم السليم لمصطلح (المدني والمدنية).. يكون مصيرنا كمصير بني إسرائيل يوم تاهوا في الأرض أربعين سنة، ولم ينتفعوا بوجود قائد هو من أعظم القادة بين الأنبياء عليهم السلام، الذي جازاه شعبه أذى وعصياناً وعقوقاً. وقد سجل القرآن العظيم ذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) (الأحزاب:69)، وذلك في سياق تهيئة هذه الأمة لتسلم الأمانة الربانية واستلام زمام قيادة البشرية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:70-72).
ومثلُ بني إسرائيل مع موسى عليه السلام كان شيعة الكوفة مع علي رضي الله عنه. وما يغني القادة (وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:101-103). وفي ذلك درس عظيم، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
جيل النصر
يوم يتم تفعيل عناصر هذا المشروع، ويتكامل الربط بين أجزائه جميعاً، يكون قد ولد فينا (جيل النصر)، الذي يستعصي على القوى الخارجية، والداخلية أيضاً، أن تمنعه من الوصول إلى هدفه، أو أن يقطف ثمار جهده بنفسه لنفسه. أو أن يضطر قادته لأن يكونوا عملاء أو أجراء عند غيرهم. وعندها لن يقاتلوا بعد اليوم بالنيابة عن الأعداء – كما هو الحال التي وجدنا عليها أمتنا منذ مئة عام – ولن يكونوا ضحية لمشاريع الآخرين. وهذا بعد عناية الله تعالى ورعايته.
هذا باختصار مقصودنا بـ(المشروع المدني) المفقود أو الذي بدأ يضعف ويضمحل منذ بدء اضمحلال دولة الإسلام ثم زوالها قبل حوالي مئة عام، الذي نسعى لتأسيسه وتحقيقه في واقع بلدنا محلياً، ثم في محيط أمتنا عالمياً. مستنيرين بكتاب ربنا جل جلاله وسنة نبينا e المطهرة وسيرته العطرة. عاملين بالحكمة القائلة: (فكر عالمياً.. وتصرف محلياً). مترقبين ساعة النصر، وما هي على العاملين المخلصين ببعيد.
[1]– ولا يكون العلم فيها دُولة بين العلماء.
[2]– من مميزات مشروعنا أنه مفتوح النهايات. ولهذا هو يتطور ويتغير.. نضيف إليه ونحذف منه باستمرار. ونحن أول وأولى من يجب عليه ويحق له تطبيق ذلك، وتحويل شعار (مشروعنا مفتوح النهايات) إلى عمل. فكان هذا التاريخ المتأخر مقارنةً بتاريخ الانتهاء من النسخة الأولى لـ(المنهاج).
التيار السني في العراق
( 3 )
التَّعريفُ بالمؤَسّسَة
( التيار السني في العراق )
لا بد للمشروع.. أي مشروع، من جهة راعية: تؤسسه وتبنيه، وتَربُّهُ وتنميه، وتشرف عليه وتطوره وتغير ما احتاج منه إلى تغيير، بفعل توالي الزمن وتتابع التحديات وتجدد العلم والحوادث والاستجابة المناسبة لشتى المواقف والمتغيرات. ألم يقل الله جل جلاله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). وفي موروثنا الديني: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها)([1]).
وهنا مفترق طريقين؛ فمشروع يبحث أصحابه عن جهة من خارجهم تقوم به: دولة أو مانح أو ما شابه ذلك. وهذا لن يستمر طويلاً لأنه عرضة لمزاج تلك الجهة. ومشروع ينبثق عن الجهة التي وضعته وأسسته، مرتكزها المادي والمعنوي ذاتي، منها وفيها وإليها.
من هنا انبثقت الحاجة لإنشاء المؤسسة الراعية للمشروع، على أن تكون ذاتية داخلية، لا غيرية خارجية. وذلك على وجه الضرورة التي لا تقبل المساومة البتة. فكانت مؤسسة (التيار السني في العراق) هي الراعية لمشروع (الطريق إلى بغداد). وهو الاسم الذي اخترناه عَلَماً على المشروع السني في العراق. فبغداد هي المثابة التي عندها ومنها يعلن الانتصار بعون الله الجبار جل جلاله.
الاسم : التيار السني في العراق
مؤسستنا ليست حزباً أو جماعة أو هيئة أو أي كيان آخر محدود بفئة معينة من أهل السنة، إنما هي تيار جامع وشامل لجميع أهل السنة في العراق، لا سيما العرب منهم؛ وذلك لوقوع الحيف الأكبر عليهم، وتعرضهم للتهميش والتذويب أكثر من غيرهم. لكننا لم نقيد الاسم بالعرب فقط حتى يكون المجال مفتوح الباب أمام أهل السنة من الأعراق الأُخرى الراغبين بالتواصل والتعاون وتبادل الآراء تحت مظلة (السنة)، دون الانتماء العضوي؛ فذلك مخالف لقاعدة (أممية الفكرة ومحلية المؤسسة). من هنا جاء اختيار هذا الاسم (التيار السني في العراق). كما أن في الاسم إشارة إلى أن التيار السني ينبغي أن يكون حيثما تعرض أهل السنة إلى الخطر في أي قطر، وليس في العراق فحسب، فنحن تيار من تيارات السنة محله العراق، ولسنا التيار السني الوحيد.
تيار سني في كل قطر
طموحنا أن تتأسس (تيارات سنية) تنتشر في كل قطر مسلم: عربي وغير عربي، فيه وجود شيعي لمواجهة هذا الطارئ الغريب على نسيج الأمة، الخطير على وجودها. لا سيما في المشرق العربي (الآسيوي) الذي يضم (الأحواز ودول الخليج العربي واليمن والعراق والشام)، تضاف إليه مصر، ولا بد. مع الأخذ بنظر الاعتبار خصوصية كل قطر: السياسية والقانونية والاجتماعية، على قاعدة (أممية الفكرة وقطرية المؤسسة)، التي سبق بيانها في فقرة (الإحاطة)؛ حتى لا نقع فيما وقعت فيه الأحزاب من إشكالات وإساءات لغيرها ولنفسها.
إن قضية المشرق العربي الأولى شرقيةٌ لا غربية. والقضية السنية هي قضية الماضي والحاضر والمستقبل في هذا العالم الكبير، الذي يمثل في وزنه المعنوي والواقعي – عدا مصر – ثلاثة أرباع الأمة.
القضية السنية هي القضية الوحيدة الرابطة بين شطري العالم العربي؛ فالمغرب العربي (الإفريقي) لا يمكنه وحده مواجهة التحدي الغربي دون المشرق العربي. إن التحدي الغربي (أمريكا وأوربا وروسيا) مرتبط بالتحدي الشرقي (الشيعة وإيران). ولا يمكن لدول المشرق أن تؤدي دورها في إعانة دول المغرب العربي أمام الغرب قبل حسم معركتها مع الشرق.
القضية السنية هي القضية الجامعة التي تربط بين قضية المشرق العربي وقضية المغرب العربي. وفي غيابها عن ذاكرة الأمة غاب الرابط الجامع فتشرذمت وتفرقت في قضاياها؛ فأمسى لكل قطر قضيته المنفصلة عن قضية القطر الآخر، وغزيت دول المشرق في عقر دارها غزواً واحتلت احتلالاً أشد وأنكى من احتلال الاستعمار الغربي فيما سبق.
التيارات السنية في كل قطر أصبحت ضرورة حتى في فلسطين. لن تتحرر فلسطين ما دام المشرق العربي يرزح تحت نير الاستحلال الشرقي. وشتان بين احتلال واستحلال!
الهويــــة
الهوية: ما ميزك عن غيرك عند الحاجة، والتحدي أهم مفردات الحاجة.
المؤسسة: تكوين جماعي منظم. يستند إلى فكرة ومنهج مكتوب، ويتألف من مقر وقيادة وإدارة وأعضاء لتنفيذ أنشطة مبرمجة تحقيقاً لأهداف محددة.
بناء على هذه الأسس نقول:
مؤسستنا ربانية، سنية، عراقية. اتخذت من مواجهة الخطر الشيعي والخطر الإيراني قضية لها، تتعامل معها طبقاً لمعطيات الواقع، ومقررات الوحي بضوابطه الأصولية. ومشروعها رباني، يتبنى قضية عراقية، بهوية سنية.
– رباني: يرجع إلى الوحي الإلهي طبقاً للضوابط الأصولية.
– سني: يتخذ من كلمة (السني) وصفاً ملازماً له، للدلالة على كينونته الذاتية المميزة له؛ إذ إن أعظم ما يواجهنا من تحدٍّ هو الخطر الفارسي المجوسي الشيعي. خطر يستهدف الشعوب المسلمة، الذين يجمعهم اسم (أهل السنة)، لا سيما العرب منهم. ولأن الهوية لا تحتمل كثرة الأسماء أو الأوصاف والألقاب؛ لا بد إذن من اختيار اسم واحد من بين الأسماء الثلاثة يمكن له أن يمثلها جميعاً دون ذكر الاسمين الآخرين. فكان اسم (السنية) هو المختار؛ لأنه الاسم الوحيد من بينها الذي يجتمع فيه التميز والتناقض الصميمي مع المجوسية والفارسية والشيعية في آن واحد. وإن قيل: إن في الفرس سنة فكيف تعتبر (السنية) ضداً للفارسية؟ كان جوابنا: إن السنية تُخرج الفرس السنة من معادلة الاستهداف والمواجهة، كما تدخل العرب الشيعة في المعادلة. وبهذا تكون (السنية) خير قاسم مشترك بين (أهل السنة) على اختلاف قومياتهم وأقطارهم.
على أن الدين ثابت، والهوية متحركة، أي تتغير حسب نوع التحدي؛ فلا يكون الدين هوية ترفع كعلامة مميزة إلا عند التعريف بدين المتكلم: فرداً أو جماعة، أو تعرض للخطر بسبب دينه الخاص. وبهذا تكون (السنية) هوية سياسية، نسترد بها حقوقنا ونحافظ عليها من الاستلاب من قبل أعدائنا. ولا يلغي كونُ الهوية سياسية المظهر كونَها دينية الجوهر، أو أي حقيقة أُخرى يقوم عليها تكوينها([2]).
– عراقي: له قضيته وخصوصيته العراقية التي ينطلق منها. ويتعامل مع قضايا الأمة في مختلف أقطارها على أساسها.
المشكلة
خطر الشيعة وإيران، وضعف الوعي السني به في الداخل والخارج. وهذه المشكلة ذات طبيعة تاريخية وجغرافية قابلة للتمدد: زماناً ومكاناً، وليست آنية.
الرؤية
رفع الظلم عن أهل السنة في العراق والدول التي يتهددها الخطر الشيعي والإيراني. والحفاظ على هويتهم وحماية دينهم وتحقيق مصالحهم وتمكينهم من امتلاك قدرتهم وحقهم في البناء والتطوير المدني والحضاري لبلوغ القمة التي تليق بهم من بين الأمم.
الأهداف ( المرحلية والبعيدة )
- تمكين أهل السنة من حكم مناطقهم، وتقرير مصيرهم بأنفسهم.
- استعادة الهوية السنية لبغداد.
- عزل الشيعة عن السنة: سياسياً بإقليم (خيار ستراتيجي).. وإلا فجغرافياً بالتقسيم (خيار مرحلي يرتبط بظرفه).
- استعادة حكم العراق من يد الشيعة.
- العمل على تحرير الشيعة من التشيع: عقيدة وعقدة.
- تفكيك إيران.
- ثم لكل حادث ومرحلة حديث، في تحقيق المصلحة ضمن ضوابط الشرع ومقتضيات الواقع.
تسنين السنة وتشييع الشيعة
حتى ينقل الإنسان قدمه ليخطو إلى الأمام يحتاج إلى أن تكون القدم الثانية قد استقرت ثابتة، وإلا تزحلق وسقط.
على هذا الأساس يكون العمل على تسنين الشيعة قبل (تسنين السنة وتشييع الشيعة) حالة عبثية.
تسنين السنة
البيئة السنية تعاني من ظاهرتين:
- شيوع المفاهيم الوطنية في البيئة العراقية. وتوهم أنها منتجة لبناء شراكة وطنية مع الشيعة. ومثالها: تسمم الثقافة الجمعية بمقولة “لا فرق بين شيعي وسني؛ نحن أبناء وطن واحد”. مقولة نظرية تجريدية بمعنى الكلمة، مستخلصة من تعميمات سطحية وقياسات لا منطقية، لا شاهد لها يصدقها لها على صعيد الواقع البتة. بل الواقع يشهد علناً بكذبها، وأن البيئة السنية تحولت بسببها إلى حقل تجارب لا يُلتفت إلى كارثية مخرجاتها! فوق أن التجربة التاريخية قبل 2003، ثم التجربة الميدانية بعد 2003 أثبتت هزلية هذه المقولة مع الشيعة. ولو غادر الوطنيون السنة لبرهة فضاءات أوهامهم وتصفحوا أي مصدر للدين الشيعي أو رسالة عملية لأي مرجع من مراجعهم لوجدوها تعج بما يتناقض مع الوطنية والمواطنة والانتماء للوطن. النتيجة الوحيدة التي خرجنا بها من التجربة التاريخية والميدانية، ومن المعرفة بدين الشيعة: على صعيد المصادر والمراجع هي أن القوم يتخذون من هذه المقولة وأمثالها حقن تخدير لتغييب أهل السنة عن الواقع، ثم القفز على ظهورهم ودق الخوازيق فيهم!
- اختلاط المفاهيم الشيعية في نسيج الثقافة السنية. ومثالها البسيط تقديس العائلة العلوية، وتحويل مفهوم (أهل البيت) من النبي e إلى علي.
وتسنين السنة يقوم على معالجة الظاهرتين معاً، على صعيد المفاهيم وعلى صعيد الواقع. لإيجاد بيئة صحية جديدة خالية من مخلفات الغزو الشيعي: الثقافي والاستيطاني، قديماً وحديثاً. هذا أولاً. وثانياً: تتمتع بمستوى عالٍ من التحصين منعاً لتكرر ظاهرة الاختراق الشيعي وهيمنتهم عليها وسيطرتهم على شؤونها وتحكمهم بمسيرها ومصيرها من جديد في أي فرصة تسنح لاحقاً.
وهذا يتحقق بتفعيل وتنفيذ الفقرات (1-4) في فقرة (الأهداف المرحلية والبعيدة).
تشييع الشيعة
هذه أولى الخطوات في سبيل تحرير الشيعة من عقدهم وعقائدهم. الذي نأمل تحوله إلى حقيقة في الجيل الثاني أو الثالث، حسب العمل المحكم في معالجة الظرف المتحكم.
يتحقق هذا الهدف (تشييع الشيعة) بتحويل الشيعة من تشيعهم المغلظ الذي هم عليه اليوم، إلى تشيع مخفف أقرب إلى دين الإسلام منه إلى دين المجوس. وبهذا تتوفر بيئة مناسبة لعملية تسنينهم عبر الأجيال اللاحقة.
ربانيون .. لا إسلاميون
لم نصف مؤسستنا بـ(الإسلامية) وأبدلنا بها صفة (الربانية) لأربعة أسباب:
- الأضرار المرافقة لاسم (الإسلامية) من حيثيتين:
الأولى: ارتباط وصف (الإسلامي) في الذاكرة الجمعية بإساءات جلبتها الأحزاب الإسلامية؛ فتحول هذا الوصف إلى سابقة ذهنية في حس الجمهور تؤدي إلى النفرة من كل شيء تعلق به، لا سيما في العراق.
الثانية: توهم الكثيرين من أتباع الأحزاب الإسلامية قدسية الحزب وكل ما كان موصوفاً بهذا الاسم، مثل (جماعة إسلامية، حزب إسلامي، تاريخ إسلامي)؛ فيكون الحزب وكل ما وصف به عندهم فوق النقد. وهذا ناشئ من الخلط بين لفظ الإسلام ولفظ الإسلامية. رغم أن اللفظ الأخير لا وجود له في أي نص معتبر في الشرع. وهذا يحللنا من حرج التخلي عنه. وقد يكون هذا الخلط وراء جاذبية شعار (الإسلام هو الحل)، الذي يرفعه الإسلاميون خصوصاً أيام الانتخابات. فلا يفرقون بين الإسلام والإسلامية. ومما يلطف ذكره ما روي من أن أحد الظرفاء قال: نعم، الإسلام هو الحل ولكن أنتم المشكلة!
- ورود كلمة (رباني) في النص الإلهي عكس (الإسلامي).
- الفرق في الأثر الإيماني المتولد في النفس من الكلمة بين الإسلامي والرباني. والأمر لا يحتاج أكثر من التلفظ بالكلمة لتجد الفرق بين وقع الكلمتين في نفسك.
- 4. اقترانها حيث وردت في النص الإلهي ببيان وطيفة الرباني في الحياة، وتنقسم إلى أربع مهام:
أ. تعليم الكتاب ودراسته: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).
ب. تحكيم الشرع: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة:44).
ت. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (المائدة:63).
ث. القتال في سبيل الله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146).
وهذه (النصية مع الوظيفة) ميزة لصفة (الرباني والربانية) لا تملكها صفة (الإسلامي والإسلامية). فكيف وقد صارت مصحوبة بمفاسد لا يستهان بها!
على أن في الأمر سعة، ولكن هذا خيارنا.
فكر عالمياً .. فكّر قومياً .. فكّر وطنياً .. لكن تصرف محلياً
من أجل تحقيق التوازن بين الفكرة (هوية ورؤية وهدفاً) من جهة والواقع من جهة ثانية، نتبع القاعدة الربانية التالية: “فكّر عالمياً، وتصرف محلياً”. أي: على قدر نجاحك محلياً يكون نجاحك عالمياً، فيكون البدء بالبلد، وتحديداً من الإقليم السني، هو المنطلق لتأسيس مشروع على مستوى الأمة: العربية والإسلامية، آخذين بنظر الاعتبار الأقرب فالأقرب.
المشروع والمؤسسة
كيف السبيل إلى تحقيق أهدافنا؟
لا يمكن الوصول إلى أهدافنا إلا من خلال مشروع تضعه وتشرف على تنفيذه وتنميته ورعايته مؤسسة ناظمة بقيادة ناشطة واعية.
والمشروع في أصله يقوم على ثلاث دعامات:
- الهوية: بداية
- الهدف: نهاية
- المحور الواصل بين الهوية والهدف ويتكون من خطين متلازمين:
أ. الخطة المرسومة
ب. البرامج المعمولة
مراحل المشروع
عملياً يمر المشروع بثلاث مراحل:
التحصين التكوين التمكين
النواة الصلبة البؤرة الجاذبة الكتلة الغالبة
فكــــر عمل اجتماعي عمل سياسي محمي بالقوة
-
مرحلة التحصين
أي تحصين السنة في داخل العراق وخارجه خصوصاً، وتوعية العراقيين عموماً بجميع طوائفهم وأديانهم وأعراقهم بالخطر الشيعي والإيراني، ودفعهم باتجاه مواجهته أولاً، والتمسك بحقوقهم ثانياً. وهي المرحلة التي يتم فيها نشر الفكرة، وترسيخ الهوية، وتأهيل القادة. وهي مرحلة بناء (النواة الصلبة).
-
مرحلة التكوين
وهي المرحلة التي ينتقل المشروع فيها من (الفكرة) إلى (العمل الاجتماعي) الذي يلتحم به الجمهور بالقيادة من خلال التفاعل الإيجابي مع حاجاته وهمومه وقضاياه. وهي مرحلة بناء (البؤرة الجاذبة). وفيها نسعى لتحقيق شيئين:
أ. القاعدة القائدة
ب. العمق الجماهيري الساند
وهي المرحلة التي يكتمل فيها بناء (الجسم المدني)، الذي منه – لا من سواه ولا قبله – ينبثق الجناحان: السياسي والعسكري.
-
مرحلة التمكين
وهي المرحلة التي يتم الانتقال فيها من (العمل الاجتماعي) إلى (العمل السياسي) المحمي بالقوة. أي مرحلة انبثاق الجناحين: السياسي والعسكري من الجسم المدني. وهذا هو الذي يؤهل المؤسسة لقيادة السنة. وهي مرحلة بناء (الكتلة الغالبة).
معادلة توحيد القوى المتكافئة
النواة الصلبة البؤرة الجاذبة الكتلة الغالبة
القوى المتكافئة متنافرة .. قانون كوني
المتبادر إلى ذهن معظم الناس أن العمل لتحقيق الهدف يبدأ من وحدة القوى العاملة على الساحة. وهو ليس أكثر من تصور ذهني سطحي جميل. أما على صعيد الواقع فإن هذا التصور خطأ ستراتيجي خطير يجعل من يؤمن به يراوح في مكانه من (المهد) إلى اللحد!، وتكون نهايته الإحباط فاليأس فالقعود.
إن “القوى المتكافئة متنافرة”.. قانون من قوانين الاجتماع تدل عليه كل التجارب التاريخية والراهنة؛ فما اجتمعت القوى المتقاربة في حجمها إلا بقوة جامعة من خارجها. فإن ما بين القوى المتكافئة من أسباب الخلاف والاختلاف ما يكفي لمنع التوحد والائتلاف. وهذه القوة الجامعة ينبغي أن تكون من الفاعلية والتأثير بحيث تتمكن من ضم شتات تلك القوى تحت جناحها: رغبة ورهبة.
إذن.. العمل على توحيد القوى المتكافئة دون وجود تلك القوة الجامعة سعي وراء هدف مستحيل التحقق. والهدف المستحيل ليس بهدف.
بهذا يتبين أن.. “توحيد القوى نتيجة وليس مقدمة”.
فما العمل؟ أو ما الحل؟
الحل يكمن في أن تنمو إحدى القوى ذاتياً حتى تتحول إلى ما نسميه (الكتلة الغالبة). وذلك وفق الخطوات التي تمثلها المراحل الثلاث للمشروع المذكورة آنفاً.
معادلة توحيد القوى
معادلة توحيد القوى إذن تسير وفق المعادلة التالية:
ينبغي أن تنمو القوة الجامعة نمواً ذاتياً طبيعياً، بحيث تنطلق – بعد التوكل على الله – من نفسها، لا من الاعتماد أساساً على جهة من خارجها؛ لأن الاعتماد في أساس القوة على الخارج يجعل القوة الجامعة تابعة لتلك الجهة، منفذة لرؤيتها وإيحاءاتها وأوامرها ومشروعها. فتكون (عميلة) لها، حسب المصطلح السياسي الحديث؛ عن وعي وقصد مسبق. أو عن غير وعي، فالنتيجة واحدة.
لا بأس بالتعاطي مع القوى الخارجية واستثمار العلاقة معها للبناء والتكوين الداخلي، والنمو الطبيعي حسب المكنة الذاتية، لا النمو السريع القائم أساساً على دعم القوى الخارجية. والحذر الحذر من (المال السياسي) فإنه الخطر عينه!
موقفنا من الآخرين في الداخل والخارج
مشروعنا يتفاعل ويتعامل مع كل المشاريع، والجهات الأخرى: دينية وغير دينية، مسلمة وغير مسلمة، ويتعاون مع أصحابها على البر والتقوى؛ ما توفرت ثلاثة شروط هي: أن لا يتعارض ذلك مع منهجيته الربانية، أو قضيته السنية، أو خصوصيته العراقية. يقول تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2).
موقفنا من العروبة
نرى أن العروبة أحد عناصر المشروع. وهذا يتضح بما يلي:
- العروبة أو العربية – في مفهومنا – عربية لسان ونطق لا عربية نسب وعرق؛ فالبشرية في أصلها واحدة، ولسانها في أصله واحد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء:1). ثم تباعدت في أوطانها عبر الزمن ومقتضى الحاجة فصارت شعوباً متعددة الألسن مختلفة الثقافات: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). فمن تكلم العربية فهو عربي، ومن تغير لسانه فإلى لسانه ينسَب.
- حب المرء قومه والتعلق بهم فطرة احترمها الإسلام، واستثمرها في سبيل تقوية الروابط وصلة الأرحام فقال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75). وتأسيساً على هذه الرابطة تنشأ الدول.
- من حق العربي أن يعتز بقومه وينتمي إليهم ويخصهم بصلته ويقف معهم بنصرته. وذلك من حق الكردي أيضاً، وكذلك التركي والفارسي والأذري، وبقية الشعوب.
- شيء واحد محذور عقلاً ومحظور شرعاً، هو أن لا يخرجك حبك لقومك عن الحق والعدل، ولا يدخلك في باطل أو ظلم.
- عروبتنا ليست عرقية عنصرية، بل فطرية إنسانية شرعية. تقوم على أساس أن الناس سواسية في أصل الخلقة، وفي نقطة الشروع. وعلى أساس أن من أحب العرب فهو منهم روحاً ووشيجة. بل المجال أمامه مفتوح لأن يكون خيراً من عربي هو دونه في مقياس التقوى والعمل.
- اختار الله تعالى العرب لتنزل الرسالة الخاتمة، فكانوا حملتها الأولين إلى الأمم، ثم شاركتهم بقية الشعوب في حمل الرسالة، وأحبتهم وتعاونت معهم، إلا منافقي الفرس وشيعتهم؛ وذلك لكرههم في الحقيقة لدينهم. لأجل هذا كان كره جنس العرب من النفاق، وحبهم من الإيمان.
- إن عدونا الشعوبي بشقيه الإيراني والشيعي يعادينا كعرب وليس كمسلمين فقط.
- إن العراق مهدد في هويته وانتمائه العربي.
- في آخر الكتاب تفصيل عن موقفنا تجاه الكرد والقضية الكردية، وباقي القوميات.
[1]– هذا الحديث ضعيف المتن والسند. وسأفصل ذلك عند نهاية الفقرة في ملحق خاص به.
[2]– سنتكلم عن الهوية والهوية السنية بالتفصيل في فقرة (فقه الهوية).
التقاء السنن الربانية في المشروع السني
التِقاءُ السُّـنَنِ الرَّبانِيةِ
فِي المَشرُوعِ السُّـني
التِقاءُ السُّـنَنِ الرَّبانِيةِ
فِي المَشرُوعِ السُّـني
يقول جل جلاله : (وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات:21،20).
يعمل المسلم ويقيم مشروعه الرباني وعينه على شيئين:
- التوافق مع سنن الشرع.
- والتوافق مع سنن الكون.
فإذا تم التوافق في أبعاده الثلاثة فهو على الحق. وإلا كان عليه إعادة النظر فيما يعمل وما يبني من مشروع.
إن قوانين الله تعالى أو سننه في كونه واحدة، لكنها تتخذ مظاهر متعددة. مثلاً: قانون (الكتلة الصغيرة تنجذب نحو الكتلة الكبيرة)، قانون كوني عام يشمل الحياة في عوالمها المنظورة وغير المنظورة في النفس والآفاق والاجتماع والسياسة والعسكرية. وهو قانون معروف من قوانين الفلك والفيزياء، ومعبر عنه رياضياً بدقة. لكنه في كل مجال وعلم يتخذ مظهراً يناسبه. فالجرم الصغير كالقمر يدور حول الجرم الكبير وهو الكوكب، والكوكب ينجذب نحو الشمس، والشمس نحو المجرة… وهكذا.. هذا في عالم الفلك. والإنسان ينجذب بطبع نفسه إلى من هو أكثر منه علماً فيتبعه، ويخضع لمن هو أقوى منه سلاحاً أو أعلى منه رتبة عسكرية فيطيعه. وأقرب مثال دوران العالم في فلك أمريكا. والفقير يدور حول الغني: فرداً ومجموعاً في عالم الاجتماع. والشخصية الآسرة – إذا انتفت الموانع – تجذب حولها من هو اقل منها آسرية. والجميل مصدر جذب كبير لمن حوله. هذا في مجال عالم النفس.
وسنة الله في شرعه تلتقي بسنته في كونه؛ وسنة الشرع هي قول الله وأمره، كما أن سنة الكون هي فعل الله وخلقه. وقول الله لا يناقض فعله، ولا أمره خلقه.. ولا العكس.
إذن حين يلتقي المشروع: منهجاً وبرنامجاً مع سنة الله في كونه فاعلم يقيناً – كتحصيل حاصل – أنه يتفق مع شرعه؛ فأنت على صواب، وأنت على حق. فامض لما أنت عليه، ودعك من المخالفين والمخذلين والمتخاذلين: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ * إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (النمل:79-81).
لنأخذ على ذلك مثالاً من النفس.. جسم الإنسان.
( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) .. جسم الإنسان مثالاً
مكونات جسم الإنسان الرئيسة: رأس وقلب وأعضاء وزيادات.
يمثل الرأس القيادة الأعلى للجسم، بقسميه: غير المنظور (وهو العقل الذي يمثل القائد الأعلى)، والمنظور (وهو الدماغ الذي يمثل منظومة القيادة العليا).
ويمثل القلب القيادة الميدانية للجسم.
أما الأعضاء فتمثل الإدارات التنفيذية.
وهناك زيادات: منها ناتج طبيعي، ومنها تالف: طبيعي أو مرَضي.
جسم الإنسان بأجزائه الأربعة، يمثل المشروع بشقيه: المدني وغير المدني. اذا استحضرته في ذاكرتك كنت على بصيرة دائمة من المشروع. وإليك التفصيل..
-
العقل:
الرأس فيه شيئان: منظور وهو الدماغ. وغير منظور وهو العقل.
العقل – مستعيناً بمؤثرات أُخرى – يحدد مسار الإنسان في حياته. ذا يكون معلماً، وذا فلاحاً، وذا عسكرياً… وهذا ينحو إلى الإلحاد فيميت الروح، وهذا يختار الايمان بفسح المجال للروح لـتأخذ مسارها في إنعاش نفس الإنسان والتحليق بها نحو فضاءات لا تحد من العلو الإيماني.
والعقل هو الذي يقرر متى يستعمل الإنسان رأيه، ومتى يجنح إلى يديه؟ وهكذا بقية القرارات بلا استثناء.
العقل يمثل القائد الأعلى وقمة الهرم في القيادة المدنية للمشروع. هو الذي يحدد المسار الكلي بالشورى التشاركية مع أهل الشأن.
وإليه ينتهي القرار في توجيه القوة العسكرية والقوة السياسية الناشئتين من الجسم المدني، وليس العكس كما هو الواقع، ويقرر متى يستعمل هذه ومتى هذه.
وهو مصدر الإلهام الفكري، ومنبع الحنان الأبوي، والاحتواء الأخوي لأعضاء المؤسسة، والاستيعاب الكلي لهم ولغيرهم.
وهو مغرس الأمل الجميل، ومبعث الحلم اللذيذ. يحلق بالواقع إلى آفاق جديدة فيكتشف الحقائق في فضاءاتها، ويستشرف المستقبل في آمادها. لكن مع هدهدة الواقع فيسحبه مرة ويطلقه أُخرى لتتزن المعادلة السديدة بعنصريها: الحلم المحلق المتجدد والواقع المدقق المقيد.
أعظم جهاز رقابي
والعقل يمثل أعظم الأجهزة أو المؤسسات الرقابية فيما يتعلق بالإرادات والقرارات وضبط الأهواء والرغبات، وكل ما يُعنى بالمعاني المشاعر. وإلى جانبه جهاز رقابي آخر يعنى بالجزء المادي من الإنسان هو الدماغ. فهو الذي يضبط كل ما يتعلق بالجسم من حركة وتفاعل عن طريق الأعصاب وغيرها من النواقل. في دائرة رائعة من التكامل مع الأطراف، يستلم منها المعلومات ثم يحللها ويرسل القرار السليم إليها. وبمحاكاتها نكون قد وضعنا الأسس الراسية للأجهزة الرقابية في الدولة المرتقبة.
-
الروح
لا بد للعقل أن يكون حراكه منضبطاً بإيقاع الوحي، وحكمه مسدداً بمسار الشرع. وهذا معنى كون مؤسستنا ربانية ومشروعنا ربانياً. وهنا تأتي الروح متربعة على عرش العقل لتعطيه معنى الربانية الخالد، وتمنحه تحليقاً على تحليق وتسديداً على تسديد (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور:35).
-
الدماغ
الدماغ هو أشرف عضو في الجسم، يسيطر على حركات الجسم الإرادية وغير الإرادية والواعية وغير الواعية. ويفسر ما يثير حواسه الخمس من محفزات.
يمثل الدماغ – ومن فوقه العقل – في المشروع القيادة العليا التي لها الهيمنة والرقابة والمتابعة والتغيير والتعديل والتشريع ورسم السياسات، تناغماً مع واقع الناس، وقاعدة البيانات الراجعة.
يماثل الرأس في الجسم مرحلة التحصين في (المشروع) الذي يقوم على إنشاء جهاز قيادي أعلى. كما يماثل – من ناحية أُخرى – (النواة الصلبة) في معادلة (توحيد القوى).
-
القلب
روى البخاري عن النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله e يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
يتميز القلب عن بقية الأعضاء بأن علاقة الدماغ به تنظيمية لا تحريكية. تنتج حركته من نبض ذاتي مستقل كلياً عن الدماغ، وذلك من نقطة قرب اتصال الوريد الأجوف العلوي بالأذين الأيمن. أما دور الدماغ فيقتصر على السيطرة والتنظيم طبقاً للحاجة: تسريعاً بواسطة العصب السمبثاوي (sympathitic)، وتبطيئاً بواسطة العصب الباراسمبثاوي (Parasympathitic). وقد تظهر مرَضياً أكثر من بؤرة نبضية في القلب، تستدعي علاجاً قد يصل الى حد التداخل الجراحي. وقد دلت بحوث حديثة على أن للقلب شبكة عصبية تشبه الدماغ في صلتها بالتفكير. ولا عجب فقد قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46).
يمثل القلب القيادة الميدانية (القاعدة القائدة) التي ينبغي أن تفكر وتجتهد وتتصرف ذاتياً ولكن ضمن سقف محدد تحت إشراف القيادة العليا تسريعاً وتبطيئاً، وهي تبث الحياة في الجمهور السني، أو (الحاضنة الساندة)، من خلال أعمال مجتمعية نافعة. على أنه لا يسمح لبروز استقطابات وتكتلات خارج نطاق القيادة الميدانية المتفق عليه، وخارج إشراف وتنظيم القيادة العليا للمشروع.
يمثل القلب بذلك مرحلة (التكوين) – بشقيها: القاعدة القائدة والحاضنة الساندة – في (المشروع السني)، و(البؤرة الجاذبة) في معادلة (توحيد القوى). ومرحلة (التكوين) أهم مرحلة في المشروع. إذا صلحت صلح المشروع كله، وإذا فسدت فسد المشروع كله. وهي ما يفتقر اليها سنة العراق والمنطقة كلياً.
على القائد الميداني أن:
- يعمل بطريقة تجمع بين اللامركزية والمركزية؛ فهو حر يجتهد ويستجيب للتغيرات الحادثة والطارئة، ولا يظل جامداً خامداً هامداً ينتظر الأوامر تفصيلياً من فوق. وذلك ضمن الضوابط والمجال المسموح به من هناك.
- ويتخلص من صفة الإبنوية الكلية التي تعطل الحركة، إلى صفة الأبوية المنضبطة بالأبوية العليا. ولنا دليلاً على هذه القاعدة قصة الطفيل بن عمرو الدوسي نموذجاً واضحاً يؤتسى به.
-
الأعضاء
تختلف أعضاء الجسم عن القلب في أن علاقتها بالدماغ علاقة اعتمادية كلية: تحريكاً وتنظيماً، وليست هي تنظيمية فقط، كما هو الحال مع القلب.
أعضاء الجسم في حاجة إلى إيعاز من الدماغ لتبدأ بالعمل: حركة وحساً. فالعضلات المحركة لا تتحرك ابتداء ما لم يصلها إشارة من الدماغ بواسطة الأعصاب الحركية (Motor nerves)، ومواضع الإحساس ليس لها قدرة على تفسير ما يثير الشعور بالألم والحرارة والنعومة والخشونة وغيرها من أنواع الشعور ما لم تستلم تفسيراً بذلك من الدماغ عن طريق الأعصاب الحسية (Sensory nerves). وجميع الأنشطة الخادمة للجسم الصادرة من الأعضاء المختلفة كالكبد والكلى والجلد والأوعية الدموية لا تتحرك ولا تنظم حركتها إلا بإيعاز من الدماغ يحكمها كلياً.
تمثل الاعضاء الادارات التنفيذية الدنيا للمشروع السني، بأجهزتها وأقسامها. ويأتي الجناح العسكري في مقدمة الإدارات التنفيذية. ويمثلها من الأعضاء اليد الباطشة، والقدم الرافسة. ومعه الجناح السياسي الذي يمثله من الأعضاء اللسان والشفتان الناطقة، محكومة بالعقل منضبطة به.
وهنا تمت مرحلة التمكين، وتكونت الكتلة الغالبة.
بهذا يتبين أن الجهد العسكري والسياسي ليس أول الجهود، بل يكاد يكون آخرها: توقيتاً ورتبة. وهذا يلتقي مع النظرية السياسية في (مشروعنا) القائمة على قاعدة (من يمارس القوة لا يملكها، ومن يملك القوة لا يمارسها). فالتقت السنة الكونية بالسنة الشرعية؛ إذ لم يمارس النبي e العسكرية والسياسة إلا في الثلث الأخير من حياة النبوة.. بعد أن أتم بناء الجسم المدني. بينما الذي عليه الفكر السائد، وما يترتب عليه من عمل ساند، جعْلُ هذين الجناحين في أعلاها.
في إحدى الورش كنت أتكلم عن المشروع ومراحله. ضحك أحد الشباب عندما وصلت إلى نهاية مرحلة التكوين وبداية (التمكين) وقال: “إي! وهنا يأتي العسكري، و(القائد العام للقوات المسلحة) ليستحوذ على كل شيء”! ابتسمت وقلت: اطمإن؛ وضعنا لهذه المفارقة الكارثية علاجها في مشروعنا. وشرحت له نظريتنا السياسية، القائمة على قاعدة (من يمارس القوة لا يملكها، ومن يملك القوة لا يمارسها). وعقبت: لم تأت هذه القواعد المتقدمة عفواً، أو نتيجة تفكير عابر، إنما هذا نتاج سنين من المعاناة والنظر والتفكير في الواقع.
-
الزيادات
الزيادات قسمان:
- قسم: هو نافع يكمل الجسم ويجمله كالشعر وزيادة الظفر.
- قسم: هو ضار يجب التخلص منه. وهذا قسمان أيضاً:
أ. قسم: هو ناتج لازم لأنشطة الجسم وعملياته الأيضية، كالعرق والزفير وما شابه.
ب. وقسم: هو: إما توالف طبيعية يجب التخلص منها، مثل قلامة الظفر والشعر المتساقط ، والخلايا الميتة التي تعوض يومياً بخلايا حية. وإما حالات مرَضية، مثل الأورام الحميدة والخبيثة، والزائدة الدودية الملتهبة، والطحال إذا تحول إلى مدمر لخلايا الدم الحمر في بعض حالات الدم المرضية.
تمثل الزيادات النافعة في (المشروع السني) وجود أشخاص ولجان أو ما شابه تقدم خدمات تكميلية، كالاحتفال والدعاية والكلمة الطيبة في صالحه، وأنشطة أُخرى مشابهة.
والزيادات الضارة فتتمثل في الجانبين: المعنوي والمادي. أما الجانب المعنوي فيتمثل في الأفكار القديمة العاطلة (التي لا نفع فيها) والباطلة (التي تضر ولا تنفع) التي يسميها البعض ثوابت (مثل الوطن، الشيعة العرب، قصر مفهوم الفقيه على فقيه الفروع، البدء بالعسكري والسياسي). ويتمثل الجانب المادي في الأشخاص العاطلين عن أي نشاط نافع، والباطلين الذين يثيرون المشاكل داخل الصف: فردياً، أو جماعياً عن طريق التكتلات المضادة للخط العام لمسار المشروع.
المعارضة الإيجابية ليست من الزيادات
أما المعارضة الإيجابية فلا يتطور مشروع دون وجودها. هي كالعضو الذي يطلق الألم علامة تنبيه على مرض يتطلب علاجاً. الجسم الميت هو الجسم الوحيد الذي لا يتألم. والقاعدة، التي استخلصناها من قصة الهدهد في نظام سليمان u، لتشجيع هذه الحالة الصحية وتنظيمها، تنص على أن (الخروج عن النظام خدمةً للنظام نظام).
لا ينبغي لأحد أن يبغي على أحد بسبب اختلاف المراتب
لا يصح شرعاً وعقلاً وأدباً أن يبغي صنف لرتبته على صنف أدنى منه رتبة. لا ينكر أحد حاجة الجسم إلى الظفر وأهميته ضمن تكوينه، ولا يثبت عاقل قيمة قلب مفصول عنه. يقول الكاتب المختص في علم (الإدارة) روبين سبكيولاند: أعلن الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1960 أن على الأمة أن تلزم نفسها بتحقيق هدف قبل انتهاء هذا العقد هو إنزال رجل على القمر وإعادته سالماً.
واستجاب الجميع لهذا النداء. أراد أحد الصحفيين أن يعرف مدى تأثير رؤية الرئيس على العاملين في وكالة (ناسا)، فقام بزيارة مقر الوكالة، فلاحظ المهندسين والعلماء يعملون بسرعة محمومة، ولكن أكثر شيء أثار دهشة الصحفي هو عامل النظافة الذي كان يمسح الأرض. توقف الصحفي وسأل عامل النظافة: ماذا تفعل هنا؟ عندها رفع عامل النظافة هامته ونظر إلى عين الصحفي مباشرة، وقال: (أنا أساعد في إرسال أول رجل فضاء إلى القمر)([1]).
كن ظفراً في مشروع. ولا تكن دماغاً أو قلباً مفصولاً خارجه.
مصدر الخلل
يشيع الخلل إلى المجتمع من مصادر ثلاثة:
- حين يغيب العقل أي الرأس المدني المفكر المسيطر بأجهزته المدنية على الجمهور فيهمل المشروع المدني، قفزاً إلى العسكري أو السياسي. كانت المقاومة، في حقيقتها، أشباحاً، لا يظهر منها سوى يد تكبس أو قدم ترفس وسط الظلام ثم تختفي بسرعة. لهذا ارتبط وجودها – كنتيجة تلقائية غير مقصودة – بالمحتل؛ اختفت باختفائه ورحلت برحيله. والمفترض – كنتيجة طبيعية مقصودة – أن تظهر لا أن تختفي بزواله! لقد كانت في واقع الأمر مجرد شبح بيد وقدم، لا جسم له!
- أو يوجد الرأس المدني، لكن يكتفي بالعلم والثقافة ونشرهما دون الانتقال إلى مشروع بجسم مدني وجناحين: عسكري وسياسي.
- أن تغيب الربانية، فتنشأ دولة مدنية خارجة على شريعة الإسلام.
الصبر
جمع الله تعالى ما يريده من المسلم بشيئين: التقوى والصبر، وذلك في عدة مواضع من كتابه الكريم، منها: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90).
المشروع برمته يمثل جانب التقوى. فلم يبق إلا الصبر لجني ثمار المشروع.
أساس الصبر اليقين بصواب العمل؛ قال جل جلاله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3). فأمر المؤمنين – بعد اليقين بكونهم على الحق – بالصبر على دفع المستحق. ومثله قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) (الأنعام:58،57). فجعل (البينة) – وهي أحد تعبيرات (الحق) – هي الأصل، فإذا كنت على بينة من أن مشروعك صائب، فما عليك إلا التذرع بالصبر، وأنت ماضٍ في العمل بمشروعك قدماً لا تستعجل قطاف الثمر، وإلا كانت النتيجة – كما قيل – (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه).
كثيراً ما يسألني الناس: كم معك من الأتباع؟ وماذا أنجزتم على الأرض؟ فأقول لمن يسألني: لن أجيبك عن هذا؛ لأنه ليس هو الجانب المهم في الموضوع. إنما المهم هو السؤال عن: كون المشروع يمتلك شروط الحق والصواب أم لا؟ فإذا كان باطلاً فدعه ولو كان أتباعه بالملايين. وإن كان حقاً فما الواجب تجاهه حتى لو كنت وحدك في الميادين؟ فيسكت البعض، ويجيب البعض: إذا كان المشروع حقاً فلا محيص عن حمله وتبنيه. فأقول له: فافترض أنه ليس في المشروع غيري وغيرك واعمل على هذا الأساس بما هو واجب عليك. وليس من شرط أحقية الشيء أن يخلو من كل خطأ، إنما الشرط هو صواب مساره العام، والمجال مفتوح للتصويب.
ثم لا بد حتماً من أن يبدأ المشروع بواحد ثم ثانٍ وثالث… وهكذا حتى يتم الله أمره. لكن للسابقين منزلتهم، أولئك الذين ما تبنوا المشروع وحملوا القضية إلا لذاتها؛ لقد كانت بذرة في ضمير الغيب قبل أن تكون شجرة في عالم الشهادة. وهذه هي ميزة المؤمنين المتقين: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) (البقرة:3). وهنا أتذكر ما رواه مسلم وغيره عن عمرو بن عبسة t قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان. فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرءاء عليه قومه. فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: (أنا نبي)، فقلت: وما نبي؟ قال: (أرسلني الله)، فقلت: وبأي شيء أرسلك،؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء). قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: (حر وعبد). قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. فقلت: إني متبعك، قال: (إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني)([2]).
( وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ) .. مكة والمدينة مثالاً
انظر إلى أرض مكة: هل كان يخطر ببال أحد أن تكون منطلقاً لمشروع عالمي؟ ولقد وقفت في ميدان معركة (أُحد) فقادني المشهد لأن أطرح السؤال نفسه!
وها هو اسم النبي صل الله عليه وسلم مقروناً بذكر الله جل جلاله يلف الأرض والسماء في كل لحظة! ولكن اسأل عن مبتدإه قبل منتهاه!
متى قال الله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح:4)؟ وقال: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (الكوثر:3)؟ ومتى تحقق ذلك فنزل قوله تعالى: (ِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا) (النصر:2،1)؟ ومتى استعمل النبي e القوة والسياسة لتحقيق النصر؟
وفاز الحر والعبد، ولكن فوزاً دونه فوز من تأخر فصعب عليه أن يتدارك ما فات.. وانتصروا ولكن نصراً دونه نصر الآخرين! (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (الحديد:10).
كان الحُرُّ أفضل الأمة طراً!
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في العبد: (حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَل عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلامِ، فَإِنِّي سمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَديَّ في الجَنَّة)([3])! وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في الحر والعبد: (أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا)([4]).
الواقع
الناظر إلى الواقع اليوم يجد الشعب السني عبارة عن أعضاء مقطعة. يراد لصقها أو دمجها بأي وسيلة. السياسي يلصق ولكن بغراء، والعسكري يدمج ولكن بهراوة.
وإنما نحن في حاجة إلى طبيب يستعمل الدواء الناجع، ويربط الأجزاء بدقة ورويئة.
نعم نحن مشروع عالمي أممي. لكن عالميتنا مرتبطة بنجاح محليتنا. ونجاح محليتنا مرتبط بشيئن: صواب المشروع، والصبر على تحمل الأعباء. هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أمر جل جلاله (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) (الروم:60). وهكذا نرجو أن نكون ما دمنا موقنين بصواب ما نحن عليه، وأننا على (حق) وعلى (بينة).
لقد التقت سنة الله الكونية وسنة الله الشرعية في (مشروعنا). وحين تلتقي السنتان في أمر فاعلم أنه صواب.
[1]– http://www.nlpnote.com/forum/246977-post1.html
[2]– صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
[3]– رواه البخاري، 2/53، عن أبي هريرة. مصدر سابق.
[4]– رواه البخاري، 5/27، عن جابر بن عبد الله. مصدر سابق.
مفهوم الأمة بين الفكرة والواقع
( 5 )
مَفهومُ الأمَّةِ بينَ التنظير والتجسير
من المفاهيم التي أمست اليوم في حاجة ماسة إلى المراجعة مفهوم (الأُمة).
إن هذا المفهوم من حيث المنزلة الدينية هو فكرة نقدسها، وعقيدة نؤمن بها. يقول ربنا سبحانه بعد ذكره موكباً عظيماً من الأنبياء والصالحين، ابتدأه بموسى وهارون، واختتمه بزكريا وزوجه وعيسى وأمه: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).
لكننا عندما ننظر إلى الواقع الذي يكتنفنا، نجد مفهوم (الأمة) لا يعدو كونه:
- فكرة مشرقة في الذهن بحاجة إلى تمثيل.
- وحلماً جميلاً في الخيال بحاجة إلى تأويل.
لقد جردنا – دون أن نشعر – الفكرة عن واقعها والحلم عن حقيقته، فوقعنا في مفارقة كبيرة يدفع ثمنها الأغلبية من جماهير الأمة لصالح أقلية ترفع شعار (الأُمة) بصورة لا ترى فيها إلا نفسها. بمعنى أنها تطالب الأُمة بحقوقها عليها، ولا تطالب نفسها بالواجبات المترتبة عليها تجاه (الأمة)!
القطرية المفرقة .. لا الأمة الجامعة
والآن.. اسرح ببصرك نحو الأفق هل يرجع إليك بغير أقطار ودويلات تفصل بينها حدود وضعها المستعمر؟ وبإمكان كل فرد ينتسب إلى الأمة أن يكتشف عند الحد الفاصل أنه لا أمة خارج نطاق الذهن والحلم. وأن بقاءه في بلده – لو توفر له الأمن – خير له، من جوانب كثيرة، من عيشه بين إخوانه في تلك الأقطار والدول والدويلات.
وأهل كل بلد من هذه البلدان – عربية كانت أم إسلامية – مشغولون بهمومهم، ولهم أفكارهم، بحيث ينظرون إلى همك الخاص من خلال تلك الهموم، ولا غير، ويريدون أن يخضعوا أفكارك الخاصة بقضيتك التي في بلدك إلى تلك الأفكار، ولا بد. ومن الصعوبة البالغة أن تزحزحهم عن شيء من ذلك. وأظن أن هذا شيء طبيعي ما دامت الحدود تفصل بيننا وتمنع أبناء الأمة من أن يعيشوا معاً ويختلطوا ببعضهم، فيتشاركوا الهموم ويتبادلوا الأفكار.
النتيجة أنك تُجبر على أن تعيش في عزلة نفسية وفكرية تنعكس على علاقاتك ووضعك الاجتماعي الجديد. وكثيراً ما تمارس الصمت والوجوم أو الابتسام والتصنع إزاء ما ترى وتسمع! عند هذه النقطة تماماً يتبادر إلى ذهنك السؤال الخطير: أين الأمة؟
عندذاك تكتشف أن الأمة المقطعة الأوصال لا وجود لها خارج نطاق المفهوم الذهني والحلم الخيالي، وخارج نطاق بعض الأفراد المتميزين الذين يمتلكون طاقة هائلة لتجاوز فلك القطر عبر الحدود نحو فلك الأمة. وهؤلاء لا غيرهم – في رأيي – هم الأمة اليوم.
مع هذا الاكتشاف المؤلم تكتشف شيئاً آخر أكثر إيلاماً، هو أن بعض الجهات تتكلم باسم الأمة، وترفع شعار (الأُمة) بصورة لا ترى فيها إلا نفسها. بمعنى أنها تطالب الأُمة بحقوقها عليها، ولا تطالب نفسها بالواجبات المترتبة عليها تجاه (الأمة)! هذا والأمة في دوامة الركود الفكري لا تدرك هذه المفارقة الأليمة اللئيمة. فما العمل؟ وما الحل؟
فكّر أممياً .. وتصرف محلياً
عندما ننظر إلى الشرع والمبدأ من جهة، وإلى الواقع والمصلحة من جهة، نجد أن الحل الشرعي الواقعي المنصف هو أن نتبع المعادلة التالية: (فكّر عالمياً “أممياً” وتصرف محلياً)، فإن نجاح عالميتك بنجاحك أولاً في محليتك.
إذن قضيتي القطرية – بل الإقليمية داخل القطر – هي الأولى من الناحية العملية، حتى وإن كانت أولويتها أدنى من الناحية النظرية. وأتعاطى مع قضايا الأمة بعد ذلك بمسلكين محكومين بقيدين:
- حسب القدرة والطاقة الفائضة بحيث لا أفرط بحق ذوي القربي (أهل بلدي) كما قال سبحانه: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75): فأقدم حق الأقارب على المؤمنين ولو كانوا من المهاجرين المجاهدين. فمن حيث الأصل ليس من الشرع الحكيم، ولا النظر القويم، تقديم قضية قطر إسلامي غير عربي على قضية قطر إسلامي عربي، ولا تقديم قضية قطر عربي على قضية قطري الذي أعيش فيه؛ لأن أهل بلدي أقرب رحماً من أهل البلد العربي الثاني، وأهلي العرب أقرب رحماً من أهلي المسلمين غير العرب. هذا بالنظر إلى عامل الرحم فقط. فإذا أدخلنا عامل المصلحة كان الأمر آكد وأقوم.
- أن أبادل الموقف بموقف، والدين بالشعور. فمن لم يقف معي في قضيتي لا أتجاوز دائرة الشعور لأقف معه في قضيته وإن كان مسلماً عابداً؛ فإن هذا الإسلام لم يدفعه لأن يقف معي وأنا أخوه المسلم، فليس من حقه أن يطالب إسلامي بما لم يطالب هو به إسلامه قبل ذلك؛ والله تعالى يقول: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) (الأنفال:72). الإيمان وحده لا يصنع قضية ما لم يستتبع نصرة تصدقه وتبنى عليه. فالنصرة إنما هي للقضية وليس لأصل الدين، وبدليل نهاية الآية أيضاً: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ). فالميثاق (أي نصرة القضية وليس الدين) من الكافر أقوى من (إيمان) مسلم لم يحمله إيمانه على مشاركة إخوانه في قضيتهم ليتواثق معهم به وينصرهم. وهكذا ترتبت النصرة على القضية (الميثاق ولو من كافر)، لا على أصل الإيمان (الدين).
بذلك أكون واقعياً فأحمل هم (الأمة) فكراً وشعوراً، وأتجاوز ذلك إلى العمل بالشرطين الآنفي الذكر، وأعمل لتغيير الواقع الذي هو تحت طَول يدي لا تفصلني عنه الحدود. وبذلك نتوحد في مشاعرنا ونتفاعل في قضايانا، ونؤدي من ذلك ما نستطيع قياماً بالواجب المفروض بالوسع المقدور.
أولويات التحدي
بعد كل هذا يمكنني أن أحدد أولويات التحدي حين أعرف أن لي قضيتين: قضية خاصة داخل بلدي أقدمها عملاً وتطبيقاً، وقضية عامة على امتداد الأفق الذي تتناثر متفرقة عليه أقطار (الأُمة) قد أقدمها قيمةً وترتيباً.
والآن لننزل هذا الكلام على مورده.
أنا – كعراقي – من الناحية العملية أبذل جهدي لإنقاذ بلدي العراق أولاً، كما يعمل الفلسطيني والسوري – مثلاً – لبلديهما دون أن أطالبهما أن يكونا عراقيين: لا كالعراقي ولا أكثر منه إحساساً وهماً وحملاً لقضيته. كذلك أنا لست فلسطينياً ولا سورياً: لا مثلهم ولا أكثر منهم من باب أولى. إنما نتشارك في الشعور والهم كلٌّ بحسبه، ونتناصر بعد ذلك حسب الموقف والقدرة.
وحين يكون لي إقليم خاص أعمل لمصلحته أولاً، مع مد يد التعاون إلى من يتعاون معي كما يفعل إقليم كردستان. قال جل جلاله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2).
هكذا تتوحد قضايا الأمة وأولوياتها. لأنه عندذاك لن نجد عربياً يصطف مع عدوي كعراقي (وهو إيران) ويريد مني أن أصطف معه ضد عدوه، بل بعضهم يتجاوزني لأهمل قضيتي في سبيل قضيته! ولا نجد مسلماً يصطف مع روسيا ويطمع بنصرة شيشاني له.
ولن نسمع برئيس دولة عربية يزوره رئيس إيران ليصرح من عاصمته أن قضيتهما واحدة، هذا وإيران ذبحتني من الوريد إلى الوريد! لماذا لا يستقبل نتنياهو إذن ويصرح من عاصمته بمثل ما يصرح به مع نجاد؛ ما الفرق؟ ولن نرى عربياً آخر يزور إيران يتلقى منها الأموال، ويصدر بياناً من طهران بمثل بيان الرئيس المذكور؛ لأن (أدب) القضية سيعلمه أدب مراعاة (الأصول). وإلا تمزقت الأمة في قضيتها: شعوراً وهماً، وتطبيقاً وعملاً، بعد تمزقها: أرضاً وحداً وواقعاً، وغزاها العدو في عقر دارها ثقافةً واقتصاداً وسياسةً واجتماعاً، وربما احتلها عسكرياً، وبهتت هويتها وضعف انتماؤها لأوطانها وقومياتها وإسلامها.
هذا هو الذي يحفظ للتحديات أولوياتها، ويحفظ للأمة هوياتها المتنوعة، فليس هناك تحدٍّ واحد، كما أنه ليس من تحد هو الأول بالمطلق دون مراعاة ما سبق. كذلك ليس ثمة من هوية وحيدة تلقف – كعصا موسى – بقية الهويات، بل هي هويات متعددة متساندة.
الملاحظ على (القوميين) خصوصاً العراقيين أنهم أضعفوا انتماءنا الوطني بتركيزهم على العرب خارج حدودهم القطرية؛ فكأن أولوية الاهتمام بالوطن تتناقض مع العروبة. كما أن الملاحظ على (الإسلاميين) أنهم أضعفوا انتماءنا العروبي؛ فكأن العروبة تتناقض مع الإسلام! ولم يكتفوا بهذا حتى أدخلوا إيران ضمن (المنظومة الإسلامية)، وبذلك انتقلوا من المطر إلى المزراب!
بطلان نظرية ( القضية المركزية ) وفشلها
عند هذا الحد نجد أن نظرية (القضية المركزية)، وأن للأمة قضية مركزية واحدة، في حاجة إلى مراجعة تقييماً وتقويماً.
فبوجود الحدود الفاصلة بين أقطار الأمة لا يكون للأمة وجود خارج نطاق الذهن والحلم والأفراد المتميزين، فيكون وجودها معنوياً اعتبارياً لا حقيقياً مؤثراً. وبغياب وجود الأمة الحقيقي المؤثر، لا يمكن أن يكون لها قضية حقيقية حاضرة؛ فالمعلق بالغائب غائب حتى يحضر. إنما لكل قطر قضيته المركزية: فالفلسطينيون لهم قضيتهم، والعراقيون لهم قضيتهم، كذلك الأمر في الشيشان وأفغانستان وسوريا ومصر وليبيا والأحواز والسودان. والمطلوب أن نتفاعل فيما بيننا شعوراً يصنعه الدم ويفرضه الدين، ونتعاون فيما بيننا حسب حسب الموقف المتبادل ثم القدرة الممكنة. ولا قضية تعلو على أُخرى بالنسبة لأهلها. فمن أعطى للآخرين أخذ منهم، ومن أراد الاعتياش والمتاجرة، فمرة يبكي على بابي، وثانية يستجدي على أعتاب عدوي، فلا ينبغي أن يكون له وجود بين أصحاب القضية.
أما القضية المركزية للأمة كلها فلا وجود لها قبل توحيد الأمة وإزالة الحدود الفاصلة بين أقطارها. فإن كان للأمة وجود، وكان أبناء الأمة جادين فيما يقولون فليعملوا على تحقيق أولاً.. وعندها ستولد القضية المركزية للأمة من تلقاء نفسها.
إن أي قطر لا يصلح لأن يكون مركز شد لباقي أقطار الأمة المفرقة. وتوهم ذلك مخالف لسنة الله تعالى في كونه وخلقه. فالكتلة الجاذبة لا بد أن تكون أكبر من مجموع الكتل المجذوبة. فإذا أردت لكتلة أصغر أن تجذب المجموع الأكبر فقد فعلت عبثاً، وكانت النتيجة بعثرة الجميع وتفريقه وشرذمته. فكيف يراد لدويلة صغيرة مثل فلسطين، وقضية صغيرة مثلها، أن تكون مركز الشد وتقوم بهذا العبء الجبار؟! كيف لفلسطين أن تكون قضية مركزية لشعب الشيشان أو تنزانيا أو أندونيسيا؟!
ومن سخريات هذه القضية (المركزية) أن فلسطين نفسها قد انقسمت على نفسها قسمين: كل قسم تابع لقوة طامعة وعدوة للعرب والمسلمين. فرام الله تابعة لأمريكا، وغزة تابعة لإيران!
لا بد أن تكون القضية المركزية قضية تمس حاجة الجميع، ومن الكبر بحيث تكون قادرة على تدويرهم في فلكها.
إن القضية السنية هي القضية المركزية الجامعة.. إنها بمثابة (العصبية) – حسب تعبير ابن خلدون – التي تمثل مرتكز قوة الأمة، ومحور جذبهم ونواة اجتماعهم. فالسنة هم الأمة، والتحدي الشيعي والإيراني صار يفرض نفسه على واقع الأمة، ويتجاوز حدوده الإقليمية القريبة إلى مديات عالمية. ولقد أخذ الفكر السني يفرض نفسه على أشد المعارضين له في الساحة. وهذا يدل على أمرين: قوته وواقعيته، ثم شعور الجميع بالحاجة إليه، وخواء بقية الأفكار وعجزها عن مواكبة الواقع.
إن العرب هم قطب الأمة الإسلامية.. وثلاثة أرباع العرب من حيث الثقل الديني والفكري والسياسي والاجتماعي في المشرق (الجزيرة، والعراق، والشام). وربعها الآخر في المغرب (مصر). ولا يقوى المغرب على مواجهة الخطر الغربي دون المشرق العربي. ولن تتحرر فلسطين قبل تحرر المشرق العربي. ولن يتحرر المشرق إلا بالفكر السني والقضية السنية.
الفكر السني، والمشروع السني هو الفكر والمشروع الجامع. وما عداه فمفرق مشرذم، والواقع شاهد على أن الفكر القومي والإسلامي والليبرالي غير صالح لتوحيد الأمة.
المعادلة الأمنية لدول المشرق العربي
آن للخريطة العربية أن تنفلق عن مصطلح (المشرق العربي) وتحدد دوله بـ(العراق ودول الخليج واليمن والشام). وما بقي فتصنف ضمن (المغرب العربي). وأنهما عالمان، وإن ارتبطا بوشائج لا يستهان بها، مختلفان من نواح جوهرية يجب إدراكها وبناء العلاقات على أساسها. ومن ذلك اختلاف العالمين في أولويات التحدي الأمني. فالتحدي الأمني القومي لدول المشرق العربي شرقي بالدرجة الأولى، وتحدي الثاني غربي. على أنهما في النهاية يشتركان في تحمل التحديين كل بحسبه.
ويبقى فرق آخر كبير هو أن الأمن المغربي يعتمد على متانة الأمن المشرقي وسلامة دول المشرق أكثر من اعتماد الآخر عليه، رغم أن الثقافة المغربية طغت فوجهت ثقافة الأمة المشرقية وجهة أضرت، ليس بها فقط إنما، بالأمتين معاً.
طغيان الثقافة المغربية .. والمشرق العربي يدفع الثمن غالياً
الثقافة المغربية تعطي الأولوية للتحدي الغربي (أمريكا وأوربا) ومعه إسرائيل. وقد ضخمت من هذا الخطر، وكان لثقل مصر السكاني والفكري والإعلامي، ووجود المطابع منذ عهد نابليون نهاية القرن الثامن عشر.. دوره البالغ في هذا التضخيم. في الوقت نفسه ساهمت تلك الثقافة في التهوين من خطر التحدي الشرقي (الشيعة وإيران) حد اعتباره صديقاً، وفي بعض الأحيان أحد مكونات نسيج الأمة العربية (الشيعة) أو الإسلامية (إيران). وكان لـ(الإخوان المسلمين) وتفرعاتها منذ تأسيس الجماعة الأم في علاقتهم بإيران والشيعة وإنشائهم (دار التقريب) في القاهرة، دورهم الكبير والخطير في ذلك. يقابلهم في الطرف الآخر السلفيون في تناقضهم الطبيعي مع الشيعة. لكن الفكر السلفي اقتصر – في الغالب في ميدان المواجهة – على العقيدة والفقه، دون الجوانب الأخرى: الاجتماعية والنفسية والتاريخية والسياسية والأمنية. ومع هوان الدين على شعوب المنطقة – بما تخللها من فكر علماني وليبرالي وركون إلى الدنيا – بدا الخطر العقائدي والفقهي على أهميته، الذي يركز عليه الفكر السلفي، أمراً هيناً، بحيث بات السلفيون متشددين في نظر عامة الجمهور.
دخول فلسطين على الخط، ثم رفع إيران الخميني هذه اللافتة، ودخول التومان الإيراني ميدان المنافسة، ورومانسيات الفكر القومي وحماسياته الحالمة.. كل هذا وغيره كان له دوره في إضعاف الثقافة المشرقية وانحراف معادلتها الأمنية في غير صالح دولها.
منطق الجغرافيا والجيوسياسيا
نظرة واحدة إلى جغرافية المشرق العربي، ثم نظرة أُخرى إلى خريطة العراق (البوابة الشرقية للأمة) تكشفان للناظر كل شيء، ونظرة واحدة إلى سياسة المشرق العربي الأمنية تكشف الخلل الكبير في كل شيء!
تابع معي الخريطة من جنوب “بحر العرب” و”مضيق هرمز” والضفاف الشرقية لـ”الخليج العربي” (أو الغربية للأحواز)، مروراً بـ”شط العرب” والبصرة وصولاً إلى شمال العراق. ماذا ترى؟
قرابة (5000) كيل من المسافات، أخذاً بالاعتبار تعرجات الأرض على طول السواحل، مكشوفة لإيران، العدو التقليدي الخطير للعرب. ثم ارجع البصر وركز في الخريطة أكثر لترى الإباضية في عمان والحوثية وأشباههم في اليمن، والشيعة في شرقية السعودية، وعبر الضفة الشرقية للخليج (في الأحواز) إلى خانقين شمالي العراق، ثم السليمانية في أقصى شماله تقريباً من الشرق التابعة لحزب الاتحاد. ثم توغّل الشيعة في مدن العراق وانتشارهم فيها، لتشكيل (هلالهم) باتجاه سوريا ولبنان.. إذا فعلت ذلك ماذا سترى أيضاً؟!
ديالى ………….!
ألقِ على خريطة العراق (في الصفحة التالية) نظرة أُخرى مستقلة بعض الشيء عن الخريطة الكبرى لدول المشرق. وركز النظر على ديالى والسهم الأحمر الذي يخترقها من أعلاها من خانقين التي ينتشر فيها الشيعة، نحو سوريا. والسهم الأحمر الآخر الذي يخترقها من أدناها باتجاه بغداد، تجد ما يلي:
- تمثل ديالى أقرب الطرق المؤدية إلى العاصمة بغداد من جهة إيران، وذلك عبر منفذي مندلي شمالاً وبدرة (التابعة لمحافظة واسط) جنوباً. إذ ليس بين إيران والعاصمة العراقية أكثر من 60 كم عن طريق ديالى!
- وتمثل ديالى أقصر طريق بري من إيران إلى سوريا؛ لهذا يستعمله وزير النقل هادي العامري في نقل الأسلحة وعناصر الحرس الإيراني إلى سوريا عبر العراق. لا سيما وأن مرور إيران إلى سوريا عبر المحافظات الشيعية في الجنوب يصطدم بعقبة الأنبار، التي تساوي مساحتها مساحة الأردن مرة ونصفاً. وهي عقبة حقيقية يصعب تجاوزها، خصوصاً وأنها محافظة سنية بحتة، وليست كمحافظة صلاح الدين التي فيها تجمعات شيعية في بلد والدجيل والدوز يمكن أن تحمي الطريق المختصر من ديالى إلى سوريا. فكيف لو تحولت الأنبار إلى إقليم؟! وهذا أحد أسباب سعي إيران لمنع تكون الأقاليم في العراق.
سيطرة إيران على ديالى يهدد بغداد ودمشق سياسياً وعسكرياً وديمغرافياً!
- بالسيطرة على ديالى يكتمل ظهور (الهلال الشيعي)، لمحاصرة الأردن ولبنان ودول الخليج والمنطقة ككل. لا سيما والمؤامرة الإيرانية الشيعية جارية على قدم وساق في اليمن وتتمدد في الكويت والسعودية وغيرها من دول الخليج لإحكام الطوق وتحقيق الحلم الفارسي باحتلال مكة واستعادة الإمبراطورية الفارسية.
هذا هو سر البلاء الذي ينهمر على رؤوس أهل ديالى؛ فإيران عملت على تشييع المدن المتاخمة لها فصارت قناطر للعبور إلى العراق إلا ديالى فقد استعصت عليهم عبر التاريخ وبقيت سنية بنسبة لا تقل عن 85%؛ لا بد إذن لإيران من دعس هذه الشوكة السنية وإعادة تشكيلها شيعياً تحضيراً لهضمها في المعدة الإيرانية من أقرب نقطة. وعلى هذا الأساس فإيران جادة في البحث عن وسائل معينة تسيطر بها على هذه المحافظة. لهذا جن جنونها يوم أعلن مجلس محافظة ديالى ذهابه إلى خيار (الإقليم)؛ لأن هذا يجعل المحافظة خارج مرمى المؤامرة. وبهذا يتبين أن رافضي الإقليم شركاء لإيران والشيعة في هذه المؤامرة الخطيرة، وعليهم أن يتحملوا مستقبلاً مسؤولية تواطئهم وحمقهم!
النخيب
هناك خاصرة رخوة أخرى لأمن المشرق العربي، تتمثل في قضاء (النخيب) جنوبي الأنبار. الذي تسعى إيران ودولة الشيعة في العراق حثيثاً إلى فصله عن الأنبار وإلحاقه بكربلاء. وهذا يوصل المحافظات الشيعية بالأردن، ويحقق للعدو الشرقي هدفين خطيرين:
- وصول إيران إلى حدود الأردن، وتطويق الشام من أعلاها وأسفلها.
- وصول إيران إلى الحدود السعودية من شمالها، وعزل سنة العراق وسنة السعودية عن بعضهما. وبشيعة اليمن من الجنوب يكتمل تطويق السعودية من شمالها وجنوبها وشرقيها. ولا يبقى لها سوى البحر الأحمر من جهة الغرب. هذا وإيران وإسرائيل مع أريتريا شغالة عليه.
المحمودية والمدائن
تمثل المحمودية والمدائن (25 كيل جنوبي بغداد)، اللتان يفصل بينهما نهر دجلة، خاصرتين خطيرتين جداً في معادلة الأمن المشرقي.
تنفتح بغداد من جهاتها الثلاث: الشرقية والشمالية والغربية على محيط سني، تتخلل بعضه جزر شيعية هي عبارة عن أقليات في وسط ذلك المحيط. أما جهتها الجنوبية فتنفتح على المحيط الشيعي متمثلاً بالمحافظات الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. وهذا الانفتاح يمر عبر بوابتين هما: قضاء المحمودية الواقع في الجانب الغربي لنهر دجلة. وقضاء المدائن الواقع في الجانب الشرقي لنهر دجلة الذي يفصل بينها وبين قضاء المحمودية.
لهذا السبب ركز الشيعة من بداية الاحتلال على هاتين المدينتين؛ لأنهما تمثلان القصبة الهوائية لشيعة بغداد باتجاه رئة الجنوب. ومعبر شيعة الجنوب إلى العاصمة بغداد.
وإذا كان المخطط الإيراني الذي ينفذ بأيد شيعية عراقية وغير عراقية، يهدف إلى الاستيلاء على بغداد وجعلها مدينة شيعية خالصة، أو ذات أغلبية شيعية ساحقة، فإن هذا الهدف لن يتم ما لم يكسر الطوق الأمني المحيط ببغداد، خصوصاً جزأه الجنوبي؛ من أجل التواصل مع التكتل الشيعي في الجنوب. وإلا فإن استمرار هذا الطوق القوي على حالته السُنّية يعني أحد أمرين: إما أن يَترك الشيعة بغداد ويذهبوا إلى الجنوب. وهذا يعني نهاية حلمهم في تشييع العراق، ومن ثم الانطلاق إلى دول الجوار. أو أن يكون وجودهم الشيعي داخل بغداد محصوراً من كل الجهات، وكما قال أحد نوابهم: “سيكون شيعة بغداد رهينة بيد الإرهابيين” (يعني السُنّة)؛ ولذلك تحملت هاتان المدينتان في عهد الاحتلال الأمريكي الثقل الأكبر في برنامج الإبادة الجماعية المنظمة، والتغيير الديموغرافي الممنهج([1]).
واقع المعادلة الأمنية لدول المشرق العربي
- تركزت أنظار شعوب المشرق العربي نحو الخطر الإسرائيلي والخطر الصليبي مولية ظهورها للعدو الأكبر (الشيعة وإيران) وهي تصوب نظرها نحو الغرب قبل أن تلتقي في بؤرة هي فلسطين وتتركز فيها كلياً حتى لا تكاد تغادرها قبل أن ترتفع كليلة نحو الأفق البعيد في أوربا وأمريكا! وقد استهلكت قضية فلسطين دماءً غزيرة وأموالاً طائلة للعرب، وفي مقدمتهم عرب المشرق. عدا إعلامه، وسياسته، وعسكره، وأمنه. وشغلته كثيراً عن بقية قضاياه. فكانت النتيجة أن اجتاحت إيران ومعها جموع الشيعة الأحواز والعراق وسوريا ولبنان واليمن ووصلت شواطئ البحر الأبيض، وفلسطين ما زالت على حالها.
هذا مع ملاحظة أن كيان إسرائيل يبحث عمن يحميه، ويبني حوله الجدران العازلة. ولو ترك وشأنه لما استطاع التقدم كيلاً واحداً خارج جدرانه لعجزه بشرياً واقتصادياً عن الانسياح في الأرض ليحتل بقية العواصم العربية. إن مقولة (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) ليست أكثر من أسطورة غير قابلة للتحقيق. جرى تضخيمها من قبل أطراف عديدة لصرف وجلب أنظار الجماهير، كل حسب مصلحته وشاكلته. وقد استفاد تجار الحروب والسياسة من الفلسطينيين وغيرهم منها أعظم استفادة. مستغلين ببشاعة منقطعة النظير طيبة الجماهير وحماسها وتدينها وهي تبذل أموالها ودماءها رغبة في الثواب.
- في كل اجتماع لجامعة الدول العربية يتصدر بيانها الختامي عبارة “فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية”، تحولت إلى ثقافة امتدت فشملت الأمة الإسلامية فكانت في العقل الجمعي لتلك الثقافة قضيتها المركزية أيضاً. ومع أن هذه العبارة فارغة المضمون، باطلة المعنى. فالأمة العربية أو الإسلامية مفهوم ذهني ليس له كيان سياسي واحد حتى تكون له قضية مركزية واحدة، إنما هي كيانات ولكل كيان قضيته المركزية، بحكم حدوده السياسية. لا يمكن في الواقع أن تقنع السني العراقي – مثلاً – بأن استرجاع فلسطين أولى بالنسبة إليه من استرجاع بغداد وديالى وبيجي وتكريت والمحمودي والفلوجة من يد الشيعة وإيران: لا من الناحية الشرعية؛ فرب العالمين لم يكلفني أن أترك بلدي تحتل أرضه وتستحل عرضه وتستبيح دينه وتنهب ماله عصابات الشيعة لأتوجه أولاً إلى فلسطين، ولا العقل يلزمني بذلك. فكيف يمكن أن تكون فلسطين قضية أولى للشيشاني المحتل من قبل روسيا منذ ثلاثمئة سنة والفلسطينيون يضعون يدهم بيد روسيا؟ أو الإندونيسي الغارق في الدنيا ومكاسب السفر والسياحة؟ هذا مع شكي بـ(نظافة) هذه العبارة، وتساؤلي عن سر سكوت أمريكا والغرب وإسرائيل عنها!
- وقع عرب المشرق في خطأ قاتل يوم اجتمعوا على إزاحة صدام حسين، مع أن صدام يتحمل وزره الكبير في هذا المصير، دون أن يحسبوا حساباً لخطورة البديل القادم، ألا وهو العدو الأخطر: إيران والشيعة. وهم اليوم يرتكبون خطأً مشابهاً؛ إذ يبذلون كل جهدهم في حرب تنظيم الدولة الإسلامية، مع أن تنظيم الدولة يتحمل وزره الكبير في استعدائهم عليه وعلى سنة العراق، دون أن يحسبوا حسابهم عن خطورة البديل القادم. وإذا كنا نعذر المخطئ أول مرة، فما عذره إذ يخطئ الخطأ نفسه، وقد لمس خطورته وجسامته لا على سنة العراق فحسب، بل المشرق العربي أولاً، ثم المغرب العربي وفلسطين.
- ما زال العرب، وعرب المشرق في أولهم، يولون ظهورهم لأخطر جهة في معادلة الأمن العربي، ألا وهي (البوابة الشرقية). ولو قارنت اهتمامهم بالعراق مقارنة بسوريا لأصابك العجب من حجم أهمية العراق، ومرتكزه السنة العرب، مقارنة بسوريا في المعادلة الأمنية، مع حجم الدعم المقدم للسوريين مقارنة بسنة العراق. فالدعم يتناسب عكسياً مع حجم الأهمية! وغاية ما يقوله البعض من غير أصحاب القرار: ننتهي من سوريا ثم نتوجه إلى العراق. مع أن العكس ينبغي أن يكون؛ فالعراق أهم في معادلة أمن المشرق العربي من سوريا أضعافاً.
- يبدو أن العرب يسيرون في مواجهة الأخطار المحدقة طبقاً لمعادلة صفرية أو تحت صفرية. ويمكن الاستشهاد بمشكلة شيعة اليمن من الجنوب ومتى توجهت السعودية لمواجهة خطرهم. أما شيعة العراق من الشمال وشيعة الأحساء من الشرق فنخشى أن تظل المملكة مشغولة بـ(الحرب على الإرهاب) حتى يبلغوا مبالغ يصعب السيطرة عليها. عندها قد تتحرك مفاصل الدولة، وقد يكون الأوان قد تأخر كثيراً. هذا إن لم يكن قد فات!
النتائج
- الأمن العربي المشرقي يختلف عن الأمن العربي المغربي. ولا بد للسياسة العربية في أي حقبة زمنية أن توجه سياستها الأمنية طبقاً لهذا الفرق.
- الحزام الأمني لدول المشرق العربي يمتد من جنوب الخليج العربي حتى شمال العراق مروراً بالأحواز.
- ديالى والمحمودية والمدائن والنخيب تشكل خواصر رخوة خطيرة جداً في معادلة الأمن العربي.
- فلسطين مقارنة بالأحواز والعراق لا تشكل عنصراً جوهرياً في معادلة أمن المشرق العربي. بل ديالى والمحمودية والمدائن والنخيب أكثر منها أهمية وخطورة على أمنه.
- تحتاج معادلة الأمن العربي – بشقيها: المشرقي والمغربي – إلى التكامل لمواجهة الخطرين: الشرقي أولاً، ثم الغربي. وتعطى لفلسطين خصوصية تناسبها. مع ملاحظة غاية في الأهمية، وهي أن تحرير فلسطين يستحيل إنجازه قبل حسم القضية المشرقية، المتمثلة بالخطر الشيعي والخطر الإيراني.
- على الفصائل الفلسطينية الداخلة في حلف أمني مع إيران أن تخرج من هذا الحلف، وإلا كان على العرب مقاطعتها كلياً. وأقول لمن يعترض على كلامي من هذه الفصائل والمتعاطفين معها والمخدوعين بها: إنكم تدّعون أن العرب لا يدعمونكم؛ فلا داعي لاعتراض على أمر لا يزيدكم ولا ينقصكم.
أخيراً أقول: يبدو أن بعض العرب يتبعون سيرة ذلك الشيخ الذي كان عنده شاعر ينشده قصيدة، فلاحظ الشاعر أن عباءة الشيخ سقط ذيلها في كانون النار القريب منه، فقطع الشاعر إنشاده مخاطباً الشيخ: “عباتك مست النار”! فأجابه الشيخ وهو ما زال تحت تأثير القصيد: “صح لسانك”! فكرر الشاعر: “عباتك مست النار”! فكرر الشيخ جوابه: “صح لسانك”! وهنا وصل اللهب إلى حجر الشيخ فصرخ الشاعر: “النار وصلت شليلك يشيخ”!
هنا فقط تنبه الشيخ. لكن بعد فوات الأوان!
[1]– يمكن مراجعة كتابي (جرائم الإبادة الجماعية المنظمة لأهل السنة في العراق من 2005 – 2008، قضاء المحمودية نموذجاً. وكتابي (غربان الخراب في وادي الرافدين) الباب السابع: جرائم التهجير. الفصل الأول: مدينة المدائن مثالاً.
استراتيجية الحل الجذري للمشكلة التاريخية مع الشيعة وإيران
( 6 )
استِرَاتِيجيَّةُ الحَلِّ الجَذريِّ
لِلمُشكلَةِ التاريخِيَّةِ مَعَ الشِّيعَةِ وَإيرَان
العراق مطبخ التشيع..
فلا غرابة في أن يكون ما ينتجه هذا المطبخ أنضج من ناتج غيره من المطابخ. ولا عجب في أن تكون قد سلفت من هنا رؤية استباقية لكثير من الأمور المفصلية كان الناس ينكرونها ثم أثبتت الأيام معروفها. عسى أن يكون ذلك شفيعاً لأن ينظر أهل السنة إلى الحل الذي نقدمه هنا بصورة أكثر اهتماماً وجدية.
ليس غنياً عن القول أن هذه الاستراتيجية هي رؤيا تأصيلية عامة، تصلح لكل بلد يعاني من الوجود الشيعي. أما تنزيلها العملي التفصيلي على البلد المحدد فتبع للواقع والفرص والظروف المحيطة به.
مشكلة الطائفية واتجاهات الحل
لا يبدأ الطبيب بتوصيف العلاج (الحل) قبل دراسة الحالة المرضية (المشكلة). دراسة المشكلة تتقدم التفكير بحلها. وهذا مما اتفق عليه العقلاء حتى إن ثقافتنا الشعبية تنتقد من (يحضر العطبة “الضماد” قبل الفشخة “الجرح”). ويعبر آينشتاين عن هذا تعبيراً واضحاً دقيقاً فيقول: ” لو كان لديّ ساعة لحل مشكلة، فسأرصد خمساً وخمسين دقيقة للتفكير في المشكلة وخمس دقائق فقط للتفكير فى حلها”.
هل درس أصحاب الفكر الوطني من القوميين والاسلاميين والليبراليين المشكلة من طرفيها: الشيعي والسني؟ أم بادروا فوضعوا الحل قبل ذلك؟ هل درسوا الحالة قبل توصيف العلاج؟ أم وصفوا العلاج بناء على أعراض سطحية كما يفعل المضمد حين يحتل دور الطبيب؟
الصراع الديني – أو الطائفي كما يسميه البعض – هو المشكلة التي على محورها تدور رحى الحرب بين السنة والشيعة. وإذا كان هذا حقاً، فهل الحل يكون بالاتجاه أولاً إلى علاج الطائفية، أي العمل على إزالتها من بين الطرفين المحتربين قبل إزالة أسبابها؟ يرى هذا الرأي اليوم جمهور المنتسبين إلى السنة. وهي رؤية سطحية لا تغوص في عمق المشكلة.
إن الفكر السني له رؤية تقوم على التسلسل العلمي في حل المشكلة: بدراستها أولاً. ثم بوضع الحل لها بعد ذلك.
مشكلة الشيعة
التشيع مفهوم له معنيان متشابكان حد الامتزاج والذوبان التام، هما:
- دين الشيعة: ويقوم على العقيدة الشيعية.
- الشخصية الشيعية: ويقوم على شبكة من العقد النفسية.
ولا يكمل مفهومنا وفهمنا للتشيع ما لم نستحضر هذين المعنيين. كما لا تتم معالجتنا للتشيع ما لم نتوجه بالعلاج إلى هذين المرضين كليهما، وفي وقت واحد.
إن الطائفية التي نحن بصددها:
- نابعة من العقيدة كجزء لا يتجزأ من الدين.
- ونابعة من العقدة، وجذورها تمتد عميقاً في نسيج الشخصية الشيعية بحيث تحولت إلى عقدة جمعية تحكم نظرة الشيعة إلى السنة وتوجه جميع تصرفاتهم نحوهم.
لهذا مهما أحسن السنة إلى الشيعة يظل الشيعة يتصرفون تجاه السنة طبقاً لدافع الطائفية؛ وذلك لسببين: الأول ديني عقائدي. والثاني: نفسي عقدوي.
أما الأول فإن من صميم عقيدة الشيعة، هذا الرابوع الخطير:
- تكفير السنة 2. سفك دمائهم 3. إباحة أموالهم 4. استباحة أعراضهم.
وكل ذلك واجب في دين الشيعة وجوباً تواطأ عليه علماؤهم إجماعاً، وشاع لدى عوامهم فلا يجهله أحد منهم إطلاقاً، إلا النادر الذي لا حكم له.
وأما الثاني فإن الشيعة في كل بلد مهما أحسن إليهم السنة يظلون يشعرون بأن السنة ظالمون لهم شعوراً جارفاً تنفجر له عيونهم عند ذكر أول حروف (المظلومية) التي طبعت عليها نفوسهم وأشربت في قلوبهم. الظلم عند الشيعة فكرة ذهنية مجردة لا حركة فعلية مجسمة، والمظلومية عندهم شعور غائر في أعماق النفس لا رد فعل على تصرف صادر ضدهم من قبل الغير.
على هذه العقيدة وهذه العقدة انبنت طائفية الشيعة. العقيدة والعقدة هي العلة، والطائفية هي العرض الحتمي لهذه العلة. وسؤالي للأطباء: هل يمكن علاج العرض قبل زوال علته؟ وسؤالي لعلماء الدين والنفس والاجتماع: هل يمكن علاج هذه الطائفية قبل إزالة علتها المركبة: العقيدة الدينية والعقدة الجمعية؟
هل يمكن تحقيق هذه الإزالة؟ والسؤال الأهم: كيف؟ ومتى؟
هل أنت معي في أن علاج الطائفية الشيعية مع وجود العلة المانعة شيء بعيد المنال؟ إذن لا يصلح أن يكون ذلك هدفاً أولوياً نسعى إلى تحقيقه قبل اقتلاع جذوره. فالقول بأن الخلاص من الطائفية بعلاجها بناء على أنها هي المشكلة، قول سطحي لا يقوم على جهد من البحث والتحليل والاستنتاج العلمي. وهو قول من لا يدري ما يقول، ولا يتصوره.
تزداد السطحية جلاءً حين تكتشف أن العلاج الذي يقدمه هؤلاء مواعظ ونصائح، ثم أقوال يرشوهم بها شيعة لا يتجاوز أثرها تراقيهم طبقاً إلى لعبتهم المعتادة (تعدد أدوار ووحدة هدف). بعدها يطالبون أبناء السنة بالكف عن الطائفية المضادة فيغضوا الطرف ويخيطوا الفم عن ماكنة السحق الشيعية التي امتدت من بلوشستان حتى أقصى الشام، ودار هلالها بخنجره ليمسح اليمن والبحرين حتى أطراف نجد وأعماق الحجاز!
مشكلة السنة
إذا كانت مشكلة الشيعة في طائفيتهم، فمشكلة السنة في وطنيتهم.
ومشكلة العراق وأمثاله من الأقطار المبتلاة بالشيعة في التخادم القائم بين الطائفية الشيعية والوطنية السنية، وعدم وضع حل على هذا الأساس!
لم تكن مشكلة الشيعة في ظل الدولة الوطنية (1921-2003) في طائفية السنة. وليست هذه هي مشكلتنا – نحن السنة – بل مشكلتنا في وطنيتنا. لو كنا طائفيين ما سقط العراق بيد الشيعة في سنة 2003.
وطنية السنة هي التي سمحت للشيعة بالتمدد لينتشروا في العاصمة بغداد وفي الميناء البصرة حتى وصلت نسبتهم في الأولى إلى 35%، وفي الثانية قريباً من 65% في سنة 2003، بعد أن كانت لا تتجاوز 5% في كلتا المدينتين سنة 1921! وهذا مجرد مثال.
ووطنية السنة هي التي سمحت للشيعة بأن يتمددوا في كل دوائر الدولة بلا استثناء، منطلقة من نسب صفرية أو تقرب من الصفر عند بدء الدولة الوطنية سنة 1921 إلى نسب متفوقة بعد ذلك. ففي الجيش كانت نسبتهم 0% سنة 1921. لكن بعد ثمانين سنة وصلت النسبة في الدوائر العسكرية والمدنية والأمنية والحزبية في العراق إلى أكثر من 60%!
أما سبب ضعف هذه النسبة عند بدء تأسيس الدولة فعدم وجود كفاءات شيعية يمكنها شغل الوظائف المنوطة بها؛ لقد كان الشيعة يحرّمون الدراسة في الجامعات العثمانية: عسكرية ومدنية، فليس لهم من تحصيل دراسي سوى العلوم الدينية في حوزاتهم المعروفة. وهذه بعيدة جداً عن قيادة الحياة. وقد عمل الملك فيصل الأول بشتى السبل لردم هذه الهوة تجنباً لتذمر الشيعة واتهامهم الدولة بالانحياز الطائفي. وكان متعجلاً جداً.
يقول توفيق السويدي([1]) في كتابه (وجوه عراقية): (ومن أسباب ضعف فيصل اعتقاده بصحة بعض الأقوال: أن الجعفريين مغموطو الحقوق. واذا فرض أنه موجود – الاعتقاد – فإنه لم يوفق لمعالجته بالطريق المعقول. إذ كان يريد الطفرة ليوصل العناصر الجعفرية إلى الحكم بدون اشتراط كفاءة. وقد كان عمله هذا مناقضا لمبادئه التي بشر بها في احترام القانون والعدل المتكافئ بين الرعية. وقد أقدم علـى تنفيذ نظريته فلم تزد من شأنه بل زادت في النقمة عليه)([2]).
واتبع الملك فيصل لذلك طرقاً غاية في التخلف منها أن رجلاً شيعياً اسمه (ملا شكر) يعمل (روزخزوناً) في حسينية ببغداد – أظنها كانت الوحيدة ببغداد آنذاك – منح صلاحية تزويد أي شاب شيعي بورقة تشهد له بأنه تخرج على يده لكي تعتمد كوثيقة تؤهله لدخول كلية الحقوق، ثم بعد التخرج يرسل في بعثة للتخصص([3]). بمثل هذه الأساليب المتخلفة تسلق الشيعة دوائر الدولة كما يتسلق النمل جثة عنكبوت جريح حتى قضوا عليها. ألم أقل لكم إن الظلم والمظلومية عند الشيعة فكرة ذهنية وشعور نفسي لا رصيد له من الواقع يستند إليه!
وتأمل كيف أن طائفية الشيعة في ظل الوطنية السنية الساذَجة بعد سنة 2003 هي التي أقصت أبناء السنة وسحقتهم حتى تحولت هذه دوائر الدولة إلى يد الشيعة بنسب تقرب من الكلية. وحولت بغداد والمدن المختلطة إلى مدن شبه شيعية. ولو كان الشيعة وطنيين كالسنة ما حصل هذا في بضع سنين. ولو كان السنة طائفيين كالشيعة لتمكنوا من فعل مثل هذا بالشيعة على أتم وجه بين سنتي 1921 و2003؛ فثمانية عقود ونيف تكفي وزيادة لذلك.
الحل
تجربة موسى u مع اليهود
التجربة التي قاساها موسى u مع قومه لم ينفع معها التعليم والوعظ؛ لأن مجال هذا العلاج هو العقل. بينما اليهودي يعاني من خلل شامل يجتاح أصل النسيج النفسي للشخصية الجمعية. ومجال النفس غير مجال العقل، وإن تداخلا فيما بينهما.
أرى أن مصطلح (شخصية العبد) هو العنوان المعبر بدقة عن تلك الشخصية اليهودية. وقد بلغ انحراف هذه الشخصية درجة من التعقيد بحيث لم يعد ينفع معها كل العلاجات المعتادة مع البشر! فكان العلاج الناجع شيئاً آخر غير مألوف في تاريخ الأنبياء عليهم السلام والمصلحين. ألا وهو التيه في الأرض أربعين سنة. وفيها تحققت أربعة أمور هي العناصر الجوهرية المكونة للعلاج الناجع:
- عزل اليهود عن الآخرين؛ لتطويق وباء الشخصية اليهودية (شخصية العبد)، ومنع انتقال الأوبئة الأخرى إليهم.
- إتاحة الفرصة للزمن أن يأخذ مجراه في قرض وانقراض جيل العبيد.
- إتاحة الفرصة لعوامل البيئة لتأخذ دورها في تغيير (شخصية العبد) إلى شخصية أُخرى هي (شخصية الحر).
- إتاحة الفرصة أمام الأنبياء عليهم السلام لتعليم الشعب وتربيته على مفاهيم الحرية بكل معانيها: الدينية والاجتماعية.
هكذا تم تحرير اليهودي: عقيدة وعقدة. وليس عقيدة فقط.
استند العلاج إذن على مبدأين: التطويق والاختراق.
الاستفادة من تجربة بني إسرائيل في علاج الشيعة
إن تطويق الشيعة وعزلهم في إقليم، ثم المباشرة بتطبيق العلاج الرباني عليهم بشقيه: الديني والاجتماعي (النفس جمعي)؛ لتحريرهم من العقيدة والعقدة أولاً.. هو عنصر أساسي من عناصر العلاج والحل الجذري لمشكلة الطائفية الشيعية.
إن تحرير الشيعة يعني أمرين:
- تحرير الشيعة من عقدة التشيع.
- تحرير الشيعة من عقيدة التشيع.
عملياً يتحقق الحل عبر مرحلتين:
- المرحلة الأولى: التطويق: مرحلة التعامل مع المشكلة تمهيداً لعلاجها واجتثاثها.
- المرحلة الثانية: الاختراق: وهي مرحلة الدخول في آلية العلاج الفعلي.
وهو مبدأ أو قانون من قوانين الاجتماع يقوم على قاعدة التخلية قبل التحلية. وهو مبدأ كوني من مظاهره شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)، يحكم المسلم حتى في أذكار. فمن أذكاره (سبحان الله، الحمد لله). بل يحكم قوانين الطب إذ يجمع بين الصحة (التخلية) والعافية (التحلية). فتمام العافية أن يزال المرض أولاً.
-
مرحلة التطويق
الطائفية الشيعية أشد فتكاً بالسنة من الأمراض المعدية الخطيرة. والأطباء مجمعون على شيء اسمه (الحجر الصحي) حيال هذا النوع من الأمراض، وهو عزل المريض بها عن الأصحاء فلا يختلطون بهم إلا وفق إجراءات وقائية صارمة. وإذا كان المتثاقف الغربي أو الشرقي يتهمنا بالطائفية والتخلف فليحتفظ بأخلاقه لنفسه، وليسأل هذه النفس أولاً: لماذا لم يجدوا حلاً لليهود إلا بعزلهم في حارات وأحياء عرفت بـ(الجيتو)، محاطة بأسوار وأسيجة عالية لتعزيز العزل؟ وقد كان ذلك بأمر من البابا بولس الرابع في منتصف القرن السادس عشر (تحديداً سنة 1555م). ثم لم يتحملوهم حتى أجلوهم إلى فلسطين بدايات القرن العشرين!
والشيعة أخطر وأكثر من اليهود أضعافاً مضاعفة.
يكون الحل في الوقت الراهن بالتعامل مع الطائفية الشيعية، وذلك بتطويقها ودفع ضررها. وهذا لا يتم إلا بالعزل بأي صورة من الصور.
يتم تطويق الطائفية الشيعية وعزلها عبر خطوتين:
- عزل الشيعة عن الحكم
- عزل الشيعة عن السنة: بإقليم في حال التمكين. أو بالذهاب إلى التقسيم في حال انسداد السبل أمام إنشاء الإقليم. استعداداً للتمكين والتقدم نحو نظام الأقاليم.
-
مرحلة الاختراق
وتتم مرحلة اختراق المشكلة الشيعية عبر خطوتين أيضاً:
- تحرير الشيعة من التشيع: عقيدة وعقدة
- تفكيك إيران
ملخص الحل
- عزل الشيعة عن الحكم: لا يمكن البدء بأي حل مع الشيعة إلا في بلد يحكمه السنة. فإن كان البلد محكوماً بالشيعة فتكون البداية من العمل على إخراج السلطة من يد الشيعة وإرجاعها إلى صاحبها الشرعي. وإلى أن يتم استرجاع الحق فلا علاج للطائفية الشيعية إلا بالطائفية المضادة، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194).
- الفيدرالية، أو عزل الشيعة عن السنة: العزل الشيعي المنشود يمكن أن يتم اليوم بطريقة حضارية، وهي تحديد إقامتهم في فدراليات أو أقاليم خاصة بهم. والأقلمة نظام سياسي معمول به فيما يقرب من نصف العالم، مثل أمريكا وكندا وبريطانيا وأستراليا وبلجيكا والهند والإمارات. ولكل بلد فدراليته الخاصة به. فتكون لنا فدراليات تناسب وضعنا.
وإلى المعارضين ممن يطمح إلى تكوين دولة وطنية أو قومية أو إسلامية نقول: الفدرالية لا تعني تقسيم الوطن إنما تقاسم الحقوق. وهذه الدول وأمثالها شاهد على قصور نظرة الرافضين للفدرالية، وعدم معرفتهم بماهيتها، وإعراضهم عن رؤية حقيقتها الواقعية. من أراد أن يقيم دولة على أي مقاس: وطني أو قومي أو إسلامي، فالفدرالية لا تتعارض معها، بل تدعمها وتحفظها.
- تحرير الشيعة: الدول المبتلاة بالشيعة قسمان: قسم واقع تحت نير الحكم الشيعي كالعراق وسوريا ولبنان، وهذه عليها بالعمل أولاً على أن تخرج حكم البلد من يد الشيعة إلى يدها. وهذا الهدف قد يسبق إقامة الفدرالية أو يتأخر عنها حسب الفرصة المتاحة. فإن تم استرجاع الحكم، أو كان البلد من الأصل يحكمه السنة، فعلى أهله إنشاء إقليم فدرالي للشيعة بما يتناسب والهدف الاستراتيجي، وهو حل المشكلة الشيعية.
بعد ذلك يكون البدء بمشروع تحرير الشيعة. وفي رأيي أن هذا الهدف ممكن بنسبة جيدة إذا قامت على تنفيذه دولة سنية جادة، كما فعل صلاح الدين الأيوبي بمصر. ولدينا أفكار استراتيجية تفصيلية تخدم تحقيقه. هنا يصبح القول بـ(علاج الطائفية) ممكناً بدرجة تستحق الاهتمام والتجربة. ومن تبقى من الشيعة مصراً على شيعيته مع ادعائه الإسلام فيُلزم بمستحقات هذا الادعاء طبقاً لدعواه. وكيفية الإلزام فتترك إلى حينها.
- تفكيك إيران إلى عدة دول. ووضع العوائق الحقيقية الأبدية في طريق التئامها مرة أُخرى.
بهذا نصل إلى الحل الجذري الذي يضمن لنا عدم ظهورها مرة أخرى.
أما أن يكون (علاج الطائفية) بالمواعظ والنصائح وتبويس اللحى فهذه سذاجة، لن تزيد الحالة إلا سوءاً، والوضع إلا تدهوراً.
وإلى أن يتم تفعيل ما يكفي من خطوات الحل، فلا علاج للطائفية إلا بالطائفية المضادة: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194). ولا عزاء للوطنيين الحالمين، ولا للمتطرفين الساذَجين.
[1]– توفيق السويدي ولد سنة 1891. سياسي عراقي تولى منصب رئاسة الوزراء في العهد الملكي في العراق في أربع حكومات في السنوات 1929، 1930، 1946، 1950. توفي سنة 1968.
[2]– الشيعة والدولة القومية في العراق 1914-1990، ص360/الهامش، حسن العلوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، إيران – قم.
[3]– الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع، ص93، معروف الرصافي، منشورات الجمل، الطبعة الأولى، بغداد 2007.
الخطوة الأولى : عزل الشيعة عن الحكم
المَرحَلةُ الأُولى : التّطويقُ
الخطوة الأولى : عزل الشيعة عن الحكم
هل الشيعي يصلح لحكم بلد متعدد الطوائف؟
قلنا آنفاً: لا يمكن البدء بأي حل مع الشيعة إلا في بلد يحكمه السنة. فإن كان البلد محكوماً بالشيعة فتكون البداية من العمل على إخراج السلطة من يد الشيعة، وإرجاعها إلى صاحب الحق الشرعي. وإلى أن يتم استرجاع الحق فلا علاج للطائفية الشيعية إلا بالطائفية المضادة، والله تعالى يقول: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة:194). يستند هذا التقرير الغريب على الثقافة العربية السائدة إلى سببين جوهريين: أحدهما سياسي اجتماعي يتعلق بقواعد السلم الأهلي. والآخر شرعي يتعلق بأصول الشريعة.
-
الشخصية الشيعية وإدارة الحكم
الشيعي – بطبعه – مخلوق إقصائي إلى آخر حد.
وهذا الطبع الخطير مشرعن بالفتوى الدينية. وإذا اجتمع الطبع إلى الدين تمت البلوى واستعصى العلاج. لم يكن هذا التقرير لدينا وليد الاحتلال وما اقترفته الشيعة من جرائم بحق مواطنيهم لم يقترفها لا المغول من قبل ولا الأمريكان من بعد، وأمام شاشات الفضاء، والكاميرات والعيون والشجر والحجر. بل كان رؤية واضحة من قبل عشرين سنة من ذلك، استندت إلى عقيدة القوم وتاريخهم وسلوكهم الذي يحسر عن نفسه كلما سنحت لهم فرصة: خاصة أو عامة (الحركة الغوغائية سنة 1991 مثلاً). ولك أن تسأل: لماذا يتصرف الشيعي هكذا؟
عقدة الشعور بالأقلوية
الشيعة قوم لا يحسنون حكم شعوبهم، ولا التعامل السليم مع جيرانهم. وهذا يعود إلى سبب جوهري متأصل في الشخصية الشيعية هو عقدة (الأقلوية) النابعة من عقدة (الشعور بالنقص)، التي هي أهم الخصائص المكونة للشخصية الجمعية الفارسية وسليلتها الشيعية.
وليست هذه العقدة وليدة ظرف مؤقت أو حدث طارئ، وإنما تكونت وتغلغلت في النسيج النفسي الجمعي للشخصية الفارسية وترسخت فيه عبر آلاف السنين حتى صارت جزءاً لا يتجزأ منه. أما كيف فإن دراسة الوضع (الجيوسياسي) المحيط بالفرس يجيب عنه. إنه العامل الرئيس وراء تكوين هذه العقدة الراسخة المميزة للشعب الفارسي وكل من خالطهم وتأثر بهم. وانتقلت بالحث والعدوى إلى الشيعة (وكثير منهم أدعياء فرس) حتى صارت جزءاً لا يتجزأ من النسيج النفسي للشخصية الشيعية.
هذه العقدة تجعل من صاحبها ذا شخصية خائفة متوجسة من الآخر، تتوهم على الدوام أن الآخر يتربص بها الشر ويريد إيقاع الأذى بها وإقصاءها وإبادتها (ﭙـارانويا)؛ فتبادر إلى مهاجمته قبل أن يهاجمها كما يخيل لها وهمها، الذي هو حلقة في سلسلة من التوهمات والعمليات النفسية الشاذة، التي تؤدي بالشيعي إلى أن يكون عدوانياً غادراً مخرباً، وفي الوقت نفسه حزيناً كئيباً متألماً يشعر بالمظلومية والحنين إلى البكاء واللطم، مع رغبة جارفة بالانتقام من الآخر والثأر منه بطريقة سادية بشعة، والسعي بكل ما يستطيع لإزاحته ونفيه من الوجود المشترك أو الحياة نفسها.
فإذا تسلمت هذه الطائفة مقاليد الحكم في أي بلد متعدد المكونات عملت كل ما بوسعها لتفجير وإخراج ما في حاوية تلك النفسية المريضة المعقدة من دمامل وقيح وصديد، وعلى أسوأ ما يطوف في الخيال من صور للشر والفساد والتخريب. وهو ما حصل لعرب الأحواز، ولسنة إيران ولبنان والعراق وسوريا والبحرين واليمن، وظهرت بوادره في شرقية السعودية والكويت.
هناك أمر مهم هو أن (الأقلوية) عقدة؛ فلا تتعلق – وهذه هي طبيعة العقدة – بكون الشيعة أغلبية أم أقلية في البلد. العقدة مرض نفسي غائر في أعماق النفس، يوجه لاشعورياً سلوك صاحبه وإن لم يكن له مبرر في الواقع، كالرجل الذي لديه (رهاب/فوبيا) من الصراصر أو الأماكن العالية، فإنه يظل في حالة خوف منها ويهرب من مواجهتها مهما كانت الأدلة على عدم وجود ضرر منها. وما دعاوى الشيعة اللحوحة في أنهم غالبية نفوس العراق – مثلاً – سوى تعبير معكوس عن هذا الشعور. كالخائف في الظلام من الأشباح يرفع صوته عالياً ليعيد لنفسه بعض الاطمئنان المفقود. وهو نوع من (الاستعراض) يعبر عن خواء لا عن امتلاء، تماماً كالطبل كلما كان أكثر فراغاً كان أشد ضجيجاً.
إن هذا يفسر لنا ويكشف عن السر الكامن وراء كون إيران دولة عدوانية بطبيعتها، تثير الحروب من حولها، وتنشر الخراب وتعتدي على جيرانها، ملتمسة شتى المبررات لفعل ذلك. وتعكس هذا العدوان على الطوائف الأخرى المكونة للدولة مع أن الشيعة يشكلون أغلبية السكان فيها.إن الحاكم الإيراني يعاني من (عقدة الأقلوية).
قارن ذلك – مثلاً – بحاكم أصغر دولة عربية (البحرين) لترى الفارق في علاقة هذا الحاكم بالطوائف الأخرى المكونة للدولة.
قانون اجتماسياسي ( Sociopolitical )
من هنا يبرز لنا قانون يتعلق بالاجتماع والسياسة، لم أجد له حضوراً حتى الآن في قاموس السياسة أو الاجتماع. هو أن الطوائف المصابة بـ(عقدة الأقلوية) لا تصلح للحكم، ولا يصح تمكينها من السلطة لا على أساس الديمقراطية ولا غيرها، حتى لو كانت تمثل غالبية المجتمع؛ لأنها ستوقع الظلم بالأقليات التي تحت سيطرتها بصورة شاذة تهدف إلى محوها وتذويبها ونفيها من الوجود. وإيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن وما يجري فيها اليوم من ظلم وخراب وانتقام وتعطيل لمناشط الحياة شاهد على ما أقول. ودليل على أن أسوأ حل في هذه البلدان هو الحل الديمقراطي. إن الديمقراطية وإن اقتربت من الصواب فيما يتعلق بحكم الأغلبية، لكنها بقيت قاصرة من حيث أن هذا ممكن حين تكون الأغلبية سليمة من (عقدة الأقلوية)، وإلا كانت أسوأ الحلول، كما أسلفت. لقد كانت الديمقراطية بتقريرها لحكم الأغلبية سطحية في نظرتها، كمية في معيارها. وما قررناه هنا يتجاوز السطح إلى العمق في نظرته، والكمية إلى النوعية في معياره.
-
الحكم الشرعي لخضوع السنة لحكم الشيعة
أما الحكم الشرعي لخضوع السنة لحكم الشيعة فيتبين جلياً بما يلي:
أ. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59). فإن لم يكن (ولي الأمر) منا لا تجوز طاعته والخضوع لأمره وحكمه. والشيعة ليسوا منا ولا نحن منهم. ولا هم يَعدون أنفسهم منا ولا يعدوننا منهم.
بل هم أشد منا في هذه المسألة؛ إذ يحرمون أن يحكمهم سني ولو كان هو أبا بكر الصديق t نفسه. ويبذلون كل الجهود لخلعه، أو إثارة الفتن والقلاقل في وجهه. ليس هذا فحسب، بل إن الشيعة في أي بلد يعملون بكل وسيلة لتخريب البلد الذي يسكنونه بما فيه من بشر وحجر تحت ظل هذا الحاكم الذي ليس من شيعتهم. ولا خلاف بينهم في ذلك قط؛ إذ شرعن علماؤهم لهم كل ذلك بالروايات المختلقة والفتاوى الجاهزة التي تواطأوا عليها دون نكير أو مخالف. وكتبهم حافلة بما ذكرت من هذا الأمر الخطير، الذي لو تبنته في بلد عصابة مكونة من عشرة أفراد لأشغلوا دوائر الأمن وأشاعوا الرعب بين جمهور الناس. فكيف إذا كان هذا عقيدة وعبادة يتقرب بها إلى الله ملايين الشيعة في كل قطر يستوطنونه؟!
ب. الأمر الآخر هو أن الشيعي إذا حكم السنة سعى إلى تبديل دينهم، وابتغى كل الوسائل إلى الوصول لهذه الغاية مهما كانت وحشية وإجرامية وخارجة على القانون. وما حياة المسلم إذا سُلِب دينه! والله تعالى يقول: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:191).
وعلى أصحاب التنظير (الوطني) أن يعلموا جيداً أن هذه القضية من طرفيها: السني والشيعي مبنية كلياً على الدين؛ فلا يمكن علاجها بالترضية وتقريب أحد الدينين إلى الآخر للالتقاء في وسط الطريق. إن الدين بذاته وطبيعته يأبى ذلك. لا حل – والحالة هذه – إلا بتبديل أحد الدينين. وبهذا يتبين سذاجة ذوي الحلول السياسية والترضوية؛ فالمشكلة ليست سياسية حتى تستجيب للحلول السياسية. ولا عشائرية حتى تحل بالترضية والتعويض بالمال ونحوه. ومن حاول ذلك كان كمن يبغي علاج مشكلة صحية بنظرية هندسية، أو يريد حل مسألة هندسية بوصفة طبية!
هل أدركنا الآن مدى سذاجة الفكر الوطني في بلد خليط من الشيعة وغيرهم، وتخلفه وجنايته على الطرفين؟
الخطوة الثانية : عزل الشيعة عن السنة
الخطوة الثانية : عزل الشيعة عن السنة
ذكرنا سابقاً أن الطائفية لا علاج لها إلا بتغيير إحدى الطائفتين وتذويبها في الطائفة الأخرى؛ لأن الطائفية حالة قائمة على الدين. وبينا أن الحل السياسي القائم على الدمج والتعايش فاشل مع الشيعة بسبب رابوع (العقدة والعقيدة والمرجعية والولاء لإيران). ووصلنا إلى أن الحل يكمن في الاعتراف بوجود المشكلة الطائفية كحقيقة ما دامت موجودة كواقع، ومن ثَم يكون التعامل مع المشكلة بتطويقها ودفع ضررها، لا العلاج لها بمعنى محوها وإزالتها ما دامت الطائفة موجودة، هو الحل المتاح واقعياً حتى يتم تغيير الطائفة وقطع مادتها. المشكلة في الطائفة، أما الطائفية فناتج عنها. وما عداه فتسكين مؤقت، أو حقنة مخدرة للسنة ريثما يتم تقطيعهم وتذويبهم لصالح الجسد الشيعي.
التعامل وليس العلاج، هذا هو توجه الحل في خطوته الأولى: (التطويق)، إزاء الطائفية الشيعية. والآن نأتي إلى الخطوة التالية:
عزل الشيعة عن السنة
وسألنا سابقاً: (هل الشيعي يصلح لحكم بلد متعدد الطوائف؟)، وبينا الأسباب الموضوعية لعدم صلاحية الشخصية الشيعية للحكم. إن هذه الشخصية تعاني من جملة علل أهمها (عقدة الشعور بالأقلوية)، وهي عقدة ترافق الشيعة حتى في البلدان التي لهم الأغلبية العددية فيها؛ لأنها جزء لا يتجزأ من الشخصية؛ فهي عقدة. والعقدة تفاعل لاشعوري يحكم تصرف صاحبه، علم أم لم يعلم. والغالب عليه عدم العلم. ولعل هذا يلقي الضوء على فهم قوله تعالى عن صنف مريض من البشر، مفسد لكنه يتوهم أنه مصلح: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) (البقرة:12). هكذا هم الشيعة، وكذلك الفرس، مرضى مفسدون في الأرض ولا يشعرون. فكيف ينتهون عن الفساد وهم يرونه صلاحاً وإصلاحاً؟! مع استثاء قلة قليلة منهم لا أثر لها في عملية الإفساد التي يتبناها الجمهور.
لا يكفي عزل الشيعة عن الحكم، إلا بعزلهم عن المجتمع؛ فليس للطوائف المصابة بعقدة الشعور بـ(الأقلوية) من علاج، والتاريخ شاهد على هذه الحقيقة؛ فالعدوانية صفة وسلوك مرافق للفرس منذ آلاف السنين، وللشيعة منذ أن وجدوا بعد ذلك؛ لهذا أقول: على كل دولة فيها نسبة معتبرة من الشيعة أن تبادر قبل كل شيء فتعزلهم عن بقية مكونات المجتمع بإقليم، في طريقها إلى استكمال بقية الخطوات.
“الفيدرالية أو الأقلمة أفضل معادلة سياسية ممكنة لحل الخلاف الثقافي والاقتصادي. بما في ذلك الخلافات الدينية والعرقية، والتباين الاجتماعي. فحين تكون الدولة ذات مكونات تختلف في لغتها وهويتها الثقافية، فإن ذلك يؤدي تلقائياً إلى حدوث توترات مختلفة يمكن أن تقود إلى التجزئة والتقسيم بين هذه المكونات ما لم تحكم بالقوة. والشعوب التي تقاد بالقوة يشيع فيها الظلم ويكثر الاضطراب، ومصيرها التفتت والانقسام”.
“والإسلام يعطي حرية واسعة في أمور السياسة، ولا يحصر الأمر في نظام واحد أو شكل واحد. فالأخذ بنظام (الأقلمة) يجنبنا تلك تداعيات للحلول المتعجلة غير المدروسة. وهو أقرب إلى النظام السياسي التي اتبعته الإمبراطورية الإسلامية في عامة عهودها”.
“وعندما يفهم المعارضون أن نظام الأقاليم لا علاقة له بالتقسيم سيدركون أن ذلك لا يتناقض مع المشروع القومي ولا المشروع الإسلامي، بل يخدمها أعظم خدمة. وسيحيص العرب ويحيصون ولا يجدون حلاً لأزماتهم إلا بالأقاليم، ودون ذلك مزيد من الأزمات التي ستنتهي بالتجزئة والتشرذم والتقسيم”.
الأقلمة نظام حضاري وخيار استراتيجي
إن أقلمة الدولة تجعل كل مكون مشاركاً للمكون الآخر في الخير، ومسؤولاً عما يحصل لذاته من شر. فتتفاهم مكوناتها المختلفة وتتعايش وتتقارب فيما بينها. فتستقر الدولة وتنمو وتتطور. وهذا أرقى وضع سياسي يمكن أن تصل إليه دولة. هذا مع وحدة الكيان السياسي وقوته. وهكذا لن يقف نظام الأقاليم عائقاً أمام تكوين أي نظام سياسي: وطنياً كان أم قومياً أم إسلامياً. وبالنسبة للمشكلة الشيعية فإن هذا يوفر أفضل الأجواء لعلاجها، خصوصاً في ظل نظام إسلامي رشيد. فمن ناحية تمكننا الأقلمة من عزل الشيعة في منطقة خاصة بهم، لا يختلطون بالسنة، ولا يمارسون بث سمومهم بين صفوفهم، ولا يمنحون فرصة للتآمر عليهم بالاختلاط بهم. وفي الوقت نفسه يمنحنا الفرصة والوقت الكفيل بوضع استراتيجية تغييرية بسقوف زمنية مناسبة. ثم لكل حادث حديث.
وبهذا يتبين أن نظام الأقاليم نظام حضاري، وخيار استراتيجي، وحل متطور يناسب الجميع. وليس هو مطلب آني للخروج من أزمة، ينتهي مفعولها بانتهائها”.
قلت هذا الكلام الموضوع بين علامتين (“”)، وعقبت عليه عام 2014 قائلاً: “هذا مع علمنا أن الزمن ربما يكون قد فات، وتجاوز الإقليم إلى التقسيم”.
وفي مثل حالنا نحن سنة العراق، إن عجزنا عن استرجاع الحكم من يد الشيعة، أو إقامة إقليم مؤقت ريثما نتعافى فيه، فلا أقل من الانفصال عنهم بدولة، ثم لكل حادث حديث ضمن مسار الحل الرباعي المذكور آنفاً؛ فالمرضى بوباء مُعدٍ خطير لا علاج لهم دون العزل، ثم من بعد تنفذ جميع خطوات العلاج.
الخطوة الثالثة : تحرير الشيعة
المَرحلَةُ الثّانِيَةُ : الاختِرَاق
الخطوة الثالثة : تحرير الشيعة من التشيع
قلنا سابقاً: إن تحرير الشيعة يعني أمرين:
- تحرير الشيعة من عقدة التشيع.
- تحرير الشيعة من عقيدة التشيع.
من هذا المنطلق فإننا – في المشروع السني وفكره – لا نعني بـ(تسنين الشيعة) معناه الأحادي وهو تحريرهم من عقيدة التشيع، إنما بمعناه الشمولي المزدوج الذي يعني تحرير الشيعة: عقدة وعقيدة.
معالم مهمة في طريق تحرير الشيعة من التشيع : عقدة وعقيدة
بداية لا بد من التنويه بأن العمل لـ(تحرير الشيعة) لم يأت وقته بعد. وإنما أذكره هنا لأن البحث في الموضوع الأكبر يستدعيه وهو (الخطة الاستراتيجية للتعامل مع المشكلة الطائفية الشيعية). وسأجعله على شكل معالم رئيسة في خطة استراتيجية توضع لاحقاً عند استحقاقها المرحلي إن شاء الله تعالى.
-
أدب الدعوة أم خطاب المواجهة ؟
تزهد الشخصية الشيعية في كل خطاب ليّن، وتنفر من دواعي التقريب وتحتقر أصحابه، ولا تستجيب لغير الخطاب الاستعلائي القوي.
هذه حقيقة نفسية جمعية.
إن هذا يتطلب أن يكون خطاب المواجهة، لا أدب الدعوة، هو اللغة والأسلوب المتعين مع الشيعة، اليوم وغداً، وكل زمان ومكان.
فإذا أضفت إلى ذلك أن حرباً ضروساً تدور اليوم بين الشيعة والسنة، أراد لها الشيعة أن تكون حرباً استئصالية عامة لجميع السنة، شاملة لكل مناحي حياتهم بلا رحمة ولا هوادة. تأكد ذلك الخطاب خطاً ثابتاً في سياسة التعامل مع الشيعة. ومن المعروف أن للدعوة لغتها وأساليبها التي تميل بالنفس إلى التهدئة واللين. بينما نحن إزاء خصم نحن بأمس الحاجة الدائمة إلى اليقظة والشد والتعبئة النفسية ضده.
-
التحرير الفردي أم الجمعي ؟
أفلحت الدعوة على مدى العقود التي سبقت الاحتلال في هداية عشرات الألوف، وربما مئاتها، من الشيعة. لكن الشيء الذي لا ينتبه إليه كثيراً، هو أن هذا العمل بقي في دائرة التأثير الفردي، دون أن يتمكن من كسر المنظومة الجمعية للشيعة: فلم تهزم مؤسسة دينية لهم، ولم تتسنن مدينة أو قرية شيعية، فضلاً عن دولة. العكس هو الذي حصل. ودونكم العراق والأحواز والسعودية ولبنان وسوريا واليمن ونايجيريا أمثلةً واضحة الدلالة. في العراق خلال ثمانية عقود (1921 – 2003) تشيعت مدينة البصرة، وهي ميناء العراق الوحيد. وارتفعت نسبة الشيعة في العاصمة بغداد، من (5% – 35%). كما ارتفعت نسبة الشيعة في مدينة تلّعْفرَ (الواقعة بين الموصل وسوريا) من (0% – 40%). وطالت نسب أخرى الحلة وديالى وغيرها من مدن العراق. ومن حيث الحقيقة فإن النسبة الأقل للشيعة كانت أقوى تأثيراً وأثراً من النسبة الأكثر للسنة.
الشيعة يتقدمون جمعياً وإن تقهقروا فردياً، بخلاف السنة فإنهم يتقهقرون جمعياً وإن تقدموا فردياً. بل إن هذا التقدم ربما زاد وضعهم سوءاً من حيث أنه يعطي مؤشراً وهمياً إلى أنهم يتفوقون على الشيعة، دون أن يعوا أن هذا التقدم – في الحقيقة – لا يغني عنهم من التشيع الزاحف شيئاً ذا بال. ولا يدركوا أن الإسلام ليس دعوة سائبة، وإنما هو دعوة ضاربة تؤسس لكيان ودولة تلتقي فيها الدعوة والسياسة ولا ينفصلان عن بعضهما بحال. إن الدعوة إلى التسنين الفردي عمل يعاني من غيبوبة الوعي، فهو في حاجة إلى منبه شديد كي يصل إلى أهدافه المنتجة، وإلا فهو خير مشتت وحق مضيَّع.
-
صعوبة عملية تحرير الشيعة
ليس تحرير الشيعة من العقيدة والعقدة هدفاً سهلاً. وربما لا يتحقق بنسبة كافية، وهذا وارد جداً. وسبق لي أن تكلمت عن ذلك في أواخر كتابي (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية)، وذكرت الاحتمالات التي تحتف بهذا الهدف. وربطت بين الحالة الشيعية والحالة اليهودية من حيثيتين: الأولى: موانع الإيمان الخمسة التي حالت دون إسلام اليهود، والتي ذكرتْها الآيات (75-80) من (سورة البقرة) ومجملها: (تحريف الوحي، التقية، عدم تدبر الكتاب، اتخاذ الدين حرفة، الأمان من عذاب الآخرة). وهي موجودة جميعاً عند الشيعة. والثانية: إعادة انتشار اليهود وإخراجهم من جزيرة العرب. وهذا يفتح أمامنا آفاقاً واسعة وأشكالاً متعددة من الحلول لا تقتصر على التسنين العقائدي والمجهود الدعوي فقط. وبينت هناك أن الشيعة أكثر إدراكاً لتلك الآفاق، واستخداماً للأساليب والقوانين الجماعية في التغيير من أهل السنة. وأن هذا هو سر النجاح المطرد للشيعة على حساب تقهقر أهل السنة.
على أنني لا أستبعد النجاح في الوصول إلى هذا الهدف بنسبة تستحق الاهتمام، إذا وضعنا حينها خطة ريادية فاعلة، تعتمد أوامر الشرع التي ميعها الترضويون، وضوابطه التي غفل عنها الجاهلون، وضيّق نطاقها المتنطعون. وتستند إلى الحلول التي أشار إليها القرآن الكريم، وتستفيد من تجربة النبي العظيم e، وتستلهم تجارب التاريخ في إخفاقاتها ونجاحاتها. وتقوم على معطيات العلوم الحديثة في النفس والاجتماع والسياسة والجغرافيا، وكل العلوم المطلوبة. وتحترم الزمن والظروف والموازنات الخارجية والداخلية. أما تفاصيل الخطة فترجأ إلى ذلك الحين، وهو قادم إن شاء الله.
وعلى هذا ينبغي أن يكون العمل في بقية بلاد العرب المبتلاة بسرطان الشيعة. وذلك قبيل أو مع العمل على تفتيت إيران وتقسيمها إلى دول، ووضع الحواجز الفاعلة دون عودتها إلى حكم الفرس في دولة إيرانية مرة أخرى. وبذلك نكون قد أنهينا خطر الشيعة والتشيع بإذن الله تعالى.. وإلى الأبد.
-
خطة مستقبلية شاملة
تقف عُقد التشيع حائلاً في سبيل تحرير الشيعة من عقيدة التشيع. ومن يتغير منهم: فردياً أو جمعياً تكون عقده سبباً في إفساد المجتمع وخلخلته، وربما تدميره وقلبه. وأرى أن شبيهاً بهذا حصل إبان الفتح الإسلامي. إذ تغلغلت العنصرية في ثوب الدين والمساواة وطلب العلم، وغيرها من المبادئ والمناشط، حتى تحولت إلى شعوبية اتخذت شكل الظاهرة الاجتماعية التي اجتاحت المجتمع.
لهذا تتطلب خطة التحرير أن تكون ذات محور مزدوج بخطين: خط يراعي العقدة، وخط يراعي العقيدة. وهو ما انبنى عليه العلاج الرباني ليهود المصريين من خلال عملية التيه.
بعد تحرير بغداد بإذن الله، وإعادتها إلى حظيرة أهل السنة، ثم إعادة الشيعة إلى مناطقهم الأصلية، في ظل إقليم ذي تشريعات مناسبة تخدم الهدف الأبعد، وتخليص عاصمة العراق وبقية المدن السنية منهم.. يكون التوجه إلى الخطوة اللاحقة وهي وضع خطة ريادية فاعلة تهدف إلى (تسنين الشيعة) وأسلمتهم من جديد: عقيدة وعقدة. في هذه المرحلة فقط – لا قبلها – يكون هذا الهدف ذا جدوى، ويعبر عن وعي حقيقي بالدين والسياسة.
وما ذلك على الله بعسير!
آن الأوان أن نطرح هنا هذا السؤال:
هل المشكلة في إيران أم في الشيعي؟
وهل المشكلة في الشيعي أم في التشيع؟
الخطوة الرابعة والأخيرة : تفكيك إيران
الخطوة الرابعة : تفكيك إيران
من أكثر الأفكار السياسية شيوعاً، وتسليماً إلى حد يكاد يكون مجمعاً عليه، وأكثرها خطراً وضرراً على الأمة.. القول بأن: “إيران قدر أو حتمية جغرافية لا يمكن إزالتها”. أما شيوعها وذيوعها فمعلوم بحيث يمكنني الزعم بإن عامة من قرأ العنوان استغربه ونكره!
لا بأس سأجعله يستغرب أكثر؛ فلا أكتفي بالقول: “إن وجود إيران ليس حتمية جغرافية”، إنما أزيد فأقول: “إن زوال إيران هو الحتمية الجغرافية”.. حقيقة غفل عنها العرب قروناً طويلة. وعلينا أن نزيل قشورها ونضعها على الطاولة.
وأما خطرها وضررها فمن حيث إنها تخصي العقل عن أن يفكر بحل حقيقي يقلع الضرس المتسوس من جذره فيريح الرأس المصدع من أصله. أقصد أنها تمنعه من أن يضع في باله الهدف الاستراتيجي الذي يعالج المشكلة علاجاً كلياً، وهو إزالة هذه الدولة من الوجود. وإلا ستظل الأمة في صداع مستمر كثيراً ما يهيج، وإذا هاج دمر كل شيء في طريقه.
إيران خطأ تاريخي .. علينا تصحيحه جغرافياً
إيران خطأ ديموغرافي تاريخي، علينا تصحيحه جغرافياً.
تعامل جيل الفتح مع دولة فارس على أنها قابلة للابتلاع والذوبان في أحشاء دولة الإسلام، وأن الفارسي بمجرد إسلامه أو تظاهره بالإسلام يصبح (فرداً أو مجموعاً) عنصراً صالحاً داخل نسيج الدولة، مخالفين قول الحكيم المحدَّث: “ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار.
العقل العربي – بما اختص الله I العرب في العموم من طيبة نفس ونقاء سريرة – يصعب عليه مواكبة المكر الفارسي والغوص فيه إلى أقصى أعماقه بما أوتي أصحابه من خبث نفس وفساد طوية. انظر لقد استوعب العرب فارس عسكرياً بينما استوعبت فارس العرب بالحيلة والمكر. الرابح الحقيقي إذن الفرس لا العرب، بل العرب تضرروا ودفعوا من الأثمان ما بلع الربح ورأس المال.
هذا خطأ وعلينا تصحيحه!
في رأيي أن العقل العربي يتأخر عن إدراك المكر الفارسي نصف قرن على الأقل، ويحتاج نصف قرن آخر ليتجاوز (فجوة التفعيل) وهي المسافة بين اكتشاف الفكرة وتفعيلها. لكن الملاحظة الأهم هو أن من وعى الفكرة عادة ما تضيع فكرته وسط ضجيج الجمهور؛ وبهذا يطول زمن التصحيح؛ فتكثر الخسارات في جانب، وتزيد الأرباح في الجانب الآخر.
نحن في حاجة إلى صاحب قرار يقتنع بالفكرة لنتمكن به من تجاوز (فجوة الجمهور) التي تهبط بأقدامنا إلى أعماق (فجوة التفعيل)، وتجعلنا كمجموع نراوح في مكاننا. وإلا فليس أمامنا سوى أن نطور أنفسنا حتى نكون نحن أصحاب القرار.
هل كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب سيتجاوز (فجوة الجمهور) لو بقي بعيداً عن صاحب القرار؟ هذا هو الفرق الجوهري الذي جعله قادراً على تفعيل فكر شيخ الإسلام ابن تيمية، ويجعله حقيقة اجتماعية واقعة وتجربة سياسية رائعة من حيث عجز ابن تيمية نفسه عن فعل ذلك. لا يفوتك أن الشيخ الثاني إنما حرك بعض أفكار الشيخ الأول، بينما بقيت كثير من أفكاره إلى الآن ساكنة في مكانها تنتظر من يحركها.
أخطاء متتالية
والأخطاء التاريخية التي ارتكبها العرب كثيرة!
بدأها الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص t يوم استدرجه الفرس إلى إسكان صفوة الجيش الفارسي “جندشاهنشاه” – البالغ عددهم من غير عوائلهم أربعة آلاف – في الكوفة؛ فكانوا بؤرة استقطاب لكل الحاقدين على الدولة الجديدة. وفي الكوفة، ومن قبل هؤلاء لا غيرهم، وضعت ديانة التشيع الفارسية. وبسبب هؤلاء لا غيرهم شوهت صورة العراق والعراقيين في نظر من حولنا على مر العصور. الكوفة ذات الطابع الفارسي هي السبب.. هي العلة!
وثنى وراءه علي t يوم استدرجه الفرس إلى الكوفة بؤرة التآمر وعش الدبابير، كما كان قريباً من فارس؛ ما يسر على أساطينها إحكام القبضة عليه، بعيداً عن القوم والجيل الذي تربى في كنف الرسول e.
ثم ثلّث العباسيون فخرجوا على الأمويين، وباستدراج من الفرس أيضاً، وقضوا على دولتهم في المشرق؛ فخرجوا بدولة الإسلام من طابعها العربي إلى الطابع الفارسي من يوم أن تأسست تلك الثنائية اللعينة (الخليفة العربي والوزير الفارسي) إلى اليوم التي انتهت فيه على يد المغول باستدراج الفرس إياهم لهذا الغرض بعد 526 سنة.
واستمر الفرس حاضرين في كل الفتن والمآسي التي جرت على العراق والدول المجاورة، حتى تكلل ذلك بتأسيس الدولة الصفوية سنة 1501م، أي بعد 243 سنة من سقوط بغداد. واستمرت هذه الدولة وإن اختلفت أسماؤها وأنظمتها حتى اليوم. ومن قبل كانت ممتدة قبل الإسلام بمئات السنين. كل هذا تسبب في رسوخ فكرة الوجود الجغرافي الحتمي أو الأبدي لإيران، وأن إيران قدر جغرافي لا يزول. والحقيقة أن هذه الفكرة ليست أكثر من ملاحظة انطباعية سطحية لا تقوم على دليل؛ والعكس هو الصحيح. وإليكم البيان:
أيسر الخطوات
في رأيي أن أيسر الخطوات الأربع هي تفكيك إيران إلى خمس دول على الأقل، هي: الأحواز، والبلوش، والكرد، والأذر، والفرس، وإن بدت على خلاف ذلك! غني عن القول أن (أيسر) لا يلزم منه كون الهدف يسيراً، وإنما هو يسير مقارنة بغيره.
يتصور العرب أن إيران دولة قوية متماسكة، بينما هي أبعد ما تكون عن التماسك. والرئيس العراقي صدام حسين استعجل القطاف فركز على العمل العسكري، وكان الأصوب أن يسبق العمل العسكري عمل أمني وفكري وسياسي واقتصادي، ويكون القتال جهداً احتياطياً قد لا نحتاجه، أو هو خاتمة المطاف لضرب البناء الخاوي الموشك على التداعي. قد يقال: إن إيران أعجلته عن ذلك. وأقول: صحيح، ولكن هل كان في وارده خطة طويلة الأمد لتفكيك إيران؟ بل هل في باله هذا الهدف أصلاً؟ لا أظن!
انظر إلى الفرس كيف يعتمدون النفس الطويل، ونخر العدو من الداخل، على العكس من العرب الذين يمتازون بالعجلة، والتركيز على القوة العسكرية. الفرس يركزون على (المناعة) فيضربونها، والعرب يركزون على (المنعة) فيعتمدونها. وعقلية مثل عقلية الفارق عمر بن الخطاب t أظنها نادرة بيننا على مدار التاريخ. لقد كان منزعجاً من التوسع في الفتوحات، والتوغل في بلاد فارس. لكن مجايليه كانوا يلحون عليه، فرضخ مكرها أو مسايراً لهم. وأرى أن هذا كان خطأ ستراتيجياً وقع فيه العرب إذ اجتاحوا تلك البلاد في غضون سنوات معدودات. نعم استوعبوا فارس عسكرياً، لكنهم ضاقوا بها ثقافياً. وكان لهذا آثاره الضارة في الفكر والدين والأمن والسياسة. بدأت من مقتل عمر نفسه، ثم ظهور الفكر الشعوبي، وحركة الوضع في الحديث، وعلم الكلام وتأويل الصفات، والقول بخلق القرآن، وسلسلة طويلة من المضار ما زلنا نعاني منها حتى اللحظة. وكان الصحيح هو التريث والتغلغل شيئاً فشيئاً. فكما أن تثبيت حركة الفتح في حاجة إلى حامية عسكرية، فهو في حاجة أشد إلى (حامية ثقافية) واستيعاب ديني واجتماعي حقيقي لا مظهري. وهذه قضية فكرية تاريخية لا تنال من عظمة ذلك الجيل الدينية والحضارية.
ضعف المرتكز القومي لدولة إيران أساس استراتيجية تفكيكها
النظر إلى الجغرافيا ضرورة من ضرورات السياسة. فماذا تقول جغرافية إيران؟
تتكون دولة إيران من أكثر من خمسة عناصر قومية أهمها: الفرس، الكرد، الأذر، العرب، البلوش، التركمان. وعند مقارنة نسبة الفرس إلى النسبة الكلية لبقية القوميات يظهر الخلل في مرتكز الدولة الذي يقوم عليه بناؤها، ويتبين أن إيران دولة مصطنعة؛ فالفرس يشكلون أقلية قد لا تصل إلى 35% من مجموع السكان. وحسب الأرقام الرسمية يشكل الفرس 51%! وهي نسبة غير حقيقية، المقصود منها إعطاء فكرة وهمية عن أن الفرس هم أغلبية السكان فلهم الحق في حكم الدولة. ومن عرف مدى تمكن خليقة الكذب عند الفرس تيقن من بطلان هذه النسبة، وعرف أيضاً أن نسبة الفرس أقل من ذلك بكثير؛ فلو كانت النسبة تعينهم لما اكتفوا بهذا الرقم المفضوح. هذا وفي الفرس سنة، وهذا يعيننا كثيراً في مشروع التفكيك.
شيء آخر هو أن الفرس لا يكاد يكون لهم امتداد خارج حدود إيران، بخلاف بقية القوميات. وهذا عامل ضعف آخر يكشف عن اصطناعية الكيان السياسي للدولة. أضف إلى ذلك عوامل أخرى مهمة منها العامل الاقتصادي. يكفي أن تعلم أن النفط الإيراني أكثر من 90% منه في الأحواز، وأنابيب التصدير عبر الخليج العربي تمر من خلالها!
القوميات الإيرانية جاهزة للانفصال
تعيش الشعوب الإيرانية حالة مأساوية من الاضطهاد العرقي والثقافي والاقتصدي، وتعاني من الظلم بشتى أنواعه وأشكاله. وهي تتململ وتثور في كل مرة للخلاص من قبضة الفرس الظالمة. لقد ثار العرب في الأحواز مرات منذ الاحتلال الفارسي لها سنة 1924 وحتى اليوم، وكذلك الكرد غربي إيران، الذين نجحوا سنة 1946 في إقامة دولة لهم باسم (جمهورية مهاباد). وشهد العام نفسه محاولات جادة من الأذريين لإيجاد جمهورية مستقلة شمالي إيران. والبلوش أيضاً، وهم الآن في حالة حرب مع دولة فارس.
اعتماد مبدأ (الهجوم خير وسيلة للدفاع) يستلزم ضرورة التحرك الجاد لنصرة هذه الشعوب للخلاص من القبضة الفارسية، وسيفكك الكيان المصطنع لهذه الدولة الشيطانية. بدلاً من لزوم حالة الدفاع والاكتفاء بتلقي الضربات.
وسيرى العالم لأول مرة زوال دولة إيران من الخريطة، وبروز خمس دول جديدة على أنقاضها.
إن الأمن العربي مهدد بالدرجة الأولى والأكبر: خارجياً من إيران، وداخلياً من الشيعة. وهذه الخطة الرباعية كفيلة بعون الله بخفض الخطر الفارسي والشيعي كليهما إلى درجة يمكن السيطرة عليه تماماً.
بعد التفكيك هناك خطوات لاحقة لا بد منها، ولكل حادث حديث. مثلاً: الخريطة الجغرافية تبين أن العراق وأفغانستان كل واحد منهما هو الحزام الأمني للآخر. وبهما يكون الفرس بين فكي كماشة؛ وهذا يستلزم علاقات بينية متينة وإجراءات أمنية وسياسية وغيرها تكفل بقاء الفرس تحت دائرة النظر والسيطرة. هل أدركنا الآن لم استدرجت إيران حمير الأمريكان لإسقاط كابل وبغداد قبل التحرك الأخير لإقامة إمبراطوريتها المنشودة!
إن هذه الخطوة التاريخية لضرب الفرس في عقر دارهم وكيانهم، مع الاستفادة من كل تجارب التاريخ، ومعطيات العلم في النفس والاجتماع والأمن والسياسة والعسكرية، وعدم تعجل القطاف.. باتت ضرورة للخلاص من الصداع المزمن لشعوب المنطقة. كما أنه سيقطع الطريق على التآمر الغربي ضد هذه الشعوب، ومشروعه القائم أصلاً على التحالف مع التآمر الشرقي. إن إزالة إيران من الخريطة كفيل بالأمرين معاً.
لا يفتّـنَّ في عضدك أن هذا العمل غير مسبوق تاريخياً؛ فليس ذلك من شرط حركة التاريخ. إن الأخطار الكبيرة في حاجة إلى استراتيجيات عظيمة. والاستراتيجيات العظيمة في حاجة إلى أفكار بمستوى حجمها، وقادة على قدر التحدي. ونحن لها إن شاء الله.
القسم الثاني : المنهج
القسم الثاني : المنهج |
1. الركائز العملية للمنهج |
2. فقه الهوية |
3. التجديد والإبداع |
4. الإيمان والتنمية الإيمانية |
5. المرأة في مشروعنا |
6. نظرات في القيادة |
7. نظرات في السياسة |
8. نظرات في المال والسياسة المالية |
9. علوم أساسية |
10. موقفنا من العروبة ومن القوميات الأخرى في العراق ( الكرد نموذجاً ) |
مقدمة المنهج
الركَائِزُ العِلميَّةُ لِلمَنهَج
طلعت الشمس، وظهر تحتها كل شيء..
وتبين لنا – بما لا يقبل الشك – أن الشيعة والتشيع الفارسي مشكلة خطيرة، هي من كبريات المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية. بل هي المشكلة المحورية، و(القضية المركزية) في بلد مثل (العراق).
لا يقتصر خطر التشيع على الدين فحسب. إنه يجتاح الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد، ووحدة الوطن والشعور بالانتماء إليه، وإلى الأمة الأكبر وكيانها ومفاهيمها وقيمها وثوابتها. فمواجهته، والتصدي له ضرورة حتمية من أجل إنقاذ هذه القيم جميعاً.
لا بد من المواجهة فماذا أعددنا لها ؟
إن هذا الخطر المتعدد الجوانب يحتم على الجميع مواجهته، ووضع الخطط والبرامج لحل مشكلته، ومعالجة خطره.
في كتاب (التشيع عقيدة دينية أم عقد نفسية؟) أثبتنا بالتفصيل كيف أن المجتمع الشيعي في عمومه – كالمجتمع اليهودي – يعاني من جملة أمراض وعقد نفسية جمعية، هي السبب المتواري وراء كل العقائد والطقوس والسلوك الذي يجنح إليه ذلك المجتمع أينما كان: في أي دولة، أو مدينة، أو إقليم.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الضروري لمن تصدى لهذه المهمة الصعبة أن يضع نصب عينيه ذلك الخليط المتشابك من الأمراض والعقد النفسية، وأن يكون جاداً كل الجد، ومقدراً موقعه فيدرك المسؤولية الدينية والوطنية والقومية، والمسؤولية التاريخية التي ينبغي أن يتحملها كل من وضع نفسه هذا الموضع.
لم نجد في ساحة الدعوة – على الأقل في بلادنا المغزية في عقر دارها بالتشيع – منهجاً واقعياً حكيماً: ينظر إلى الواقع بعين فيحدد المشكلة الكبرى؛ ليدرس أبعادها الفكرية والنفسية والتاريخية والاجتماعية، وإلى الكتاب والسنة بالعين الأخرى؛ كي يضع العلاج المناسب في ضوء ذلك الهدى الرباني الحكيم.
كل الذي وجدنا: رقاعات من هنا وهناك، يمكن تلخيصها بكلمة واحدة هي: البحث عن وسائل قربى تجمع بين أهل الحق وأهل الباطل، ولو على حساب الحق. وهو ما نطلق عليه اسم (المنهج الترضوي). إنه منهج يبحث عن وسائل التعايش والتواؤم، ولو على حساب الحق، وحساب الحقوق، ولا يبحث عن سبل الحل، بل يتطير من ذكره إن كان يسبب أزمة، أو يثير مشكلة، أو يستلزم أي نوع من المواجهة.
وهو منهج فاشل جملة وتفصيلاً، وواقعاً وتأصيلاً. لم يستطع إثبات صلاحيته للمواجهة أمام الهجمة الشعوبية الشاملة الشرسة: لا في علاج الحالة، ولا في إيقاف زحفها وانتشارها. وقد شرحت ذلك مطولاً في كتاب (لا بد من لعن الظلام).
المنهج الأمثل
في هذا الفصل نبين المنهج الذي نراه الأمثل والأفضل من بين (المناهج) التي (وضعت) أو اتبعت دون وضع مسبق في التعامل مع خطر الشيعة. وذلك من خلال النظر في الكتاب والسنة وسيرة الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم وفي مقدمتهم الرسول الأكرم والمعلم الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ثم التجربة الميدانية الطويلة الأمد، والخبرة المكتسبة من التعامل المباشر، ومعه النظر في الحركات التغييرية على مدى التاريخ: دينية كانت أم دنيوية، صالحة أم منحرفة.
من خصائص منهجنا
إن تقييدنا المنهج بوصف (الأمثل) يعني بقاءه مفتوحاً للنقد والحذف والإضافة، فهو (الأمثل) أي مقارنة بغيره، وليس (المثالي) أو الأفضل مطلقاً. وهذه خصيصة مهمة جداً من خصائصه. ومن دونها يفقد المنهج حيويته ومرونته التي تمنحه قابلية التطور، والقدرة على التغيير والاستمرار.
خريطة المنهج
ارتأيت بدءاً أن ألخص المنهج في نقاط مختصرة وخطوط عريضة. ولا يخفى ما في هذا من فائدة كبيرة؛ إذ هو يجمع المعلومات التي تبدو واسعة مشتتة في خريطة صغيرة مجتمعة، يمكن رؤيتها بكل – ومن كل – جوانبها، ما يجعل القارئ المتطلع، وصاحب القضية المتمعن يسير وفي ذهنه المسار الموصل إلى الهدف واضح محدد.
ركائز المنهج الأساسية
نقصد بـ(الركائز الأساسية) المادة العلمية التي يقوم عليها منهجنا.
وهي ستّ ركائز، مقسمة إلى ثلاثة أقسام:
- قسم نظري وهو ثلاث ركائز
- وقسم عملي وهو ركيزتان اثنتان
- والقسم الأخير وهو ركيزة واحدة
أولاً : الركائز النظرية
-
المقاصد أو الأهداف الكبرى لمنهج التغيير الذي نبتغي تحقيقه، وهي أربعة:
أ. تحصين الصف الداخلي من الشيعة
ب. توجيه أو تفجير طاقات السنة (الأمة المسلمة) ضدهم
جـ. سحب المشروعية الدينية من الشيعة صراحة، وتثبيتها لأهل السنة فقط
د. تسنين الشيعة ليس مقصوداً قصداً أولياً
-
المنهج القرآني في الاستدلال الأصولي، ويقوم على الأسس الثلاثة التالية :
أ. المرجعية القرآنية في الأصول
ب. محاكمة الأصول إلى محكم القرآن الكريم
جـ. نقض المنهج الشيعي
-
الموضوعات الأساسية للمنهج، وهي خمسة :
أ. بيان العقيدة الربانية الصحيحة
ب. الإعلان بفضح أباطيلهم وخزعبلاتهم بتفاصيلها
جـ. بيان خطر الشيعة وخطر دينهم (التشيع)
د. عرض مخازيهم التاريخية
هـ. تجريدهم من دعوى الانتساب إلى (أهل البيت)
أي.. بهذه الموضوعات، نحقق الأهداف المقصودة، طبقاً للمنهج القرآني.
ثانياً: الركائز العملية
- منهج التغيير الجمعي، والفرق بينه وبين منهج التغيير الفردي
- الأساليب والمبادئ الربانية في طرح القضية
ثالثاً : نقد المنهج الترضوي
1. المقاصد والأهداف الكبرى للمنهج
أولاً : الركائز النظرية
أ. المقاصد والأهداف الكبرى
يتبين من تاريخ دعوة الإسلام أن ثمة أصنافاً من البشر – كالمنافقين واليهود وكثير من النصارى – لم يؤد المنهج الإلهي المنزل، والذي طبقه الرسول e معهم إلى النتيجة المطلوبة من هدايتهم، ولم يتغير منهم سوى أفراد قلائل. لكن المتأمل جيداً يجد هذا المنهج قد أفصح عن ثلاث نتائج عظيمة هي:
أ. سحب المشروعية الدينية من أهل الكتاب، ونقلها إلى المسلمين. وكان هذا الأمر صريحاً قطعياً، بلا أدنى أثر للشك أو الضبابية أو المجاملة، أو اللف والدوران تحت أي ذريعة، أو تقدير أي مصلحة من المصالح. وهذا ساهم مساهمة كبيرة في تقليص حجمهم، وخطر تغلغلهم واندساسهم وقبول الناس لهم، واحترامهم؛ على أساس أنهم أصحاب دين سماوي مقبول عند الله.
ب. تحصين الصف الداخلي منهم.
جـ. وتوجيه طاقات الجماعة المسلمة ضد المعتدي منهم.
أما المنافقون فقد فضحهم، وذكر سماتهم وعلاماتهم، وندد بأفعالهم، وعرّى نواياهم ومقاصدهم، وحذر الجماعة المسلمة منهم تحذيراً أشد من تحذيره من الكفار، سواء كانوا مشركين أم أهل كتاب. وصولاً إلى النتائج السابقة.
إن المقاصد التي نبغي الوصول إليها من وراء منهجنا أربعة، وهي:
أ. تحصين الصف الداخلي من الشيعة
ب. تفجير طاقات السنة (الأمة المسلمة) ضدهم
جـ. سحب المشروعية الدينية من الشيعة صراحة، وتثبيتها لأهل السنة فقط
د. تسنين الشيعة ليس مقصوداً قصداً أولياً
وإليكم عرضاً لها بشيء من التفصيل:
أ. تحصين الصف الداخلي للسنة من الشيعة
تلك هي الخطوة هي أول عناصر أساس العلاج أو المواجهة، وهي تؤدي ضرورة وتخدم وتتزامن مع أهم مقاصد وأهداف المنهج، ألا وهو تحصين الصف الداخلي لأهل السنة والجماعة، وحمايتهم من اختراق الشيعة لهم.
ب. تفجير طاقات السنة (الأمة المسلمة) ضدهم
وإذا تحققت تلكما الخطوتان على أرض الواقع ستتبعهما الخطوة الثالثة تلقائياً، ألا وهي تفجير طاقات المجتمع ضد هذا الخطر. ومن دونهما سيبقى المجتمع السني الملياري مخدراً مشلول الحركة. هنا ندرك السر الأكبر في تقهقر أهل السنة وتراجعهم في المجتمعات المختلطة أمام الزحف الشيعي. إن رجال المؤسسة الدينية والدعوية يخشيان الاقتراب من حمى الخطوة الأولى. فلا خطوة ثانية ولا ثالثة، ولا غيرهما. بل إذا رأيتهم يتحركون فإنما هي حركات مراوحة على طريقة “مكانك سر”. وإذا كان ثمة من نقلة فهي إلى الوراء، وإن كانت الوجوه تشير إلى الأمام.
هذه هي الحقيقة. وهذا هو التشخيص. ومعه العلاج.
جـ. سحب المشروعية الدينية من الشيعة وتثبيتها لأهل السنة فقط
وتأسيساً على ما سبق نقول: إن أول خطوة نخطوها في طريق مواجهة الشيعة وتشيعهم الفارسي، هو سحب بساط المشروعية الدينية من تحتهم.
تكون هذه الخطوة بإيصال الحقيقة الآتية إلى الناس – وأولهم أهل السنة في العراق، وكل مكان أو قطر مشابه – وهي: إن التشيع دين آخر مبتدع لا علاقة له بالإسلام قط. بل أنشئ هذا الدين أصلاً لمحاربة الإسلام وأهله. إن علماء الشيعة لا يؤمنون بهذا الدين الذي جاء به الصحابة رضي الله عنهم إلى أجدادهم المجوس؛ فهم يكفِّرون الصحابة – إلا بضعة نفر منهم – على هذا الأساس. فالصحابة – في اعتقاد الشيعة – لم يكونوا على دين الإسلام الذي تركهم النبي e عليه، وإلا لم يكفِّروهم. إذن الدين الذي عليه الصحابة لا يؤمن به هؤلاء العلماء، بل يَكفُرون به، ويُكفِّرون غيرهم عليه. فماذا بقي لهم من دين الإسلام؟ وعلى أي إسلام هم؟!
هذا وقد أجمعوا على تكفيرنا. لكنهم عند (التقية) يسموننا مسلمين، بمعنى الإسلام الظاهر دون الإيمان الباطن الذي ينجي صاحبه من الكفر والخلود في النار؛ فهو كإسلام المنافقين، الذين يطلق عليهم اسم الإسلام دون الإيمان. ولك أن تلاحظ أنهم حين يشيرون إلى شيعتهم يسمونهم (المؤمنين). وهو اسم لا يطلقونه على سواهم؛ للسبب الذي ذكرناه.
وهذا كله يستدعي موضوعات أخرى مهمة. مثل:
التأكيد على أن دين السنة هو الدين الحق، ودين الشيعة دين باطل لا أساس له.
فضح علاقة الشيعة المزيفة بأهل البيت، وقطع هذه العلاقة من الجذور.
حسم وقطع نسبة الشيعة لأمة الإسلام، وبيان أنهم طائفة لا علاقة لها بهذه الأمة. وأول دلائل هذا القطع هو إجماعهم على تكفير أهل السنة. وثانيها عدم اعترافهم بشرعية هذه الأمة ووجودها والسعي لمحاربتها وإزالتها ما وجدوا لذلك سبيلاً. وثالثها رفضهم الانتساب لأمة الإسلام، واستنكافهم وأنفتهم من ذلك، واعتبار أنفسهم أنهم هم الأمة لا غيرهم، ونفيهم أن يكونوا جزءاً من أمة الإسلام إلا على سبيل المداهنة والتقية.
د. تحويل الشيعة إلى سنة ليس مقصوداً أولاً
لعل قائلاً يقول: فأين هدف دعوة الشيعة إلى التسنن من أهداف منهجك؟
فأقول: تحويل الشيعة إلى دائرة أهل السنة والجماعة مقصد نبيل وهدف عظيم، لو تحقق فإنه يحل الإشكال من الأساس. ولكن.. ما كل ما هو أول في المرتبة، هو أول على مستوى العمل والحركة. بل ربما هناك خطوات لا بد من إنجازها للوصول إليه. والتعجل يفوت الفرصة، ويقطع الطريق. والحكيم من قسّم طريقه إلى مراحل حسب الظرف.
ليست مرحلتنا اليوم هي مرحلة تحويل الشيعة إلى سنة. إن واجب الوقت اليوم، الذي لا يعدله واجب، هو دفع ضرر الشيعة عن السنة، وليس جلب نفعهم بتسنينهم. ودفع الضر مقدم على جلب النفع شرعاً وعقلاً.
كيفية تحصين أهل السنة، وتوعيتهم وتحذيرهم من خطر الشيعة، هو واجبنا الأول في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا. والتقصير فيه انشغالاً بدعوة الشيعة خطل في الرأي، وخطر في النتائج لا يعدله خطر آخر؛ لأنه سيعرض السنة للذوبان والتلاشي في بلد مثل العراق، وتحول أجيالهم إلى التشيع. وذلك الفتنة التي هي أكبر وأشد من القتل.
إن هذه الخطوة ستؤدي حتماً إلى الخطوة اللاحقة وهي تحريك السنة ضد خطر الشيعة. هنا تأتي مرحلة الاختراق، والتفكير في عملية التحويل، التي يدندن حولها غير الخبراء في هذا الميدان، والتقليديون والجامدون والحالمون. أي إن تسنين الشيعة، في برنامجنا، سيكون تحصيل حاصل، فنحقق كسبين في وقت واحد: الحفاظ على رأس المال بتحصين السنة وحمايتهم من الذوبان في التشيع أولاً، وتسنين الشيعة ثانياً وآخراً. بينما القفز على هذه الخطوة سيفقدنا الكسبين معاً: سنخسر رأس المال وهو السنة، فيكون الربح وهو تسنين الشيعة – والحالة هذه – وهماً نبرر به خوفنا وهروبنا من المواجهة؛ وأي ربح يحصل في عدم وجود رأس المال؟!
على أنه حتى لو كان الهدف المرحلي هو دعوة الشيعة إلى التسنن، فليس بلوغ هذا الهدف بالطريقة التقليدية، القائمة على المجاملة، وإخفاء الحقيقة. بل ولا السعي إلى تسنينهم أولاً، إنما الأولوية لتشييع الشيعة. وقد بينت ذلك في بداية الكتاب.
لا بد من الصدع بالحق، وبيان الحقيقة كما هي. بهذا يكون منهجنا سليماً فاعلاً مؤثراً. وسأبين هذا حين أتحدث عن منهج التغيير الجمعي المطلوب، وضرورة التخلي عن المنهج الفردي الذي لم نجد سواه في الواقع.
إن أكثر ركاب قطار الدعوة يسلكون الطريق الأسهل لاتقاء خطر الشيعة، وتجنب شرهم؛ فيجنحون إلى أسلوب المجاملات والمداهنات، المؤطر بدعوى الحكمة، والمقنن بالنصوص الانتقائية؛ ولذلك فغاية ما يهتمون به دعوة الأفراد بعيداً عن الجمهور. بينما المطلوب في سبيل وقاية المجتمع – وكذلك هدايته – أسلوب جماعي غايته تغيير المجتمع ككل. وذلك لا يتم إلا بتحصين أهل السنة أولاً، ثم التحرك على الشيعة ثانياً من أجل رفعهم إلى ذلك المستوى الحضاري، وصولاً إلى تغييرهم النهائي، كهدف أبعد ومرحلة أخيرة في طريق التغيير.
تداخل المراحل
ليس هذا التقسيم للمراحل، هو تقسيم جامد: لا مرونة فيه، ولا يقبل الحركة، والتداخل حسب ما تقتضيه طبيعة الظرف في أي جزء من الأجزاء التي لها خصوصية معينة. ولربما لا يمكن لأحد في مكان ما أن يصرح بالحق أو يعلن بالحقيقة إلا بقدر محدود، لا يتطابق تماماً مع مضمون المنهج. إنما نحن نتكلم عن طبيعة المرحلة بعمومها، وما ينبغي أن يكون عليه المنهج في تسلسل خطواته طبقاً لذلك. وسيرة الرسول e وسنته تعيننا على الفهم الشمولي، الذي ينظر إلى جميع الزوايا في وقت واحد. فطبيعة المرحلة المكية دعوية سلمية، وطبيعة المرحلة المدنية دعوية عسكرية. لكن النجاشي رضي الله عنه كانت له خصوصية اقتضت الاستثناء ليس من مقتضى طبيعة المرحلة المدنية فحسب، بل والمرحلة المكية أيضا! وهكذا.. على أن لا ننساق وراء الرخص والاستثناءات، والتقاط النصوص وعزلها عن سياقها النظري والعملي، حتى يمسي الاستثناء هو القاعدة، والقاعدة تعود هي الاستثناء، وأهلها غرباء. وعلى أن نتبع القاعدة العظيمة التي وردت في حديث رواه البخاري عن النبي e ونصه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت). فمن لم يقدر على قول الحق لا يحل له أن يتعداه إلى قول الباطل ومسايرته. إلا إذا كان المرء مكرهاً مضطراً. وباب الإكراه له موضع آخر.
التحصين ثم.. التحصين
مجمل القول: علينا أن ننشغل بتحصين صف أهل السنة، وتنمية مناعتهم ضد التشيع، وتحذيرهم من الشيعة. واستغلال الظرف الحالي قبل فوات الأوان في ترسيخ الحقيقة التي تبين أن الشيعة أصحاب دين يمنعهم من التعايش مع غيرهم من المذاهب. دين يحثهم على قتل المخالف (السني وغيره)، وأخذ ماله وانتهاك عرضه، وإزاحته من أرضه، وإخراجه من وطنه. فضلاً عن تكفيره.
وهذا هو الذي يفجر طاقات المجتمع باتجاه الشيعة، ويجعلها قادرة على التصدي والمواجهة بشتى الوسائل والأساليب. ولا بأس من تعدد الأدوار ما دام الهدف واحداً.
تحصين السنة هو حجر الزاوية، والأساس الذي يعتمد عليه المنهج. ولا يجوز المساس به، والتقصير بشأنه مهما كلف الأمر. وإلا كنا كمن يسير في فراغ، أو يبني بلا أساس.
2. المنهج القرآني في الاستدلال الأصولي
ب. المنهج القرآني في الاستدلال الأصولي
خرجت الشيعة عن الخط العام للإسلام. وكان خروجها بناء على مسائل أصولية استحدثتها لم تكن معروفة لدى المسلمين من قبل، مثل بدعة (الإمامة): هذه العقيدة التي يعتبرها الشيعة الأصل الثاني في الإسلام بعد التوحيد، ويأتي ترتيبها في اعتقاداتهم قبل النبوة. فـ(الإمامة) عند الشيعة أعلى مقاماً من النبوة. وهي فوق المقامات الأخرى – ما عدا مقام الربوبية – التي يمكن أن يصل إليها الإنسان)([1]). ولهم على ذلك أدلة نصية من الروايات، وأقوال صريحة لعلمائهم، هي موضع إجماع عندهم.
وكفَّروا من لم يقر بهذه العقيدة الباطلة. كما في رواياتهم وأقوال علمائهم.
الخلاف مع الشيعة إذن هو خلاف أصول لا فروع. بل هو خلاف بين دينين، لا طائفتين، فضلاً عن أن يكون بين مذهبين.
المنهج الرباني المحكم
وهنا يحق لي أن أسأل وأقول: كيف يكون الرد المحكم على ضلالات الشيعة، بحيث يتبين بوضوح تام، وبسرعة، وبجملة واحدة بطلان ما يدعونه من اعتقادات، ويذكرونه من سفاهات؟ رد يقطع الطريق على الشيعي أن يلف ويدور، ويطيل ويستطيل. ويتمكن به السني الأُميّ من غلبة العالم الشيعي!
لم يقصر العلماء في بيان الحق، وإيراد الحجج التي ألقمت خصوم الباطل الحجر. لكن عامة ما جاءوا به يحتاج المتلقي له إلى أن يكون على مستوى من العلم، بعضه لا يدركه إلا النخبة. بينما المطلوب رد بالشروط السابقة. فإن دين الله الذين نزل للجميع: العالم والجاهل، والقارئ والأمي.
والسبب أنهم اتبعوا في ردهم على ضلالات الشيعة المنهج نفسه الذي يتعاملون به في ردودهم على بعضهم. أي بين أهل السنة أنفسهم. ولا شك أن اختلافات أهل السنة فيما بينهم هي اختلافات فروع لا أصول. وهذه يصح فيها الرد إلى الكتاب والسنة بأدلتهما القطعية والظنية. بل إلى الأدلة العقلية كالقياس وما شابه، وذلك في غياب النص. فالفروع يمكن أن يستدل لها بالحديث وحده، أو بآية ظنية الدلالة، أو حجة عقلية على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه، ولا يشترط لها صريح الآيات فقط. وهذا لا يصح – من حيث المنهجية العلمية لا من حيث النتيجة النهائية – في الخلاف مع الشيعة؛ لأنه خلاف أصول لا فروع وحدها. وهذا فرق جوهري منهجي. يستلزم فرقاً في منهج الرد.
فما هو المنهج الرباني، أو الرد القرآني الذي هو في متناول الجميع دون فرق بين عامي وعالم؟ نريد رداً يليق بالأصول، وليس هو مما يصلح للفروع. رداً يصلح أن يسمى بحجة الله البالغة. إن هذا يقوم على الحقيقتين التالتين:
-
المرجعية القرآنية في الأصول
أي إن القرآن الكريم جامع لكل أصول الدين. وأما السنة فأكدت وفصلت، لكنها لم تنشئ أصلاً جديداً زائداً على ما موجود أساساً في القرآن.
-
محاكمة الأصول إلى محكم القرآن الكريم
الأصول ثابتة في القرآن بالنص الصريح المحكم. فما لم يكن كذلك فليس بأصل.
وثمت حقيقة ثالثة لا تكتمل الحقيقتان السابقتان إلا بها سأذكرها لاحقاً.
وقفة مختصرة مع الحقيقتين السابقتين
من رحمة الله تعالى بخلقه أنه حفظ لهم كتاباً لا يمكن أن يتطرق الخلل إلى حرف واحد من حروفه الشريفة. وقد اشتمل هذا الكتاب على أصول الدين، وأساسيات الهداية جميعها. كما قال تعالى:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89). كل الأصول موجودة في القرآن. وبالنصوص الصريحة.
فهذه ثلاث مسائل، أو مقدمات عظيمة:
- حفظ القرآن الكامل
- اشتمال القرآن الكريم على أصول الدين جميعاً
- وجود هذه الأصول، وثبوتها بالنصوص المحكمة الصريحة
منهج الراسخين ومنهج الزائغين
حين أؤكد على شرط إحكام النص القرآني فإنما أنطلق من قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران:7). هنا منهجان:
- منهج الراسخين: يستندون إلى محكمات الكتاب – وهي نصوصه الصريحة – رادين متشابهاته – وهي ما احتملت أكثر من معنى مختلف متضاد، أو لم يتبين معناها على وجه التحديد – إلى محكماته، أو توقفوا حتى يتبينوا. ولا يبنون دينهم على ما تشابه منه.
- منهج الزائغين: يروغون عن المحكمات الواضحات إلى المتشابهات المحتملات.
الحقيقة الكبرى
هنا نصل إلى الحقيقة الكبرى، وهي: ضرورة أن تكون أدلة الأصول آيات قرآنية محكمة صريحة. وهذا الشرط جامع مانع. فمن بنى أصله على آية متشابهة رددناه مباشرة من الوهلة الأولى؛ لوضوح زيغه وبيان بطلانه. ومن بنى أصله على رأي، أو رواية لا مستند لهما من محكم القرآن، رددناه كذلك؛ لأنه لو كان ما يدعيه أصلاً لورد ذكره في القرآن أولاً، الذي أنزله الله تبياناً لكل شيء على الوصف أو الشرط المذكور.
لا نحتاج إذن في نقاشنا مع الشيعة لنبطل أصولهم من الأساس، ونأتي بنيانهم من القواعد إلا أن نسأل سؤالاً واحداً: هل لك أيها الشيعي على ما تقول نص قرآني صريح؟ وعند الجواب لن يجد إلا المتشابهات من الآيات، والشبهات من الأقاويل والآراء والروايات. وبهذا يتبين باطلهم، ويتغلب جاهلنا على عالمهم.
هذا هو الرد المحكم على سفاهات الشيعة، بحيث يتبين بوضوح تام، وبسرعة، وبجملة واحدة بطلان ما يدعونه من اعتقادات، ويذكرونه من تفاهات. الرد الذي يقطع الطريق على الشيعي أن يلف ويدور، ويطيل ويستطيل. ويتمكن به السني الأُميّ من غلبة العالم الشيعي!
الشيعة على منهج الزائغين
نعم..! يحتج الشيعة بالآيات. ولكن على أي منهج؟ منهج الراسخين الذين يتبعون المحكمات؟ أم منهج الزائغين الذين لا دليل لهم سوى المتشابهات والشبهات؟
من كل ما سبق يتبين بلا شك أن الشيعة على منهج الزائغين المبطلين، (فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) (الأعراف:119).
الضربة القاضية
هذه خلاصة المنهج القرآني في إثبات أصول الدين. وهذا المنهج بمثابة الضربة الفنية القاضية، التي تجهز – ومن اللحظة الأولى، وبجملة واحدة – على جميع أصول الشيعة. والمهم في هذا كله أن هذه الجملة يحسن التعبير عنها العالم والجاهل، والأمي والقارئ. وبذلك نختصر الطريق، وتظهر الحقيقة جلية في من هو صاحب الحق؟ ومن هو صاحب الباطل؟ بلا غموض ولا تطويل([2]).
جـ. نقض المنهج الشيعي
لم يبق أمامنا سوى الموضوع الثالث من موضوعات المنهج القرآني الأصولي، ألا وهو نقض المنهج الشيعي في التأصيل، من خلال الحقيقتين السابقتين، فيكون النقض تحصيل حاصل. إن هذا يحتاج منا إلى معرفة المنهجية الشيعية في التأصيل، لنقضها بواسطة المنهج القرآني. يقوم المنهج الشيعي في إثبات الأصول على أساسين اثنين، هما:
-
اعتماد العقل/ الرأي ، وليس الوحي ، في إثبات الأصول
فالعقل عند علماء الشيعة هو الأساس في إثبات الأصول وتقريرها. وعلى ذلك أجمع علماؤهم قديماً وحديثاً([3]). أما الوحي فلا يرجع إليه عندهم في التأصيل إلا على سبيل الاستئناس والتعضيد. وهذه الحقيقة مغيبة على عوام الشيعة، وعلى السنة وأولهم العلماء إلا القلة التي تتناول هذا الموضوع الخطير في دوائر وحلقات خاصة، بعيداً عن الإعلام وأنظار جمهور المسلمين: علماء وعامة.
إن القول بأن النظر العقلي هو الأساس في إثبات الأصول، وأما النصوص الدينية فدورها يقتصر على التأييد والتبعية.. هذا القول كفر صريح مخرج من الملة؛ لأنه يلغي الحاجة إلى النبوة وبعث الأنبياء. ولأنها تعني تعطيل القرآن العظيم ومساواته بكلام البشر. إن هذا قلب للدين، ونقض لما جاء من حقائق في الكتاب المبين، كقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تذَكَّرُونَ) (الأعراف:3). وقوله: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام:106). وقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة:213).
هذه نقطة أساسية، ومفصل بارز من مفاصل البحث، لا ينبغي إغفاله، والقفز مباشرة إلى دلالات النصوص أثناء الحوار مع الشيعة ومناقشتهم وجدالهم، قبل الانتهاء منه وتثبيته كمعلم بارز من معالم التعاطي مع المسائل الأصولية؛ فإن أصول الدين عند الشيعة تثبت بالعقل – كما يقولون – وليس بالوحي أو النقل. فإذا كان الأمر كذلك فطبيعة البحث والنظر تستلزم كشف هذه الحقيقة الفاضحة أولاً، واعتمادها كضربة قاضية تأتي في مقدمة الضربات كلها على الإطلاق لنسف ما اخترعوه من أصول بلا مستند من العلم.
هنا يصبح الخوض في النصوص ومدى دلالتها على المطلوب زيادة نتفضل بها وقد كسبنا المعركة وحسمناها كلياً في الجولة الأولى، وكشفنا زيف تعلق الشيعة الخادع بالنصوص إيهاماً لعامة الناس أنهم يرجعون في دينهم إلى القرآن والسنة.
-
الاستشهاد بمتشابه الآيات، دون محكماتها
إن قول الشيعة بالمرجعية العقلية في الأصول، ألجأتهم إليه ضرورة خلو القرآن الكريم من آية محكمة على أيّ أصل من أصولهم. وحيث أن التصريح بهذا القاعدة غير مقبول في أوساط عامة المسلمين فإنهم يزخرفون كلامهم ببعض الآيات للدلالة على ما يريدون. لكنهم عندما يفعلون ذلك لا يجدون أمامهم سوى المتشابه من الآيات. ثم يعضدون ذلك ببعض الروايات المكذوبة، أو الملفقة من صحيح ومكذوب، أو الصحيحة التي يتعسفون في حملها على المراد. وهنا يقعون في الفخ الذي لا يخرجون منه، حينما نطالبهم بالآيات الصريحة فلا يجدون، فتكون الضربة القاضية الثانية، بعد الضربة الأُولى التي وجهناها إلى القول بمرجعية العقل في الأصول.
[1]– الإمامة وقيادة المجتمع، ص26، كاظم الحائري.
[2]– بينت ذلك في رسالة (القواعد السديدة في إثبات أصول الشريعة والعقيدة)، والتي فصلتها في كتاب (المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأُصول الباطل).
[3]– ذكرت كلام علمائهم في كتاب (المنهج القرآني الفاصل).
3. الموضوعات الأساسية للمنهج
جـ. الموضوعات الأساسية
خمسة محاور أساسية
يتبين من خلال الاستقراء التام للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، للتعرف على موضوعات الخطاب الدعوي الموجه إلى أهل الباطل، وتطبيق هذا الخطاب واقعياً على الشيعة، أن هذه الموضوعات تتلخص في خمسة محاور أساسية هي:
- الصدع بالحق علناً من خلال جميع المنابر الدينية والإعلامية المتاحة إلى دين الإسلام في وضعه الإلهي الأول قبل وجود الفرق. والإعلان بأن دين الشيعة الذي هم عليه اليوم، ليس له من الإسلام إلا الاسم. وتأتي العقيدة الربانية على رأس الموضوعات التي يجب الصدع بها.
- الإعلان بفضح أباطيلهم وخزعبلاتهم بتفاصيلها (تحريف القرآن، شركهم بالقبور ودعاء أهل البيت وتقديسهم إلى حد العبادة الصرفة، تكفير الصحابة، الطعن بأمهات المؤمنين، رد الأحاديث النبوية، العصمة، الإمامة، التقية، المتعة، التقليد، التبعية لإيران وتنفيذ مخططاتها، العمالة للأجنبي، فضح كتب مروياتهم، فضح مخازي علمائهم، إباحتهم دم المخالف وماله وعرضه خصوصاً أهل السنة، مساجد ضرارهم (الحسينيات)، الأذان البدعي، أوقات الصلوات، الوضوء، النياحة واللطميات، التطبير…إلخ).
- بيان خطر الشيعة وخطر دينهم (التشيع). إن هذا الموضوع يسهم إسهاماً فعالاً ومباشراً في تحصين أهل السنة، وتحصيل الوعي بينهم، وإثارتهم نحو هذا الخطر، وإخراج مكامن القوة والعمل السليم باتجاه الهدف.
- عرض مخازيهم التاريخية على مر العهود والعصور، وفضح تزويرهم للتاريخ. لقد آن لنا أن ننهي المعادلة التاريخية الظالمة: أهل السنة يصنعون الأحداث، والشيعة يكتبون تاريخها. (مثال ذلك أبو مخنف الشعوبي واعتماد الطبري عليه في تسجيل أحرج فترة مرت بها في صدر دولة الإسلام، وتاريخ الدولة الأموية).
- تجريدهم من دعوى الانتساب إلى (أهل البيت العلوي أو النبوي). والبيان الواضح أن هذه مجرد دعوى وستار كاذب. وإيقاف جميع التهريجات السنية الرامية إلى التقرب إليهم من باب محاولة إثبات حب (أهل البيت) الفاشلة رغم تكرارها منذ مئات السنين!
من هنا نبدأ
هذه هي الموضوعات الأساسية، التي ينبغي أن نطرحها في منهاجنا التغييري، لمواجهة الخطر الديني أو الفكري للشيعة. من هنا يبدأ التغيير بكل أشكاله: دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية أم غيرها. وهذا هو منهاج الأنبياء عليهم السلام دون استثناء، والمصلحين جميعاً من سلفنا الصالح: الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان.
ورغم وضوح هذه المنهجية في القرآن الكريم، وسنة الرسول e وسيرته المتواترة في دعوته لأهل الباطل، ومواجهته لدعوتهم المضادة، إلا أنني وجدت عامة مشائخ الدين والدعاة والمفكرين والسياسيين السنة يعيشون تخبطاً فاضحاً في تشخيص المنهج ومعرفته، وقد التبست عليهم الأمور – إلا القليل القليل – فهم في حيرة من أمرهم، أو استقروا على منهج مبتور، وتواضعوا على رقاعات من المبادئ الملفقة، والطرائق المزوقة.
وفيما يلي ملاحظات مهمة عن الموضوعات الأساسية:
-
العقيدة ( الإيمان )
بعث الله جل وعلا النبيين عليهم السلام لتحقيق الإصلاح الاجتماعي من جميع نواحيه: (إِنْ أُرِيدُ إِلا الأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود:88). فكان الأنبياء مصلحين اجتماعيين مؤيدين بالوحي.
إن كونهم (مصلحين) يستلزم وجود خلل يريدون إصلاحه. ومعنى كونهم (اجتماعيين) يستلزم أن يكون الخلل يعاني منه المجتمع حقيقة وواقعاً.
ولا بد لكل إصلاح أو حل جاد من (قاعدة) فكرية يستند إليها وينطلق منها. والقاعدة التي انطلق منها النبيون جميعا هي العقيدة السليمة، أو الإيمان الصادق، أو هي توحيد الله تعالى. كما أخبر سبحانه فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).
أما الخلل الاجتماعي الذي جاهد كل نبي في سبيل إصلاحه، وجعله محوراً لحركته و(قضيته) فاختلف من نبي إلى نبي تبعاً لاختلاف مجتمعاتهم، وأنواع الخلل التي عانى منها كل مجتمع من تلك المجتمعات. فكانت مشكلة نوح عليه السلام عبادة الأصنام. وهي قريبة من مشكلة نبينا إبراهيم عليه السلام. ومشكلة لوط عليه السلام الاجتماعية خلُقية تمثلت في الشذوذ الجنسي الذي اجتاح قومه. وشعيب عليه السلام ركز على معالجة الانحراف الاقتصادي في أسواق قريته. وموسى عليه السلام كان يناضل من أجل تخليص أمته من الاضطهاد السياسي متمثلاً بفرعون، والانحراف الاقتصادي متمثلاً بقارون. ثم خرج بقومه من أجل أن يقيم لهم دولة التوحيد في الأرض المقدسة. ولكن كل ذلك كان على ضوء التوحيد. وهكذا بقية الأنبياء عليهم السلام.
فالمشروع يقوم على ركنين:
- العقيدة (وهي أساس الإيمان والربانية)
- القضية
العقيدة أصول وردود
تنقسم العقيدة التي نريد بيانها، والدعوة إليها، ومواجهة أهل الباطل، وتصحيح باطلهم بها إلى قسمين:
- قسم هو أصول ثابتة، وأساسيات لا بد من معرفتها، والعمل بمقتضاها. مثل الإيمان بالله تعالى والرسول e والملئكة والكتاب واليوم الآخر والجنة والنار.
- وقسم هو ردود على الأباطيل الطارئة على أساسيات العقيدة. مثل تفاصيل الشرك الذي يقع فيه عوام الناس، أو الأصول الاعتقادية التي اخترعتها الفرق الضالة، كـ(الإمامة) و(العصمة) والطعن بالصحابة.
بين العقيدة كأصل ثابت والردود كضرورة طارئة متغيرة
أساس العقيدة التوحيد. والتوحيد أصل ثابت، لا بد من معرفته لصحة الدين. أما الشرك فمظاهر متغيرة، كثيراً ما تختلف من قوم لقوم، ومن مكان لمكان، وزمان لزمان. فلكل قوم مظاهرهم الشركية: فقد تكون أحجارا وقد تكون كواكب ونجوماً، وقد تكون أشجاراً، وقد تكون مراقد ومشاهد، وقد تكون تحاكماً إلى شرع غير شرع الله. كما قد تكون شركاً اقتصادياً أو سياسياً. وتكون اتخاذاً للعلماء أرباباً من دون الله. وتكون إلحاداً في أسماء الله وصفاته. وتكون عبادة للبقر أو أي صنف من أصناف الحيوانات. وتكون إنكاراً لربوبية الله – وإن كان هذا كفراً خالصاً – وقد تكون مظاهر أخرى. أو تكون هذا كله مجتمعاً أو مقترنا بنسبة أو بأخرى.
وبما أن مظاهر الشرك تتغير؛ لذا وجب أن تتغير ردودنا بتغير هذه المظاهر وجوداً وعدماً. ونجدد من الردود حسب الحاجة. ونعتبر ذلك من العقيدة التي نهتم بها. ولا يصح أن نجمد على ردود معينة قد لا يكون لها مورد شركي على الواقع يمكن أن تعالجه.
أذكر أنه في عام 1998 أعطيت كتاب (العصمة) لأحد الأصدقاء من أهل (المحاويل) ذي الغالبية الشيعية. وصاحبي هذا من المهتمين بالدعوة على أساس العقيدة السليمة، ويخطب الجمعة في بعض الأحيان. فتناوله، ونظر فيه، ثم التفت إلي وقال: أليس الصحيح أن نبدأ فندعو إلى العقيدة أولاً، قبل هذا الكتاب وأمثاله من الكتب؟ فكان جوابي له: وهذا الكتاب يعالج موضوعاً من صلب العقيدة. إنه دفاع عن أصل النبوة، ورد على عقيدة فاسدة يتبناها الملايين من الناس يشاركوننا العيش في بلد واحد.
إن هذا الخلل في النظرة إلى العقيدة المطلوب طرحها، سببه عدم التفريق بين العقيدة التي هي أصل ثابت، وبين العقيدة التي هي ردود على الخلل الطارئ على ذلك الأصل. تلك نؤمن بها وندعو إليها على كل حال. وهذه مرتبطة بالواقع الذي يختلف من مجتمع إلى آخر.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أكد على موضوعات الشرك المتعلقة بالأولياء ودعائهم وزيارة قبورهم وما إلى ذلك. وهذا نحتاجه تفصيلاً في مثل مجتمعنا نحن أهل العراق. ولكننا نحتاج معه إلى التأكيد على الموضوعات المتعلقة بما أضافه الشيعة إلى الدين من أصول وفروع باطلة. وهي موضوعات لم يفصل فيها الشيخ كثيراً؛ لأنه واجه – في العموم – مجتمعاً منتسباً إلى أهل السنة، ولم تكن معاناته الأساسية مع الشيعة وأباطيلهم. حتى إنه في كتابه الأشهر (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) لم يقف عند (توحيد الأسماء والصفات) إلا في بابين من مجموع أبواب الكتاب الذي فاق الستين باباً. وهذا شيء طبيعي في دعوة كل مصلح أو مجدد؛ لضرورة ارتباط الإصلاح الاجتماعي بواقع المجتمع الذي يتحرك فيه المصلح، ويريد له الصلاح. فليس ثمة تقصير ينسب إلى الأول. إنما التقصير ينشأ من جمودنا على أقوال الأولين، دون اعتبار لما يطرأ من ألوان جديدة للشرك أو الخلل الاجتماعي، والذي يحتاج إلى طرح جديد يتناسب معه.
مرجعية القرآن
من الأمور الأساسية التي ينبغي أن نتخذها مساراً ثابتاً في دعوتنا، أن نعتمد في طرح عقيدتنا، وإبطال عقائد الشيعة على القرآن الكريم. وهذا مبني على قواعد ثلاث:
- الأول أن القرآن جمع أمهات العقيدة وأصولها، وبينها بياناً شافياً، سهلاً ميسراً للجميع على اختلاف مداركهم، وتحصيلهم العلمي.
- والثاني: أن خلاف الشيعة لنا هو خلاف أصول. والأصول كلها في القرآن بالنص المحكم الصريح الذي يفهمه كل قارئ أو سامع. وبما أننا نجزم بصحة أصولنا، وبطلان أصول الشيعة؛ فنحن وحدنا الذين يمكن لهم أن يحتجوا لصحة ما لديهم من أصول بنصوص القرآن الصريحة. وهذا شيء لا يتوفر للشيعة قط. إذ ليس لديهم من نصوص القرآن سوى المتشابه. والمتشابه لا تقوم به حجة. كما قال سبحانه: (هُوَ الــَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيات مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) (آل عمران:7). وهنا تكمن (الضربة القاضية)، التي نجتث بها أصول الشيعة، ويتبين لطالبي الحق منهم بطلان دينهم، وصحة ديننا جزماً ويقيناً لا شك فيه.
- أن القرآن الكريم هو الرابط الوحيد – ولو ظاهراً – الذي يمكن أن يجمع بين السنة والشيعة كمرجع للاحتجاج. بينما لا رابط يجمع بيننا وبينهم من الحديث أو التفسير، أو غيرهما. فلا نحن نؤمن بمروياتهم، ولا هم يؤمنون بمروياتنا. وكذلك التفسير، وآراء العلماء.
قد يقال: إن الشيعة يعتقدون بتحريف القرآن. أو لا يعتقدون في الأصول بغير مرجعية العقل. وهذا صحيح، لكن ثمة تفصيل يفيدنا. وهو أن هذا شيء لا يستطيع علماؤهم أن يصرحوا به علناً أمام الناس، إنما – في هذه الحال – يقرون بصحة القرآن، وينكرون قولهم الآخر؛ فيمكن لنا أن نلزمهم الحجة أمام الجمهور من خلال نصوصه المحكمة. كما أنهم يتخوفون من التصريح لعوامهم بأنهم لا يرجعون إلى القرآن في إثبات أصولهم، وإنما إلى العقل وحده. وهذا شيء ينفعنا عند دعوة هؤلاء العوام، أو محاججتهم. ثم إن كثيراً من هؤلاء العوام لا يعتقدون أصلاً بهذه العقيدة الفاسدة، بل لا يعلمون أنها عقيدة مسلّمة لدى علمائهم. فيبقى القرآن الكريم هو الرابط الوحيد الذي يمكن أن يجمع بيننا وبينهم عند دعوتهم أو محاججتهم.
أما ضمن مجتمعنا السني، فلنا أن نرجع إلى السنة النبوية الشريفة، وإلى أقوال العلماء المعتبرين وهذا في غير الأصول – ما دام الاتفاق حاصلاً على ذلك كله كمرجعية مسلَّمة. على أننا نظل نؤكد على ضرورة ربط الناس بمحكم القرآن، وإعطاء هذا الأمر أولوية خاصة؛ لأسباب كثيرة ليس هذا موضعها.
ب. بيان خطر الشيعة والتشيع
2. بيان خطر الشيعة والتشيع
يتركز المحور الثاني للموضوعات الأساسية التي تتطلب المواجهة التغييرية طرحها، حول بيان خطر الشيعة وخطر دينهم (التشيع)، وفضح أباطيلهم وتعرية خزعبلاتهم. إن هذا يسهم إسهاماً فعالاً ومباشراً في تحصين أهل السنة، وتحصيل الوعي بينهم، وإثارتهم نحو هذا الخطر، وإخراج مكامن القوة والعمل السليم باتجاه الهدف. ينتظم ذلك تحت قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
جوانب الخطر الشيعي
علينا أن نبين لقومنا أن التشيع مشكلة خطيرة، هي من كبريات المشاكل الدينية والسياسية والاجتماعية، لاسيما في بلدنا (العراق). وليس هذا الخطر قاصراً على الدين فحسب. بل هو خطر عميم وشر مستطير يجتاح الدين، والأخلاق، والسياسة، والاقتصاد، والوطنية، وكيان الأمة ومفاهيمها، وقيمها وثوابتها. فالتصدي له ضرورة حتمية من أجل إنقاذ هذه القيم جميعاً.
التشيع:
- طقوس تعطل الحياة
- وعقائد تعطل الدين
- ودين يعطل العقل
- وعقل يدمر نفسه
- ومشاعر تفسد النفس
لست في مقام الشرح والتفصيل. وإنما في بيان المهمات الأساسية. والشرح يأتي في وقته ومحله بإذن الله. فأقف الآن وقفات سريعة وأساسية حيال الخطر الشيعي على أهم جوانب الدين ومفاصل المجتمع:
1. الدين: التشيع دين أراد له واضعوه أن يكون ديناً بديلاً عن الإسلام. ويكفي في هذا المقام أن تذكر بعض العناوين الرئيسة لهذا الدين: الإمامة، العصمة، تقليد المرجع، اتخاذه رباً من دون الله، تحريف القرآن، إنكار السنة، تكفير الصحابة، الخمس، المتعة.. حتى ترى الصورة البشعة التي هو عليها!
- الأخلاق والمجتمع: التقية – مثلاً – عند الشيعة تدرب صاحبها على الكذب وتروضه على الخداع. ونكاح المتعة ينشر الرذيلة والفاحشة، ويسقط أخلاق المرأة والرجل، ويفكك الأسرة، ويكثر به اللقطاء، وتنتشر الأمراض. وإباحة أموال الآخر – لا سيما السنة – تعلمه السرقة والخيانة. وتكفيره وإباحة دمه وعرضه تنشر الفتن والمقاتل والحروب، وتجعل الشيعة يشعرون بالعزلة، ويطبقونها واقعاً. وتقليد المرجع وتقديسه يجعل الشيعي ذليلاً مهيناً متمسكناً. وأكل أموال الناس باسم الخمس وغيره يجعل المال دولة بين المراجع وعوائلهم ويفسد أبناءهم، ويجعل من الدين مهنة، والعمامة زياً (رسمياً) لها. ولهذا يحرص هؤلاء على لبس العمامة – رغم فراغها وخوائها – حرصهم على أرواحهم. وبهذا صار الشيعة طبقات مفككة متناحرة.
هل هناك أفسد وأخطر من فرد أو جماعة تتمتع بكل هذا الشذوذ من الأخلاق؟! فإذا علمت أن دين الشيعة يبيح لأتباعه عمل ما يشاءون من الذنوب والجرائم، دون أن يتحملوا تبعتها يوم القيامة ما داموا يدينون بـ(ولاية أهل البيت)! أدركت ماذا يمكن أن يكون حالهم في الواقع؟! وخطرهم على المجتمع؟!!!
- الاقتصاد: الشيعي لا يشعر بالانتماء إلا إلى طائفته، فإذا استوطن مجتمعاً يخالفه فإنه سيكون معول هدم وتخريب لاقتصاده؛ لأنه لا يفكر إلا في نهبه وسرقته. فإذا سيطر عليه سيكون الفساد والسرقة بالكتل المليارية. وواقع العراق اليوم يشهد بوضوح تام على هذه الحقيقة.
- السياسة: الشيعي في أي قطر تلزمه عقيدته باعتبار المرجع الديني هو (الحاكم الأعلى)، الذي يرجع إليه في شؤون دينه ودنياه، ومنها السياسة، واعتبار الشيعة في ذلك القطر هم شعبه الذي ينتمي إليه دون غيرهم، مع عدم الاعتراف بحق الوجود والحياة والملكية لذلك الغير. وبهذا يكون الشيعة في أي دولة (دولة داخل دولة). وهذه حالة شاذة تمثل أخطر علاقة سياسية اجتماعية في العالم. كما تلزم تلك العقيدة الشيعي بتكفير الحاكم غير الشيعي، ووجوب عصيانه والانقلاب عليه، وسرقة أموال الدولة، وتخريب ممتلكاتها. وإذا دخل الشيعة حزباً أو مؤسسة من مؤسساتها فلتجويفها ونخرها من الداخل. كما فعلوا مع حزب البعث، ودوائر الأمن والمخابرات ومؤسسة الجيش السابق في العراق. وإذا شعروا بالقوة مارسوا العنف ضد الدولة، كما هو حالهم في البحرين اليوم، ويتطلعون إلى مثلها في الكويت وغيرها من دول الخليج. كما تلزمهم هذه العقيدة بتكفير المجتمع الذي يعيشون فيه، واعتباره مجتمعاً معادياً يجب تحطيمه بأي وسيلة. ومن هنا يجنح الشيعة دوماً إلى التآمر مع الأجنبي ضد البلد الذي يعيشون فيه، كما فعلوا بالعراق سابقاً، ولاحقاً.
- كيان الأمة وتاريخها وقيمها وثوابتها: لا أراني – بعد الذي ذكرته آنفاً – في حاجة إلى الوقوف عنده؛ حتى لا يطول بنا المقام.
التعايش مع الشيعة
يبرز هنا اعتراض شائع، مُفاده: الشيعة طائفة كبيرة في العراق، ويستحيل علينا أن نلغيهم من الوجود؛ فلا بد من التعايش معهم. وما تقوله يلغي هذا الخيار، الذي لا خيار سواه، من الأساس.
وأقول: المشكلة أن بعض (الحلول) هي في حقيقتها عبارة عن هروب من الحل، أو قفز على المشكلة، ومحاولة حلها بعدم مواجهتها؛ تنصلاً من تحمل تبعات الحل الحقيقي، وتهرباً من دفع ثمنه.
لقد قلت ما قلته تشخيصاً للداء، وتقريراً لواقع موجود. فإن كان ما قلته صحيحاً، فليس ذنباً أن أنطق حقاً، وأقول صدقاً. إنما الذنب ذنب من يتجاهل الحق، ويزعجه الصدق. وإن لم يكن الأمر كذلك فيكن الاعتراض مبنياً على أن ما أقوله غير صحيح. وعندها يأخذ النقاش منحى آخر.
إن هذا الذي أقوله هو الحقيقة عينها. ومما يدل على حقيقته الاعتراض المذكور. وما أقوله لا يلغي مبدأ التعايش. بل هو الذي يوجده ويثبته؛ لأنه يجعله قائماً على ركن ركين، ويبنيه على أساس مكين. لا على الوهم، والمجاملات الزائفة والمداهنات الخاطئة الكاذبة. التي لا يحرص عليها سوى المنتفعين والنفعيين من أهل السياسة، أو الواهمين الحالمين من ذوي القلوب (الطيبة) والعقول الساذجة.
أنا لا أقول هذا لأنني لا أؤمن بالتعايش واقعاً، أو لا أريده بدايةً. إنما أريد أن أقول: إذا كنا مضطرين للتعايش، فلا يعني هذا أننا نقبل به على أية حال. حتى حال الذل والمسكنة والهوان. ولا يلزمنا هذا بدخول الساحة كالعميان، دون أخذ العدة، وتوفير الشروط اللازمة لصحة الأمر وثباته ودوامه.
إن التعايش بين طائفتين كعقد البيع والشراء، أو الزواج بين اثنين: يعد باطلاً وغير ممكن التحقيق ما لم تكن الرغبة والموافقة حاصلة بين الطرفين. وما لم يتسلم كل طرف حقه المنصوص عليه في العقد.
موانع التعايش
أربعة موانع تحول بين الشيعة والتعايش مع السنة:
- العقدة، وأهمها (الشعور العميق بالاضطهاد) تجاه السنة؛ ما يدفعهم للانفجار والثأر والانتقام على الدوام.
- العقيدة، وعلى رأسها (الإمامة)، التي تلزم الشيعة بقتل السنة كفراً محاربين، واستباحة أموالهم غنائم، وأعراضهم سبايا.
- التقليد كعقيدة عند الشيعي يلزمه بتقديس قول المرجع الديني لزوماً يخرجه إن خالف من الملة. والمرجع مرتبط بإيران، وإيران تدفعه إلى الثورة والعدوان.
- الولاء لإيران. وليس من مصلحة إيران تعايش الشيعة مع السنة.
هذه أهم الموانع التي تحول بين الشيعة والتعايش مع السنة. وكل واحد منها يمثل عائقاً مستحيل الاجتياز؛ لأنه يُعدِم عند الشيعي إرادة ذلك من الأساس، وتجعل فكره محصوراً في كيفية طرد السني، أو تهميشه والسيطرة عليه. والوضع في العراق اليوم شاهد صارخ على هذه الحقيقة.
في المناطق والدول التي يضعف أو يقل وجود الشيعة فيها، تجد الشيعي يتبع أسلوب التمسكن والتمظلم، طارحاً شعارات الأخوة والحوار والتقارب والتعايش والدين الواحد، وما إلى ذلك. لكنه ما إن يتمكن حتى يتنكر لذلك كله. وإيران – والعراق أيضاً – يشهد على صحة هذه الحقيقة. لقد تنكر الخميني لوعوده لقادة أهل السنة، وجازاهم جزاء سنمار. يكفي أن يُعلم أن طهران لا وجود لمسجد سني واحد فيها، مع سبق المنع والإصرار. وكذلك فعل قادة الأحزاب الشيعية في العراق مع أهل السنة، الذين صدَّقوا وعودهم، ولم يعتبروا بغيرهم.
الشيعي لا رغبة لديه في التعايش، ما لم يكن مضطراً أو ملجأً إلجاءً إليه.
نعم ليس الشيعة كلهم هكذا. ولكن هؤلاء المخالفين قلة غير مؤثرة؛ فلا يمكن أن نعول عليها كثيراً، ولا قليلاً. إلا في الجانب الدعوي، أو محاولة استثمارهم، والأخذ بأيديهم نحو المقاصد الخيرة. دون أن نفرط بأخذ الاحتياط الواجب في امتلاك القوة، التي هي الأساس الوحيد للتعايش المنشود.
وعلى هذا الأساس لا مهرب لنا – إذا أردنا التعايش مع الشيعة – من امتلاك القوة، وأن نكون نحن الحاكمين؛ لنمنع الشيعة من تدميرنا، وتدمير أنفسهم معنا. يجب علينا أن نكون أرحم بأنفسنا من أن ندعها بأيدي السفهاء يلعبون بها. وأن يعلم السفهاء أننا بذلك نكون أرحم بهم من أنفسهم عليها.
ولكن لهذا الحل مقتلاً ليس من السهل بل ولا الممكن تفاديه! ألا وهو عدم وجود ضمان دائم ببقاء القوة في يد السنة. كما حصل لنا في العراق سنة 2003، وانهدمت دولة استمرت (82) سنة رغم امتلاكها القوة.
إذن امتلاك القوة وحده لا يكفي، ما لم يكن معه الضمان باستمرار امتلاكها. وهذا مستحيل. فما الحل؟
لا أجد حلاً لهذه المعضلة سوى الانحياز عن الشيعة بإحدى طريقتين:
- إما الفدرالية وتكوين الإقليم السني. وهذا خيار محفوف بالمنغصات.
- أو الانفصال التام.
-
إنكار أباطيل الشيعة
يفرض علينا المنهج الرباني في الكتاب والسنة عند تنزيله على الشيعة أن نتناول أباطيلهم بالفضح والإنكار والعلاج بتفاصيلها، صراحة ومواجهة. مثل تحريف الكتاب و(التقية) والتلون والنفاق، وعدم علم عامتهموعلمائهم بالقرآن والسنة، وأكل أموال الناس بالباطل باسم (الخمس) وما يسمونه زوراً بـ(الحقوق الشرعية)، وادعاء النجاة في الآخرة مهما اجترحوا من كبائر، والتقليد الأعمى لرجال دينهم واتخاذهم أرباباً من دون الله. إضافة لقتل دعاة الحق، واستحلال أموال المخالفين ونقض عهودهم ، وغيرها وغيرها من المنكرات والأباطيل الشائعة بينهم.
-
عرض المخازي التاريخية للشيعة
في سورة (البقرة) وكثير من آيات الكتاب الكريم عرض تفصيلي لتاريخ اليهود ومخازيهم على مدى العصور. وفي هذا درس قرآني عظيم أن من شمخ بأنف قائم على تاريخ مخزٍ فإن المجاملة لا تنفع معه بل ينبغي أن يدمغ بذلك التاريخ ليعرف حقيقة نفسه ويرى أن الناس يعرفونه على حقيقته، فيردعه ذلك ويجعله يعيش حالة من الشعور بالنقص والصغار، أو- على الأقل- يتأدب وهو يتعامل مع الأتقياء الأطهار.
قارن هذا بتاريخ مساحته أربعة عشر قرناً من المخـازي والآثام، يحمله الشيعة على ظهورهم ابتداءً بقتل عمر وعثمان وعلي وظهور عبد الله بن سبأ والحركات الباطنية الهدامة على مر التاريخ، واستمر وهو يتضخم بالمخازي والآثام إلى يومنا هذا في عامنا هذا في بلدنا هذا الذي يلعنون فيه (خير أمة أخرجت للناس) ويطعنون بأشرف نسوة كن في بيت ويدعون تحريف الكتاب والسنة. ناهيك عن أكل أموال الناس بالباطل واستحلال الكذب والدجل والعمل (بالتقية) أي النفاق وهتك ستر المحصنات تحت لافتة (المتعة) أي الزنا باسم الشرع. وآخر مخازيهم جلبهم الغزاة إلى العراق وخدمتهم والتعاون معهم على أبنائه الشرفاء. ثم هم مع كل هذه الخزايا والدنايا يشمخون بأنوف ترعد، ويطلقون على أهل السنة اسم (أبناء العامة) أي أنهم أبناء الخاصة! تماماً كاليهود الذين مع خزاياهم ودناياهم يدعون أهم (شعب الله المختار) وأنهم (أبناء الله وأحباؤه).
عرض مخازي الشيعة التاريخية على مر العهود والعصور، وفضح تزويرهم للتاريخ من صلب المنهج الرباني الذي نتبعه في معركتنا مع إيران وشيعتها.
-
تجريد الشيعة من الانتساب المزيف إلى ( أهل البيت )
لا تجد جماعة مبطلة إلا وتتعلق برمز صالح من الأقدمين، تنتسب إليه، وتستمد مشروعيتها من هذا الانتساب المزور. إن فضح هذا الزيف ضرورة من ضرورات إضعاف أهل الباطل؛ لأنه يسحب بساط المشروعية التي يعتاشون عليها، ويستمدون بقاءهم واستمرارهم من خلالها. لذا يؤكد القرآن الكريم على قطع هذه الصلة بين أهل الباطل ورموزهم الصالحة التي يدّعون الانتساب إليها من الأنبياء وغيرهم من الصالحين. كما قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران:67). وقال: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:68) .
يعتمد التشيع الفارسي في بقائه على ادعائه الانتساب إلى (أهل البيت)، ويستمد قوته وأسباب وجوده واستمراره من هذه الدعوى. فتجريده منها يسحب البساط من تحته ويظهر وجهه الكالح على حقيقته. وهو ما يلزمنا به المنهج القرآني. أما الاقتصار على مدح علي t فهو اعتراف ضمني بصحة تلك النسبة المزيفة، وهو منهج المنهزمين البائسين. وقد آن الأوان لأن نضرب على يد أولئك الحمقى المنهزمين كي ينتهوا عن هذا العبث.
تجريد الشيعة من حق الانتساب إلى (أهل البيت العلوي أو النبوي). والبيان الواضح أن هذه مجرد دعوى وستار كاذب. وإيقاف جميع التهريجات السنية الرامية إلى التقرب إليهم من باب محاولة إثبات حب (أهل البيت) الفاشلة رغم تكرارها منذ مئات السنين.. ركن أصيل من أركان المنهج الأمثل في مواجهة الشيعة ووالانتصار عليهم والقضاء على خطرهم.
القسم الثاني: الركائز العملية
ثانياً : الركائز العملية
أ. منهج التغيير الجمعي ، والفرق بينه وبين منهج التغيير الفردي
أهم أسباب التغول الشيعي والفشل السني في مواجهته، الطريقة القاصرة المتبعة في التغيير؛ تقتصر على دعوة الفرد، وتكتفي بذلك دون الخطو باتجاه دعوة المجتمع الدعوة القادرة على تغييره جمعياً ككتلة متلازمة، لا كأفرادٍ في مجموعة مفككة، اعتماداً على أدوات وأساليب ومبادئ التغيير الجماعي، والتي تختلف عن أدوات وأساليب ومبادئ التغيير الفردي.
إن هذه الطريقة القاصرة تفترض أن (تغيير الفرد يؤدي إلى تغيير الأُسرة، وتغيير الأُسرة يؤدي إلى تغيير المجتمع). وهذه قاعدة في حاجة إلى مراجعة، وتنظير غير علمي طبقاً لمبادئ علم الاجتماع المجربة عملياً، بل المستخلصة أصلاً من الواقع العملي. فالمجتمع ليس حاصل جمع مجرد لمجموعة الأفراد الذين يكونونه. يغفل الأنظمة والتفاعلات التي تغير من طبيعة الفرد عندما يتصرف محكوماً بشخصيته الجمعية، عنه عندما يستحضر شخصيته الفردية.
نحن نهدف إلى تغيير المجتمع ككل، ولا نكتفي بتغيير الفرد، ولا نتوهم أن تغيير الأفراد سيؤدي لزوماً إلى تغيير المجتمع ذلك التغيير الكلي الجمعي. منهجنا إذن يقوم على مبادئ التغيير الجماعي، دون أن يغفل أهمية تغيير الأفراد. يتوضح صواب منهجنا ببيان الخطوط العامة التالية([1]):
المجتمع غير الفرد
يختلف الفرد عن المجتمع الذي يعيش فيه من حيث العقلية ومستوى الذكاء والنفسية، وحيثيات أخرى كثيرة، والمؤثرات أو المحركات المتعلقة بذلك كله. فقد يكون الفرد عاقلاً مثقفاً لا يؤمن بالخرافات، ويعيش في مجتمع خرافي متخلف. ويكون الفرد ذا نفسية متزنة مستقرة، ويعيش في مجتمع عاطفي متأزم ثوري السلوك. ومن هنا أطلق علماء النفس مصطلح (العقل الجمعي)، و(النفسية الجمعية) و(السلوك الجمعي)، وما شابه من المصطلحات؛ للتفريق بينها وبين ما يقابلها مما يخص الفرد، كما أن هناك (علم نفس أو سيكولوجية الجماهير) وهو يختلف عن (علم نفس أو سيكولوجية الفرد).
وهذا يقودنا – بطبيعة الحال – إلى الحقيقة الآتية: لا بد أن يكون الخطاب – بما فيه من مؤثرات ومحركات عقلية ونفسية – المتوجه إلى المجموع مختلفاً عن الخطاب المتوجه إلى الفرد.
السلوك الفردي والسلوك الجمعي
للفرد نوعان من السلوك: أحدهما يمثل سلوكه حين يتصرف كفرد بعيداً عن المجتمع أو أي مجموعة منه. والآخر حين يكون الفرد ضمن مجموع معين، أو حين يحسب سلوكه على المجموع، وتكون المسؤولية والتوصيف جماعياً لا فردياً.
فالجبان مع الشجعان يسلك سلوكاً شجاعاً. وقد ينهزم الشجاع مع المجموع المنهزم، لكنه قد يثبت إذا رأى أن الموقف يحسب عليه. ويتعرض الفرد وحده إلى ما يثير عاطفته كغناء أو أهزوجة، فلا تراه يتحرك، فإن كان مع حشد مستثار إذا أنت تراه قد استثير معهم. ومن هنا تأتي خطورة المظاهرات الحاشدة، وصعوبة السيطرة عليها؛ إذ ربما – في لحظة معينة – اندفع العقلاء مع الدهماء، فلا تكاد تفرق بين سلوك الطرفين. وهو ما يمكن أن يطلق عليه مصطلح (حاكمية المجموع). سواء كان المجموع هذا ديناً، أم طائفة، أم مذهباً، أم حزباً، أم حشداً، أم مجتمعاً أكبر.
مما ينبغي التنبيه عليه أن الفرد قد يسلك السلوك الجمعي هذا وإن كان وحده، متى ما كان تحت تأثير المجموع بأي صورة من الصور! وهو ما يمكن أن نسميه (التأثير الجمعي عن بعد).
الفرد إذن له عقليتان، ونفسيتان، وسلوكان: عقلية فردية وأخرى جمعية. ونفسية فردية وأخرى جمعية. وسلوك فردي وآخر جماعي.
ومن هنا لا بد أن يكون لنا نوعان من الخطاب. لا نوع واحد.
قانونان : أحدهما لتغيير الفرد ، والآخر لتغيير المجتمع
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي والأساليب الفردية المحدودة. والحوار لا يلزم – كما هو شائع خطأً – أسلوباً واحداً. وإنما يتنوع: فلربما نحى منحى الطرح المباشر: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37). وربما نحى منحى الطرح غير المباشر: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ:24)
وقد يلين: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) (مريم:45) وقد يشتد: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء:102). وذلك كله حسب ما تقتضيه الحال. والسعيد من وفقه الله تعالى لحسن الاختيار.
وقد يسلك مسلك الحجج العقلية أو المنطقية، إذا كان المخاطب ذكياً عاقلاً مثقفاً، طالباً للحق، متبعاً للحجة. وقد يسلك مسلك المؤثرات النفسية والمداراة العقلية، إن كان المخاطب بسيط التفكير، أو ساذجاً.
وقد يتحول الحوار إلى جدل. والجدل نوعان: أحدهما (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مع من التزم حدود الأدب. أما سيئ الخلق فله أسلوب آخر: (إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت:46). بَيْدَ أن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولن يتأثر به، ما لم نتخذ إليه وسائله الصحيحة، وأدواته الصالحة لذلك. وأهمها الصدع المؤكد المكرر العلني بالحقيقة بشقيها: كشفاً عن الحق تارة، وتعرية للباطل تارة أخرى. ويستغرق زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة.
إن المحاججات العقلية الباردة لا تغير المجتمع.
والتردد في قول الحقيقة، والدوران حولها دون الطرح الصريح الواضح المباشر، لا يمكن أبداً أن يبلغ هدفه من العقل الجمعي للجمهور. على العكس سيعطي انطباعاً لديهم أن المتكلم خائف جبان متردد؛ ولولا أنه على باطل لما كان كذلك.
لا بد إذن من الجزم الصريح المعلن من صاحب الحق أنه على حق، وأن الآخر على باطل. ولا بد أن يستصحب هذا النوع من الخطاب المؤثرات النفسية التي تبلغ به عقول ونفوس الجمهور.
إن المجتمع لا يتغير بالحجة والمنطق، ما لم تنقع له في إدام المؤثرات والمحركات والإيحاءات العاطفية. وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام جميعاً يفعلون. ولن تجد في تاريخ الدعوات الدينية أحداً تمكن من تغيير المجتمع من دون اتباع هذا الأسلوب بشقيه متلازمين: الصراحة العلنية الجازمة المؤكدة المستمرة، والمؤثرات النفسية.
إن العقل الجمعي للمجتمع لا يتغير قط إلا بهذا الأسلوب الذي يجعله يتأثر ويستجيب – بوعي وبلا وعي، وشيئاً فشيئاً- لدواعي الحق الذي تتغلغل فقراته على مدى الزمن المطلوب حتى يأتي يوم يكون فيه مهيأً للضربة الأخيرة فيسقط الجدار. وقد يكون سقوطه فجأة لطول ما تفاعلت فيه عوامل التغيير مثله كمثل بحيرة ماء تضرب أمواجها جداراً من طين، أو تحفر في ذراته شيئاً فشيئاً. إنه يتصدع – ولو ببطء – حتى يأتي يوم فينهار. وبهذا الأسلوب كذلك تمكن أهل الباطل من نشر أباطيلهم وخرافاتهم وزخارف أقاويلهم ونظرياتهم.
صحيح أن هذا الأسلوب يتسبب في نفرة المجتمع في بداية الأمر، وإثارة المشاكل كما حصل لرسول الله e. ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم جدواه. وليس العلاج بالترك والنكوص. ومن قال بذلك فإنه لا يعرف مراحل العلاج أو محطات السير باتجاه الهدف المطلوب.
إن من العلاج ما يثير السخونة أو الشعور بالمرارة أولاً. وقد يسبب التقيؤ أو انقلاب المزاج. ولكن الطبيب يقول: اصبر على هذه الآثار الجانبية، وإلا لن يحصل الشفاء. فالعلاج إذن بالصبر والمصابرة والمرابطة. المشكلة أن الكثيرين لا يريدون أن يتسببوا في مشكلة، ولا يتحملوا الآثار الجانبية للعلاج. ويجعلون من أي حالة عارضة غير مرغوبة دليلاً على الفشل.
وهذه عقبة ما لم نقتحمها ونتجاوزها لنذوق حلاوة عاقبتها فلن نصل إلى الهدف أبداً.
لا تعارض مع التغيير الفردي
إن تطبيق المنهج القرآني من أجل إحداث التغيير الجماعي أو الاجتماعي لا يتعارض مع الدعوة الفردية أو الحوار الخاص وتكوين العلاقات وعقد اللقاءات، كما يبدو لمن ينظر إلى الأمر من خارجه. فلكل أسلوبه ومجاله.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الأمرين، بحيث لم يجعل من أحدهما سبباً لإلغاء الآخر أو معارضته. ولم يقف إعلانه بالدعوة عائقا أمام تلك الحوارات واللقاءات.
على العكس فإن الصدع بالحق يحرك السواكن، ويثير العقول، ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله – كما أوصى ربنا – بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة – إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية؛ ما يعطي للأفراد فرصة أكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية. فالمنهج القرآني يكسب الفرد والمجتمع، أما المنهج الترضوي فيخسر المجتمع على وهم ربح الفرد. ولكن لا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج.
نزيد العدد أم نغير المجتمع؟
قد تؤدي المجاملة على حساب الحقائق المزعجة إلى كسب سريع لعدد من الأشخاص قلوا أم كثروا. هذا صحيح وواقع. وقد يغري هذا العدد البعض من (الدعاة) ويجعلهم يتوهمون النجاح دون أن ينتبهوا إلى أن الثمن المدفوع مقدما مقابل هذا النجاح الموهوم باهض جداً لا تعوضه كل الأرباح المتوهمة؛ لأنه هو المجتمع نفسه! فنكون قد ضيعنا الكل مقابل جزء لا قيمة له: لا من حيث الكمية، ولا من حيث النوعية.
أما الكمية: فما قيمة عشرة أشخاص أو مئة أو ألف أو أقل أو أكثر، في هذا المجتمع المتلاطم؟ إن هذا العدد يمكن الحصول عليه بوسائل أخرى أكثر (هدوءاً) وأبعد عن حصول المشاكل مثل تشجيع الزواج المبكر وتعدد الزوجات دونما داع لهذه الجهود المضنية المزعجة.
لقد تغير في العقود الأخيرة عشرات الآلاف من أفراد الشيعة، وتحولوا إلى سنة. فماذا تغير من المعادلة الاجتماعية؟ وهل أثرت هذه الأعداد على سير المعركة في العراق، أو خففت من المأساة شيئاً؟ لقد ظلت آثارها فردية. بينما كان الشيعة يركزون على التغيير الجماعي، وبالأساليب الجماعية، فغيروا من ديموغرافية بغداد، وواسط وبعقوبة وبابل والبصرة وبلد وتلعفر؛ فكان لذلك أكبر الآثار في الإضرار بأهل السنة، وسير المعركة في غير صالحهم([2]).
وأما من حيث النوعية فإن أغلب هؤلاء الأفراد لم يتغيروا إلى المستوى المطلوب. بل لا زالوا يعانون من رواسبهم القديمة التي يعجز المنهج الترضوي عن إزالتها. فهم معرضون للاهتزاز والارتكاس بمجرد أن يسمعوا كلمة الحق والحقيقة المزعجة.
أفنظل نكتم عنهم هذه الكلمة؟! فما قيمة الاجتماع على الباطل؟!
[1]– يمكن مراجعة تفصيلاتها في كتاب (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية).
[2]– كتبت هذا الكلام سنة 2001، أي قبل الاحتلال بعامين، في كتاب (لا بد من لعن الظلام).
تغيير المجتمع يبدأ من القمة بعد تكوين القاعدة
تغيير المجتمع يبدأ من القمة بعد تكوين القاعدة
بعد تكوين ثلة من الأفراد تصلح كقاعدة منظمة قائدة، ينبغي أن يتغير الاتجاه التغييري فيكون من الأعلى إلى الأسفل، أي اعتماد منهجية تغيير قادة ورؤساء ووجوه المجتمع، وأصحاب النفوذ والتأثير فيه، أو الإمساك بمصادر القوة مباشرة لممارسة التغيير. أما الاقتصار على الخطاب الفردي على طول الخط فلن يغير من وضع المجتمع شيئاً.
تشير التجارب التاريخية: الإسلامية وغير الإسلامية، إلى أن التغييرات الاجتماعية بدأت من تغيير الرأس الذي بيده الأمر: ملكاً كان أم أميراً أم شيخ قبيلة. لقد ركز النبي e على دعوة هؤلاء الرؤوس وبدأ بهم، بعد فترة قصيرة هيأ فيها ثلة صالحة لحمل الدعوة. وكان في المواسم يبحث عن رأس يحمله إلى قومه ليبلغ دعوة ربه. وكان بداية التمكين في المدينة إسلام شيخ الأوس سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير رضي الله عنهما. ثم صار النبي e يبعث الكتب للملوك وشيوخ القبائل. وحين خرجت جيوش المسلمين لتبليغ الرسالة كانت شروطهم: إما أن يسلم الرأس، أو يستسلم فيدفع الجزية ويكون خاضعاً لسلطان الإسلام. وإلا فالسيف هو الحكم بينهما. على أية حال أو شرط، في نهاية المطاف، يكون الأمر والحكم بيد المسلمين، ومن ثم يكون التغيير. وهكذا أسلمت المجتمعات المختلفة.
وانظر إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أين ابتدأ؟ لقد ابتدأ من شيخ القبيلة القوي. ولما تخلى عنه الأول، ذهب إلى شيخ قبيلة أخرى، ومن هناك كان التأسيس والمنطلق. والعكس صحيح. فالأندلس رجعت إلى الكفر بالطريقة نفسها. وتغيرت إيران من المجوسية إلى الإسلام، ومن الإسلام إلى التشيع. وهكذا تغيرت المجتمعات من الكفر إلى الإسلام وبالعكس، سواء بالفعل السلمي المدني أو العمل العسكري.
أما القول بأن التغيير يبدأ من الفرد فالأسرة فالمجتمع، فينبغي إعادة النظر فيه، لأخذ ما يصلح منه، وترك ما لا يصلح. فالمجتمع ليس حاصل جمع كمي أو عددي لما فيه من أفراد. إن التفاعل الاجتماعي تفاعل كيميائي لا فيزيائي. إن عنصر الفرد حين يكون في المجموع يحصل له من التغيير والذوبان في الشخصية الجمعية لذلك المجموع، ما يحصل لأي عنصر في الطبيعة عندما يتفاعل كيميائياً مع غيره من العناصر.
المجتمع ناتج تفاعل الأفراد والقوى الناظمة
أما القول بأن التغيير يبدأ من (الفرد فالأسرة فالمجتمع)، فينبغي إعادة النظر فيه لأخذ ما يصلح منه، وترك ما لا يصلح. فالمجتمع ليس حاصل جمع كمي أو عددي لما فيه من أفراد. إن المجتمع عبارة عن ناتج تفاعل بين شيئين أحدهما منظور والآخر مستور، هما:
- أفراد المجتمع
- الأنظمة والقوانين والأعراف والتقاليد والقوى الأخرى غير المنظورة: داخلية وخارجية.
هذه القوى مجتمعة تسلط ضغطاً على مكونات المجتمع من الأفراد والأسر فتصهرهم، وتجعلهم يتفاعلون فيما بينهم بحيث يكون حاصل التفاعل شيئاً آخر غير الفرد.
التفاعل الاجتماعي أشبه بالتفاعل الكيميائي، لا الفيزيائي، الذي ينتج عنه مركب يختلف كلياً في ذاته وخصائصه عن أي عنصر شارك في إنتاجه. فالماء – مثلاً – عبارة عن ناتج تفاعل كيميائي بين غاز الأوكسجين وغاز الهيدروجين. ولا يوجد أي شبه بين سائل الماء أو أي صفة من صفاته وبين أي عنصر من العنصرين الغازيين الذين تفاعلا فيما بينهما فتسببا في إنتاجه! إن عنصر الفرد حين يكون في المجموع يحصل له من التغيير والذوبان في الشخصية الجمعية لذلك المجموع، ما يحصل لأي عنصر في الطبيعة عندما يتفاعل كيميائياً مع غيره من العناصر.
الشيعة أكثر استخداماً للأساليب الجماعية
إن سر النجاح المطرد للشيعة على حساب تقهقر أهل السنة هو اعتماد الشيعة في نشر مذهبهم على الأساليب الجماعية في التغيير، دون أن يهملوا التعامل مع الأفراد.
من هذه الأساليب المعتمدة:
- أسلوب الدعاية والإشاعة، على طريقة غوبلز مدير دعاية هتلر: (اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس) الذي لا يعدو أن يكون قزماً قميئاً أمام عمالقة الكذب والدعاية الشيعية. ومن شواهد ذلك أسطورة بغض السنة لأهل البيت: كيف ثبتت في أذهان جمهور الشيعة، مع أنها لا أساس لها من الواقع البتة!!
- أسلوب الإيحاء باستعمال مثيرات العاطفة والخيال كالصور والتمثيل وما يسمى بـ(الشعائر الحسينية) من النواح واللطم الجماعي وما يسمى بـ(التشابيه) وهي قصص المآسي التي يمثلونها مسرحياً في الشوارع والساحات العامة في أيام معينة. واستعمال (الملايات) اللواتي يدرن على البيوت حيث تجتمع النساء فتقوم (الملاية) بقراءة أسطورة المقتل على مسامعهن بصوت حزين مع الضرب على الصدور، الذي يتطور إلى نواح ولطم وعويل.
- أسلوب الاستعراض، مثل مسيرات المشي على الأقدام إلى المراقد في مناسبات خاصة تتكرر على مدار السنة، خصوصاً في محرم وصفر. ومنه بناء القباب الزخرفة على المراقد، ورفع المنارات العالية لها.
- أسلوب الإعلان بدعوتهم بما فيها من أفكار شاذة وتهجم على الآخرين وتكفيرهم، مع أن أصل دعوتهم باطنية تعتمد على مبدأ (التقية)!
- أسلوب الهجوم المكشوف (ومنه السب والتشهير)، والابتعاد عن أسلوب الدفاع
- أسلوب التهجير والتطهير العرقي ومضايقة المخالفين من أهل السنة. وهذا قد حصل في إيران ولبنان والعراق وغيرها.
- أسلوب التخويف وإرهاب المخالف وتشكيل عصابات القتل والغدر والاغتيال على مر التاريخ. وبهذا أسكتوا الخصوم، وتسببوا في إصابتهم بعقدة (الرُّهاب Phobia) التي لم يسلم منها أشجع الرجال. وهي السبب في المجاملات والمداهنات السنية للشيعة. وهذا هو الذي أضاع الحق على عامة الناس، الذين لم يعودوا يدركون حقيقة الخطر ما داموا يسمعون من علمائهم عبارات التقريب الرنانة التي من أشهرها: (لا فرق بين شيعي وسني) وهي عبارة مجملة موهمة قد تسوغ في المزايدات السياسية، وليس في دائرة الدين القائمة على الوضوح والحق المبين. فسكت من سكت، وهاجر من هاجر. ومن بقي ذاب إلا من رحم، خصوصاً مع التضييق عليهم في أرزاقهم وأشغالهم. ومن أبرز الأمثلة الناجحة على هذا الأسلوب في تاريخ الشيعة ما فعله الصفويون في إيران، وقتلهم الذريع لأهل السنة وإرعابهم وتشريدهم حتى تحولت إيران بفعل هذا الأسلوب من دولة سنية إلى أخرى شيعية. ولم يشغلوا أنفسهم بأي نقاش علمي، أو مناظرة كلامية أو غيرها من الأساليب العقلانية التي لا نحسن غيرها، هذا والماء – كما يقال – يجري من تحتنا.
- أسلوب الهجرة والتوطين، أو الغزو السكاني الجماعي للمناطق السنية. فقضاء الزبير في البصرة لم تتغير صبغته السنية الصافية بسبب تحول أهله إلى شيعة، وإنما صار أهل الناصرية والعمارة وغيرهم يتحولون فيسكنون فيه بالجملة. وهكذا فبعد أن كان قضاء الزبير قبل أربعين سنة منطقة سنية مغلقة صار اليوم ما يقارب الأربعين بالمائة (40٪) من أهله شيعة. فهذا أسلوب تغييري جماعي ناجح غفلنا عنه وانشغلنا متفاخرين – بسذاجة نحسد عليها – بنتائج التغيير الفردي!
ونجح الشيعة في أسلوبهم هذا أيما نجاح خصوصاً في العاصمة بغداد قلب العراق وشريان العروبة النابض. فقبل خمسين عاماً لم تكن نسبة الشيعة في بغداد تتجاوز السدس ارتفعت النسبة اليوم إلى ما يتجاوز الثلث.
وبالأسلوب النفساني، لا العقلاني، تغير قضاء تلعفر في الموصل من أغلبية سنية شبه كاملة (أكثر من 95٪) في منتصف القرن الماضي، إلى أغلبية ضعيفة اليوم (70٪) وقد بدأ تشييعها في عام 1947 عندما استلم رئاسة الوزارة في العراق (محمد الصدر) والذي تسلم (عام 1949) رئاسة مجلس الأعيان.
والآن هل انتبهت إلى قصور النظرية القائلة: (نغير الفرد فالأسرة فالمجتمع)؟ وتبينت أن قاعدة للتغيير هي بالمقلوب: نغير المجتمع فيتغير الجميع؟
2. الأساليب والمبادئ الربانية في التغيير وبيان ( القضية )
ب. الأساليب والمبادئ الربانية في التغيير وبيان ( القضية )
الشيعة كمجموع – ننظر إليه كأي مجموع آخر – يسري عليه القانون العام في التغيير الجماعي كما يسري على غيره. أما إذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصياته النفسية والعقلية التي يفترق بها عن غيره فلا بد أن يؤثر ذلك في المعادلة؛ فنحتاج إلى تعديلات أو إضافات تتناسب وتلك الخصوصيات. وبناءً على هذا سنقسم الأساليب إلى صنفين:
الصنف الأول: يبحث في الأساليب والمبادئ العامة للتغيير
الصنف الثاني: يبحث في الأساليب والمبادئ الخاصة بالشيعة
وفيما يلي بيان هذين القسمين باختصار محيلاً التفصيل إلى الفصل الأخير من كتاب (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية):
الصنف الأول : الأساليب والمبادئ العامة
-
تبني مبدأ (القضية)
وجدت أغلب الناس – بمن فيهم كثير من المفكرين والمنظرين – ينظر إلى المسائل التي تشغله: دنيوية كانت أم دينية، نظرة جزئية تفكيكية. بمعنى أنه ينشغل بمسألة ما فيجعلها محط نظره ومحور اهتمامه وحركته ليهمل بقية المسائل. أو يعالج كل مسألة على حدة، دون أن يسلكها بخيط واحد، ويرجع بعضها إلى بعض. وهكذا يفعل كل فريق. وفي النهاية ينقسم المسلمون في البلد الواحد أقساماً غير متجانسة، تتنافر فيما بينها وتختلف تبعاً لاختلاف المسائل التي تبناها كل فريق على حدة دون اتفاق أو تنسيق. وهذا ما نهى الله عنه وذمه بقوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (المؤمنون:35). إن هذا يقطع المقتسمين أنفسهم ويحيلهم شيعاً وأحزاباً متنافرة كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14). فأخذ بعض الدين ونسيان بعضه يؤدي إلى هذه النتيجة المأساوية.
وللخروج من هذا المأزق لا بد من اللجوء إلى نظرية (القضية). فبها وحدها نتمكن من حل جميع الإشكالات، ونعطي جميع المسائل الممكنة ما يناسبها من اهتمام. إن نظرية (القضية) تعلمنا – نحن كربانيين – أن للدعوة محوراً هو المشكلة، أو المسألة الكبرى في الواقع المعين تدور حوله (القضية) استناداً إلى قاعدة التوحيد.
إن محورية الدعوة لا تعني أبدا إهمال المسائل الأخرى غير المحورية، وهي تقترب أو تبتعد عن المركز الذي تستقر فيه المسألة الكبرى وتتحرك لتكون هي محور الاهتمام أو (القضية). بل الأمر على العكس تماماً. فإن وضع اليد على المحور، وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة، أو مغلفة لا حراك فيها.
إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات العقد ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد. إن لكل دعوة قضية تنبع من واقعها تشد المسائل المطروحة كما يشد النظام حبات العقد فإذا انفقدت (القضية) انفرط عقد هذه المسائل وفقدت حيويتها وصارت بلا هدف يمكن تحقيقه من ورائها.
وبهذا يتبخر الاعتراض القائل بأن الدعوة لا يصح أن تحصر في قضية مواجهة التشيع أو المشروع الإيراني، وتهمل بقية القضايا. حيث قد أصبح واضحاً أن تبني هذه القضية لا يلغي أياً من القضايا المطلوبة، بل يمنحها الحيوية والحياة، ويجعلها تتحرك وتدور حول محور يمور بالفاعلية والحركة والنشاط :
فمن جعل التوحيد وتصحيح العقيدة غايته نقول له: إن هذا المطلب أول خطوة في طريق (القضية).
ومن جعل التقوى والتزكية القلبية شاغله نقول له: إن هذا هو لب التوحيد وعماد العقيدة.
ومن جعل العبادة هدفه ووجهته نقول له: إن (قضيتنا) لا يصلح لحملها إلا جيل عابد.
ومن جعل الجهاد طريقه ووسيلته قلنا له: لا (قضية) بلا جهاد، ولا جهاد بلا (قضية). وجهادنا أعظم الجهاد في الواقع الذي نعيشه لأنه يجاهد المنكر الأكبر والأصعب فيه.
ومن أراد حشد الناس وتأليفهم، وتنظيمهم في جماعة معينة، قلنا له: إن الحشد والجمع لا بد أن يكون من أجل (قضية)؛ فالقضية الحقيقية أعظم وسيلة لتحقيق هذه الغاية. فتبني هذه القضية تحل مشاكل العراق دينياً واجتماعيا وسياسياً.
ثم.. إن (قضيتنا) لا تنجح دون وعي بالسياسة والواقع وما يدور في العالم.
وتحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية وصيغ التعامل معها والسنن الكونية في التغيير. والى معرفة بالكتاب والسنة والسيرة والتاريخ والجغرافية كذلك. واللغة والعقائد والفرق. وإلى التعرف على الدسائس والمؤامرات وعلاقات الفرس باليهودية والصليبية.
ولا يحملها إلا وطني صادق وعروبي غيور، ضمن إطار الشريعة.
… وهكذا ما من مسألة ولا علم مهم أو ضروري إلا وتجد القضية في حاجة إليه، وتعطيه من الاهتمام ما يناسبه. فرق جوهري هو أن هذه المسائل والعلوم تكون حية متوهجة متحركة حين تكون في خدمة (القضية)، وميتة خامدة جامدة حين تنعزل منفردة على قارعة الطريق.
قانون ( القاعدة والمحور )
إن القاعدة التي انطلق منها الأنبياء عليهم السلام للإصلاح هي التوحيد. لكن محور حركتهم دار حول معالجة القضية الاجتماعية الكبرى. وقد مر بنا بيان هذا في موضوع (العقيدة). تأتي أهمية هذا القانون (القاعدة والمحور) مما يلي:
- قدرته على تحقيق تجانس الفكر والعمل؛ فتحل المشكلة الفكرية والعملية:
- فالخلاف الفكري ومثاله: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ) (البقرة: 189)، حله بالقضية: (وقاتلوا في سبيل الله) (البقرة:190).
- والفرقة الاجتماعية: (ولا تفرقوا) (آل عمران:103)، حلها بالقضية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (آل عمران:104).
وإلا فبفقدان القضية الجامعة يقع المجتمع في مطب الخلاف؛ بسبب التفات كل طائفة منه إلى مسألة معينة على حساب المسائل الأُخرى: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (المؤمنون:53). ثم ينزلق إلى نفق العداوة والتفرق كما قال تعالى: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) (المائدة:14).
- كيف يتحقق التجانس الفكري والعملي ؟
- إن (القضية) هي النظام أو السلك الذي يشد حبات عقد كل المسائل الاجتماعية المطلوب حلها، ليصنع منها تركيباً جميلاً مترابطاً. وبفقدان ذلك النظام أو انقطاع السلك تنفرط الحبات أو الخرز فلا يبقى هناك عقد.
- إن محورية القضية يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها قرباً وبعداً وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة أو مغلفة لا حراك فيها.
- لا بأس بتعدد القضايا بشرط الدوران في فلك القضية المركزية.
قضيتنا المركزية
ما هي قضيتنا نحن أهل العراق، وبقية المناطق أو الأقطار المشابهة؟
إننا في العراق نواجه – ومنذ فجر التاريخ – خطراً هو أكبر الأخطار بل هو مجمع الشر وأم الخبائث من الشرك والنفاق واستباحة الدماء والأموال والأعراض والطائفية والفرقة والتآمر والكيد والدس والاغتيال الفكري والجسدي والولاء للأجنبي والطعن في الكتاب والسنة والتاريخ والرموز…الخ. وقد استطاع أن يجند لصالحه الملايين.
هذا الخطر هو الشعوبية أو المجوسية المقنعة. إنه التشيع الفارسي أو الصفوي. إنه الغزو الشرقي قبل الغربي. فالوقوف بوجه هذا الخطر هو (قضيتنا) الأولى. وهي القضية التي نستطيع توجيه كل الجهود نظريا وعملياً علماء وعامة قادة وجماهير باتجاهها، وحشدها لحلها وعلاجها.
2. الصدع بالحق
2. الصدع بالحق
الإسلام دين جماعي. أي جاء لتغيير الجماعة قبل الفرد. والإسلام ليس علاقة قاصرة بين الفرد وربه، مجردة عن المجتمع، أو بعيدة عنه. نعم هو علاقة بين العبد أو الفرد وربه، ولكن من خلال المجتمع.
إذن جاء الإسلام لتغيير المجتمع، وتصدى لمخاطبته ككل، وليس لخطاب فرد أو مجموعة من الأفراد. لهذا اتجه الرسول e بدعوته إلى المجتمع، ولم يقتصر بها على الأفراد. فكان يصعد على جبل الصفا ويصيح في جموع قريش، ويغشاهم في نواديهم وأسواقهم، ومواسمهم. وهكذا فعل أصحابه رضي الله عنهم. ولم تشغله دعوته الفردية عن هذه المهمة الاجتماعية. بل سخر الأولى لخدمة الثانية.
إن منهج الإسلام التغييري الجماعي يقوم أول ما يقوم على الإعلان الواضح بالدعوة، والصدع المستمر – وبلا انقطاع – بالحق، وإنكار ما عليه المجتمع من باطل جهراً، دون الاكتفاء بطرح الأفكار في الزوايا الضيقة.
وكان ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تطبيقاً أميناً لما جاء في ذلك من توجيهات الوحي النازل عليه. كما قال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). وقال: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:2،1). وقال: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34). بهذا الأسلوب توصل نبينا من تغيير المجتمع. وبه تمكن أهل الباطل من نشر باطلهم.
إن السكوت وعدم الإعلان بالحقيقة الصريحة في وسط المجتمع خشية أن نفقد عدة أشخاص تربطنا معهم علاقة من أي نوع، أو جاءوا إلى المسجد القريب مثلاً يؤدي إلى أن يظل المجتمع سادراً في غيه، جاهلاً بحاله، مستمراً في ضلاله. لأنه لم يجد أو يسمع من يعرفه بالحق من الباطل.
إن الصدع بالحق يحرك السواكن ويثير العقول ويدفع النفوس باتجاه النقاش والجدل والحوار، الذي ينبغي أن نستثمره ونجعله – كما أوصى ربنا – بالحسنى وحسب الضوابط الشرعية. ويؤدي كذلك – وبقوة – إلى مراجعة الأفكار وإثارة الحوارات الذاتية والمثنوية مما يعطي للأفراد فرصة اكبر للوصول إلى الحقيقة مستقبلاً وتنشيط الدعوة الفردية كذلك.
لا بد إذن من التفريق بوضوح بين أسلوب الإعلان بالدعوة خطاباً للمجتمع، وبين الحوار الفردي في الزوايا الضيقة أو اللقاءات الخاصة أو عن طريق العلاقات الاجتماعية الفردية، الذي لن يؤدي – في أحسن أحوال – إلى أكثر من تغيير أفراد معدودين، مهما كثروا لن يحدثوا تأثيراً له وزنه في تغيير معادلة المجتمع المختلة، بالاتجاه الصحيح، نحو الهدف المطلوب.
3.التكرار والطرق المستمر
قد يتغير الفرد بالحوار الشخصي، والأساليب العقلانية في دوائر النقاش، وتبادل الآراء في اللقاءات الخاصة، والاجتماعات المحدودة. ولكن المجتمع سيظل في عزلة عن هذا التغيير. ولا يتأثر به إلى الحد الذي يمكن اعتباره جذرياً وشاملاً، ما لم يحصل الصدع بالفكرة مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
يقول د. علي الوردي: إن عيب البرهان المنطقي أنه لا يستطيع أن ينمي في النفس عقيدة. فالعقيدة بنت الإيحاء والتكرار. ولهذا السبب نجد وعاظنا ومفكرينا لا ينجحون في تبديل أخلاق الناس، أو تغيير عقائدهم إلا نادراً. فهم يحاولون دائماً أن يقنعوا الناس عن طريق الجدل، وإقامة الدليل، وما أشبه. هذا بينما الناس يسيرون في أمورهم الفكرية والاجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم. فهتلر لم يبعث في الأمة الألمانية تلك الحماسة، وذلك التعصب العجيب لآرائه بواسطة الإقناع المنطقي. إنما هو قد فعل ذلك بالإيحاء والتلقين والتكرار، وبواسطة الاحتفالات والاجتماعات والاستعراضات: حيث كانت الموسيقى تعزف، والأعوان تهتف، والرايات تخفق، والطيارات تملأ بهديرها الفضاء.
إن كلمةً تكرِّر قولهـا على نفسك مرة بعد مرة ، لقـادرة أن تطبـع في عقلك الباطن شيئاً مـن الإيمان بها قليلاً أو كثيراً. والإيمان يزلزل الجبال كما يقولون([1]).
4.التكامل
إن هذا التأثير – حتى يتم – يحتاج إلى تكامل دعوي يقترن فيه الصدع بالحق من قبل ما يكفي من الدعاة والكتاب والخطباء والإعلاميين والصحفيين والمفكرين والمحاضرين والسياسيين، وغيرهم من الذين يتقدمون الصفوف، بالحركة أمام الجمهور الواعي المساند، الحامل لـ(القضية)، بعد أن يكون قد أدرك أبعادها مسبقاً بواسطة أولئك المتقدمين. فالصدع بالحق لا بد أن يقترن بالحركة من قبل ذلك الجمهور نحو الآخر، متمثلة بالحوار الشخصي، وتقديم الوسائل البيانية من مثل الكتاب الهادف، والمطوية، والمنشور، والصحيفة والشريط المناسب: مسموعاً كان أم مرئياً، وغير ذلك من الوسائل. إن هذا كله ينشط التغيير الفردي ويكسب باستمرار مزيداً من الأنصار الحقيقيين، وليسوا أرقاما فارغة لا قيمة لها. وفي الوقت نفسه نكون قد قمنا بواجبنا تجاه المجتمع الذي نأمل أن يتغير باتجاه الهدف متى ما تكاملت فيه عناصر التغيير ضمن مدى معين من الزمن. فلا بد من مرور فترة زمنية يأخذ فيها التغيير مستحقه من النضج والتأثير.
إن أجزاء العمل التغييري كأجزاء العربة: المحرك، والإطارات، والجسم، والمِقود وبقية الأجزاء: ما لم تكتمل وتتكامل هذه كلها مع بعضها، لن تتحرك السيارة مهما كانت الأجزاء الأخرى متقنة وصالحة للعمل.
5.فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
من أسباب انتشار التشيع قلة المتصدين لفضحه وتعريته بتفاصيله التي هو عليها. على العكس! فلقد قعّد الدعاة في المنع من ذلك قواعد أشهرها:
- “بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة”
- و”بيان الحق كفيل بزوال الباطل”
- اعتماد الرفق مبدءاً متبعاً على طول الخط دون استثناء
فصار عندهم كل من تطرق إلى باطل الشيعة وخزعبلاتهم من المتشددين المتعنتين. وما دروا – أو دروا لا أدري – أن دين الله تعالى مبني على:
- تقديم مبدأ إنكار الباطل على بيان الحق.
- وبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
- وأن فضح الباطل جاء فيه أكثر تفصيلاً من بيان الحق. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل.
- وأن التمييز بين أهل الحق وأهل الباطل أصل من أصول التغيير (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37).
[1]– خوارق اللاشعور، ص128، الدكتور علي الوردي.
6. التأكيد على وجود عدو حقيقي ميداني
6. التأكيد على وجود عدو حقيقي ميداني
تتبين ضرورة اعتماد هذا المبدأ بعرض حقيقتين اجتماعيتين مهمتين، هما:
الحقيقة الأولى : الحب المجرد لا يكفي
الحب أساس الدين، ولكن هذا لا يكفي وحده لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. ومن أول سورة نزلت من القرآن العظيم كانت هذه القضية حاضرة فيه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى) (العلق:10،9). وما إن أهبط أبونا آدم عليه السلام إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
الحقيقة الثانية : وجود العدو سنة كونية
إن وجود العدو سنة من سنن الكون. وفي ذلك يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31). والسر في ذلك يتكشف من النظر في أمور منها:
- أن الإنسان إذا أمن خمد، وقل نشاطه واندفاعه. فإذا تعرض أمنه إلى الخطر تحرك وانطلق، وتفجرت طاقاته من مكامنها، وبحث عمن يعينه ويعزز أمنه وحياته؛ فتزداد القوة، ويحصل التماسك بين المجموع. وهذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. وتقرر الدراسات العلمية الحديثة أن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع([1]).
- تأكيد القرآن العظيم على أهمية تحديد الخصم، ووضوح صورته في ذاكرة المؤمنين، وإبراز خطره، والتلويح به دوماً أمام أعينهم. كما قال: (إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً) (النساء:101)، وقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً) (فاطر:6). كما أنه قال: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55).
لقد أجاد الخصوم دورهم في خدمة هذه المسألة العظيمة، والتلويح لشعوبهم وأتباعهم بخطر الأعداء والخصوم، من أجل تنفيذ مآربهم، وتحقيق أهدافهم، كما تفعل أمريكا اليوم. والحال لا يحتاج إلى شرح. كما أجاد أساطين الشيعة الدور في التلويح لشيعتهم بأن الخطر كل الخطر يأتي من ناحية العرب عموماً وأهل السنة خصوصاً. ولغتهم الخاصة غنية بالمصطلحات التي تعبر عن مقاصدهم مثل: نواصب، وهابيين، إرهابيين، تكفيريين، أُمويين وغيرها. هذا إن لم يذكروا أهل السنة باسمهم صراحة.
بينما فشل أهل السنة – في العراق خصوصاً – فشلاً تاريخياً ذريعاً في تجلية الخصم أو العدو الحقيقي الذي يهدد وجودهم، ويريد ابتلاعهم وتدمير هويتهم الدينية والقومية، بل والوطنية ! ألا وهو الشيعة، وإيران وذيولها.
إن هذا الفشل الغبي هو الذي خدر أهل السنة: خاصتهم وعامتهم، وساعد في تشتيت صفهم، وترسيخ تفككه، وضعف تماسكه.
السياسة اللادينية تسلك أسلوب ترهيب الجماهير من العدو المحدد، والسياسة الدينية أو الشرعية تسلك السبيل نفسه. وبهذا يتبين أن السنة لم يسلكوا لا سبيل السياسة البراغماتية، ولا سبيل السياسة الشرعية. وهذا هو المؤشر على عامة الحركات الدينية السنية في زماننا التي دخلت معترك السياسة. إن أساليبها قديمة، أو إنهم لا يحسنون تنزيل الصالح منها على مواردها.
ضرورة تحديد العدو بدقة
حتى تتم الاستفادة من هذا المبدأ (أي التأكيد على وجود العدو)، لا بد أن تتوفر في العدو المقصود ثلاثة شروط:
أ. أن يتم تحديده بدقة.
ب. أن يكون موجوداً ضمن الرقعة الجغرافية: إما في داخلها أو ما يليها.
جـ. في حالة تعدد الأعداء يكون هو الأخطر من بينهم، ثم ننزل حسب درجة الخطورة.
فمن غير الصواب أن يقال لسنة العراق: إن عدوك هو أميركا دون إيران، أو الذهاب إلى عدو خارج الميدان، وهو إسرائيل، بينما الشيعة هم العدو الذي يصول ويجول في الميدان. وبتطبيق الشروط الثلاثة السابقة يتبين لنا مايلي:
الشعوبية ( إيران والشيعة ) عدونا الأول
إن العدو الأول لنا في العراق، ومن كان على شاكلتنا في موقعه الجغرافي، هو الشعوبية متمثلة بإيران والشيعة. وعلى رأس الشيعة يأتي السيستاني وآل الخوئي وآل الحكيم وآل الصدر ومن اتبعهم وسار في فلكهم من الأحزاب الدينية وتلك المتظاهرة بالعلمانية. وهؤلاء يشكلون جمهور شيعة العراق، إلا استثناءات قليلة.
ونحن – إذ نقرر هذا – لا نهون من شأن الخطر الغربي، إنما نعيب على من يهون من شأن الخطر الشرقي، ويريدنا أن نصطف معه في رؤيته للعدو وأنه الغرب وإسرائيل وكفى. ونسيان هذا العدو أو التغافل عنه لا يقوم على رؤية منصفة، أو أسس علمية معتبرة: لا واقعية ولا تاريخية.
الانشطار الثقافي العربي إلى شرقي وغربي
ولتوضيح هذا العول في الميزان، والتطفيف في المكيال نقول:
تنشطر الثقافة العربية في موقفها إزاء الأعداء التاريخيين للأمة؛ تبعاً لموقعها الجغرافي إلى شطرين: شطر شرقي، وآخر غربي. ولكل منهما أولويته في تقييم وترتيب الأعداء.
الشطر شرقي يضم العراق ودول الخليج واليمن، والشطر غربي يضم الشام ومصر وباقي الدول العربية في إفريقيا.
- أما الشطر الشرقي فعدوه الأول إيران والشيعة. لكن طرأت عليه عوامل كثيرة تضافرت فيما بينها فجعلت ثقافته غائبة ومغيبة عن الواقع، تخضع لثقافة الشطر الغربي، وتكاد تذوب فيها؛ نتيجة للإعلام والدعاية وضعف القيادات، وعدم بروز قائد تاريخي أو قيادات ذات بعد فكري استراتيجي، سليمة النظرة، عميقة الفكر، مؤثرة في الجماهير، محركة لها.
- وأما الشطر الغربي فتغلب عليه ثقافة مشبعة بمعاداة الغرب الصليبي، إلى درجة الغيبوبة عن الخطر الشرقي الشعوبي. زاد من حدة هذه الثقافة ورسوخها وجود كيان إسرائيل في منتصف القرن الماضي، المحتضن والمدعوم من قبل الغرب. تتزعم هذا التوجه دولة مصر بثقلها الفكري والإعلامي، ومعها سوريا والإعلام الفلسطيني متدرعاً بمنزلة فلسطين في قلوب العرب والمسلمين. كل هذا وغيره أدى إلى طغيان الرؤية العربية الغربية وامتدادها حتى إنها ذوبت أو غمرت الثقافة العربية الشرقية في داخلها، فأصبحت الثقافة العربية في العموم ثقافة لا ترى عدواً غير الغرب وإسرائيل.
ثمة عوامل أُخرى مساعدة صبت في هذا المصب، يأتي على رأسها اعتبار الشيعة من (أهل القبلة)، ومنهم من اشتط فرأى أن الخلاف الشيعي خلاف فرعي مذهبي. وتبعاً لذلك كان إدخال إيران ضمن المنظومة الإسلامية تحصيل حاصل! وقد استغلت إيران ذلك أبشع استغلال فرفعت شعار القدس وتحرير فلسطين. وزادت فصار تتفضل على مرتزقة الفصائل الفلسطينية بكل أطيافها إلا القليل، وأكثره تغلب عليه الصبغة السلفية.
ومن هذه العوامل الثقافة اليسارية التي دخلت على الخط بواسطة الشيوعيين واليساريين الذين تحولوا فدخلوا في التنظيمات الإسلامية والقومية والعلمانية، وصاروا قادة فيها. وهؤلاء يحملون رواسب قوية من معاداة الغرب والإمبريالية الأمريكية، كان لها دورها في ترسيخ الثقافة الغربية.
وهكذا وجدنا أنفسنا نحن جيل الثمانينيات نكاد نختنق وسط هذه الدوامة التي تريد ابتلاعنا. وكان أحدنا كمن يصرخ في أنبوب واسع كبير، لا يرجع إليه منه غير الصدى والضجيج! حتى جاءت الأحداث الأخيرة ابتداءً من احتلال العراق، ومروراً بالثورة السورية التي كشفت المستور، وأعادت للثقافة العربية الشرقية روحها. ساعد على ذلك بعض القنوات الفضائية السلفية من قبل الحدث السوري، والتغطية الإعلامية للحدث من قبل الكثير من الفضائيات الأُخرى.
[1]– أساليب الإقناع ، ص54،63. جي. إي. براون، ترجمة د. عبد اللطيف الخياط.
فقه الهوية - مقدمة
فقه الهوية
مدخل
فقه النوازل (العلم المتعلق ببيان أحكام المسائل الواقعية والمستجدة) هو فقه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم من بعده ومن تبعهم بإحسان فـي القرون الفاضلة. وأشرفه نوعان:
الأول: الكليات والأصول والقواعد التي تندرج تحتها فروع كثيرة.
والثاني: ما تعلق منه بحاجة الناس ومصلحة المجتمع ومسيرته وصيرورته.
ولم يكن من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الفقه أن يشغل أصحابه بأحكام غير واقعية، أو مسائل فرعية بعيداً عن قواعدها الكلية. وأعظم ما يتجلى هذا الفقه في القرآن الكريم، الذي كانت آياته تتنزل حسب الوقائع التي تحدث في حياة الناس وتشغل اهتمامهم وتحقق مصالحهم وتحدد مسارهم ومصيرهم. ومن هنا ولد علم (أسباب النزول).
ثم بدأ الخلل يدب شيئاً فشيئاً حتى انتهى الفقه إلى وضعه الحالي، مجلدات من أحكام فرعية غالبها الأعم يدخل في باب (العلم الذي لا ينفع)، الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه! وصار مسمى الفقيه إذا أطلق ينصرف إلى ذلك الرجل المعمم الساكن المعزول عن الحياة وحركتها
وضجيجها. ولذلك هو بعيد – عادة – عن نوازل المجتمع، لا سيما تلك التي تترتب عليها تبعات ومسؤوليات تقلق سكونه وتقض مضجعه.
فـي العراق اليوم، والبلدان المشابهة، تتعرض هوية الأمة إلى عملية مسخ ومحو متعمد، ويعاني أهل السنة هناك من حركة تشييع خطيرة، إن لم يسارع أهل الشأن بتدارك الأمر فإن المستقبل لا يبشر بخير. والمشكلة الخطيرة أن عامة من يتسمَّون بـ(الفقهاء) أول المشاركين في هذه الخطيئة، فهم ما فتئوا يرددون عبارات وأحكاماً تدور حول وحدة الدين الشيعي والسني، وأنه لا فرق بين الشيعة والسنة من جميع الوجوه (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا) (الكهف:5).
فكانت (الهوية) من أهم النوازل في هذه المرحلة، التي ينبغي وضعها في مقدمة المسائل التي تتطلب فقهاً شمولياً متعدد الجوانب: شرعياً وسياسياً وتاريخياً وحالاً ومآلاً، ثم توعية الجمهور السني بكل ذلك.
وهو أمر نكل عنه أولئك (الفقهاء) الساكنون الجامدون. فتقدمنا بفضل الله متوكلين عليه مستمدين منه الهداية والتوفيق، فكتبنا هذه الورقات في (فقه الهوية). وما من شك في وجود ثغرات ونقص فيما كتبت؛ فهذا شأن كل جهد رائد، ومن طبيعة أي نتاج واعد.
لذلك أدعو ذوي الشأن إلى إغناء البحث في هذا الموضوع الخطير، والعمل على نشره في أوساط (أهل السنة والجماعة) في العراق وخارجه.
لا قضية بلا هوية
في الباحة الخلفية للمسجد النبوي الشريف، كنت أتمشى جيئة وذهاباً مع أحد الإخوة الفلسطينيين الذين هجرتهم المليشيات الشيعية من العراق، نتحدث عن همومنا المشتركة وكيفية مواجهتها. وجرنا الحديث إلى (الهوية السنية) والحاجة إلى الانضواء تحت رايتها، والتكلم باسمها كضرورة من ضرورات هذه المرحلة. قلت له:
– في عام 1948، العام الذي قسمت فيه فلسطين وتأسست (دولة إسرائيل)، كانت بلدان العرب ترزح تحت نير الاستعمار. فلو افترضنا أن الفلسطينيين لم يتكلموا بشيء اسمه (القضية الفلسطينية)؛ متوهمين أن ذلك يتعارض مع قضية الأمة العربية، فكانت مطالبهم كلها باسم العرب دون ذكر ما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم، والمطالبة بما لهم من حق: هل يمكن أن تكون لهم قضية يستحصلون بها ما يمكن أن يستحصل من حقوق، ويتلقون من دعم عربي وعالمي، وتقف معهم دول ومنظمات عالمية؟
قال: أبداً؛ فإن الحقوق الخاصة تحتاج لأخذها إلى اسم وهوية خاصة.
قلت: هذا هو السر فـي أن (السنة العرب) في العراق بذلوا أعظم الجهود والتضحيات، وتحملوا وحدهم ضريبة الغزو: احتلالاً وإجلاءً، لكنهم فـي النهاية لم يحصلوا على شيء! والسبب أن (السنة العرب) تكلموا وعملوا ودافعوا باسم (العراق) وليس باسمهم الخاص.
لم نجد مؤسسة أو حزباً أو هيئةً أو فصيلاً رفع راية (السنة العرب) وتكلم باسمها وتصرف على أساسها. بينما الشيعة تكلموا باسم الشيعة ورفعوا شعار المظلومية الشيعية، والكرد – كذلك – تكلموا باسم الكرد ورفعوا شعار المأساة الكردية. فحصل الطرفان على ما يريدان. أما نحن فبترت أطرافنا العليا والسفلى، ولم نحصل على ما نريد؛ لأنه لم يشاهد أحد لنا من راية ولم يسمع بهوية، سوى هوية العراق الذي سيطر عليه الشيعة اليوم، وصاروا يتكلمون باسمه فأصبحت الثمار السنية والشيعية كلها تسقط في سلة العراق.. أي في سلة الشيعة.
هل تعلم……. أن العراق بلعَنا نحن السنة العرب، وإذ بلع الشيعةُ العراقَ فقد صرنا نحن في بطن الشيعة كتحصيل حاصل. أما الكرد فبسبب من تمسكهم بهويتهم الخاصة لم يستطع الشيعة ابتلاعهم باسم العراق.
وهل تعلم…… عندما رفع السنة العرب هوية العراق العامة متناسين هويتهم الخاصة، ورفعوا صوتهم عالياً في المحافل الدولية عن (العراق المحتل)، وقاوموا الغزاة دفاعاً عن (العراق) وباسم (العراق)، تكون لدى العالم أجمع قريبه وبعيده انطباع مؤداه أن أزمة العراق تكمن فـي الاحتلال فإذا جلا عنهم عولجت الأزمة وانتهت المشكلة، بل هذا ما صرح به سنة العراق أنفسهم! فماذا ترتب على هذا الانطباع؟
لقد قرر المحتل الأمريكي الانسحاب من العراق، وأعلن عن اكتمال جلاء قواته بنهاية سنة 2011، وها هو يتهيأ لسحب آخر جنوده. إذن وصلت محنة العراق في تصور العالم إلى شوطها الأخير وقد قاربت نهايتها، وعندها سيغلق ملف مأساة العراق بعناوينه الرئيسة. حتى إن بعض الدول بدأت تأمر اللاجئين العراقيين فيها بالعودة إلى بلدهم. وهذا شاهد على صحة أن العالم يتصور أن محنة العراق تنتهي بانتهاء الاحتلال.
فهل هذه هي الحقيقة؟ هل انتهت محنة (السنة العرب) بانتهاء محنة (العراق) كما هو مفترض كنتيجة طبيعية لذلك؟ أم إن محنة (السنة العرب) الآن بدأت؟
ما عاد ( العراق ) يعبر عن ( السنة العرب ) ..!
والسؤال الجوهري: إذا كانت محنة العراق تزول بجلاء المحتل، فلماذا لا تزول محنة السنة بهذا الجلاء، أي بانتهاء محنة (العراق)؟
أليس معنى هذا أن (العراق) بمفهومه الحالي ما عاد في الواقع يمثل السنة أو يعبر عنهم؟ فعن أي عراق دافع السنة وقاموا المحتل وضحوا بخيرة شبابهم إذن؟
هناك شقاق حصل دون أن نشعر بين مفهوم (العراق) ومفهوم (السنة) بحيث أصبح العراق شيئاً آخر ليس (السنة العرب) من مكوناته، ولو كانوا كذلك لشملهم غُنمه كما عمَّهم غُرمه!
أما الغُرم فقد جلبناه على أنفسنا لتخلف ثقافتنا وتخلخل فكرنا. والغُنم فقد حرمنا منه؛ لأن الحقيقة تفرض نفسها، حقيقة أن (العراق) ما عاد يمثلنا.
فهل فطن السنة لهذه المفارقة الكارثية؟
وهل عندهم من فكر جديد يرسم معادلة جديدة لحل هذه المفارقة العجيبة؟! أم سيظلون غائبين في سمادير الكهوف الخربة لذلك الموروث الثقافي القديم والثقافة (الوطنية) البالية الخائبة؟ آن الأوان ليتحدث السنة العرب ويعملوا تحت عنوان (الهوية السنية) تخصيصاً، ولا يكتفوا بـ(الهوية العراقية) تعميماً.
إن جهود وتضحيات السنة لأكثر من ثماني سنين أريقت هدراً بسبب فقدان هذه الهوية التي من دونها لا يمكن جني ثمرة أي جهد لصالحهم.
جذور الهوية السنية
السنية .. بيـن الهوية السياسية والهوية الدينية
يتفاجأ كل من ألتقيهم من أهل السنة حين أقول: إن السنية هي الهوية السياسية الوحيدة التي تمثلنا نحن السنة العرب في العراق، وكل من هو في مثل حالنا من السنة خارج العراق! ومع إزالة أسباب المفاجأة عليك هنا أيضاً أن تجيب عن السؤال التالي: كيف تكون السنية هوية سياسية وهي لا تخرج عن دائرة المفهوم الديني؟!
حين تكون الهوية عاجزة ذاتياً عن تمثيلك في حفظ حقوقك، واسترجاع ما سُلب منها؛ فاعلم أنك وقعت على الهوية الخطأ. فسارع إلى نبذها ورفعِ الهوية الأنسب لوضعك.
وحين يكون حفظ الحقوق، فضلاً عن استرجاع المسلوب منهايكون بين طرفين متنازعين على مستوى دولة، تتحول الهوية إلى مفهوم سياسي.
ولأن حقوقنا – نحن السنة في كل بلد حكمه الشيعة ومن ورائهم إيران – سُلبت لا على مستوى صراع محدود في حي أو قرية أو مدينة، إنما على مستوى الوطن كله، ولم تكن الهوية العراقية سوى محامٍ فاشل ساهم في خسارة القضية؛ والسبب أن الهوية الوطنية في وسط صراع طرفه الأقوى طائفي ديني حد النخاع ليست هي الهوية السليمة. وإذ إن هوية هذا الطرف شيعية فالهوية المقابلة لها لا بد أن تكون سنية.
إذن السنية تمثل– في الصميم – هويتنا السياسية التي بها نحفظ حقوقنا ونسترد ما سلبه الشيعة منها. وليست السنية – وحال الصراع على ما وصفت – مجرد هوية دينية يستخسر الأكثرون فيها حتى من اعتبارها كذلك، إنما ينظرون إليها على أنها هوية طائفية! وفي الوقت الذي يغرق الشيعة في بحر الاستهتار بهويتهم الشيعية يتهموننا بالطائفية لمجرد الانتساب إليها من قبل قلة من أهل السنة! ويشاركهم الاتهام كثير من الداخل السني!! وشتان بين متهم مختلِق، وآخر مختنق؛ إما بجهله أو بنفاقه ومداهنته.
كلا أيها المنكرون .. المختلق منكم والمختنق!
إن هويتنا سنية. ونحن – لله الحمد – واعون بـ(فقه الهوية) إلى الحد الذي نعرف به متى تكون السنية هوية سياسية، ومتى تكون هوية دينية.
جذور الهوية السنية
ليست (الهوية السنية) بدعاً من القول، ولا هي طارئاً غريباً على عقيدة الأمة وفكرها وثقافتها. بل هي – بشقيها المتلازمين: (السنة) و(الجماعة) – تمثل العنوان الآخر الذي يعبر عن أمة الإسلام تمام التعبير. وجاء في الإرث التاريخي ما يفيد أن الهوية السنية ظهرت في زمن الصحابة y. وقد تداولتها أمة الإسلام عبر أجيالها المتتابعة. ولم يحدث أن نكلت عن هذا العنوان (أهل السنة والجماعة) إلا في زمن العَلمانية الطارئة وربيبتها (الوطنية) الساذجة.
ومن تتبع جذور هذه الهوية في تاريخ الإسلام يقف أمام علامة فارقة في تاريخ الهوية وكيف أنها مرتبطة بنوع التحدي، فهو الذي يفرضها ويظهرها، وهو الذي يمنحها عنوانها وسِمَتها.
ففـي البدء كان الصراع بين الإسلام وخصومه خارجياً، وهذا شيء طبيعي فـي مسيرة الدعوات، ثم بعد فترة ليست قصيرة بدأت الدوامات بالتكون داخل التيار. فكان الإسلام – قبل حدوث الصراعات الداخلية – هو الهوية المعبرة عن الأمة أمام خصومها؛ لأنهم كفار واضحو الكفر والوجهة. وكان هناك فسطاطان فقط: فسطاط الإسلام وفسطاط الكفر. فكان الإسلام هو الهوية الجامعة المانعة. ثم لما تحول جزء من الصراع العقائدي إلى الداخل الإسلامي جعلت الأمة تعبر عن نفسها وتشهر في وجه تلك التحديات الداخلية هوية داخلية إلى جانب الهوية الخارجية التي تعبر بها عن نفسها وتبرزها في وجه التحديات الخارجية.
تلخصت التحديات الداخلية بظهور فرقتين في عهد الصحابة هما: الخوارج والروافض. وكان أجلى ما يميز الطائفتين معاً: مخالفة السنة بالبدعة، والخروج على سلطان الأمة بالفرقة. فظهرت الحاجة إلى هوية داخلية تميزهم عن المخالفين للسنة المفارقين للجماعة، فاصطلح ذلك الجيل على هوية تسد تلك الحاجة، فكانت الهوية (أهل السنة والجماعة).
روى مسلم في مقدمة (صحيحه) عن ابن سيرين قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فيُـنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم)([1]). لم يقل: (ينظر إلى المسلمين…، وينظر إلى الكافرين…)؛ لأن اسم (الإسلامية) لا يحقق الغرض منه؛ إذ إن هؤلاء يندرجون تحت هوية الإسلام العامة؛ فلا يتم التميز به عن الطائفتين. على العكس من اسم (أهل السنة).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسـير قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيـَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْـوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران:106) قال: (يعني يومَ القيامة حين تبيضُّ وجوه أهل السنة والجماعة؛ وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدعة والفرقة)([2]).
المعنى العام والمعنى الخاص لـ( أهل السنة )
ويُراد بهذا الاسم (أهل السنة والجماعة) معنيان: معنى عام هم جميع المسلمين عدا الرافضة، ومعنى خاص هم أهل السنة المحضة. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة. وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة ، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول: إن القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة)([3]).
وبهذين المعنيين نؤسس لـ(هويتنا السنية)، كما أن كلا المعنيين مقصودان عندنا كلٌّ بحسب الحاجة والموقف: فأهل السنة فـي العراق اليوم مستهدفون جميعاً من قبل الشيعة وإيران دون تفريق بين مذهب ومذهب؛ فهنا يكون المعنى العام الذي يشمل جميع السنة هو مقصودنا بـ(أهل السنة والجماعة) أو (أهل السنة) أو (السنة). فتكون الهوية السنية اسماً جامعاً لكل السنة بجميع مذاهبهم، مانعاً لكل الشيعة بجميع طوائفهم. فمن قال: أنا سني وعمل تحت هذا العنوان فهو السني. ولكننا عند تبني المنهج السليم اعتقاداً ودعوة وإيماناً ونصرة، وعند تربية القيادات عليه وتهيئتهم لأخذ دورهم في قيادة المجتمع، وقبولهم في خاصة مشروعنا، نقصد المعنى الخاص حصراً.
[1]– ترك هذا المعيار منذ وقت مبكر بحجة أن إعماله يؤدي إلى ضياع كثير من الحديث!
[2]– شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة،1/72. الإمام هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي. ونقله عنه ابن كثير في تفسيره.
[3]– منهاج السنة النبوية (2/221).
الهوية الخاصة والهوية العامة
الهويةالخاصة والهوية العامة
تعدد الهويات
يرى كثيرون أن الانتساب للسنة والاحتماء بالهوية السنية نوع من الطائفية يتناقض مع الهوية العراقية. وهذا كلام غير دقيق، لا يستند إلى أساس علمي سوى الثقافة القديمة التي ما عادت تلبي حاجة التطورات الجديدة والتغيرات والتبدلات السياسية والاجتماعية. بل تحولت إلى عبء ثقيل، علينا أن نبادر إلى مراجعته والنظر فيه كي نطرح جانباً الضار منه، وما لم يعد نافعاً، وما لسنا في حاجة إليه، ونبقي على ما سوى ذلك، ثم نضيف إليه ما يتطلبه الواقع الجديد بمتغيراته وتبدلاته.
إن الهوية العامة أو الأكبر ليست في حاجة إلى إلغاء الهوية الخاصة أو الأصغر، متى ما روعيت الضوابط المطلوبة. فالهوية الشخصية لا تتعارض مع الهوية العائلية، والتحدث باسم العائلة لا يتناقض والانتسابَ إلى العشيرة، والهوية العشائرية لا تقف بالضد من الهوية الوطنية، إلا إذا خالفنا الضوابط المرعية. أي إن الأمر من حيث الأصل لا إشكال فيه.
هكذا لا حرج في تتعدد الهويات ما دامت ماضية فـي نسق متجانس باتجاه واحد: فالهوية العراقية لا تتضارب مع الهوية العربية، وكذلك الهوية العربية مع الهوية الإسلامية.
والناظر في الواقع يجدنا نؤمن بكل هذه الهويات ولا نشعر بالحرج من الجمع بينها، حتى إذا وصلنا إلى (الهوية السنية) بدأ مؤشر التناقض مع الهوية العراقية بالظهور على لوحة الأمان! ولا علة لهذه المفارقة الغريبة سوى الموروث الثقافي الجمعي أو الثقافة الجمعية القديمة.
حين يعمل أبناء العراق لمصلحة العراق، ويتكلمون باسمه، ويرفعون علماً خاصاً به، ويسنون دستوراً له، ويؤسسون المشاريع المختلفة لخدمته: لا يمكن لأحد أن يدعي أن هذا يتناقض مع الهوية العربية.. إلا إذا كان القصد مبيتاً لجعل الهوية القطرية عوضاً عن الهوية القومية. وكذلك العمل لأجل الأمة العربية وباسمها لا يقف حائلاً أمام العمل للأمة الإسلامية. بل إن هذا هو السياق الصحيح والتسلسل الطبيعي للأمور خصوصاً ما تعلق منها بالحركة والعمل. وهكذا الشأن مع العراقي غير العربي في ارتباطه بهويته القومية الخاصة به، والإسلامية التي تجمعه مع بقية المسلمين. كل ذلك لا حرج فيه.
صحيح أن الهوية الإسلامية أعلى مرتبة من الهوية القومية، وهذه أعلى من الهوية الوطنية. ولكن هذا من الناحية الاعتبارية الذهنية.
أما من الناحية العملية فالبدء لا يكون إلا من المحلية باتجاه العالمية، فالله تعالى يقول: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال:75). فما كل أول فـي المرتبة أول في الترتيب، ولا كل أول في المنزلة أول في التنزيل.
ولذلك قيل: (فكّر عالمياً وتصرّف محلياً). فالمحلية لا تتناقض مع العالمية، وإنما تُسندها وتساندها. بل إن نجاحك عالمياً لا يمكن تحقيقه قبل نجاحك محلياً. والقطر الضعيف المجزأ لا يمكن له العمل على توحيد الأمة – خارج نطاق الفكر والحلم – قبل لملمة أجزائه وإعادة تكوين ذاته واستعادة قوته. وفي مثل هذه الحالة يكون التوفيق بين الهويتين باتباع قاعدة: (فكر عربياً وتصرف قطرياً) هو الحل.
فكّر عراقياً وتصرّف سنياً
كذلك الحال بالنسبة لنا نحن (السنة العرب): علينا أن نتصرف سنياً أولاً إن كنا جادين في التفكير عراقياً. بذلك نجمع بين الأمرين. وهكذا نتجنب ما يبدو لأصحاب الثقافة القديمة من تناقض بين (السنية) و(العراقية). بل لا تناقض من الأساس كما أنه لا تناقض بين العراقية والعربية، ولا العربية والإسلامية، ولا هذه مع الإنسانية. بل لا يمكننا أن نشارك في تدعيم وحدة العراق المهددة قبل أن نلتفت إلى داخلنا السني نلملمه ونكونه ونقويه.
هذا مع ملاحظة أن الشيعة لا يمكن التعايش معهم حتى وإن كانت القوة بأيدينا؛ فإن دوام الحال من المحال، فلا بد من عزلهم فدرالياً على الأقل. هذا في الوقت الحاضر. ثم لكل حال ما يناسبه.
بين السنية والوطنية
جمعتنا ليلة رمضانية مع بعض القوميين، وكان اعتراضهم أن السنية تحجيم للعراقية، كيف نهتم بشأن السنة ونترك العراق كله؟ قلت لهم: منذ زمن طويل ونحن لا نسمع منكم غير كلمة “العراق العراق”! فأين الأمة العربية من اهتمامكم؟ فلنا أن نقول لكم بالمنطق نفسه: إن العراقية تحجيم للعربية، كيف نهتم بشأن العراق ونترك العرب كلهم؟ فأجاب أحدهم: ألا ترى حال العراق من التمزق والضياع؛ لا بد من علاج وضع العراق أولاً ثم نلتفت إلى الأمة. فأجبته: وكذلك الأمر مع أهل السنة؛ لا يمكن لنا أن نعالج وضع العراق أو نكون مشاركين فاعلين فيه ما لم نصحح وضعنا نحن السنة أولاً، ثم من بعد ذلك نلتفت إلى العراق.
لقد ضيع الإسلاميون العرب، وضيع القوميون العراق! أتدرون لماذا؟ لأنهم يعملون ضد منطق الاجتماع، فينطلقون من العالمية إلى المحلية، بينما المنطق يقتضي العكس من ذلك. عملياً لا يكون الانطلاق مجدياً ما لم يكن من المحلية إلى العالمية. ثبّت قدمك أولاً ثم انقل خطوتك.
وهكذا ضيع الطرفان المحلية والعالمية. فالإسلاميون لا يهمهم شأن العرب بقدر ما يهمهم شأن المسلمين، فضيعوا العرب والمسلمين معاً. وأما القوميون فلا يهمهم شأن العراقيين بقدر العرب فشغلوا أنفسهم وغيرهم بقضايا لم يأن أوانها بعد فضيعوا العراق والعرب معاً. ويأتي الوطنيون اليوم ليضيعوا السنة باسم الوطن! هذه مهزلة ما عادت مقبولة، ولن نتسامح معها قط. إنهم يقعون في المأزق نفسه: لا يهمهم شأن السنة بقدر العراق، فتكون الوطنية على حساب السنية، والنتيجة تضييع الجهتين. يكفينا تجربة القوميين والإسلاميين أيها الوطنيون! يكفينا مئة عام من الضياع.
وكان معي صاحب لي فأضاف: إذا كنتم كعلمانيين لا يهمكم أمر الدين وتعتبرون السنية طائفية، فهذا شأنكم. أما نحن فناس إسلاميون سنة فلا نسمح بالاستهانة بديننا وسنيتنا تحت أي حجة أو ذريعة.
حين تكون الهوية الخاصة مهددة من الهوية العامة
هناك عامل آخر في غاية الأهمية، هو أن الشعور بالهوية الخاصة والتحدث باسمها والتصرف على أساسها، يصبح ضرورة كضرورة الحياة حين تكون الهوية الأكبر نافية ومهدِّدة للهوية الأصغر.
فلو افترضنا أن عائلة ما اجتمعت على ظلم أحد أفرادها، وكانت تتوزع خيراتها -التي تحصل عليها باسم العائلة -فيما بينها دونه، ففي هذه الحالة يصبح من حق ذلك الفرد أن يعلن عن نفسه ويتكــلم باسمه، ويطالب الآخرين أن يفرزوا له باسمه الخاص حصته من الخيرات التي ما عاد يحصل عليها باسم العائلة العام. وكذلك لو اجتمعت عشيرة على ظلم بيت منها. والشيء نفسه مطلوب لو اجتمع مكون أكبر على ظلم عشيرة ومطاردتها ومحاولة محوها.. عند ذاك يصبح ترك الدفاع عن المكون الأصغر بحجة احترام المكون الأكبر نوعاً من الهبل والخبل والسذاجة التي لا يستحق صاحبها الاحترام، بل لا يستحق الحياة! ولو افترضنا أن العشيرة الظالمة لتلك العائلة وقع عليها ظلم وتعرضت لغزو أصابها بالضرر وطالبت بتعويض لها باسم العشيرة، وزعته على بيوتها دون ذلك البيت، وأن أفراد ذلك البيت طالبوا بتعويض العشيرة الظالمة لهم دون المطالبة بما لبيتهم من حصة باسمه، ثم لم يحصلوا على شيء، ومع ذلك ظلوا ملتزمين بالاسم الأكبر مع استمرار الظلم والسحق: فإن هؤلاء ليسوا أكثر من قطيع حمقى لا محل لهم إلا في الهامش السفلي من الحياة.
الهوية السنية .. أسباب الفقدان
الهوية السنية .. أسباب الفقدان
فقدان الهوية السنية
بالرغم من تعرض أهل السنة إلى الظلم والإقصاء الطائفي المعلن على يد الشيعة في البلدان التي يكثرون فيها كالعراق ولبنان، أو يسيطرون فيها على مقاليد الحكم كسوريا، لكن السنة إلى اليوم يعانون من فقدان (الهوية السنية) وتناسيها إلى حد الخجل من ذكرها، والتنصل من الانتماء إليها، ولم يدركوا سر قوتها وارتباط وجودهم بالإعلان عنها. السنة فقط هم الساكتون دون سواهم؛ فلا حرج اجتماعياً في أن يقول الشيعي: أنا شيعي، ويعتز بشيعيته، والكردي: أنا كردي، ويعتز بكرديته، والمسيحي والفيلي، وحتى اليزيدي. كما أن الانتماء إلى الهوية العشائرية أو العائلية لا يجد صاحبه تناشزاً فيه مع الهوية القطرية، ولا غضاضة لو جمع بين الهويتين السابقتين مع الهوية القومية، وفي الوقت نفسه ينتمي إلى الهوية الإسلامية، ولا يرى تناقضاً بين هذه الهويات مجتمعة، حتى إذا وصل الأمر إلى (السنة) بدأ مؤشر الخطر بالظهور!
العلة ثقافية لا موضوعية
في مئة السنة الماضية شاعت (الثقافة الوطنية) في أوساطنا، بحيث أصبحت نداً للهوية المذهبية التي أمست توصم بالطائفية. ومن أسباب ذلك أن حكام العراق – ومعظمهم سنة – وجدوا أنفسهم متورطين في معادلة اجتماعية صعبة الحل، وحكم دولة منقسمة على نفسها بين مكونات رئيسة ثلاثة (السنة والشيعة والكرد) انقساماً مزمناً لم يجدوا إزاءه علاجاً ناجعاً. وإذ عجزوا عن وضع حل سياسي متطور، لجأوا إلى حيلة ساذَجة هي الدعوى بأن العراق شعب واحد، وأن هذا (الشعب) أعظم من أن يفرقه دين أو مذهب أو عرق، وأكبر من أن يفكر في مثل هذه الأمور (الصغيرة). فلجأوا إلى المسكنات الظاهرية، ورفعوا شعار الوطن والمواطنة والوطنية، ولعلهم توهموا أن في تلك الشعارات يكمن الحل!
لقد عالجوا الموقف بعبور اللغم لا بتفكيكه وإزالته، فانفجر علينا سنة 2003! ولم يكن ذلك عن جهل منهم بطبيعة تكوين البلد فالملك فيصل الأول – مثلاً – يقول في مذكراته: (أقولها وقلبي ملآن أسى، إنه في اعتقادي لا يوجد شعب في العراق، إنما هناك تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية، مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمعهم جامعة، ميالون للفوضى، سماعون للسوء).
النتيجة أن العرب السنة هم الوحيدون الذين بلعوا الطعم، وتبنوا (الوطنية) بصدق: حكومة وشعباً؛ بسبب من شخصيتهم (الأبوية) التي
يتمتعون بها من الأصل، والتي تميل إلى الجمع وتنفر من التفرق؛ فهم ورثة حضارة وسليلو ملك ولديهم إرث تراكمي في القيادة والحكم يقدر بآلاف السنين. وقد حكموا دولاً وإمبراطوريات يشيع فيها التعدد العرقي والديني، تعاملوا معه بروح حضارية جاء الإسلام فرسخها وعززها بمثل قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
كيف حافظ الشيعة والكرد على هوياتهم الخاصة دون السنة
أما الشيعة والكرد فلم يتأثروا بتلك الشعارات؛ والسبب قوة الانتماء الطائفي لدى الشيعة بحيث أن البراء من السنة يشكل عندهم عقيدة لا يمكن التخلي عنها إلا في حالة واحدة هي الكفر. يسند هذا العامل العقائدي عامل نفسي متجذر لا يمكن قلعه بحال؛ فالشيعي يعاني من (المظلومية) تجاه السنة إلى حد (العقدة). هذا بالإضافة إلى عُقد أخرى متعددة وخطيرة كالثأر والانتقام والحقد والعدوانية.
فإذا أضفت إليها الولاء لإيران، ثم تقديس الشيعي للمرجع الذي يشحنه بالمعاني السابقة وتبعيته له، اكتملت سواتر الدفاع ضد الثقافة الوطنية، وتحولت إلى مجرد ادعاء يستعمله عند الحاجة ثم ينزعه، تساعده على هذه الازدواجية عقيدة (التقية).
وأما الكرد فقد كان التطلع إلى كيان قومي وتأسيس دولة كردية هو الهوية الطاغية على شعورهم، الجامعة لهم المانعة من الانسياق وراء الدعوات الوطنية؛ لأنهم أدركوا التناقض بين الهويتين. هكذا عمل الشيعة والكرد كلٌّ لخدمة كيانه في ظل هويته الخاصة.
وحتى يتجنب الحكام والسياسيون إثارة الطائفتين فقد حصلت مداراة نسبية، وغض طرف عن التكلم بالخصوصيات الذاتية لكل منهما. وهكذا صارت (الهوية الوطنية) تقبل كل هوية.. الشيعية والكردية والتركمانية والمسيحية واليزيدية… إلا (الهوية السنية)، فقد أمست هذه الهوية مثار تشنج عند الحكومة وعند المكونات الأخرى؛ لأنها تشعر بخطورتها عليها. وتحول ذلك بمرور الزمن إلى ثقافة اجتماعية. فلا أحد يعجب أو يشير إلى تناقض الثقافة (الوطنية) وضعف منطقها فـي تعاملها مع التشكيلة التالية من الهويات: (زيباري، سني، عراقي، كردي، مسلم)، أو (دليمي، سني، عراقي، عربي، مسلم). انتبه! ثمت هوية واحدة (ناشزة متناشزة) بين هذه الهويات!
لقد أمست الثقافة الوطنية تقبل هذه الهويات جميعاً إلا واحدة هي (السنية)! من العيب أن تذكرها. عليك أن تخجل عندما تقول: (أنا سني) في مجتمع عام كدائرة رسمية، أو اجتماع حزبي، أو إذاعة، أو تلفزيون، أو صحيفة، أو حتى على منبر مسجد فـي خطبة جمعة! بل ربما لا تسلم من تهمة (الطائفيــة) صعوداً إلى (الوهابية). قل: (أنا دليمي، عراقي، عربي، مسلم) لا شيء في ذلك. أما (سني) فلا!
لا أحد يجرؤ على أن يقول: ما المشكلة في أن يجمع المرء بين هذه الهويات؛ بشرط تلاؤمها في منظومة تأخذ فيها كل قيمة من هذه القيم استحقاقها بحيث لا يطغى بعضها على بعض في سلم الاستحقاق التراتبي الذي يرعى التوازن نظرياً وعملياً؟!
العلة إذن في الثقافة، وليست فـي الهوية.
سيرورة الأمور بين الدعوى الوطنية والانتماءات الطائفية
حقيقة العراق أنه بلد يتألف من عدة مكونات عرقية ودينية (لا تجمعهم جامعة)، يأتي على رأسها المكونات الثلاثة الرئيسة: السنة والشيعة والكرد.
طيلة العقود الثمانية (1921-2003) التي استغرقها عمر (الدولة الحديثة) كان الشيعة والكرد – دون السنة – كل منهما يعلن بهويته، ويسوق لمظلوميته، ويطالب بحقوقه، فكانت له (قضية) وصلت حد (التدويل) الذي تمكن به من لفت أنظار العالم الخارجي، وجلب معونته بشتى صورها، وآخرها الاحتلال. وبما أن المكون الثالث (السنة) ساكت يأنف من تسمية نفسه بالاسم المُناظر، ورأس الحكم (الملك أو الرئيس) من هذا المكون دون المكونين الآخرين، فقد تشكل انطباع عام بأن السنة هم الجانب الظالم في المعادلة الثلاثية. هذا لا يعني أنني أنفي حصول ظلم من الحكومات المتعاقبة. لكن هناك فرق بين أن يكون الظلم (طائفياً) يسلطه (السنة) كسنة على الشيعة كشيعة، والكرد ككرد، وبين أن يكون الظلم (سياسياً) تمارسه الدولة لأسباب سياسية: الشيعة يريدون إزاحة الحاكم والاستيلاء على الحكم لأسباب طائفية دينية، والكرد يريدون الانفصال وتكوين دولة قومية تجمع الأكراد في المنطقة لأسباب قومية عرقية. وليس من المستغرب -فـي وسط هذا الصراع -أن تظهر بروزات طائفية (دينية أو قومية) هنا أو هناك، لكنها ناشزة عن الخط العام الذي هو سياسي بامتياز؛ والدليل أن السنة العرب نالهم من الظلم الكثير، وربما بصورة أشد من المكونين الآخرين. فالظلم بأنواعه لم تكن الحكومة تمتنع من توجيهه إلى السنة متى ما اقتربوا من كرسي الحكم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الدولة لم تكن دينية سنية، وإنما كانت علمانية وطنية حقاً.
وكان الحزب الأكبر للسنة وهو (الإخوان المسلمون) ممنوعاً قانوناً في دولة (البعث)، مضيقاً على أتباعه، لا يجرؤ أحدهم أن يفصح عن انتمائه؛ فتلك جريمة قد تصل بصاحبها إلى الإعدام! وكان السلفيون، و(الوهابية) – حسب التعبير الأمني والمجتمعي – مضيقاً عليهم، مرصودة حركاتهم، يحاسَبون على حركة الإصبع في الصلاة! فضلاً عن الهدي الظاهر من إطالة اللحية وتقصير الثوب.
مجمل القول أن (السنة) نظر إليهم المكونان الآخران نظرة طائفية كل من زاويته الخاصة: فبدل أن ينظر الشيعة إلى السنة كعرب، وينظر الكرد إليهم كسنة -كما يدّعي التسطيحيون الحالمون -كان الأمر معكوساً تماماً؛ فهم في نظر الشيعة (سنة)، وفي نظر الكرد (عرب). وظهروا في نظر العالم بمظهر الظالم المتسلط. وهكذا وعلى أساس هويتهم (السنية) جرى تهميشهم وإقصاؤهم بعد الاحتلال، وصار الشيعة والكرد حلفاً واحداً في مقابل السنة، الذين ظلوا يصرخون: نحن عراقيون: لا فرق بين شيعي وسني، وكردي وعربي. ويتقربون للكردي أكثر فيقولون له: نحن جميعاً سنة. لكن دون أن يصغي إليهم أحد، سوى تعاطف طبيعي مبهم من عوام الشعب الكردي وعمومه، لم يتجاوز العاطفة إلى الفعل المؤثر. ولا ألقي باللوم على غيرنا، فحتى تريد لا بد أن تكون، وحتى تكون لا بد أن تتكون. ولا كيان بلا هوية. والهوية ضائعة!
هكذا لم يلتزم بالهوية الوطنية أو العقد الوطني ويبتعد عن المسميات الخاصة سوى السنة، الذين ابتعدوا عن هويتهم فخسروا ذاتهم ووطنهم، وكما قال ناعق الشيعة يوماً: “لكم الوطنية ولنا الوطن”! وهي مقولة تلخص حقيقة المأساة، وتضع الأصبع على موضع الداء.
الهوية السنية بين عرب المشرق وعرب المغرب
للجغرافيا والموقع المكاني أثر كبير فـي تكوين سياسة المجتمع وفكره وثقافته وتشكيل هويته والتعبير عن دينه.
يعاني المشرق العربي (الأحواز ودول الخليج العربي واليمن والعراق والشام، باستثناء فلسطين) من تحدٍّ خطير يميزه عن المغرب العربي بحكم موقعه الجغرافي، هو التحدي الإيراني الشيعي (التحدي الشرقي).
ينظر المغرب العربي (ثقافياً نعتبر مصر داخلة ضمن هذه المنظومة المغربية) إلى التحدي الشرقي بتثاؤب؛ عاداً إياه أخاً مسلماً وصديقاً ودوداً. وفي أشد الحالات خطراً مبالغاً فيه. وما يثيره بعض المشرقيين من شكوى تجاهه فسببه (التطرف المذهبي)، وهو وراء التصرف (الطائفي) ضد (إخوانهم) الشيعة. أو بسبب العنصرية (القومية) عند القوميين العرب ضد (إخوانهم الفرس المسلمين).
هكذا اختل الميزان بحيث تجاوز الأمر المساواة بين الجلاد والضحية إلى انقلاب الضحية جلاداً والجلاد ضحية!
ضعف الشعور بـ( الهوية السنية ) عند عرب المشرق
المفارقة الكبرى في هذا التمايز هي ضعف الإحساس بالخطر الشرقي لدى عرب المشرق أنفسهم ضعفاً يصل بالأغلبية منهم إلى درجة الانعدام التام. ولولا العقيدة السلفية، عند طائفة من المتدينين التي هي بالضد
من العقيدة الشيعية، ولولا (القومية) العربية عند طائفة من السياسيين، التي هي بالضد من (الشعوبية) الفارسية لما بقي أحد يستشعــر الخطــر الشرقي ! لكن فريق المتدينين ينظــر إلى الخطــر مـن
زاويته العقائدية أكثر من جوانبه الاجتماعية والسياسية. وفريق القوميين ينظر إليه من زاويته السياسية أكثر من جوانبه العقائدية والدينية والاجتماعية. متخلين عن الموقف الصحيح.. وهو المزج بين الأمرين. وهو ما صارت السلفية تحث الخطى نحوه، والقومية تتجه إليه ولكن ببطء.
إن المغرب العربي كان تحديه على مر التاريخ غربياً خارجياً، فضمر لديه الشعور بالخطر الإيراني الشرقي ورديفه الشيعي، وتبعاً لذلك ضعفت الحاجة عنده إلى (الهوية السنية) الداخلية. وجاء الاحتلال اليهودي فزاد الضعف ضعفاً إلى درجة تقرب من العدم. فهو يرفع الهوية الإسلامية دون شعور بالحاجة إلى ما هو دونها من الهوية السنية. وهذا انعكس بدوره سلباً على المشرق العربي ففقد -أو كاد -(هويته العربية السنية) أمام التحديات الفارسية الشيعية.
أسباب ساعدت على تغييب ( الهوية السنية )
مما ساعد على تغييب حاجة عرب المشرق لهذه الهوية أمور منها:
- سعة انتشار الثقافة العربية المغربية بسبب قوة إعلامها، وكثرة دعاتها.
- الاستعمار الغربي الذي اجتاح المنطقة العربية بمشرقها ومغربها، فأزاح الأنظار عن دائرة التركيز على الخطر الشرقي.
- احتلال اليهود لفلسطين، وتدنيسهم لبيت المقدس، وما لهذا البيت من قدسية في نفوس العرب والمسلمين. فكان ذلك سبباً لطغيان القضية الفلسطينية على القضية السنية. وتمت المصيبة بتظاهر إيران بالدفاع عن فلسطين، ولاقى ذلك هوى عند كثير من الفلسطينيين، فصاروا يلمعون صورة إيران وشيعتها في أنظار الآخرين.
- الحكم العلماني الذي يتطير من ذكر دين الإسلام والمذاهب والطوائف. وتنفث أبواقه فكرة اللافرق بين الشيعة والسنة، جاعلة من الفكرة و(الهوية الوطنية) البديل لذلك. وحتى القوميون الذين يعادون إيران إنما ينظرون إليها من زاوية (القومية) لا من زاوية الدين و(السنية). فأقروا التشيع ودافعوا عن الشيعة.
- شيوع فكرة (المذهبية) تعبيراً عن الفرق بين السنة والشيعة إن احتاجوا إليه، معتبرين التتشيع مذهباً إسلامياً معتبراً كباقي المذاهب الإسلامية، وليس ديناً آخر.
إن هذا جعل المجتمع يتقبل الشيعة كجزء من النسيج الاجتماعي، ويبتعد عن تبني الهوية السنية كأداة تعبير أمام الهوية الشيعية، عاداً ذلك نوعاً من الفتنة والفرقة والطائفية المرفوضة بحكم الشرع أولاً وقبل أي اعتبار آخر، وعلى لسان (رجال الدين). حتى قال لي أحد العلماء المقدمين فـي (هيئة علماء المسلمين): ليس من الإسلام القول بالفرق بين السنة والشيعة!
لكن ما حصل بعد احتلال العراق وتداعياته من تغول الشيعة وتمددهم في دول المشرق وتجاوزهم في حماقاتهم إلى بعض دول المغرب لفت الأنظار إلى خطر الشيعة وإيران. وهذا يوفر لنا مُناخاً مناسباً للتبشير بـ(الهوية السنية)، وإبرازها وترسيخها في أوساط عرب المشرق وتذكير عرب المغرب بها. وأنها هي (الهوية) المعبرة عنا في مواجهة أخطر التحديات؛ فالخطر الذي يجتاحنا اليوم خطر داخلي متمثلاً بـ(الخطر الشرقي): الشيعة وإيران، أكثر مما هو خطر خارجي غربي متمثلاً بالغرب واليهود. وليس بالإمكان تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائلي قبل تحرير العراق والمشرق العربي من الاحتلال الشيعي والإيراني.
الهوية السنية .. دواعي الوجدان وضرورات الإعلان
الهوية السنية .. دواعي الوجدان وضرورات الإعلان
عمل الشيعة منذ تأسيس الدولة الوطنية في العراق سنة 1921 على خدمة كيانهم كشيعة – وإن سايروا التيار أحياناً بشعارات وطنية لا يؤمنون بها – وبرز هذا التوجه بوضوح بعد الاحتلال الأمريكي. كذلك عمل الكرد على خدمة كيانهم ككرد وتقويته والمطالبة بحقوقهم على هذا الأساس بلا مواربة. وذلك على العكس من موقف السنة العرب إزاء هويتهم السنية؛ فحفاظاً على (الوحدة الوطنية) التي لا أساس لها يمكن أن تقوم عليه في العراق، تجنبوا ذكرها في العلن، ونهروا من فعل ذلك. وبمرور الزمن، ولوجود الأرضية الجمعية الخصبة التي تقويها الثقافة الأبوية المتوارثة لديهم، وعدم وجود مانع عقائدي (كالشيعة) أو معارض قومي (كالكرد) صاروا يترددون من ذكرها، ويخجلون من الانتساب إليها، وساروا على النهج الوطني: شعاراً وتطبيقاً، قبل الاحتلال وبعده.. حتى تحولت (الوطنية) – في الذاكرة الجمعية – إلى دين بديل عن الإسلام، وصارت الهوية (العراقية) ناسخة للهوية (السنية).
تلك هي المقدمة بكل اختصار.. فماذا كانت النتيجة؟
- قويَ الشيعة حتى سيطروا على مقاليد البلد.
- قويَ الكرد حتى صارت لهم حكومة وبرلمان وجيش.
- ضعُفَ أهل السنة حتى لم يعد لهم اليوم من كيان يؤويهم، أو جهة تمثلهم، ولا حتى شخص ينطق باسمهم!
والسؤال الأهم: ” لماذا ؟ ” والجواب يكمن في المقدمة.
من ضرورات الإعلان بالهوية السنية
لو جرى الالتزام بالعقد الوطني من جميع المكونات العراقية، فلم يعلن الشيعي بشيعيته والكردي بكرديته ويعملا على هذا الأساس، لكان بالإمكان أن يؤتي العقد الوطني ثماره بصورة عادلة. ولكن الالتزام كان من طرف واحد فاختلت المعادلة. فأصبح الإعلان بـ(الهوية السنية) في بلد مثل العراق ضرورة، ليس من الناحية الدينية فقط، بل السياسية أيضاً.
لقد كوّن الشيعة دولتهم، والكرد إقليمهم. وبقي السنة بلا دولة ولا إقليم، بل ولا مكان تحت الشمس يمَكّنهم من العيش بكرامة وحرية وأمان! والأهم من ذلك هو أن (سنة العراق)، لا سيما العرب منهم، استهدفهم الشيعة بالظلم بناءً على هويتهم السنية؛ إذ يكفي حتى تحرم
من حققك أن تكون سنياً. ويصل هذا الظلم إلى حد الحرمان من حق الحياة! إضافة إلى حق الكسب، وحق الحرية، وحق الكرامة.
إن هذا الحرمان يمارسه الشيعي كإجراء عادل عليه أن يؤديه خدمة للإنسانية التي لا يستحقها الآخر، بعد أن تمت عملية شيطنة السني و”تشييئه”([1]) في الذاكرة الجمعية الشيعية منذ أمد بعيد. وتزداد الصورة بشاعة حين تعلم أن حرمان السني من حقوقه، وعلى رأسها حق الحياة، يمارسه الشيعة طبقاً لعقيدتهم؛ فليس الأمر واقعاً لسبب عارض كما يتظالم البشر فيما بينهم، إنما ظلم السنة أمر مقصود أخلاقياً ودينياً، ويجري تنفيذه منهجياً.
كل هذه الأمور مجتمعة تستدعي من السنة في العراق وما شابهه من أقطار أن يلجأوا إلى هويتهم السنية فيعلنوا بالانتماء إليها، ويبرزوها ويعتزوا بها.
مكاسب ( الهوية السنية )
إن رفع لافتة (الهوية السنية) يحقق للسنة مكسبين عظيمين في طريق رفع الظلم عنهم واستحصال حقوقهم:
الأول: تأسيس (قضية) لهم فـي الداخل، تجعلهم يلتئمون عليها فيما بينهم، ويتجمعون في كيان واحد يمكنهم به أن يدفعوا الحيف عن أنفسهم، ويستحصلوا حقوقهم، ويبنوا مناطقهم، ويعمروا إقليمهم، أو دولتهم. وليعتبروا بإقليم كردستان وما فيه من أمان وتطور وعمران، وتمتعه بقوة قادرة على ردع الحكومة المركزية الشيعية من ظلمهم وهضم حقوقهم. من دون هذه الخطوة يستحيل عليهم استعادة العراق من يد الشيعة وتخليصه من التبعية لإيران.
والثاني: (تدويل القضية) في الخارج. وهذا الأمر مهم لاستكمال تحقيق المكسب الأول. فلو خرج السنة بقضيتهم إلى المنابر الدولية، وصرخوا في آذان المنظمات الحقوقية والمحاكم الدولية، وأسمعوهم صوتهم، وقدموا وثائق الإدانة للحكومة الشيعية بتوابعها من أحزاب ومليشيات ورجال دين أوغلوا في الدم السني، وبصورة منهجية وصلت إلى حد الإبادة الجماعية المنظمة، وبينوا أن ذلك كله يجري طائفياً، وأن طائفة كبيرة في العراق هي (السنة) يتم إبادتها على يد طائفة أخرى تمسك بزمام القوة هي (الشيعة).. لو فعلوا هذا لسمع العالم صوتهم، واستجابت المنظمات الحقوقية، والمحاكم الدولية، بنسبة أو باُخرى، لقضيتهم.
ولاستثار ذلك أبناء العرب (وهم سنة) في الأقطار العربية حولهم، وكسبوا عطف الكرد (وهم سنة) وموقفهم، وحوصر الشيعة من كل جانب في جحرهم. وبهذا نكون قد انتزعنا العراق العظيم من أيدي الشيعة، فضلاً عن التمكين لنا في مناطقنا. وهذا ربح زائد على الربح أو المكسب الأول، لا يتناقض معه بل يقويه. ولا يتوقف عليه جهدنا وجهادنا ونضالنا إن لم يحصل كما ينبغي؛ فهو للاعتضاد لا للاعتماد.
وأعظم من ذينك المكسبين حيازة رضا الرب؛ فالله تعالى لا يعين قوماً لا يرفعون لدينه راية. فرفع الراية السنية تستجلب رضا الرب جل جلاله، وتدفع غضبه الذي حل بنا منذ أن كذبنا عليه وعلى نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى دينه وعلى خلقه بقولنا: “لا فرق بين السنة والشيعة”، بينما الفرق بينهما كما بين الثرى والثريا. وتجاوز هذا الكذب الفاضح طاولة السياسة، لينزو على منبر الدين!
لقد فقد سنة العراق هويتهم في زمن تغول الهويات، ففقدوا كيانهم، وأضاعوا حقوقهم. و(نسوا الله فنسيهم) ووكلهم إلى أنفسهم. فإن راجعوا أنفسهم ورجعوا إلى دينهم وهويتهم، وقرأوا جيداً مفردات واقعهم، عاد إليهم عزهم، واستعادوا عراقهم، والله معهم ولن يترهم أعمالكم. وإلا فلن ينتظرهم سوى التشرذم والزوال وبؤس الحال وسوء المآل.
[1]– التشيـيء (Chosification) هو اختزال وجود كائن إنساني إلى مرتبة الشيء. يتعلق هذا المصطلح بعمليات التبخيس التي تصيب قيمة الإنسان كآخر شبيه بنا ومعادل لنا في علاقة تكافؤ، فيحل محل الاعتراف بإنسانيته انهيار لقيمته في نظرنا. حتى تفقد هذه الإنسانية قدسيتها وما تستوجبه من احترام، وما تتطلبه من التزام تجاهها. يتحول الآخر في هذه الحالة إلى مجرد شيء، أو أداة، أو رمز، أو أسطورة، ويفقد خصوصيته كإنسان واستقلاليته كلياً ويدمج في مخططات مضطهده. ويتحول إلى شيء، إلى رمز مجرد للشر يجب إبادته.
الهوية بين الإسلامية والسنية
الهوية بيـن الإسلامية والسنية
يخلط الكثيرون فـي باب الهوية بين ثلاثة أشياء: الإسلام، والإسلامية، والسنية. وهذا ناتج عن عدم المعرفة بفقه الهوية؛ ولا عجب فهو فقه جديد كل الجدة، ومجهول كل المجهولية من قبل (فقهاء الفروع).
ما هي الهوية؟
الهوية هي ما ميّزك عن غيرك، وعبّر عن خصوصيتك عند الحاجة إلى التميز.
ومن شرطها علينا كمسلمين أن لا تتناقض مع الدين. لكن ليس من شرط الهوية أن تكون دينية. فقد تكون الهوية بحسب المهنة: فهذا فلاح، وهذا معلم، وذاك جندي، وآخر تاجر. وقد تكون بحسب العشيرة: فهذا جبوري، وهذا دليمي، وذاك مشهداني، وآخر تميمي. وقد تكون قطرية: فتنقسم ما بين عراقي وسوري وكويتي ومغربي. وقد تكون نسبة إلى القومية: فهذا عربي وهذا كردي وثالث ألماني ورابع هندي.. وهكذا.
رغم أن هذه الهويات جميعاً ليست دينية، لكنها سائغة شرعاً ما دام أنها لا تتعارض مع الدين. وقد تكون الهوية دينية عندما يكون التقابل بين أصحاب الديانات المختلفة: فهذا مسلم، وذاك نصراني، وهذا بوذي وذلك يهودي.
حاجة الهوية إلى التناظر
انظر إلى العبارات التالية: حسين معلم وشمعون يهودي، أو سلمان جبوري وجلبرت ألماني، تجد هناك تناشزاً غير مستساغ؛ فما الرابط بين كون أحدهم معلماً والآخر يهودياً، وما العلاقة بين كون فلان جبورياً وفلان ألمانياً. لكن لو قيل: حسين معلم وشمعون عتال، وسلمان عربي وجلبرت ألماني، تكون العبارات متناسقة. والسبب أن الهويات إنما تطلق متناظرة: فهي إما مهنية أو قومية أو عشائرية… وهكذا.
وهنا نصل إلى مكمن الخلل في قول البعض: لماذا نقول “سني” ولا نقول “مسلم”؛ أليس الإسلام أعظم وأشرف من كل هوية؟ ونقول: بلى، ولكن الهوية ليست هي الديانة شرطاً، والإسلام – في عرف المجتمع الداخلي والخارجي – يضم الشيعة إلى جانب السنة، فالهوية الإسلامية لا تمنح السني التميز المطلوب عن الشيعي. ونحن في هذه المرحلة في أمس الحاجة إلى تميز الشيعة عن السنة. والتشيع – في العرف المحلي والعالمي – يعتبر مذهباً من مذاهب الإسلام. نعم هو – في حقيقته – دين آخر غير الإسلام، ولكن هذه الحقيقة لم تأخذ مداها وحجمها لتصبح حقيقة مسلمة متعارفاً عليها، بحيث إذا أطلقت فهمها الجميع على أنها دين قائم بذاته غير دين الإسلام. وإلى ذلك الحين نحتاج إلى تمييزه والتميز عنه باسم فارق لا جامع، وليس غير اسم (السنة) يحقق هذا التميز، فتكون (السنية) هي (الهوية) المميزة في زمن ما زال الإسلام هو الهوية الجامعة. وما نحتاجه اليوم هو الهوية المميزة الفارقة لا الهوية الخالطة الجامعة.
وبهذا تدرك الخلل في قول بعضهم: لماذا لا نقول نحن (إسلاميون) ونكتفي بـ(الإسلامية) بدلاً عن (السنية)؟ فـ(الإسلامية) هي الهوية المميزة عن (العلمانية)، ولا تمنح التميز المطلوب عن الشيعة والهوية (الشيعية)، الأمر الذي لا يحققه غير السنة والهوية (السنية). التحدي الذي نحن بصدده شيعي لا علماني، فلا بد أن تكون الهوية نظيرة له، و(الإسلامية) نظيرة (العلمانية) لا (الشيعية)، فنرفعها هوية مميزة عندما نكون بصدد التحدي العلماني. والإسلام دين نظيره الكفر أو الأديان الكفرية، فنرفعه كهوية عندما نكون وجهاً لوجه أمام التحدي المعروف بكفره. وهنا يكون الإسلام ديناً وهوية في وقت واحد.
حاجة الهوية إلى النظير المنافس
أساس منشأ (الهوية) هو وجود نظير منافس بهوية أو اسم يميزه. فالإسلام – في البديئة – كان هو الهوية إضافة إلى كونه هو الدين بطبيعة الحال. ثم لما وجدت الفرق المنافسة التي تدعي الحق وتمثيل الإسلام – وأولها الرافضة والخوارج – احتاج المسلمون إلى هوية تميزهم عــن هــؤلاء لكونهم يصطبغون بالإسلام فيختلــط أمرهــم علــى الناس، ويلتبس الحق بالباطل. وذلك من التميز الذي دعا إليه القرآن فـي عدة مواضع كقوله سبحانه: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال:37)، وقوله: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55)؛ فكانت (السنة والجماعة) هي الهوية المميزة لأهل الحق في مقابل هذه الفرق. وغني عن القول بقاء الإسلام هو الهوية أمام الديانات الخارجية كاليهودية والمسيحية. وهذا يعني أن الهوية النظيرة لها ملحظان: فهي علة منشئة، وهي حاجة مميِّـزة (بكسر الياء).
وعلى هذا الأساس نقول: حتى تتم الفائدة من تبني (الهوية السنية) والتأكيد عليها، يحتاج ذلك شرطاً إلى ذكر (الهوية الشيعية) والتنديد بها. لقد اضطر البعض – على قلة -فـي الأوان الأخير، أو تجرأوا -على خوف -فصاروا ينطقون باسم (السنة)، لكنهم يُعرضون عن ذكر (الشيعة). وهذا نقص في (الهوية) يمنع حصول التأثير المنشود لتبني (الهوية السنية) ما لم تذكر (الهوية) النظيرة المنافسة، ويصرح بأن الشيعة هم خصومنا، وهم أعداؤنا، وهم آكلو حقوقنا وظالمونا، بلا مواربة.
العلاقة بين الهوية والتحدي
وإذا كانت (الهوية) تنشأ من الجذور التي ينبع منها التكوين، فإن التحدي هو الذي يظهرها، أي يظهر أي جذر من الجذور هو المطلوب ظهوره على السطح معبراً عن الكيان المتحدى.
ففي حالة حصول خصومة واحتراب بين قبيلتين تلجأ كل قبيلة إلى اسمها القبيلي الخاص كهوية تعبر بها عن ذاتها تعينها على خوض الصراع ودفع الظلم وتحصيل الحق. بينما تتغير الهوية فتأخذ اسماً أوسع عندما يكون الصراع بين دولتين من القومية نفسها أو الدين نفسه. وتضيق الهوية بضيق المكون.
يلاحظ هنا أن الهوية العامة الجامعة، لا يتم تبنيها في حال وقوع الخصومة الخاصة الفارقة؛ فالقبيلة تلجأ إلى اسمها الخاص بها المميز لها، والدولة كذلك. فلو احترب العراق – مثلاً – مع الكويت، يقال: الحرب بين العراق والكويت. لكن عندما تكون الحرب بين مجموعة من الدول العربية وإسرائيل – مثلاً – يلجأ إلى الاسم العام فيقال: الحرب بين العرب وإسرائيل. ولو افترضنا أن دولاً إسلامية خاضت الحرب إلى جانب العرب، هنا يكون اللجوء إلى اسم عام أوسع هوية تجمع بين الأطراف وتعبر عنهم مجتمعين، هو الإسلام، فيقال: الحرب بين المسلمين واليهود.
إذن كلما اتسعت دائرة التحدي كبر الاسم أو (الهوية) المعبرة، وكلما ضاقت الدائرة صغر الاسم والهوية. وهكذا هو الشأن في الصراعات الداخلية: المذهبية، والطائفية، والقبيلية، والطبقية، وحتى الوظيفية. فيعطى لكل تحد ما يناسبه من هوية. ولا يصح خلط الأمور وقلبها بحيث يكون التعبير عن التحدي الأصغر بالهوية الأكبر، وعن التحدي الأكبر بالهوية الأصغر. وعلى هذا الأســاس لا تكون الهويــة الإسلامية الأكبر معبرة عن الهوية المطلوبة في صراعنا مع الشيعة، وليس غير الهوية السنية يقوم مقامها في هذا الصراع.
إن التحدي الخارجي يواجه بالهوية العامة. والتحدي الداخلي يواجه بالهوية الخاصة. فالتحدي الغربي اليهودي يواجه بالهوية الإسلامية العامة. لكن التحدي الإيراني الشيعي يواجه بالهوية الخاصة وهي (الهوية السنية)؛ لأن الأول خارجي، والثاني داخلي على اختلاف درجات الداخلية، فإيران إلى جانب شيعيتها تحمل الهوية الفارسية العنصرية وتواجه الهويات القومية الأُخرى – كالعربية والكردية والبلوشية والأذرية – بشعوبية حاقدة، فيصبح إبراز (الهوية القومية) ضمن المدى الشرعي جزءاً من معادلة المواجهة.
الخلاصة
نخرج مما سبق بخلاصات مختصرة أهمها:
- الهوية ما ميزك عن غيرك، وعبّر عن خصوصيتك عند الحاجة إلى التميز. وأعظم الحاجة حين تدخل معركة مصير مع من تحتاج إلى التميز عنه. وسوى السنية لا يميزنا عن الشيعة.
- أنا مع الكافر مسلم ومع الفرنسي عربي ومع العربي عراقي ومع العراقي دليمي ومع الدليمي حلبوسي… وهكذا. كما أنني مع الشيعي سني.
- ليس من شرط الهوية أن يقحم الدين فيها ضرورةً.
- يتوهم البعض أن الإسلام أو الإسلامية هي هوية المعركة مع الشيعة. الإسلام دينك وهو هويتك مع الكافر، والإسلامية صفتك وهي هويتك مقابل العلمانية.
- معركتنا اليوم مع الشيعة، فينبغي للمسلم أن يبرز الهوية السنية دون غيرها. الإسلام والإسلامية لا يعبران عن هوية معركتنا مع هذا الصنف من الأعداء. وانظروا كيف تحرص إيران والشيعة على التخفي وراء (الهوية الإسلامية) كما يتخفى السرطان في نسيج الجسم نفسه؛ إن الشيعة يلبسون لباس الإسلام فلا يعزلهم عنا ويعجل في نهايتهم سوى الهوية السنية. وكان من أسباب حصاد الشيعة لجهود المقاومة السنية عدم وضوح هويتها في معركة وجودها. لقد توهمت أن (العراقية) والمسحة الدينية يكفيان لكسب المعركة.
الوطنية والمواطنة عند الشيعي
الوطنية والمواطنة عند الشيعي
الوطنية كالقومية – فـي أصلها – فطرة، وفكرة، وشعور طبيعي.
لكن ما كل ما هو طبيعي في أصله يبقى كذلك بعد انفصاله عن مجال الفكر والشعور الداخلي، واتصاله أو انتقاله إلى الواقع الخارجي. يقول النبي e: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم)([1]). الوطنية مجّستها الشيعة ونجستها فاستحالت مع الزمن نجَساً لا يطهر إلا بالحرق.
والأُخوة أقرب رحماً من الوطنية، لكنها -مع من يسيء إليها ولا يرعى حرمتها ولا يرعوي عن التمادي في استغلالها -ضرر محض لا يسوغ عقلاً ولا يصح شرعاً مراعاتها، بل قد يتوجب نبذها والكفر بها حفظاً للنفس والمال والعرض. وكذلك الحال مع الوطنية إذا كانت كذلك.
لقد سار السنة على أساس المعادلة الوطنية تسعين سنة فما جنوا منها غير الأذى في دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم. فهل عليهم أن يوروثوها ذراريهم وأجيالهم القادمة؟ لقد آن الأوان لفصمها مع الشيعة كما يفصم عقد شراكة لم يجلب لأحد الشريكين، أو كليهما، غيرَ الخسارة والبلاء. لكن أصحاب الفكر الجامد والفقه الراكد لا يدركون هذا ولا يفقهون ما نقول، في عملية إصرار مقرفة تمتهن العقل، وتلغي الواقع وتخضعه قسراً لحسابات آيدلوجية مسبقة على طريقة (عنزة وإن طارت)!
الوطن والوطنية والمواطنة
في (لسان العرب) لابن منظور: الوَطَنُ: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحَله.. وواطنهُ على الأَمر: أَضمر فعله معه، فإن أَراد معنى وافقه قال: واطأَه. تقول: واطنْتُ فلاناً على هذا الأَمر إذا جعلتما في أَنفسكما أَن تفعلاه، وتَوْطِينُ النفس على الشيء: كالتمهيد. ابن سيده: وَطَّنَ نفسَهُ على الشيء وله فتَوَطَّنَتْ: حملها عليه فتحَمَّلَتْ وذَلَّتْ له. وفي (القاموس المحيط) للفيروزآبادي: واطنه على الأمر: وافقه.إ.هـ.
(المواطنة) إذن مشتقة في الأصل من كلمة (وطن)، ومأخوذة مباشرة من الفعل (واطَنَ)، على وزن (فاعَلَ) – بفتح العين – ويعني المشاركة في الفعل من طرفين. و(المواطن) هو الشخص الذي يشارك غيره النزول في وطن. وهذا يستلزم لتحقيقه أن يكون الموصوف بوصف (المواطن) يضمر ويؤمن في داخله بحق مشاركة الآخر له العيش في الوطن المشترك بينهما. هذا الإيمان هو ركن من أركان الحكم على الشخص بذلك الوصف، من دونه يفقد صلاحيته للتسمي باسم (المواطن)، وتسقط عنه استحقاقاته، ولم يعد من الصواب ولا من الحكمة ولا المصلحة تسميته بذلك. إلا إذا كانت التسميات تطلق جزافاً بلا ضابط يُرجع إليه.
الوطن إذن هو قطعة الأرض المحددة، التي يعيش عليها مجموعة متوافقة من البشر. و(الوطنية) شعور يقوم على الحب والانتماء للوطن وما عليه من بشر وعمران مع الاستعداد للتضحية من أجله. وأما المواطنة فهي علاقة اجتماعية على أساسها يتشارك مجموعة من البشر العيش في وطن معين على مبدأ المساواة أداءً للواجبات وتمتعاً بالحقوق. والشيعة قوم يعيشون في وطن، لكن دون التزام بالمواطنة. وغاية (الوطنية) عندهم حنين غريزي مبهم للمكان المألوف، وهو شعور موجود بين الحيوانات أيضاً، بل إن بعضها يتفوق عليهم في هذا الشعور من ناحية الدفاع عن مكانه الذي يؤويه، وصاحبه الذي يحسن إليه. بينما يشهد تاريخ الشيعة أنهم عون للمحتل على غزو بلادهم التي يشاركهم العيش فيها غيرهم، ويبدأون بأذى من يحسن إليهم.
ولا غرابة فيما أقول؛ فالله تعالى وصف كثيراً من الخلق بأنهم أدنى مستوى من الحيوان فقال: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179). وقد عبر الشيعة عن موقفهم تجاه الوطن بقولهم عند احتلال العراق:
“لكم الوطنية ولنا الوطن”. فهم يريدون وطناً بحقوق كاملة وواجبات معطلة. وطناً لا حق فيه لأحد سواهم. أي وطناً بلا وطنية ولا مواطنة. وما يتشدقون به من وطنية فليس سوى وسيلة وستار لأكل الآخر. وكلامي هذا هو عصارة تجربة استغرقت عمراً طوله بضعة عقود، وخلاصة معرفة استغرقت تاريخاً طوله أكثر من عشرة قرون.
الآخر في منظور الشيعي
أزمة الشيعي تكمن في أربعة أشياء: (عقيدته، وعقدته، ومرجعيته، وولائه لإيران)، هي عبارة عن عوائق ذاتية مستحيلة الاجتياز، تجعل من الاستحالة أن يكون الشيعي مواطناً صالحاً في وطن يشاركه فيه آخرون من غير دينه ومعتقده:
وإليكم باختصار كيف تقضي هذه الأشياء الأربعة على (الوطنية)، وتلغي مفهوم (المواطنة)، وتسلب صفة (المواطن) من الشيعي، وتجعله مجرد جسم غريب، وعنصر طفيلي يعتاش على الآخرين، ويؤذيهم في الوقت نفسه.
1.العقيدة
أما عقيدة الشيعي فتأتي على رأسها (الإمامة). وهذه العقيدة لا تتوقف عند تكفير المخالف، حتى توجب على معتنقها أمرين متى ما قدر على ذلك:
- وجوب قتله
- واستباحة ماله
- الشيعي إذن لا يؤمن بحق الحياة، ولا حق التملك للآخر.
- وهما أعظم حقين يقوم عليهما السلم الاجتماعي.
- يضاف إلى ذلك استباحة العرض مع وقف التنفيذ نظرياً حتى ظهور خرافة (المهدي). أما عملياً فقد أثبتت أحداث العراق وغيره أن الشيعة لا يترددون عند التمكن عن اغتصاب النساء واستباحة الأعراض. (هذا مع إعراضنا عن مناقشة بقية العقائد وانعكاساتها الخطرة على المواطنة).
2. العقدة
تغذي هذه العقيدة المبتدعة، الملغومة بالتكفير وحرمان الآخر من حق الحياة والتملك، عقد نفسية تزيدها تأججاً، وتجعلها قابلة للانفجار في كل لحظة، وعلى رأسها عقدة (المظلومية) و(الحقد) و(الثأر)، التي تجر خلفها سلسلة من العقد أحصيت منها -فـي كتابي (التشيع عقدة نفسية لا عقيدة دينية -(20) عقدة.
3.المرجعية
بعد هذا يأتي ارتباط الشيعي بالمرجعية الدينية في كل شؤونه: الديني منها والدنيوي، ومنها السياسة والعسكرية والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية وغيرها. فالشيعي فـي كل مجتمع لا يشعر بالارتبــاط بالدولة التي يقطنها: حكومة وشعباً. بقدر ارتباطه بالمرجع الديني، الذي يسمى فـي المصطلح الفقهي عندهم بـ(الحاكم الأعلى)! واتخاذه بديلاً عن الحاكم. كما يتخذ من أبناء طائفته شعباً بديلاً عن الشعب الذي يواطنه ويساكنه. أضف إلى ذلك أن المرجع عادة ما يكون إيرانياً يوالي بطبيعة الحال بلده الأصلي إيران، وهو موظف أساساً من قِبَله لجعل أتباعه في أي بلد موالين لإيران إلى حد التعصب والطائفية المقيتة. ومن لم يكن من المراجع إيرانياً -وهذا نادر -فهو مستعجم. والمستعجم شر من العجمي صليبة.
4.الولاء لإيران
ومع العقدة والعقيدة والمرجع يرتبط الشيعي تلقائياً بإيران. وإيران تعمل على سلخ كل شيعي من الشعور بالانتماء لبلده، بل لا تتوقف حتى تحوله إلى معاد له يعمل على محاربته وتخريبه بشتى الوسائل والسبل. كل ذلك باسم الدين والولاء للمذهب.
الشيعة في كل دولة ( دولة داخل دولة )
إن عقيدة الشيعي وعقدته تجعله متناقضاً مع المجتمع الذي يعيش فيه، ومنسلخاً عن العلاقة الاجتماعية التي تربطه به.
كما أن مرجعية الشيعي تجعله متناقضاً مع الحاكم الذي يحكمه، ومنسلخاً عن طاعته، ومهيأً للخروج عليه عند أقرب فرصة.
هنا يكوِّن الشيعة دوماً في كل دولة (دولةً داخل دولة).
فإذا أضفت إلى هذه الخلطة الخطيرة نزعة الولاء لإيران المتأصلة في نفس كل شيعي تمت البلية، وتبين أن الشيعي ليس أكثر من مشروع فتنة في أي دولة يقطن أو يحل فيها.
هل توضح الآن تماماً، وثبت علمياً أن الشيعي غير مؤهل لاكتساب صفة (المواطن)؟ وأن القاعدة التي تحكم علاقة الشيعي بدولته هي… (وطن الشيعي طائفته لا دولته).
مستوطن ؟ أم متوطن ؟
أجد بعد هذا أن أنسب توصيف قانوني للشيعي ينظم علاقته بالآخر هو وصف (مستوطن)، الذي يطلق على اليهودي في فلسطين وعلاقته بسكانها الأصليين.
وهذا في أحسن الأحوال؛ فالشيعي حين تمكن في العراق عبَّر عن هذه العلاقة مع السنة أسوأ مما عبر عنها اليهودي مع الفلسطينيين. وذلك أن (المستوطن) اليهودي بالمقارنة مع الشيعي يمتلك من عناصر المواطنة
أكثر مما يمتلكه الشيعي في العراق وغيره من البلدان، وإن كانت لا تؤهله لاكتساب وصف (المواطن). ولو دققنا في الأمر أكثر ربما سنجد أن الشيعي يقصر عن وصف (المستوطن) لينزل إلى صفة (المتوطن)، إذا استعنا بالمصطلحات الطبية المتعلقة بالأمراض المعدية، فهناك أمراض (وبائية) تهيج في ظرف معين ثم تنتهي، وهناك أمراض (متوطنة) تهيج فترة، ثم تخبو فترة دون أن تنتهي كلياً.
مما سبق يظهر جلياً أن أسخف شيء وأدله على ضعف العقل البشري حين يتصور أقطاب السياسة أن الديمقراطية هي الآلية التي يمكن بها التعايش مع الشيعة! وأن (التعايش) هو الحل الذي ينظم العلاقة بين الشيعي والآخر في وطن واحد.
دونكم البلدان التي تمكن فيها الشيعة من أن يشكلوا نسبة أغلبية أو أقلية في أي برلمان أو مجلس نيابي! أو سمحت لهم قوانين الدولة أن تكون دوائر الدولة كلها، لاسيما الحساسة منها كالوزارات والأمن والمخابرات والجيش والحدود والاقتصاد، مفتوحة أمامهم كبقية المواطنين.
انظروا إليها.. وتأملوا أي دور يلعبه الشيعة هناك!
وأمامكم العراق مثالاً صارخاً!
انظروا كيف انتشروا فيه كخلايا السرطان في الجسد الفاقد المناعة، وكيف جوفوا الحزب حين انتموا إليه، وأفرغوا جميع الدوائر من محتواها لصالح الشيعة وحدهم بالضد من غيرهم ممن يواطنـهم في البـلد، حتـى انتهى الأمر إلى ما انتهـى إليـه. واليـوم هـم
يتحكمون بمصير السنة فيقصونهم ويستأصلونهم ولا تسمح أنفسهم بإعطاء أي حق لهم من حقوقهم كـ(مواطنين).
إن عملية التجويف هذه تشبه تمام الشبة عملية التجويف الديني الذي يمارسه الشيعة مع مصطلحات ومسميات الشرع: يحافظون على الاسم ويغيرون المسمى. الإمامة مثلاً مصطلح شرعي، لكنه عند الشيعي يأخذ معناه منحى آخر غير مقصود في وضعه الأصلي الذي هو عليه، كذلك الديمقراطية والقانون والتعايش وغيرها من مصطلحات السياسة.
وهذه لبنان وتجربة “أمل” و”حزب الله” شاهد آخر. إنهم يكادون يشلون حركة الحياة في البلد! حتى أطلق عليهم اسم (الثلث المعطل). الشيء نفسه حاصل في اليمن مع شيعة الحوثية، وفي البحرين، والكويت، والسعودية وغيرها. هذا مع إلقاء المسؤولية على الآخر!
[1]– رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الهوية الوطنية وخطرها على سنة العراق والأقطار المختلطة
الهوية الوطنية .. وخطرها على سنة العراق والأقطار المختلطة
في ضوء ما تقدم يتبين أن الهوية الوطنية في مجتمع خليط بين الشيعة وغيرهم ليست سوى مظلة يمارس تحتها الشيعة قضم الآخر وتدميره وإنهاءه. ولهذا كان الدمار مصير كل من عمل على أساس الوطنية في أي بلد فيه شيعة بنسبة مؤثرة. إلا من احتمى بهويته الخاصة فقد سلم ونجا. ولنا عبرة في تجربة الكرد في العراق إذ لم ينج من الشيعة غيرهم؛ لأنهم تبنوا قضية خاصة بهوية خاصة. وفي المقابل كان الخسار والبوار نصيب السنة العرب؛ لأنهم نظروا إلى الوطنية نظرة تجريدية ولم يخضعوها للواقع، فكان مثلهم كمثل من حرص على نثر بذروره الصالحة في أرض سبخة، فكان الندم نصيبه أوان الحصاد. بينما عمل آخرون على اقتطاع مساحة من تلك الأرض وقاموا باستصلاحها وزراعتها فجنوا منها أطيب الثمار.
الفكر الوطني هو السبب في كل ما جناه السنة على أنفسهم في العراق، فلا يصلح أن يكون أساساً لهوية يشتركون فيها مع الشيعة؛ لأن الشيعة يكونون في هذا الوضع كالورم السرطاني الذي لا ينمو إلا على حساب الجسم الذي ينبت فيه.
لا خلاص لسنة العراق إلا بالهوية السنية التي تميزهم عن الشيعة وتفصلهم عنهم وضعهم وجهاً لوجه أمام جرائمهم وما جنته أيديهم، وتوفر للسنة البيئة الصالحة للسلامة والأمن والعيش الكريم.
فشل المشروع الوطني في العراق
إن تجربة ثمانية عقود من الزمن (1921-2003) مضافاً إليها عقد آخر منذ الاحتلال، أثبتت الفشل التام للمشروع الوطني في العراق. وكشفت أنه لم يكن أكثر من أسطورة، مَن صدقها لم يعد منها بغير الخسران والخذلان.
ومن دلائل فشل المشروع الوطني عجزه التام عن الجواب على سؤال هو أهم الأسئلة ذلكم هو: كيف يمكن تحكيم شريعة الإسلام في بلد مختلط فيه نسبة من الشيعة تتجاوز الثلث؟
فنحن – والحالة هذه – بين خيارات ثلاثة كلها عاجزة عن الجواب: فإما أن نخضع لشريعة الشيعة، وهذا لا يحقق المطلوب الشرعي من الأصل، وهو مرفوض من السنة واقعاً. وإما تحكيم شريعة السنة، وهذا مرفوض من قبل الشيعة. وإما أن نلجأ إلى الخيار العلماني، وهذا -إضافة إلى أنه مرفوض شرعاً -قد جرب فزاد الطين بلة، والمرض علة، فكانت العلمانية: ديمقراطية أم استبداديةً في بلد خليط بالسنة والشيعة مثل العراق من أسوأ خيارات الحل!
لقد كانت نتائج الشراكة الوطنية كارثية بالنسبة للوطنيين (السنة العرب): إذ تشيعت نسبة كبيرة من العاصمة بغداد، وغلب التشيع على البصرة، إضافة إلى مناطق أخرى غزيت بالتشيع مثل قضاء تلعفر في الموصل وبلد والدجيل في صلاح الدين. وهذا مؤشر على ضعف المناعة السنية تجاه الشيعة. وهذا قبل الاحتلال. أما بعد احتلال العراق وسيطرة الشيعة على مقاليد البلد فقد ازدادت عملية التشييع ضراوة. ناهيك عن القتل والتهجير والاعتقال وهتك الأعراض وقطع الأرزاق وفقدان الأمان وخراب الديار وضياع المستقبل. ولم يسلم من هذا الشر سوى كردستان، التي احتمت بهويتها القومية الخاصة وتدرعت بإقليمها الخاص.
فأي مصاب أكبر من أن يصاب شعب في دينه ودنياه؟!
وأي مشروع أخطر وأفشل من مشروع هذه نتائجه وآثاره؟!
وأي فكر أتفه وأخيب من فكر كان الأساس لكل هذه الكوارث والشرور؟!
إنه المشروع الوطني الفاشل، والفكر الوطني الخائب.
والسؤال المهم: ما الحل مع الشيعة؟ وكيف نتعامل معهم؟
والجواب: لا حل واقعياً منتجاً لمشكلة الشيعة إلا بعزلهم كلياً في مجتمعات خاصة بهم. وللعزل صور متعددة، يبدو لي منها اليوم صورتان: الإقليم، والانفصال التام. أي لا بد أن يعزل الشيعة عنا، وننعزل عنهم: إما سياسياً بالإقليم، أو جغرافياً بالتقسيم، حتى يأذن الله تعالى بحلول أُخرى في قابل الأيام.
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
التجديد والإبداع
التجديد والإبداع
هذه خلاصات تجربة حياة.
لم أقرأها، أو أقتنص نصوصها من كتاب – وإن أضفت إليها قطوفاً من هنا وهناك – إنما رأيتها مسطرة على قراطيس الكون. وتعلمت لغتها في ضجيج الواقع الذي يعج بحركة الحياة حلوة ومرة. فمن رحم المعاناة يولد الفكر.. وفي الميدان ينضج بالتجربة فيتحول إلى معرفة نابضة.
ألقيت بعضها في مسجد الإمام عثمان بن عفان t في ريف اللطيفية خريف 2003. موضوعها التجديد والإبداع ، وعلاقتهما بقضيتنا، وخدمة منهجنا. ومحاولة الاستفادة من هذا الموضوع الكبير من خلال ربطه العضوي بالواقع الذي نعيشه، أسميتها (محطات على طريق التجديد).
إن أحد العلل الكبرى التي أضرت بقضيتنا نحن سنة العراق – العرب منهم على وجه الخصوص – هو الفكر القديم الذي يكرر نفسه دون قدرة على مواكبة التغيرات الحادثة على طول الطريق في مسيرة الحياة بكل مفاصلها، ما جعلنا مشلولين عن الحركة السديدة التي تخدم وجودنا، وتستخلص حقوقنا، وتحفظ كياننا من الذوبان أمام خصوم يريدون ابتلاع كل شيء على حساب وجودنا وحقوقنا وكياننا.
ثمة أجزاء تالفة في حاجة ماسّة إلى اجتثاث، إلى جانبها أجزاء جيدة تتطلب إدامة قبل أن يتسلل إليها التلف بالحث والتسرب والعدوى، وإلى جانب هذا وذاك لا بد من الإضافة وإعادة الخلط والتركيب.
والمجدد هدامٌ بناء: يهدم، لا لأجل الهدم؛ فذلك هو التخريب والفساد، وإنما لأجل البناء القائم بلبناته الصالحة، السالم من العناصر الفاسدة.
لا بد إذن من أن نمسك بفأس أبينا إبراهيم u، ونرفعها لنهوي بها على أصنام ذلك الفكر العقيم، كي نقيم محلها بناء قويماً من الفكر السليم، القادر على الرؤية التي تفرز الصالح لتبقيه من الفاسد لتعزله وتحرقه. وتضيف إلى ما تبقى ما تحتاجه عملية التغيير والتطوير من أفكار إبداعية خلاقة.
إن هذا لا يكون دون وجود القائد الذي يرصد حركة الحياة ويتعامل معها بطريقة استثنائية. وذلك هو المجدد المبدع. ولا مجدد حقيقياً دون قابلية على الإبداع، والإتيان بالجديد الذي يطور الفكر ويقفز به، ويحسن العمل، ويجود الأدوات، ويضاعف الطاقة، ويقلل الجهد، ويصل إلى الهدف من أقرب طريق، مع مراعاة الذوق والجمال، ليبقى التكامل بين الوظيفة والجمالية محفوظاً قابلاً للمزيد.
ولا أقصد بالقائد، الواحد الفرد؛ فذلك هو الصنم، وإن كان في نهاية المطاف سيكون على رأس القائمة واحد هو القائد الأعلى، وإنما أقصد به مجموعة القادة الذين تتشكل منهم مؤسسة التغيير. علماً أنه لا ثمرة ترتجى من وراء العمل التجديدي المبدع ما لم ترتبط الجهود وتتناسق في منظومة أو مؤسسة منظمة تحرك أجزاء العمل كلها بتناغم موحد يذوب الجزء فيه بالكل، ويأخذ الكل بحركة الجزء ويفعِّلها ويتفاعل معها ويضاعف من فعاليتها نحو نهايتها المحددة سلفاً، المتوحدة بنهايات أجزاء المنظومة جميعاً.
التجديد القائم على الإبداع هو الإطار الذي يتحرك في فضائه (منهجنا)، والمسار (أو البرنامج) الذي يسلكه للوصول إلى الهدف المنشود. بل هو الروح التي بدونها سيموت كل شيء، وتمسي المؤسسة مجرد هياكل وإدارات وموظفين ينتظرون مصيرهم كأي شيء زائد في الحياة.
ما هو التجديد؟ وما هو الإبداع؟ وكيف يختلط أثرهما في النسغ الصاعد في جذع القضية؛ وصولاً إلى تخليق أطيب الثمار وأحلها وأحلاها، منطلقين من الشرع وإليه ونحن نرود مسافات.. ونتوغل في مساحات.. ونتغلغل في زوايا قد لا تكون مكتشفة حتى الآن، ولا ينبغي أن تظل مطمورة تحت أتربة المنهجية القديمة والأفكار السقيمة.. هو موضوع هذه الورقات، أضعه بين أيديكم مؤكداً على أنه من دون إبداع وقدرة على التجدد وتقمص روح التجديد واستمراريته لا يمكن أن نحدث الأثر المطلوب، ونحقق الهدف المنشود. أرجو أن أسد به ثغرة، وأضع لبنة في بناء القضية العظيم.
أَهَمِّيةُ مَوضُوعِ التَّجدِيد
إن الأسباب التي دفعتني للاهتمام بموضوع (التجديد) متعددة ومتنوعة، سيجدها القارئ في ثنايا الكتاب. ولكن أود التنويه من بينها بسببين بالغَي الأهمية والخطورة، حملاني على إدخاله في موضوعات المنهج، وهما:
- قانون طول الأمد: هو – في رأيي – أحد قوانين الاجتماع الخطيرة. يتمثل بوجود جماعات ومؤسسات كان لها حضور حيوي وتأثير إيجابي لا ينكر، ثم أصيبت من بعدُ بالجمود وضعفت قابليتها على التجدد فترهلت وتضخمت ثم خمدت وهمدت، وأمست عقبات وأحجاراً يعثر بها السائرون على الطريق.
هذا أمر مقلق لكل صاحب قضية يؤسس لمنظومة تحملها ويخشى أن يصيبها ما أصاب مثيلاتها من قبل. فلم أرَ كالتجديد – إذا فهم على وجهه، ثم حوِّل إلى قصده – شيئاً يمكن أن يزود المؤسسة بالقدرة الذاتية على الاستمرار بالعطاء المتجدد فكراً وعملاً، ويمنحها القابلية المتطورة على التعامل مع المتغيرات الحادثة على طول الخط، والحيلولة بينها وبين تحولها – عاجلاً أم آجلاً – إلى مجرد إدارة تؤدي أعمالاً وظيفية نمطية مكررة. أي إلى هيكل قائم لا روح فيه، كما هو شأن تلك المؤسسات الخاملة التي جمدت فترهلت فتحولت إلى عبء زائد على كاهل الحياة. والله تعالى أمرنا أن نأخذ العبرة ممن سبقنا حتى لا يصيبنا ما أصابهم فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16). ثم قال بعدها، نافخاً الروح في النفوس، ونافحاً الأمل في القلوب، وباعثاً الهمم في الرمم: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17).
- ظاهرة (الصنمية): وبروزها في المؤسسات المترهلة، بدءاً بالصنم الكبير ونزولاً إلى أصغر وثن فيها. وهي ظاهرة متفشية في تلك المؤسسات. بل سبب جوهري من أسباب جمودها وفسادها. وذلك أمر مقلق أيضاً يدعو إلى البحث عن جذور هذه العلة وبقية العلل الجمعية الشائعة في المجتمعات الاضطهادية – ومنها مجتمعنا العراقي – للمسارعة في علاجها قبل أن تؤدي في النهاية إلى وجود وبروز تلك الظاهرة التي تمثل الخطر الأكبر على كيان المؤسسة والأهداف العظيمة التي أنشئت لأجلها، والغايات السامية التي تتطلع لبلوغها.
التجديد وفقهه، ثم تحويله إلى جزء لا يتجزأ من كيان المؤسسة: في نظامها المكتوب، وبرنامجها المعمول، وفي مقدمة ذلك أمران:
- فهم الدوافع النفسية الفردية والجمعية التي تصنع الصنمية
- ومبدأ (الشورى التشاركية)
هو الذي يمنع بروز ظاهرة الصنمية، ويمنح المؤسسة القابلية على التجدد وترميم الذات والقدرة على المطاولة في الاستثمار المنتج المتطور المواكب للتغيرات المتجددة كإحدى سنن الاجتماع غير القابلة للتبديل والتحويل.
التجديد في الإسلام
التَجدِيدُ فِي الإسلام
التجديد سنة كونية وفريضة شرعية
التجديد سنة كونية وفريضة شرعية. فلقد أقام الله عز وجل هذا الكون على سنة التجدد المستمر بحيث كلما وصل الأمر إلى نهايته أعاده جل وعلا إلى بدايته. ومصداقه هذه الآية وأمثالها: (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (الروم:11). وظاهرة إعادة الشيء إلى ما بُدئ به أول مرة في الكون، هو التجديد عينه في الشرع. وقد ورد ذلك في هذا الموضع (الروم:11) شاهداً على نشوء الدول وفنائها. وأن ذلك يحدث ضمن دورة كونية كدورة الليل والنهار التي تستحق التسبيح والتحميد مساء وصبحاً وعشياً وظهراً. ودورة إخراج الحي من الميت والميت من الحي. ودورة أو ظاهرة الحياة والموت بدءاً بالخلق ثم الموت ثم إعادة الحياة. لافتاً النظر إلى التخليق من التراب ثم العودة إليه، وهي شبيهة بتخليق النبات في دورة لا تنتهي حتى تعود. ذكر جل وعلا هذا متخللاً الآيات (17-26) مختومة بما بدئت به، وهو قوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27).
ومن شواهد هذه السُّنّة الكونية: (دورة الماء في الطبيعة)؛ إذ يبدأ من البحر بخاراً بفعل حرارة الشمس، ثم يتكاثف في الجو سحاباً تحمله الرياح لينعقد مطراً يصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. ومنه ما يكون ثلوجاً في قلل الجبال تذوب أنهاراً وتُسلك ينابيع في الأرض حتى تعود كلها إلى البحر مرة أُخرى وهكذا أبد الدهر حتى يأذن الله تعالى بزوال الأرض وما فيها. تلك الظاهرة التي أشار إليها جل وعلا في سورة (الروم) نفسها منصصاً ومعقباً فقال: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم:48-50).
على أن ثمة فرقاً جوهرياً بين سنة الله في ظواهر الكون، وسنته في ظاهرة نشوء الدول وفنائها. ذلك أن الأولى تكون ضمن قوانين نافذة خارج نطاق قدرة الخلق، على العكس من الثانية. التي جعلها الله تابعة لإرادة البشر: فإن أحسنوا سلموا، وإن أساءوا هلكوا. فقال جل وعلا وفي السورة نفسها: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (الروم:41-45).
حديث التجديد في ( سنن أبي داود ) : متناً وسنداً
روى أبو داود في (سننه) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها دينها). والحديث – وإن صححه بعض العلماء وضعفه آخرون – يذكر ظاهرة التجديد صراحة. وهو خبر يراد به الأمر. ففيه حث للأمة على ممارسة التجديد، وإلا تعرضت للأدواء ودهتها عوادي الفناء.
قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي في (عون المعبود لشرح سنن أبي داود): قال المناوي في فتح القدير: أخرجه أبو داود في الملاحم والحاكم في الفتن وصححه، والبيهقي في كتاب المعرفة.. كلهم عن أبي هريرة. قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح. وقال أيضاً: ( فِيمَا أَعْلَم ) الظَّاهِر أَنَّ قَائِله أَبُو عَلْقَمَة يَقُول فِي عِلْمِي أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة حَدَّثَنِي هَذَا الْحَدِيث مَرْفُوعًا لَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ… قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: الرَّاوِي لَمْ يَجْزِم بِرَفْعِهِ. اِنْتَهَى. قُلْت: نَعَمْ لَكِنْ مِثْل ذَلِكَ لَا يُقَال مِنْ قِبَل الرَّأْي، إِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْن النُّبُوَّة، فَتَعَيَّنَ كَوْنه مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيّ e. إهـ قول المناوي([1]).
وقال الدكتور عداب الحمش (المهدي المنتظر/296) بعد بحث مطول في الحديث سنداً ومتناً: لكل ما سبق أقرر مطمئناً أن الحديث ضعيف الإسناد منكر المتن. إهـ.
على أن متن الحديث من حيث المدة التي تستدعي التجديد (مئة عام)، لا يتطابق مع الواقع، ولا الأصل اللغوي للفظ (القرن). ويستحيل أن يناقض خبر الرب قدره. وللخروج من الإشكال فإني أرى أن الحديث روي بالمعنى. فحتى يصح واقعاً لا بد أن يكون أصل النص الحديثي (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من يجدد لها دينها)، وليس (على رأس كل مئة عام). لكن أحد الرواة تصرف فيه فرواه بالمعنى على اعتبار أن القرن مئة عام، فبدل أن يقول (قرن) قال: (مئة عام) على الشائع من معنى كلمة (القرن). لكن هذا معنى واحد من معانيه. وهو معنى اصطلاحي لم يكن معروفاً في أصل اللغة والله أعلم.
فمن معاني القرن الجيل من الناس، ولم يرد في القرآن الكريم سوى هذا المعنى رغم أنه تكرر خمس مرات، كقوله جل وعلا: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) (الأنعام:6).
وهذا هو الأوفق للواقع؛ إذ إن لكل جيل عوائده وظروفه وتحدياته التي تفرض عليه ما يناسبها من أنواع العمل والاستجابة؛ فيقتضي ذلك عند نهاية كل جيل ورأس الجيل الذي يليه أنواعاً أُخرى من الأعمال والاستجابات. وهذا هو التجديد المقصود. وهو ما يقتضي أن يرد نص الحديث بلفظ (القرن) أي الجيل من الناس؛ فهذا هو الموافق لعوائد الخلق وواقع الأمر، وليس بلفظ (مئة عام)؛ فهذا مخالف لسنن الاجتماع؛ فالأمة التي تبقى جامدة على ما هي عليه مئة عام أمة خاملة خامدة لا تصلح لقيادة الحياة. ونحن من خلال فهمنا للأقدار وعلاقتها بالأسباب نرى الترابط الموضوعي بين السنة الكونية والفريضة الشرعية. على الأمة إذن أن تمارس عملية التجديد مع كل جيل حتى لا تجمد فتخمد فتفنى.
والحديث – بصرف النظر عن صحته من ضعفه – يذكر ظاهرة التجديد صراحة. وقد جاء النص بصيغة خبر يراد به الأمر كقوله جل وعلا: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس:9). وهو أمر بتزكية النفس جاء بصيغة الخبر. فيكون في الحديث حث للأمة على ممارسة التجديد، وإلا تعرضت للأدواء ودهتها عوادي الفناء
فمن معاني القرن الجيل من الناس، ولم يرد في القرآن الكريم سوى هذا المعنى رغم أنه تكرر خمس مرات، منها قوله جل وعلا: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) (الأنعام:6). فالهلاك إنما يقع على مجموع الجيل الواحد المقارن بعضه لبعض في المكان والزمان. واللفظ مأخوذ من الاقتران أي المصاحبة والمعاصرة. ومنه قول الشاعر:
إذا ما مضى القَرْنُ الذي أَنتَ فيهمُ وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ، فأَنتَ غَرِيبُ
وقال ابن منظور في (لسان العرب) ما حاصله: والقَرْنُ من الناس: أَهلُ زمان واحد. وذكر اختلاف العلماء في تقدير مدته. قال الأَزهري: وإنما اشتقاق القَرْن من الاقْتِران، فتأَويله أَن القَرْنَ الذين كانوا مُقْتَرِنين في ذلك الوقت والذين يأْتون من بعدهم ذوو اقْتِرانٍ آخر. إهـ.
[1]– هذا القول: “مِثْل ذَلِكَ لَا يُقَال مِنْ قِبَل الرَّأْي، إِنَّمَا هُوَ مِنْ شَأْن النُّبُوَّة، فَتَعَيَّنَ كَوْنه مَرْفُوعًا”، في رفع الحديث الموقوف يمثل أحد القواعد الخطيرة في تصحيح الأحاديث الضعيفة؛ لأنها غير محكمة، تصيب وتخطئ، وتخضع لمزاج القائل وقناعته.
المعنى الرباني للتجديد
المعنى الرباني للتجديد
جاء في (لسان العرب) لابن منظور: تجدَّد الشيءُ: صار جديداً. وأَجَدَّه وجَدَّده واسْتَجَدَّه أَي صَيَّرَهُ جديداً. إهـ. وصيرورة الشيء جديداً تعني بعد أن صار قديماً أو بالياً. والذي يبلى من الدين هو دين الناس؛ بتغير مفاهيمه في نفوسهم. وليس الدين نفسه.
وجدت أجمع تعريف للتجديد قوله جل وعلا: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18). أي يتخيرون أنسب ما يكون من الوحي الثابت لإنزاله على الواقع المتغير. وذلك يشمل أمور الدين وشؤون الدنيا، والأخذ بأسباب التطور والحضارة.
فالحسن هنا حسن تناسب إذن، لا الحسن بمعناه المطلق. يدل على ذلك أن الله عز وجل خيّر المسلم – في مواضع عديدة من كتابه – بين أمرين مرغباً إياه في أحدهما، كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40). لكن العفو ليس هو الأحسن في كل حال، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال:68).
روى مسلم في سبب نزول هذه الآيات في أسرى (بدر) عن ابن عباس قال: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: (ما ترون في هؤلاء الأسارى)؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار. فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب)؟ قلت: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكنّا فنضرب أعناقهم. فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان (نسيبٍ لعمر) فأضرب عنقه. فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت. وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة)، شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم. وأنزل الله عز وجل: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ – إلى قوله – فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) (الأنفال:67 – 69) فأحل الله الغنيمة لهم.
فكان قتل الأُسارى هو (الأحسن) إلى درجة الوجوب الذي يستحق تركه العقوبة، وليس العفو عنهم. وقد بيّن الله تعالى سبب رفع العذاب على أخذ الفداء، وهو سبق كتابه وقضاؤه في أن لا يعذب مجتهداً باجتهاده.
إنزال الوحي الثابت على الواقع المتغير
التجديد في الإسلام إذن: إنزال الوحي الثابت على الواقع المتغير.
وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ففي حال يكون العمل بآية ما أحسن من العمل بآية أُخرى، وفي حال يكون العمل بغيرها هو الأحسن. يقول جل وعلا: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) (الأعراف:145). قال بعض المفسرين: ظاهر قوله: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) يدل على أن بين التكليفين فرقاً وهو أن التكليف كان على موسى أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره من قومه). فكان (الأحسن) ما كان فيه مراعاة لأحوال الناس قوة وضعفاً وظرفاً. فيكون المقصود بـ(الأحسن) الأنسب للحال.
ومعرفة ذلك على وجه الدقة مهمة المجددين الربانيين، الذين يعرفون لكل حال ما يصلح لها. وهذه أعلى المراتب. ويختلف العلماء في درجاتها على قدر فهمهم وقربهم من الله عز وجل فمنهم المسرع المحلق، ومنهم دون ذلك. وقد تنزل المرتبة بالمخذولين إلى حد الصرف التام عن الفهم، كما قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146). وهذا لا ينفي أن يكون الصرف درجات ومستويات على قدر معصية العبد، فمنهم المكثر ومنهم المقل. فمن قواعد التفسير أن لكل آية طرفين ووسطاً. فهناك الصرف التام، ويقابله الحسن التام الذي هو أخذ الأمر بقوة كشأن أولي العزم من الرسل، ومنهم موسى عليه السلام. وما بين هذا وهذا درجات علمها عند الله!
فالتوراة أُنزلت كاملة؛ فلا بد من الاجتهاد في تنزيل آياتها الثابتة على الواقع المتغير. وقد كانت الآيات في عصر الوحي تتنزل طبقاً للواقع، حتى إذا تم نزول القرآن الكريم صار القرآن بين أيدينا كالتوراة بين يدي بني إسرائيل، فنجتهد في تنزيل آياته على واقعنا فيكون لكل جيل تنزيل. وهذا هو ما أفهمه من معنى التجديد في مطلوب الشرع.
مجمل القول: لقد تنزل القرآن الكريم موضعياً وجمع موضوعياً. وعلينا اليوم أن نفهمه موضوعياً وننزّله موضعياً.
تعدد المجددين وتجزؤ التجديد
تَعَدُّدُ المجَدِّدِينَ .. وَتجَزُّؤُ التَّجدِيد .. والحاكم أولـى به من العالم
تجزؤ التجديد
التجديد – كباقي العلوم – قابل للتجزؤ، وموضوعاته كثيرة، كذلك الإبداع. وليس من شرط المجدد المبدع أن يكون موسوعياً، وليس ذلك في مقدور إنسان؛ فالمجدد يكون مجدداً في مجال أو أكثر، وليس في كل مجال.
تعدد المجددين
المجدد إذن قد يكون مجدداً في موضوع، وجامداً في موضوع آخر. فكلمة (من يجـدد) الواردة في الحديث المروي عن النبي e لا يلزم منها أن يكون المجدد فرداً، بل لا بد للتجديد الحقيقي من مجموعة مجددين، فهناك مجدد في الحكم، ومجدد في السياسة، ومجدد في التفسير، ومجدد في التاريخ، ومجدد في العسكرية وفي علوم الطبيعة.. وهكذا. وكمال التجديد – بل شرطه الذي من دونه لا تظهر نتيجته، ولا تقطف ثمرته – أن يكون ضمن منظومة تنسق عملهم، تزاوج بينه وتخرجه إلى حيز الوجود. لهذا علينا أن نحترم الاختصاص. كما علينا أن لا ننساق وراء المبدعين في كل المجالات، إنما نتبعهم في مجال إبداعهم واختصاصهم فقط.
قال ابن الأثير الجزري: (لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المئة رجلاً واحداً وإنما قد يكون واحداً، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة (مَنْ) تقع على الواحد والجمع. وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاءَ خاصة – كما ذهب إليه بعض العلماء – فإن انتفاع الأمة بالفقهاء، وإن كان نفعاً عاماً في أمور الدين، فإنّ انتفاعهم بغيرهم أيضاً كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فإن كل قومٍ ينفعون بفن لا ينفع به الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر.. فإذا تحمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة، وأشبه بالحكمة.. فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعةٍ من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة، يجددون للناس دينهم)([1]).
لا مجدد فرداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم
باستحضار الحقائق الأربعة السابقة، وهي:
- الإبداع ممارسة جماعية
- الفكر المبدع نتاج فعل اجتماعي نسقي
- تجزؤ التجديد
- تعدد المجددين
نصل إلى نتيجة مهمة هي أنه من غير الممكن أن يكون المجدد واحداً في كل عصر، بل التجديد مهمة كبيرة لا يقوى على حملها أحد منفرداً بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو النبي الذي اجتمع فيه كل الأنبياء، وليس ذلك لأحد من قبله ولا من بعده. ويمكننا طبقاً لهذه النتيجة أن نوسع من دائرة النظر لتشمل العديد من الرجال – ولا مانع يقف أمام النساء من ذلك – في كل زمان يمكن أن ينطبق عليهم وصف التجديد. وحين تكسر الحواجز المادية والمعنوية بين هؤلاء، ويتم الاتصال بينهم في زمان معين تحصل النهضة للأمة في ذلك الزمان، وحين تتناسق جهودهم في مكان معين تحصل النهضة للأمة في ذلك المكان.
وهذه النتيجة تقوي من الرأي القائل بأنه لا مهدي بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه في كل زمان يوجد مهديون متعددون مبثوثون في الأمة، هم المصلحون المجددون.
الحاكم أولى بوصف ( المجدد ) من العالم
من تأمل الكلام السابق، وتدبر فنظر في الزمان والدعوات وحاجتها إلى التجدد وعملية التجديد، عرف أنه لا تمر فترة (25) عاماً حتى تتطلب أي دعوة أو دولة أو مؤسسة تجديداً تحافظ به على حيويتها وتمتلك به قابليتها على الاستمرار. وهذا يقوي القول بأن الصحيح في نص الحديث – وإن اختلف في صحته – لفظ (قرن) أي الجيل من الناس كما سبق بيانه في حاشية تخريج الحديث، وليس لفظ (مئة عام). وأرى – طبقاً لهذه الحيثيات مجتمعة – أن المجدد الحقيقي أو المجدد بمعناه المطلق هو الحاكم المسلم، وأن الحاكم أولى من العالم بهذا الوصف؛ لأنه الوحيد الذي يمكن أن يعم تجديده فيسري في جميع مفاصل الدين بمعناه الذي هو عليه والذي يشمل حركة الحياة كلها خاضعة لشرع الله تعالى، وبصورة عمل تديره منظومة تنتج فعلاً اجتماعياً نسقياً، مبني على معرفة قابلة للاختبار. على أن هذا لا يغمط العالم حقه ووصفه وكونه (مجدداً) ما دام أنه يمارس عملية التجديد فكراً وتطبيقاً. لاسيما في فترات تخلي الحكام عن وظيفتهم الحضارية الكبرى، كما في هذا الزمان، وقبله بكثير. لكن تجديده يبقى محصوراً في المجال الذي يمكنه أن يتحرك فيه. وهذا يضيق ويتسع طبقاً لقدرته وظرفه.
كما أرى أن أول حركة تجديد في تاريخنا كانت خلافة معاوية رضي الله عنه، فمعاوية أول مجدد في تاريخ الإسلام. وكانت هذه الحركة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثين عاماً. وقد ولدت ولادة متعسرة ابتدأت قبل ذلك بخمسة أعوام.
[1]– جامع الأصول، 11/319، أبو السعادات بن محمد الجزري، تحقيق عبد القادر الأرنؤوط، مطبعة الملاح، مكتبة دار البيان الطبعة الأولى، 1392هـ/1972م.
حقائق شرعية واجتماعية
أُسُسُ التَّجدِيد
أولاً : حقائق شرعية واجتماعية
استمرارية تجدد حركة الحياة
- كل تحدٍّ يتطلب استجابة لمواجهته، هكذا يقول علماء التاريخ والاجتماع.
- ولا بد أن تكون الاستجابة متناسبة مع التحدي نوعاً وكماً حتى تتم معالجة الموقف.
- انقلاب الاستجابة إلى تحدٍّ يتطلب استجابة جديدة: فإذا تحقق الهدف، وهو المعالجة، وتجاوز المستجيب – فرداً أو جماعة – الأزمة، انقلبت الحالة، بطبيعتها، إلى تحدٍّ آخر يحتاج إلى استجابة جديدة مناسبة. كالنجاح في الامتحان: ما لم يستثمر لتحقيق نجاح لاحق ضعفت الفائدة، أو جمدت الحركة، أو انقلب الوضع إلى فشل. وانظر إلى ما ورد في حكمة السالكين من أن حسنة أدخلت صاحبها النار، وسيئة أدخلته الجنة. وتأمل في غرور الأقوياء، وخذ العبرة من عاقبة طغيان الأغنياء.
وبهذا نكتشف سنة أو قانوناً من قوانين الاجتماع ندرك من خلاله أن حركة الحياة لا تتوقف عند نقطة معينة، بل هي سلسلة من الحركات الجزئية يؤدي بعضها إلى بعض، وينقلب بعضها عن بعض في تناوب متدفق بين استجابة وتحد، هكذا إلى الأبد.
استغلال الحدث أهم من الحدث
ونكتشف أيضاً من خلال هذه الاستمرارية الانقلابية في حركة الحياة قانوناً آخر من قوانين الاجتماع هو أن “استغلال الحدث أهم من الحدث نفسه”. فمن لم يستعد للمواجهة المستمرة المتغيرة جمد وقدم وطال عليه الأمد، وأمسى خارج نطاق الحياة، في مفارقة تنفصل بها الجغرافية عن التاريخ. يقول تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16). ثم يقول بعدها مباشرة: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد:17)؛ فطول الأمد وقسوة القلب من الجمود، والإحياء بعد الموت من التجديد.
إذن.. أهم من الحدث استغلال الحدث..
هذه حقيقة يجهلها الكثيرون من عميان السياسة والدين والمجتمع. ومن علِمها منهم تبقى مسافة كبيرة تفصل بين بعضهم وبين تحويل العلم إلى عمل، والمعرفة إلى ممارسة فاعلة في الحياة باتجاه الهدف.
لكن الشيعة لهم شأن آخر.. إنهم أساتذة هذا الفن.. وفرسان ميدان تطبيق هذه الحكمة العظيمة، وإن اقتضى الأمر عندهم الخروج عن جادة المشروع والمعقول. بل ليس لديهم أصلاً خطوط فاصلة، ولا حدود يتقيدون بها وهم يُسَخِّرون طاقاتهم إلى آخر حد في سبيل استغلال الحدث بأي وسيلة كانت أو تكون. الكذب والتزوير والسرقة والادعاء بعض أدواتهم الفاعلة، ومنها سرقة التأريخ، وجهود الآخرين، ونسبة الأحداث المهمة لهم، ورمي التهم والجرائم التي يرتكبونها على غيرهم، واختلاق القصص والحكايات المشوشة والمشوهة ورمي الآخرين بها، مع ادعاء عريض للمظلومية والاضطهاد، وتباكٍ لا يملون من تكراره، وولولة وتمسكن يستدرون به حتى عطف الضحية! وما شابه من الوسائل والأساليب. ناهيك عن استغلال الصحافة والإعلام والمطبوعات والنشريات، أضف إليه الطرق المستمر لأبواب المحاكم لتسجيل الدعاوى وتقديم الشكاوى، والدوران بين المحافل والمنظمات والهيئات المحلية والدولية.
في زمن الحكومة السابقة للاحتلال وجدنا أهل السنة يسمعون في بعض المناطق سب الصحابة بآذانهم ينطلق من أجهزة التكبير المنصوبة فوق الحسينيات الشيعية. لم أرَ أو أسمع أحداً منهم قدّم في يوم ما شكوى إلى الجهة المختصة ضد هذه المنكرات الشرعية المغلظة، والتي هي في الوقت نفسه جرائم يعاقب عليها القانون. بينما نحن نترضى عن سيدنا علي وأهل بيته، وتقارير الشيعة علينا بالأكوام لدى دوائر الأمن والحزب تتهمنا بالتهجم على “أهل البيت” وسبهم! لقد أوصلوا أهل السنة إلى حالة لا يطمعون فيها بأكثر من سكوت الشيعة عنهم؛ فهم يتطيرون من إثارتهم أو تهييجهم حتى ولو بتقديم شكوى قانونية لدى الجهات المعنية. ولسان حال الواحد منهم يقول: أنا لم أسلَم وأنا بعيد عنهم، فكيف لو اقتربت منهم، أو تحرشت بهم؟! وهذه الحالة غزت نفوس المسؤولين بحيث لم يكونوا يطلبون غير رضى الشيعة وسكوتهم عنهم! وهو عكس ما يشيعه الشيعة عن الحكومة السابقة! وهو نوع من فن استغلال الحدث، أتقنه الشيعة إلى آخر قطرة.
المجددون بشر مثلنا
في يوم من أيام شتاء عام 1997 كنت ضيفاً على صديق لي في قرية (السجارية) الجميلة شرقي (الرمادي)، وعلى عادة أهلها في الاحتفاء بالضيف يتجمع الجيران والأحباب. قال أحد الحاضرين: ما أحوجنا لرجل كعمر بن الخطاب! لو كان بيننا الآن عمر بن الخطاب t لانصلحت حالنا. فقلت له: بل ما أحوجنا إلى الأُمة التي تحتضن عمر وأمثاله! لو كان عمر بن الخطاب بيننا ما استطاع أن يغير الحال بلمسة سحرية، ولربما كان مأواه الآن بقعة مظلمة وراء القضبان. كم في الأُمة اليوم من عمر! ولقد قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) (الواقعة:10-14). كم يبلغ (القليل) في أمة تعدادها مليار ونصف المليار؟ لا شك أنهم بالملايين. وحين يأذن الله تعالى سيأتي اليوم الذي تغير فيه هذه الملايين المنتشرين في نسغ الأمة واقعها إلى الحد الذي تصلح أن تكون حاضنة لهم فتستحق بذلك النصر. لم أجد من يؤيدني في ذلك الجمع من أحد: فبعضهم عارضني، وبعضهم ظل ساكتاً. بعد انفضاض المجلس أسر إليّ أحد المعارضين أنه مقتنع بكلامي، لكنه كان يداري صاحب البيت! فعجبت مما قال، وعلمت أن الشوط ما زال طويلاً.
* *
المجددون يخرجون من بيننا، وهم من طينتنا يسري عليهم قانون الخطأ والصواب. ليس من شرط المجدد أن يكون (سوبرماناً) يتميز بخصائص لا يملكها بقية أبناء جنسه وعصره.
المجددون ليس لديهم أجنحة تطير، ولا تطوى لهم الأرض بلمسة قدم.
إنهم بشر يضحكون ويبكون، ويفرحون ويحزنون، يجوعون ويعطشون، يغفلون وينسون، ويتعبون وينامون، يضعفون فيخطئون ويذنبون، ويضعفون أيضاً فيخافون حتى تبلغ قلوبهم الحناجر ويظنون بالله الظنونا. يعلمون أشياء ويجهلون أشياء… لكن لهم عقولاً لماحة وهمماً عالية طماحة، تتدارك ضعفهم، وتمسح أخطاءهم، وتبيض صحائفهم، خصوصاً حين يكونون في ذمة الخلود فتبهت تلك الأخطاء، وتشتد تلك الصحائف تألقاً؛ لأن مناكفات المعاصرة، وتحاسد المقارنة، ومضايقات المنافسة كلها تكون قد ماتت مع أصحابها؛ فإذا كتب عنهم الكاتبون لم يسجلوا إلا جوانب العظمة منهم.
ولهذا مردود سلبي من أكثر من وجه:
- ينعكس على الجمهور فتهبط همته حين يجد نفسه عاجزاً عن مجاراة تلك الجوانب، والاقتداء بتلك الخلائق.
- وينعكس على المجددين أنفسهم أثناء حياتهم فيعانون ما يعانون من صدود المجتمع ونفرته، واستهزائه وسخريته، وعدائه ولدده. وقد يفضي بهم ذلك إلى القتل أو الاعتقال، أو التشرد في البلدان! لأن المجتمع يتصور المجددين والعظماء طرازاً من البشر بلا ضعف ولا أخطاء؛ فيفوته إدراك مرامي المجدد، وينشغل بالنبش دون النقش، وبالتنقير دون التغيير.
إن هذه أحدى جوانب معاناة الأنبياء ب مع أقوامهم. فإن من دواعي نفرة قوم النبي منه تصورهم الأنبياء خلقاً غير خلقهم، أو جنساً غير جنسهم، وأن النبي شخص لا يجوز عليه الخطأ ولا التقصير. أما هذا الذي يدّعي أنه نبي فهو شخص عايشوه وشاهدوه يتحرك بينهم، فلاحظوا عليه شيئاً من ذلك؛ فكيف يكون نبياً؟! انظر كيف ذكّر فرعون موسى u بسابقة قتله للقبطي، وفي ذهنه كيف يمكن للنبي أن يكون قاتلاً؟! (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (الشعراء:18-20).
ولعل هذا أحد الأسباب التي من أجلها عرض القرآن العظيم حياة الأنبياء ب بما لها وما عليها، فتطرق إلى ذكر بعض ما عملوه مما لامهم الله عليه. فكانت صورة متوازنة تلتقي فيها الذرات الأرضية بالأنوار السماوية، وتمتزج الشخصية البشرية بلوازم الوظيفة الربانية النبوية، بحيث يبقى ذلك الكائن السماوي النبوي بشراً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؛ من أجل أن يبقى حقيقة ماثلة ومثلاً حقيقياً للاقتداء. هذا هو حال النبي الذي يأتيه الوحي من السماء، فكيف بالمجدد الذي هو إنسان عادي مجرد من هذا الامتياز؟
أرأيت لمَ تعظِّم الأقوام الأنبياء السابقين، وتتنكر لمن بعث بينهم نبياً من النبيين؟ الشيء نفسه ينطبق على المجددين!
صفات المجدد
صفات المجدد
ومما يثبط الهمم، ويقعد عن بلوغ القمم ما يذكر بعض الخائضين في الأمر من شروط تعجيزية وصفات كمالية للمجددين، ما أنزل الله بها من سلطان. مثل أن يكون جامعاً لكل فن من العلم، وأن يكون مجتهداً في الفقه، وبعضهم اشترط الاجتهاد المطلق. وإذا علمت أن واضعي هذه الشروط لا يعتبرون شيخ الإسلام ابن تيمية مجتهداً مطلقاً، أدركت بعدهم عن الواقع. لقد كان صلاح الدين الأيوبي والشيخ محمد بن عبد الوهاب مجددين، ولم يكن الأول من أهل التخصص في الفقه، ولم يبلغ الثاني في نظر الفقه التقليدي درجة الاجتهاد، فكان ماذا؟ وبلغ من تنطعات بعضهم أن اشترط للمجدد كونه من أهل البيت، كما قاله السيوطي في منظومته عن (المجددين)، محتجاً بحديث باطل ينسب للنبي e يروى عن الإمام أحمد أنه قال فيه: يُروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مئة سنة، برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم). والحديث لا يعرف سنده فيما فوق الإمام أحمد، فهو معضل في أشد حالات الإعضال.
إنما يكفي المجدد أن يكون مدركاً لأدواء الأمة وتحدياتها الكبرى، ناشطاً في علاجها ومواجهتها. يتمتع بملَكة الاستنباط واستخراج المعاني الدقيقة والحلول الناجعة لا سيما تلك التي تتعلق بالنوازل العامة التي تهم المجتمع، ولديه من العلم الشرعي ما يكفي للتصدي لما هو بصدده من جوانب التجديد والإصلاح. ومعه ثلة من أهل الشأن يستشيرهم ويأخذ برأيهم سداً لما يعتريه من نقص. وبطبيعة الحال لا يكون المجدد في الإسلام من غير أهل السنة.
المجددون يسبقون عصرهم
المجدد والقائد هو الرجل القادم من المستقبل إلى الحاضر؛ ليأخذ بيد الحاضر ويتجه به إلى المستقبل. فالمجددون يسبقون عصرهم فإما أن يقفزوا به، إن كان المجتمع مستعداً لذلك. وإما أن لا يتحمل العصر تجديدهم فينتهون على أيدي معاصريهم جسدياً أو معنوياً.
ومشكلتنا في رموز تتحرك في الحاضر، لكنها متجهة به إلى الماضي!
المجدد يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم
يجد الناظر في تاريخ النبوات أنه كلما بعث نبي ثم تقادم العهد، وحصل التغيير والتحريف والركود، وظهرت طبقة (رجال الدين) الذين يتخذون من الدين مهنة للارتزاق، ووسيلة للارتقاء: بعث الله تعالى نبياً يعيد الناس إلى الدين الأول، مع الأخذ بالاعتبار مستجدات الواقع الذي يبعث فيه؛ فتتغير بعض الأحكام الفقهية، أو يكون التركيز على قضية لم تكن ظاهرة على أيام النبي السابق، أو النبي الآخَر في مكان ثانٍ، فيجعلها هي المحور الذي تدور عليه رحى دعوته القائمة على قاعدة التوحيد أساساً.
وهذا هو معنى التصديق للكتاب السابق والهيمنة عليه، الوارد في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48). قال الشوكاني في (فتح القدير): (والمعنى أن القرآن صار شاهداً بصحة الكتب المنزلة، ومقرراً لما فيها مما لم ينسخ، وناسخاً لما خالفه منها، ورقيباً عليها وحافظاً لما فيها من أصول الشرائع، وغالباً لها لكونه المرجع في المحكم منها والمنسوخ، ومؤتمناً عليها لكونه مشتملاً على ما هو معمول به منها وما هو متروك).
وإذ ختم الله تعالى النبوة؛ فقد جعل للأنبياء عليهم السلام ورثة يقومون مقامهم، هم القادة، لا كما هو شائع عن النبي e أنه قال (العلماء ورثة الأنبياء)([1])، ما لم يكن العالم من طراز القائد؛ فإنك لو حللت شخصية النبي وجدتها تقوم على ثلاثة عناصر أساسية:
- النبوة.
- العلم.
- العمل: وعلى رأسه مواجهة التحديات الواقعية.
ووريث النبي – بعد ختم النبوة – يتبقى له عنصران هما: العلم والعمل به لكن في مواجهة تحديات الواقع. وهذا هو القائد. أو العالم العامل. ولا يكون العالم عاملاً بعلمه وهو منصرف عن مهمته الأساسية في التصدي لمعالجة الواقع. ولأن مفهوم العمل انحسر ليقتصر على العمل بالدين المجرد، حصل الفصام النكد بين العلم والقيادة؛ فصار العلم قاعداً لا قائداً، والعالم هو القائل لا القائد.
وإذ تقرر أن مهمة النبي الأساسية هي تجديد الدين في عقول ونفوس وواقع المجتمع، فإن تمام الوراثة الربانية أن يكون العالم قائداً مجدداً، وذلك ببعث الوحي من جديد في حياة الأمة. ومن هنا يتبين خطورة موقع العالم، وعظمة المسؤولية المناطة به من جهة، ويتضح حجم الأجر وسمو الشرف الذي يتقلده حين يمارس دوره كقائد يترسم خطى الأنبياء عليهم السلام من جهة أخرى.
ليس من شرط التجديد الإتيان بجديد
كان أحد مشايخ الدين في مدينة الحلة يتكلم بحماس وهو يعرض على لجنة التوعية الدينية في دائرة الأوقاف أن تقوم بتوجيه دعوة رسمية إلى أحد الأساتذة المعروفين في بغداد ليتحدث في مسجده عن (العولمة). كان ذلك في نهايات عقد التسعينيات!
ما الذي يعالج موضوع (العولمة) من مشاكل أهل السنة في الحلة؟ وما مدى حاجتهم إليه؟ علماً أن الإتيان بمثل ذلك الأستاذ من بغداد إلى الحلة مُكْلف جهداً ووقتاً ومالاً. لا سيما مع إهمال أو تضييع هذا الشيخ ونظرائه في ذلك المكان الموضوعات الأساسية التي ينبغي أن يهتموا بها! لقد كان يكفي المصلين في مسجد ذلك الشيخ أن يتحدث هو لهم عن ذلك في بعض خطبه أو يعقد له محاضرة، أو يشرح لهم الموضوع في جلسة عامة أو خاصة. ويوفر ذلك الجهد للموضوعات التي تمس الواقع.
انظر إلى قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189). لقد نزل رداً على بعض الصحابة حين سألوا النبي u عن القمر كيف يبدو هلالاً ثم يكبر حتى يصير بدراً ثم يصغر حتى يعود هلالاً ؟ فبين لهم الله تعالى أن الأولى بهم أن يهتموا بتصحيح أوضاعهم ويلتفتوا إلى تقاليدهم المتخلفة التي ما زالوا عليها مثل التشاؤم حين الرجوع من السفر من دخول البيت من بابه، فيتسور أحدهم الجدار بدلاً من ذلك! أما تلك المسائل العلمية الكبيرة فهو غير مهيأ لإدراكها بسبب فقدانه لمقدماتها العلمية؛ فيكون البحث فيها نوعاً من الترف أو العبث العقلي الذي لا طائل من ورائه. ولو أجابهم القرآن العظيم إلى ما طلبوا ما استطاعوا فهم جوابه ولانشغلوا عن الواقع بجدل عقيم يضر أكثر مما ينفع. وهذا شبيه بدخول البيوت من غير أبوابها. هذا رغم كون الموضوع جديداً! وهكذا هو حال ذلك الشيخ في مثالنا آنف الذكر. إذن قد يكون الجديد مدعاة للجمود والتقهقر بدلاً من التجديد والتقدم.
لم يأت الشيخ محمد عبد الوهاب على خطاب شيخ الإسلام ابن تيمية بجديد. لكنه كان مجدداً؛ حين بعث في الواقع الجديد ما يناسبه ويحتاجه من الخطاب القديم. وذلك داخل في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18).
هذه من كبريات المشاكل الفكرية في واقعنا؛ إن أصحاب المؤسسة الدينية والسياسية وغيرها من المؤسسات التي تتولى قيادة الجمهور بأي شكل معظمهم متخلفون علمياً وفكرياً. وأمثلهم طريقة من يجعل شغله الشاغل كسب العواطف وشد الانتباه. وهذا يدعوه إلى محاولة الإتيان في كل مرة بجديد أو غريب بصرف النظر عن مساسه بحياتهم وواقعهم.
- المشكلة أن جمهور الناس مغرم بكل طريف وغريب وعاطفي حتى لو كان خيالياً أو خرافياً! فتراه يلهث وراء من يلبي هذه النزعة المريضة فيه. وهذا يجعل من الخطيب أو المحاضر بهلواناً لا هم له إلا شد انتباه الجمهور وإن كان ذلك على حساب حاجته، بل عقله وفكره! هذا حال الخيرة من الخطباء! فكيف بالبقية ممن لا همّ لهم إلا التمسك بالمنبر أو بالبيت التابع للمسجد مهما كان الثمن؟! هذا مع احتفاظنا باستثناء القليل النادر منهم.
وهكذا صار المنبر من أكبر أسباب الجمود الديني بدلاً من أن يكون السبب الأول في التجديد! رغم أن بعضه يطرح مسائل جديدة، لكنها لا تحرك الواقع المتجمد بسبب عدم أو ضعف مساسها به.
ثانياً : عناصر التجديد .. ومجالات التطبيق
إن العناصر التي تقوم عليها عملية التجديد الرباني في الإسلام ثلاثة: الوحي والعقل والواقع. أما المجالات تجري عليها عملية التجديد، فلا شك أن الدين، الذي هو نصوص الوحي متمثلاً بـ(الكتاب والسنة)، ثابت لا يتغير ولا يقبل التجديد؛ فلا بد أن يكون المقصود بتلك المجالات هو الدين بمعنى حركة الإنسان بالوحي، متمثلةً بشيئين: فهمه وعمله المستند إليه. لذا قيل في العرف: فلان دينه ضعيف، وفلان دينه قوي. أو أهل البلد الفلاني دينهم منحرف، والبلد الآخر دينهم قويم. فيكون المقصود بالدين الذي يتجدد هو الدين الذي عليه الفرد، أو المجتمع في واقعه الذي هو عليه.
[1]– الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم. والحديث جمع بين ضعف المتن وضعف السند. رده كبار العلماء، كالدارقطني وابن القطان والترمذي بسبب ما فيه من مجاهيل واضطراب وعدم اتصال. نعم هناك من يحسنه بشواهده، لكن يبقى لا طريق له صحيح السند. والتحسين هنا؛ لخطورة المفهوم، غير معتبر.
عناصر التجديد وموارده
ثانياً : عناصر التجديد .. ومجالات التطبيق
إن العناصر التي تقوم عليها عملية التجديد الرباني في الإسلام ثلاثة: الوحي والعقل والواقع. أما المجالات تجري عليها عملية التجديد، فلا شك أن الدين، الذي هو نصوص الوحي متمثلاً بـ(الكتاب والسنة)، ثابت لا يتغير ولا يقبل التجديد؛ فلا بد أن يكون المقصود بتلك المجالات هو الدين بمعنى حركة الإنسان بالوحي، متمثلةً بشيئين: فهمه وعمله المستند إليه. لذا قيل في العرف: فلان دينه ضعيف، وفلان دينه قوي. أو أهل البلد الفلاني دينهم منحرف، والبلد الآخر دينهم قويم. فيكون المقصود بالدين الذي يتجدد هو الدين الذي عليه الفرد، أو المجتمع في واقعه الذي هو عليه.
عناصر ( الدين ) المتجدد
إن عناصر هذا الدين، أو هذه الحركة: عقل يتكيف بالعلم، وواقع متغير بالمؤثرات([1]). فيتحصل لدينا مما سبق أن الدين حاصل جمع تفاعلي بين عناصر ثلاثة: الوحي: وهذا ثابت، والعقل والواقع: وهذان متغيران: فالعقل يتسع ويضيق تبعاً لخلقته ومحتواه من العلم، والواقع يتغير نتيجة لطروء المؤثرات المختلفة.
مجالات عمل عناصر الدين
الدين أصول وفروع، وعقائد وعبادات ومعاملات، وأخلاق وسلوك وآداب. وعلى هذه المجالات المتنوعة والمتشابكة تجري عملية تفعيل العناصر الثلاثة للتجديد (الوحي، العقل، الواقع). وتتفرع عن هذه المحطة عدة محطات نتناولها فيما يلي بالتفصيل:
1. عنصر الوحي
صحيح أن الوحي – كنص رباني – ثابت، لكنْ ثمت تفاصيل تتعلق بآلية التعامل مع النص وكيفية تنزيله على الواقع، لا بد من استحضارها وتفعيلها في عملية التجديد التي نحن بصددها.. أهم تلك التفاصيل ثلاثة:
أ. الأول: يتعلق بدرجة ثبوت النص:
وهذا مختص بالحديث فقط؛ لأن نصوص القرآن قطعية الثبوت. أما الحديث فمنه ما هو ثابت قطعاً. وهذا هو الذي يصح أطلاق وصف أو مصطلح (السنة) عليه. وينحصر في السنن العملية التي شاهدها الصحابة y ونقلوها بالتطبيق العملي إلى من بعدهم… وهكذا تناقلها أجيال المسلمين نقلاً جمعياً مشاهَداً بالعين جيلاً عن جيل. خذ – مثلاً – كلمات الأذان، ركعات الصلاة، شعائر الحج. يؤسفني أن هذا الفرق بين السنة والحديث نادراً ما يُنتبه إليه عند قرن السنة بالكتاب في قولنا: (الكتاب والسنة).
ب. الثاني: التفريق بين السنة والحديث:
السنة هي ما صح قطعاً من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك في أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله يجب الإيمان به دون تردد، ولكن متى ما ثبت ذلك عنه قطعاً. وما دونه في الثبوت ففيه تفصيل على الوضع التالي:
ينقسم الحديث – عدا القطعي الصحة منه – إلى ما صح ظناً. وهو عامة الحديث الذي يطلق عليه مصطلح (الحديث الصحيح). وإلى ضعيف، وهو قسمان: قسم يحتمل الصحة ظناً، وقسم لا يحتمل غير الضعف قطعاً.
بهذا ينقسم النص الديني إلى ثلاثة أقسام رئيسة ينبغي أن تُعلم بوضوح لا مرية فيه:
- الكتاب.
- السنة.
- الحديث.
فالسنة – كما أسلفت – ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً بالتناقل الجمعي.
والحديث منه ما هو صحيح طبقاً للشروط الموضوعة، وهي ظنية تقبل الاختلاف. ومنه ما هو ضعيف. فالصحيح يختلف عن (السنة) بأنه ظني الثبوت (على قول جمهور العلماء)، وهو ما أجزم به دون تردد. والضعيف منه ما يحتمل الصحة ظناً، ومنه ما لا يحتمل سوى الضعف قطعاً.
إن هذا التقسيم من حيث الأصل لا يكاد يختلف عليه العلماء. إن أي عالم بالشريعة يقر بخصوصية النص القرآني من حيث الثبوت. ويعلم يقيناً أن مما نقل عن النبي u ما هو قطعي الثبوت وما هو ظني. ويعلم كذلك أن من الظني ما هو ضعيف يحتمل الصحة ظناً، وضعيف لا يحتمل غير الضعف قطعاً. لكنه ربما واجهك بالاستغراب والنكير على هذا التقسيم؛ لا لشيء سوى جدته على المفردات والمحفوظات العلمية المستقرة في ذهنه سلفاً! مع أن هذا الفرز مطلوب ضرورة بسبب ما ينبني على الخلط فيه من أمور ضارة تنعكس على الدين والمجتمع. وأن القاعدة العلمية تنص على أنه (لا مشاحَّة في الاصطلاح).
جـ. الثالث: تحديد الوظيفة الخاصة بكل من الكتاب والسنة والحديث:
من الثابت دون خلاف أن الشريعة تشترط لثبوت الأمور الخطيرة من أدلة الصحة غير ما تشترطه لثبوت ما هو دونها. فشروط ثبوت الزنا أشد من شروط ثبوت السرقة. ورؤية هلال الصيام تثبت – عند البعض – بواحد، بينما لا بد من اثنين لثبوت رؤية هلال الفطر. وبعض الأقضية تثبت بشاهد ويمين، وبعضها لا تثبت دون إتمام نصاب الشهادة.
وهنا لا بد من تثبيت ملحظ مهم يتضح بمثال: لو أن ثلاثة من العدول لا رابع لهم اتهموا رجلاً بالزنا وأنهم شهدوا الواقعة كالميل في المِكحلة، فإن شهادتهم ترد ويقام عليهم حد القذف وهو ثمانون جلدة. ولو شهد اثنان من هؤلاء الثلاثة على واقعة سرقة قبلت شهادتهم وأقيم الحد على المتهم.
والملحظ المقصود هو أن القبول والرد لا يقتصر على النظر في مدى توفر شروط الصدق (أو الصحة) لدى الشاهد (أو الراوي) فحسب، بل لا بد من النظر إلى خطورة ( أو منزلة) الموضوع (أو الحكم) الذي يبنى على الشهادة (= الحديث المروي) في الواقعة.
بعبارة ثانية، إن الحكم بالضعف والصحة على الحديث طبقاً للقواعد المعلومة لا يكفي ما لم يكتمل بالنظر إلى تناسب الحديث المروي مع خطورة الحكم الذي يتضمنه. فقد ينقل حديث بسند يحكم على متنه بالصحة ويبنى عليه حكم في واقعة معينة، بينما يُحكم بالضعف على حديث آخر نقل بالسند نفسه في واقعة أُخرى لكنها أخطر من الأولى. فيُحتاط في الثانية ويشدد في شروط صحة وقوعها ما لا يحتاط في الأولى بالدرجة نفسها.
هكذا يجب التفريق بين شروط اعتماد النقل طبقاً للفرق في خطورة أو منزلة الأمر الذي ورد فيه النص. فشروط اعتماد النقل في أمور الإيمان والعقيدة تختلف عنها في الأحكام، وعنها في الآداب. وشروط الاعتماد في الأحكام القاسية تختلف عنها فيما هو دونها، وعنها فيما هو دون الدون. ولا يصح تسوية الجميع أمام شروط ثبوت نقل النص أو تحقق الواقعة.
للأسف يكاد هذا المقياس يختفي من ذاكرة الفقيه والمحدث، لاسيما في العصور المتأخرة، وربما ما هو أقدم منها. والأمر من الناحية التاريخية في حاجة إلى بحث. أما المحدثون فقد درجوا على التساهل في شروط التصحيح إلى درجة الخروج على حد تعريف الحديث الصحيح في كتب (المصطلح). وممن نبه على ذلك ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)([2]). وقعّدوا للتساهل قواعد رخوة قابلة لأن تتناسل عن قواعد أكثر رخاوة منها. هذا مع إهمال النظر إلى التحوط في الأمور الخطيرة. وأما الفقيه فقد لا يملك سوى تقليد المحدث فيقع في المحذور.
لنأخذ – تجنباً للتطويل؛ فالكتاب لم يوضع للتأصيل الفقهي – مثالاً واحداً على ما قلت، وليكن أصول الدين، يتبين من خلاله المقصود بصورة أوضح.
حصر الأصول في محكمات الكتاب
إن وظيفة القرآن الأساسية التي يتفرد بها عن السنة والحديث، إلا على سبيل التأييد والتأكيد أو التفصيل والتفريع.. هي وضع أصول الدين الكبرى، كالتوحيد والمعاد والنبوة وحفظ الكتاب، والواجبات العملية كالصلاة والزكاة والجهاد، والمحرمات كالزنا والكذب والربا.
إن المرجعية الأصولية محصورة في القرآن الكريم فحسب، بآياته المحكمة القطعية فقط لا المتشابهة الظنية. وهذا ما نادى به القرآن في آيات كثيرة كقوله Y: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَات هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران:7). وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل:89). وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38).
ونحن بأمس الحاجة في هذا الزمان، ومنذ عدة قرون، إلى هذه المفردة من التجديد ( أي حصر الأصول في محكمات الكتاب)، وإلى أن تشاع على كل لسان. فهذا هو الذي به تظهر بوضوح لا غبش فيه، ويقين لا ريب فيه الفرقة صاحبة الحق الصريح تخفق رايتها تطاول السماء من بين الفرق الكثيرة التي تعيث في ساحة الأديان وما يتفرع عنها من ساحات اجتماعية وسياسية وغيرها من ساحات. وبه نستغني عن هذا الركام الهائل من الردود المرهقة المكررة. أما السنة فمجالها تأكيد وتفريع ما جاء في القرآن من أصول سواء كانت هذه الأصول في العقائد أو العبادات أو المعاملات. وكل ما ليس له أصل ثابت صراحة في الكتاب مما نسب إلى النبي e فهو هراء وهباء.
هذه المفردة هي من أكبر ثمرات التجديد التأصيلي، التي قدمها المشروع السني للأمة في صراعها الحضاري الطويل مع الشرق الفارسي البغيض.
[1]– تجديد الفكر الإسلامي، الدكتور حسن الترابي.
[2]– النكت على كتاب ابن الصلاح، 1/416-419، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق ربيع بن هادي عمير المدخلي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1404هـ/1984م. هذا مع أن ابن حجر نفسه واقع في هذا التساهل.
2. عنصر العقل
للعقل دور كبير في عملية التجديد في مجاليها الديني والدنيوي. وبتلاقح المجالين، وقيام العقل بأداء دوره الصحيح فيهما نشأت حضارة الإسلام. ونأمل أن نعاود الكرة مرة أخرى في دورة التاريخ القادمة متى ما أذن الله تعالى، حين يقوم الإنسان المسلم بما عليه من ذلك.
أولاً: دور العقل في مجال الدين
ويبرز في المحاور التالية:
- تلقي نصوص الوحي، وتعقلها، وفهم معانيها.
- الاجتهاد في تفسير النصوص الظنية وحملها على أرجح معانيها المقصودة.
- الاجتهاد في استخراج الحكم الشرعي فيما لا نص فيه.
- تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع.
ثانياً: دور العقل في مجال الدنيا
هنا يبرز دور العقل أكثر، وذلك في مجالات الحياة الدنيوية مثل العلم والثقافة، السياسة والاجتماع، العسكرية والقتال، المال والاقتصاد، البناء والإعمار، وغيرها من المجالات. قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً) (النساء:83). وذلك مع مراعاة ما يلي:
- ما يشير به الوحي أولاً في هذه المسائل. وهذه هي سنة المصطفى وسيرته بين أصحابه ، فعلمهم – وتعلموا – كيف يراعون ذلك. كما سأل الحباب بن المنذر في معركة بدر رسول الله : أهو منزل أنزلكه الله؟ فليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟ فلما أخبره بأن الأمر رأي مطروح للنقاش وليس حتماً نازلاً من السماء أشار عليه بغيره، وأخذ النبي بمشورته. فارتحل من مكانه ذاك إلى مكان أنسب عسكرياً.
- هذا مع الانتباه إلى أن النص الديني في مسألة من المسائل ربما يكون باعثه واقع قد تغير؛ فهو مركب على ذلك الواقع. فالتوصية بالخيل في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (الأنفال:60) ليست مطلوبة ولا صالحة في كل زمان ومكان. وقد قال النبي : (كل ما يلهو به المرء المسلم باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله)[1]. ويكون بعض هذا من اللهو الباطل في كثير من ميادين واقعنا، وإلا كان المترفون الذين يصرفون أوقاتهم في سباقات الخيل من أقرب المقربين عند الله جل وعلا.
هنا يأتي دور الأذكياء في استعمال عقولهم وتكييفها بأحدث معطيات العلم. ورفد المسيرة بأنسب الحلول للواقع الذي نعيشه ونعاني منه. ولكن نحتاج الأذكياء العقلاء؛ فما كل ذكي عاقل. وإن كان كل عاقل ذكياً. الذكاء كمية والعقل نوعية، أو هو العامل الذي يبرمج مضامين الذكاء.
ليس كل ذكي مبدعاً. ولكن كل مبدع ذكي. وهكذا كل مجدد: لا بد أن يكون ذكياً عاقلاً عالماً بما اختص فيه. إن كثيراً من الأذكياء تقليديون جامدون. وهذا هو السبب في نشوء طبقات من العلماء الأذكياء غير العقلاء، من أصحاب التصانيف غير النافعة وإن ضخمت لضعف أو عدم مناسبتها للواقع.
3. عنصر الواقع
إن روح التجديد، والمحور الذي ينظم جميع عناصر الإبداع وأسس التجديد، هو ما يظهر لنا من النظر في العنصر الثالث من عناصر الدين (بمعنى حركة الإنسان بالوحي) وهو الواقع.
إن عزل الوحي عن الواقع يحول الدين إلى عبادة محضة، وحركة جامدة لا علاقة لها بالحياة. وهو انحراف يولد الجدل، وينتج البدع. لهذا نزل القرآن منجماً على الحوادث، وكانت تطبيقات النبي متوائمة مع الحدث والبيئة الحاضنة، ومتساوقة مع الهدف المرسوم.
وعزل العقل عن الواقع ينتج الفلسفة، والمنطق الأرسطوي الفارغ، ويجمد الفكر، وما ينتج من ذلك ففكر مترف لا يحل مشكلة ولا يعالج أزمة.
بتفاعل الوحي والعقل مع الواقع، تكون (القضية). وبـ(القضية) يتجدد الدين، ويحصل الإبداع، وتتطور الحياة، وتنبني المدنية، وتزدهر الحضارة.
ميزة جيل التجديد على المعارض اللاديني
المعارض اللاديني: يريد التجديد دون الرجوع إلى الوحي. إنما بالعقل وما اكتسبه وحواه من العلم، في مسرح الواقع المتغير. أما الدين والشريعة فينظر إليها على أنها شيء جامد؛ لذلك هو يريد أن يبعد الوحي عن طريقه. وينظر إلى المتدينين على أنهم رجعيون. ويعمم هذه النظرة دون فرز علمي منصف.
ميزة جيل التجديد على المعارض الديني
المعارض الديني: هو الذي يجمد:
- إما على نصوص الوحي فيفهمها دون اعتبار لدور العقل والعلم من جهة، ولا الواقع المتغير من جهة أخرى، فينعزل عن الزمان والمكان.
- أو على واقع معين في زمان ما، أي مرحلة تاريخية حصلت فيها حركة تجديد ونهوض مشرقة، أو في مكان ما، أي بلد معاصر ظهرت فيه مثل هذه الحركة. فهو يريد أن ينقل أو يطبق ظواهر التجديد فيها على واقعه، دون أن ينتبه إلى التغير أو الفارق الحاصل بين الواقعين بما يجعل تلك المظاهر غير صالحة للتأثير إيجابياً، بل هي لذلك الفارق قد تحولت إلى معوقات في طريق التجديد. مثاله إشغال المجتمع بمحاور الصراع الفكري التي حصلت في القرن الثاني الهجري مثلاً، دون اعتبار لحاجة الناس من عدمها إلى ذلك.
هؤلاء غافلون عن معنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:18)، وقوله سبحانه لسيدنا موسى عليه السلام حين أنزل عليه الألواح، وهي جملة واحدة: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (الأعراف:145) أي أنسبها للواقع أو الواقعة المعينة؛ فيكون أحسن في علاجها وأنسب؛ فينبغي أن يتبع ويطبق دون غيره، وهذا معنى تنزيله على موارده. كما أنهم لا يدركون سر نزول القرآن مفرقاً على الحوادث والأسباب الواقعة.
وللجمود الديني مظاهر أخرى سنتطرق إليها لاحقاً: ضمناً أو تصريحاً.
_________________________________
- – أخرجه الإمام أحمد والأربعة عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً، وصححه ابن خزيمة رحمه الله وغيره. ومعنى باطل: أي لا أجر فيه، وليس بمعنى الحرام. ↑
استراتيجية التغيير الجماعي لا الفردي
استِرَاتِيجِيَّةُ التَّغيِيرِ الجَمعِيِّ لا الفَرْدِي
بالنظر التجديدي نفسه، توصلنا – وبالجهد الخاص قبل الاطلاع على علم الاجتماع أو شيء اسمه سيكولوجية الجماهير – إلى أن للمجتمع سنناً أو قوانينَ تحركه وتؤثر به كمجموع غير تلك السنن التي تؤثر بالفرد وتحركه وتغيره. واكتشفنا المعادلات الاجتماعية التالية. وقد بسطناها أكثر في بداية الجزء الثاني من (منهاجنا) عند الحديث عن (الركَائِزُ العِلميَّةُ لِلمَنهَج).
-
المجتمع غير الفرد شخصية وسلوكاً
ولأن المجتمع له كيان وشخصية جمعية يختلف فيها عن الفرد، كما أن الفرد له سلوكان: فردي وجمعي، فلا بد أن يكون الخطاب الموجه إلى المجموع مختلفاً عن الخطاب الموجه إلى الفرد. وعلى هذا الأساس يكون لنا قانونان للتغيير لا قانون واحد.
-
حاكمية المجموع
يسلط المجتمع على الفرد ضغطاً غير مُحس أو منظور يجعله يتصرف ضمن المجموع بصورة تختلف عن تصرفه الذي يعبر به عن نفسه فيما لو كان وحده خارج ذلك الفلك الضاغط. لهذا تجد الفرد عادة ما تذوب صفاته في وسط المجموع أو الجمهور، وتتشكل نفسيته حينما يواجه موقفاً جماعياً تشكلاً جديداً يتقمص أو يتماهى به مع نفسية المجموع، فيمسي تصرفه معبراً عن النفسية الجمعية أكثر مما يعبر عن أصل خصائصه النفسية الذاتية، التي تبرز في المواقف الفردية. مثال ذلك أن الفرد قد يكون شجاعاً، لكنه ضمن مجموع معين (كطائفة أو حزب) يعاني من عقدة خوف أو هزيمة نفسية تجاه أمر ما، أو مجموع ما، ضمن هذا المجموع يتصرف جمعياً كجبان. وهذا هو (الجبن الجمعي) الذي يمكن أن تتصف به جماعة أو منظومة أفرادها شجعان! وهذا يفسر السلوك المتردد والجبان الذي عليه بعض الأحزاب الإسلامية في العراق رغم شجاعة أفرادها. كما يعطي تفسيراً لظاهرة (ركوب الموجة) و(الانتهازية) التي باتت سمة بارزة لها.
-
تغيير المجتمع بين القمة والقاعدة
بعد تكوين ثلة من الأفراد تصلح كقاعدة منظمة قائدة، ينبغي أن يتغير الاتجاه التغييري فيكون من الأعلى إلى الأسفل، أي اعتماد منهجية تغيير قادة ورؤساء ووجوه المجتمع وأصحاب النفوذ والتأثير ، أو -بمعنى آخر – الإمساك بمصادر القوة مباشرة لممارسة التغيير. أما الاقتصار على الخطاب الفردي على طول الخط فلن يغير من وضع المجتمع شيئاً. كما تشير إلى ذلك التجارب التاريخية: الإسلامية وغيرها.
-
التحصين
علينا أن ننشغل اليوم بتحصين الصف السني أولاً ، وتنمية مناعتهم ضد التشيع، وتحذيرهم من الشيعة. ويقدم هذا على هدف تسنين الشيعة وهدايتهم إلى الدين الحق؛ فالوضع الذي نحن فيه يلزمنا باتباع قاعدة (دفع الضر مقدم على جلب النفع). وهذا هو الذي يفجر كل الطاقات – الدعوية وغيرها – باتجاه الشيعة.
إن تحصين السنة هو الأساس الذي يعتمد عليه المنهج. ولا يجوز المساس به، والتقصير بشأنه مهما كلف الأمر. وإلا كنا كمن يسير في فراغ، أو يبني بلا أساس.
-
مبدأ المواجهة ، لا المعايشة
العقد الاجتماعي – كأي عقد – يقوم على أساس موافقة حاصلة سلفاً بين طرفين أو أكثر من أطراف العقد. وتخلف موافقة أي طرف من هذه الأطراف يجعل العقد لاغياً لا قيمة له. وحيث أن (الإمامة) هي الركن الأول في عقيدة الشيعة؛ فعقد التعايش مع الآخر لا أساس له عند القوم يمكن أن يبنى عليه ذلك العقد؛ بسبب أن هذه العقيدة تلزم الشيعي بوجوب قتل المخالف وأخذ ماله بأي وسيلة ممكنة. الشيعة إذن طائفة لا يمكن التعايش معها إلا في حالة واحدة، وهي حين تكون محكومة لا حاكمة، فيفرض عليها العقد من فوق بالقوة لا بالتراضي. مبدأ المواجهة، الذي ينبني على المكاشفة والصراحة والهجوم الواعي والرد بالمثل هو الأسلوب الوحيد الذي يمكنا به أن نحجم من خطر الشيعة ووقف مشروعهم الخطير.
-
فضح الباطل وبيانه بالتفصيل
دين الله تعالى مبني على تقديم مبدأ إنكار الباطل على مبدأ بيان الحق. كما أن فضح الباطل جاء فيه مفصلاً، بينما بيان الحق جاء فيه مجملاً. حتى إذا دخل المرء في الإسلام جاء دور بيان الحق له بالتفصيل. وهذا المبدأ مذكور من أول كلمة يطالب بها الإنسان للدخول في رحاب الإسلام : “لا إله إلا الله”. والله تعالى يقول: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256). ويقول: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:55). ويقول: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:37). فبيان الباطل، وفضح أهله مقصود إلهي مستقل بذاته، وهو شرط لبيان الحق لا يتم إلا به.
-
مبدأ الهجوم لا الدفاع
الناظر في دعوات الأنبياء ب، وكل الدعوات التغييرية – الإصلاحية منها والإفسادية – يجد أنها لم تقف من مجتمعها أبداً موقف الدفاع، وإنما بدأت بتحديد مواطن النقد أو الخلل، ثم راحت تهاجمها علناً وعلى رؤوس الملأ. والقرآن الكريم وسيرة النبي e وغيره من الأنبياء ب تشهد بوضوح على ذلك.
-
الخطاب الشجاع أو الصدع بالأمر
عندما تجمع في صفحة واحدة بين عقدة النقص الجمعية الشيعية، والهزيمة النفسية الجمعية السنية تجد أن الوصفة الأفضل لعلاجهما دواء واحد يصلح لكليهما مرة واحدة، ولا حاجة لتعدد الأدوية وتشتيتها. ذلكم هو (الخطاب الشجاع)؛ فالشيعة يعبدون القوة ولا ينفذ إلى نفوسهم وعقولهم أي خطاب ضعيف أو متردد أو يحاول الالتقاء في منتصف الطريق. والسنة في حاجة ماسة إلى قوة ترفع معنوياتهم، وتخرجهم من إفرازات (الشخصية الأبوية) التي لا تناسب الحال التي هم عليها من زوال ملكهم وتهميشهم وإقصائهم توصلاً إلى إلغائهم من معادلة الوجود الاجتماعي والسياسي بجميع لوازمه ومعانيه. ولا يمكن أن ينتفع بها الشيعة الانتفاع الإيجابي الذي يبني الحياة ويحقق السلم المجتمعي. إضافة إلى عدم موافقتها لأحكام الدين في الدعوة ولا قواعد التغيير.
وهذا ما قررته مبادئ علم الاجتماع الحديث، وتحديداً علم (سيكولوجية الجمهور). وهو عين ما جاء في قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94). قال ابن منظور في (لسان العرب): صَدَعْتُ الشيء: أَظْهَرْتُه وبَيَّنْتُه. وصَدَعَ بالأَمرِ يَصْدَعُ صَدْعاً: أَصابَ به موضِعَه وجاهَرَ به. وصَدَعَ بالحق: تكلم به جهاراً. وفي التنزيل: (فاصدع بما تؤمر)؛ قال بعض المفسرين: اجْهَرْ بالقرآن، وقال أَبو إِسحق: أَظْهِرْ ما تُؤْمَرُ به ولا تَخفْ أَحداً، أُخِذَ من الصَّدِيع وهو الصبح. وقال ابن عرفة: أَي فَرِّقْ بين الحق والباطل من قوله عز وجل: (يومئذ يَصَدَّعون)، أَي يتفرَّقُون. وقال ابن الأَعرابي في قوله: فاصْدَعْ بما تُؤْمَرُ، أَي شُقَّ جماعتهم بالتوحيد. وقال غيره: فَرِّقِ القول فيهم مجتمعين وفُرادى. فالصدع إذن هو الإظهار والبيان الواضح المؤكد، والجهر بالقول دون خوف من أحد. وهذا هو الذي يفرق بين الحق والباطل بياناً، ويشق جماعة المبطلين حالاً.
-
مبدأ التكرار والطرق المستمر
ولا يكتمل أثر الصدع بالفكرة إلا مع الطرق والتأكيد المستمر العلني بها، ويستغرق ذلك زمناً قد يطول جيلاً أو جيلين تبعاً لتوفر العوامل والظروف المطلوبة. على أن يكون قوياً مؤكداً وجازماً.
-
التأكيد على وجود عدو واقعي محدد
الحب أساس الدين، هذا صحيح، ولكن الحب لوحده لا يكفي لاستثارة النفوس وتفجير الطاقات، بل لا بد لذلك من تهييج عاطفة الخوف من جهة معينة محددة؛ فإن غريزة حب البقاء أقوى الغرائز كلها في إثارة قوى الإنسان وتوظيفها في الهدف المطلوب. فما إن أهبط أبونا آدم u إلى الأرض حتى أنزل الله معه عدوه وخصمه إبليس، كما أخبر سبحانه فقال: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36). وشد القرآن أنظار المؤمنين إلى أعدائهم من الكافرين والمنافقين، وحذرهم منهم، وأمرهم بمجاهدتهم.
هذا هو الأساس الواقعي الذي يبنى عليه التجمع والتوحد، الذي هو الشق الآخر للدين بعد التوحيد. بل إن المجموع الذي لا يحس بوجود عدو معين يرتد عدوانه إلى داخله فيتمزق المجموع.
من شرط العدو أن يكون محدداً باسمه، وواقعياً ضمن القطر، وليس وهمياً خارج حدود البلد، كما يشغل العراقي بعداوة اليهود تاركاً الشيعي يصول ويجول في بلده.
-
المشكلة جزء من معادلة الحل
يقول تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ) (الأنعام:34).
كل دعوة نجحت على مر التاريخ شكلت في زمانها مشكلة اجتماعية كبيرة في مجتمعها في أول مرحلة من مراحلها!
-
صنع النموذج الجغرافي
كل دعوة نجحت تمكنت من صنع نموذج لها في مكان ما. ثم تتابعت بقية المناطق تحذو حذوها، وتستنسخ تجربتها. ولا بد أن يكون هذا المكان بحيث يكون محطاً للأنظار، وتسليط الأضواء، وقريباً من ملتقى الناس، وفي مجمع الطرق. وله قدرة مناسبة على التعشق ببقية المناطق. ويمتلك جاذبية خاصة في حياتها: اقتصادية أو دينية أو سياسية أو غير ذلك؛ حتى تتهيأ للناس فرصة التأثر المستمر بما يحصل فيه من تغير جديد.
-
تكوين مؤسسة رائدة
إن هذه القواعد الذهبية والتقريرات المنهجية التي استخلصناها من رحم المعاناة، وعصارة الفكر، وطول النظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه e وسيرته وسيرة الأنبياء عليهم السلام والمصلحين، ستظل هائمة دون إحداث الأثر المطلوب، ما لم يتم تبنيها من قبل مؤسسة أو جماعة تنشأ بناءً على ذلك المنهج وتلك القواعد. لقد علمتنا التجربة أن قوة الكلمة عند أكثر العالمين لا تنبع من ذاتها، إنما تستمد قوتها من وزن قائلها، وكم وراءه من رجال وأتباع.
-
تخلف المنهج الترضوي
يقابل هذا المنهج الرباني العظيم منهج متخلف هزيل، لكنه متفشٍّ كالسرطان في أوساط السنة في العراق وخارجه، يقوم على فكرة بائسة فاشلة رغم كل محاولات التجريب على مدى أزمنة متطاولة، هي التقريب بين السنة الشيعة، مهما كان الثمن: كتماً للحق، وتحريفاً للحقيقة، وتضييعاً للحقوق. ذلكم هو (المنهج الترضوي).
منهج تقليدي جامد، متخلف غير مبني على معطيات العلم، وإنما على الفوضوية والتقليد والتقاط النصوص والشواهد من هنا وهناك على قاعدة (التفكير الارتغابي). يتطير من التجدد والإبداع. يقاوم كل فكرة جديدة يتوهمها مهددة لوجوده. يجهل الحقائق والقواعد العلمية السابقة: الفكرية والنفسية والاجتماعية. يغرس (الجبن الجمعي) في نفوس أتباعه فهم فاقدون للشجاعة الأدبية فيما يتعلق بكيانهم وسنيتهم، حتى أوصل السني إلى دركات خطيرة من الشعور بالنقص والهزيمة النفسية إلى حد أنه يخجل من نفسه والتصريح بسنيته!
آن الأوان لخلع هذا المنهج البائس ورميه في مزابل النسيان. والتأسيس للمنهج الرباني النبوي الذي بدأت بشائره بالظهور والانتشار والاستعلاء. وقد عجل من نضوجه في أذهان الجمهور هذه الأحداث العاصفة التي جعلته يقتنع شيئاً فشيئاً بعدم جدوى ذلك المنهج الخانع البئيس، ويتطلع إلى منهج جديد ينتشله من واقعه الخطير.
التجديد والقضية
التَّجدِيدُ وَالقَضِيَّة
بالنظر التجديدي إلى واقع العراق والدول المحيطة به، ذلك النظر العقلاني الذي يرجع إلى الشرع ملتزماً بأوامره ومراعياً حدوده، ويتأثر بالواقع ويتكيف – سعة وعمقاً ودقة – بالعلم: اكتشفنا أهم الأفكار التي تتعلق بـ(القضية) تنظيراً وتطبيقاً. وهذه خطوط عريضة سريعة ومركزة لتلك الأفكار([1])، التي بغيابها غبنا– نحن السنة في العراق – عن الوجود كحقيقة معتبرة وواقع مؤثر، فعاد كياننا هشاً هامشياً لا يملك من أمره شيئاً، يتلاعب بمصيرنا شذاذ الآفاق وأسافل الخلق.. وما عدنا نقود الحياة:
-
الدين قسمان: عبادة وقضية
ودليله قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُـرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81) وغيره من الآيات وهو كثير. لكننا في العراق نعيش مفارقة كبيرة أدت إلى ذلك الغياب عن قيادة الحياة، نبه إليها الشهيد إياد العزي رحمه الله بقوله: (السنة عبادة بلا قضية، والشيعة قضية بلا عبادة).
-
كافر ينصر (القضية) خير لنا([2]) من مسلم يعيش لنفسه
ودليله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:72). فقطع الله تعالى الولاية والنصرة الكاملة بين المسلمين الذين أرادوا الإسلام مجرد عبادة دون تحمل تكاليف (القضية) فلم يهاجروا، وبين المهاجرين والأنصار أصحاب (القضية). قال ابن العربي في (أحكام القرآن)، وكذا قال غيره من المفسرين كابن كثير والقرطبي والشوكاني: (يُرِيدُ إنْ دَعَوْا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لاسْتِنْقَاذِهِمْ، فَأَعِينُوهُمْ؛ فَذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَرْضٌ، إلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ، فَلا تُقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهِمْ يُرِيدُ حَتَّى يَتِمَّ الْعَهْدُ أَوْ يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ).
-
الواقع يسبق الوحي ، وليس العكس
الواقع يحدد (القضية)، والوحي يضع أسس الحل. وبذلك يكون الواقع سابقاً لا لاحقاً في علاقته بالوحي. وأسباب النزول تفصح بوضوح عن هذه الحقيقة. والعقل يستفيد من هذا كله في تحديد القضية، وتنزيل أسس الحل على الواقع، والتوسع في تفاصيله بالاستفادة من معطيات العلم، ووضع كل شئ في موضعه مكاناً وزماناً.
-
عناصر القضية
تتكون القضية من هدف اجتماعي يحتاج إلى تحقيق. ومعوق يحتاج إلى إزاحة عن الطريق. فالقضية تقوم على ركنين اثنين هما:
- هدف أعلى: مأمور كل مسلم بتحقيقه.
- وواقع أدنى: يتم من خلاله تحقيق ذلك الهدف.
أما الهدف الأعلى فثابت لا يتغير بالنسبة للمسلم، ألا وهو إقامة الدين وتحقيق مقتضيات ألوهية الله تعالى وحاكميته في أرضه: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف:84). ونعبر عنه أيضاً فنقول: هو إقامة دولة الإسلام طبقاً لمراد الله وشرعه. وهذا ثابت لا يتغير. وبه تفترق الربانية (التي يسمونها إسلامية) عن العَلمانية.
وأما الواقع الأدنى فمتغير، وينتظم فيه عنصران اثنان هما:
- التحدي أو المعوق الذي يعترض طريق الهدف.
- الاستجابة المطلوبة تجاه التحدي، أو إزالة المعوق القائم في الطريق.
-
الأولوية للمشكلة الواقعية الكبرى
يحتاج المرء وهو يواجه التحديات والمعوقات إلى أمرين اثنين:
- أن يستوي قصده إلى التحدي أو المشكلة الكبرى في المجتمع فيجعلها المحور الذي ينتظم باقي التحديات والمشاكل الأدنى. وهذا هو التشخيص. وهو نصف العلاج. أزمة (الإسلاميين) في العراق اليوم البحث عن علاج لمرض يخطئون في تشخيصه فلا يهتدون إليه.
- أن يستجيب لهذا التحدي الاستجابة الصحيحة المناسبة. وهذا هو العلاج، الذي ينبغي أن يكون بديعاً متطوراً.
عندما يكون التشخيص صائباً والعلاج دقيقاً، نكون قد سلكنا طريق الحل.
-
تغير القضية بتغير الواقع
بتغير الواقع يتغير التحدي، فتتغير – تبعاً له – الاستجابة المطلوبة. وما لم تتغير الاستجابة تبعاً لتغير التحدي، نصاب بالجمود، وننعزل عن الحياة، ويتحول الدين إلى عبادة محضة تشيع فيها البدع والمحدثات.
(القضية) إذن تتغير بتغير الواقع أو المجتمع. وهذا هو الدين الذي يتجدد. فمن لم تكن عنده قضية فليس على الدين المتجدد القويم. إنما هو على دين جامد سقيم، في حاجة إلى تحريك وتجديد.
-
دور المجددين
هنا يأتي دور المجددين. وهو دور الأنبياء نفسه: فالأنبياء ب يعيدون الناس إلى الدين كلما ابتعدوا عنه. أي إعادتهم إلى:
- الوحي كلما أصابه التحريف نصاً أو تأويلاً.
- والهدف كلما حصل الانحراف عنه غياً أو تضليلاً.
- والقضية كلما تركت خوفاً أو جهلاً وتجهيلاً.
بهذا نكون قد جمعنا بين الواجبات الثلاث: الاتباع والاجتهاد والجهاد.
-
مبدأ قاعدة الانطلاق ومحور الحركة
لا بد لكل (قضية) من (قاعدة) فكرية تستند إليها وتنطلق منها عند نقطة الشروع. ولا بد لها – أيضاً – من محور يدور حوله الجهد الفاعل بعد التحول من تلك النقطة إلى ميدان الحركة.
إن القاعدة التي انطلق منها النبيون جميعاً هي توحيد الله تعالى كما أخبر سبحانه فقال: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل:36).
وإذا كان التوحيد أو العقيدة هي قاعدة الانطلاق لقضية المسلم، فإن المحور الذي تدور حوله حركته هو المشكلة الواقعية الكبرى من أجل مواجهتها أو إيجاد حل لها. وهذه تختلف من نبي إلى نبي تبعاً لاختلاف مجتمعاتهم وأنواع المشكلة التي عانى منها كل مجتمع من تلك المجتمعات. أي إن القاعدة ثابتة والمحور متغير.
-
اتفاق الأنبياء في قاعدة الانطلاق واختلافهم في محور الحركة
لقد اختلف الأنبياء في المحاور التي دارت حولها قضاياهم مع اتفاقهم في قاعدة الانطلاق. لقد اجتمعوا في القاعدة أو المنطلق الذي هو التوحيد أو العقيدة. وافترقوا في القضية أو المحور الذي هو المشكلة الاجتماعية التي انصرفوا لعلاجها.
كما أن الأنبياء ب اجتمعوا في أهدافهم العليا، لكنهم اختلفوا في قضاياهم الكبرى كل حسب واقعه ونوع التحدي الموجود فيه: فقضية موسى u كانت سياسية، بينما قضية شعيب uاقتصادية، وقضية لوط u كانت خلقية.
وكما قد يختلف نبيان في قضيتهما، كذلك قد يختلف مصلحان – كل في بيئة – في قضيتهما. وهكذا تكون الحاجة لازمة لتجديد الدعوات باستمرار.
-
محورية القضية لا تستلزم إهمال القضايا الجانبية
إن وضع اليد على المحور وتشخيص (القضية) يعطي لبقية المسائل أهميتها وحيويتها كلاً بحسبها، ويحركها ليجعلها تدور في فلكها الخاص بها وهي تنشدُّ إلى المحور بدل أن تظل جامدة ميتة أو مغلفة لا حراك فيها.
-
لا بأس بتعدد القضايا بشرط الدوران في فلك القضية
عادة ما توجد قضية محورية كبرى وإلى جانبها قضية أو قضايا جانبية أصغر منها. نعم مشكلتنا الكبرى هي الشيعة، وهي أكبر من كل المشاكل والتحديات. هذه هي قضيتنا المركزية في العراق. لكن هذا لا يلغي الاهتمام ببقية المشاكل والتحديات. بل على العكس ينمي الاستجابة لها ويرَشِّدها.
-
القضية عامة وخاصة
للأمة قضاياها. ولكل بلد ينتمي إلى الأمة خصوصيته وقضيته طبقاً لتلك الخصوصية.
ومطلوب منا في أي بلد نكون أن نتفاعل مع قضايا أمتنا وإلا فقدنا هويتنا وانتماءنا وقوتنا ووحدتنا. لكن لا يصح أن نكون أمميين إلى الدرجة التي ننسى فيها قضايانا الخاصة، أو نقصر فيها، أو نتلهى عنها بحجة أننا مشغولون بقضية الأمة التي قد لا نستطيع عملياً أن نفعل لها أكثر من التفرج واجترار الأحاديث. إذن ليس كل ما هو أول مرتبياً، هو أول عملياً. وفي غياب هذه القواعد تحولت فلسطين إلى (ثقب أسود) يمتص طاقات الأمة على حساب التوزيع العادل على قضايا العرب والمسلمين أجمعين. لهذا حصل تسطيح فاضح لبقية القضايا – كقضية الأحواز مثلاً – وتهميشها وصرف الأنظار عنها، صرفاً يصل أحياناً إلى حد النسيان التام.
-
بطلان نظرية ( القضية المركزية )
عشنا عقوداً طويلة على مصطلح (القضية المركزية) للأمة وكون فلسطين هي تلك القضية. إن عدم واقعية هذه الفكرة – بغض النظر عن كون بعض دعاتها صادقين أو غير صادقين في ادعائها – هو الذي انتهى بها إلى هذه النهاية، فما عادت تتردد على الألسن إلا قليلاً، وإن ترسخت في العقل الجمعي العربي، وكان لذلك أثمان دفعها البعض واستفاد منها آخرون.
السبب في عدم صوابية فكرة (القضية المركزية) مضافة إلى الأمة بسيط جداً هو عدم وجود هذه الأمة المضافة إليها تلك القضية. وبعدم المضاف إليه يكون عدم المضاف ناتجاً طبيعياً، وأمراً تلقائياً. كل ما موجود من الأمة منذ سقوط الدولة العثمانية هو أقطار مفصولة عن بعضها بحدود تجعل من كل قطر أمة بحالها. ليست الأمة حاصل جمع عددي لأرقام بينها فوارز. بل متى ما أزيلت تلك الفوارز والفواصل كانت الأمة وكان لها قضية مركزية، وقضايا أُخرى دونها في المنزلة.
الصحيح، في غياب وجود الأمة: إطاراً ومضموناً، أن لكل بلد قضيته المركزية، وعلى أهله أن يقدموها على كل قضية. وفي الوقت نفسه يتفاعلون مع القضايا الخارجية على حسب طاقتهم متى ما أدوا المطلوب منهم داخلياً، ووجب عليهم نصرة تلك القضايا، وبشرط أن يكون التفاعل من الطرفين لا من طرف واحد.
-
نفكر عالمياً ونتحرك محلياً
ولهذا قيل: نفكر عالمياً ونتحرك محلياً. إنها معادلة ذكية من عقل راجح. فتذكر دوماً أن نجاح عالمية فكرك في نجاح محلية حركتك. فلا نجاح عالمياً لم يسبقه نجاح محلي. وهذا مسارنا.
-
بلدنة القضية وعرقنتها
تتنازع بيئتنا الدينية العراقية ثقافات وافدة متعددة. وهذا شيء طبيعي، يجعل الثقافات تتلاقح فيما بينها فتقوى وتشتد وتتوسع وتتطور.. بشرط أن لا تبتلع الثقافة الوافدة الثقافة السائدة، فنقع في مطب التغريب. الذي يجعل أهل العراق يفكرون في قضايا الخارج العربي أو العالمي أكثر من قضية الداخل العراقي، فينشغلون بقضايا جانبية بالنسبة إليهم، وإن كانت مركزية بالنسبة لغيرهم، أكثر من انشغالهم بقضيتهم المركزية. ولك أن تضع بدل (العراق) أي بلد آخر أنت فيه وتطبق عليه هذا التقعيد.
حين تنتقل الطروحات الفكرية مجردة عن واقعها، عن طريق (الاستنساخ) و(النقل) الحرفي المباشر دون النظر إلى جوانب الافتراق التي يفرضها طبيعياً اختلاف البيئتين تحدث مشكلة لا تحل إلا بإدراك أهمية ما يمكن أن نطلق عليه (بلدنة الثقافة).
إن التعامل الحرفي مع الثقافات الوافدة، دون اعتبار لاختلاف الواقع هو الذي أدى بالفكر العراقي: دينياً وعلمانياً إلى أن يكون – في عمومه – فكراً ترفياً جامداً يراوح في مكانه، محنطاً لا يتفاعل مع الحياة، مشلولاً بطيء الحركة في بلاد الرافدين.
-
قضيتنا شرقية لا غربية
بهذا نصل إلى الحقيقة التالية التي تنتصب الآن ماثلة للعيان، وهي أن قضيتنا المركزية نحن العراقيين – ومن على شاكلتنا كأهل الأحواز والخليج العربي – شرقية أكثر منها غربية.
ومن درس التاريخ أو قرأه، وعاش الواقع عيشة معاناة ورصد وتحليل وربط بينه وبين الماضي أدرك هذه الحقيقة، وعجب كيف يغفل عنها أصحاب (القضية)!
[1]– تناولت هذا الموضوع في كتاب ( لا بد من لعن الظلام ) وغيره. وسأكتفي هنا – قدر الإمكان – بعناوين الموضوعات الموجودة هناك منعاً للتكرار، فيرجع إليها في أصلها.
[2]– أرجو ملاحظة قيد (لنا)، التي تعني الخيرية مقيدة بالميثاق، لا مطلقة.
آفات التجديد
آفَاتُ التجدِيد
للتجديد آفات خفية تقرضه وتأكل منسأته. وبغلبة هذه القوارض الآكلة على أي حركة تجديدية تتحول – بعد حين من الدهر – إلى ممارسة تقليدية تعاني من الرتابة والجمود؛ لأنها خضعت لقانون (طول الأمد) وبذلك يحق عليها قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).
هل لنا أن نشخص هذه الآفات حتى تكون ضمن دائرة الرصد الدائم فنعالجها قبل أن تستفحل، وبذلك يمكن أن نضمن لحركتنا التجديدية الاستمرار والدوام إلى ما شاء الله من الأزمان والحقب؟
بالمعايشة والمعاناة الواقعية والرصد الميداني والنظر في تجارب الأمم، لا سيما تجربتنا الإسلامية، وتقليب الفكر والنقاش الإيجابي توصلت إلى مجموعة آفات أهمها ما يلي:
- التقديس
- قصور النظر (أو تخلف العلم)
- هبوط الهمة (أو ضعف العزم)
- الفردانية (افتقاد المنظومة أو المؤسسة)
- الاستحمار (أو خلو الفكر من القضية)
- التقوقع (أو عدم التواصل مع الخارج)
وفيما يلي وقفات قصيرة عند كل واحدة من هذه الآفات:
- التَّقدِيس
التقديس.. آفة التجديد ونقيضه. ولن تجد مجدداً أو حركة تجديدية تعرف التقديس لغير الوحي وحملته من الأنبياء والمرسلين.
- التقديس يُشل الفكر ويعطل الحركة.
- وأهل السنة – إذ يعاني الشيعة من العصمة – يعانون من آفة التقديس. وإن كانت النسبة بينهما متفاوتة. فما هي هذا الآفة؟
إن مفهوم التقديس لدى السنة يشبه العصمة عند الشيعة. صحيح أنك لا تجد سنياً يقر بعصمة أحد من الناس، لكن المشكلة أنك عند التطبيق تجد كثيرين منا يضيقون بمن ينسب خطأً ما إلى صحابي أو إمام من أئمة الدين. وقد يصل الضيق به إلى حد الاتهام والمقاطعة.
وبين هذا وذاك يوصي ديننا بمبدأ (الاحترام)، وهو غير التقديس العصموي البدعي. وقد فصَل القرآن العظيم وميّز بينهما بقوله تعالى بعد ذكر المهاجرين والأنصار: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
تأمل كيف جعلت الآية العلاقة بين اللاحق والسابق علاقة استغفار يمتزج بالحب الخالي مما يضادده (الغل). والاستغفار إنما هو من الزلل. وهكذا يتجدد البناء ويستمر العطاء. نحن إذن نؤسس على بناء الأولين ونعدل فيه، ونحبهم ونستغفر لهم ونثني عليهم.
لكن الناس في موقفهم من الصحابة y فمن بعدهم من الأسلاف ثلاثة أصناف: طرفان ووسط. فالشيعة يسبونهم، فهذا طرف. وهناك من السنة من لا يتحمل نسبة الخطأ إلى واحد منهم (وهذا هو التقديس البدعي)، وهو طرف. والصواب أن نحبهم ونحترمهم ونقتدي بهم ونتبعهم، ولكن لا نرفعهم فوق مستوى أن يخطئوا (وهذا هو الاحترام الشرعي).
- التقديس يؤدي إلى الجمود على تراث المجدد أو المؤسس الأول. وبهذا تفقد الحركة عنصر التحرك الإيجابي، إذ يتحول جهدها إلى حركة في فراغ؛ لانعزالها عن الواقع الذي تتحرك فيه. إن فكر أي عالم مهما بلغ من العلم يعتريه عاملان يتطلبان التقويم المستمر:
- فهو بشر عادي غير معصوم. وهذا يستلزم وجود أخطاء وفجوات في الفكر التجديدي من الأساس.
- إن كل فكر بشري، وإن استند إلى الوحي، يمتاز بالقصور عن علاج أدواء أُخرى خارج نطاق واقعه: مكاناً وزماناً. فاختلاف المكان يعني اختلاف نوع المشكلة ولو في بعض جوانبها؛ وهذا يواجه بتعديل العلاج. وكذلك اختلاف الزمان ولو في المكان الواحد.
وإذ يؤدي التقديس إلى الاستنساخ الحرفي لفكر المجدد الأول، فالنتيجة تخلف التجربة الأولى (بسبب الخطأ الأصلي أو القصور النسبي) عن التجاوب مع التحديات المستجدة. وهذا يقتل التجربة أو يضعف حيويتها ويعيق قابليتها على العطاء والاستمرار.
أُذكِّر بأننا قلنا – سابقاً – إن المجدد هدام بناء. فهو يهدم لأجل البناء، وهذا هو الهدم الإيجابي أو البنّاء. والتقديس يعطل القدرة على الهدم البنّاء؛ وذلك يؤدي إلى توقف عملية التجديد الضرورية للاستمرار؛ بعد أن يكون التجديد قد فقد أهم عناصره الحيوية.
- إن تقديس الفكر يستتبع تقديس البشر. فالتقديس يصنع من البشر أصناماً يتجاوز بها بشريتها. وحين يتحول المؤسس في نظر مؤسسته أو أتباعه إلى صنم تموت القضية من الأصل، وتتشرذم المنظومة، وتسقط في نفق الصراعات الداخلية. وبذلك يكون الهلاك.
لا بد إذن من أن نستعمل الإزميل أو المطرقة الصغيرة، للتعامل مع البروزات والفجوات الفكرية والعملية في بناء التجربة كي نحذف ونضيف بتُؤَدة وهدوء، وبهذا يتعزز البناء ويعلو صعداً. وعلينا ألا نضيق بذلك، بل نشجعه ونفرح به، بل نبحث عمن يجيد ذلك من البنائين. وإلا اضطَرَرنا الآخرين، أو اضطررنا نحن، لأن نمسك بفأس أبينا إبراهيم u، ونرفعها لنهوي بها على أصنام وأزلام الفكر العقيم، كي نقيم محلها بناء قويماً من الفكر السليم، القادر على الرؤية التي تفرز الصالح لتبقيه من الفاسد لتعزله وتزيله. وتضيف إلى ما تبقى ما تحتاجه عملية التغيير والبناء والتطوير من أفكار إبداعية خلاقة.
- كثيرة هي آثار آفة التقديس التي تعطل حركة التجديد، ليس آخرها احتقار الذات. كم منا من لم يسمع من الأساتذة مقولة: (أين نحن من أولئك)؟ وهل ثمة أكثر من الخطباء والمتحدثين الذين يفترون في كل خطبة وحديث عن جلد أنفسهم ومخاطبيهم؟ يصمونهم بالتقصير الفاضح عما فعل الأولون إلى درجة الإحباط وزرع اليأس في النفوس! فالمقدسون للأسلاف يعانون من احتقار لاواعٍ لذواتهم يمنعهم من ممارسة الإبداع والتجديد؛ لأنهم فاقدو الثقة بأنفسهم من الأساس. و(يسقطون) هذا الاحتقار بطريقة لاواعية أيضاً على غيرهم لا سيما أتباعهم. وهكذا يسدون على أنفسهم وغيرهم منافذ العمل الإيجابي المبدع، وتختفي حالة الإبداع ليحل محلها الاستنساخ والتقليد.
لا مناص إذن من المسارعة إلى مكافحة التقديس هذه الآفة الاجتماعية الخطيرة، واستبدال الاحترام بها؛ لتتواصل الأجيال فيما بينها بحلقات متتابعة من سلسلة التجديد التي ما كان لها إلا أن تدوم.
2. قصور النظر ( أو تخلف العلم )
2. قُصُور ِالنَّظَرِ
العلم الحقيقي يقوم على استنطاق النصوص لا على حفظها فقط.
والعلم الحقيقي يقوم على مواجهة الواقع ومعالجته، لا الهروب منه أو تجاهله.
العلم – بمعناه الشرعي – هو الفكر الناتج من تحريك العقل في ميدان الواقع، ثم إعادة ذلك الناتج لغرسه في ذلك الواقع ورعايته وتزكيته: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9،10).
حفظ النصوص وترديد ما قاله الأولون، أو عزلها عن الواقع، يؤدي إلى (استنساخ) التجارب و(حَرْفية) النقل دون اعتبار للزمان أو المكان. وذلك هو الجمود المناقض للتجديد.
ضوابط (القراءة) أو العلم
إن أول رسالة وصلت الأرض بالسماء، على فترة من الرسل، كانت (اقْرَأْ) (العلق:1). إنما قراءة مقيدة بثلاثة أمور أساسية:
- قراءة العابد الخالص: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:19).
- قراءة تحرك العقل للنظر في آيات الكون وتدبرها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5).
- قراءة عملية حيوية هدفها الواقع لتدرسه وتتعرف عليه أولاً، بأهم عناصره وهو (الإنسان): (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) (العلق:7،6). وثانياً: لترى ما فيه من تحديات ومن فيه من أعداء كي تتصدى لهم وتواجههم. وبذلك تولد (القضية): (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) (العلق:10،9).
العلم هو الذي يصل الإنسان بإنسانيته، بأن يحمله على تبني (قضية) مجتمعه. وما عداه ففلسفة وترف، الإسلام أبعد ما يكون عنه.
معالم مفصلية
إليكم هذه الأسئلة والنقاط أو المعالم الفكرية المفصلية:
- أنزل الله جل وعلا كتابه العظيم مفرقاً ليقرأه نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم على الناس على مكث، ولم ينزله جملة واحدة. لماذا؟ من أجل أن يدربنا على إعمال الفكر في نصوصه المنزلة لنأخذ بـ(أحسنها) وأنسبها للواقع؟ لا أن نخر عليها صماً وعمياناً.
- لم يكتب لنا النبي صلى الله عليه وسلم (تفسيراً) للقرآن، وهو أعلم الخلق بمراد الرب بكلامه. لماذا؟ لقد ترك ذلك الكتاب العظيم مفتوحاً على فضاء الاجتهاد والتفكر والتدبر وتنزيل الوارد على المورد. وهذا أحد الأسباب. فإذا كان كتاب الله عز وجل لا يصح أن نتعامل معه بطريقة (الحفظ) فقط، والنسخ الحرفي لمعانيه التي نقلت إلينا من أسلافنا، فما دونه أولى.
- يتكلم الفقهاء عن شيء اسمه (واجب الوقت). وهذا يعني أن لكل ظرف وتحدٍّ ما يتطلبه من عمل واستجابة. وكما يقال: “لكل حادث حديث”.
كان الدعاة في العراق – ومن شتى المشارب – يركزون على (واجب الدعوة)، وهو حق. وعند وقوع العراق تحت الاحتلال وتغير الظرف في تحدياته وحاجته إلى استجابات أُخرى، رأينا كثيراً من الدعاة مع حفظهم لقاعدة (واجب الوقت) بقوا على (واجب الدعوة) وتغافلوا عن بقية الواجبات. قال لي يوماً الأخ الشيخ إياد العزي رحمه الله ونحن في مركز الكرخ الجنوبي للحزب الإسلامي الذي كان يترأسه: نحن اليوم إلى (رجال دولة) أحوج منا إلى (رجال دعوة)، لكن كثيراً من رجالنا لا يحسنون الانتقال من الدعوة إلى الدولة.
فجوة التفعيل
من خلال التجربة لاحظت أن القابلية على المعرفة لا تكفي دون القابلية على إعمالها وتفعيلها لتحويلها إلى حركة حيوية منتجة. وهذه نقطة مفصلية تمثل إحدى محطات الجمود، حين تُغفَل، أو التجديد، حين تُعمَل. من حيث إننا لاحظنا أن بعض العلماء الذين لهم القدرة على توليد الأفكار، ليس لديهم القدرة على تطبيقها عند الممارسة. إن هناك فجوة يمكن أن نطلق عليها: “فجوة التفعيل” بين الوعي بالفكرة وبين التحمل الفكري والنفسي للعمل بها!
خذ مثلاً تعريف الحديث الصحيح، وهو (الحديث المسند المتصل برواية العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة). يقول العلماء أن المراد من “الشذوذ”: مخالفة الراوي الثقة لمن هو أوثق منه. وهذا يشمل المتن كما يشمل السند. أما “العلة” فهي السبب الخفي الذي يقدح في صحة الحديث، مع أن ظاهره السلامة من مظاهر الضعف. وهي كذلك تشمل السند والمتن. والواقع يثبت أن كثيراً ممن (يحفظ) هذا التعريف ويعرف معناه، يكتفي بتطبيق القاعدة على السند.. ولا يتحمل العبور بها إلى المتن! ومن هنا دخلت علينا آفات (المناقب والفضائل).
وبذلك وجدنا أن من رفع شعار (من الوحي إلى الواقع) لم يُجِدْ تطبيقه وتفعيله. وبقي الطرق مقتصراً على (المنظومة الغربية) في مكان قضيته الأولى شرقية لا غربية!
بهذا نؤسس لحاجة الحركات التجديدية إلى مجددين يجمعون بين:
- توهج الفكر 2. وقوة العزم 3. والميدانية أو الواقعية.
فبالفكر المتوهج تكتشف الحقيقة، وبقوة العزم يثبت الحق، وبالميدانية يكون الفكر واقعياً لا تهويمياً خيالياً، ومجرباً لا افتراضياً؛ فالسلاح لا يدخل ساحة المعركة قبل استعماله في ميدان التجريب.
3. هبوط الهمة أو ضعف العزيمة
3.هُبُوطِ الهِمَّة
أ. التشخيص
إن الفكرة المشرقة لا تكفي لإحداث التغيير التجديدي ما لم يتم اختبارها على أرض الواقع. بذلك وحده نعرف مدى صلاحيتها، وحاجتها إلى التعديل والترصين، وحتى التبديل إن استدعى الأمر.
بقي أن نعرف أن هذا الاختبار لا يمكن أن يصدر إلا من شخص رابط الجأش، شجاع النفس، عالي الهمة، اقتحامي الشخصية، يقوم بممارسته في المجتمع المشحون بالمعارضين، لا سيما في زمن التقهقر والجمود. إذ يقوم هؤلاء المعارضون الجامدون بالرد والاتهام وتشويه السمعة والتحريض جهلاً أو غيّاً. ومنهم من لا يتردد في استعمال القوة! هذه الأساليب المزعجة والخطرة يهابها كثير من المفكرين ذوي العقل الوهاج والذكاء اللماح، فيكونون أمام خيارات انهزامية متعددة:
– إما يسكتون وينكفئون.
– أو ينعزلون مكتفين بالنظر إلى حركة المجتمع من فوق أو من بعيد تجنباً لأشواك الاختلاط بالمجتمع ومواجهته.
– ومنهم يحاولون دفع غيرهم للأمام، أما هم فيقفون للتفرج من خلف ثقوب الجدران.
ولا غرابة؛ فلقد أخبرنا القرآن الكريم عن صفة فطرية في الإنسان هي جنوحه للطرق المتيسرة والوسائل السهلة لبلوغ أهدافه، ورغبته في الابتعاد عن المشاق والطرق الوعرة والوسائل الصعبة كما في قوله تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (الأنفال:7). وذلك في سياق آيات تشحذ العزيمة وترفع الهمة تعقيباً على معركة بدر الكبرى.
كن في صدر الصورة وعنوان الكتاب
رأينا في طريق الحياة الطويل الكثير من ذوي الهمم الهابطة والنفوس المحبَطة المثبطة، يسيرون إلى جانب الحيطان بعيداً عن جادة المدافعة والمزاحمة.
حدث هذا ذات يوم..
توقف أمر إزاحة أَحد المفسدين من موقعه على توقيع رئيس دائرة في بغداد. لكن الرئيس أبى أن يمنحنا توقيعه المحترم! وبدلاً من ذلك قعد يحكي لنا عن معاناته الشخصية من مقالب ذلك الرجل المفسد وخبثه ما نعلم وما لم نكن نعلم! ولما استفسرنا عن سبب رفضه مع علمه بكل هذا؟ راح بنا في جولة واسعة من الوعظ والتنظير لقاعدة شهيرة من قواعد (الترضويين) والمهزومين.. (عدم الظهور في الصورة). أي كن دائماً خلف الصف وحرض غيرك ليفعل. ثم راح يرسم لنا خطة خيالية تقوم على التدرج في كشف معائب المذكور شيئاً فشيئاً أمام الناس، ودفعهم سراً إلى تقديم شكاوى وتواقيع للجهات المسؤولة، حتى يأتي يوم يتحقق فيه المراد ويزاح فيه صاحب الفساد. قلت له: ولم كل هذا؟ ومن منا لديه الفراغ لتنفيذ هذه الخطة ورعايتها؟ وكم من الناس سيقتنع؟ وكم من هؤلاء من يتجرأ ليضع توقيعه ويجازف (للظهور في الصورة)؟ سيما وأن مثل هذه الأساليب تفشل عادة في الوصول إلى المطلوب. لم كل هذا العناء والأمر لا يحتاج إلى أكثر من حركة بسيطة من قلمك على هذه الورقة لا تستغرق منك غير ثوانٍ معدودة؟
وتذكرت ذلك الرجل الذي قيل إنه اشترى دواء على شكل (بودرة) ضد البعوض، ثم في اليوم التالي رجع إلى البائع يشكو إليه عدم جدوى الدواء! فقال له: هل لك أن تخبرني كيف استعملته؟ قال: نثرت البودرة في أرجاء البيت وعلى الفراش. قال: سامحك الله؛ لقد أسأت الاستعمال. قال: فكيف أفعل إذن؟ فأجابه: تطارد البعوضة أولاً فإذا أمسكت بها قم بدغدغة بطنها حتى إذا فتحت فاها أدخلت السم فيه!
بعد أخذ ورد ومواعظ وحكم قلت له: يا فلان! لقد فرحنا لما صرت في هذا المنصب، والمفترض أنه كلما يكبر الإنسان في عمره ومنصبه يكبر معه أثره ونفعه لقضيته وإخوانه، لا أن يصبح هاجسه كيف يحافظ على مكانته ووظيفته. ألا فلتعلم أن المناصب لا تدوم، وأنها سرعان ما تزول. بعد ذلك بقليل وقعت كارثة الاحتلال، وفقد صاحبنا موقعه، ثم اختطف بعد ذلك من قبل مجهولين واختفى أثره رحمه الله. وما زال ذلك المفسد في مكانه لم يتزحزح عنه أنملة حتى اليوم!
ما أكثر أمثال هذا الموقف التي اعترضت حياتي! والتي يعمل أصحابها وفق قاعدة (لا تظهر في الصورة).
أحد هؤلاء الذين تضطرك الظروف أن تتعثر بهم، جئت أدعوه ليصحبني في مهمة نمر بها على بعض المسؤولين، فإذا هو يقول: لا لا؛ إن هذا يكشفنا! عليك أن تتصرف بحكمة.. ادفع الشباب للتحرك، وإياك إياك أن (تظهر في الصورة)! قلت له: كيف يتحرك الشباب وهم يرون قادتهم في الكواليس والصفوف الخلفية؟ من يعطيهم المثل للتقدم إذا كنا لا نتقدمهم؟ ثم كيف بعد ذلك نطمح لقيادتهم، ونطمع في أن يمشوا وراءنا؟ وإن تقدم أحد منهم وضعنا في طريقه العراقيل، واتهمناه بحب الظهور!
لو افترضنا وجود مفكرين مبدعين من بين هؤلاء – وهو وارد وملموس – كيف يمكن لفكرهم أن ينتشر الانتشار الجماعي الذي يستهدف المجتمع، لا الفردي الذي يقتصر على بعض الأفراد؟ هذا أولاً. ثم كيف يمكن اختبار صلاحية ذلك الفكر، وهو بعيد عن واقع التجريب، غارق في متاهات التجريد؟
أنا مسلم : مقامي أول الناس .. وطموحي قيادتهم وإمامتهم
لقد عالج الإسلام هذه الظاهرة فحث على التقدم في الخير، والبروز بذلك في المجتمع، والمبادرة إلى استلام زمام القيادة، مع مراعاة النية الخالصة والاجتهاد في الإتيان بالأعمال الصالحة الصائبة. فـ(عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) (الفرقان:64،63) هم أنفسهم الذين يدعون الله جل وعلا أن يجعلهم قادة يحملون راية الإصلاح ويتقدمون صفوف المتقين فـ(يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74). وهم أنفسهم الذين يرددون في افتتاح صلواتهم لاسيما صلاة التهجد: (وجَّهتُ وجهيَ لِلَّذِي فطَرَ السَّمواتِ والأَرضَ حَنِيفًا مسلماً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). انظر.. (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)؛ حتى لا يقولن أحد إنها خاصة بالرسل، بل هي شعار كل مسلم يقيم الصلاة!
وقد ذكر القرآن الكريم الكثير من قصص الأنبياء عليهم السلام، ومواقف أتباعهم في الشجاعة في قول الحق، وقوة العزم في مواجهةالباطل. كموقف سيدنا إبراهيم وهو وحيد فريد يواجه سطوة الظالمين ويستهزئ بعقائدهم. وموقف مؤمن آل فرعون ومؤمن سورة (يس)!
ليس التأخر عن الخير حالة محمودة في ديننا، بل هي مذمومة بالنص. فقد روى مسلم عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا، فَقَالَ لَهُمْ: (تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ). والشاهد في عموم لفظ آخر الحديث: (لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ)، لا فــــــي خصوص السبب في أوله.
وليس التأخر على إطلاقه من التواضع، بل قد يعبر عن ضعف وضعة. ولانسحاب تلك المعاني العظيمة من حياة مجتمعاتنا بحكم طول معاناة الظلم والكبت والاغتيال الفكري والجسدي حتى من المجتمع بعضه على بعض، نجد هذه الضعة قد تحولت إلى (حكمة) عند أغلب الناس وفي مقدمتهم كثير بل أكثر مشائخ الدين، دعك من الأساتذة والتربويين والموجهين والصحفيين والإعلاميين وأمثالهم! وبذلك شاعت في أوساطنا تلك الكلمة التي لطالما سمعتها من المشائخ، كأنهم تواصوا بها صاغراً عن صاغر، كلما استدعى الأمر التقدم وكان في ذلك رائحة أذى ولو بكلمة، ولو من بعيد، ولو توهماً: (لا تظهر في الصورة)! ألا ما أصعب المَهمة! ألا ما أطول الطريق! ولكن يعيش له الجهابذة!
نحنُ ..
جيلٌ قد كفرنا
بتراتيلِ الزوايا
وترانيمِ البغايا
والتهاويمِ الخفيةْ
ورُقاعاتِ التُّقيةْ
وخرجنا
نزرعُ الأفكارَ والأحلامَ
ما بين البريةْ
بوضوحٍ ورَويِّةْ
نحن ..
قومٌ نضعُ العنوانَ في أعلى الهويةْ
الهمة2
ب. العلاج
تحدثت آنفاً عن تشخيص هذه الآفة، وفيما يلي أود توصيف العلاج تأسيساً على معرفة الواقع، مع محاولة سريعة لاتباع طريقة (التحليل النفسي) تكملةً للتشخيص، وتجربةَ أسلوب (الإيحاء) علاجاً لبعض الحالات.
الحاجة ماسة إلى تربية عميقة الأثر واسعة الانتشار طويلة الأمد للجيل الذي نعايشه، تساعده على الانسلاخ من طوق تلك التربية الجبانة المجبنة، ثم اجتثاثها من مضمون الثقافة الجمعية السائدة في المجتمع. تربية تغرس الثقة في نفس الناشئة، وتشجعهم على تقمص الشخصية الاقتحامية حتى تكون سجية طبيعية، وتشرب روحية الهمة العالية، وامتلاك العزيمة الشديدة، والاتصاف بالشجاعة الأدبية، وعدم التردد من قول الحق. وليكن شعارنا: (هي كلمة.. إن قلتها مُتّْ.. وإن لم تقلْها مُتّْ؛ فقلها ومُتّْ).
الشخصية الحقيقية والشخصية الإيحائية
لنحيي في النفوس المجدبة توجيهات القرآن والسنة والسيرة وتاريخ العظماء. ولنستثمر علم النفس والاجتماع. وتعالوا بنا نقف عند قول علماء النفس: إن للإنسان شخصيتين: شخصيته التي هو عليها، وشخصيته التي يتصورها إيحاءً من ذاته أو غيره. وليس ضرورة أن يتطابق التصور مع الحقيقة، بل كثيراً ما يختلفان! لكن نفسية الإنسان وسلوكه وتصرفاته تخضع – على كل حال – لتصوره ورؤيته عن شخصيته لا كما هي عليه في الحقيقة. أي إن الإنسان هو الذي يصنع شخصيته، أو تصنع له!
وهذا له علاقة كبيرة بما تلقاه من تربية وإيحاء في الصغر. فمن كان يلقى التشجيع وكلمات الإعجاب، ويوصف بالشجاعة والقدرة والقوة والذكاء ومحاسن الخلق، نشأ واثقاً من نفسه شجاعاً غير هياب، خلوقاً ذا علاقات طيبة مع الناس. ومن نُشِّئ على الكبت والتنقيص وأنه لا شيء، ويوصم بالجبن والضعف والعار، كان كذلك في غالب الأحوال.
إن هذا يفتح لنا باباً عظيماً من أبواب الخير والأمل والتفاؤل، من حيث أن ذلك يعني أنه من الممكن للمريض بذلك أن يتعالج مما هو فيه، ويعالج نفسه بطرق من أهمها الإيحاء الإيجابي والهمس لنفسه دوماً بأنه قادر وشجاع وذكي ومتفائل وسليم، ويردد: “لا شيء مستحيل إلا المستحيل”، وأن يضع له أهدافاً عظيمة يسعى إلى تحقيقها، ويحشد الآخرين لها، ويصبر ويتصبر على طول الطريق.
يفسر علماء النفس هذه الظاهرة بأن العقل اللاواعي يتقبل الإيحاءات دون مناقشة، ويتشربها ويحولها إلى النفس لتتصف بها، ويقوم بتصديرها إلى العقل الواعي فيقتنع بها.
من السيرة والسيَر
قرأت سيرة أعظم العظماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت التشجيع يحوطه من كل جانب! وكذا سيرة كثير من العظماء.
فقد ورد أن بعض علماء أهل الكتاب رأوه وهو صغير فتوسموا فيه أنه النبي الخاتم. وقد تكرر هذا مراراً على مرأى منه ومسمع، ومن ذلك قصة بحيرا الراهب. وكان رسول الله بعد موت أمه مع جده عبد المطلب بن هاشم فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، وكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجرؤ أحد منهم على أن يجلس عليه إجلالاً له. إلا حفيده محمد فكان يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني فوالله إن له لشأنا، وفي رواية: دعوا ابني إنه يؤسس ملكا. ثم يجلسه معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.
وقال يوماً قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم الذي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به.
وانظر إلى هذه المرأة العظيمة هند بنت عتبة رضي الله عنها وتأمل شموخ هامتها وعلو همتها. مر عليها بعض متفرسي العرب وعندها ابنها معاوية صغيراً، فقال لها: إنني أتوسم فيه أن يسود قومه. فما كان منها إلا أن ردت عليه قائلة: ثكلتُه إن لم يسد إلا قومه! فهي تريد منه أن يسود العرب بأجمعهم، لا قومه فقط. وهكذا كان!
يقول: أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فإني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته”. وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: “المرء حيث وضع نفسه”. ويقول أبو فراس الحمداني: رب همة أحيت أمة. وهذا المتنبي يقول:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها
وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
وقال غيره:
ونحنُ أناسٌ لا توسطَ بيننا
لنا الصدرُ دونَ العالمين أو القبرُ
نعم.. هذا صحيح جداً. وأنا أؤمن بقدرات الإنسان غير المحددة بسقف، ما دام ذلك الإنسان متكلاً على ربه، واثقاً بنفسه، يعرف مسار الطريق، ومثابات الوصول. لذا أنصح كل قائد بهذه القاعدة: (عرض أصحابك للتحدي وانظر كيف سيأتونك بالعجائب). حتى قيل: “امنحه ثقتك وارمه في البحر”. ومن لا يرى ذلك فبسبب أنه فاقد للثقة بنفسه أساساً، فيسقط ذلك على أقرب أتباعه. فهؤلاء مرضى في حاجة إلى علاج، أو حجْر، بله أن يتسلموا زمام القيادة!
الهمة3
جـ. تجربة شخصية
لي صاحب أتوسم فيه قدرات قيادية جيدة، بيْدَ أنني حينما أكلفه بمَهَمَّةٍ قيادية أجده يتلكأ ويُبدي التواضع مردداً: “أنا جندي مطيع”، فأقول له: الجنود كثر، ولكنني أبحث عن القائد. ولكن دون جدوى.
وعدت أفكر بصمت وأدرس حالته مع نفسي، فترجح عندي أن (رؤيته لشخصيته) مهتزة؛ وهذا ما يدعوه لأن يهاب التقدم، ويطلب السير وراء الآخرين. هو خريج كلية الشريعة، ومارس الإمامة والخطابة سنين في عدة مساجد، ويعمل مدرساً في إحدى الثانويات. من خلال تجربتي تبين لي أن الثقافة الدينية التقليدية السائدة في أوساطنا تعاني من عدم وجود أجواء صحية تشجع على بروز الشخصية القيادية لدى طلبة العلم. العكس هو الصحيح؛ إذ شعارهم التواضع واحتقار الذات، و(حب الظهور يقصم الظهور)، بعيداً عن التوسط.
هذا مع تعظيم مفْرط للأولين بحيث يصورونهم كأنهم مخلوقات قدسية مقدسة، ما إن يذكروا في مجلس حتى تجد من يردد مثل هذه العبارات: (أين نحن من أولئك؟)، و(من نحن؟). وذلك على النقيض من منهج القرآن الكريم إذ يذكر السابقين بإيجابياتهم وسلبياتهم، ليعلمنا أن العظيم ليس من شرطه العصمة من الخطأ والتقصير والذنب. وعلى هذا الأساس فكل إنسان – رغم ذلك – مرشح لأن يكون عظيماً. تأمل كيف جعل القرآن علاقة الأجيال اللاحقة كلها بخير جيل قائمة على هذه الآية العظيمة: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)! انظر إلى بعض الفوائد المستقاة من الآية:
- فهم إخواننا أولاً، وفي ذلك رفع من شأننا.
- علينا أن نستغفر لهم كما نستغفر لأنفسنا. ولولا الذنب ما كان الاستغفار. فتلك لوازم بشرية إن وجدت هنا وهنا لا تقدح في العظمة، ولا تمنع التأسي والاقتداء.
- كما أن فيها دفعاً لنا إلى الانطلاق، وأن لا نجمد على ميراث الأولين، بل علينا ولنا أن نراجعه ونضيف ونحذف منه، وإن نظرنا إليه وإليهم بعين التقدير والاحترام والاتباع. ومن معانيه الحكمة القائلة “كم ترك الأول للآخر”.
- ومنها تقدير الذات والتوافق معها وعدم الشعور بالذنب أو العار خارج نطاق التوبة والاستغفار، ومن دون أن يترك ذلك ندوباً عقدوية في نسيج التركيبة النفسية.
وذلك كله أو بعضه – على الأقل – تفتقده أوساطنا الدينية والاجتماعية. فنحن مع غفلتنا عن هذه المعاني العظيمة واقعون في مطب (إما التقديس أو التدنيس). تقديس الأولين دون التوقف عند حد (التقدير)، وهو الواجب الشرعي والطبيعي الذي يمثل سقف النظر إلى أسلافنا وعظمائنا. وتدنيس الآخرين بمن فيهم جيلنا وذواتنا. وهذا هو السبب في ظاهرة جلد الذات وإسقاط النقائص على الجيل الحاضر، الشائعة في المدارس والكليات، لا سيما الدينية منها، بصورة تجاوزت الحد الوسط، وفي المساجد والخطب والمحاضرات وغيرها من الأماكن والمنتديات، وحتى البيوت! فتجد عامة المتخرجين من هذه الأوساط لا يجيد سوى الكلام والمواعظ والتوجيهات الفوقية، دون قدرة على ممارسة القيادة الحقيقية.
قدرت أن صاحبي ضحية هذه التربية المغلوطة، سيما وأنني على صلة قديمة بوالده رحمه الله وكان ذا شخصية قيادية بالفطرة خلفت أثراً طيباً في تغيير وإصلاح مجتمعها ضمن دائرة العشيرة والدوائر المحيطة. فبدأت معه بممارسة علاج نفسي يساعده على اكتشاف شخصيته الحقيقية كما أراها أنا، محاولاً إبعاده شيئاً فشيئاً عن (شخصيته التوهمية) كما يراها هو.
العلاج بالإيحاء
يقوم هذا العلاج على جملة مشجعات ومحفزات توقظ في الهدف شخصيته القوية النائمة المخدرة، لتنهض طاردة تلك الشخصية الضعيفة المسيطرة. علمت صاحبي أن الإنسان هو ابن أفكاره. وأن شخصيته هي ما يراه هو عن نفسه. صحح فكرتك عن نفسك وانظر إليها بعين الإكبار والتقدير، وأنك سليم الجسم والعقل، مرن الفكر متوهجه، ذو خيال خصب وأحلام كبيرة، قادر على القيادة والإنجاز والتغيير، يمكنك التأثير في الناس وحشدهم وقيادتهم، وأن القادة العظام ليس شرطاً أنهم كانوا أفضل منك شكلاً ولا جسماً ولا عقلاً ولا مَكِنَة، إنما الثقة بالنفس وعلو الهمة والتخطيط هو الذي صنعهم. (قل: “هذه شخصيتي” تكن أنت تلك الشخصية).
علمته هذا الشعار، وبأكثر من لفظ: (قل: أنا لها تنالَها)، (من قال: أنا لها نالها)، ورددته على مسامعه كثيراً، وطلبت منه ترديده على مسامعي، حتى اقتنع به، بل صار يعمل على أساسه.
وكانت بيني وبينه مراسلات ومساجلات على شبكة النت. ضربت له يوماً مثالاً من حياتي الشخصية، فكان أن كتب لي:
– أنت ذكي (وين أكو منك)، كما قال أبو بكر t: “عقمت النساء أن يلدن مثل خالد”! فكتبت له:
– وأنت أيضا ذكي. (ثق بالله اولاً ثم بنفسك تسلس لك المعجزات). واعلم أن الامة لم تعقم، ولم تتوقف عند خالد، ولا خالد وحده صنع الأمة. بل لولا الأمة ما كان (خالد) هو (خالد) الذي عرفناه.
وكلفته يوماً بعمل يتطلب القيادة، فأخذ يعتذر ويقول نصاً: “أنا لست بهذا المستوى”، واقترح عليّ آخرين بدله سماهم بأسمائهم، مع أنني أعرف أنه أقدر وأصلح منهم. فرددت عليه برسالة جاء فيها: (سأقطع علاقتي بك إن ذكرت مرة أخرى أنك لست بالمستوى المطلوب. بل أنت بالمستوى، إن لم تكن اليوم فغداً، ونحن أعلم منك بك، وفلان ليس أفضل منك إذا جمعنا عناصر التفضيل إلى بعضها. (قل: أنا لها تكن لك) واجعل شعارك دوماً: (من قال: أنا لها.. نالها).
ومن رسالة أُخرى إليه أقتطع هذه العبارات: (لا تترك للاحباط الى نفسك منفذاً، واذا نظرت الى النصف الفارغ من الكأس فتذكر أن إلى جانبه نصفاً مملوءاً. نحن نعالج ركاماً متنوع المواد والأصناف، وما تراه فغباره وترابه وعقاربه، بل ربما ستجد فيه أفاعي وبنات آوى.
المتساقطون على الطريق لا يهموننا كثيراً؛ ما دمنا نعمل على التعويض والزيادة ونرجو من الله تعالى البركة. ونحن متيقنون أن (استغلال الحدث أهم من الحدث)، وبهذا ينقلب الفشل الى نجاح، كما أن النجاح – إن لم يتم استثماره – ينقلب الى فشل. نحن كالمُبِلِّ حديثاً من مرض: لا يهم إن ارتعشت قدماه قليلاً أو تعثر أو اتكأ على جدار؛ ما دامت العافية تسري ويتضاعف سريانها في أنساغ جسده. جسدنا يتعافى: يطرد الخلايا الضارة والزائدة ويستبدل بها خلايا جديدة حية نشطة. فلا تنظر إلى ما تساقط من الموات، بل انظر الى اهتزازات الحياة مستفيداً مما يناقضها مما تراه أو يعثر بك.
الأمور بخير.. ولكن نحتاج الى وقت تتراكم فيه الجهود الصائبة لتظهر الثمار الطيبة. وبوجودكم تنشرح الصدور وتوضع الأوزار ويرتفع الذكر بإذن الله: (إن مع العسر يسراً . ان مع العسر يسراً).
ومن رسالة أُخرى: (إننا نعمل مع الله جل في علاه؛ فمع خلوص النية وصدق العزيمة تكون المنح السماوية للنتائج الأرضية عنصراً أصيلاً مضافاً يجعل تلك النتائج شيئاً آخر مختلفاً عما تكون عليه نتائج العاملين مع غيره سبحانه. والله تعالى يقول في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: (إذا تقرب إلي عبدي شبراً تقربت منه ذراعاً…) الحديث. ولا يفوتنك أن المقارنة ليست بين شبر وذراع مجردين، وإنما بينهما منسوبين كلاً إلى جهته: فشبر العبد لا يقاس بذراع الرب، ولله المثل الأعلى، فكل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك. علينا قطع الشبر الأرضي، لننتظر الذراع السماوي. وشعارنا….. (أَدِّ الذي عليك و….. ما عليك).
وهكذا… وهكذا… حتى كتبت إليه أخيراً أقول: (انظر الى نفسك وقارن بينها قبل سنتين وبينها الآن)!
الآن..؟ الآن هو شخصية أُخرى غير تلك الشخصية المترددة الضعيفة المقيدة، التي كان يتوهمها ويتصرف من خلالها. لقد استيقظت في نفسه وحسه، وفي فكره وقناعته عوامل الخير والقوة وعناصر التأثير والقيادة، فطردت غربان الضعف والهواجس والخوف والتردد والانزواء في الصفوف الخلفية خارج نطاق الصورة الواضحة المتحدية الشامخة، بإطارها الذهبي الجميل.
هذه تجربة واحدة من تجارب عديدة عشتها، وأراها يقيناً صالحة للتجريب مع الجميع. بل تجربتي مع نفسي وصناعتها بنفسي لها شبه بهذه القصة.
4. الفردانية أو ( فقدان المؤسسة أو المنظومة )
4.الفَردَانِيَّة ( غِيَابِ العَمَلِ المُؤَسَّسِي )
سببان أساسيان يدعوان المجدد إلى التحول من التفكير والعمل الفردي إلى التحرك ضمن دائرة العمل المؤسسي، هما:
أ. اختبار صلاحية الفكر
عرفنا أن الإبداع – حتى ينضج ويترصن ويُختبر – لا بد أن يتحول إلى ممارسة جماعية منظمة، وأن (الفكر المبدع إنما هو نتاج فعل اجتماعي نسقي. فالعمل المجتمعي هو علة التطور والارتقاء في الفكر والجسد، كما وأنه أساس تصحيح الأخطاء في الإدراك والتقدير والتوقع. والعمل المجتمعي هو منطلق الشعور بأزمة الفكر في التعامل مع تحديات الواقع؛ وبذا يكون العمل هو الحافز إلى التغيير، ومظهر انتماء الفكر والتاريخ([1]).
وما لم يتعرض الفكر للاختبار سيتحول من التجديد إلى التجريد بعيداً عن الواقع، وبذلك يجمد ويأسن ويتفسخ ويمسي حجر عثرة في طريق التجديد والنهوض.
ب. استجابة المجتمع لنداء المجدد
ثمت سبب جوهري آخر لضرورة وجود الفكر التجديدي المبدع ضمن منظومة فاعلة، هو أن هذه المنظومة لا بد منها لضمان سريان أثر الإبداع في نسغ المجتمع. فقد علمتنا الخبرة أن الشعور بقوة الكلمة لدى الآخرين، وتأثرهم بها، واستجابتهم لها: لا تنبع من ذاتها فقط، إنما ذلك يُستمد شرطاً من وزن قائلها أيضاً، وكم وراءه من رجال وأتباع. والمنظومة – لا غيرها – هي مصنع الرجال ووسيلة استثمار طاقاتهم وتجييشها مجتمعة لتبعث الهيبة في النفوس، وتفرض على خصومها وأصدقائها الاحترام، وتمنحها قوة القرار، والقدرة على جعل الآخرين يستجيبون لها ويحسبون حسابها.
لن يخرج الفكر مهما كان راقياً مُبدعاً إلى نور الحياة ونسيمها ما لم تتبناه منظومة ذات هيكلية إدارية ونظام داخلي ينسق بين الجهود ويضع العاملين في خلية المنظومة كل في مكانه المناسب من سُلَّمها التراتبي؛ فإنه لا يمكن نقل الإبداع من مجاله الفردي إلى نطاقه الجماعي، من أجل أن يتحول إلى فعل تجديدي يعطي ناتجاً اجتماعياً يسهم في تطور المجتمع وبنائه الحضاري المتقدم، دون وجود منظومة فاعلة تجمع الطاقات الإبداعية المتناثرة في دائرة نسقية واحدة، تضع كل شيء في مكانه المناسب، الذي يخدم من ذلك المكان أجزاء المنظومة كلها والمجتمع برمته.
وبذلك يمكننا القول: لا تجديد حقيقياً: يجمع بين سلامة الفكر الداخلي من ناحية، وحيوية الأثر الخارجي من ناحية أُخرى إلا في نطاق مؤسسة منظمة، تتمتع أجواؤها بحرية الرأي عند التعبير، وتشاركيته عند التقرير. وستظل نتاجات الفكر المتجدد المبدع هائمة دون إحداث الأثر المطلوب، ما لم يتم تبنيها من قبل مؤسسة منظمة ذات منهج فكري واضح وبرنامج عملي واقعي فاعل.
الخوف من الحزبية
قلت لأحد شيوخ الدين، شاب متحمس ومتفاعل مع مشروعنا: أما آن الأوان لأن تضع يدك في يدنا وتعمل ضمن مؤسستنا؟ فأجابني على استحياء بأن أعفيه من هذا التكليف! قلت: ما السبب؟ قال: أنا لا أؤمن بالحزبية.
وحين ناقشته في الأمر تبين أنه – كمعظم الذين يهربون من كل تكليف منظم – يزعم أو يتصور أن (الحزبية) تعني لديه كل عمل منظم! وكأن الأصل في سنن الكون أن تكون فاقدة للنظام، والأصل في شريعة الرب أن توضع في سياق نشاط لا رابط بين أجزائه، فإذا خرجت عن هذا السياق فكانت ضمن عمل نسقي ممنهج فقد صارت حزباً وأصحابها حزبيين! وأنا معه لو كانت الحزبية تعني العصبية والتعصب فإنها مذمومة شرعاً وعقلاً. لكن ما لمسته من جميع الذامين للحزبية هو ذم العمل المنظم. فيا لَلتخلف!
لقد انعكس الأمر في أذهان هؤلاء فتوهموا أن كل عمل منظم هو عمل (حزبي). والحقيقة أن كل حزبٍ منظمٌ لكن ليس كل منظم حزباً. العلة ليست في التنظيم، فهو سنة كونية وفريضة شرعية، أين هو من قوله تعال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: 105،104)؟! والعمل على غير نسق منظم صورة من صور التفرق، يستحيل معه أن تصل أمة إلى أهدافها. بلى، العلة ليست في التنظيم، إنما في الحزبية بمعنى التعصب.
يجد القارئ في (منهاجنا) رؤية واضحة عن موقف (التيار السني في العراق) من الحزبية والأحزاب، أجد من المناسب تقييدها في هذا الموضع.
الفرق بين المؤسسة الربانية والمنظمة الحزبية
يخلط البعض بين العمل المنظم وبين الحزب وما يعتريه من تحزب. ويتساءل: أليس التنظيم معناه تكويناً حزبياً؟ ونقول: إن السؤال بهذا الوضع خطأ. والصحيح أن نسأل: هل يمكن تحقيق الإنقاذ دون تنظيم؟
فإن كان الجواب بالإيجاب قلنا: ليتك أثبت لنا ذلك! كيف يمكن مواجهة عدو منظم على جميع الصعد بعمل لا نظام فيه؟! وإن كان الجواب بالنفي قلنا: العلة ليست في التنظيم؛ فليس كل تنظيم حزباً بالمعنى السائد، وإنما العلة في الحزبية والتحزب. فتعال معي نتعرف على ماهية التحزب.
إنه التعصب بالباطل للفئة المنتمى إليها. وهذا له وجوده في الجهات غير المنظمة أيضاً. فالتحزب شائع بين العشائر بعضها ضد بعض. وفي الأوساط الدينية بمختلف توجهاتها. وبين أتباع المذاهب الفقهية، وعند طلاب شيخ تجاه طلاب شيخ آخر. فما الحل؟ هل بإلغاء تلك الجهات؟ أم بعلاج التعصب والتحزب؟ إن التحزب يمكن أن تلمسه داخل المؤسسة الواحدة، وعلاجه أو إزالته يكون باتباع الطرق السليمة، وليس بإزالة المؤسسة نفسها.
الأممية والأحزاب والمؤسسات العابرة للحدود
من مشاكل الأحزاب والحزبية، التي حرصنا على أن لا ننزلق إليها هي الأممية. والمقصود بالأممية: تكوين سياسي يتركب من ثلاثة عناصر: شعور بالانتماء إلى أمة ما، ينبثق عنه فكر، ينعكس على الواقع نشاطاً منظماً يتجاوز الوضع القطري دون النظر إلى خصوصية كل قطر على حدة.
تتحول الأممية إلى مشكلة وخطر على الجميع: أصحابها وغيرهم، حين تعبر الحدود القطرية للبلد، لا كفكرة فحسب، وإنما كتنظيم أيضاً؛ على اعتبار أننا كعرب أو مسلمين أمة واحدة. ويغيب عن البال أننا – في الواقع – أقطار منفصلة عن بعضها. لكل قطر منها خصوصيته السياسية والأمنية والقانونية والاجتماعية والثقافية. ولم نعد كما كنا من قبل في بعض الفترات التاريخية أمة لها كيان سياسي واحد.
الأممية في زمن القطرية.. هي أسوأ ما أفرزته الأحزاب في الشرق منذ مئة عام.
تتمثل الأممية – أكثر ما تتمثل – في الأحزاب القومية والإسلامية. وقد تكون نشاطاً وطنياً لا يراعي خصوصيات كل مكون داخل القطر. أما أسوأ أشكال الأممية فأممية (ولاية الفقيه).
لا بأس أن يحلم المرء بوجود أمة جامعة. لكن الحلم شيء والواقع شيء. فأن تعيش الأممية إيماناً وشعوراً وحلماً جميلاً، هذا من حقك. أما عندما تتصرف فعليك أن تستيقظ وتهبط من فضاء الحلم إلى أرض الواقع. وإلا فمن أراد أن يعيش حلمه واقعاً أمسى الواقع الراهن الذي يرفضه اليوم بعد حين حلماً يتمناه ولا يلقاه. والقائد حالم لا بأس، ولكن رأسه في السماء وقدماه على الأرض. والقاعدة تقول: (فكّر عالمياً، لكن تصرف محلياً).
الأممية القطرية
ثمت قسم آخر من أقسام الأممية هو الأممية القطرية. وذلك حين يضم قطر ما عدة مكونات: قومية أو دينية وما شابه ذلك، ليس من اليسير التلاقي أو الاندماج بين مكوناتها دون مراعاة هذا التباين لبناء وضع سياسي يناسب ذلك. والعراق مثال.
حين تتحول الأممية إلى كارثة
يجد الفكر الأممي نفسه ملزماً بما تفرضه الأممية عليه من واجبات، ومنها نقل (تجربته التنظيمية) بمختلف مستوياتها، حزباً كانت أم دولة، إلى خارج نطاق القطر الذي نشأت فيه، دون أن ينتبه إلى ضرورة مراعاة لوازم متغيرات الواقع الحادثة. وهذا أمر شرعي أصولي؛ فالحكم الشرعي يتغير زماناً ومكاناً وأعياناً.
في ظل هذا التناشز الحاد بين الفكر والواقع يواجه الفكر الأممي مشكلتين كبيرتين:
- اصطدام التكوينات الحزبية بالوضع السياسي للقطر الآخر.
- تعميم (تجربته الفكرية) بكل ما فيها دون الانتباه إلى الفروق الموجودة بين بلد وآخر، التي تقتضي تحويراً في الفكر أو تقديم فكرة وتأخير أخرى تبعاً للتحديات الخاصة. وهو ما نسميه بـ(بلدنة الفكرة أو الثقافة).
أممية الفكرة وقطرية المؤسسة
تتكون المؤسسة من عنصرين: الفكرة والتكوين المنظم الذي ينبني عليها.
ليست المشكلة في الفكرة ما لم تتحول إلى مؤسسة أو حزب منظم يتجاوز الحدود دون اعتبار للأوضاع الخاصة بالقطر الآخر.
نحن نؤمن بأممية الفكرة، ونرفض أممية الحزب أو المؤسسة. الفكرة بطبعها عابرة للحدود ولا ضرر منها ما دامت تتحرك في نطاق شروط ثلاثة:
– تلبية حاجة القطر أياً كان.
– تكييفها عند التطبيق بما يتوافق والوضع القانوني للبلد.
– أن يكون العمل بها تحت عين الشمس، وليس في الدهاليز الخفية.
خذ مثالاً على ذلك: الفكرة السنية، في مواجهة الفكر الشيعي المتخادم مع إيران. كل الأقطار – وأولها أقطار المشرق العربي – في حاجة إليها. لذا نحن ندعو إليها جميع المتضررين بالفكر الشيعي. أما التكييف التطبيقي فمن شأن كل قطر حسب ما يتناسب ووضعه السياسي والقانوني والاجتماعي.
إن وعينا بهذه الجوانب الدقيقة هو الذي جعلنا نطلق على مؤسستنا اسم (التيار السني في العراق). فهي كفكرة عابرة للحدود، لكن كمؤسسة هي خاصة بنا نحن السنة العرب في العراق. داعين كل متضرر من المشروع الإيراني أن تكون له مؤسسته الخاصة به ضمن الشروط التي سبق ذكرها. وهذه إحدى آليات تجاوز الحزبية في مشروعنا. علماً أن كل حزب مؤسسة منظمة وليس كل مؤسسة منظمة حزباً. فالمدرسة مؤسسة، والمستشفى والمصرف والصيرفة، كلها مؤسسات منظمة لكنها ليست أحزاباً.
انظروا إلى جناية الأحزاب القومية عندما رأت – بحكم الأممية – أن لها الحق في تجاوز حدودها القطرية ونقل تجربتها التنظيمية خارج تلك الحدود. غزو جمال عبد الناصر لليمن مثال، كذلك غزو صدام حسين للكويت. وانظروا إلى جناية الأحزاب الإسلامية على نفسها وغيرها للسبب نفسه. الفوضى التي تضرب المنطقة من ليبيا إلى اليمن على يد الإسلاميين مثال لا تخطئه العين.
تحوطات الانزلاق نحو الحزبية
إضافة إلى هذا الوعي الذي يضع الحد الفاصل بين العمل المنظم والعمل الحزبي، وضعنا ثلاثة أسيجة تحيط بالمؤسسة تحول بينها وبين الحزبية:
الأول: السياج الذاتي الذي يقوم على الشمولية في المفاهيم والعمل. فهي مؤسسة تقوم أولاً على المفهوم المدني بكل ما فيه من شمولية في العقيدة والفكر والإيمان والعمل. والأنشطة المتنوعة: دينية ومسجدية وشبابية وحقوقية وتعليمية ونسوية ورياضية وأدبية وخيرية وغيرها من المناشط التي لا تقتصر على العمل السياسي الذي هو أساس الحزبية.
الثاني: لا يتم الانتقال إلى أي خطوة لاحقة قبل اكتمال بناء الجسم المدني.
الثالث: القيادة العليا هي لمؤسسة الرأس القائد في الجسم المدني. والقوة المهيمنة تتركز بيدها. أما القيادات السياسية والعسكرية فهي قيادات تنفيذية تابعية. بهذا نكون ارتقينا بفكرنا إلى مستوى دولة المؤسسات، لا دولة الحزب القائد. وإلى مستوى الأمة بعد الدولة.
[1]– الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل، ص60-61، شوقي جلال، مكتبة مدبولي، 2002، بتصرف.
5. الاستحمار ( أو خلو الفكر من القضية )
5. الاستِحمَارُ ( خُلُوُّ الفِكرِ مِنَ القَضِيَّة )
لا أريد أن أطوح بكم في تنظيرات ومقدمات مطولة، بل أقول لكم مباشرة: هما شخصان اشتهرا بعقيدة التوحيد في المجتمع المكي: ورقة بن نوفل t، ومحمد بن عبد الله e. حظي الأول بالاحترام والاعتراف بحقه في الحياة والعيش آمناً مطمئناً، بل كان مرجعاً دينياً لطائفة منهم دون أن يثير ذلك أي حساسية لدى كبراء المجتمع ورؤسائه وقادته. بينما حورب الثاني ومُنع أتباعه من اللقاء به، وعُذبوا واضطُهدوا وشُردوا، وكان حاله في مجتمعه كما قال Y: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) (القلم:51). فلماذا؟
العقيدة بين الفكرة والقضية
ورقة بن نوفل عاش العقيدة كفكرة واختيار شخصي، ولم يعشها كقضية واختيار اجتماعي بمعنى اتخاذ العقيدة كأساس لتغيير المجتمع ومعارضته بما فيه من تواضعات في العبادات والقوانين والشرائع والأعراف والسلوك والعادات. مثل هذا الشخص يتقبل المجتمع وجوده فيه مهما بلغ من العلم ورصانة الفكر، وكان ذلك مخالفاً لتواضعاته.
أما محمد بن عبد الله e فعاش العقيدة بالمعاني السابقة كلها: فكرة وقضية واختياراً شخصياً واجتماعياً. صدع بشعار التوحيد (لا إله إلا الله) بين ظهراني المشركين، وصك به آذانهم لا تلاوة وترنماً فقط، وإنما منهاج حياة يصلح الفرد والمجتمع بالقول السديد والحكم العادل الرشيد. لهذا قامت قائمة الملأ منهم وانطلقوا يحاربون الداعي بكل سبيل.
ولقد كان الداعي والمدعو يعلم خطورة كلمة التوحيد حين تخرج من حيز الفكرة الشخصية إلى رحاب القضية الاجتماعية. والمنصف من المشركين يقول له بصراحة: (إن هذا أمر تكرهه الملوك). وأما الباغي منهم فقام بالعدوان عالماً بخطورة من يعاديه وما يعاديه!
الإسلام دعوة تغييرية وقضية اجتماعية
الإسلام دعوة تغييرية تدخل في صميم المشاكل والانحرافات الاجتماعية بما فيها قضايا الحكم والسياسة، وتعمل على تغييرها طبقاً لقاعدة التوحيد. وليس هو فكرة فلسفية تبحث عن الحقيقة المطلقة بما في فكر الفلاسفة وقوانين المناطقة وأحكام المتفقهة من تجريد وبعد عن الواقع، كما أنه ليس عاطفة مجنحة أو مشاعر روحانية حالمة تهيم في أودية الخيال وألوانه الزاهية البراقة.
ليس الإسلام في أُسِّهِ ومبناه علماً من العلوم الطبيعية أو الاجتماعية أو حتى الدينية، تطرح كبحوث جامعية، وتنشر في الكتب وصفحات المجلات والدوريات العلمية، دون تلامس فعال مع ضمير الناس، ينزل إلى الأعماق ليستخرج منها الضر وينثر فيها الدر. وإن كانت هذه العلوم كلها من الإسلام بمعناه الأرحب. فالعالم في مختبره والعابد في محرابه والتاجر في متجره كلهم عباد في المسجد الكوني لهذا الرب العظيم، ولكن بشرط وجود المنظومة الإسلامية التي تتبنى قضية اجتماعية محلية وعالمية.
كيف يكون الاستحمار
الحمار حيوان من الحيوانات التي يركب ظهرها وتمتطى من غيرها ليصل بها إلى ما يريد من مكان، دون أن يدري المركوب بمراد الراكب. من هنا اشتق عالم الاجتماع الإيراني علي شريعتي مصطلح (الاستحمار)؛ من حيث إن العلوم والأفكار إذا خلت من القضية، وكانت في معزل عن هموم الناس ومشاكلهم وقضاياهم وأزماتهم لا سيما السياسية والاقتصادية والخلقية، إنما هي في هذه الحالة أدوات استحالة يفرح لها الطغاة وتلقى منهم الدعم والتشجيع؛ لأنهم يعرفون أنها خير وسيلة لتحويل الشعوب إلى ظهور يمتطونها للوصول إلى ما يريدون، لاهية ساهية عما تريد. حتى علوم الدين والشريعة حين تتحول إلى فكر مجرد وفقه محدد، فاقد للقابلية على التماس مع المشاكل الاجتماعية.
كل علم أو فكر أو خطاب أو كتاب، مهما كان راقياً وقيماً من حيث الذات، لكنه لا صلة له بالمجتمع، أو لم يكن ضمن منظومة حركية تعرف أين تضعه، وكيف ترعاه وتنميه لتستفيد منه باتجاه الهدف، فذلك لهو باطل، هو أفضل وسيلة لاستحمار الشعوب. وخير ما أجدني أستشهد به هنا من القرآن الكريم هو قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (البقرة:189). ففي الآية ذم للبحث في علم بعيد عن متناول عقول الناس، ولا فائدة عملية ترجى من ورائه، وإن كان في أصله راقياً محترماً كالسؤال عن ظاهرة فلكية هي الهلال وكيف يبدو صغيراً ثم يكبر حتى يكون بدراً، ثم يعود صغيراً حتى ينمحي ويكون محاقاً. كان هذا محور سؤالهم الذي تعاملت معه الآية. فالعلوم والأفكار لا ينظر إليها من حيث ذاتها أولاً، ما لم تكن علوماً نافعة تلامس قضايا المجتمع ومشاكله وهمومه.
الاستحمار وجمود الفكر
بالاستحمار إذن تجمد الأفكار وتنعدم الفرصة أمام المفكر لاختبار فكره على أرض الواقع. وفي هذا يكمن الخطر، وبه يقضى على التجديد.
لا بد إذن أن ننأى بفكرنا عن التجريد، ونقترب به من الواقع حتى يخالطه ويتفاعل معه، ونجعله فكراً يدور مع القضية حيث تدور. عندها سيكون فكراً تجديدياً مهما تقادم الزمن، وطال الأمد.
6. التقوقع والتشتت
6. التَّقَوقُعُ والتَّشَتُّت
التقوقع الفكري آفة خطيرة من الآفات التي تصيب حركة الفكر فتجعله فكراً ذاتياً أو محلياً منعزلاً عن محيطه الأبعد. أما التشتت الفكري فأقصد به عكس ما قصدته بـ(التقوقع) حين ينشغل الفكر بقضايا خارج نطاق محيطه الأقرب، الذي هو مدار حركته. والصواب هو في التوازن بين هذا وذاك.
أ. التقوقع الفكري
الأفكار مثل الريح لا تحدها حدود. ولكن الريح تحتاج إلى نوع من التعامل أو التكيف والتكييف يختلف من مكان إلى آخر. فلا يمكن لأي فكر أن ينمو نمواً طبيعياً يتسم بالحيوية والنضج منكفئاً على ذاته، أو في معزل عن أحداث العالم من حوله؛ فالفكر الفعال القادر على التغيير هو ذلك الفكر الذي يمتاز بميزتين مهمتين تكمل إحداهما الأُخرى: التأثر والتأثير.
إن أخطر أنواع التقوقع هو تمحور المفكر حول نفسه أو عشيرته أو فئته وحزبه أو وطنه ومنطقته دون التعاطي مع القضايا التي تدور رحاها خارج هذه المسميات وما شاكلها. إن أقل ما في هذا التقوقع من أضرار هو الوقوع في مطب القياس على (الذات)، عندما ينظر المفكر لقضايا الغير من ثقب قضيته أو بيئته، فيتوهم تطابق القضايا دون اعتبار لخصوصياتها، ويعطي – بناءً على ذلك – أحكاماً مرتجلة دون أن يُدخل في المعادلة العناصر الخاصة بكل حالة على حدة. وقديماً قال الحكيم: (أهل مكة أدرى بشعابها).
خذ مثالاً على ذلك انشغال الفكر العربي: الإسلامي والعلماني على حد سواء، في مصر والشام والمغرب العربي: بالتحدي الغربي، وقياس التحدي الدائر في العراق على ذلك، مغمضاً العين عن خصوصية القضية العراقية من حيث أن التحدي الأول والأخطر الذي يواجهها هو التحدي الشرقي (إيران وشيعتها). ولا يكتفي هذا الفكر بإهمال القضية العراقية حتى يتطاول عليها ويتعالم على أهلها يريد صرفهم عن قضيتهم الأولى إلى قضايا أُخرى هي الأُولى والأَولى بالنسبة لأهلها فقط لا لغيرهم.
الرئيس التونسي الحالي محمد المرزوقي يشارك في وِقفة احتجاجية سابقة أمام سفارة البحرين في العاصمة التونسية ويردد الشعار الشيعي الداعي لتنحي ملك البحرين! ويعلن مناصرته لما سماه “ثورة الشعب البحريني”. وكان من ضمن ما قال أثناء المظاهرة: “إن الثورة البحرينية ليست طائفية بل هي في اطارِ قضية شعوب عربية ترزح تحت سطوة الدكتاتوريات”. وذكر – والظاهر أن الرجل لم يزر البحرين قط! – أن “البحرينيين يعانون ما عانى التونسيون من فساد وظلم وقمع”، متهماً “النظام البحريني” بأنه “يريد اللعب بالورقة الطائفية أي السنة والشيعة، ولكن نحن السنة في تونس نعتبر أن القضية ليست قضية السنة ولا الشيعة، بل هي قضية شعوب عربية ترزح للديكتاتوريات ولا يفرق هؤلاء الديكتاتوريون بين السنة والشيعة” وقال: “نقول لاخواننا في البحرين نحن معكم قلباً وقالباً ونحن نتألم عندما تتألمون ونعتبر معركتكم هي جزء من معركتنا”. لقد فات الرجل حتى ملاحظة أن المعترضين على ملك البحرين والذين يتظاهرون ضده هم الشيعة فقط دون السنة! والرجل – كما أحسبه – صادق مع نفسه؛ فالخلل في فكره لا في قصده! وهو ناشئ عن (التقوقع) وعدم معرفة واقع الحال. وهذا اختلال كبير في الفكر يقف حاجزاً بين المحلية والعالمية التي هي من سمات الفكر التجديدي.
الأمر نفسه يعاني منه الفكر في العالم الإسلامي خارج المنطقة العربية (تركيا مثلاً). ولا يستثنى من ذلك بدرجة مقبولة سوى بعض دول الخليج العربي؛ وذلك لقربها من إيران فكان هذا مشتركاً بيننا وبينهم، ومن آثاره ظهور قناة (صفا) و(وصال) الفضائيتين.
ب. التشتت الفكري
على الضد من ذلك يتجه (التشتت) الفكري، حين يقفز إلى العالَمية متخطياً بيئته المحلية يريد عبورها دون التوقف عندها لاتخاذها منطلقاً للوصول! فتجد العراقي – مثلاً – يفكر في أفغانستان والفلبين والمسلمين في جنوب إفريقيا، وربما يعرف عنهم أكثر مما يعرف عن الشيعة وإيران وخطر هؤلاء عليه ديناً وهوية ووجوداً. وذلك نوع من أنواع الهروب من الواقع، وعدم الاستعداد للمواجهة ودفع الثمن.
في هذه الحالة يكون الفكر قد ولد ميتاً. فهو عاجز عن تسويق نفسه إلى بيئته، فضلاً عن تصدير بضاعته إلى بيئة أُخرى غريبة أو بعيدة عنه!
الاتباع الواعي هو الحل
في التجربة النبوية خير درس؛ إذ انطلقت من (المحلية) إلى (العالمية) سالكة المسار الطبيعي لكل فكر تجديدي حي، ودعوة تغييرية ناجحة. لقد تمكنت محلياً أولاً، ثم من بعدُ انطلقت خارج بيئتها لتحقق رسالتها عالمياً. وقد حافظت على التوازن بين الطرفين عن طريق اتباع القاعدة التالية: (فكر عالمياً وتصرف محلياً). بمعنى أنها ابتدأت فركزت فكرها وعملها على الداخل، في الوقت الذي كان هذا الفكر يذكر أن غاياته عالمية تتخطى الحدود والأعراق والشعوب. بمعنى أنه حافظ على ثلاثة عناصر مهمة للنمو والحيوية والتأثر والتأثير: اثنان منهما محليان، والثالث عالمي. أما المحليان فالتفكير والعمل، وأما العالمي فالتفكير على قدر معين، حتى إذا جاء دور التمدد عبر البيئة الأولية (المحلية) جاء دور العمل، وتمدد الفكر وتركز بما يتناسب والدور الجديد.
بالمحافظة على هذا التوازن الدقيق يكون فكرنا تجديدياً عالمياً؛ لأنه فكر واقعي يمتاز بالمرونة تأثراً وتأثيراً، خاضع على الدوام للاختبار والتعديل والتطوير.
أعداء التجديد
أَعدَاءُ التَّجدِيد
شر الأعداء ما كان منك وفيك. أما أعداء الخارج فما دمت متماسكاً فإن الطرق لا يزيد المسمار إلا ثباتاً. أعداء المشاريع الخطرون هم أصحابها، وحواشيها. وعادة ما يكون هؤلاء أقرب الأتباع للمجدد أو المؤسس في العمل أو النسب.
عندما تتحول المشاريع والمؤسسات، والمؤسسون والمجددون، لا سيما بعد حياتهم، إلى مشروع تجاري، أو هدف اعتباري. وذلك من أبخس البخس.
عندما تنقلب المؤسسة إلى دائرة، والقيادة إلى إدارة، والدَّولة إلى دُولة، والقضية إلى تراث، والجغرافية إلى تاريخ.
عندما يذهب جيل التأسيس، ويأتي جيل لا يعرف شيئاً عن معاناة السابقين وماذا فعلوا وبذلوا، وكم ضحوا وخسروا، وكيف ابتدأوا البناء من نقطة ما (تحت الصفر)، والناس تصيح بهم من كل جانب: سيبدلون دينكم ويُظهرون في الأرض الفساد.
عندما ينتمي إلى المؤسسة بعض الكسالى والقاعدين يتجملون باسمها، ويبغون الاستفادة منها. حتى إذا جد الجد وطولبوا بالعمل دون أجر تنكروا لها، وابتغوا لها العيوب. وما علموا أن القضية في حاجة إلى من يحملها لا إلى من تحمله. وأن القضية التي تحمل أهلها سرعان ما تكبو قبل إكمال الطريق.
احذروا المتعصبين …….!
أول أعداء التجديد المتحمسون الفارغون، أو المتعصبون للمجدد، ولأفكاره وما تواضعت عليه المؤسسة. المتعصب عنصر خطير يجب المسارعة إلى عزله وإخراجه من المؤسسة، وحرمانه من صفة العضوية فيها، قبل أن يقضي عليها ويحولها إلى هيكل بلا مضمون، وجسد بلا روح، ورماد لا جذوة فيه.
ما سجلناه على الأحزاب والجماعات التقليدية التي انطفأت جذوتها بعد ذهاب أجيالها الأولى: أنها تبحث عن هذه النماذج المتعصبة، فتصبح جاذبة لها طاردة لمن سواها، فلا يجد ذوو الأفكار النيرة المتوهجة ممن يصلحون أن يكونوا لبنات للتجديد، موضعاً لهم فيها. إذذاك يمسي مدى (الولاء للجماعة) من عداه، (أي التعصب) هو مقياس التقييم، وليس الأداء في معادلة دقيقة تجمع بين الولاء والأداء بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
وهؤلاء ثلاثة أصناف: جاهلون ووصوليون وأقارب.
- المتعصبون الجاهلون
لا أقصد بالجاهل ذلك الشخص الذي لا يقرأ وليس لديه علم أو ثقافة. بل قد يكون قارئاً جيداً وعالماً باختصاصه، وذا ثقافة واطلاع! لكنه تقليدي جامد. العلم عنده مجموعة من المعلومات والمحفوظات المكدسة بعضها إلى جنب بعض، لا تتفاعل فيما بينها ولا تتلاقح ولا تتوالد. فالفرق بينه وبين الأمي أو الجاهل فرق كمي لا نوعي. ذاك أمي الحرف، وهذا أمي الفكر. والجاهل يهدم أكثر مما يبني.
- المتعصبون الوصوليون
صنف آخر متعصب لا بسبب الجهل، وإنما هم طائفة من الوصوليين الذين يتظاهرون بالحرص على المؤسسة وحب المؤسس والخوف على أفكاره من التبديل. يفعلون ما يفعل الجاهل، ولكن بنوايا مختلفة.
- المتعصبون الأقارب
صنف ثالث من المتعصبين هم (أهل بيت) المؤسس من أبنائه وأقربائه، والمتأثلين منهم بالانتساب إليه. بهذه الطريقة تنشأ البيوتات التي يشار إليها بالبنان. وبالطريقة نفسها تولد ظاهرة بيوت الدين التي تتوارث القيمومة على الأديان. وهو ما خاف منه نبينا زكريا u فقال: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 6،5). والموالي هم أقرب الأقارب. خاف أن لا يحفظوا ميراث النبوة، ويقوموا بتبليغه على الوجه المطلوب. إنما يستغلون قرابتهم منه، ويتخذوا منه غرضاً اعتبارياً ومشروعاً اقتصادياً فتكون لهم الوجاهة والمال. وبهذين العنصرين يكتمل لهم الكهنوت الديني.
إنه لولا حفظ الله بنفسه لدينه الأخير لقضي على هذا الدين العظيم بيد المتأكلين بأنسابهم والمتفاخرين بأحسابهم. فكم حاول هؤلاء أو الأدعياء أن ينشئوا لهم (بيوتاً) فلم يفلحوا إلا على مستوى محدود، لم يتمكنوا من أن يكونوا به الوارث الأوحد أو الأكبر؛ لأن الله تعالى أبى للدين الخاتم إلا أن يبقى كما أراده وكما ينبغي أن يكون الدين.
إن هذا القانون الاجتماعي، الذي يفعل فعله في غياب الورع والتقوى، يفسر كثيراً من الصراعات التي حصلت بعد جيل الصحابة رضوان الله عليهم، ودفعت الأمة أثمانها جهلاً من بعض وبغياً من بعض.
كيف يقضي أبناء المؤسسة التجديدية عليها
يشترك هؤلاء جميعاً بتمسكهم الحرفي بالأفكار الخاصة دون النظر إليها بموضوعية. فيحاربون كل فكرة مغايرة؛ لا لسبب سوى أنها مغايرة للمألوف. يحاربونها بلا هوادة! وبذلك يجنون على مؤسستهم أضراراً متنوعة:
- نفرة الناس، والسمعة السيئة، وفوات الحق الذي يطرح لأنه غريب، والجمود الذي هو سوسة التجديد.
- الجاهل المتعصب لا يدرك أن الأفكار التجديدية تنتابها جملة أمور تقتضي التغيير أو التكييف والتحوير:
- فقد يكون بعضها خطأ من الأصل؛ فليس المجدد معصوماً، وهذه في حاجة إلى تصحيح وتسديد.
- وبعضها يصلح لمكان دون مكان، وهو يريدها مطلقة عن حدود المكان بما فيه من اختلاف في المذاهب والنفسيات والتقاليد والقوى والمخاطر وغيرها.
- وبعضها فقد صلاحيته بفعل الزمن وتغير المشاكل والتحديات.
الجاهل أو ذو العقل التقليدي يفوته كل هذا فيعادي أي بادرة للتغيير والتجديد، ويثير حولها الغبار، ويعادي المجددين طاعناً في نواياهم. فإذا كان ممن يتسنم موقعاً مؤثراً في المؤسسة، ووجد له أعواناً مثله أو من الوصوليين المنتفعين، لاسيما إذا أمسك بالقلم وصار يكتب وينظّر، ابتعد الأشراف عن هذا الجو الموبوء، واضطر المجددون والمفكرون والعاملون العالمون إلى مغادرة المؤسسة والتسلل منها الواحد تلو الآخر! عند ذلك تتحول المؤسسة إلى دائرة، والمنتسبون إليها إلى مجموعة موظفين، وبذلك يموت التجديد وينتهى كل شيء! ولو خرج المؤسس أو المجدد الأول من عالمه الذي هو فيه ورأى ما رأى لطرد هؤلاء الحثالة من الجهلة المتعصبين وحاشيتهم المنتفعين، قائلاً لهم: اخرجوا منها مذؤومين مدحورين.
على أبناء المؤسسة المخلصين أن يبادروا فيبعدوا المتعصبين بكل أصنافهم، وإذا احتاجوا إلى البعض منهم فليختاروا صاحب النية الصالحة، وبشرط أن لا يكون في موضع قيادي أو مؤثر، ولا يكثر عدده بحيث يصعب السيطرة عليه. وخير ما يحمي المؤسسة هو نظام داخلي متطور لا يسمح بوصول أي شخص إلى القيادة بكل مستوياتها لغير المؤهلين من ذوي الفكر الميداني المرن المتجدد القادر على التكيف مع المستجدات والمتغيرات.
* * *
الابداع
الإبدَاع
-
تعريف الإبداع
الإبداع: هو الإتيان بشيء مبتكر يحقق منفعة، بصورة استثنائية.
وخاصية الإبداع تجعل صاحبها يتعامل مع الأشياء بطريقة جديدة مبتكرة، تُطَور الفكر وتقفز به، وتُحسّن العمل وتُجوّد الأدوات، وتضاعف الإنتاج وتقلل الجهد، وتختصر المسافة لتصل إلى الهدف من أقرب طريق.
ولتوضيح الفكرة يمكن ضرب المثال بالماديات الملموسة التي حولنا؛ كالسيارات والطيارات والبواخر والأدوية والطب الحديث والمصباح والمروحة والمذياع والهاتف والتلفاز، وغيرها من المبتكرات التي لا تحصى، كلها أمثلة على الإبداع.
أما الفرق بين الإبداع والتجديد فنجده في قاعدة (ليس من شرط التجديد الإتيان بجديد)، بينما الإتيان بجديد، ومنه الابتكار والاختراع، شرط أساسي من شروط الإبداع. وهذا يتجلى بوضوح من النظر في الجذر اللغوي للكلمة. قال ابن منظور في (لسان العرب): بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. وبدَع الرَّكِيّة: اسْتَنْبَطَها وأَحدَثها. ورَكِيٌّ بَدِيعٌ: حَدِيثةُ الحَفْر. والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً. وفي التنزيل: (قُل ما كنتُ بِدْعاً من الرُّسُل)؛ أَي ما كنت أَوّلَ من أُرْسِلَ، قد أُرسل قبلي رُسُلٌ كثير… والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: المُبْدِعُ. وأَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْته لا على مِثال. والبَديع: من أَسماء الله تعالى لإِبْداعِه الأِشياء وإِحْداثِه إِيَّاها. وهو البديع الأَوّل قبل كل شيء، ويجوز أَن يكون بمعنى مُبدِع أَو يكون من بَدَع الخلْقَ أَي بَدَأَه، والله تعالى كما قال سبحانه: (بَدِيعُ السمواتِ والأَرض)؛ أَي خالقها ومُبْدِعُها فهو سبحانه الخالق المُخْتَرعُ لا عن مثال سابق إ.هـ.
وردت تعريفات عديدة للإبداع، لم أجد فيها ما يكفي ويشفي لرسم صورة واضحة مبسطة، هي للشرح وبيان آلية الإبداع أقرب منها للتعريف، سأكتفي بواحد منها كمثال: الإبداع هو البحث عن حلول، وإضافة فرضيات واختبارها، وصياغتها وتعديلها باستخدام المعطيات الجديدة للوصول إلى نتائج نافعة لتقدم الآخرين ([1]). ويأتي الفكر على رأس مجالات الإبداع. فلا إبداع في أي مجال بلا فكر بديع. وهذا أمر بديهي.
-
من صفات الشخص المبدع
الإنسان المبدع هو من اتصف تفكيره بالجدة أو الأصالة، والنمو أو الطلاقة، والمرونة أو عدم التصلب الذهني، والإحساس المرهف بالمشكلات، والنظر الكلي الذي لا يتوقف عند الجزئيات. ومن صفات المبدع الثقة العالية بالنفس. وهناك صفات أُخرى تطلب في مظانها.
وإذا كان الإبداع قدرة عقلية عامة تدفع صاحبها للبحث عن الجديد وإنتاجه، فمن مميزات المبدع:
- الذكاء: لا يمكن أن يكون الإبداع نتاج عقل عادي؛ فالإبداع جهد فكري كبير متعدد الجوانب، يستند إلى قواعد عديدة للتفكير. على أنه وإن كان كل مبدع ذكياً، لكن ليس شرطاً أن يكون كل ذكي مبدعاً. إن ذكاء كثير من الأذكياء يقتصر على القدرة على حفظ المعلومات دون القدرة على هضمها وفقهها واستنباط الأفكار الجديدة منها. مثله كمثل من ورث ثروة كبيرة لكنه عاجز عن استثمارها. إنه ذكاء كمي، وما نحتاجه للإبداع ذكاء نوعي.
- الأصالة: وهي القدرة على إنتاج الأفكار والحلول والمقترحات الجديدة والطريفة. التي تتميز بأنها أجود من سواها. فالمبدع الأصيل لا يكرر الأفكار والحلول التقليدية للمشكلات.
- الطلاقة: أي القدرة على إنتاج أكبر عدد ممكن من الأفكار عن موضوع معين في وحدة زمنية ثابتة. أي كلما ارتفع حظ الشخص من القدرة على تحقيق السيولة في الأفكار ارتفع حظه من القدرة الإبداعية.
- الحساسية
أو الإحساس المرهف بالمشكلات: أي القدرة على رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد. فهو يعي الأخطاء في الأشياء التي حوله، ويدرك نواحي النقص والقصور ويحس بالمشكلات إحساساً مرهفاً. والمشكلة حالة تحريض للذهن. وهذا يدفعه لخوض غمار البحث فتزداد الفرص أمامه نحو الخلق والإبداع.
- المرونة الفكرية: أي القدرة على تغيير الحالة الذهنية والأفكار بتغير الموقف. وتقبل آراء الغير ووجهات النظر الأُخرى. والمشاركة الوجدانية وتحسس مشاعر الآخرين وآمالهم. وهي عكس ما يسمى بـ(التصلب الذهني) و(الجمود)، الذي يصف بعض أشكال التفكير التي يتميز أصحابها باعتناق أفكار ثابتة محددة يواجهون بها مواقف الحياة مهما تنوعت واختلفت.
- النظر الكلي: أي القدرة على اكتشاف العلاقات بين الأشياء، واكتشاف القوانين الكلية التي تربط بين الجزئيات والظواهر التي تبدو غير مترابطة، أو متناقضة. إن كل فكرة إبداعية تقوم في الحقيقة على خلق نظام جديد من العلاقات بين الأشياء بعضها ببعض، بصورة لم يلاحظها أحد من قبل. والمبدع شخص يستطيع ترتيب عناصر سابقة غير مترابطة في صياغة جديدة فاعلة. فكما يحول الأديب خبرته بالبشر إلى رواية أو مسرحية، فإن العالم يختبر البيانات التي جمعها ويحولها إلى نظرية جديدة. وهناك أدلة تثبت أن كبار المبدعين امتازوا بهذه القدرة العقلية([2]).
- الواقعية: إن المعاناة المنبثقة عن معايشة المشكلات ومواجهة التحديات تدفع صاحبها للتفكير في وجود حلول جديدة لما يواجهه من مشكلات وتحديات. كما أن من أهم آليات اختبار الفكرة القديمة لمعرفة مدى صحتها وصلاحيتها للحياة، ومدى حاجتها للتغيير والتطوير، هو تجربتها، أو النظر في آثارها السابقة على الواقع. وهذا يدعو إلى التنقيب عن جوانب النقص فيها لتلافيها، أو التوصل إلى أنها ما عادت صالحة للحياة؛ وذلك يستدعي إزاحتها والبحث عن فكرة جديدة تحل محَلها.
- الثقة بالنفس: فالمبدعون متكيفون اجتماعياً، ولديهم رغبة في التفاعل الاجتماعي وإقامة علاقات ناجحة. وغالباً ما يعزون الفشل إلى نقص في الجهد المبذول، وليس إلى نقص في مقدرتهم. ولا يترددون من الاعتراف بالخطأ أو الفشل، بل يستطيعون الاستفادة منه باعتباره جزءاً من معادلة النجاح وليس خارجاً عنها، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11). وذلك بخلاف العاديين إذ يعزون الفشل أو النجاح إلى الحظ أو صعوبة أو سهولة المهمات الموكلة إليهم، أو إلى أسباب أخرى بمبررات انفعالية. وغالباً ما يصنعون لأنفسهم أهدافاً كبيرة يسعون إلى تحقيقها، فإذا لم تتحقق تلك الأهداف فإنهم يشعرون باليأس والإحباط([3]).
[1]– الإبداع ذروة العقل الخلاق، ص9-10، أنس شكشك، الطبعة الأولى 2007م، كتابنا للنشر، لبنان: المنصورية. بتصرف قليل.
[2]– المصدر السابق، ص30-32. بتصرف.
[3]– المصدر نفسه، ص114-115.
ما يهمنا من الإبداع
ما يهمنا من الإبداع
الإبداع علم قائم بذاته. بدأ الاهتمام به مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي كموضوع رئيس في علم النفس الحديث؛ إذ اعتبر عملية نفسية تستلزم قوى عقلية متعددة وخبرات، وترجع لعوامل العاطفة القوية والحساسية المرهفة([1]).
وما يهمنا منه في منهجنا جملة أمور تدخل في مجالي الفكر والعمل، والتطوير، ونترك الباقي للجهد الشخصي في البحث والاستقصاء، ولورش التدريب والدورات التطويرية. من هذه الأمور:
- الإبداع ظاهرة إنسانية عامة
من أبرز التطورات التي أدت إليها الدراسة العلمية للإبداع هي أن كلاً منا قادر على أن يكون مبدعاً لو عرف الطريق لاكتشاف الخصائص والقدرات الدالة على الابتكار والتجديد الكامنة فيه، ووعاها ونمّاها… فالإبداع ظاهرة إنسانية طبيعية، وليس قاصراً على ذوي الموهبة. أي إن الإبداع موجود لدى البشر بدرجات متفاوتة، وأساليب متنوعة. وهذا يزيد الثقة بالنفس، ويفتح السبل أمام العامل للتحليق وتطوير القدرة على الإبداع، ويجعل التحدي الحقيقي يتلخص في أمرين:
- كيف يكتشف ما لديه من مَكِنات أو طاقات وقدرات إبداعية؟
- وكيف ينمي ويطور ثم يوظف ما لديه من مكنونات الإبداع.
ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن علماء النفس مجمعون على توقع الأعمال الإبداعية من الأذكياء أكثر من غيرهم. على أنهم يضيفون: ليس كل شخص حاد الذكاء عبقرياً، وإن كان العكس صحيحاً، أي أن كل مبدع عبقري هو حاد الذكاء([2]).
2. الإبداع ممارسة جماعية
من أجل أن يتحول الإبداع إلى روح تسري في الأمة، لا بد أن يخرج من نطاقه على مستوى الفرد إلى انطلاقه على مستوى الجماعة. نحن بأمس الحاجة إلى أن نتخلص من المفهوم القديم الذي يفترض لكل قرن مجدداً واحداً، ثم يتعسف في تعيينه من يكون؟ لنعلم أن الإبداع الفردي لا قيمة له في الحياة سوى الإعجاب بالمبدعين، وهذا لا معنى له ولا ثمرة ترتجى من ورائه ما لم يتحول إلى فعل وممارسة جماعية، تثار فيها القوى مجتمعة: كل حسب طاقته وإمكانيته وما يحسنه، وكل حسب موقعه المناسب.
3. الفكر المبدع نتاج فعل اجتماعي نسقي
يقول شوقي جلال: إن الإنسان يفكر إبداعياً حين يعمل، وإذا تعطل العمل غاب العقل المبدع. ونعني بالعمل العمل الاجتماعي القائم على التفاعل المشترك (النسقي) نحو أهداف محددة. ومن ثَم يكون الفكر منتَجاً اجتماعياً حين يرتكز على التفاعل الذي يدعم التلاحم والانتماء، والذي يتجسد في مشروع قومي أو استراتيجية تنموية تطورية اجتماعية.
وتؤكد الدراسات أن الإنسان الذي يعمل هو الذي يبدع فكراً ويرتقي سلم التطور الحضاري. إن من يقبع في مكانه والنظارة على عينيه لا يتكيف مع الواقع، على عكس من يتحرك ويحاول العمل بيديه، أي التفاعل مع البيئة، فإن صورة الواقع تتعدل وسرعان ما يتكيف مع الواقع ويتعامل معه بنجاح.
إن العمل المجتمعي شرط التكيف مع الواقع المتغير . وهو أداة تلاحم، ومِحك مراجعة، ومعيار صدق، وشرط الإبداع والتجديد الفكري.
من خلال العمل تتجدد الاحتياجات العملية للمجتمع، ومهام المستقبل، ومعوقات الحركة المادية والفكرية، وتتعدد تيارات الفكر في تفسير الواقع وتتلاقح فيما بينها تناسقياً وإيجابياً.
بالعمل تكون المعرفة رداً على سؤال يطرحه العلم على أرضية الواقع. وإذا تعطل العمل توقفت التساؤلات، وحلق التفكير في فراغ التهويمات العاجية. ويدور الجدل في حيز نظري افتراضي مجرد لا مجال لاختبار صحة فرضيته . فالعمل هو مجال اختبار الفروض، والتكيف ضد أي تشويه مضاد للصورة أو الفكرة.
العمل المجتمعي هو علة التطور والارتقاء في الفكر والجسد، كما وأنه هو أساس تصحيح الأخطاء في الإدراك والتقدير والتوقع. والعمل المجتمعي هو منطلق الشعور بأزمة الفكر في التعامل مع تحديات الواقع؛ وبذا يكون العمل هو الحافز إلى التغيير، ومظهر انتماء الفكر والتاريخ([3]).
4. وجود المنظومة
لا يمكن نقل الإبداع من مجاله الفردي إلى نطاقه الجماعي، من أجل أن يتحول إلى فعل تجديدي يعطي ناتجاً اجتماعياً يسهم في تطور المجتمع وبنائه الحضاري المتقدم، دون وجود منظومة فاعلة تجمع الطاقات الإبداعية المتناثرة في دائرة نسقية واحدة، تضع كل شيء في مكانه المناسب، الذي يخدم من ذلك المكان أجزاء المنظومة كلها.
5. إن لم تكن مبدعاً فكن ناقلاً للإبداع
حين يكون الإبداع ممارسة جماعية، تحكمها منظومة اجتماعية، يكون الجميع مبدعين! فمن لم يكن مبدعاً سيكون ناقلاً للإبداع؛ فما كل فرد تتهيأ له الفرصة -أو هو مهيأ أساساً -لفعل الإبداع. لكن عملية الإبداع حتى تتحول إلى واقع في حاجة إلى فعل جماعي يأخذ فيه كل فرد في المنظومة دوره. فمن لم يكن مبدعاً بذاته، يمكنه أن يكون مبدعاً بغيره؛ حين يقوم بنقل الإبداع وإيصاله إلى أهدافه. وبذلك يكون غير المبدع مبدعاً.
[1]– المصدر نفسه، ص11.
[2]– المصدر نفسه، ص6، 12-13.
[3]– الفكر العربي وسوسيولوجيا الفشل، ص60-61 ، شوقي جلال، مكتبة مدبولي، 2002 ، بتصرف.
الإيمان والتنمية الإيمانية
فقهُ الإيمان والتَّنمِيَةِ الإيمَانِيَّة
إن مؤسستنا مؤسسة ربانية، ومشروعنا مشروع رباني. وهذا يعني اعتماد (الإيمان): عقيدةً وتزكيةً وسلوكاً، مبدأً أساسياً يحتل المرتبة العليا الأولى في سلم أساسيات مشروعنا، وترسيخه في نفوس القادة والدعاة وحملة القضية، ونشره في حاضرتهم الدعوية وصولاً إلى جعله ظاهرة اجتماعية.. أول مهام هذه المؤسسة وكل مؤسسة ربانية. ولا غرابة؛ فالإيمان أصل الدين وروحه، ومظهره وجوهره.
ولتحقيق هذه الغاية نحتاج إلى إفراد موضوع الإيمان بفقرة خاصة إلى جانب بقية فقرات منهجنا. نركز فيها على عشرة أمور هي:
- نحن دعوة ربانية قبل أن نكون قضية سياسية.
- تعريف الإيمان تعريفاً سهلاً ميسراً يعتمد على صريح القرآن الكريم وصحيح السنة، دون تطويل أو تعقيد أو خوض في طرق المتكلمين.
- الجمع بين ركنَي الإيمان والنصرة، بلا فصل يجعل الإيمان معزولاً أو مشلولاً عن تحريك الروح والنماء في مفاصل الحياة، أو يجعل مبدأ النصرة معلولاً لا يستقيم على الصراط القويم.
- اعتماد مبدأ التنمية الذاتية للإيمان. أي كيف ينمي المسلم إيمانه ذاتياً، ويرعاه بنفسه شخصياً، ويزكيه ويباركه دون الاعتماد على حث الآخرين وموعظتهم؛ وذلك من خلال إطلاق طاقة النظر والتدبر ثم طاقة الشعور والتأثر في آيات الأكوان من ناحية، وآيات القرآن من ناحية ثانية، ورعايتها حتى تصل إلى غايتها من الإيمان وعمل الأركان.
- الإيمان بالقدر؛ فإن هذا الموضوع في حاجة إلى تجلية خاصة تتناسب ومشاكل العصر، وبصورة سهلة قدر الإمكان. إضافة إلى أهميته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَآمَنَ بِالْقَدَرِ، فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصَامَ لَهَا. وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُ بِالْقَدَرِ نَقْضٌ لِلتَّوْحِيدِ)!
- تحريك عناصر الإيمان وتفعيلها في مفاصل المؤسسة لبنائها ورصها وتماسكها أولاً، ولحمايتها من عوامل الهدم الداخلي ثانياً. فالإيمان ليس قوة هائمة في فضاء، وإنما طاقة فاعلة في بناء، يشكل الأفراد المؤمنون لبناته الصالحة، ولكن مجتمعين لا متفرقين.
- متممات الإيمان:
- أن نجعل من مجالسنا مجالس موعظة وذكر، كما هي مجالس يقظة وفكر سواء بسواء، بحيث لا ينفصل هذا عن ذاك. وأن نحدز من الانزلاق شيئاً فشيئاً إلى الانشغال بالتفكير والحركة الخارجية في رحاب الأفق، على حساب الخشوع والحركة الداخلية في خبايا النفس.
- إشاعة مفهوم في كل عصر صحابة. فهذا أمر يكاد يغيب غياباً عاماً عن مناهج التربية الإيمانية. وإحضاره أمام عين السالك إلى الله تعالى يمنحه ثقة عالية بنفسه، وهمة ونشاطاً إلى عمله، ويزيد في طموحه، ويجعله متحفزاً لمنافسة السابقين ترقياً في مدارج السالكين. على العكس من المنهج الشائع.
- تجديد الكلمات الإيمانية بما يتناسب مع الحال والواقع، لتغذية الإيمان وتنشيطه بصورة أفضل وأكثر فاعلية في الأنفس والآفاق.
- التنبيه إلى أهمية مبدأ ساعة وساعة الذي سنه النبي e، للتعبير التلقائي عن طبيعة النفس البشرية واحتياجاتها، والترويح الذي تستدعيه الفطرة كسراً لحدة حركة الحياة، وتخفيفاً عن ثقل مسؤوليتها، وأداء لحق النفس والأهل والرفيق. ولكن بالضوابط الشرعية، والمحسنات الذوقية قدر المستطاع.
في ضوء هذه المقاصد العشرة يمكننا أن نشير إلى المعالم التالية؛ تحقيقاً لتلك المقاصد العالية.
دعوة ربانية قبل أن تكون قضية سياسية
( 1 )
دَعْوَةٌ رَبّانِيةٌ قَبلَ أنْ تكُونَ قَضِيّةً سِيَاسِيّة
1. الربانية والتزكية
– لغة – نسبة
|
2. الربانية والقضية
|
مؤسستنا موصوفة بأنها مؤسسة ربانية، ومشروعنا مشروع رباني. فنحن دعوة ربانية قبل أن نكون قضية سياسية؛ وهذا يعني اعتماد (الإيمان) أولاً..
– عقيدةً
– وتزكيةً
– وسلوكاً
والربانية في فهمنا المنبثق عن القرآن الكريم تعني شيئين: التزكية، والعمل للقضية. منطلقين من القرآن: ابتداء ورجوعاً وانتهاء.
الربانية والتزكية
أما التزكية فتفهم من معنى الرباني: لغة ونسبة.
أما اللغة.. ففي (لسان العرب) ما يكفي ويشفي، وهذا ملخص منه: قال ابن منظور: قيل: الرَّبَّانِـيُّ الذي يَعْبُد الرَّبَّ، زِيدت الأَلف والنون للمبالغة في النسب. وقال سيبويه: زادوا أَلفاً ونوناً في الرَّبَّاني إِذا أَرادوا تخصيصاً بعِلْم الرَّبِّ دون غيره، كأَن معناه: صاحِبُ عِلم بالرَّبِّ دون غيره من العُلوم؛ وهو كما يقال: رجل شَعْرانِـيٌّ، ولِحْيانِـيٌّ، ورَقَبانِـيٌّ إِذا خُصَّ بكثرة الشعر، وطول اللِّحْيَة، وغِلَظِ الرَّقبةِ؛ فإِذا نسبوا إِلى الشَّعر قالوا: شَعْرِيٌّ، وإِلى الرَّقبةِ قالوا: رَقَبِـيٌّ، وإِلى اللِّحْيةِ: لِـحْيِـيٌّ.
الرَّبِّـيُّ: منسوب إِلى الرَّبِّ. والرَّبَّانِـيُّ: الموصوف بعلم الرَّبِّ. قال ابن الأَثير: هو منسوب إِلى الرَّبِّ، بزيادة الأَلف والنون للمبالغة؛ قال: وقيل: هو من الرَّبِّ، بمعنى التربيةِ، كانوا يُرَبُّونَ الـمُتَعَلِّمينَ بِصغار العُلوم، قبلَ كبارِها. والرَّبَّانِـيُّ: العالم الرَّاسِخُ في العِلم والدين، أَو الذي يَطْلُب بِعلْمِه وجهَ اللّهِ.
الرَّبَّانيُّ: الـمُتَـأَلِّه، العارِفُ باللّه تعالى.
قال الأَخفش: الرِّبيون منسوبون إِلى الرَّبِّ. قال أَبو العباس: ينبغي أَن تفتح الراءُ، على قوله، قال: وهو على قول الفرّاء من الرَّبَّةِ، وهي الجماعة. وقال الزجاج: رِبِّـيُّون، بكسر الراء وضمّها، وهم الجماعة الكثيرة. وقيل: الربيون العلماء الأَتقياءُ الصُّـبُر؛ وكلا القولين حَسَنٌ جميلٌ. وقرأَ ابن عباس: رَبِّـيُّون، بفتح الراءِ.
والتأمل في المعنى اللغوي يكفي وحده لفتح آفاق علمية وروحية للمتأمل في العلاقة بينه وبين (الربانية).
وأما النسبة.. ففي التفكر في شرف إضافة العبد إلى الرب يطيش العقل، ويطير القلب، وتتحرر النفس، وتحلق الروح، وينبعث الشوق، وينخلع هذا الكيان الطيني من وهدته ليصبح حراً طليقاً من جاذبية فلك العنصر المادي إلى رحاب العلو النوراني. فمن أنا حتى ينسبني الرب الجليل الجميل إلى نفسه؟! ويضيفني إلى ذاته؟! ويكرمني هذا الإكرام؟! سبحانه هو الذي خلق الإنسان من علق! وهو الذي أكرمه فجعل منه إنساناً يمسك بالقلم عالماً ومعلماً! ثم زاده فألحقه به ونسبه إليه فكان (ربانياً)، بهذه الصيغة الباذخة الشامخة. ولو كان (رَبياً) لكفى به تكريماً وتشريفاً، فكيف وقد رفعه هذه الرِّفعة الجليلة، وصاغه هذه الصياغة الجميلة.. فكان (رَبانياً) لا (رَبياً) وحسب!
هل يقرأ مسلم حاضر القلب هذه المعاني ولا يسأل نفسه ويستفهم غيرهَ: كيف أكون مسلماً (ربانياً)؟ ما الذي عليّ أن أفعله؟ وكيف أحافظ على هذا النسب الشريف، واللقب المنيف؟ إذن إليك الجواب..
الربانية والقضية
هذا المفهوم الجليل نلمسه من اقتران (الربانية) حيث وردت في النص الإلهي ببيان مَهَمَّة (الرباني) ودوره أو وظيفته في الحياة. وهي على أربعة أقسام:
- تعليم الكتاب ودراسته: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79).
- تحكيم شرع الله: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) (المائدة:44).
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) (المائدة:63).
- الجهاد أو القتال في سبيل الله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146).
والقضية تأتي بعد الربانية في المرتبة، وإن كانت لا تنفصل عنها. لكنها كالبناء بعد الأساس. والسياسة جزء من مفهوم (القضية)، كما تشير إليها الآيات آنفة الذكر. وكما يدل المفهوم بالتضمن واللزوم. فهي من هذه الناحية أيضاً تأتي بعد الربانية تبعاً للقضية.
هذه هي (الربانية) في منهجنا.. تزكية وقضية، إيمان ونصرة، زاد وجهاد. لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
الإيمان .. تعريفه وحقيقته
( 2 )
الإيمَانُ .. تَعرِيفُهُ وحَقِيقَتُه
1. تعريف الإيمان
|
2. بين الإيمان والعقيدة
|
تعريف الإيمان
الإيمان في كتابنا قول وعمل، يزيد وينقص. قول بالقلب واللسان، وعمل بالجوارح والأركان.
أما قول القلب فاعتقاده وتصديقه، وأما قول اللسان فذكره ولفظه. وذلك لا يَصْدُق حتى يشهد له البدن بالعمل. وأما زيادته فبالعلم والتدبر والطاعة. ونقصانه فبالجهل والغفلة والمعصية.
قال Y: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:2-4). فهذه الآية تحصر تعريف المؤمنين بمن اكتمل لهم عمل القلب بعمل الجوارح.
وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15). وفيه أن المسلم لا يبلغ عمله به إلى أن يكون مؤمناً حتى يكون مجاهداً. فالجهاد هو الحد الفاصل بين الإسلام والإيمان.
والمقصود بالإيمان هنا ليس أصله الذي به يصدق على المرء اسم المسلم ويصح به العمل، إنما الإيمان الذي يؤهل المسلم لدخول الجنة كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142). وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214).
والجهاد أبواب كثيرة: فتارة بالكلمة والتبليغ والإعلام، وتارة بالإنفاق وبذل المال، وثالثة بالمنصب والجاه، ورابعة بالقتال… وهكذا. وقد قال رسول الله e كما جاء في (الصحيحين): (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). بشرط أن يكون ذلك كله في خدمة القضية من جوانبها المتعددة ضمن منظومة تجعل من هذا التنوع حالة تكاملية في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود. إلا إذا فقدت المنظومة وعجز الفرد عن إنشائها فيكون عمله حسب طاقته: علماً وقدرة.
بين الإيمان والعقيدة
(الإيمان) هو كلمة الرب سبحانه التي اختارها ليخاطب بها كيان عبده كله: عقلاً وعقيدة وفكراً، وقلباً وشعوراً ووجلاً، وبدناً وسلوكاً وعملاً.
كلمة تتجه إلى العقل فتصلح من فكره وعقيدته، وإلى القلب فتصلح من شعوره وانفعاله وعاطفته، وإلى الجوارح فتصلح من عملها وسلوك صاحبها. اقرأ – مثلاً – قوله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67). كيف عرضت الآية لإصلاح الفكر والعقيدة، وكيف خاطبت العقل من خلال القلب الذي يكاد ينخلع ويتصدع وهو يقرأ ويستشعر عظمة الله جل في علاه عبر هذه الصورة الرائعة الجليلة المهيبة! التي ترسمها الآية وهي في صدد معالجة عقيدة الشرك والتحذير منها، لا سيما وقد قال – سبحانه – قبلها مباشرة: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر:66،65).
ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم الأسلوب نفسه في عرضه للعقيدة. انظر إليه كيف يتجه إلى العقل فيثبت العقيدة، وإلى القلب ليحدث الانفعال ويورث العمل بخطاب واحد! روى الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلمفنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ (وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).
بهذا الأسلوب وصل الخطاب إلى مرماه المطلوب من التغيير الذي جاء الإسلام من أجله. فحصل التغيير في العقل أي الفكر والعقيدة، كما حصل في القلب أي الشعور والعاطفة، وكذلك البدن أي السلوك والعمل.. أو الإيمان بتعبير آخر.
ولما كان مصطلح (العقيدة) لا يتسع للتعبير عن المجالات الثلاثة معاً، وكان الاقتصار عليه يؤدي إلى نتائج سلبية خطيرة تتلخص في انشطار العلم عن العمل، كان لا بد للوحي من أن يعدل إلى مصطلح آخر يتسع لهما جميعاً؛ فكان مصطلح (الإيمان).
إن مصطلح (العقيدة) مصطلح فكري بحت يتعلق بما استقر في العقل من رأي أو فكر، ولا علاقة له بما ينجم عنه في القلب من انفعال أو عمل. إنه لفظ يعبر عن تصديق القلب وقوله وليس عن انفعاله وفعله. وهذه – فيما أرى – هي النقطة المهمة الحساسة التي جعلت نصوص الوحي تعرض عن استعمال هذا اللفظ وتجوزه إلى غيره.
عملياً علينا أن نستعمل كلمة (الإيمان) و (التوحيد) أكثر من استعمال كلمة (العقيدة) حذراً من الوقوع في ما يؤدي إليه التركيز عليها من انشطار العلم عن العمل، فنكون أمة أقوال لا أمة فعال([1]). وأن لا نجنح إلى مصطلح (العقيدة) إلا عند الحاجة إليه، وأهمها التفريق بين ما نحن عليه من عقيدة سليمة وما عليه الفرق الأخرى من أخطاء أو ضلال.
[1] – راجع للتفصيل خاتمة كتابي (التوحيد والشرك في ضوء القرآن الكريم).
الإيمان والنصرة
(3)
الإيمَانُ وَالنُّصرَة
يقول تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ* فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(آل عمران:82،81). فالدين الحق ما جمع بين ركنين: الإيمان والنصرة. ولهذا قال سبحانه بعدها: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:83) ثم قال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85). ويقول تعالى في موضع آخر: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15)؛ فالإيمان هو الإيمان بالله ورسوله مع اليقين، والنصرة هي الجهاد بالمال والنفس. ولا يكون المرء صادقاً في دعواه الإيمان ما لم يجمع بين الإيمان والجهاد أو الإيمان والنصرة. ولهذا سفه الله تعالى دعوى الأعراب الإيمان فقال قبلها مباشرة: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:14). ثم قال منكراً عليهم بشدة: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحجرات:16). وفي الآيات دليل على أن من كان كذلك فليس بكافر، وإنما هو مسلم لم يرتق إلى مرتبة الإيمان؛ ولولا ذلك ما قبلت أعمال الأعراب: (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا).
والجمع بين الإيمان والنصرة هو الدين الذي يصلح به شأن الدنيا والآخرة. وبه لا بغيره تقوم دولة الإسلام، ويعز أهلها، وتقمع دولة الكفر ويذل أهلها. والفصل بينهما هو الذي سلب من شيخ الدين قابلية القيادة، وحرمه من التحقق بصفة القائد؛ فإن من أخذ الدين (إيماناً) ولم يأخذه (نصرة) لا يجد نفسه في حاجة إلى معاناة العمل الذي ينهض بالمجتمع. وذلك هو الشطر الأصعب من الدين، الذي يستدعي التفكير العميق لوضع الفكرة وتعيين الهوية وتحديد الأهداف ورسم الخطط وتهيئة الموارد وإعداد العاملين وتحشيد الأتباع وكسب المؤيدين.
لهذا يجنح معظم المتدينين – وعلى رأسهم الخطباء – إلى الاهتمام بشطر (الإيمان)، ومن جانبه السهل المتيسر. وهذا في الأعم الأغلب لا يحتاج لأكثر من المواعظ والكلام؛ فكانوا يقولون ما لا يفعلون! بل كانوا – إلا من رحم – أولى الناس بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف:3،2)! والسبب أنهم اقتسموا الدين وقسموه فولوا وجوههم شطر (الإيمان) وأداروا ظهورهم لشطر (النصرة). ثم كروا على ما تبقى فشطروه صنفين، أخذوا منهما ما لا يزعج الطرف الشيعي؛ فأخذوا من التوحيد – مثلاً – عمومياته، وتغاضوا عن إنكار شركهم وأباطيلهم، والنكير على طقوسهم وعباداتهم، وخرسوا فلم يتهموهم قط بما يحصل للسنة من فظائع. وغاية ما يقولونه – عند الاضطرار – أن يرموا بمسؤولية ذلك على المليشيات وأمثالها.
كم شهدت ساحات الاعتصام طوال سنة 2013 من خطبة عصماء وخطيب مِصقَع! تدوي تكبيراتهم في ذلك اليباب كأنها قذائف المدافع! يعدون الوعود وينثرون البشارات. وإذا تحققت من حقيقة هذه الخطب المدوية فإنك لا تجد لقائلها بعد أن يغادر المنصة من خطة عمل وجهد يبذل بناء عليها يحقق ما قاله أو يتناسب معه. لقد عودتهم المناهج العلمية العرجاء أن يقولوا ولا يفعلوا؛ لأنها فصلت بين الإيمان والنصرة، بين الإيمان والجهاد.
التنمية الذاتية للإيمان
( 4 )
التَّنمِيَةُ الذَّاتِيَّةُ لِلإيمَان
أولاً : النظر في آيات القرآن
- إطلاق طاقة التفكر والتدبر
- إطلاق طاقة الشعور والتأثر
ثانياً: النظر في آيات الأكوان
- إطلاق طاقة التفكر والتدبر
- إطلاق طاقة الشعور والتأثر
ثالثاً: رعاية الإيمان
- 1. مجاهدة النفس
- العمل بالعلم
- المداومة على العمل
يعتمد جمهور الناس: عامةً ونخبة في معرفة دينهم وتزكية أنفسهم على إمام المسجد وخطيبه في أغلب الأحوال، لا سيما يوم الجمعة إذ يؤدون صلاتها ويستمعون إلى خطبتها. وقلما يحظى المصلون بخطيب مِصقع يلامس بكلماته القلوب فتجلُ بذكر الله وتخشع، ويزداد بتلاوة آياته إيمانهم فيربو ويتجدد، وتنشط جوارحهم وأبدانهم للعمل. وإن حصلوا في بعض الأحيان على مثل هذا الخطيب الذي يهز القلوب وينفض ما علق فيها من درن، فإنما هي موعظة ساعة، سرعان ما تدرج في أكفان الحياة ومعاناتها. وهذا أحد أسباب ضعف الإيمان في المجتمع.
بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها
إيمان جمهورنا إذن يستورد من الخارج بالتلقين والحث، وليس من الداخل بالحوار الفاعل بين الوحي والأفق والنفس. بينما الحكمة تقول: بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها. وفي طلب المؤمنين الهداية من الله في آخر سورة (الفاتحة): (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)، وجوابه تعالى لهم في أول سورة (البقرة) قائلاً: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) إشارة إلى أن الهداية لا تمنح من الخارج منحة حتى لو كان المانح هو الله الذي هو على كل شيء قدير! ما لم تصنع من الداخل صناعة قوامها العبد الراجي والكتاب الهادي، فدونكم هذا الكتاب فخذوا بما فيه هدىً للمتقين العاملين لا لغيرهم.
كيف يمكن أن ينمي المسلم إيمانه ذاتياً، ويرعاه بنفسه، ويزكيه دون الاعتماد بصورة أساسية على حث الآخرين وموعظتهم وتأثيرهم؟
من خلال تدبر آيات الكتاب الكريم وجدنا لتحقيق ذلك ثلاث آليات متلازمة: النظر في آيات القرآن، والنظر في آيات الأكوان، مع رعاية الإيمان. وفيما يلي بيان لكل واحدة من تلك الآيات العظيمة.
1. إطلاق طاقة التدبر والتفكر
أولاً : النَّظَرُ في آيَاتِ القُرآن
- إطلاق طاقة التدبر والتفكر
أ. الافتقار إلى مدد القهار
ب. قراءة تجمع بين العلم والعبادة والقضية
جـ. التفكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله
د. ثق بقدرتك وقدرات الآخرين
هـ. اسأل وناقش
أمر الله تعالى عباده بتدبر معاني القرآن الكريم فقال: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص:29). وهذا الخطاب يستغرق كل مسلم دون استثناء إلا الأبله والمجنون وأمثالهم. ولهذا عمّ بالذم المعرضين عن التدبر والمعطلين لآلة التفكر في آيات القرآن فقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24)، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان:73)، ثم قال بعدها مباشرة: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74). فصاحب العقل التقبلي الجامد والفهم التقليدي الراكد لا يكون قائداً لا في بيته ولا مجتمعه. إنما ذلك الرِّبِّي الذي يقرأ كتابه قراءة ربانية تحقق قوله Y الذي هو أول كلمة طرقت سمع النبي e: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1). اقرأ.. ولكن باسم ربك.. وتحسس كلمة (اسم) من حيث لفظها وجرْسها! أولها (همز) هو أول حروف المعاني ولكنه همز وصل يصلك بربك. وآخرها (ميم) تجمع له شفتيك كما تفعل حين تقول (اللهمَّ) فتجمع به كل أسماء الربوبية. ووسطها (سين) تطرد به كل وساوس الشياطين!
إذن كانت القراءة الربانية حاضرة مع القرآن منذ أول لحظة.. منذ أول لفظة! فما هي معالم هذه القراءة؟
أ. الافتقار إلى مدد القهار
أول وأعظم ما يستعان به على تدبر كتاب الله تعالى اللجوء إليه، والانطراح بين يديه، وطرح بساط الافتقار إليه، ودعاؤه والإلحاح في طلب العلم وفتح مغاليق الفهم. ويتم ذلك بشيئين: دعاء وعمل.
وفي سورة الفاتحة صورة رائعة لذلك؛ فلما دعا العبد ربه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (الفاتحة:6)، جاءت الاستجابة مباشرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2): “اهدنا، هدى”. أي من أراد الهداية فهذا الكتاب دونكموه.. اقرأوه وافقهوه، واعملوا به.
وفي صراط الذين أنعم الله عليهم بيان وائتساء. فهذا شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله – على سيلان ذهنه وسعة علمه وجلالة قدره – يقول: ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني.
يقول تلميذه ابن القيم: وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك. وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا مُعَلِّم إبراهيم عَلِّمْنِي، ويُكْثِر الاستعانة بذلك اقتداءً بمعاذ بن جبل t، حيث قال لِمَالِك بن يَخامر السكسكي عند موته، وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دُنيا كنت أُصِيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك. فقال معاذ بن جبل t: إن العلم والإيمان مكانهما مَن ابتغاهما وَجدهما؛ اطْلُب العِلْم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذَكَر الرابع، فإن عَجَز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعْجَز، فعليك بِمُعَلِّم إبراهيم صلوات الله عليه.
ومن أجمل ما قرأت ما قصه علينا سيدنا الفاروق t فقال: اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي بن وائل السهمي التناضب (موضع فوق سرف على مرحلة من مكة) من أضاة بني غفار (أرض تمسك الماء فيتكون فيها الطين) فوق سَرِف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه. فأصبحت أنا وعياش عند التناضب، وحبس عنا هشام، وفتن فافتتن… وعندما نزلت الآية (قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) الآية، كتبها عمر وأرسل بها إلى هشام بن العاصي بمكة، فوجد صعوبة في فهمها، فدعا الله أن يفهمه إياها، فألقى الله في قلبه أنها نزلت في أمثاله. فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة([1]).
ب. قراءة ربانية تجمع بين العلم والعبادة والقضية
لنبدأ مع رحلة الوحي من أولها. كانت سورة (العلق) أول سورة تطرق سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أول كلمة فيها هي كلمة (اقرَأْ)! بينما كانت (اسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) آخر كلمة فيها. وبين (اقرَأْ) و (اسْجُدْ) توسطت (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى)؛ فلم يتم الانتقال من القراءة والعلم إلى السجود والعبادة إلا عبر الاهتمام بالعدو، وبهذا الهم تولد القضية.
والقراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ)، فهي قراءة ربانية تجمع بين أمرين: الخشوع والوعي. فهي من ناحية متعلقة بجناب الرب جل في علاه تلهج باسمه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)، ومن ناحية تجول في رحاب الكون تتفكر في آيات مبدعه (الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، وتكر على خبايا النفس تتعرف على جوانب قوتها وضعفها (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)، ثم ترجع أخيراً إلى ربها: (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى)، تستعين به على عدوها (الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى)! وتؤمن بأن عاقبته سيئة (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ)، وتختم جولتها بطاعة ربها والاستمداد منه وحده، مستعلية على طاعة عدوه، لتنتهي بالسجود بين يديه متقربة إليه (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).
إن القراءة الربانية لا تؤتي أُكلها من العلم بالتفكر وزيادته بالتدبر وثمرته بالخشوع وغايته بالعمل إلا للعاملين المجاهدين، الذين يعانون تصاريف الحياة في سبيل قضية ربانية سامية. فيكتشفون دوماً معاني جديدة للآيات فاعلة مؤثرة تتعشق حاجاتهم، وتلامس أطراف مشاعرهم لتنزل معها إلى الأعماق، فتلهج الألسن بالدعاء، وتتحرك القلوب للالتجاء، وتتندى العيون بالخشوع، وتبرق بالأمل المطمئن بالإيواء إلى ركن شديد.
وإن ابتعاد الناس عن العمل بمستحقات القضية خوفاً من تبعاتها، وجنوحهم إلى الأعمال الفردية رغبة في سلامتها أحد الأسباب الكبرى في تحول قراءتهم للقرآن العظيم إلى قراءة تقوم على التكاثر والهذرمة، غايتها عدد المرات التي يختم المسلم فيها القرآن أكثر من التوقف للتفكر والتدبر من أجل زيادة العلم وإحسان العمل. ومن جرّب عرف!
قراءة تبدأ بالعلم وتثني بالخلُق وتتوسط بالعبادة وتتكلل بالقضية
عندما تتفكر في سر تسلسل السور الأربع الأول نزولاً في القرآن الكريم: (العلق فالقلم فالمزمِّل فالمدثِّر) يمكنك الوصول إلى ما يلي:
إذا اعتبرنا أن تربية الوحي للإنسان وإعداده للخلافة الربانية قد بدأت من العلم فأمرته بالقراءة في سورة (العلق)، فإن مسيرة هذه التربية كانت خطوتها الثانية تعظيم الخُلُق في سورة (القلم) بعد التأكيد على سمو منزلة العلم حين أقسم بالقلم فقال سبحانه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4). ثم ذكر خوارم الخلق في جولة سريعة استغرقت (8) آيات ابتدأت بقوله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (القلم:8) وانتهت بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (القلم:15).
الخلُق إذن هو المطلوب الثاني في عملية التربية الربانية قبل الانتقال إلى المطلوب الثالث، ألا وهو العبادة بالصلاة وتلاوة القرآن في سورة (المزمل): (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) (المزمل:1-4).
لماذا كل هذا: العلم والخلق والعبادة؟ هل من أمر آخر تنتهي عنده كل هذه الأمور؟ أم لا شيء بعد ذلك؟ فالعبادة المجردة هي المطلوب النهائي؟
ويأتي الجواب من النص نفسه: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل:5). والآية جملة سببية للجملة السابقة لها؛ فالجملة بعد الجملة إما تفسيرية أو سببية. أي افعل هذا كله استعداداً لأمر ثقيل سنلقيه عليك لما يحن وقت إلقائه بعد، فهيئ نفسك بالعلم والخلق والعبادة لاستقباله!
وتأتي السورة الرابعة لتفصح عن هذا القول الثقيل، وثقل القول إنما هو بثقل ما فيه من أمر، وعاقبته من نصر، وجزائه من أجر، فقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر:2،1). هنا انتقل العبد العالم العابد ذو الخلق العظيم من مجال العلاقة بين العبد والرب إلى العلاقة بين العبد والخَلْق، فصار يكابد هم مجتمع عليه أن يقوم بإنذاره وتخويفه من المصير السيئ الذي يتربص به. أي صار يحمل هم قضية، وذلك هو الجهاد الذي يبدأ بالإنذار وينتهي بالقتال. فاكتملت الدائرة وتمت العبادة بمعناها الشامل. وزال الإشكال الذي يمكن أن يرد على قولنا بأن العبادة ليست هي نهاية المراحل، إنما ذلك هو الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، مع أن الله تعالى يقول: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56). إذ العبادة لا تتم إلا بالجهاد، وما قبله عدة وزاد.
[1]– رواها ابن حجر مختصرة بقوله (الإصابة في معرفة الصحابة، 3/223): وأخرج بن السكن بسند صحيح عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: اتعدت أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص حين أردنا أن نهاجر وأينا تخلف عن الصبح فقد حبس فلينطلق غيره قال: فأصبحت أنا وعياش وحبس هشام وفتن فافتتن… الحديث.إ.هـ.
حـ. أعظم التدبر والتفكر هو في أسمائه تعالى وصفاته وأفعاله
حـ. أعظم التدبر والتفكر هو في أسمائه تعالى وصفاته وأفعاله
أعظم ما ينمي الإيمان في قلب العبد التعرف على الرب سبحانه من خلال النظر في أسمائه وصفاته الواردة في آيات القرآن، ومن خلال النظر في عجيب أفعاله المتجلية في عظيم خلقه، والاستدلال بالمخلوق على صفات الخالق.
قف عند هذه الآية: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59). وتأمل!
د. ثق بقدرتك وقدرات الآخرين
وإذ كلف الله تعالى جميع عباده بالتدبر والتفكر، فهذا يستلزم أن ذلك مقدور لهم جميعاً؛ فالله لا يأمر بشيء هو خارج نطاق القدرة. لكن ثمت فرق بين أن تفكر وتتدبر لنفسك، وبين أن تُصَدِّر ذلك علماً لغيرك، فهذا من شأن العلماء المختصين، وذلك واجب على كل المسلمين. وأظن الخلط بين الأمرين أحد أسباب ضعف التدبر. والعلاج يكون بتشجيع الجميع على التمعن في الآيات وإثارة العقل باتجاه فهمها واستنباط أسرارها.
عملياً يتم ذلك بعقد حلقات قرآنية يطلب فيها من كل واحد من الحاضرين أن يقول رأيه في معنى الآية ومتعلقاته. وسيجد من ذلك عجائب وأسراراً لا تتهيأ له بالقراءة وحدها، ومن أشخاص يبدون في نظره عاديين، ليسوا هم بأهل اختصاص!
قال جلال الدين السيوطي: من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها: من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) (القيامة:16) الآيات فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً، فإن السورة كلها في أحوال القيامة حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى ذهب القفال فيما حكاه الفخر الرازي أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل في قوله: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) (القيامة:13). قال: يعرض عليه كتابه فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفاً فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت ثم إن علينا بيان أمر الإنسان وما يتعلق بعقوبته.. انتهى. وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي e لسانه حالة نزول الوحي عليه([1]).
لكن هذا الأمر الذي تعسر على العلماء، ومنهم السيوطي نفسه، ولم يجدوا له جواباً شافياً، نطقت به صبية لي لم تتجاوز عامها الرابع عشر!
كان ذلك بعد مدة من قراءتي لقول السيوطي وعجزي عن إدراك المناسبة المطلوبة. وفجأة ومن دون تفكير طفا المعنى المناسب على ذاكرتي وكأنني ألمسه بيدي! كنت أصلي صلاة الصبح بالعائلة، فقرأت بهم سورة (القيامة)، فاكتشفت أن (الجمع) هو المعنى الرابط بين الآيات. التفتّ بعد انتهاء الصلاة لأخبرهم بهذه المفارقة. فإذا ابنتي فاطمة تقول مباشرة قبل أن أبين لهم ما اكتشفته: الأمر سهل. هناك معنى واحد تدور حوله الآيات هو الجمع المذكور مع العظام، ومع الشمس والقمر، ومع القرآن في صدر النبي صل الله عليه وسلم. فالذي يقدر على إحياء الإنسان وجمع عظامه بعد الموت، وجمع الشمس والقمر عند الخسوف، قادر على جمع القرآن في صدر النبي دون نسيان بلا حاجة لتحريك اللسان وترديد الكلام! فهذه صبية اهتدت في لحظة إلى ما عسر تحصيله على أفذاذ العلماء في قرون!
من لطائف التأمل
– تأملت في سر قراءة (آية الكرسي) بعد كل صلاة! فعجبت كيف لحاكم يفعل ذلك ويتيه على الناس بكرسيه أو يتكبر عليهم بملكه، وفوقه رب (وسع كرسيه السموات والأرض)!
– وذات يوم وقد انتهيت من قراءة كتاب ممتع، فأحزنني أن كلماته وصفحاته الممتعة قد انتهت، وشعرت كأن الكتاب قد مات، وليس بيني وبينه إلا أن أضعه في تابوت الرف. كنت أتفكر في هذا وأقول مع نفسي: كل كتاب تنتهي حياته عند آخر صفحة من صفحاته، ويموت هناك. ثم ذكرت القرآن العظيم فتضايقت من تلك الفكرة، قلت: لو كانت صحيحة لشملت القرآن أيضاً، بَيْدَ أن القرآن حي لا يموت. فهل الفكرة مجرد حديث نفس أو خاطرة خاطئة؟ كلا فكل كتاب يموت إلا القرآن. وأكر على الفكرة مرة ثانية وثالثة، إنها قوية؛ فكيف؟! وفي لحظة توهج خاطفة اكتشفت سراً من أسرار القرآن!
لقد انتهى هذا الكتاب العظيم بالاستعاذة. أليس كذلك؟ والاستعاذة تعني الشروع في قراءة القرآن: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)! وإذن أنت حين تقرأ سورة (الناس) فكأنك تستعيذ من الشيطان لتبدأ قراءة القرآن من جديد، وليس لتنتهي وتتوقف عن القراءة. إنها بداية إذن وليست نهاية.
هنا قفز إلى ذهني قول روي عن النبي e: (أفضل الأعمال الحال المرتحل)([2]). قيل: هو الذي لا ينتهي من قراءة أو ختمة حتى يرتحل فيحل في أُخرى. وروي أن السلف كانوا يستحبون إذا ختموا القرآن أن يقرأوا من أوله آيات.
وجدت أفضل طريقة للتدبر هي ما جمعت بين ثلاثة وسائل: التدبر الذاتي، والاطلاع على تفسير العلماء، مع نقاش الجلساء والأصدقاء.
هـ. اسأل وناقش
كثير من لطائف التفسير وأسرار القرآن العظيم استفدتها من المجالس والنقاشات الخاصة، وبالتفكر والتدبر الذاتي.
تساءلت عن سر انقسام سورة (آل عمران) بين الحديث عن النصارى وضلالاتهم، وبين الحديث عن معركة (أُحد)؟ فبادرني تلميذ لي – وكان جالساً معي في السيارة وهي تتهادى بنا في ريف اللطيفية – قائلاً: بنيت السورة على الأمر باتباع المحكم والنهي عن اتباع المتشابه ولو كان قرآناً نازلاً من الله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)! وكلا الفريقين خسر بسبب اتباع المتشابه وترك المحكم: النصارى خسروا دينهم حين تركوا محكم الإنجيل وكلام المسيح u، واتبعوا متشابه الصليب متخذين من الحكايات التي نسجت حوله ذريعة لتأليهه دون الله. والثلة التي على التل في (أُحد) خسروا معركتهم حين تركوا محكم وصية النبي e لهم وأمره الجازم بعدم النزول من التل سواء أبيد المسلمون عن آخرهم أو انتصروا على عدوهم حتى يأتيهم الأمر منه، واتبعوا المتشابه طمعاً في الغنائم فخسروا بذلك المعركة. وهكذا تجد بقية مشاهد السورة كذكر فرعون الذي يضل الناس بمتشابه السحر، وكفر الناس اتباعاً لزينة الدنيا وشهواتها، وهي كالسحر خيال في خيال.
[1]– الإتقان في علوم القرآن (2/221-222)، دار الكتاب العربي، 1419/1999.
[2]– رواه الترمذي وقال: غريب، أي ضعيف. ورواه البيهقي وسكت عنه. وضعفه بعض العلماء، وحسنه بعضهم، وقطع بصحته آخرون.
2. إطلاق طاقة الشعور والتأثر من خلال القرآن الكريم
2. إطلاق طاقة الشعور والتأثر
أ. إرادة الانتفاع ب. تخلية القلْب من القَـبْل
جـ. تهيئ تربة الإيمان لزرع القرآن د. القراءة المتدبرة
ثمت خطوات متسلسلة في مدارج الوصول إلى الشعور والتأثر بتلاوة القرآن الكريم. وعلى قدر توفر هذه القوى في القلب يكون تحصيل الشعور كماً ونوعاً. وهي: توجه الإرادة إلى الخشوع والانتفاع. ثم تخلية القلب والسعي في علاجه. ثم توفير بيئة الإيمان لزرع القرآن. وأخيراً يأتي دور التدبر والقراءة المتأنية. وذلك من معنى قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق:37): فالقلب قلبان: قلب جاهز، وقلب يتجهز: بالإنصات وتفريغ القابل من الشاغل.
التدبر مع الإرادة المنبعثة من قلب خالٍ من العوارض: شبهات وشهوات، هو الذي يطلق طاقة الشعور في ذلك القلب فيعتريه الوجل إذا ذكر الله، وازداد إيماناً بتلاوة القرآن، وانطلقت بقية قواه الكامنة – وأولها التوكل – ففاضت على الجوارح عبادة وطاعة وإخباتاً: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 2-4). وفيما يلي بيان لذلك:
أ. إرادة الانتفاع
يقول تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:86). لكنه مع هذا الحكم، الذي يبدو في ظاهره تيئيساً من هداية أمثال هؤلاء، يستثني سبحانه فيقول: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:89). فمهما بلغ الإنسان من تردٍّ في مهاوي الظلم، يمكنه الخلاص بالإقلاع عنه والتوبة منه متى ما أراد ذلك. ودون الإرادة لا يكون شيء. ولكن الإرادة بداية، تحتاج إلى خطوات تكملها. وهي:
ب. تخلية القلْب من القَـبْل
ودون التخلية لا تكون تحلية. ولم أجد كقوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) مرشداً لكيفية القراءة النافعة! فالقرآن بذاته هدى، ولكن لصنف خاص من القراء فقط، أولئك هم (المتقون). وهم الذين يقرأون القرآن بنية الانتفاع. وبقلب قابل للانصياع، وهو الخالي مما يفسد أثر التلاوة في محلها القابل لها. فالتقوى لا تكون قبل أن يفرغ العبد قلبَه مما قبلَه.
وهو سوابق الأمراض: شكاً وشبهة، وهوى وشهوة؛ فالعطر لا يزيد الجسم المحمل بالدرن إلا عفونة. وكما قال اللطيف الخبير: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت:44). وقال: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة:27،26). فإذا فرغت قلبك لقراءة كتابه سبحانه، لم يبق إلا أن تقرأه تحقيقاً لمجاهدة نفسك أولاً.. ولجهاد عدوك ثانياً.
جـ. تهيئة تربة الإيمان لزرع القرآن
فإذا أخليت قلبك من دغل الشبهات ودغش الشهوات، فقد هيأت البيئة الحاضنة للقرآن، ألا وهي الإيمان. فالقرآن نزل للفهم والتأثر والعمل. وما لم تقرأه بهذه النية، وتدعمه بتلك الإرادة لن تنتفع كثيراً به. وقد علم الصحابة y هذه التِّقنية العظيمة الباهرة فعملوا بها وعلموها للأجيال اللاحقة. فعن حذيفة بن اليمان t قال حدثنا رسول الله e: (إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) متفق عليه. قال ابن تيمية: والأمانة هي الإيمان، أنزلها في أصل قلوب الرجال.
ومما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان). وعنه أيضاً: (لقد عشنا برهة من دهرنا وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد e فيتعلمَ حلالها و حرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآنَ. ثم لقد رأيتُ اليوم رجالاً يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل)([1]).
ويقول جندب بن عبد الله t: (كنا مع النبي e ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ)([2]).
وهذا المعنى قريب من قول أمنا عائشة رضي الله عنها: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار. حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد e وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده) متفق عليه.
فما نراه في المساجد ومعاهد العلم الشرعي وجامعاته من الدأب على حفظ رسوم الكتاب وحشو رؤوس الطلاب بالنصوص دون تغذية قلوبهم بالفصوص هو أحد أسباب الضعف في أوساط المتدينين قبل غيرهم. وبروز ظاهرة الشيوخ الذين يغلب عليهم القول دون الفعل، حتى قال أحد الشيوخ الربانيين: إن فقهاء الشريعة أحق الناس بقوله تعالى: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف:2)!
وقد اطلعت على جملة من تفاسير العلماء لهذا القول الجليل: (تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً)، فوجدتها تدور على الأسئلة الثلاثة التالية: (ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟). فإذا أجبت عن هذه الأسئلة كان القرآن الكريم محركاً لمكامن الإيمان فيك، ووسيلة لبلوغ درجة الإحسان منك.
أما ماذا؟ فأن تعلم ماذا تحوز بين يديك؟ وما الذي تقرأ؟! إنه كلام الله جلّ في علاه، أنزله من فوق سمواته، يخاطبك به أنت العبد الصغير القليل! فمن أنت حتى تكون أهلاً لهذه الكرامة؟! أهلاً لأن (تقرأ)! وتقرأ ماذا؟
هلا ذكرت أصلك، ومن أي مادة خلقت؟ وإلى أي شيء تخلقت؟ لقد كنت ذرة تراب، تحولت نطفةً تخلقت علقةً! أتدري ما العلقة؟ دودة تائهة في مياه البرك الراكدة، وحبة دم عالقة بجدار رحم في ظلمة هامدة! فمن أنت لولا كرامة (الأكرم) الذي تكرم عليك بها فنقلك من هذه الدركة الواطئة إلى تلك الدرجة السامية إنساناً قادراً على تلقي العلم من الله، يمسك بالقلم ليكتب ما علمه الله!
هل تخيلت مدى النقلة؟! وهل أدركت عظم الكرامة التي منّ الله بها على علقة حتى صارت إنساناً يجلس بين يدي كتاب الله تعالى أهلاً لقراءته وتدبره وكتابة ما يجود به الرب عليه من فيوضات العلم وأسرار المعرفة؟! هل علمت الآن ماذا؟
وهذا يدخل في قانون رباني لطيف هو (التكامل)، الذي يعني ترابط الكلمات الربانية والأوامر الشرعية، وانتظامها في سلك كلي يجمعها وإن تفرقت – ظاهراً – أجزاؤها، وكثرت تفاصيلها. سيأتي الكلام عنه لاحقاً.
وأما لماذا؟ فلماذا تقرأ؟ ما الغاية من القراءة؟ ولأي شيء أنزل هذا الذي تقرأ؟ إنه للتدبر والتفكر والتأثر، ثم للعمل به: مجاهدةً للنفس أولاً.. وجهاداً للعدو ثانياً، كما قال منزله سبحانه: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان:52).
د. القراءة المتدبرة
فإذا علمت ماذا ولماذا، فتعال معاً نتعلم كيف؟ كيف نقرأه القراءة الربانية الخاشعة الواعية؟ وذلك بالقراءة المتأنية المتدبرة، وليس بالهذرمة السريعة المتعجلة، وكأني بصاحبها داخل تحت طائلة قوله Y: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) (التكاثر:2،1)!
إذن فقه المقصود بكلامه سبحانه مقدم على عدد مرات قرآنه. وكما روي عن ابْنِ عُمَرَ أيضاً أنه قَالَ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِنَّ أَحَدَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ, وَفِي لَفْظٍ: إنَّا كُنَّا صُدُورَ هَذِهِ الْأُمَّةِ, وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَصَالِحِيهِمْ مَا يُقِيمُ إلَّا سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ, وَكَانَ الْقُرْآنُ ثَقِيلًا عَلَيْهِمْ وَرُزِقُوا عِلْمًا بِهِ وَعَمَلًا, وَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الصَّبِيُّ وَالْعَجَمِيُّ لَا يَعْلَمُونَ مِنْهُ شَيْئًاً).
ومن أعظم طرق القراءة نفعاً أن تقرأ القرآن الكريم قراءة موضوعية تحاول بها معرفة الربط بين السورة والسورة والآية والآية ومحور السورة وعلاقة الآيات به، طبقاً لما صار يعرف بـ(التفسير الموضوعي). فالنظر إلى الكون والأشياء والمعاني جزئياً غيره حين تنظر إليها كلياً؛ ففي الحالة الأولى ترى المعاني ومفردات الجمال موزعة، وهنا ترى صورة جميلة مكتملة، وتكتشف معاني وأسراراً فاعلة؛ لأن اجتماع الأشياء يؤدي إلى كمالها فتتكامل معنوياً وحسياً وجمالياً، وبترابطها تولد علاقات وقوانين جديدة أعمق وأجمل وأكثر فاعلية. وسيأتي مزيد بحث لهذا عند الكلام عن (النظر في آيات الأكوان)؛ لأنه داخل في إطار قانون كوني رائع نسميه (قانون الكلية).
[1]– لا يصح؛ في سنده أكثر من راو ضعيف، وإن حسنه البعض وصححه آخرون. والدَّقَل: رديء التمر.
[2]– رواه الطبراني في (الكبير)، والبخاري في (التاريخ الكبير) والخلال في (السنة)، وغيرهم. وصححه الألباني وغيره. والحزاورة جمع حَزْوَر وهو الغلام إذا قارب البلوغ.
ثانياً : النظر في آيات الأكوان
ثانياً : النَّظَرُ في آيَاتِ الأكوَان
مع النظر في آيات القرآن (وهو الكتاب المسطور) يحتاج المؤمن إلى النظر في آيات الأكوان (وهو الكتاب المنظور). وكما أننا في حاجة إلى تعلم الكيفية التي بها ننتفع من تلك الآيات، فنحن كذلك في حاجة إلى تعلم الكيفية التي بها ننتفع من هذه الآيات.
- إطلاق طاقة التفكر والتدبر في آيات الأكوان
إن النظر المجرد إلى عجائب الخلق يقود الناظر إلى ربوبية الخالق وعظمتها، وأنه لا بد وراء هذا الخلق من خالق يستحق الحمد والثناء والعبادة والدعاء قلباً ولساناً وبدناً وكياناً.
لكننا في حاجة إلى ما هو أبعد من ذلك كي نحقق إسلامنا. النظر الرابط بين آيات الأكوان وآيات القرآن؛ فبهذه ينتقل الإنسان من دائرة الإيمان العام إلى دائرة الإيمان الخاص الذي هو الإسلام حق الإسلام، وبه دون سواه تكون النجاة من النار.
لقد توفر – بفضل العلماء والباحثين – تحت أيدينا من هذه الكشوفات الكثير الكثير، بحيث لا يمكن لأحد أن يطلع على بعضها وتبقى في نفسه فضلة من شك في أن هذا الكتاب منزل من عند الله!ومن أعظم ما يحقق هذا الربط هو النظر في كشوفات العلم الحديث، التي تضمّنها القرآن بصورة لا تقبل الشك.
تأمل البرزخ الذي ذكره القرآن بين كل بحر وبحر، وكيف ثبت وجوده علمياً بصورة قطعية، مع أنه خفي لا يمكن إدراكه بالبصر أو الوسائل المتوفرة. فيستحيل على بشر في زمن تنزل القرآن أن يعلم عن شيء غير منظور يفصل بين بحر وبحر بحيث يحفظ لكل بحر خصاصه دون أن يبغي واحد على آخر فيغير من تلك الخصائص لصالحه! فليس عجيباً أن يؤمن بسبب ذلك عالم البحار الفرنسي الشهير جاك كوستو!
ومن أشهر العلماء الذين اهتموا بهذا الموضوع الشيخ اليماني عبد المجيد الزنداني. استمعت قبل ربع قرن إلى محاضرة له مصورة عن الإعجاز العلمي في قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج:73). إذ حاول علماء الغرب أن يخلقوا خلية حية من خلال العمل على المادة الوراثية المعروفة بالـ(DNA)، فوجدوا أن أفضل حيوان تتم دراسته وإجراء التجارب عليه هو ذبابة الفاكهة، فكانت المحاولة أن يجربوا تخليق أصل ذبابة الفاكهة. والنتيجة أنهم أعلنوا عجزهم التام بسبب أنهم لم يتجاوزوا عتبة صنع مادة كيميائية ميتة، وتوقفوا عند هذا الحد؛ لأنهم وجودوا أن الحياة شيء آخر فوق المادة!
وهنا علق الشيخ الزنداني قائلاً: فمن أخبر محمداً e أن التجربة ستجري على الذباب؟! في تلك اللحظة شعرت بتوقان شديد إلى الهوي على الأرض والسجود تعظيماً لله وتعجباً من آياته! نعم.. (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج74).
بعض جوانب إعجاز القرآن
التعرف على جوانب إعجاز القرآن الكريم، أو بعضها، يمنح المسلم اليقين الذي هو أساس الإيمان والاطمئنان. ومن أطيب ثماره الثبات في المحن والشدائد، مع الأجر العظيم، وزيادة الهدى على الصراط المستقيم، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) (النساء:66-70).
وجوانب الإعجاز متعددة يصعب إحصاؤها، وعلى قدر علم المسلم وسعة عقله يمكنه استيعاب هذه الجوانب والاستفادة منها. القرآن الكريم نفسه بنفسه معجز: معجز في لغته وصياغاته، وفي نسجه وترتيبه، ومعجز في علمه ومضمونه، وحججه وبراهينه. كما أنه معجز في لوازمه ومتعلقاته، وأهمها الآثار العظيمة التي ظهرت في المجتمع على مستوى الجزيرة وما حولها والعالم كله.
خذ مثلاً جمع القرآن في قلب النبي e. فمن المعلوم صعوبة حفظ القرآن وشدة تفلته من قلب حافظه دون تعهده المستمر بالقراءة والمراجعة، فكيف تم ذلك لشخص منهي أصلاً عن مراجعته وتحريك لسانه به؟ فضلاً عن استغناء القرآن عن المراجعة للتصحيح والتعديل الذي من المستحيل استغناء أي كتاب عنه؛ إذ لم يوجد ولن يوجد كتاب تكون نسخته الأولى هي الأخيرة مع توفر عنصر الأرقى والأكمل المطلق! لهذا قرن الله تعالى معجزة الجمع هذه بمعجزة جمع العظام للإحياء، ومعجزة جمع الشمس والقمر للخسوف. فقال سبحانه: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة:4،3)، وقال عن الثانية: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) (القيامة:9،8)، وقال عن الثالثة: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ) (القيامة:16-18). إن معجزة جمع القرآن في قلب النبي e ظهرت في وقت تنزله مع استحالتها لغيره. ومعجزة معرفة حدوث الخسوف باجتماع الشمس والقمر مع الأرض في خط واحد ظهرت بعد ذلك بعدة قرون، فلم يبق إلا جمع عظام الموتى وقيامهم من الموت للحساب، فهل من دليل على تحققها مستقبلاً؟ والجواب أن الذي وعد بمعجزة الحفظ فتحققت، وأخبر بالكيفية العلمية لحدوث ظاهرة الخسوف فثبتت، هو نفسه الذي أخبر بإحياء الموتى. فتحقق معجزتين من قبله دليل قطعي على تحقق المعجزة الثالثة!
القرآن العظيم إذن معجز بذاته لذاته، ويثبت نفسه بنفسه.
التحديات من أعظم جوانب الإعجاز، وأولها وروداً في القرآن الكريم، وهذه إشارة إلى أهميتها وتقدمها، تحدي العرب بأن يأتوا بسورة واحدة من مثل سور القرآن! سورة ولو بقدر سورة (الكوثر)، لكنهم عجزوا! فقال سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة:24،23).
الإخبار بالغيب جانب آخر، ومنه أمور غيبية بعيدة التصديق وعد القرآن بوقوعها، مثل غلبة الروم على الفرس في بضع سنين، وقد راهن رجال قريش أبا بكر الصديق على مئة ناقة! وهذا دليل واضح على استبعادهم الجازم أن يكون مثل هذا في مثل هذه الفترة الزمنية القصيرة، بعد غلبة فارس للروم غلبة وصلوا بها إلى القسطنطينية. وراهنهم الصديق فكسب الرهان إيماناً بقوله جل جلاله: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم:1-6). ويستحيل على عاقل أن يعد بهذا جازماً فيعرض دعواه إلى خطر التكذيب لولا أن الوعد نازل من العليم الخبير!
ومن إخبارات الغيب العجيبة إخبار القرآن الكريم بعدم وقوع أمور من السهل جداً أن تقع لا سيما مع التحدي بعدم ذلك، ومع ذلك لم يجرؤ أحد من المكذبين على الاستجابة للتحدي بمثله. هذا والاستجابة في متناول اليد وسهلة جداً، ونتيجتها إثبات كذب الدعوى بكل وضوح وزوال القضية من أساسها. فهل هناك شيء يغري أكثر من هذا؟ ولكن جبن الجميع بلا استثاء عن التحدي. من ذلك ما جاء في قوله تعالى مخاطباً اليهود: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (الجمعة:7،6)! من يستطيع الجزم كهذا الجزم غير الله جلّ في علاه؟!
وشبيه به الجزم بعدم إيمان مجموعة من الكفار كأبي لهب وامرأته وأبي جهل والوليد، والشهادة لهم بالنار وسوء المصير. والسكوت عن آخرين آمنوا بأخرة – كأبي سفيان وخالد بن الوليد – آذوا الإسلام والمسلمين أكثر من بعض أولئك! ولولا أن الأمر نازل من السماء ما كان ذلك كذلك بهذه الدقة من الفصل بين الفريقين، بل لحصل الخلط فكانت الفضيحة!
2. إطلاق طاقة الشعور والتأثر بالأشياء
2.إطلاق طاقة الشعور والتأثر بالأشياء
الشعور بالشيء زائد على وجوده. وإذا انعدم الشعور بالأشياء تساوى وجودها وعدمها.
كم من نعمة يَسبح العبد بنعيمها لا حسَّ لها في ذاته، ولا أثر في واقعه؛ بسبب من عدم الشعور بها! وكم ممن يردد ويقول: ما الذي أعطاني الله؟ وهو غارق في عطاياه!
الإحساس أساس النعمة؛ فلا نعمة بلا إحساس كما أنه لا بناء بلا أساس.
ها أنت في طريق تكتنفه المروج والأشجار، وتتخلله الأنهار والأوراد والثمار، وتصدح في فضائه الطيور والعصافير. وتنظر فتجد من معك غارقين في نقاش، أو مطرقين لا يأبهون بهذا (الكرنفال) الذي أقامت الطبيعة بأمر ربها سرادقه لهم، فكأنها وكأنهم رسول ودود لا يواجهه قومه بسوى الإعراض والجحود!
صحيح أن تكرر الأشياء على الحس يؤدي إلى حالة من الإدمان تضعف حاسية تذوقها، والإحساس المستمر بجاذبيتها وسحر جمالها. لكن العمل على تجديد الشعور بوجودها وشحذ الإحساس بجمالها يعالج تلك الحالة، كما تُشحذ السكين بالمِسَن فتعود كما كانت.
الوردة و .. الكلمة !
ويختلف الناس في التفاعل مع محركات الإحساس.
لو سألتني لقلت لك: لذتي من الوجود اثنتان، هما عندي أجمل ما فيه: الوردة والكلمة. سبحان الخالق! لا أكاد أشبع من رِياهما، ولا ينقضي عجبي منهما ومن نجواهما!
كم يثيرني الورد فيخلب اللب بأشكاله وألوانه! وتغزوني الكلمة فتسلب القلب بصورها وتعابيرها! حتى إنني لأذكر الجنة فلا أرى إلا روضاً من الورود على امتداد الوجود. وأتخيل الزوجة هناك فلا يسبق لذهني سوى منظر وردة حمراء أو بيضاء! وكثيراً ما طرَّيتُ عطوره بأشجان ناظري، وطرّبتُ أوراقه بمكنونات محاجري.
وما من مرة رأيت الورد إلا وشعرت كأنني أُصرع..! وإلا سرحت بخيالي فأخذني إلى الجنة، فرأيت قصوراً تتلألأ، ورياضاً تتماوج فيها الورود على مد البصر! ولم أسمع كلمة مشحونة بالصورة والمعاني والشجن إلا كدت أصرخ أو أُصعق، ولكن الحياء يمنعني فيخرسني ويمسكني. وفي الحال ينتقل بي الخيال إلى الجنة، فأتمتم مشتاقاً مبهوراً.
تأملوا هذه التشكيلة الرائعة من المعاني والصور كيف أُودعت هذه الكلمة التي قالها أ. حسن البنا رحمه الله: “ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف. وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة. ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة. ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد”!
ما هذه الروعة؟!
والناس أشكال وأذواق. فهذا يثيره الليل البهيم، وذلك يسحره القمر الباسم. وآخر يفتنه الفجر بشفقه، ورابع يهيم بالغروب وغسقه. ومصادر الجمال ومثيرات الشعور لا تنتهي: الطير والشجر، والبحر والنهر. وهناك السحب والغيوم في الأعالي، لا سيما لحظات تدفق الودق من خلاله، واندلاق البرَد من سلاله، والأشجار ترتعش من القُر، والنخيل ترتعد وسط الريح، والبحر يموج، والشراع يلوّح من بعيد يعلو ويهبط، والطير أوت إلى أعشاشها (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (النور:41).
فوا عجباً كيفَ يُعصى الإلهُ أمْ كيفَ يجحدُهُ الجاحدُ |
وهذا ينظر إلى بعوضة فيستفزه الشعور بلطف صنعها فيقول:
يا مَنْ يَرى مَدَّ البعوضِ جناحَهُ |
في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الألْـيَــلِ والمخُّ في تلكَ العظامِ النُّحّــــلِ متنقلاً من مِفصلٍ في مفصــــلِ في سيرِها وحثيثِها المستعجلِ |
|
ويرى ويسمعُ حسَّ ما هو دونَها اُمنُنْ عليَّ بتوبةٍ تمحو بهــــــــا |
في قاعِ بحرٍ مظلمٍ متهـــــولِ
ما كانَ مني في الزمانِ الأولِ |
وآخر يسمع هتاف حمامة على غصنها في هدأة الليل، فتفيض نفسه بهذا الشعور الذي تسيل لحره القلوب:
لقدْ هتفتْ في جنحِ ليلٍ حمامةٌ |
على فننٍ وهناً وإني لنائـــــــمُ لقلبيَ فيما قدْ رأيتُ لَلائـــــــمُ لربي ولا أبكي وتبكي الحمائمُ لما سبقتْـني بالبكاءِ البهائــــمُ |
أنت شيء ؛ فتنبه ..!
(وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات:21،20). ويقول عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53). فانظر إلى ما أسبغ الله عليك من نعم، وما جعل في نفسك من آيات وحكم. كم فيك من عناصر الجمال ظاهرة وباطنة، مادية ومعنوية؛ بل لا أبالغ إذا قلت: أنت أجمل ما في الكون! استشعر ذلك واشكره وزكه ونمه. وكن جميلاً في مظهرك فذلك شيء يحبه الله جل جلاله. وفي منطقك وتعبيرك: لساناً جسداً.
والشعور مطلوب من الجانب الآخر، وهو جانب الخلل، فينظر إلى جوانب الاختلال في النفس كما ينظر إلى جوانب الكمال والجمال: فجمود العين، وقساوة القلب، واسترسال الجوارح بالمعاصي، واستصغار محقرات الذنوب، يحتاج من العبد إلى التفات قبل الفوات، وإلا كانت الهلكة. كما أسرع أبونا آدم u بالإياب إلى الجناب، ولم يضيع الفرصة بالجدل وشطط القول بعد سوء العمل.
ومما يروى في كتب الرقائق أن أحد أحبار بني إسرائيل دعا ربه فقال: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني! فأوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن يقول له: “كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك لذيذ مناجاتي”؟!
ويقول ابن عطاء السكندري: “من جهلِ المريد أن يسيء الأدب؛ فتؤخر العقوبة عنه، فيقول: لو كان هذا سوء أدب لقطع الإمداد، وأوجب الإبعاد. فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا منع المزيد. وقد يقام مقام البعد وهو لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد”.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ “كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ”)([1]).
والمخلصون يحذرون اللمم ويخشون أن يمردوا عليه، فيكونوا كمن اتبعوا خطوات الشيطان خطوة بعد خطوة. فقد روى الترمذي عن سَهْل بْن سَعْد عن النبي e قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ, وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ)([2]).
يقول الفضيل بن عياض: “بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله”. ويقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهلكات”. ويقول هلال بن سعد: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى مَنْ عصيت”.
ولما حضرت ابن المنكدر الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟!، قال: “والله ما أبكي لذنبٍ أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم”.
هكذا جاء في الأثر عنهم رحمهم الله تعالى. والله أعلم.
[1]– رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح، وحسنه الألباني.
[2]– قال ابن حجر: أَخْرَجَهُ أَحْمَد بِسَنَدٍ حَسَنٍ, وَنَحْوه عِنْد أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود, وَعِنْد النَّسَائِيِّ وَابْن مَاجَهْ عَنْ عَائِشَة أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: (يَا عَائِشَة إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّه طَالِبًا) وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّان.
قانون التكامل الكوني
قَانُونُ التَّكَامُلِ الكَونِي
أ. التكامل بين المخلوقات ب. التكامل بين العبادات
جـ. التكامل في التربية .. ومبدأ ( التكامل التربوي ) في الإسلام
قلنا سابقاً: النظر إلى الكون والأشياء والمعاني جزئياً غيره حين تنظر إليها كلياً؛ ففي الحالة الأولى ترى المعاني ومفردات الجمال موزعة، وهنا ترى صورة جميلة مكتملة، وتكتشف معاني وأسراراً فاعلة؛ لأن اجتماع الأشياء: تقابلاً أو إتماماً يؤدي إلى تكاملها مادياً ومعنوياً وحسياً وجمالياً، وبترابطها تولد علاقات وقوانين جديدة أعمق وأجمل وأكثر فاعلية. وسأتتبع هذا القانون في ثلاثة مظاهر: المخلوقات، والعبادات، والتربية.
أ. التكامل بين المخلوقات
حين تنظر إلى الكون تلك النظرة التي تعبر الجزئيات إلى الكليات تكتشف دقة صنعه، ولطف جماله، وأنه ما من شيء إلا وله مكانه الذي يتطلبه من هذا النسيج. لكنك بالنظر إلى كل جزء على حدة تفوتك رؤية هذا القانون التكاملي للكون، الذي به تدرك الوظيفة والجمال الجمعي للأشياء.
انظر إلى الوردة الجميلة وتتبع أغصانها وانزل إلى جذورها، وتأمل كيف يخرج هذا الجمال من هذه الأوحال؟! وتأمّل أكثر ستجد أن وراء كل وردة جذوراً غاطسة في الطين. ثم ارجع البصر كرة أُخرى ستكتشف أنه ما من ثمرة تقطف، ونتيجة تستحصل إلا وخلفها جهود بذلت لا ترى إلا آثارها، وأناس تعبت وشقت وتحملت أوضارها، لكنك قد لا تعرفهم ولا تتحسس جهودهم. فاذكرهم عند قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).
إِنِّي لأضحكُ والآلامُ في كَبِدي كالوردِ يَزهو ويعطي الناسَ رونقَهُ |
مثلَ الخناجرِ أو لَفحِ البراكينِ وجذرُهُ غارقٌ في لُجَّةِ الطينِ |
وهذا تكامل إتمام، يمنح العامل طاقة للعمل دون النظر إلى رؤية البشر.
وخرجنا يوماً لصلاة الفجر في إحدى القرى التي تتوسد شاطئ الفرات، وكان المسجد بعيداً شيئاً ما عن البيت. انطلقنا وما زال الظلام يكتنف الوجود. كانت السماء تنث الأرض برذاذ خفيف من قطيرات المطر، تتساقط فوق زجاج سيارتنا وهي تخترق الحقول المترامية حولنا فأسمع لتساقطها إيقاعاً يلامس شغاف القلوب فيأخذ بمجامعها. ويتابع رذاذ المطر سقوطه متحرشاً بزجاج السيارة وكأنه ينزل على قلبي. والنخل يتمايل مع الريح، وكأنه يريد أن يجاذب الأشجار التي تحتف به العناق والقبل! وما بين الجنان المتناثرة عن يمين وشمال يتناهى إلى سمعي صوت غراب يأتي من أعماق السماء.. يمد من ألف (غاقه) بطيئاً طويلاً.. وقبل أن يرجع الصدى، الذي تتجاوب به جنبات الفضاء والحقول والبساتين، يُتبعه بـ(غاق) آخر، وآخر.. وتختلط الأصوات بالأصداء.. فأشعر أنها تجتاح قلبي اجتياحاً، وتتسرب إلى شرايينه، لتنتشر في مسامات كياني كله.
كنت أهتز لذة وطرباً! وكان الصوت ممتزجاً غاية الامتزاج مع تلك الأجواء الباهية والمشاهد الزاهية، ومتناسقاً معها غاية التناسق.
لأول مرة أحس بجمال صوت الغراب. وسبحت الخالق! لقد أدركت أن الأمور حين نأخذها مجزأةً، غيرُها حين نتعاطى معها ضمن النسيج الكلي لبناء الكون (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191).
والعجيب أن شعوري نحو الغراب تغير لصالحه منذ ذلك اليوم، رغم أن الثقافة السائدة تدفعنا للانزعاج منه! لقد رأيته لحظتها ضمن المشهد الكلي للوحة الكون، ولم أنظر إليه منفصلاً عنه، فاكتشفت قانوناً ينظم الخلق أسميته (التكامل). هذا القانون هو الذي يجعلنا نعجب بجمال العين في محجرها، لكن تخيَّلْها منزوعة من المحجر وملقاة على الطاولة، واسأل نفسك: أين توارى ذلك الجمال؟!
التكامل هو سر الأمر الرباني بالجماعة والنهي عن الفرقة. والجماعة سر القوة وحسن الأداء، كما أنها مظهر الجمال ولطافة الكيان. لذلك قيل: “خطأُك مع الجماعة خير من صوابك لوحدك”. ألا ترون أن المنظومة الجيدة تصهر الفرد السيئ، والمنظومة السيئة تبتلع الفرد الجيد؟
ب. التكامل في العبادات
لنأخذ ثلاث عبادات ونتأمل المعنى الرائع للتكامل فيها: قراءة القرآن الكريم، والأذان، والصلاة:
قراءة القرآن
مرت بنا الإشارة إلى أهمية قراءة القرآن الكريم طبقاً لمنهجية (التفسير الموضوعي). خذ سورة (الفاتحة) مثلاً:
- جعلت في أول القرآن؛ لأنها بمنزلة مقدمة الكتاب التي تلخصه. وكانت أروع وأجمع مقدمة لكتاب قط.
- وهي بمنزلة (العريضة). ترفع من مقام العبودية إلى جناب الربوبية في اليوم سبع عشرة مرة. وقد تزيد.
- محورها الذي تدور حوله العريضة أعظم طلب في الوجود. ألا وهو الهداية.
- توسلت له بأعظم سببين: الثناء على الرب بأعظم أسمائه وصفاته. ثم العبادة والاستعانة وهما أعظم ما يؤهل العبد لنيل مراده.
- انتهت ببيان الطرق الثلاث التي لا يخرج عنها إنسان: طريق المهتدين، وطريق المغضوب عليهم ممن عرف الحق وحاد عنه، والضالين ممن جهل الحق فضل الطريق.
- جمعت معاني القرآن كله. فآيات الفاتحة تدور حول تلك المعاني: تضمناً ولزوماً ومطابقة.
- اتصلت بسورة (البقرة) من حيث أنها جاءت جواباً وتفصيلاً للهداية التي طلبت في سورة (الفاتحة): (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6). فكان جواب الطلب: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)، وما بعده تفصيل. فسورة (البقرة) تفصيل مختصر لسورة (الفاتحة)، واختصار مفصل لسور القرآن.
- اتصلت بآخر سورة من القرآن الكريم، من حيث أن سورة (الناس) استعاذة من الشيطان: شيطان الجن والإنس، والاستعاذة بداية القراءة: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98). ففيها إشارة إلى قراءة (الفاتحة) بعد الانتهاء من (الناس)، وهو السنة. إن استعاذة الفاتحة في سورة (الناس).
الأذان
الأذان
كلمات الأذان اختيرت بعناية ربانية في منتهى الحكمة والمناسبة! وذلك يتبين مما يلي:
- ابتدأ الأذان بكلمة “الله أكبر الله أكبر”، تنطلق فجأة في رحاب الفضاء معلنة أنه لا شيء أكبر يمكن أن تنشغل به من الله؛ فاترك ما في يدك وتوجه إلى ذكر إلهك في أكبر ما يذكر به. ثم يكرر النداء للتأكيد.
- ثنت بذكر الأساس الذي تبنى عليه الدعوة للصلاة، وهو توحيد الله: “أشهد أن لا إله إلا الله” مرتين. ولبه الإخلاص.
- لا تتم العبادة إلا باتباع الرسول e ليكون العمل خالصاً صائباً: “أشهد أن محمداً رسول الله” مرتين للتأكيد.
فهل ثمت أنسب وأروع من هذا التمهيد!
- ثم جاءت الكلمة المقصودة التي هي محور الأذان مكررة مرتين: “حيّ على الصلاة”، وبلفظ يشي بالحيوية والنشاط. أي أقبل على الحياة.
- هذا العمل فما هو الأجر؟ وهذه السلعة فما هو الثمن؟ “حيّ على الفلاح” نعم “حيّ على الفلاح”. والفلاح هو الجنة. والجنة أعلى وغاية ما يوعد به العاملون المستجيبون لنداء الله الذي يجلجل في الفضاء. فلا مجال لشيء يذكر بعدها، مثل بدعة “حي على خير العمل”، سوى الختام بما يناسب المقام.
- فكان التكبير مرتين فقط لمناسبة الاختصار للختام، والشهادة مرة واحدة بأجمل اختصار “لا إله إلا الله”.
- تأمل كيف تم ترشيق الكلمات بالتدريج: فالتكبير الأخير اختصر للنصف، والشهادة الأخيرة اختصرت للربع: “لا إله إلا الله” فقط دون ذكر “أشهد أن محمداً رسول الله”. مع حذف كلمة “أشهد” منها. وهو تناسق جميل لفظاً ومعنى يدركه كل عربي أصيل السليقة سليم الذوق.
- للأذان أسرار عجيبة عند تأمله في ضوء قانون (التكامل الكوني). أحدها أن الأرض لا تخلو لحظة من الأذان منطلقاً من آلاف المدن في كل لحظة طبقاً للتوافق والاختلاف في مواضعها على خطوط الطول حول الكرة الأرضية وعددها (360) خطاً. وهذا يجعل الشمس تختلف في زمن إشراقها على كل مدينة أو قرية حسب موقعها على تلك الخطوط بحيث يكون الفرق (4) دقائق بين المدن التي تقع على خط معين والخط الذي يليه. وبين خط وخط تقع آلاف المدن التي تتفاوت في وقت الأذان بالتدريج من دقيقة إلى أربع دقائق بين مدن الخط السابق والذي يليه والمدن التي بينهما. فإذا لاحظت أن أوقات الأذان تتداخل في المدن التي تبعد عن بعضها كثيراً بحيث يكون أذان الفجر في مدن معينة موافقاً لأذان العشاء أو أذان الظهر في مدن أُخرى. وهكذا تضج الأرض في كل لحظة بآلاف المآذن تصدح بالأذان وهو يلف الكرة الأرضية دون انقطاع. وبهذا ندرك سراً جديداً من أسرار قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الشرح:4)!
- حتى إذا وصلنا الكعبة نجد أن النداء والذكر والتسبيح لا ينتهي أبداً عندها! فهناك طوال الوقت طواف وصلاة وذكر ودعاء حتى تقوم الساعة.
الصلاة
تأمل حركات الصلاة من تكبيرة الإحرام – بل من الوضوء – كيف ترسم صورة كاملة للاستئسار بين يدي الجبار حد القتل. لكن هذا المشهد الرمزي للقتل يبدأ بتمهيد مناسب:
- أوله الوضوء إشارةً إلى الإقدام على بيع النفس لله تعالى اختياراً لا إجباراً؛ فأنت تُـقَـدم لذلك بالتطهر الذي يمنح النفس الارتياح والصدر الانشراح. لا كما يقتل الأسير بشعثه وتفثه لأنه لا يفعل ذلك إلا مضطراً يساق إليه سوقاً. وفي ذلك شبه بما فعل نبي الله إسماعيل u إذ قال له أبوه إبراهيم u: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102).
- ثم التوجه إلى بيت الله إعلاناً بأن البيع لله لا لأحد سواه.
- تأتي تكبيرة الإحرام بعد ذلك التمهيد إعلاناً بالاستسلام لأعظم كبير. ومعها رفع اليدين كما يرفع الجندي في الميدان يديه أمام من غلبه معلناً الاستسلام التام، واستعداده للأسر ووقوعه تحت تصرف الغالب. وشتان بين استسلام المحبوب واستسلام المغلوب!
- ثم التكتف وهو رمز لتقييد الأسير بعد أسره.
- ثم مد الرقبة استعداداً للقتل.
- وهنا كأن الله يقول لك: ارفع رأسك فقد سمع الله دعاءك واستجاب لك فاحمده على ذلك. فترفع رأسك حامداً إياه.
- ثم لا تجد بعد الحمد شكراً أحرى من الانطراح بين يديه فِعْـل القتيل إذ يسقط بعد القتل. وكأنك تأبى إلا أن تقدم نفسك – وهي كل ما تملك – له سبحانه. عالماً أنك وما تملك ملك لمالك الملك.
- ثم تكرر الحركة عدة مرات. وتجلس للخروج من هذا المشهد العبودي الجميل بطريقة جميلة تناسب المشهد مبتدئاً بثلاث كلمات: التحيات، والصلوات، والطيبات.
- أما التحيات فلله؛ والسر في ذكرها – والله أعلم – أن الدخول في الصلاة خروج من الدنيا، وانقطاع عنها. فالخروج من الصلاة دخول إليها، والدخول على من خرجت منهم فعدت إليهم يكون بالسلام. فهي جلسة تحيات وسلام. لكن الله هو السلام فلا يسلم عليه.
- وانظر إلى نفسك وأنت في الصف بين المصلين، ثم وسع دائرة النظر لترى بخيالك الصفوف كلها، ولاحظ حركة المجموع ركوعاً وسجوداً وجلوساً وأنت هناك قائماً بين تلك الصفوف مع القائمين. ثم صعّد بخيالك إلى الكون بشجره وحجره وغيبه وشهادته قائماً كله قانتاً لله ساجداً وقائماً. ثم اصعد أكثر وأكثر حتى تبلغ السماء السابعة، لتتناول العرش بقلبك وتسبح مع الملائكة بروحك، وتسجد بين يدي الجبار، مستوياً على عرشه، مهيمناً على خلقه، يسمع من هناك حفحفة شفتيك، ويعلم نبض قلبك، وحقيقة سرك! مستحضراً قول النبي e عن أبي هريرة t: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء). وعن ابن عباس t: (وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء. فقمن أن يستجاب لكم)([1]). متفكراً في سر ذلك؛ فإنه موضع القرب الذي قال الله Y عنه: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (العلق:19).
- لا تنتهي أسرار الصلاة عندما تنظر إليها في ضوء التكامل الكوني! لكن لا بأس بأن نتوقف عند أحد هذه الأسرار:
عند الصلاة أنت تتجه نحو الكعبة، وفي وقت واحد مع مصلين آخرين. الكل يتجهون إلى نقطة واحدة، وترتبط قلوبهم بنقطة واحدة. فلو رسمت في ذهنك لصفوف المصلين خطوطاً مستعرضة تتجه في وقت واحد إلى نقطة واحدة هي الكعبة، ولكل مصلٍّ خطاً طولياً يربط بين قلبه وبين تلك النقطة. ثم اشمل بنظرك المساجد كلها على خطوط العَرْض كلها على الكرة الأرضية كلها! ماذا ترى من صورة!
هذه الخطوط المنتشرة على الأرض خطوط منظمة، الأرض مقوسة مدورة فهذه الخطوط تمثل أقواساً على الأرض. فتكون صلاة الجماعة وصفوف الجماعة عبارةً عن أقواس صغيرة جداً تكتمل مع صفوف مصلين آخرين في أمكنة أُخرى. فتكون الصورة الكلية صفوفاً هندسية منظمة غاية التنظيم، وأقواساً دائرية متتابعة على سطح الأرض تتجه جميعاً إلى الكعبة. وتصغر باستمرار كلما اقتربت منها. حتى إذا وصلنا الكعبة نفسها رأينا عياناً هذه الصفوف تتقوس كلياً داخل الحرم وتلتحم ببعضها مكونة دوائر مغلقة. تصغر وتصغر كلما اقتربت من الكعبة حتى تنتهي الدائرة بإمام واحد يقف عندها.
وتجد للمشهد صورة أُخرى هي صورة الطواف، رامزة إلى انشداد القلب بالحب إلى الكعبة. الكعبة تجذب القلوب إليها كما يجذب المغناطيس برادة الحديد. فهل قلبك من حديد أو حجر؟ فاستمع إلى قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21) واستمر إلى آخر السورة: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر:20-24).
والطواف ظاهرة كونية وقانون كوني شامل لا يتخلف عنه شيء من الإلكترون حول نواة الذرة إلى الكوكب حول الشمس، إلى الشمس حول المجرة، إلى المجرة حول الكويكبة. إلى ما بعد ذلك! ومن عجب أن كل حركات الكون من الذرة إلى المجرة فما فوقها اتجاهها هو اتجاه الطائف حول الكعبة، أي من اليمين إلى اليسار. وهو الاتجاه الذي تخالفه الجاهلية الغربية في حركاتها جميعاً، وحركت أميال ساعتها تبعاً إليه. وحركة كتابتها كذلك. بل حركة عسكرها إذ يقدمون الشمال على اليمين عند الانطلاق. وقد قلدناهم في هذه الحركة([2]).
الكون كله في حالة جذب متناسق باتجاه واحد. والجذب تعبير عن الحب؛ فالكون كله قائم على الحب! وأنت جزء منه. فلا تشذ عنه. بل اسلك نفسك في هذا النظام الكوني العجيب. أنت أيها العبد جزء من تشكيلة هذا النظام الكوني الرائع! فهل يليق بك أن تخلي مكانك وتخرج من الصف ليقيمه غيرك؟ وانظر تر الكائنات كلها سالكة ضمن هذا التشكيل الهندسي والنظام الرباني البديع: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (الحج:18).
فهل ترضى لنفسك أن يكون الحيْوان أو الجماد أو الشجر مقيماً للنظام متسقاً معه بينما أنت، أيها الإنسان الذي أكرمك الله بأن جعلك أرقى من كل هذه المخلوقات، خارج عن النظام، خارج عليه! هل أدركت الآن البعد العميق لمعنى قوله تعالى: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)!ولو رحت أسبح في أفلاك التكامل الكوني في الصلاة طال بنا المقام كثيراً.
[1]– رواهما مسلم. قال الشوكاني في (نيل الأوطار): وإنما كان في السجود أقرب من سائر أحوال الصلاة وغيرها؛ لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه. والسجود غاية التواضع وترك التكبر وكسر النفس لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة ولا ترضى بها ولا بالتواضع بل بخلاف ذلك. فإذا سجد فقد خالف نفسه وبعد عنها، فإذا بعد عنها قرب من ربه. قوله: (فأكثروا الدعاء) أي في السجود لأنه حالة قرب كما تقدم، وحالة القرب مقبول دعاؤها؛ لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه ويتواضع له ويقبل منه ما يقوله وما يسأله.
[2]– إيعاز حركة سير الجندي العراقي: (يَسْ يَمْ). يس = يسرى، يم = يمنى.
جـ. التكامل في التربية
جـ. التكامل في التربية
وسأفرده بعنوان رئيس هو (مبدأ التكامل التربوي في الإسلام)؛ لأهميته ولأصالته.
مَبدَأُ ( التكَامُلِ التَّربَوِيِّ ) فِي الإسلام
الخطأ جزء من معادلة الصواب..
والخطيئة جزء من معادلة الثواب..
وكذلك:
الفشل جزء من معادلة النجاح..
والمشكلة جزء من معادلة الحل.
تأمل هذه المعادلات الأربع العظيمة، والغريبة في الوقت نفسه.. تفكر فيها ثم لك أن تسمع مني ما أقول..
لا يسلم المرء من خطأ أو عيب، ولا بد له أن يُلِـمَّ بأثم أو ذنب.
فما من إنسان إلا واعتراه ضعف، إلا وارتكب خطأ أو ركبته خطيئة. وإذ ذلك حتم واقع فإن الإسلام يستثمر هذه الحتمية الكونية فيحوّل الضعف والخطأ والخطيئة إلى قوة وصواب وربيئة. فيربي المسلم بالخطأ والخطيئة كما يربيه بالصواب والحسنة؛ فتنقلب السيئات في حقه حسنات! إن للإسلام ملحظاً تربوياً في حالة السلب، كما له ملحظ تربوي في حال الإيجاب؛ فيربي بهذا كما يربي بهذا. فكيف يكون ذلك؟
لنقرأ: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان:68-70).
ماذا تفهم؟! أليست سيئات انقلبت حسنات!
هل هذا تشجيع على ارتكاب المعصية؟ حاشى لله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) (الأعراف:28). المعنى واضح: توبة عن إيمان مع استقامة على صلاح. هذا هو الذي قلب المعادلة إلى الضد. بل هو طرد لليأس، وفتح الباب واسعاً أمام الأمل برحمة الله جل جلاله، وتشجيع على التوبة، ودعوة للرجوع إلى الاستقامة!
لكن انظر.. لقد انقلبت حال المذنب قبل ذلك؛ ولولا ذلك ما استحال الضد إلى الضد. واقرأ هذه الآيات ففيها توسعة في المعنى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (النجم:31) من هؤلاء المحسنون الموعودون بالحسنى؟ (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32).
وفي معنى ( اللمم ) درس !
وللمم معنيان: صغار الذنوب تعرض للمسلم فيفعلها ويستغفر منها. أو الكبيرة يُلم بها أي تقع منه ثم لا يستمر عليها. قال الشوكاني في (فتح القدير): وأصل اللمم في اللغة ما قل وصغر، ومنه: ألمّ بالمكان قل لبثه فيه، وألم بالطعام قل أكله منه… قال الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه ولا يقيم عليه. يقال ألممت به: إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال ما فعلته إلا لماماً وإلماماً: أي الحين بعد الحين، ومنه إلمام الخيال. وقال نفطويه: هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة. قال: والعرب تقول: ما تأتينا إلا إلماماً: أي في الحين بعد الحين”. وفسره ابن كثير بقريب من هذا، وأضاف عن ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال: هو الرجل الذي يلم بالفاحشة ثم يتوب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمم من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود. قال: فذلك الإلمام.إ.هـ. قلت وآية (الفرقان) تشهد لهذا المعنى؛ فإنها ذكرت الشرك والقتل والزنا، ثم عقبت عليه بتبديل السيئات حسنات بالشرط المذكور.
سيئة أدخلت صاحبها الجنة ..!
فمتى ما أقلع المسلم عن الذنب، وتاب منه توبة نصوحاً وتبدلت حاله إلى حال أُخرى من الإيمان والصلاح غفر له واستحال ذنبه – وإن كان كبيراً – حسنة: حسنة الثواب وحسنة الحال. ومما ينسب إلى سعيد بن جبير قوله: (دخل رجل الجنة بمعصية ودخل رجل النار بحسنة. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: عمل رجل معصية فما زال خائفاً من عقاب الله من تلك الخطيئة فلقي الله فغفر له من خوفه منه تعالى. وعمل رجل حسنة فما زال معجباً بها ولقي الله بها فأدخله النار)إهـ. ومصداق ذلك قوله Y: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60). في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات).
فالذنب إن كان سبباً للانكسار بين يدَي الجبار، ووسيلة للاستثمار في سوق الاستغفار (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات). بشرط أن تجعله لمماً فيكون سُلَّماً. وإلا كنت تحت طائلة (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:81).
وبهذا الشرط قلنا ونقول:
- الخطأ جزء من معادلة الصواب..
- والخطيئة جزء من معادلة الثواب..
- والمشكلة جزء من معادلة الحل.
وقلنا أيضاً:
- ليس أمامنا إلا أن ننجح أو ………… أو ننجح!
- نحن ندرك جيداً أن الفشل جزء من معادلة النجاح.
أليس الخطأ يستفيد منه العاقل فلا يقع فيه أُخرى. وكذلك الخطيئة تورث السعيد عظة وذكرى. ولولا المشكلة ما اشتد العود، وتفتقت الأذهان، وكانت التجربة والمهارة والخبرة على أعلى مستوى. فهذه كلها – بشروطها – وسائل متقدمة في التربية والمران على الخلق الحسن والسلوك القويم. وانظر إلى أبيك آدم u وعدوه إبليس في موقفهما من المعصية، واتخذ مسلك أبيك منهجاً تكن على جادة النجاة. وتأمل كيف كان بعد المعصية خيراً منه قبلها!
بل قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب”. فلما سئل عن ذلك أجاب: “حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم “. وفي لفظ “إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ فى الإسلام من لا يعرف الجاهلية”. قال شيخ الإسلام: “ومن نشأ فى المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ماعند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم”. ومصداق هذا موقف أهل السنة البعيدين من الشيعة تجاههم؛ يظلون يهونون من شأنهم، ولا يستفيدون كثيراً من تحذير من مارسهم حتى يقعوا في شرهم. والهلاك الذي فيه العرب اليوم ليس بقليل؛ وذلك نتيجة عدم معالجتهم (معايشتهم) الشيعة وضعف معرفتهم بحقيقتهم. ويؤيده ما رواه الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني).
بين مبدأ ( الكمال التربوي ) و ( التكامل التربوي )
مع أن مبدأ (التكامل التربوي) واضح وحاضر في القرآن والسنة، إلا أنه غائب عن مناهج التربية الحديثة، كما أنه غائب عن منابر الوعظ والخطب والدروس الدينية. وإنْ ذُكر فعرضاً دون تعمق وتركيز وتثبيت كمفهوم أساسي وقاعدة تربوية رصينة يحتاجها الفرد كما يحتاجها المجتمع في صلاحه، وتحتاجها المؤسسات في تماسكها الجمعي ودورها القيادي.
إن المناهج والمنابر تعتمد مبدأ (الكمال التربوي)، أي التربية بالحسنة دون السيئة، وتعرض لسيرة العظماء مغفلة إغفالاً تاماً ما يمكن أن يشوبها من حالات ضعف. فعادة ما يمر الواعظ أو الخطيب أو المربي بهذا الحديث: روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها، فأمُرْه أن يعطيني حتى أُقيم حائطي بها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطها إياه بنخلة في الجنة)، فأبى. فاتاه أبو الدحداح فقال: بِعْنِي نخلتك بحائطي (وكان به ستمئة نخلة)، ففعل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلمفقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتُكَها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم مِن عِذق رداح لأبي الدحداح في الجنة)، قالها مراراً. قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها([1]). فيروي الواعظ شطره الثاني الخاص بأبي الدحداح، ضارباً الذكر صفحاً عن الرجل الأول الذي أبى معروض النبي e. أو يمر به سريعاً دون تأمل أو استفادة.
لكن القرآن العظيم له شأن آخر ومنهج مختلف، فهو يذكر الصورة بجزءيها: القوة والضعف. وقد طبق هذا المنهج مع خيرة الخلق وهم الأنبياء عليهم السلام بدءاً بآدم ومروراً بموسى وداود وسليمان وختاماً بسيد الأنام عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام. وذكر الصحابة رضي الله عنه طبقاً للمنهج نفسه.
انظر إلى سورة (الأنفال) وهي تقص علينا معركة (بدر)، وما من شك في أن الصحابة الذين خاضوها هم خيرة الصحابة طراً، كيف بدأت فكانت أول آية فيها عن اختلافهم حول الغنائم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال:1). روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ: “فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ، يَقُولُ: عَلَى السَّوَاءِ”([2]). ووردت روايات أُخرى فيها تفصيل أكثر: “فَلَمَّا يسر الله الْفَتْح اخْتلفُوا فِيمَا بَينهم وَتَنَازَعُوا فَقَالَ الشبَّان: نَحن الْمُقَاتِلُونَ. وَقَالَ الشُّيُوخ وَالْوُجُوه الَّذين كَانُوا عِنْد الرَّايَات: كُنَّا ردْءًا لكم وَفِئَة تنحازون إِلَيْهَا إِن انْهَزَمْتُمْ، فَنزلت الْأَنْفَال”. رواه أبو داود. فلماذا يذكر الله جل وعلا مثل هذا لولا أن فيه حكمة وفائدة، وأن هذا لا تكتمل دون بيان الصورة بجزءيها.
عندما ينظر المسلم في الأجيال اللاحقة أن جيل القدوة لم يكن بمنأى عن حالات تلم به يضعف فيها أو يخطئ أو يذنب، يكون بمنجى عن النظرة الدونية إلى ذاته، بل تزداد ثقته بنفسه أن يسمو بعد دنو وينقى بعد شوب، وأن أمامه فرصة لأن يكون شبيهاً بهم فيكون من (السابقين) الذين وصفهم الله تعالى فقال: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) (الواقعة:14،13). فما زال (السابقون) يخلف بعضهم بعضاً في كل عصر وكل جيل.
[1] – رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني. وللقصة أصل في (صحيح مسلم) من حديث جَابِرِ بْنِ رضي الله عنه قَال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ e عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ. وفيه: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ). أَوْ قَالَ شُعْبَةُ لأَبِي الدَّحْدَاحِ. والرداح: العظيم الثقيل.
[2] – قال الهيتمي: رجاله ثقات. وأشار أحمد شاكر في مقدمة (عمدة التفسير) إلى صحته.
حضور مبدأ ( الكمال التربوي ) في مناهج التربية .. وغياب مبدأ ( التكامل التربوي)
حضور مبدأ ( الكمال التربوي ) وغياب مبدأ ( التكامل التربوي )
إن الاقتصار على ذكر جوانب القوة في سيرة العظماء دون جوانب الضعف له آثار تربوية ضارة تنعكس على الفرد وعلى المجتمع وعلى المؤسسة في مسارها القيادي على جميع الصعد. منها:
- النظرة التقديسية للعظماء فتنقطع رابطة الاقتداء بهم؛ لأن المقدس ليس من جنس البشر. ولا تتم علاقة الاقتداء بين اثنين من جنسين مختلفين.
- النظرة الدونية للذات: فرداً ومجتمعاً. واعتقاد عدم القدرة على بلوغ حالات العظماء، أو القدرة على قيادة الأتقياء؛ فأنا أخطئ وأذنب على عكس أولئك. وهي مانع من الترقي الذي يقوم على الثقة بالنفس.
- إن هذا ينشئ تصوراً خاطئاً يقوم على أن من ينتابه ضعف – وإن قل – لا يصلح للقيادة. فالقيادة لا تكون إلا لطراز من الناس بخواص عالية تلامس القداسة. ولأنه ما من قائد في الواقع كذلك، وما من قائد نعايشه إلا ونلحظ فيه ضعفاً؛ إذن هو لا يصلح للقيادة. فتضعف الثقة بالقائد، وتنهار المؤسسة.
وهذا سبب رئيس في ظاهرة كفر الأقوام بالنبي المعاصر مع إيمانهم بالنبي الغابر. فالعرب يؤمنون بإبراهيم ويكفرون بمحمد! رغم أن محمداً e أعظم من إبراهيم u! لماذا؟ لأنهم أضفوا من خيالهم على النبي القديم الذي لم يروه صفات فوق صفات البشر، فلما بعث النبي الجديد، الذي يعيش بينهم فيرونه على صفاته التي هو عليها، ولم يجدوا فيه تلك الصفات كفروا به قائلين: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (الفرقان:7). فهم يعتقدون أن النبي لا ينبغي أن يأكل الطعام، وهو أرقى من أن يخالط الناس. وله من خوارق العادات ما له. وهي قضية قديمة ضاربة بجذورها في أغوار التاريخ: (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (إبراهيم:11،10). وقد رد عليهم القرآن أوهامهم هذه وأمثالها بأن النبي من جنس البشر في عدة مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) (الكهف:110)، (فصلت:6).
وإذ حسم القرآن هذه القضية بالنسبة للأنبياء ب، حوَّل الناس نظرتهم التقديسية إلى القادة والعظماء الذين لم يروهم فأضفوا عليهم من الصفات ما يعجز عنه أمثالهم ممن يعيشون بينهم فيرونهم على صفاتهم التي هم عليها. فتكون النتيجة ضعف الثقة بالقائد المعاصر. والثقة بالقائد مِن أُسُـس نجاح المؤسسة صغرت أم كبرت؛ فيؤدي ذلك إلى ضعفها وتفككها. ولا يجد القائد وسيلة غير القوة لانصياع الناس، وإلا كان مصيره الفشل؛ ومن هنا ينشأ الاستبداد والطغيان. وما دامت القوة بيد القائد أو الزعيم فالناس ينقسمون إزاءه ثلاثة: مغفل ومداهن ومحبط. فالمغفل يقول في نفسه: أليس القائد يملك من الصفات كذا وكذا ما يفوق به البشر؟ وفلان قائد؛ إذن هو يملك تلك الصفات. فينتهي به الحال إلى أن يصير بوقاً وآلة للتصفيق والصفير لـ(عظمة) القائد التي لا وجود لها خارج نطاق خياله الخصب. وقد يصدق الزعيم ما يزعمه فيه الناس بحكم التكرار فتكتمل حلقة الاستبداد والاستعباد.الشيء نفسه يفعله المداهن والمنافق لكن دون اعتقاد. وأما المحبط فيعتزل هؤلاء جميعاً آيساً منكفئاً على ذاته. يجتر التاريخ قائلاً: أين أنت يا عمر؟ اخرج من قبرك يا صلاح الدين! القدس تبكيك، وبغداد تناديك.
ويرتقي الخطيب المنبر فيقول: أين نحن من أولئك؟ وقد يكون كلامه أكثر مباشرة وجلداً فيتوجه بالكلام إلى الحاضرين: أين أنتم من أولئك؟ ويذكر صلاح الدين الأيوبي فيصفه بأعلى الأوصاف حتى يدعي أنه لم يبتسم قط، فإذا سئل أجاب: كيف أبتسم والمسجد الأقصى يئن في الأسر! وأنه عند موته أخرج جراباً فقال: هذا من غبار المعارك، اصنعوا منه لبنة وضعوها تحت رأسي في اللحد! ويدور حوار بين السامع وبين نفسه يخلص منه قائلاً: أنى لي بذلك! وفلان الذي يقودني يضحك رغم مآسينا؛ نحن لا يصلح للقيادة.
الحقيقة أنه لا أحد يمكنه أن يبلغ هذا الشأو، ولا صلاح الدين! ولا مطلوب منه ذلك: لا شرطاً للصلاح ولا للقيادة. وهل تعلم أن صلاح الدين هذا الرجل العظيم شرب الخمر في مرحلة من حياته ثم تاب؟ كما ذكر عنه المؤرخون ذلك، منهم الذهبي في (سير أعلام النبلاء). وأضاف: “كان محبباً إلى نور الدين يلاعبه بالكرة “. وليس ذلك بضائره ما دام أنه تاب وأصلح وعمل من الأعمال ما سبق به كثيراً ممن لم يشرب الخمر ولم يَلْهُ بالكرة. وفي ذلك درسان: درس إيمان وعبادة لكل المقيمين على ذنب أن هلموا فأقلعوا، وهذه معارج الصعود أمامكم فتسلقوها، فلن يقف في وجوهكم ذنب تريدون التوبة منه أن تبلغوا مدارج السالكين. ودرس نصرة وقيادة أن التفوا حول من غلب عليه الصلاح وحاز الكفاءة من قياداتكم فليس الوقوع في اللمم مانعاً من بلوغ القمم. كما أن الميدان مفتوح واسعاً أمامكم فإن شئتم فادخلوه ونافسوا فيه من تشاءون.
فأي المنهجين أقرب إلى منهج القرآن الكريم؟ وأيهما أقرب لإصلاح النفوس وإعداد الشخوص: المنهج الأحادي أم المنهج التكاملي في التربية؟
هل أنت معي الآن في هذه المعادلات الأربع:
الخطأ جزء من معادلة الصواب..
والخطيئة جزء من معادلة الثواب..
والمشكلة جزء من معادلة الحل…
والفشل جزء من معادلة النجاح؟
ثالثاً : رعاية الإيمان
ثالثاً : رِعَايَةُ الإيمَان
- مجاهدة النفس
- . العمل بالعلم
- المداومة على العمل
نبضات الإيمان وومضاته
والتقوى قد تكون نبضة في قلب كافر تنبع من نقطة خير فيه، أو ومضة أمام عينيه تشرق في لحظة فتضيء كيانه كله فتكون الهداية، ما لم يعترضها مانع من كبر أو شهوة وما شابه. فالقرآن الكريم فيه طاقة قادرة على تحريك الحجر الأصم كما قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21)، فما بالك بإنسان له قلب من لحم ودم؟!
فهذا جبير بن مطعم – عندما سمع الرسول يقرأ سورة (الطور) بمكة – يصف نفسه في تلك اللحظة (وهو ما يزال على شركه) فيقول: (فكاد قلبي يطير)!
ووصف Y وفد النجاشي إلى النبي e فقال: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83،82). وهناك أمثلة لنبضات وومضات عارضات تحولت إلى حالة دائمة. كما آمن عمر بن الخطاب t عندما سمع آيات من سورة (طه)، وقد تهيأ قلبه عندما رق لمنظر الدم يتدفق من وجه فاطمة أُخته وقد ضربها بكفه! أما بعد الإسلام فتلك حال أُخرى أسمى وأرقى! لقد تحولت الومضة إلى إشراقة شاملة، والنبضة إلى طاقة فاعلة وحياة دائمة.
يسمع t رجلاً يتهجَّد في الليل ويقرأ سورة الطُّور، فلما بلغ قوله جل وعلا: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (الطور:8،7) قال: قَسَمُ حقٍّ ورب الكعبة، ثم رجع إلى منزله فمَرِض شهراً، يَعوده الناس ولا يدرون ما مرضه، ما به إلا الخوف من الله!
وما أجمل قول ابن الجوزي حين يقول: (يا عجباً لخوف عمر مع عدله، وأمنك مع ظلمك)! ويا سعادة من استثمر هذه النبضات لتحويلها من حافز في لحظة عارضة إلى محرك مستمر لحالة دائمة!
بين الومضة العارضة والإشراقة النابضة
قد تتحول الومضة العارضة إلى إشراقة شاملة، والنبضة المتلاشية إلى حياة دائمة، بحيث يكون لقلب المؤمن في كل لحظة نبضة مفعمة بالحيوية والعافية، وله عند كل غمضة ومضة تجمل الآفاق بالإشراق. عند ذلك تتحول الأشياء كلها من حوله إلى مادة للعِبرة، ومصدر للفكرة!
يمر أحدهم وهو في السوق من أمام فرن للخبز، فيرى النار وكيف تشوى بها الأقراص، فيتغير لونه وتختلج قدماه. فيسأله صاحبه: ما بك؟ فيجيبه: أما ترى؟! تخيل نفسك لو أنك الآن تشوى مكان الخبز! فكيف بنار جهنم؟!
ويذهب رجلان في حاجة إلى نداف فيدخلان عليه وبيده آلته يندف بها كوماً من القطن، فيأخذ أحدهما بالبكاء. فيعجب صاحبه ويسأله ما الذي يبكيه؟ فيقول له: أما تسمع يا أخي ماذا يقول لي المِندف؟ فيحتار صاحبه فيسأله ثانيةً: وماذا تقول لك هذه الآلة الصماء؟ قال: ألا تسمع صوته؟! إنه يقول لي: “تُب.. تُب.. تُب…”! يقصد الصوت الذي يصدره المِندف حين يستعمله النداف، وهو شبيه بكلمة “تب” مكررة.
وتذكرت صوت القلب عندما نتحسسه بالسماعة: “لُب.. تُب … لُب.. تُب…”: هذا هو صوته. أليس (اللب) هو القلب؟!].
هذا وربنا جل في علاه ينادي ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم:8). فهنيئاً لمن استجابوا فتابوا! ولكن كم من الخلق يصم أذنيه، ويُختم على لبه فلا يجيب؟! والمهم كيف نثير الومض ونبعث النبض؟ وكيف نحولهما في داخلنا إلى إشراق نابض دائم؟ ينير النفس ويمدها بالطاقة ويزكيها، ويفيض على الآفاق فيبهجها ويحييها. فإليك ذلك:
وسائل الرعاية
- مجاهدة النفس
- العمل بالعلم
- المداومة على العمل
ومن أهم وسائل رعاية الإيمان وتعهده مجاهدة النفس ومراقبتها ومحاسبتها، التغذي على مواد الإيمان والمداومة عليها، والعمل بالعلم:
- مجاهدة النفس
وذلك بأن يجاهد المرء رعونات نفسه ويتعهد قلبه، فيطهر المحل من المانع المخل، وهو سعار الشهوة وخفيها، ونُثار الشبهة وطَميها. ثم يستمر بمساقاته وتغذيته بمواد الإيمان، ومحققات الإحسان. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69). مع دوام المراقبة وتخولها بالمحاسبة.
- العمل بالعلم
تثبيت العلم في القلب لا يكون بغير العلم به. بل العمل بالعلم ينميه ويزيده علماً جديداً وعملاً مديداً. ومصداقه قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (النساء:66-68). وقوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17). وقوله: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:17،16).
قال شيخ الإسلام (التحفة العراقية:): فَمن عمل بِمَا علم أورثه الله علم مَا لم يعلم. واستدل بهذه الآيات ثم قال: وشواهد هَذَا كَثِيرَة فِي الْكتاب وَالسّنة.
وَكَذَلِكَ من أعرض عَن اتِّبَاع الْحق الَّذِي يُعلمهُ تبعاً لهواه فَإِن ذَلِك يورثه الْجَهْل والضلال حَتَّى يعمى قلبه عَن الْحق الْوَاضِح كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (الصف:5). وَقَالَ تَعَالَى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)… وَلِهَذَا قَالَ من قَالَ من السّلف كسعيد بن جُبَير: إِن من ثَوَاب الْحَسَنَة الْحَسَنَةَ بعْدهَا وَإِن من عُقُوبَة السَّيئَة السَّيئَةَ بعْدهَا. وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن مَسْعُود t عَن النَّبِي e أَنه قَالَ: (عَلَيْكُم بِالصّدقِ فَإِن الصدْق يهدي إِلَى الْبر وَإِن الْبر يهدي إِلَى الْجنَّة وَلَا يزَال الرجل يصدق ويتحرى الصدْق حَتَّى يكْتب عِنْد الله صديقاً. وَإِيَّاكُم وَالْكذب فَإِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور وَإِن الْفُجُور يهدي إِلَى النَّار وَلَا يزَال الرجل يكذب ويتحرى الْكَذِب حَتَّى يكْتب عِنْد الله كذاباً. فَأخْبر النَّبِي e أَن الصدْق يسْتَلْزم الْبر وَأَن الْكَذِب يسْتَلْزم الْفُجُور.
- المداومة على العمل
للإيمان مادته التي يتغذى عليها وينمو بها، وقد لا تكون متوفرة ابتداءً في القلب، فيمكن اكتسابها بالمران عليها وتكلفها والمداومة على ذلك. روى الطبراني وحسنه الألباني عن أبي الدرداء t قال: قال رسول الله e: (إنما العلم بالتعلم، ووإنما الحلم بالتحلم). وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاساً مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ e فَأَعْطَاهُمْ. ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ. حَتَّىٰ إِذَا نَفِذَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: (مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللّهِ. وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللّهُ. وَمَنْ يَتصبرْ يُصَبِّرْهُ اللّهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ) متفق عليه. فقد لا يكون المرء عفيفاً عما في أيدي الناس فيحمل نفسه على قطع التعلق به والامتناع عن قبوله فيكون عفيفاً مستغنياً بالله عنهم. ولا يكون المرء صبوراً فيكون كذلك بتكلف صفة الصبر وتعاطيها وحمل النفس عليها. وهذا يعني أن الأخلاق قابلة للتغير. والطبع، إن لم يكن قابلاً للتغيير، فهو قابل للتعديل. والنفوس تستجيب للترويض. وبذلك صرح ابن قيم الجوزية في كتابه (الجواب الكافي والدواء الشافي).
ومن الطرق العلمية السهلة في اكتساب الصفات العلية وتذليل صعوبات اكتسابها، التركيز على مادة إيمانية واحدة والمداومة عليها، فيجد المسلم نفسه قد اكتسب بقية الصفات. فإن مواد الإيمان كـ(الأواني المستطرقة)، وهي التي تختلف في أشكالها لكن تتصل من أسفلها؛ فمهما سكبت الماء في واحدة انتقل إلى بقية الأواني وبالمستوى نفسه الذي صار عليه في الآنية الأولى. وإلى هذه الطريقة البديعة أشار شيخ الإسلام بقوله في (التحفة العراقية في الأعمال القلبية): كَانَ بعض الْمَشَايِخ إِذا أَمر متبعيه بِالتَّوْبَةِ وَأحب أَن لَا ينفر ويتعب قلبه أمره بِالصّدقِ. وَلِهَذَا يكثر فِي كَلَام مَشَايِخ الدّين وأئمته ذكر الصدْق وَالْإِخْلَاص حَتَّى يَقُولُوا: قل لمن لَا يصدق لَا يَتبعني وَيَقُولُونَ الصدْق سيف الله فِي الأَرْض مَا وضع على شَيْء إِلَّا قطعه وَيَقُول يُوسُف بن اسباط وَغَيره مَا صدق الله عبد إِلَّا صنع لَهُ. وأمثال هَذَا كثير.
الإيمان بالقدر
( 5 )
الإيمَانُ بِالقَدَر
أولاً: بين القدر والسبب
1. القدر وحرية الاختيار 2. علم الله والقدر 3. بين الجبرية والقدرية |
ثانياً: المقصود الإيماني بالقدر
1. غرس الأمل وحفز العمل 2. ثواب الحسنة وثواب السيئة 3. القدر ثواب لا عوض عن السبب |
|
ثالثاً: القدر والنصر
1. النصر قدر الرب لا سبب العبد 2. سببٌ يدعى .. وقدرٌ يرعى 3. الشيعة إلى زوال |
أولاً : بين القدر والسبب
الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان في الإسلام، كما ثبت عن النبي t في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري عن سيدنا عمر بن الخطاب t، والمعروف بحديث جبريل.
وهو ثابت في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كما في قوله جلّ وعلا: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:49-53)، وقوله: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:1-3)، وقوله: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان:2)، وقوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة:284)، وقوله: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا) (الأحزاب:38).
ونعني بــ(القدر) أنه ما من حركة ولا سكنة تحدث في الكون، ولا يوجد من شيء إلا بعلم الله تعالى، ومشيئته: أمراً أو إذناً. وحادث له بخلقه على القدر الذي يحقق الحكمة من خلقه. وتتجلى أو تكمن فيه عظيم حكمته وأسرار صنعته. ومكتوب عنده في اللوح المحفوظ قبل أن توجد الأملاك وتدور الأفلاك. وأنه لو شاء الله أن لا يكون شيء فلا يكون مهما حاول غيره من أسباب، واتخذ سواه من سبل.
- القدر وحرية الاختيار
القدر لا يتناقض مع حرية اختيار البشر؛ فقد شاء الله تعالى بحكمته أن يكون للإنسان حرية القبول والرفض، والقدرة التامة على العمل والترك، فيما أُمر به ونهي عنه. وهذه الحرية والقدرة الذاتية محكومة بقدر الله تعالى وليست خارجة عنه، من حيث إطلاقها ومن حيث تقييدها.
أما الإطلاق فقد اقتضى عدله وأُلوهيته سبحانه أن يكون العبد حراً فيما يأتي وفيما يدع. كمن يطلق يد الشغال في مزرعته يفعل فيها ما يشاء برغبته، ولكن ضمن دائرة المراد المعلوم بسابق معرفته. فهذا الإطلاق ليس خارج إرادة السيد أو المالك.
بهذا الفهم نضع – مثلاً – قول ابن عطاء السكندري رحمه الله موضعه: “سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار”. وبذلك يتوازن العدل بالقدر، ويزول وهم الجبر الذي وقع في حبالته جِبِلٌّ كثير من ضُلّال البشر. وإذا أردت أن أخيل لك الأمر على شكل صورة، فإن العدل يكون بمثابة الصورة التي في الداخل، والقدر هو إطارها الذي يطوقها ويجملها من الخارج. فهو عدل ضمن دائرة القدر. أو عدل متوافق مع القدر.
وأما التقييد فقد اقتضت عظمته وربوبيته قدرتَه تعالى على إعانة عبده ودفعه، أو تعطيل سعيه ومنعه من البلوغ بأسبابه غايته من مراده. ولولا ذلك القيد لجاءت كل النتائج مطابقة لمقدماتها: سلباً وإيجاباً.
وهذه القدرة ليست ملغية لإرادة العبد وترتب نتائج فعله على مقدمات أسبابه. فقد شاء الله تعالى أن يلقى كل عامل جزاء عمله من جنسه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. كما قال Y: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) (الإسراء:18-20).
وقد يتدخل الرب بحكمته فيدفع أو يمنع؛ وذلك عقوبة أو مكافأة. وقد تكون العقوبة منعاً وإيلاء، أو استدراجاً وعطاء. وكذلك المكافأة: فقد يمنعك الله تعالى ما يضرك وأنت تريده، وقد يمنحك ما تريده وما لا تريده ويزيده.
وبذلك تكون الحكمة قرينة القدر. ومن هنا ينبع الرضا، ويدرك العبد أن الخير كل الخير في الصبر، وأن الراحة في التسليم، والفرح في التفويض.
وما أجمل أن نذكر هنا قول ابن عطاء السكندري: “ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك”. وقوله: “متى فتح باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء”!
- علم الله والقدر
أما علم الله تعالى بمقادير الخلائق من الأزل إلى الأبد، وعلاقته بحرية العبد فملخص في العبارة التي تقول: (علم الله سابق لا سائق). فالله تعالى يعلم ما كان وما يكون، ليس بينه وبين الغيب حجاب، فما مضى وما يمضي وما سيمضي واحد في علم الله. وهذا من لوازم ربوبيته، ومقتضِيات ألوهيته.
يمثل بعضهم هذا التوحد بين الأزمان الثلاثة، وأنها ليست أكثر من ثلاث نقاط في خط واحد هو الزمن، أو كمحطات ثلاث في طريق طويل، بشخصين ينظران إلى هذا الخط من مكانين مختلفين: أحدهما على متن طيارة في السماء، فهو يرى خطاً واحداً فيه محطات ثلاث ويعلم ما يدور فيها، والثاني يقود سيارة على الأرض وقد وصل إلى المحطة الوسطى، فالمحطة الأولى بالنسبة إليه ماضٍ، والثالثة مستقبل، وأما الحاضر فتمثله المحطة التي هو فيها. فيكون الخط بالنسبة إليه مقطعاً أو مقسماً. بينما ليس عند راكب الطيارة هذا التقسيم؛ إذ المحطات بالنسبة إليه كلها على خط واحد هو الحاضر ويرى الأحداث الواقعة ويرصد الحركات الجارية على الأرض في وقت واحد دون فصل، غير أنه شاء أن لا يتدخل فيها إلا في حالات معينة تستدعيها حكمة بينة. فعلمه – والحالة كما وصفت – لا دخَل له بما يجري دفعاً ولا منعاً.
ويمثل غيره علم الله السابق وكيف أنه لا شأنه له بالجبر، ولا تأثير على حرية الاختيار بمعلم ذكي يعرف تلاميذه جيداً. فقدّر حسب علمه وخبرته وكتب في دفتر له أن فلاناً سينجح حائزاً المرتبة الأولى على صفه، وفلاناً سيكون الثاني، وكتب أيضاً أسماء من سينجحون نجاحاً عادياً. وفي الوقت نفسه كتب أسماء الراسبين. وقد بذل ما عليه من جهد في تعليمهم وحثهم على الجد والاجتهاد وحذرهم عاقبة الكسل والتقصير. حتى حل يوم الامتحان، وظهرت النتائج. فمن المقطوع به أن المعلم كلما كان أكثر ذكاء وخبرة كانت النتائج أكثر مطابقة لما قدّر وكتب. فإذا افترضنا أن ذكاءه وعلمه في غاية الاكتمال فإن النتائج وتقديرها سيتطابقان تماماً! والسؤال الأهم هو: هل علم المعلم هذا وسابق كتابته له دخل في نجاح من نجح ورسوب من رسب؟ وهل يتناقض هذا مع تكريم المتفوق ومعاقبة المتخلف؟ هكذا الحال – ولله المثل الأعلى – مع علم الله تعالى.
إذن علم الله المطلق عن قيود الزمن وتقسيماته لا تأثير له في تغيير عمل العبد ونتائجه؛ فعمله يجري حسب إرادته بكامل حريته.
- بين الجبرية والقدرية
في غياب هذا الفهم الشمولي المتوازن لعقيدة (القدر) اشتط قوم فقالوا بــ(الجبر)، وبنوا على ذلك عملهم، لا سيما ما تعلق منه بالعبادة والجهاد، فقعدوا. وتطرف من هؤلاء بعض المخذولين فتركوا طلب الهداية من الأصل؛ متعللين بقول المشركين الذي حكاه الله تعالى عنهم فقال: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (المائدة:148). وعارضهم قوم فعكسوا قولهم فدانوا بنفي القدر أصلاً، وقالوا بحرية الإنسان مطلقاً، وقد عرف نفاة القدر هؤلاء بـ(القدرية).
لقد خسر الفريقان كلاهما: فالجبرية تركوا العمل بالشرع، وخالفوا حكم العقل، وكانوا أشبه بالمشركين. والقدرية حرموا رعاية الله تعالى وتوفيقه لهم، وفقدوا الاطمئنان إلى كلاءة الرحمن، وصاروا أقرب إلى المجوس من حيث أنهم نصبوا لأفعالهم خالقاً مع الله. ولم يدرك كلاهما أن الأمر وسط بين طرفين، وضاقت قلوبهم عن الجمع بين الأمرين.
ثانياً : المقصود الإيماني بالقدر
ثانياً : المقصود الإيماني بالقدر
وفاز بالحقيقة العارفون، وأفلح بالحق المؤمنون الموقنون. وذلك يتضح أكثر بما يلي:
- غرس الأمل وبعث العمل
إذ لم يجدوا كالإيمان بالقدر غارساً للأمل، وحافزاً للعمل، وباعثاً للجهاد ومقارعة الأوغاد! مع الأمان والاطمئنان إلى موعود الله بأجره ونصره.
فالإيمان بأن الأجل محدود والرزق معدود، لم يؤد بهم إلى القعود، بل جعلهم يندفعون في سبيل قضيتهم غير هيابين ولا وجلين؛ ما دام الحافظ والرازق هو الله! وفي الوقت نفسه يتخذون من الأسباب ما تيسر باذلين فيها طاقتهم، موكلين ما تبقى على الناصر الرازق: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (الملك:21،20).
روى أصحاب الرقائق أن صياداً رمى شبكته في نهر، ولما سحبها وجدها ثقيلة جداً! ما هذا؟ سمكة كبيرة؟ ودفع بزورقه باتجاه الشاطئ وهو ينوء بحمله الثقيل. وكانت المفاجأة عندما اكتشف أن صيده لم يكن سمكة كبيرة، إنما هو جثة رجل! ونظر فوجد وجهه يشي بعلامات للحياة وكأنه غرق تواً. وضع الجثمان على الأرض ثم جرّب أن يسعفه بإخراج الماء من صدره، والنفخ في فمه، فإذا الحياة تعود إليه! وكانت أول كلمة ينطق بها: أنا جوعان، أنا عطشان؟ كان لدى الصياد كسرة رغيف تركها في جوف الزورق وشيء من الماء. تناول الغريق تلك الكسرة وشرب الماء، ثم… لوى رقبته وسقط أرضاً، فإذا هو ميت!
قد يقول قارئ: هذه قصص غير واقعية. وأقول: ليكن؛ ليس هذا هو المهم، إنما المهم هو المقصود الكامن وراء القصة. لقد بقي لهذا الغريق بقية من رزق لم ينلها، فعاد للحياة بهذه الطريقة الغريبة ليستوفي ما قسم له! عن أبي أُمامة t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلا يَحْمِلَنَّ أَحَدَكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلا بِطَاعَتِهِ)([1]). وفي الواقع ما هو أغرب وأعجب.
- ثواب الحسنة وثواب السيئة .. ما أعظم القدر ، ما أجمله ..!
الإيمان بالقدر يعني أن الله جل جلاله يعين المحسن برحمته فيبارك جهده ومساعيه، ويَمُد المسيء بعدله فينفذ ما يريده ويشتهيه، وقد يزيده فيُضله ويُرديه. فمن ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن جزاء السيئةِ السيئةُ بعدها.
إن هذا القانون يتردد ذكره كثيراً في القرآن الكريم. من ذلك قوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة:10)، (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17).
- نتائج الأقدار ليست ثمناً .. بل ثواب بلا حساب لسوابق الأسباب
ويعلمنا الإيمان بالقدر شيئاً أعظم وأنفع. إن نتائج الأقدار ليست ثمناً لسوابق الأسباب، وإنما هي جزاء القدر لمن عمل بالسبب، وثوابه لمن أخذ بهذا الأدب: إن خيراً فخيرٌ، وإن شراً فشر.
أين فعل العبد وسببه من فعل الرب وقدره ؟! ولكن في الأمر نكتة – بل نكت – ما أبلغها! وحكمة – بل حكم – ما أعظمها!
أ. تلك هي أن السبب مهما عظم فهو فعل العبد، وأن نتائج القدر أفعال الرب. وشتان شتان بين فعل الرب وفعل العبد! فالفرق بينهما كالفرق بين الرب والعبد لا يحويه الكلام، ولا تحيط به الأفهام!
ب. غيرَ أن في الأمر نكتة أُخرى هي أن القدر يستدعيه السبب، وأن السبب به نستجلب القدر؛ فقد رتب الله Y هذا على ذاك بحيث لا يكون قدر – إلا ما شاء الله تعالى بحكمته – يتعلق بتكاليف العبد ما لم يكن سبب من العبد إليه. كمن يدعو الله أن يرزقه الولد فعليه أن يتزوج أولاً ثم يرفع بالدعاء يديه. إذن عليك أن تستدعي الأقدار وتستمطر رحمة الله وأفعاله بما تأتي أنت أولاً من أفعال وتتخذ من أسباب.
جـ. ثم ينبغي أن ندرك شيئاً آخر في غاية الأهمية. فنحن حينما نتخذ الأسباب علينا أن نعلم ونؤمن أن نتائجها إذا باركها الرحمن لا تخطر في بال! بينما ضعيف الإيمان يحسبها حساب معادلة الأرقام. فيحجم ونتقدم، وييأس ونرجو. فنحن نتخذ ما استطعنا من أسباب، وإنما نتحدى أعداءنا بالأقدار. ولو كانت حسبتنا مادية بحتة ما تقدمنا خطوة؛ فقوتنا لا تقارب قوتهم، وأعواننا ما أقلهم، وما أكثر أعوانهم! لكننا نعلم أن النصر الذي نترقبه هو قدر الله تعالى وفعله، فإذا ابتغينا إليه الأسباب فاستجاب فمن يقوم له؟ ومن يقاوم فعله؟!
نحن نفهم قوله تعالى وأمثاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7)، نفهمه كالتالي: (تنصروا): هذا سبب. و(ينصركم): هذا قدر. وعندما نقارن بين سبب العبد وقدر الرب، نجد أن الفرق لا يقدر بحساب، ولا يقاس بأسباب! والله تعالى قدّر بحكمته وقضى بقدرته أن ينفخ الروح في سبب عبده حتى يكون أهلاً لتجليات قدره!
الأقدار ليست عوضاً أو ثمناً للأسباب، وإنما هي مكافأة وجزاء بلا حساب. كما أن الجنة ليست ثمناً للعمل أو عوضاً عنه، وإنما هي جزاء وسبب. أما الذي يدخلك الجنة ففضله ورحمته سبحانه، ولو حاسبك لأهلكك. يقول الرسول e: (لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ). قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا، وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا). متفق عليه. ولا يتعارض هذا مع قول الله Y وأمثاله من الآيات: (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السـجدة:19). فقد قال العلماء: إن الباء في قوله: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إنما هي باء الجزاء أو السبب، وليست هي باء الثمن أو العوض الذي هو مقصود الحديث الشريف.
[1] – رواه أبو نعيم في الحلية، وغيره، وصححه الألباني.
ثالثاً : النصر والقدر
ثالثاً : النصر والقدر
الأقدار ليست عوضاً أو ثمناً للأسباب، وإنما هي مكافأة وجزاء بلا حساب. كما أن الجنة ليست ثمناً للعمل أو عوضاً عنه، وإنما هي مكافأة وجزاء والعمل سبب وبُغاء.
وكذلك النصر على الأعداء؛ ليس هو عوضاً يساوي ما نبذل في سبيله من جهد، ونتخذ إليه من أسباب ونبتغي من وسائل. إنه هدية الله جل في علاه لمن أطاعه فنصره بما تهيأ عنده من سبب واصل يكفي ضمن شرط التوازن في معادلة الأقدار والأسباب، ولم ينتظر، والمعركة دائرة، حتى يكتمل الاستعداد، ويتم الإمداد بما يساوي استعداد الخصم ومدده.. أو يزيد. فالغيور من إذا سمع هيعة طار إليها بما في يده من سلاح. والسؤال المهم: ماذا ترى سيكون جزاؤه لو كان الصارخ ملكاً أو أميراً ممكناً له في الأرض؟
فكيف والداعي هو الله؟!
وفي ذلك يقول تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال:60) ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال:24).
على أنه لا ينبغي أن نفهم من ذلك جواز التهاون بإتقان العمل، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. وفي الهجرة الشريفة درس لنا بليغ. وبهذا نفهم قول الفاروق رضي الله عنه: (أنا لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدعاء)، أي أداء الدعاء بشروطه، فإذا فعلت ذلك كانت الإجابة. إلا لحكمة أو ذنب. وهذان السببان وراء تأخر النصر أو امتناعه.
النصر قدر الرب لا سبب العبد
إذن نحن ننتصر بالأقدار لا بالأسباب.
وهذا سر قوتنا، وحقيقة انتصارنا على عدونا رغم قلة عددنا وضعف عدتنا، وتفوق خصمنا بهذا وذاك علينا. إنما نستجلب الأقدار بالأسباب: لا ثمناً يكافئها، وإنما جزاء يناسبها.
وهذا يدركه أولو الألباب دون الدواب! فيشي المنافق المطموس البصيرة بنا، وينفَضُّ الخاذل الضعيف الإيمان عنا، ويطمع العدو فينا بما يرى من ضعفنا. أما نحن فنتخذ من الأسباب ما قدرنا ومن الوسائل ما علمنا، وتوكلنا على الله تعالى فخضنا المعركة بما استطعنا من إعداد، وقلوبنا مشدودة إلى الأفق الأعلى فمن هناك يأتي النصر ويتصل المدد. منه نبتدئ وإليه ننتهي (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود:123).
وفي مثل هذا يقول ابن عطاء السكندري: “مِنْ عَلاماتِ النُّجْحِ في النِّهاياتِ، الرُّجوعُ إلى اللهِ في البِداياتِ”. ويقول: “مَنْ أَشْرَقَتْ بِدايَتُهُ أَشْرَقَتْ نِهايَتُهُ”.
وما أعظم قول ربنا جل جلاله في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) رواه البخاري. وشتان شتان بين ذكر العبد وذكر الرب، فالله يجازي على ذلك الأمر البسيط هذا الأمر العظيم. وانظر إلى ذراع مقابل شبر! ولكن ذراع من هذا؟ إنه ذراع الرب، مقابل شبر من؟ شبر العبد! ولك أن تتصور عظم الجزاء مع صغر الأداء! فلو كان الذراع مقابل الشبر لكفى به ربحاً، فكيف والذراع ذراع الرب؟! والباع باعه، والهرولة هرولته؟! وكل ما خطر ببالك فالحقيقة خلاف ذلك.
وكذلك النصر يكون. فنحن نقدم شبرنا وننتظر ربنا. فلا تنظروا إلى قلة ما عندنا، ولكن انظروا إلى عظمة ما عنده!
سببٌ يُدعى .. وقدرٌ يرعى
ألا وإن إكسير النصر عندنا مركّبٌ من دواءين: سببٌ يُدعى، وقدر يرعى. وعلتنا في اثنين: متواكل ينتظر القدر بلا سبب يستدعيه، ومتخاذل ينظر إلى السبب بعيداً عن القدر فلا يأتيه.
نظروا بأعينهم إلى الأسباب – وأفئدتهم هواء – فرأوا العدو أقوى منهم فيئسوا وانخذلوا. وإنما المؤمن عينٌ وقلب. عينٌ على الأسباب، وقلب على الأقدار، فيقوى سببه بسر قدره، فيحارب عدوه بقدَر ربه فينتصر!
يقول تعالى: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:49). ويقول: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) (الفتح:12،11). ويقول: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) (الأحزاب:13،12). وغيرها من الآيات التي فضحت المنافقين، ومرضى القلوب من ضعاف الإيمان.
وتحضرني هنا صورة رويت عن النبي e بين أصحابه y وهم يحفرون الخندق وقد اعترضتهم صخرة استعصت عليهم فيستنجدون به فيأخذ المِعول وينزل إليها فيقول: (بسم الله)، ثم يضرب الصخرة ثلاث ضربات يتطاير الشرر مع كل ضربة وهو يقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إنى لأنظر إلى قصورها الحمر الساعة). ثم يضرب الضربة الثانية فإذا هو يقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض). ثم يضرب الضربة الثالثة فيهشم ما تبقى من الصخرة ليقول: (الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكانى هذا)([1])! حتى قال المنافقون: إن محمداً يعدنا بفتح فارس والشام وأحدنا لا يقدر على قضاء حاجته!
وكان الأسود بن عبد يغوث وهو ابن خال النبي e إذا رأى المسلمين قال لأصحابه استهزاء بهم: “قد جاءكم ملوك الأرض الذي يرثون كسرى وقيصر”!
لهذا نحن نعمل موقنين بالنصر.
لقد ابتدأنا مشروعنا في نصرة أهلنا من تحت الصفر، ولم نجنح إلى القعود لفراغ اليد؛ فإن الموت على نية صالحة خير من العيش آيسين. ولا رضينا السير مع القطيع؛ فليس مقصودنا المرعى وإنما الرعاية. ثم ما الفائدة من العمل في مشاريع نعلم أنها فاشلة؟ ماذا نقول لله؟ وقد فاتحت بذلك بعض النجباء فقال: إنك تحاول المستحيل: أين المال؟ وأين السند؟ وأين الأمن والمكان؟ فابتسمت وقلت في سري: سترى بعون الله كيف يكون المستحيل حقيقة! وهكذا كان. وإذا بمن قال مستحيل يلتحق بالركب فيكون من أوائله!
وإلى اللحظة نجد من النجباء من يرى استحالة الوصول فلا يجيب النداء!
انظروا إلى أفق القدر .. الشيعة إلى زوال
وبفضل معرفة العلاقة بين الأسباب والأقدار أدركنا نهاية إيران وشيعتها، وأن بقاءهم لا يطول، وبشرنا بذلك في زمن كان ما نقول أشبه بالخيال! وقلنا: الشيعة يتوسعون أفقيا ويسقطون عمودياً. وكان حالنا كحال الصدّيق يوم راهن المشركين على هزيمة الفرس أمام الروم في بضع سنين، في زمن كان الفرس يختالون فيه بالنصر حتى يقول الناظر: لا يغلبون!
بهذا وغيره من الأسرار اللطيفة والحكم الجليلة يتجلى لنا قول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (الْقَدَرُ نِظَامُ التَّوْحِيدِ، فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَآمَنَ بِالْقَدَرِ، فَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لا انْفِصَامَ لَهَا. وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ، فَإِنَّ تَكْذِيبَهُ بِالْقَدَرِ نَقْضٌ لِلتَّوْحِيدِ)!
فيا للهِ ما أعظمه! وما أجله! وما ألطفه!
[1] – رواه أحمد عن البراء بن عازب t.
تفعيل عناصر الإيمان لبناء المؤسسة وحمايتها من عوامل الهدم الداخلي
( 6 )
تَفعِيلُ عَنَاصرِ الإيمَانِ لِبِنَاءِ المُؤَسّسَةِ وَحمَايَتِهَا
( قِصةُ آدَم عليه السلام)
أولاً: أسس الخلافة في قصة آدم ثانياً : بين الخلافة والإمامة |
ثالثاً : إعداد الخليفة
رابعاً : الأخطار الداخلية التي تهدد الخلافة |
|
خامساً : أخطر عوامل الهدم الداخلي للمؤسسات أ. متى تظهر آثار الأخطار ب. العلاج |
هذا هو (الإيمان) الذي يبني شخصية الإنسان، وتقوم عليه الخلافة في الأرض، وتشاد المؤسسات الربانية، ويدخل به المسلم الجنة. وحتى نحافظ على هذا الإيمان في حياة المسلم: فرداً ومؤسسة، نحتاج إلى حمايته مما يضادده من عوامل النخر والهدم؛ وبهذا نحفظ للفرد دينه، وللمؤسسة كيانها.
إن تفعيل عناصر الإيمان في نفس المسلم أولاً، وتحريكها في مفاصل المؤسسة ثانياً، ضروري لبناء جسم المؤسسات وتراصها وتماسكها. وهو السبيل الوحيد لحمايتها من عوامل الهدم من داخلها. وهذا الأمر هو أحد مقاصد وأسباب اعتماد الإيمان أصلاً أساسياً في منهاجنا.
القرآن الكريم أولاً
وليس مثل القرآن الكريم شيء يحقق هذا المقصود. بشرط أداء حقه من التدبر، الذي هو من أعظم العبادات التي تتعلق بالقرآن؛ فعلاقتنا بهذا الكتاب العظيم في أساسها علاقة تدبر، أي تفكر وتملٍّ، نغوص من خلالها في أعماق البعد العمودي لكلماته التامات، قبل أن تكون علاقة قراءة نقطع فيها المساحة السطحية لصفحاته المباركات؛ فبذلك وحده يتم تفعيل عناصر الإيمان وتحريكها في خبايا النفس ومديات الآفاق. ونحمي مؤسساتنا وبيوتنا من عوامل الهدم التي تغزوها من داخلها. وهكذا يكون الإيمان، كما هو مادة البناء، غِراءً لتماسك لبنات البناء، ودواء يقيه ويقيها من عوامل النخر وأسباب الفناء.
ثم ليس الإيمان طاقة هائمة في فضاء ممتد بلا حدود، وإنما قوة فاعلة في بناء محدد مقصود، يشكل الأفراد المؤمنون لبناته الصالحة، ولكن مجتمعين في مؤسسة منتظمة، بصرف النظر عن حجم المؤسسة ونوعها، لا متفرقين بشكلهم الفردي فقط. والقرآن الكريم لدينا هو أساس الإيمان، ثم تأتي السنة شارحة مفصلة، في المرحلتين: مرحلة الفهم، ومرحلة تنزيل الفهم على موضعه من الأنفس والآفاق.
يقول تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7،6). فسبيل الهدى يعترضه طريقان مضللان: طريق المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون الحق ويخالفون، وطريق الضالين الذين لا يعلمون فلا يهتدون.
وتأتي سورة (البقرة) تفصل ما أجملته وأصلته سورة (الفاتحة)، فتحكي لنا في أول مشهد قصصي سيرة أول نموذج للمهتدين وهو أبونا آدم u، في مقابل أول نموذج للمغضوب عليهم وهو إبليس اللعين. ثم تستطرد في بيانٍ مُفصلٍ عن ورثة آدم وهم أمة الإسلام، في مقابل ورثة إبليس وهم أمة اليهود. بينما تقص علينا سورة (آل عمران) سيرة الضالين أي النصارى. وهذا يشير إلى أن الصنف الأول أخطر؛ فالاهتمام بمعرفة خصاله أولى. والسبب واضح، وهو أن الضلال مرض بسيط يزول بالعلم، بينما الغواية مرض مركب لا ينتفع صاحبه بالتعليم فحسب.
سورة ( البقرة ) سورة الخلافة وإقامة الدولة
لماذا وضعت سورة (البقرة) في أول القرآن الكريم – بعد سورة (الفاتحة) – مع أنها من أواخره خره نزولاً؟ تساؤل يخطر في البال كثيراً، ويرد على الألسن أيضاً، في حاجة إلى جواب.
عندما تنظر إلى هذه السورة الكريمة تجدها تضع منهاجاً متكاملاً لإقامة الخلافة في الأرض وإعمارها على النهج القويم، وتأسيس دولة قوية تمتلك جميع عناصر النصر والتمكين. وقد ابتدأت بالـ(هدى) المضاف إلى المتقين استجابة لدعاء (اهدنا) في سورة (الفاتحة)، واختتمت بـ(النصر) على القوم الكافرين. وبين البدء والختام كان المنهج الرباني الموضوع لإخراج تلك الدولة من عالم التبيين إلى عالم التكوين.
علينا أن نعلم إذن أن الإسلام إنما أنزل وحياً من السماء لإقامة دولة على الأرض، وأن أول واجبات قارئ القرآن أن يسعى لإقامة دولة الإسلام، وأن يفهم أن هذا الدين ليس دعوة مجردة أو عبادة منعزلة، ولا أهله مجموعة من الدراويش والعباد يتحكم فيهم الأشرار، ويصرف أمورهم الأغيار.
قصة أبينا آدم عليه السلام
اتبع القرآن الكريم في التعليم والتربية أساليب متعددة، منها حكاية القصص. وكانت أول قصة وردت فيه هي (قصة أبينا آدم u). وهي قصة كثيراً ما تمليتها فاكتشفت فيها جديداً. ومنه هذه المعاني التي تواردت على خاطري بسبب تحديات عرضت لي أثناء العمل، دفعتني للتفكر واستنباط منهجية راقية للتأسيس والبناء، وحماية هذا البناء من أسباب الهدم الآتية من داخله. وإليكم التفصيل:
أولاً : أسس الخلافة في قصة آدم عليه السلام
وإذ أراد الله تعالى لآدم أن يكون خليفة في الأرض، جاءت قصته لتضع لنا أسس الخلافة عامة والخلافة الراشدة خاصة. وهي:
- العلم: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة:31). فبالعلم تعرف أسرار الأرض وطرق إعمارها، ونفوس الناس وحاجاتهم وسبل سياستهم وقيادتهم. وبالعلم فضل الله تعالى آدم على الملئكة فسجدوا له. فالعابد الجاهل لا يحسن القيادة ولا يستحق الريادة. والعلم وتوابعه من الفكر المبدع أول صفات القائد وميزته التي بها يتقدم على أتباعه، وبها لا بغيرها يكون مؤهلاً لاستلام زمام الحكم.
شخص آخر فقط – إضافة إلى آدم – نصص القرآن على جعله (خليفة) هو نبي الله داود u وذلك بقوله: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (ص:26). وقد لفت الانتباه في سياق قصته قوله تعالى عنه: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) (الأنبياء:80). وفي هذا إشارة إلى نوع العلم الذي تحتاجه الخلافة في الأرض. ومنه العلم بالحرب وما تتطلبه من صناعات.
- الشورى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). لم يكن الله تعالى في حاجة لاستشارة أحد: الملئكة فمن دونهم ليفعل ما يريد؛ فهو (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الملئكة:23). وهو كما قال: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (الرعد:41). ومع ذلك لما أراد إيجاد مخلوق جديد يدخل عالم الملئكة أخبرهم بذلك: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). وسمح للملئكة أن تستفهم وتبدي رأيها بحرية تامة: (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ). وناقشهم سبحانه ليقنعهم دون إكراه، واستدل لإقناعهم بالدليل بنوعيه: النظري: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، والعملي: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة:31-33). ثم بعد أن حصلت القناعة جاء الأمر بالطاعة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا) (البقرة:34). فالآيات تعلمنا الشورى بأجلى وأرقى صورها!
- الأمر والطاعة: في قوله تعالى للملئكة: (اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا) (البقرة:34). وتتجلى الطاعة في خلافة الأرض فعلاً تؤديه الرعية تجاه الخليفة أو الحاكم. وهي الانعكاس الطبيعي للشورى. فالخليفة يستشير الرعية؛ هذا واجبه وحقهم. واالرعية تطيع الخليفة؛ وهذا حقه وواجبهم. ولا يستقيم الحكم ولا الدولة دون استشارة وطاعة.
- العدل: وهو تحصيل حاصل، وناتج مركب من الشورى والطاعة. فما التزم حاكم بالشورى إلا كان عادلاً، ولا يستقيم العدل إلا بالتزام الطاعة من قبل الرعية.
- المنهج الرباني: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38). وأرى أن تأخير (الهدى) والتمييز بينه وبين (العلم) مع أنهما من جنس واحد كان لمقصود عظيم ودقيق في الوقت نفسه. فخلافة الأرض بالعمران يمكن أن تقوم على هذه الأركان الأربعة: (العلم والشورى والطاعة والعدل)، وإن تجردت عن الشرع أو المنهج الرباني. لذلك قيل: “إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة”. واستُدل على ذلك بقوله Y: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود:117)([1]).
وبهذا تنقسم الخلافة إلى ثلاثة أنواع: خلافة راشدة، وخلافة عادلة، وخلافة فاسدة. فالخلافة الراشدة: تحكم بشرع الله. والعادلة: تحكم بالعدل لكن بشرع البشر. والفاسدة هي التي خرجت عن الشرع والعدل.
[1]– أي ما صح ولا استقام أن يهلك الله سبحانه أهل القرى بظلم يتلبسون به وهو الشرك، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي الحقوق لا يظلمون الناس شيئاً. والمعنى: أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده حتى ينضم إليه الفساد في الأرض، كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم، وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم الفاحشة الشنعاء. (الشوكاني/فتح القدير).
ثانياً : بين الخلافة والإمامة
ثانياً : بين الخلافة والإمامة
قال جل جلاله: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30)، وفي نص مشابه في السورة نفسها يشتبك معه بأكثر من علاقة يخاطب الله تعالى إبراهيم u قائلاً: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124). لكن لنا هنا ملاحظتين تأمليتين:
الأولى: أنه سمى آدم (خليفة) بينما سمى إبراهيم (إماماً).
والثانية: أنه قيد الخلافة بـ(الأرض)، بينما قيد الإمامة بـ(الناس). فكان آدم (خليفة في الأرض) في حين كان إبراهيم (إماماً للناس).
ولا بد أن يكون لهذا التفريق من فرق استدعاه.
عندما نتتبع كلمة (خليفة) نجدها وردت في الكتاب الكريم مرتين فقط: مرةً وصفاً لآدم u، وذلك في الآية السابقة، ومرة وصفاً لداود u، وذلك في قوله تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) (ص:26) وفي المرتين يرد تقييد الخلافة بالأرض. فلماذا هذا التقييد؟
ووردت كلمة (إمام) في الكتاب مرتين أيضاً: مرةً عن إبراهيم في الآية السابقة، ومرةً عن عموم المؤمنين في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74)([1]).
وفي المرتين علقت كلمة (الإمام) بالناس لا بالأرض: لكن في الأولى بعموم الناس، وفي الثانية بخصوص المتقين. فلماذا هذا التعليق؟
إن تقييد الخلافة بالأرض لأن الخلافة – والله أعلم – موضوعة أساساً لإعمار الأرض وتنميتها بأنواع الصناعات، وإقامة النظام وإدارته بأشكال الحكومات، وبناء الحضارة وترقيتها بأنواع الأفكار والأدوات. وهذا يستلزم وجود نوع من العمل المؤسسي من أجل تحقيق الغايات الموضوعة لها. لهذا أهبط آدم إلى الأرض لتكون محلاً لكل ذلك؛ فالجنة لا حاجة فيها لخلافة تقوم على الإعمار واختراع الأنظمة وغيرها من مستلزمات الخلافة.
ويلاحظ أن آيات سورة (البقرة) المتعلقة بالخلافة ركزت على العلم وابتدأت به: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة:31)؛ وسبب ذلك – والله أعلم – أن عمارة الأرض قوامها العلم قبل كل شيء. بينما ركزت آياتها المتعلقة بالإمامة على العمل وابتدأت به: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124)، وهي الأوامر والاختبارات، فلما اجتازها بنجاح استحق الإمامة. لأن الإمامة – وهي القدوة التي يؤتم بها – لا تكون إلا لمن عمل بعلمه. وأما من خالف عمله علمه فلا يكون إماماً؛ لهذا قال Y بعدها: (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). وقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
لكن لا تعتبر الخلافة شرعية ولا تكتمل إلا بالسير على هدى منهج رباني؛ لذلك قال سبحانه في سياق القصة: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة:38). وما لم تكن كذلك فهي خلافة باطلة منقطعة: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:39).
وهذا هو الذي استدعى أن يكون الشروع بعد هذه الآية مباشرة في بيان وجوه الخلل في الخلافة الفاسدة ممثلة ببني إسرائيل، مبتدئة بندائهم: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (البقرة:40). وممثلة بكل السائرين على خطى إبليس. ليصدق عليها وعليهم ظن الملئكة يوم قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). فقد تكون الخلافة فاسدة حين يتولى أمرها الفاسدون.
والخلافة الراشدة إذا تجردت من القدرة على إعمار الأرض وتولي حكمها كانت (إمامة) لا خلافة. أي قدوة في الخير يؤتسى بها وإن لم يكتب لصاحبها التمكين في الأرض ليكون خليفة. بمعنى أن الإمامة يمكن أن تنفصل عن الخلافة حين لا يحصل لصاحبها التمكين في الأرض كإبراهيم u؛ فهي إمامة لا خلافة. والرجل يكون قدوة في الخير ذا شأن كبير بين الناس، فإن لم يمَكّن له في الأرض كان إماماً وسمي بذلك، لكن لا يكون خليفة ولا يسمى بذلك حتى يتمكن من حكم الناس وبسط سلطانه عليهم مهما كان حجم ذلك السلطان. فإذا اجتمعت الإمامة الصالحة مع التمكين في الأرض كانت خلافة راشدة.
والقدوة إنما يكون للناس لا للأرض فعُلقت الإمامة بالناس خصوصاً المتقين؛ لأنهم هم المنتفعون بها دون سواهم وإن كان الآخرون مطالبين باستحقاقاتها. وقيدت الخلافة بالأرض لا بالناس لأنها إعمار قوامه ومادته الأولى هي الأرض. وهذا سر صرف الإمامة عن الظالمين إذ لا يصلحون للاقتداء، بينما الخلافة في الأرض تكون للعادل والظالم، وعلى الصالح والطالح كما روي عن علي t أنه قال: “لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء”.
فكان وصف إبراهيم u بـ(الإمام) دون (الخليفة) لهذا السبب. على العكس من آدم وداود عليهما السلام؛ فقد كان آدم خليفة بلا منازع في الأرض مع أنه حكم مجموعة قليلة من البيوت هم أبناؤه ومن تناسل منهم من ذريته. وفي هذا إشارة إلى أن كل من ساس بشرع الله مجموعة من الناس قلوا أم كثروا وخضعوا له كان خليفة راشداً، وله من الخلافة بحسب سلطانه، مثل شيخ عشيرة، أو أمير لمصر من الأمصار أو بادية من البوادي. وهذا عند تعسر الأمر ومحدودية القدرة، وإلا فإن الخلافة العظمى أوسع وأعمق. وإذا كانت هذه الإشارة ذات دلالة صائبة في الاتجاه الذي ذكرته تبين لنا([2]) – إضافة إلى أدلة أُخرى – أن الخلافة والخليفة وردا في نصوص الوحي وصفاً يقصد به المعنى اللغوي، لا اسماً يقصد به المعنى الاصطلاحي لقباً على نظام الحكم والشخص الذي يحكم به. وهو المعنى الذي تعورف واصطلح عليه بفعل حركة التاريخ؛ ولهذا لم يطلق على دولة النبي e اسم دولة (الخلافة)، ولا دولة الصديق في حينه، ولم يصطلح على تسمية الفاروق بخليفة المسلمين إنما سمي بـ(أمير المؤمنين) كما سمي الصديق بـ(خليفة رسول الله). وفي هذا دلالة على أن لقب (خليفة المسلمين) لم يستقر كمصطلح رسمي إلى ذلك العهد. وهذا معناه أن الإسلام لم يرد فيه تنصيص شرعي على لقب الحاكم المراد، وإنما كان تركيز النصوص الشرعية على الحكم المراد وأن يكون بما أنزل الله، لا على لقب الحاكم به. أما ثبوت اسم الخليفة والخلافة فكان مصطلحاً ثبت بفعل حركة التاريخ لا تنصيص الوحي. وإن كان في تلك النصوص من الألفاظ ما يستأنس به أساساً لتثبيت ذلك المصطلح وتشريعه ولكن من باب الجواز لا الوجوب.
وهذه نتيجة غاية في الأهمية، تشكل انعطافة مهمة في أدب الحكم الرباني أو الإسلامي الموعود. وقد اتفقت الأجيال على مدى ثلاثة عشر قرناً على تسمية الدولة الإسلامية في مختلف أطوارها: علوية وأموية وعباسية ومملوكية وعثمانية بـ(الخلافة الإسلامية) رغم أنها كانت طوال هذه العصور ملكاً متوارثاً، على عكس ما يتصوره بعض المتأخرين الذين يفرقون بين الخلافة والملك اعتماداً على شبهات وردت في بعض الروايات.
وبهذا نفهم أن لقب الخليفة مصطلح متأخر عن الوحي المتقدم. ولا مشاحة في الاصطلاح لكن لا يصح شرعاً أن نفهم ألفاظ الشرع المتقدم طبقاً للعرف الذي ثبت بفعل المصطلح والعرف المتأخر.
وقد يكون المُلك عظيماً كملك داود u. وقد كانت بين آدم وداود محبة خاصة منذ أن رآه في عالم الذر، فدعا له وطلب من ربه أن يزيد في عمره من عمره هو؛ وربما لهذا تحققت فيه خلافة أبيه – وهي الملك – بأجلى صورها! فعن أبي هريرة t أن النبي e قال: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهَ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ تَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَعَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَرَأَى فِي وَجْهِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، فَرَأَى رَجُلا مِنْهُمْ لَهُ وَبِيصٌ أَعْجَبَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: هَذَا مِنْ وَلَدِكَ اسْمُهُ دَاوُدُ، قَالَ: كَمْ عُمُرُهُ يَا رَبِّ؟ قَالَ: سِتُّونَ سَنَةً، قَالَ: زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً) الحديث([3]).
[1]– وردت كلمة (الإمام) إضافة إلى ذلك أربع مرات بمعنى الكتاب (هود:17، الإسراء:71، يس:12، الأحقاف:12)، ومرة واحدة بمعنى الطريق (الحجر:79).
[2] – كما حققته في كتابي (الملك الراشد خلافة على منهاج النبوة).
[3] – رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وذكره الألباني في (صحيح الجامع).
ثالثاً : إعداد الخليفة
ثالثاً : إعداد الخليفة
لكي يكون المرء قادراً على القيام بأعباء عمارة الأرض فإنه في حاجة إلى ثلاثة أمور أفصحت عنها قصة آدم u:
- علم يميزه على غيره.
- تجربة تهيئه لذلك وتجنبه مزالق الطريق.
- ومحفز دائم – وهو العدو – يوقظ عقله ويشحذ طاقته ويستثير مكامن قوته ويجعله متحفزاً على الدوام.
فكان تعلم الأسماء وتجربة آدم u مع إبليس اللعين بمثابة (ورشة) تدريب وإعداد لتحقيق هذه المقاصد. حتى إذا نزل إلى ميدان العمل وهو الأرض نزل مزوداً بتجربة قاسية، ومعه عدوه الذي رأى عداوته بعينه ولمسها بيده، وها هو يتجرع عواقبها وآثار الانخداع بصاحبها عندما لم يستفد – أول مرة – من تحذير العليم الخبير منه.
وجود العدو إذن ضرورة، وفي خلقه حكمة، فليكن مع آدم وذريته ما داموا على الأرض: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة:36).
رابعاً : الأخطار الداخلية التي تهدد الخلافة
من خلال استعراض آيات القرآن الكريم تبرز لنا ثلاثة أمراض نفسية، نتجت عنها ثلاثة أعراض سلوكية أصيب بها إبليس. كانت وراء عداوته لآدم وبلوغ آثارها غاياتِها فيه، فحرمته العيش والبقاء في الجنة، وأخرجته منها بعد أن كان هو وزوجه يأكلان منها رغداً حيث شاءا ساكنَـين آمنين مطمئنين!
فما تلك الأمراض والأعراض التي شكلت شخصية إبليس، ويمكن أن تتشكل في شخصية أتباعه وورثته؟ وما صفاتهم التي تظهر آثارها عليهم؟ كي نَحْذرها فلا نتصف بها، ونعالجها إن كانت فينا، هذا أولاً. ثم نَحذر ونُحذِّر من المصابين بها المصرين عليها وعلى العمل بمقتضاها ثانياً؛ فإن هؤلاء هم سَوَس كل جماعة عاملة ومؤسسة قائمة، الذي لا صلاح لها إلا بمعالجته وإبعاده عن كيانها. هذه الخصال الست هي:
- الحسد: ونتج عنه ممارسة المكر والخداع للإيقاع بالمحسود.
- الكبر: ونتج عنه العصيان والجدل بالباطل.
- العُجْب: ونتج عنه تبرئة الذات من التقصير وإلقاء التبعة على الغير.
وفيما يلي بيان مختصر بذلك كما جاء في القرآن العظيم:
– رأى إبليس إكرام الله Y لآدم ورفع منزلته عليه، فتمنى زوال هذه الكرامة وتحولها إليه، وهذا هو الحسد. الذي ظهر أثره أول ما ظهر بالامتناع عن السجود له: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:34).
– وأبى طاعة الله بالسجود لآدم واستكبر على نفسه أن يفعله تجاه من يراه دونه منزلة. وهذا هو الكبر؛ يقول النبي e: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)([1]). وبطر الحق: رده ودفعه في وجه صاحبه. وغمط الناس: ازدراؤهم وبخسهم حقهم ومنزلتهم. “فالكبر نوعان: كبر على الحق، وكبر على الخلق”([2]). (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (الأعراف:13).
– وأعجب بنفسه نظراً إلى عنصر خلقه، وسابق علمه وطاعته: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف:12).
– وجادل بالباطل وإن كان الذي يجادله ربه نفسه! كما في الآية السابقة، وكما أخبر تعالى عنه فقال: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر:33،32).
– وبرأ ذاته من أي قصور، وألقى بمسؤولية الذنب وتبعة العصيان على الله سبحانه فقال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39)!
– ومارس الكيد المكر والخداع سعياً للإيقاع بآدم u حسداً وحقداً لا لشيء سوى أن الله سبحانه فضله عليه لما منحه من مزايا استدعت هذا التفضيل: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) (البقرة:36). ولم يكتف بالانتقام من آدم بل تابعه في ذريته من بعده: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17،16).
سلوك الملئكة .. وسلوك إبليس
يمثل سلوك الملئكة عليهم السلام تجاه خلق آدم وتفضيله عليهم مَعلماً جوهرياً من معالم السلوك الصائب إزاء الإشكالات الفكرية التي تعترض المرء وتكون صادرة من جهة موثوقة في إخلاصها وصدقها، وفي علمها وحكمتها.
الاستفهام والنقاش المؤدب هو الوسيلة المثلى في هذه الحالة. وهو حق لكل من حاك في صدره شيء.. له أن يمارسه دون حرج.
وقد مارس الملئكة هذا الحق ومع من؟ مع الله جل في علاه! فليس لأحد كائناً من كان أن يصادر هذا الحق من أي أحد كائناً من كان. فلما علموا سلّموا، ولما أُمروا أطاعوا. هذا مع تقدم خَلقهم على المأمور بطاعته، وسمو عنصرهم، وسابق عبادتهم: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:30-34).
وهذا التسليم والطاعة ناتج طبيعي وسمة راسخة لكل مؤسسة تمارس الشورى مع أفرادها فلا تتخذ قراراً دونهم؛ وهذا يؤدي إلى شعورهم بالاحترام، ويدفعهم ذاتياً للالتزام وتحمل المسؤولية من داخل أنفسهم.
لقد كان في وسع إبليس أن يصنع كما صنعت الملئكة، فيحسم الأمر بالاستفهام ثم التسليم لعلم الحكيم، وتنفيذ أمره بطاعته فيه، لو كان خالص النية سليم الصدر. لكنه سلك سلوكاً آخر (أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ).
إن ظاهرة الملئكة وإبليس تجاه مواطن الإشكال تتكرر في كل مؤسسة وجيل. روى الإمام مسلم في (صحيحه) عن عمر بن الخطاب t قال: قسم رسول الله e قَسْماً. فقلت: والله يا رسول الله لغير هؤلاء كان أحق به منهم. قال: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخّلوني. فلست بباخل).
هذا فعل من تخلق بأخلاق الملئكة. فماذا صنع من تخلق بخلق إبليس؟ روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري t قال: بينما نحن عند رسول الله e وهو يَقْسِم قَسْماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: (ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل). وفي رواية: قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات). وقد واجهنا من هذين الصنفين: الملئكي والإبليسي الكثير.
سلوك آدم عليه السلام
تعلمنا قصة أدم u جملة أمور:
- إن الموقف الصحيح من الذنب هو الاعتراف بالمسؤولية الذاتية والندم والاستغفار: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:23،22).
- إمكانية انخداع المؤمن بمن يزين له سبيل المعصية واردة، لا سيما إذا لبس له لبوس الناصح، ووثّق ذلك بالقسم وغيره من أنواع التوثيق: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف:21،20).
- توبة الرب على عبده قد تصحبها العقوبة في الدنيا: (وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (طه:121-123). وقد يكون ذلك بسبب التحذير المسبق من الانخداع بعدو ثبتت عداوته: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه:117،116).
ذنب واستغفار أو خطيئة وإصرار. الأول سلوك آدم وبنيه الصالحين، والثاني سلوك إبليس وورثته المفسدين. هذه هي قصة الخليقة باختصار. ولو خرجنا بهذه الخلاصة من قصة آدم وإبليس لكفت، فكيف وهي ملأى بالفوائد والأسرار؟!
النماذج الثلاثة
إن نموذج الملئكة وآدم وإبليس يعطينا مثالاً واقعياً على المؤسسة الحيوية التي تمتلك عناصر النماء، والقدرة على الترميم الذاتي. من خلال النظر إلى النقاط التالية:
– الاستفهام والحوار والنقاش هي لبنات البناء، ومادة النماء، وحواضن الفكر، وكاهل المسؤولية، والرابط الذي يسلك أعضاء المؤسسة ويشدهم ببعضهم. والمؤسسات التي تفتقر إلى الأجواء الصحية التي ترعى التساؤل وتفتح الطريق أمام النشاط الذهني مهما كان ضمن الحدود المسموحة، مؤسسات محكوم عليها بالتفكك والزوال.
– الاستفهام المنضبط غير الاعتراض المنفلت. الأول يشجَّع ويُرعى ويُستجاب له، والثاني يردع وينكر ويعاقب عليه.
– لا يوجد إنسان كامل وإنما الإنسان يخطئ ويثوب، ويعصي ويتوب. فمن ثاب وتاب من قريب، وقلت أخطاؤه، واستسلم للنصح فذلك هو الإنسان. وهذا القانون يشمل الجميع على اختلاف درجاتهم في سلّم المسؤولية.
– لا تخلو مؤسسة، لا سيما الناجحة، من زوائد وطرّاء نفعيين، يعملون لأنفسهم من خلال غيرهم، لا لغيرهم من خلال أنفسهم. وشتان بين الحالتين؛ فالعمل للذات مع مراعاة المقاصد العليا والمصالح العامة هو الحالة النموذجية. أما الحالة المثالية الملئكية فليس لها وجود على الأرض: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (الإسراء:95). يُعرف هؤلاء الطراء بالتجربة وعند الغضب والخصومة. والمؤسسة التي لها عين ساهرة ترصد المشهد وتشخص الظاهرة، ويعرف مسؤولوها كيف يفرقون بين الحالة الإبليسية من الحالة الآدمية، فيتعاملون من حالة إبليس – بعد التبين – بالطرد وعدم التساهل، ومع حالة آدم بالإصلاح والتسامح.. هي مؤسسة ناجحة تملك عناصر البقاء والنماء.
[1] – رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
[2] – قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (شرح رياض الصالحين).
خامساً : أخطر عوامل الهدم الداخلي للمؤسسات
خامساً : أخطر عوامل الهدم الداخلي للمؤسسات
إن أكبر ما يهدد المؤسسات ويفني الجماعات ليس الخطر القادم من الخارج؛ فهذا عادة ما يكون كالمطرقة لا تزيد المسمار إلا انغراساً وثباتاً. الخطر المنبثق من الداخل هو الأنكى والأكثر ضرراً، وهو الذي يفجر الكيان من لبابه ويفقده تماسكه. ولا تزال المؤسسة في تماسك وسلام ما لم تبدأ سوسة الخلاف بين أعضائها بالنخر. من هنا يبدأ كيان المؤسسة بالاهتزاز وتشيع فيه عوامل الضعف. فإذا أهملت الأسباب فلم تبحث، والعلل فلم تعالج تعاظم وانتشر وبلغ مبلغه ففقدت التماسك وانهارت وآلت إلى زوال.
لقد أفصحت شخصية إبليس عن ستة علل أو أمراض بارزة تعاني منها تلك الشخصية، كانت وراء الفتنة التي أودت بأبينا آدم حتى أخرجته من الجنة.. تلك (المؤسسة ) الرائعة الآمنة المطمئنة: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (طه:119،118). ثلاثة منها أساسية هي (الحسد والكبر والعجب)، وثلاثة توابع نتجت عن الأولى هي (الجدل بالباطل وتبرئة الذات والمكر للإيقاع بالمحسود).
ولإبليس ورثة يتمثلون خصاله ويقومون بتمثيل دوره مع ورثة آدم، لا يخلو قبيل أو مؤسسة منهم قط؛ لهذا كان الاهتمام بهذا الموضوع، وكانت قصة آدم عليه السلام زاخرة بالدروس التي تتكرر في كل زمان ومكان. فهي قصة نموذجية بحق؛ ولعل هذا سبب تقدم ورودها على جميع القصص في المصحف الشريف.
أ. متى تظهر آثار الأخطار
كثير من العاملين تراهم يعملون متعاونين، متفاهمين متطاوعين. وهذه الحالة الصحية عادة ما تعم الوسط العامل عند التأسيس وتقديم التضحيات. فإذا تطورت الأمور صارت المؤسسة أمام عدة تحديات وأهمها ثلاثة:
- الحاجة إلى إيجاد هيكلية تراتبية يتوزع العاملون فيها المناصب والمهام القيادية. وهو ما يعبر عنه بـ(الجاه أو الشرف).
- طروء مورد مالي تستدعيه حاجاتها. وقد ينمو ويتسع فتنفتح الدنيا وزهرتها في وجه العاملين. وهو ما يعبر عنه بـ(الدنيا أو المال).
روى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح عن النبي e أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
ويقول: (ما الفقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ! وَلكنّي أَخْشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كما بُسطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ فَتَهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ) متفق عليه!
هنا يتبين العامل المخلص الذي علم حق العلم ما يراد بقوله سبحانه: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:3) فعالج قلبه من شوائب الدنيا فغلبت عليه الصحة، من العامل المِخلَط الذي يعمل مرة لله ومرة لهواه، أو يخلط هذا بهذا ولا يبالي حتى يغلب عليه المرض. فإذا حرم من منصب برزت لديه حالة العُجب فقال: أنا وأنا، وعملت كذا يوم كذا، وسبقتُ إلى هاتيك وماتيك. وإذا نظر إلى أخ له حاز منصباً أو شيئاً من مال أو عرَض من الدنيا قال: أنا خير منه فكيف يعطى وأُحرم، ويقدَّم وأؤخَّر؟ وقد لا يتوقف عند هذا الحد فيتجاوزه إلى حسده وبغضه ثم السعي في أذاه وضره.
- تفعيل قاعدة (القَــدم المكاني لا القِدم الزماني): تبرز هذه الحالة الإبليسية أيضاً عندما ينتمي إلى المؤسسة وافد جديد له نشاط متميز وخبرة وإبداع، فترى القيادة توليته منصباً، وتوكل إليه مهام تتناسب وخبرته وتميزه. وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم في توليته المسؤوليات: ينظر إلى قَدمه في الكفاءة لا إلى قِدمه في الإسلام. فينتفض البعض متحججين بقِدمهم وحداثته. كما انتفض إبليس متضايقاً من وجود آدم عليه السلام بعد إذ لم يكن، وتقديم الله سبحانه له على الجميع. وقد يتوقف الأمر عند هذا الحد إذا كان المرض بسيطاً لم يتمكن من صاحبه. وإلا حصل التمادي؛ فإن منهم أناساً طال عليهم الأمد فتثاقلوا، وقست قلوبهم فتخلفوا، وربما عبثوا وأفسدوا. ومن هؤلاء تنبعث الفتنة وتبدأ المشاكل ويتبدى العصيان!
ويتدخل المصلحون فتظهر علامات الكبر (بطر الحق وغمط الناس)، فلا ينتفع مفتون ببيان ولا موعظة مهما كان مصدرها، وتكثر التهم وتوجه بلا حساب، لا يستثنى منها أحد. ويقع طالبو الإصلاح في حيرة لا يدرون كيف يعالجون المشكلة وبأي حجة يقتنع صاحبها! فكل من لا يقف في صفه فهو متحيز ضده. وليس لديه من كبير يطاع ولو كان طرفاً ثالثاً أو هو رئيس المؤسسة. ولا من قاعدة يحتكم إليها. وينصحه الرئيس: إن لك علينا حق الشورى، فإذا اختلفنا أنا وأنت رأيين وليس من مرجح فمن يطيع من؟ أليس الواجب في هذه الحال أن تسلِّم وتطيع؟ فيتهمه هنا بالاستبداد بالرأي لأنه لم يأخذ برأيه في مسألة غايتها أن تكون ظنية، ولا يتهم نفسه بذلك – وهو أولى – مع أنه لم يأخذ برأي رئيسه. ويشرح له الأمر أكثر: إذا كان رئيسك في نظرك مستبداً إن لم يأخذ برأيك مع أنه ليس لك عليه حق الطاعة، فما عسى أن يكون حكمك في نفسك إن لم تأخذ برأيه مع أن له عليك حق الطاعة؟ لكنه يتظاهر بالصمم. ويتهمه هنا بأنه السبب الكامن وراء المشكلة، وأنه لم يعدل بينهم. كما قال إبليس متهماً ربه سبحانه: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الحجر:39)!
إن هذه الحالة الإبليسية التي تبدأ بالحسد والكبر وتنتهي بالسعي في التخريب والإفساد ظاهرة عامة متكررة عانينا منها الكثير، وتبرز أمام وجوهنا في كل مرحلة وعند كل محطة.
ب. العلاج
إن هذا يرشدنا إلى أمرين جوهريين في وصفة العلاج الفردي والمؤسسي:
- المبادرة إلى علاج مرض الحسد والكبر والعجب، قبل أن نصل إلى مرحلة نكون فيها وجهاً لوجه أمام التحدي فتظهر آثارها من الجدال بالباطل، وتبرئة الذات وإلقاء المسؤولية على الغير، والسعي في أذى الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى تميزهم وتفوقهم. ولم أجد مثل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) دواء ناجعاً لهذه الأمراض الثلاثة! كيف يحسد من كان يعلم أن المعبود هو المنعم لا هو! وكيف يتكبر عابد على عبد مثله! وكيف يعجب بعمله من كان يعلم أنه لولا إعانة الله له وتوفيقه ما عمل شيئاً ولا كان منه من شيء!
- المبادرة – بعد إقامة الحجة وتبين المحجة – إلى طرد هذه الأصناف من المؤسسة قبل أن يمر زمن يتمكنون فيه من تخريبها والإيقاع بأفرادها. كما فعل إبليس حين تركه الله سبحانه لحكمة أرادها فاستزل في تلك الفترة أبانا آدم، وأخرجه من الجنة.
ثم طلب إبليس الإمهال فترة أُخرى تطول إلى يوم القيامة؛ لا للتوبة ومراجعة الذات، وإنما إمعاناً في الفساد والانتقام من آدم وذريته: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (الأعراف:15،14) فلما استجاب الله تعالى له وأعطاه حرية الحركة بين أفراد (مؤسسة الخلافة) على الأرض استغل ذلك جحوداً وانتقاماً فصار يمارس عملية التخريب داخل المؤسسة: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17،16).. فحذار من التماهل في قرار الطرد؛ فإن هذا يمكنهم منها أكثر، ويمنحهم فرصة أخرى للإفساد والخداع وإزلال مزيد من الأتباع. وحالة الإمهال جربناها فما أجدت، بل أضرت. وورثة إبليس لا يستحقون مصيراً خيراً من مصيره: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف:18).
القصة تتكرر أبداً .. قابيل وهابيل حلقة في سلسلة لا تنتهي
وفي قصة قابيل وريث إبليس الأول عبرة؛ فقد أعاد إبليس معه الكرة بعد أن انكشف أمره لأبيه آدم فلم يجد فيه مجالاً لمزيد من الانخداع والإيقاع. وأثار فيه مكامن سلاحه الذي لا يخيب: الحسد، فنفس على أخيه هابيل زوجته المرتقبة بعد أن زينها إبليس في نظره. ثم تكبر على نصيحة أبيه آدم u الذي أمره وأخاه أن يقدم كل منهما قرباناً لبيان المحق المقبول عند الله من سواه. فلما تقبل الله من هابيل ولم يتقبل منه واجهه بكل صلافة قائلاً: (لأقتلنك) فأي تكبر! وأي عتو! كما أخبر عنه سبحانه بقوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27).
والقصة تتكرر.. العدو نفسه، والأسلحة نفسها، والورثة أنفسهم مع تغير النسخ فقط. وتعددت الأهداف والأمثلة بعد قابيل حتى جاء اليهود. فاستعمل إبليس معهم الأسلحة نفسها: الحسد والكبر مع العجب.. هذه هي أدواء اليهود التي منعتهم من قبول الحق. فجاءت قصتهم في سورة (البقرة) بعد قصة إبليس مع آدم مباشرة بلا فصل. والأدواء نفسها تتبدى في المنافقين، وتتكرر في البشرية أبد الآبدين. فمقل ومكثر. والسعيد من شفاه الله ووفقه لهداه.
في كل عصر صحابة
( 7 )
فِي كُلِّ عَصرٍ صحابة
الغيرة من الصحابةرضي الله عنهم
لو سأل المسلم نفسه: ما الفائدة التي أجنيها – مثلاً – من كون الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص t سابعَ سبعة دخلوا في الإسلام، وأولَ رامٍ بسهم في سبيل الله، وبطلَ القادسية وفاتحَ العراق، مجابَ الدعوة، طيبَ المطعم، نظيفَ القلب لا يحمل غلاً لأحد من المسلمين؟ ما الذي يدخل في حسابي من ذلك كله؟
وهكذا بقية الأصحاب كخالد وأبي عبيدة، والفاروق والصديق، بل الأنبياء عليهم السلام.
الجواب: لا شيء! لا شيء حقاً! ما لم تعمل بعملهم وتقتد بهم.
دع كل شيء واستحضر الموقف يوم القيامة وقد جاء عظماء السابقين من الصحابة y فمن بعدهم، فأعطاهم الله Y أُعطياتهم وسلمهم صحائف أعمالهم بدرجاتها ومنازلهم، وأنت تنظر إلى هذا المشهد. قطعاً سيتحرك قلبك بالسؤال: وأنا بين هذه الجموع.. ما منزلتي وما درجتي؟
انتبه! هل شعرت بالغيرة منهم، وتحفزت للتنافس معهم على منازل القرب عند الله جلّ في علاه.. لماذا يكون فلان أقرب مني ولا أكون أنا الأقرب، أو قريباً منه؟ أنت ذو قلب حي إذن؛ فأبشر!
انظر إلى موسى u كيف يتألم ويحزن حتى يبكي ويشعر بالغيرة.. وممن؟ من محمد e، لما رآه يتجاوزه إلى الحضرة القدسية! وكان من أسباب بكائه لما سئل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي؟
الغيرة من تفوق الآخرين عليك، إحساس راقٍ وشعور سامٍ يتميز به ذوو الهمم العالية، أولئك الذين يدركون عمق معنى قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء:57)، وقوله: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين:26).
تقول: منزلة الصحبة قد ختم عليها فلا ينال درجتها أحد من بعدهم. وأقول: مع ذلك هل منع الله أحداً منا أن يقترب فيكون على مرمى خطوة منهم؟ أبداً، وقد قال Y: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ) (الواقعة:10-14). لقد فتح المضمار أمام الأجيال كلها لأن يكون منهم في درجة (السابقين) من رامها وسعى إليها. إذن في كل عصر سابقون.. في كل عصر صحابة. مع الاحتفاظ بالفضل والسبق المطلق لصحابة النبي e، الذين قال فيهم: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) رواه البخاري.
والقلة هنا مقيدة لا مطلقة. فهي قلة نسبة لا قلة عدد. فلو افترضنا أن عدد الصحابة كان مئة ألف، فإن ثلة السابقين ربما يصل عددهم ثمانين ألفاً منهم. واليوم يبلغ عدد الأمة أكثر من مليار ونصف المليار. فكم هو عدد القلة السابقة منهم؟ لا شك في أنه يزيد على مجموع الصحابة ليتجاوز عشرات الملايين؛ وإلا فإن عدد الصحابة كلهم الذي هو مئة ألف، نسبةً إلى عدد المسلمين اليوم لا يشكل غير (1/15000) واحد من خمسة عشر ألفاً! وهذا لا يصلح أن يطلق عليه وصف قلة، بل ولا أقل من ذلك.
إذن الفرصة أمامك كبيرة ومفتوحة لأن تلتحق بركب السابقين. وقد روى أبو هريرة t عن رسول الله e ما يزيدك عزماً وهمة وأملاً؛ إذ يقول: خرج رسول الله e إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا. قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي. وإخواني الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطهم على الحوض. قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو كان لرجل خيل غر محجلة، في خيل بهم دهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى، قال: (فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء)([1]).
بل ورد عن عمر بن الخطاب t في قوله عز وجل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) أنه قال: من فعل مثل فعلهم كان مثلهم.
تفاضل نوعية
ثم هناك تفاضل في النوعية، وهي الصفات والمؤهلات والأعمال الذاتية، غير المتعلقة بعامل من خارجها يمكن أن يغير المعادلة لصالح أيٍّ من المتفاضلين. فمغيث t – مثلاً – صحابي، لكنه لو نظرنا إليه من الناحية الذاتية فلنا أن نسأل: هل مغيث([2]) أفضل علماً وعقلاً وكياسة وجهاداً من ابن تيمية وأمثاله من عظماء الأمة كالأئمة الأربعة وأضرابهم؟ فللمتأخر أن يسبق المتقدم في عمل ما وإن كان المتقدم أسبق منه في مجمل الدرجة.
وكل ذلك داخل في عموم قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الجمعة:4).
يقول سيد قطب رحمه الله في (الظلال): (إن اختيار الله لأمة أو جماعة أو فرد ليحمل هذه الأمانة الكبرى, وليكون مستودع نور الله وموضع تلقي فيضه, والمركز الذي تتصل فيه السماء بالأرض.. إن اختيار الله هذا لَفضلٌ لا يعدله فضل. فضل عظيم يربو على كل ما يبذله المؤمن من نفسه وماله وحياته، ويربو على متاعب الطريق وآلام الكفاح وشدائد الجهاد.
والله تعالى يذكّر الجماعة المسلمة في المدينة, والذين يأتون بعدها الموصولين بها، والذين لم يلحقوا بها.. يذكرهم هذا الفضل في اختيارهم لهذه الأمانة, ولبعث الرسول فيهم يتلو عليهم الكتاب ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة. ويترك للآتين في أطواء الزمان ذلك الرصيد الضخم من الزاد الإلهي, ومن الأمثلة الواقعية في حياة الجماعة الأولى. يذكرهم هذا الفضل العظيم الذي تصغر إلى جانبه جميع القيم, وجميع النعم، كما تصغر إلى جانبه جميع التضحيات والآلام).
ألسنا نخطئ ونعصي ؟
المنهج التربوي الشائع يخالف منهج القرآن الكريم في عرض القدوة عرضاً واقعياً يقدمه لك كما هو في حياته التي هو عليها، لا كما نتخيل. إن المنهج القرآني، وإن كان يركز على إيجابيات القدوة ومؤهلاته التي جعلت منه شخصاً صالحاً للاقتداء، لكنه لا يهمل ذكر حالاته الإنسانية المقابلة، بل يذكر بعض ما يستدعي الملاحظة، والنقد أيضاً.
إن هذا التكامل في العرض يمثل قمة المنهجية التربوية الفاعلة التي تنمي الثقة بالنفس، وتقول للمسلم: إن الطريق أمامك مفتوح للارتقاء في مدارج العظمة؛ فليس من شرط العظيم إن لا يكون في حياته صغيرة. على العكس من تأثير المنهج الشائع، الذي يمارس عملية جلد تجاه المعاصرين مركزاً على الفارق الكبير بين المتقدمين والمتأخرين، جاعلاً منه فجوة عصية على الردم؛ ما يؤدي بالهمة إلى الهبوط، والطموح إلى النزول، فيفتر العمل، وقد يستسلم العامل للزلل ويستمرئه ولسان حاله أو مقاله: أين نحن من أولئك؟ بمعنى أن سلوكهم يستند إلى قوى وأسرار ومؤهلات خفية نفتقر إليها فلا يمكن التأسي بهم. ويعرض سير الأولين بما يوحي بأنهم قديسون. وأن هذه (القداسة) هي لا بد منها لتغيير الحال. وعندما يقلب أحدنا نظره في الواقع فلا يجد أحداً يشبههم ولا يدنو منهم، ينكفئ على نفسه ويفقد الثقة بمن حوله أن ينعشوا أملاً أو يحققوا هدفاً، خصوصاً القادة ؛ ما يؤدي إلى تثاقل العاملين وتنصلهم؛ فتضعف المؤسسة وتتفكك وتزول. وهذه المقارنة المثالية بين الأولين والمتأخرين أحد أسباب انفضاض الأتباع عن القيادات، والفشل في استمرار ونمو الجماعات في العصر الحاضر.
[1] – رواه مالك في الموطأ والنسائي وابن حبان بسند صحيح. وفي رواية في (كنز العمال): (أنتم أصحابي، وإخواني قوم يجيئون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني)
[2]– عن ابن عباس، أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته. فقال النبي e لعباس: (يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثاً). فقال النبي e: (لو راجعته؟). قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: (إنما أنا أشفع). قالت: لا حاجة لي فيه. وبريرة مولاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، اشترتها وأعتقتها، فاختارت فراق زوجها.
مجالس فكر و .. ذكر
( 8 )
مجَالِسُ فِكرٍ .. وَ … ذِكر
- أمثلة للقياس:
- (العلاقة بين سورة الكوثر والكافرون والنصر)
- سيد الاستغفار
- مع فرائد ابن القيم في ( فوائده )
- وابن عطاء في ( حِكَمه )
- قراءة كتب الرقائق والمواعظ والعبَر وسير الأنبياء والصالحين
قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران:191).
أقصد بالمجالس مجالس العمل واجتماعاتها التي يعقدها أصحاب القضية، للتداول في شأن قضيتهم ومسيرتها.
لا نريد لاجتماعات أصحاب القضية ولقاءاتهم أن تلبي حاجتين اثنتين فقط هما: الفكر والعمل، دون ما يلبي حاجة الذكر والإيمان وتزكية النفس. إن منهجنا وإن كان من أرض الواقع ينطلق، وبذور الوحي وإن كانت في ترابها تنبت، لكن ديننا من السماء قد نزل، وبمائها يسقى، وبنورها يتوهج. فكيف نزاوج بين هذا وذاك في تشكيلة متوازنة بين استحقاق الأرض والسماء، ومطالب الروح والجسد؟
والسؤال عن الجانب العملي فقط.
من خلال التجربة الذاتية وجدت خير ما يمكن به تحقيق هذه الغاية هو افتتاح اللقاء بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، يليها الاستشهاد بآية من الآيات التي تليت تواً، أو غيرها من الآيات. أو الاستشهاد بحديث نبوي، أو قصة من قصص الصالحين، أو حكمة من الحكم، أو نصيحة من النصائح، وما شابه ذلك، ليكون محوراً إيمانياً تلتقي عليه القلوب، وتجتمع الأرواح، ويدور الفكر، وينبعث العمل، وتنشرح الصدور وترتاح النفوس وتنشط للحركة باتجاه رب العالمين. وحبذا لو اختتم المجلس بدعاء جامع لخير المجتمعين وغيرهم من العاملين والمجاهدين والمسلمين أجمعين. على أن لا تزيد المدة الخصصة عن عشر دقائق.
أمثلة للقياس
اقرأ – مثلاً – سورة (الكوثر) وكيف وعدت، والرسول e في مكة، بانبتار أعدائه وشانئيه. ثم تحقق الوعد بعد الهجرة وفتح مكة فنزلت سورة (النصر) توثق ذلك. ولك أن تقف فتسأل: لمَ توسطت سورة (الكافرون) بين السورتين، ولم تَعقب إحداهما الأُخرى دون فصل؟ وأجيبك: لأن مسيرة النصر لا تصل إلى غايتها ما لم تمر بمرحلة المفاصلة والتميز بين فريق الحق وفريق الباطل. وهذا هو السبب الرئيس في خذلان السنة أمام الشيعة.
كم عظيمة هذه المعاني!
وكم تشيع في النفس من لمسات الإيمان، وتنثر بذور الثقة، وتزرع غراس الاطمئنان!
ويمكنك أن تقرأ دعاء (سيد الاستغفار) الذي يرويه الإمام البخاري عَنْ شدَّادِ بنِ أَوْسٍ t عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: “اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِي لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ. أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِ مَا صَنَعْتُ. أَبْوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بَذَنْبِي. فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ”. مَنْ قَالَهَا في النَّهَارِ مُوقِنَاً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَومِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِي فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
وقف عند غناه في (أبوءُ لك بنعمتك عليّ)، وإلى فقرك في (وأبوء بذنبي)! لترى كم تنفتح لك من نوافذ للإيمان، وتنتصب أمامك من سلالم للعروج!
وإن جعلت تحت يدك كتاباً للمواعظ الغالية والحكم العالية فخير، ويعينك كثيراً في مهمتك، مثل (فوائد) ابن قيم الجوزية، و(حكم) ابن عطاء السكندري رحمهما الله. ولا يخلو كتاب، سوى كتاب الله Y من هنات وملاحظات. وثقتنا بعقيدة أصحابنا ووعيهم الكاشف بين الأصيل والدخيل عالية.
مع فرائد ابن القيم في ( فوائده )
تأمل هذه الحكم لابن القيم ماذا لو جعلت إحداها أو بعضها محوراً للمادية الإيمانية لأي مجلس رباني:
- من لم ينتفع بعينه لم ينتفع بأذنه.
- للعبد ستر بينه وبين الله, وستر بينه وبين الناس, فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله، هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس.
- للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه, فينبغي له أن يسترضي ربّه قبل لقائه ويعمّر بيته قبل انتقاله اليه.
- المخلوق اذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى اذا خفته أنست به وقربت اليه. [مصداقه قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات:50). مع أن الفرار يكون من الشيء لا إليه].
- لما طلب آدم الخلود في الجنة من جانب الشجرة عوقب بالخروج منها. ولما طلب يوسف الخروج من السجن من جهة صاحب الرؤيا لبث فيه بضع سنين.
- أول منازل القوم: (اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) وأوسطها (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). وآخرها (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ) (الأحزاب:40-43).
- تالله ما نفعه عند معصيته عز: (اسجدوا)، ولا شرف: (وعلّم آدم..) ولا خصيصة: (لما خلقت بيدي)، ولا فخر: (نفخت فيه من روحي). وإنما انتفع بذل: (ربنا ظلمنا أنفسنا).
- لما صاد الكلب لربه أبيح صيده, ولما أمسك على نفسه حرم ما صاده.
- من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شيء يشغله؟
- قال رجل لمعروف الكرخي: علمني المحبة. قال: المحبة لا تجيء بالتعليم.
- لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي.
- الجنة ترضى منك بأداء الفرائض، والنار تندفع عنك بترك المعاصي. والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل الروح.
- عرائس الموجودات قد تزينت للناظرين ليبلوهم أيهم يؤثرهن على عرائس الآخرة، فمن عرف قدر التفاوت آثر ما ينبغي إيثاره.
وحسانُ الكونِ لمّا أن بدتْ أقبلتْ نحوي وقالتْ لي : إليّْ
فتعــــامــيــتُ ، كــــأنْ لــم أرَهـــــا عندما أبصرتُ مقصودي لديّْ
- أغبى الناس من ضل في سفره وقد قارب المنزل.
وابن عطاء في ( حِكَمه )
وابن عطاء في ( حِكَمه )
وتأمل هذه الحكم النفيسة لابن عطاء السكندري:
- من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل.
- لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك؛ فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختار لنفسك. وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد.
- ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه.
- لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره. فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة، إلى ذكر مع وجود يقظة. ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور. ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور (وما ذلك على الله بعزيز).
- من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان، قُيد إليه بسلاسل الإمتحان.
- ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك.
- متى فتح باب الفهم في المنع، عاد المنع عين العطاء.
- متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك قهره. فهو في كل ذلك متعرف إليك، ومقبل بوجود لطفه عليك.
- إنما يؤلمك المنع؛ لعدم فهمك عن الله فيه.
- ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول. وربما قضى عليك بالذنب فكان سبباً في الوصول.
- الفكرة فكرتان: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. فالأُولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار.
تصور حين نبدأ اجتماعاتنا فنضيئها بمثل هذا، أو بقصة من قصص الصالحين، على أي حال من الإيمان نكون؟!
كتب الرقائق والمواعظ والعبَر وسير الأنبياء والصالحين
يقول تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (الفاتحة:7،6). وفيه إشارة إلى أهمية معرفة سير الصالحين الذين أنعم الله عليهم، وأفضلهم – بعد الأنبياء عليهم السلام – الصحابة y.
إن قراءة السير الناصعة والمواقف السامية وسماع ذكرها يثير النفس ويشوقها ويشحنها بالطاقة لكي تتمثل ما تقرأه وتسير على هدى أصحابه وتقتدي بهم في سيرهم ومواقفهم. فهي طريقة نافعة مجربة من أنفع الطرق والوسائل لتحقيق التنمية الذاتية للإيمان
خذ مثلاً هذه القصص الرائعة: روى أنس بن مالك t أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لفلان نخلة وأنا أقيم حائطي بها، فأمُرْه أن يعطيني حتى أُقيم حائطي بها. فقال له النبي e: (أعطها إياه بنخلة في الجنة)، فأبى. فأتاه أبو الدحداح فقال: بِعْنِي نخلتك بحائطي (وكان به ستمئة نخلة)، ففعل. فأتى النبي e فقال: يا رسول الله إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله e: (كم مِن عِذق رداح لأبي الدحداح في الجنة)، قالها مراراً. قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها([1]).
وفي سبب نزول قوله Y: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:245) روي عن ابن عباس t أنه قال: نزلت الآية في أبي الدحداح قال: يا رسول الله! إن لي حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لي مثلاها في الجنة؟ قال: (نعم)، قال: وأم الدحداح معي؟ قال: (نعم)، قال: والصبية معي؟ قال: (نعم). فتصدق بأفضل حديقتيه، وكانت تسمى الجُنينة. قال: فرجع أبو الدحداح إلى أهله وكانوا في الحديقة التي تصدق بها، فقام على باب الحديقة، وذكر ذلك لامرأته. فقالت أم الدحداح: بارك الله لك فيما اشتريت. فخرجوا منها وسلموها. فكان النبي e يقول: (كم من نخلة رداح، تدلي عروقها في الجنة لأبي الدحداح).
وفي المقابل روى ابن عباس فقال: لما نزلت هذه الآية: (مَن ذا الَّذي يُقرِضُ اللهَ قَرضاً حَسَناً) قال يهودي بالمدينة يقال له فنحاص: احتاج رب محمد فهو يطلب القرض!
هكذا يكون القرآن نفسه هدى للمتقين وضلالاً للفاسقين!
ومن جميل ما يستشهد به هنا ما يرويه أبو بكر بن عياش قال: صليت المغرب خلف الفضيل بن عياض، وإلى جانبه ابنه علي، فقرأ الفضيل: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) (التكاثر:1)، حتى بلغ قول الله عز وجل: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (التكاثر:6)، وبقي الفضيل لا يقدر أن يُجاوز الآية فركع.
وتأمل ذا المشهدَ المدهش: أتت الإمام الجنيد امرأة تشكو إليه إعراض زوجها عنها، وتعلقه بغيرها، فيعظها الجنيد ويصبرها وهي لا ترضى ولا تقتنع بما يقول. فلما ضجرت من وعظه وكلامه قالت له: ماذا تقول يا شيخ؟! والله لو كشفت لك عن وجهي، وتطلعت إلى جماله وبهائه لعجبت ممن يعرض عنه ويتطلع إلى سواه! فتغير وجه الجنيد من كلامها؛ وأطرق حتى أخذته الرُّحَضاء! فلما سئل عن سر تغيره وإطراقه أجاب: الناس يعجبون ممن يعرض عن جمال المخلوق! فكيف بمن يعرض عن جمال الخالق؟!!
وقيل: كان سبب توبة بشر بن الحارث الحافي أنه رأى في الطريق ورقة مكتوباً فيها اسم الله عز وجل قد وطئتها الأقدام فأخذها واشترى بدرهم كان معه طيباً فطيب بها الورقة وجعلها في شق حائط فرأى فيما يرى النائم كأن قائلاً يقول له: (يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة).
قيل لأبي بكر المسكي: إنا نشم منك رائحة المسك مع الدوام فما سببه؟ فقال: والله لي سنين عديدة لم أستعمل المسك، ولكن سبب ذلك أن امرأة احتالت عليَّ حتى أدخلتني دارها وأغلقت دوني الأبواب وراودتني عن نفسي فتحيرت في أمري فضاقت بي الحيل، فقلت لها: إن لي حاجة إلى الطهارة فأمرت جارية لها أن تمضي بي إلى بيت الراحة، أي دورة المياه، ففعلت فلما دخلت بيت الراحة أخذت العذرة وألقيتها على جميع جسدي ثم رجعت إليها وأنا على تلك الحالة فلما رأتني دهشت ثم أمرت بإخراجي. فمضيت واغتسلت فلما كانت تلك الليلة رأيت في المنام قائلاً يقول: (فعلت ما لم يفعله أحد غيرك لأطيبن ريحك في الدنيا والآخرة) فأصبحت والمسك يفوح مني واستمر ذلك إلى الآن.
قال يعقوب بن جعفر بن سليمان غزوت مع المعتصم عمورية, وكان رجلٌ من الروم يقوم كلّ يوم على السور (أي سور عمورية) ويشتم النبيّ e بالعربيّة، باسمه ونسبه! فاشتدّ ذلك على المسلمين ولم يكن يصل إليه النُّشَّاب. قال يعقوب: وكنت أرمي رمياً جيّداً فاعتمدته بنشابة فأصبت نحره فهوى وكبَّر المسلمون. وسُرّ المعتصم وقال: عليّ بالذي رماه. فأُدخلت عليه فقال: من أنت؟ فانتسبت، فقال: الحمد للـه الذي جعل ثواب هذا السهم لرجل من أهلي، يعني من بني عبّاس. ثمّ قال: بِعني هذا الثواب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين, ليس الثواب ممّا يُباع. فقال: إني أرغّبك, فأعطاني مئة ألف درهم. فقلت: ما أبيع ثوابي. فبلغها إلى خمس مئة ألف درهم. فقلت: لا أبيع ثوابي بالدنيا وما فيها، ولكن قد جعلت لك – أي وهبت لك نصف ثوابه – أي ثواب هذا السهم، واللـه يشهد عليّ بذلك. قال: جزاك اللـه خيراً قد رضيت. ثمّ قال: فأين تعلّمت الرمي؟ قلت: بالبصرة في داري. فقال: بعنيها. فقلت: هي وقفٌ على من يتعلَّم الرمي. فوصلني بمائة ألف درهم.
هذه المواقف والقصص والسير تلين القلب وترقق العين، فتشتاق الروح للاقتداء، وتعمل النفس مراجعات داخلية، وتتحرك فيها مقارنات بينية، ويقول المرء: ما الذي يمنعني من أن أكون كهذا في عفته، وذاك في عبادته، وفلان في جهاده، وهكذا، وهكذا تزكو النفوس وتسمو الأرواح، وتنصقل القلوب، ويتشرب الإيمان كيان الإنسان، وتنشط الجوارح للعمل.
ولنا في قصص الصالحين لعِبرة
روي أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج. فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة فأعجبت بجمالها، فقالت لزوجها: أترى يرى أحد هذا الوجه لا يفتتن به؟! قال: نعم. قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير. قالت: فأذن لي فيه فلأفتننه! قال: قد أذنت لك! فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد، فأسفرت عن وجهها، فكأنها أسفرت عن مثل فلقة القمر. فقال لها: يا أمة الله! فقالت: إني قد فتنت بك، فانظر في أمري. قال: إني سائلك عن شيء فإن صدقت، نظرت في أمرك. قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك يقبض روحك أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أدخلت في قبرك، فأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قد قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أن الناس أُعطوا كتبهم لا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو أردت المرور على الصراط، ولا تدرين تنجين أم لا تنجين، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو جيء بالموازين، وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة ؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. قال: فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا. قال: صدقت. ثم قال لها: اتق الله يا أمة الله؛ فقد أنعم الله عليك، وأحسن إليك.
فرجعت إلى زوجها، فقال لها: ما صنعت؟ فقالت له: أنت بطال، ونحن بطالون. ثم أقبلت على الصلاة، والصوم، والعبادة. فكان زوجها يقول: ما لي ولعبيد بن عمير أفسد عليَّ زوجتي كانت كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة.
وهكذا نُفَعِّل الفقرة الثالثة من فقرات (التنمية اإيمانية) “فنجعل من مجالسنا (مجالس موعظة وذكر)، كما هي مجالس يقظة وفكر سواء بسواء، بحيث لا ينفصل هذا عن ذاك. ونحدز من الانزلاق شيئاً فشيئاً إلى الانشغال بالتفكير والحركة الخارجية في رحاب الأفق، على حساب الخشوع والحركة الداخلية في خبايا النفس”.
[1] – رواه الإمام أحمد، وصححه الشيخ الألباني. وللقصة أصل في صحيح مسلم من حديث جَابِرِ بْنِ سَمُرَة رضي الله عنه قَال: صَلَّى رَسُولُ e عَلَى ابْنِ الدَّحْدَاحِ. وفيه: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : إِنَّ النَّبِيَّ e قَالَ: (كَمْ مِنْ عِذْقٍ مُعَلَّقٍ أَوْ مُدَلًّى فِي الْجَنَّةِ لابْنِ الدَّحْدَاحِ). أَوْ قَالَ شُعْبَةُ: لأَبِي الدَّحْدَاحِ. والرداح: العظيم الثقيل.
تجديد الكلمات الإيمانية
( 9 )
تجدِيدُ الكَلِمَاتِ الإيمَانِيّة
- الإخلاص
- حد الإخلاص وحقيقة الرياء
- استحضار عظمة ( لا إله إلا الله ) عند المساومة
- المراقبة
- المحاسبة
تجديد الكلمات والمصطلحات الإيمانية، وبعث الحياة فيها قويةً دافقة، وذلك بتغذيتها بمفاهيم جديدة تتناسب والحال أو المرحلة.. يبعث الروح في المعاني، ويحفز المرء للعمل، ويشد الانتباه، ويزيد الإيمان بأن الدين صالح لكل زمان ومكان وحال. ولنأخذ على ذلك مثالاً: الإخلاص والمراقبة والمحاسبة، ونجتهد – قدر الإمكان – في إبراز مقصودنا بهذا التجديد.
الإخلاص .. معيار سهل لتمييزه عن الرياء
الإخلاص أصل الدين ولباب التوحيد، وعليه مدار قبول الأعمال. يقول تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:3). ويقول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110). وهو بتعريف سهل بسيط لا تعقيد فيه: إرادة المسلم وجه الله وحده بعمله.
وما يهمني هنا أمران: الأول: بيان حد الإخلاص؛ فقد عقَّده البشر، حتى صار من يبغي الإخلاص من خلال كلامهم لا يزداد إلا حية واضطراباً لا يستقر قلبه على حال، متشككاً تتناوشه الوساوس فلا يدري أمخلص هو أم لا؟ والثاني: استحضار عظمة شهادة (لا إله إلا الله) عند المساومة بين ما يرضي الرب في طاعته وما يرضي النفس في سخطه. وذلك بطريقة عملية تسهم في تفعيل مبدأ الإخلاص ونيل الخلاص.
- حد الإخلاص وحقيقة الرياء
أما معرفة حد الإخلاص عملياً بحيث يمكن قياسه والاطمئنان مقياسه، فأرى أن على العامل قبل الإقدام على أي عمل أن يطرح على نفسه السؤال التالي: لو لم يطلع أحد على هذا العمل.. هل أعمله أم لا؟ فإن أجاب بالنفي فهو من المرائين؛ وعليه تصحيح نيته، ثم يعود لعمله. وإن أجاب بأن اطلاع الخلق من عدمه لديه سواء، فهو مخلص، ولا يضره ما بعده من شعور بالارتياح لمدح الناس، وشعور بالانزعاج لذمهم؛ فالامتناع عن هذا الشعور ليس بمستطاع، وما لا يستطاع فلا يكَلف به العبد. ومن قال بأن حد الإخلاص هو أن لا يفرح بمدح ولا يحزن لذم فقد كلّف العباد بما لم يكلفهم به ربهم، وما لا يطيقونه أصلاً. وقال بما لا يتصوره. وهو من شطحات التصوف. والله أعلم.
هذا ما انتهى إليه بي التحقيق بالتأمل الطويل في هذا الموضوع الخطير. ودليلي عليه طلب نبينا إبراهيم u الذي جاء في قوله تعالى: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ) (الشعراء:84). قال الشوكاني في (فتح القدير): أي اجعل لي ثناءً حسناً في الآخِرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. وقال الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير): قال ابن العربي: قال مالك: لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله، وهو الثناء الصالح.
ومما يُعتضد به هنا – من بعد ما جاء في الآية الكريمة – ما ورد في (الصحيحين) عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: (قال الله تعالى: كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ). زاد مسلم: (يَدَعُ شهْوَتَه وطعامه من أجْلِي). مع أن الصائم قد يتحدث بصيامه ويفرح بمن يمدحه عليه. لكنه ما دام إذا خلا بنفسه يمتنع عن إتيان المفطرات؛ خوفاً من الله وتعظيماً لشأنه وابتغاء ما عنده بصومه. فهو يصوم على الحالتين إن عُلم به أو لم يُعلم.. فهو من المخلصين.
وهذا دليل على أنه ترك شهوته لله لا للناس. ولو كان هذا مرائياً بمجرد إطْلاع أو اطِّلاع الغير على العمل، أو الفرح بثنائهم عليه لصومه، لم يمتنع أصلاً عن المفطرات إذا خلا بنفسه. وذلك من معنى الحديث القدسي: (يَدَعُ شهْوَتَه وطعامه من أجْلِي).
وما ورد عن بعض الصالحين مِن تعمُّد ستر أعمالهم الصالحة، فيُحمل على التحوط وتسييج الأعمال وحراستها بالأقفال زيادةً في الاطمئنان على حفظ أجرها، كما يتوثق المرء من باب داره بزيادة بابٍ آخر ووضع أكثر من قفل. وعليه تحمل الحكايات في ذلك، إن صحت، وليس ببعيد صحة بعضها. مثلما روي عن سُرِّيِّة للربيع بن خثيم أنه كان يدخل على الربيعِ الداخلُ وفي حِجره المصحف فيغطيه. وجاء عن الأعمش أنه قال: كان عبد الرحمن بن أبي ليلى يصلي، فإذا دخل الداخل نام على فراشه. وجاء عن سهل بن منصور أنه قال: كان بِشر يصلي، فيطوّل ورَجُل وراءه ينظر، ففطن له، فلما انصرف قال: لا يعجبك ما رأيتَ مني، فإن إبليس قد عَبَدَ الله دهراً مع الملائكة. وروى الإعلامي فهد السنيدي أنه طلب لقاء من الشيخ محمد بن سبيّل ليتكلم عن سيرته فقال: يا فهد، سيرتنا وأعمالنا الظاهرة هذه يعرفها الناس، وأما أعمالي الخفية فلا يمكنني أن أتحدث عنها.
ومن جميل ما ورد في ذلك ما روي عن عبدة بن سليمان المروزي قال: “كنَّا في سَريَّة مع عبد الله بن المبارك في بلاد الرُّوم، فصادفْنا العدوَّ فلما التقى الصفان خرج رجلٌ من العدوِّ فدعا إلى البراز، فخرجَ إليه رجلٌ فقتله ثم آخرُ فقتله. ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل فطارده ساعةً فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فكنت فيمن ازدحم إليه؛ فإذا هو يلَثِّم وجهه بكُمِّه! فأخذت بطرف كُمِّه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك. فقال: وأنت يا أبا عمرو ممَّن يُشنِّع علينا؟!
- استحضار عظمة ( لا إله إلا الله ) عند المساومة
يقول Y: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67). ويقول: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) (الكهف:50). تمعن في الآيتين ثم قل لي بالله عليك: أيعقد هذه الصفقة إنسان في قحفه مُسكة من عقل؟! صفقة يكون الخيار فيها بين رب تكون الأرض في قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه! وبين إبليس؟! معاذ الله!! (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)!!!
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي e قال: (إنَّ نَبيَّ اللهِ نوحًا عليه السَّلامُ لمَّا حضَرتْه الوَفاةُ قال لابنِه: إنِّي قاصٌّ عليكَ الوَصيَّةَ.. آمُرُكَ باثنتَينِ، وأنهاكَ عن اثنتَينِ، آمُرُكَ بـ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأَرَضينَ السَّبعَ لو وُضِعتْ في كِفَّةٍ، ووُضِعتْ لا إلهَ إلَّا اللهُ في كِفَّةٍ، رجَحَتْ بهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ. ولو أنَّ السَّمَواتِ السَّبعَ والأَرَضينَ السَّبعَ كُنَّ حَلْقةً مُبهَمةً، قصَمَتْهنَّ لا إلهَ إلَّا اللهُ. وسُبحانَ اللهِ وبحَمدِه، فإنَّ بها صلاةَ كلِّ شيءٍ، وبها يُرزَقُ الخَلقُ. وأنهاكَ عن الشِّركِ والكِبرِ)([1]).
وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الحديث فإنه يرسم للمسلم صورة تخيلية تدفعه لوضع منهاج عملي لالتزام جناب الله جل شأنه في كل ما يعرض له من فتن تستزله عن طاعة الله إلى اتباع هواه رغبة ورهبة. قد يُعرض عليك منصب كبير: رئاسة أو وزارة أو نيابة وما شابه ذلك، لكن في معصية الله ونسيان حق الناس في هذا المنصب. وقد تضعف وتتردد وتميل. فاصنع ما يلي:
- تخيل أمامك كفتي ميزان.
- ضع المنصب في إحدى الكفتين، ثم ضع (لا إله إلا الله) في الكفة الثانية.
- اسأل نفسك: أي الكفتين أثقل؟ وأنت بالخيار!
- أخيراً تأمل في حقيقة الصفقة! ما مدى الربح وفي مقابله مدى الخسارة؟!
اتبع هذه المنهجية في كل ما يعرض لك أو عليك، ستجد طاقة كبيرة دافعة في الاتجاه الصحيح. وأنت بعد ذلك بالخيار. ولا أرى مسلماً عاقلاً يختار إلا الكفة التي فيها شهادة التوحيد؛ فهي أثقل الكفتين بما لا مجال فيه للمقارنة!
هكذا تثقل كلمة (لا إله إلا الله) في موازين الآخرة، لثقلها في ميزان قوم في الدنيا، وتخف لخفتها في ميزان قوم آخرين. كما جاء في وصية أبي بكر الصديق t التي تروى عنه عند موته حين قال: (إِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فِي الآخِرَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَـلِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لا يُوضَعُ فِيهِ إِلا حَقٌّ أَنْ يكون ثقيلاً. وإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فِي الآخِرَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. وَحُقَّ لِمِيزَانٍ لا يُوضَعُ فِيهِ إِلا بَاطِلٌ أَنْ يكون خفيفاً).
[1] – صحح الألباني إسناده في (السلسلة الصحيحة).
المراقبة
-
المراقبة
يقول تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت:45). قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله أكبر على الإطلاق: أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له([1]).
المراقبة من أعظم ما يقرب العبد إلى ربه، حتى جعل النبي e منزلتها أعظم المنازل ألا وهي منزلة (الإحسان). والتي تعلو على منزلة (الإيمان) في منازل الدين الثلاث التي تبدأ بـ(الإسلام) ثم (الإيمان) ثم الإحسان. وهي آخر درجات المجاهدين؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69). وما يزال العبد يجاهد ويجاهد حتى ينالها وقد قرت عينه وعرج بروحه إلى ربه. وهو من معنى قوله: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93).
وإليها الإشارة بقوله I: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ). وهي آخر آية من سورة (النحل:128). فقد جاء بعدها مباشرة قوله في سورة (الإسراء:1): (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). قال الدكتور فاضل صالح السامرائي ما معناه[2]: وأعلى ما يكون الإحسان حين يسرى بالعبد إلى ربه Y. وهي درجة تفرد بها سيد المحسنين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفي كتاب الله تعالى كثير من الآيات التي تتعلق بالمراقبة كقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) (البقرة:235)، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء:1)، وقوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).
ومن السبعة الذين ورد الحديث بأن الله يظلهم في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.. وآخر دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) متفق عليه. وذلك مصداقاً لقوله I: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات:41،40).
مع أرباب السلوك
ولأرباب السلوك حكايات فيها شذرات من حِكم، وجواهر من كَلِم، نقتني بعضها:
كان الفضيل بن عياض رحمه الله إذا قرأ قوله تعالى: (ونبلو أخباركم) يقول: اللهم إنك إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا، وأنت أرحم الراحمين.
ويقول ابن الجوزي: ياهذا عندك بضائع نفيسة: دموع ودماء وأنفاس وحركات وكلمات ونظرات. فلا تبذلها فيما لا قدر له؛ أيصلح أن تبكي لفقد ما لا يبقى؟ أو تتنفس أسفا على ما يفنى؟ أو تبذل مهجة لصورة عن قليل تمحى؟ أو تتكلم في حصول ما يشين؟ ويحك دمعة فيك تطفئ غضب ربك، وقطرة من دم في الشهادة تمحو زللك، ونفَس أسف ينسف ما سلف، وخُطوات في رضاه تغسل الخطيات، وتسبيحة تغرس لك أشجار الخلد، ونظرة بعِبرة تثمر الزهد في الفاني.
ويقول أحدهم: والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه.
وقال غيره: أتدري من الرجل؟ الرجل والله.. من إذا خلا بما يحب من المحرم، وقدِر عليه.. تذكر، وتفكر، وعلم أنَّ الله يراه .. ونظر إلى نظر الحق إليه فاستحيى من ربه.. كيف يعصيه وهو يراه؟!
تدريب عملي بديع
تأملوا هذه الطريقة التربوية العالية في (تنمية الإيمان) بـ(المراقبة):
قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار. فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال: قل بقلبك عند تقلبك بثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك: “الله معي.. الله ناظري.. الله شاهدي”. فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته، فقال: قله في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلته، فوقع في قلبي حلاوته.
فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة. فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري. ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية. فكنت أخلو بنفسي، فبعثوا بي إلى المكتب، فقلت: إني لأخشى أن يتفرق علي همي، ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم ثم أرجع. فمضيت إلى الكُتّاب، فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين.
ومن أعظم ما تثمره المراقبة الإحساس بوجود الله تعالى وقربه ورؤيته للعبد، وذلك يورث الحياء منه، وهو إحساس راقٍ، حين يبلغ المرء درجته يكون إنساناً حقاً. هنا – وأنا أكتب هذه العبارة – انتبهت إلى أن هذه هي درجة الإحسان، التي تبادرت إلى ذهني عند أول كلمة أردت كتابتها عن (المراقبة)، فأيقنت بصحة هذا الشعور الذي اجتاحني وأنا أكتب اللحظة ما أعبر به عنه.
دموعُ أحمد
وكانت تجول في بالي أبيات الشعر التي أبكت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: فقد روت كتب الرقائق عن حامد الخلقاني أنه قال لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار أي شيء تقول فيها؟ فقال مثل أي شيء؟ قلت يقولون:
إذا ما قالَ لي ربي وتُخفي الذنبَ عنْ خلقي فما قولي لَهُ لما |
أما استحييْتَ تعصيني وبالعصيانِ تأتيني يعاتبُني ويُقصيني |
قال: فأعدت عليه، فقام ودخل بيته ورد الباب، فسمعت نحيبه من داخل البيت وهو يردد:
فما قولي لَهُ لما | يعاتبُني ويُقصيني |
فخرجت وتركته. وظل الإمام أحمد يردد الأبيات وينحب حتى قال تلامذته: كاد يهلك الإمام من كثرة البكاء!
ما أعظم هذه الآيات والأحاديث! وما أجمل هذه الحكم والكلمات والحكايات! ولكن الأجمل منها هو عدم قصرها على الأذكار والعبادات، والخروج بها من هذه الدائرة، على أهميتها، إلى دائرة الشمول والتكامل في فهمها واستثمارها في القضية مع العبادة. وقد رأيت من استعملها للتوبة من الذنب في سبيل نصرة قضية بلده. فاحتاز الحسنيين كلتيهما: العبادة والقضية.. الإيمان والنصرة: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران:81).
إن هذا التكامل ينبغي أن نستصحبه مع جميع موضوعات الإيمان. فإذا فعلنا ذلك قمنا بواجبنا في حمل الدين بكماله، وأخذه بقوة: إيماناً ونصرة، عبادة وقضية، زاداً وجهاداً.
- المحاسبة
ورد في أدب المحاسبة التوجيه إلى محاسبة المسلم نفسه كل ليلة، وكل فترة، ومراجعة عمله باستمرار دون انقطاع. لكن الذهن ينصرف دوماً إلى النظر في العبادات والذنوب والأخطاء، وعلى هذا يجري سَنن الوعظ. فيستشهد أهل العلم – مثلاً – على ذلك بقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18). يقولُ ابنُ كثيرٍ رحمه الله: أي حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتُم لأنفسِـكم من الأعمالِ الصالحةِ ليومِ معادِكم وعَرضِـكم على ربِكم، واعلموا أنه عالمٌ بجميعِ أعمالِكم وأحوالِكم.
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزيّنوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) (الحاقة:18).
قال أنس t: سمعتُ عمرَ بن الخطابِ t، وقد دخلَ حائطاً، وبيني وبينه جدار، يقول: عمرُ بن الخطاب أميرُ المؤمنين! بخٍ بخ، واللهِ لتتقينَ الله يا ابن الخطاب أو ليُعذبنَّك!
قال ابن القيم: (وأضر ما عليه: الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويُمَشّي الحال ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأَنِس بها، وعسر عليه فطامها. ولو حضره رشده لعلم أن الحِمْية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد).
وكتب عمر بن الخطاب t إلى بعض عماله: (حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قَبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغله أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة).
وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه). ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان، إن لم تحاسبه ذهب بمالك.
فأين القضية ؟!
وهذا كله عظيم ومطلوب وأساسي في موضوع المحاسبة.
ولكننا إذ نفهم الدين عبادة وقضية، إيماناً ونصرة، نجد أن هذا المفهوم ينصرف في أذهان الناس، ويتفاعل مع حاجة العبادة والإيمان، ولا يلبي حاجة القضية والنصرة. إذ يركز الواعظ والسامع النظر على العبادات كالصلاة ونوافلها، والأذكار وأعدادها، وقيام الليل، والورد اليومي من القرآن الكريم، والأدعية، وأعمال الخير، والإحسان إلى الناس، وعلى الذنوب والأخطاء التي تتعلق بالقلب واللسان والجوارح. بينما التكامل الواجب يقتضي لفت الانتباه إلى محاسبة النفس على جهدها في نصرة الدين، ومدى حجمه وعمقه ومطابقته لشروط العلم ولوازم إحكام العمل. كما يقتضي مراجعة الخطط والأفكار، ومتابعة العاملين والأعمال التي تخدم المشروع الموضوع للوصول إلى الهدف المقصود.
[1]– فتح القدير للشوكاني. ونقل عن العلماء للذكر هنا معان أُخرى، منها الصلاة، كما قال سبحانه عن صلاة الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله)، أي ولَلصلاةُ أكبر من سائر الطاعات؛ للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات. وقيل المعنى: ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، وهو اختيار ابن جرير. ويؤيده حديث (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم).
[2]– في برنامجه الشهير (لمسات بيانية)، على قناة (الشارقة) الفضائية، سورة (الإسراء).
الترويح عن النفس
( 10 )
التّروِيحُ عَن النّفسِ .. ( ساعة وساعة )
احترم الإسلام طبيعة الإنسان التي خلق عليها، واعترف بحاجاته الفطرية، ودعا إلى تلبيتها على اختلافها وتنوعها، سوى أنه هذبها ورعاها بحيث لا يطغى بعضها على بعض.
والمسلم إنسان طبيعي يأكل ويشرب، ويميل إلى شقه الآخر. يفرح ويحزن، يضحك ويبكي. يدأب فيتعب جسدياً ونفسياً فيتطلب الراحة بالتوقف عن الحركة والنوم، وقد يشتهي الصمت والعزلة، كما أنه يتطلبها بالطرفة الضاحكة، والحكاية الطريفة، والهزل الخفيف والكلام الشفيف. يمل العمل وتضيق نفسه بالبيت فيشتاق الخروج والتنزه في الحدائق وبين البساتين. وتقول المرأة: ليكون عشاؤنا اليوم في المطعم، أو على ضفاف النهر في الغابة.
ليس في هذا ما يقدح بالإيمان. بل إن هذا كله – بشروطه – من عوامل تنمية الإيمان، وترميمه وإدامته، ومن دونه قد تتحول تكاليف الدين إلى حرج يؤثر على النفس وربما أصابها بعوق وتصحر لا يعالجه إلا ذلك النثيث اللذيذ من الترويح الذي لا ينبغي أن ينفك عنه المسلم كإنسان. فالترويح عن النفس جزء لا يتجزّأ من البناء الكلي للإيمان. فالنوم مقدمة لاستئناف الحركة والعمل بنشاط وهمة، ولولا ذلك لخارت قوى الإنسان وسقط مغشياً عليه. وانبساط عضلة القلب جزء أساسي من عملية ضخ الدم في عروق الجسم، لولاه ما تمكن هذا العضو من مزاولة وظيفته.
ماذا يقول الله Y ورسوله e والمؤمنون
يقول تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6). ويقول سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32).
وروى البخاري عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: آخى النبي e بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل، قال سلمان: قم الآن. فصليا. فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي e فذكر ذلك له، فقال النبي e: (صدق سلمان).
ومما أُثِر عن السابقين: “حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب”.
ليس من الدين التجهم وعدم الترويح عن النفس والأهل
رأينا من إذا تديّن تجهم وجهه وتقبضت أساريره، وبخل بابتسامته وصار كلامه بالقطارة! وربما اشتد فسدّ على نفسه وغيره منافذ الراحة ونوافذ الرحمة. وهذا ناتج إما عن تعجل وتوهم، أو عن جهل، أو عن مرض نفسي سابق، أو عن شعوذة متكلفة. والمشكلة أن مثل هذا يغري البعض من خفاف العقول باتباعه، لا سيما إذا ترافق مع هامة، وهيئة خاصة من شكل ولباس وعمامة.
وليس في ديننا ما يؤيد ذلك. إنما هي هواجس طرقت نفوس بعض الصحابة لشدة حذرها وتوقيها، ثم تبين لهم الحق فرجعوا إليه. كما روى البخاري عن أنس بن مالك t قال: جاء ثلاثة رهط([1]) إلى بيوت أزواج النبي e، يسألون عن عبادة النبي e، فلما أُخبروا كأنهم تقالَّوها، فقالوا: أين نحن من النبي e؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله e فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وروى مسلم عن حنظلة الأسيدي (قال: وكان من كتّاب رسول الله e) قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟! قال قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله e، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين. فإذا خرجنا من عند رسول الله، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله e. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال e: (وما ذاك)؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأى عين. فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله e: (والذي نفسي بيده! إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن، يا حنظلة، ساعة وساعة) ثلاث مرات.
وبعد ..
فهذه خطوط عامة في موضوع الإيمان والتزكية، أردت فيها أن أنعش هذا الباب الواسع من أبواب الإيمان، الذي هو أصله وروحه، محاولاً إضافة شيء جديد نافع تحتاج إليه المرحلة، ويتسم باستمرارية العطاء. فهو – قدرَ الإمكان – يجمع بين الأمرين: الحاجة المرحلية والدائمية.
كما حاولت أن لا يكون علمياً بحتاً يستغرق القواعد الأصولية وتستغرقه، ولا أن يكون روحانياً بحتاً بحيث يفقد عناصر التنمية الذاتية. منوهاً بأن ما ذكر لا يغني عما سكت عنه، وهو كثير؛ فالمكتوب المنهجي لا يحتمل التطويل؛ إنما وظيفته رسم المعالم المهمة دون الخوض كثيراً في تفاصيلها.
والله وحده نسأل أن يجعل هذا حجة لنا لا علينا إنه سميع قريب مجيب.
[1] – في مراسيل سعيد بن المسيب عند عبد الرزاق في (المصنف) أن الثلاثة المذكورين هم: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون y.
المرأة في مشروعنا
( 5 )
المرأة في المشروع السني
عنِ المرأةِ .. نعمْ
لكنَّهُ يُهِمُّ الرجلَ بالدرجةِ نفسِها
المرأة في المشروع السني
المرأة هي العنصر الآخر في تكوين المجتمع.
فالمجتمع – في عنصره البشري – إنما هو رجل وامرأة، ولا ثالث لهما.
هذا يحمُّلنا مسؤولية دينية واجتماعية وتاريخية تجاهها لا بد من دفع استحقاقها. ويُحمِّل المرأة كذلك.
وإذا كانت الربانية أول وصف جوهري من أوصاف مشروعنا، وأول خط مميز من خطوط هويتنا.. فما هي نظرتنا الربانية إلى المرأة تأسيساً وتطبيقاً، أو فكرةً ننطلق منها، ودوراً أساسياً يناط بها، مبنياً على تلك الفكرة الربانية التي هي – في حقيقتها – أحد جوانب عقيدتنا الإيمانية؟
لا بد إذن من وضع عنوان بارز يتناول هذا الموضوع الخطير ضمن عناوين (منهجنا)، الذي هو منطلق (مشـروعنا). فكان (المرأة في مشروعنا)، الذي اتخذ هذا العنوان (شقائق النعمان) وقد أخرجناه في كتاب مستقل.
وللشقائق والنعمان: منفردين ومجتمعين إيحاءات وإيماءات بالغة الرقة، وارفة الجمال، باذخة الشموخ. الورد الأحمر.. الأصل الواحد الذي انشق فكان فلقتين في نبتة واحدة. الإخاء الخالد. نعمان الحيرة وذي قار. نعمان نهاوند وفتح الفتوح..
هلْ يذكرُ الفرسُ في ( ذي قارَ ) صولتَنا ويذكرونَ ( نهاونداً ) وما صنعــــــــتْ إيرانُ .. إيرانُ ! يا ناراً مؤجَّجَـــــــــــــةً |
ما تنقمون منَ ( النعمانِ ) أنْ ضحكَتْ ( أرضُ السوادِ ) على الأيامِ زهرتُها |
ثم إن إفراد المرأة بعنوان خاص في (منهجنا) نابع لدينا من ثلاثة أمور أساسية، هي:
- إيماننا العميق بأن للمرأة دوراً كبيراً في التجديد والتغيير والبناء والتطوير، يفرض علينا أن نفسح لها المجال ونوفر لها البيئة المناسبة في مشروعنا من أجل تأديته على أتم ما يمكن. روي عن النبي e أنه قال: (النساء شقائق الرجال)([1]). أي مثيلات ومساويات إلا ما استثناه الشرع العظيم من خصوصيات تتعلق بالاختلاف الفسلجي والعاطفي وما شابه، مراعاةً للمرأة، مثل ترك الصلاة أثناء الحيض، وإعفائها من الجهاد بالسلاح، لا تقليلاً من شأنها أو تنزيلاً من قدرها ومنزلتها عن الرجل في المرتبة الإنسانية والحقوق المدنية. وعلى هذا الأساس بنينا ذلك الإيمان العميق بدور المرأة في التجديد والتغيير والبناء والتطوير.
- الميل العام إلى تغييب المرأة وإقصائها عن دورها الذي ينتظرها في الإصلاح والنفع العام، والذي لا يمكن أن يغطيه الرجل وحده دونها. خصوصاً في عملية التجديد الفكري، والتغيير الاجتماعي، والبناء الحضاري، الذي بات المجتمع السني في أمس الحاجة إليه.
- الحَيف الواقع على المرأة في مجتمعاتنا على تنوع بيئاتها: شعبية وعشائرية، ريفية ومدنية، دينية وسياسية، وغيرها. من الناحيتين: النفسية والجسدية. فالمرأة تتعرض إلى تبخيس متفاوت النسبة من قبل الرجل، عادة ما (تجتافه)([2]) بفعل التكرار والثقافة الشائعة، فتصدق ما يقال عنها من ذلك، فتنظر إلى نفسها على أنها دون الرجل: في إنسانيتها خِلقياً ومنزلتها اجتماعياً. وهذا يعقد المشكلة ويجعل علاجها صعباً. كما قد تتعرض إلى أذى جسدي يصل إلى حد الضرب والتقييد الزائد في البيت استجابة للعرف الخارج عن قيود الشرع وإرشاداته وآدابه. إضافة إلى حرمانها من بعض حقوقها في الزواج واختيار الشريك المناسب، ومعاملتها كإنسان ناقص الأهلية في الولاية على نفسها ومالها.
في هذا الكتاب محاولة لرسم الخطوط العامة وبيان الركائز الأساسية التي نستند إليها في رؤيتنا الشـرعية السمحة للمرأة ودورها الرباني الكبير في مشروعنا العظيم، دون الخوض في التفاصيل: فقهيةً كانت أو اجتماعية أو سياسية. فهذه توابع لتلك الخطوط والركائز، إن صلحت صلحت توابعها، وإن فسدت فلا معنى لتعديل الظل والعود أعوج.
هكذا جاء البحث كلياً، تأصيلياً. إلا ما قلّ وندر.
تكلمت فيه أولاً عن أصل أصول الربانية في رؤيتنا لهذا الموضوع، فكان (المرأة في القرآن الكريم). و(المرأة في حياة النبي e). أتبعته ببيان (الأصل الواحد) والطبيعة الواحدة للجنسين.
ثم أصلت لقانونين كونيين هما (قانون الزوجية) – وفرعت عنه موضوع (بيت الزوجية) – و(قانون التكامل)، وقانون اجتماعي هو (قانون التفاضل). لِما لهذه القوانين الثلاثة من أجوبة شافية على الإشكالات الطارئة على مرتبة المرأة في سلّم الإنسانية، والتفاضل بينها وبين الرجل في التكاليف والرتبة الوظيفية والاجتماعية.
على أن هذين القانونين (التكامل والتفاضل) محكومان بضابط دقيق، هو قاعدة عظيمة من قواعد المقاصد الشرعية أسميتها قاعدة (المقصود الأبعد).
تلا ذلك التقصي عن (جذور التبخيس الاجتماعي) للمرأة، الذي تناولته من جانب بذوره التربوية الأولى في البيت والمجتمع، ومن جانب جذوره النفسية الجمعية التي يفصح عنها (علم النفس الاجتماعي) أو (سيكولوجية الجماهير)، فكانت (الثقافة الاضطهادية) أهم تلك الجذور.
عرجت بعدها على معادلتين إحداهما دينية قانونية هي (معادلة العدل والمساواة)، التي تكشف لنا عن سر التفاوت الوارد في شرعنا في توزيع المهام والحقوق بين الجنسين. والثانية قيادية إدارية هي (معادلة المنظومة القيادية لا القيادة الفردية)، التي تعتبر من أهم المعادلات الحديثة في القيادة وتحريك الطاقات واستثمارها على أتم وجه.
وقد فصَلت بينهما بإيراد قاعدة مهمة من قواعد الفكر السليم والتصرف القويم هي (الواقعية في التفكير والسلوك والفتوى)، والتي تعتبر من ميزات شريعتنا التي أهلتها للصلاحية في جميع الأدوار والأطوار زماناً ومكاناً وأعياناً. وأكدت على ضرورة الوعي بها واتخاذها مساراً من المسارات المهمة في (منهجنا) كي يكون ويظل منهجاً مرناً قابلاً للتغيير والتطوير باستمرار. وقد جاءت هذه القاعدة في هذا الموضع بين المعادلتين لأسباب اقتضاها التسلسل الموضوعي للبحث.
قبل أن أنتهي من البحث قمت بالتقاط أهم مفتاح من مفاتيح شخصية المرأة ألا وهو (الثقة بها)، ذلك المفتاح الذي يبعث طاقاتها من مكامنها ويضعها في أماكنها من سلم المنظومة القيادية.
وختمت أخيراً ببيان (المظالم الواقعة على المرأة) وخطوط عامة عن (دور المرأة في عملية التغيير الاجتماعي)؛ فتحديد الأهداف ورسم الأدوار ينشأ من واقع الحاجة وألم المعاناة.
والله تعالى وحده أشكر على توفيقه وتيسيره الذي كنت أنعم بظلاله وأترشف من زلاله طيلة أيام البحث الزاهية ولياليه الباهية في هذا الزمن الكنود.
[1]– أخرجه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود. وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن صحة الحديث ومعناه فأجاب: نعم هذا حديث صحيح، والمعنى – والله أعلم – أنهن مثيلات الرجال إلا ما استثناه الشارع؛ كالإرث والشهادة وغيرهما مما جاءت به الأدلة. راجع موقع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز:
http://www.binbaz.org.sa/mat/3427
[2]– الاجتياف Introjection هو تلقي وتمثل أو تقمص كل ما هو مرغوب فيه من الصفات وغيرها، وتصوره جزءاً من الذات كما يتمثل الجسم الطعام. مأخوذ من إدخال الطعام إلى الجوف. وهو عملية نفسية دفاعية لا واعية إجمالاً.
المرأة في القرآن الكريم
المرأة في القرآن الكريم
في الصفحات الأولى منه يروي لنا القرآن الكريم قصة الخليقة، فإذا هي تبتدئ باثنين: أحدهما امرأة. كما ابتدأت قصة الإسلام باثنين: أحدهما امرأة. فكيف عرض هذا الكتاب العظيم روايته الخالدة عن المرأة؟ إليك بيانَها باختصار.
النظرة الشمولية الواقعية
منح القرآن الكريم المرأة اهتماماً كبيراً، وأفرد لها منه مساحات تليق بذلك الاهتمام الكبير، تناولت الحديث عن إنسانيتها ومنزلتها والأحكام الشرعية المتعلقة بها، ووظيفتها الاجتماعية في البيت وخارجه، والدور الذي اضطلعت به بعض الشخصيات النسوية عبر التاريخ. لقد أفرد القرآن للمرأة سورة كاملة هي إحدى (السبع الطوال) وسماها سورة (النساء)، كانت الثالثة من بينها بعد سورتي (البقرة وآل عمران)، اللتين ما كان لهما إلا أن يتصدرا كوكبة سور القرآن الكريم بعد فاتحته أو مقدمته المختصـرة. كما دافع عنها ونهى عن ظلمها وحرم إيقاع الأذى بها، وسن لذلك التشريعات الضامنة. وفي حديث النبي e وصايا وبيانات مهمة.
كان القرآن العظيم واقعياً؛ فكان شمولياً في نظرته للمرأة بحيث قام بتغطية الأدوار التي يمكن أن تؤديها في الحياة الاجتماعية، وعرض المرأة أمام القارئ في صورها المتعددة التي هي عليها في المجتمع، ولم يقتصر على دور واحد أو أدوار مجتزأة ليُغفل بقية الأدوار. ففي موضع تجدها ملكة تقود بحنكة وبصيرة وتؤدة كبلقيس. وفي موضع تبدو لك في صورة سياسية حكيمة كالسيدة أم موسى، تنفذ الدور المنوط بها وتستثمر الفرص التي يهيئها القدر لها أتم استثمار. وفي موضع ثالث تظهر لنا في صورة المرأة الربانية، الناسكة المتعبدة كالسيدة مريم رضي الله عنها. التي يهيئها القدر ليُنشّأ في كنفها إنسان عظيم. وتأتيك رابعةً فإذا هي عاملة تخرج من بيتها لتُسند الرجل في طلب الرزق حين يعجز عن أداء المهمة، كفتاتي مدين… وهكذا.
السيدة أم موسى
تعلمنا آيات القرآن وآيات الأكوان أن الله تعالى يهيئ الأجواء المناسبة لتنفيذ العمل مثل الشتاء لزراعة القمح والصيف لنضوج التمر. ثم ينظر إلى عبده كيف يعمل؟ في هذه المرحلة يكون البدء من العبد. فإذا بادر أدركته إعانة الرب، مسلماً كان أم كافراً، لكن إعانة المسلم فيها بركة وعناية تفتقر إليها إعانة غيره. وإذا تأخر تركه وشأنه. أما أن الله يتولى عن العبد فيقوم له بعمله فهذا ليس من شأن السيد؛ فكيف بالسيد الأعلى Y!
في هذا الإطار الحكيم نفهم قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7). ولك أن تتابع بقية الآيات هناك لترى كيف تجلت السياسة الحكيمة في امرأة من خلال تنفيذ ذلك الإلهام الرباني وتجسيده على أرض الواقع (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (القصص:11)… إلى آخر ما جاء مختصراً من بيانات الحدث في هذا الموضع، ليترك للقارئ تصور ما يلزمها من تفاصيل.
وبقيت المرأة تلازم سيدنا موسى u. وسيأتيك نبأ فتاة مدين.
السيدة مريم .. رمز الطهر ومثال الفخر
من أوائل الشخصيات النسوية التي مجد القرآن الكريم سيرتها إلى درجة جعلت بعض علماء الإسلام يقولون بنبوتها، مريم بنت عمران ر، أم النبي العظيم عيسى u، الذي نسبه الله تعالى إلى أمه أكثر من (20) مرة في كتابه. واستغرق ذكر قصتها وكراماتها في سورة (آل عمران) وغيرها من السور مساحة واسعة، بل أفرد القرآن لها سورة سماها باسمها هي سورة (مريم). هذا وما زالت بعض مجتمعاتنا الإسلامية تخجل من ذكر اسم الأم، فضلاً عن الزوجة والأخت والبنت؛ وكأنه عورة تستر، وزنَمة ينبغي أن تبتر!
لا يا أيتها المرأة! ارفعي رأسك، واسمعي ما سأقوله لك.
إن من أعجب ما لاحظته في هذا الكتاب العظيم وهو يتحدث عن المرأة في شخص السيدة مريم قولَه I: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12). ………………….. .
أرأيتِ أيتها المرأة! ورأيت أيها الرجل!
ولا تنسَي، ولا تنس، أن هذا التشريف جاء مقترناً بقوله Y: (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)!
كما لا تنسيا أن نتيجة هذه التربية وهذا الطهر كان أحد أنبياء الله العظام عليهم السلام، بل أحد الكواكب الخمسة التي تميزت من بين تلك الكوكبة التي أنارت الوجود، كل الوجود. ألا وهو المسيح u! وأن هذه العائلة التي برز من بينها ذلك الكوكب الدري ابتدأ تكوينها بامرأة بلغت بها ربانيتها منزلة، كان أحد تجلياتها (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:35،36). وكان جزاء هذا الصنيع الجميل – إضافة إلى القبول – أن جعل ربها Y وكل تربيتها إلى نبي من أنبيائه إذ يقول: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:37). واهتز زكريا لما رأى فلم يملك سوى أن يتوجه بقلبه إلى ربه ويتمتم لسانه بهذه الكلمات: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران:38). فكان يحيى u أحد الذين اصفوا للاحتفاء بمطلع ذلك الكوكب (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران:34). وكانت البداية امرأة قررت فقالت: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35). فكان الجواب فوق ما تسامى إليه رجاؤها!
ما دمت قد أديت ما عليك، دع الأقدار تتولى ما بدأتَ وترعى ما استأمنتَ. أم لم يأتك خبر (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا)!
ملكة (سبأ).. المرأة الحاكمة الحكيمة
وتأتي ملكة (سبأ) ليضرب بها القرآن الكريم مثالاً رائعاً للمرأة الحاكمة الحكيمة، فكانت قصتها مع نبي الله سليمان u شاهداً من الشواهد الدالة على السياسة البارعة، ممثلةً بامرأة، في تعامل الحاكم مع القوى العالمية وكيفية استثمارها في سبيل نفع شعبه وتجنيب بلاده ويلات الحروب والاحتلال. ولو كانت سياسة حكام العراق، وهم رجال، بمستوى سياسة السيدة بلقيس، وهي امرأة، ما احتل العراق وآلت الأوضاع فيه إلى أسفل سافلين.
فتاة مدين
لست في صدد استقصاء شواهد اهتمام القرآن الكريم بالمرأة، ولكن لا أريد أن أغادر الموضوع قبل أن أشير إلى دور ابنتي العبد الصالح، اللتين وجدهما سيدنا موسى u تذودان أغنامهما حتى يصدر الرعاء، وما في ذلك من إبراز جمال الحياء تاجاً على رأس المرأة الصالحة: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص:25)، وأن الحياء لا يمنعها من العمل بشرف عند الحاجة: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23). كما أن العمل وحسن الأداء فيه لا ينبغي أن يكون على حساب قيمة الحياء.. ذلك الجمال المكتمل بهالة الهيبة والجلال: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23).
ثم تأمل كيف تلطفت (إحداهما) فاقتنصت فرصتها بالاقتران بالرجل الذي أعجبها فقالت: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص:26). فجمعت بين الحياء وبين عرض الرغبة، فلم يمنعها حياؤها من بيان ما أرادت، ولم تخرجها رغبتها إلى التخلي عن حيائها. ولا يستبعد أن يكون هذا هو ما عناه سيدنا موسى u بقوله حين (سَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24). فكانت الاستجابة مباشرة: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي) (القصص:25)!
هي جاءته ولم يذهب هو إليها.
وهنا يأتي دور الأب في التقاط الإشارة ليعين ابنته على الاحتفاظ بذلك التوازن الجميل بين الحياء ومكنونات نفسها المشروعة، وتشجيعها على البوح بما في ذات نفسها من ذلك، كما فعل العبد الصالح إذ أدرك بذكائه اللماح ما رمت إليه ابنته فعرض الأمر على ضيفه قائلاً: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (القصص:27). وربما لهذا السبب جاء اللفظ الذي استعمله القرآن في عرض الزواج من قبل الأب (تأجرني)، مشابها للفظ الذي استعملته ابنته في اقتراحها العمل (استأجره).
لا بد هنا من بيان أن امرأة موسى u يتجلى فيها دور الساند المكمل لدور الرجل؛ فالحياة لا تقوم على القائد المتفرد فحسب. وهذا الدور أساسي لا ثانوي في كل عمل. ومعظم الرجال العظماء المؤثرين في المجتمع لم يكونوا قادة متفردين بل كانوا أعواناً ساندين. ومن هنا يبدأ سلّم القيادة. فإن لم تكن قائداً فكن سنداً للقائد. وإن لم تكن مبدعاً فكن ناقلاً للإبداع.
هكذا وزع الله تعالى الطاقات والقابليات على عباده: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32).
على أن امرأة موسى كانت من طراز الساند المبادر. والمبادرة سمة قيادية، تمنح صاحبها الفرصة للبناء عليها من أجل تطوير الذات وتنمية الصفات وتهيئة الأدوات.
حضور المرأة في مسيرة الأنبياء عليهم السلام
كانت المرأة حاضرة في مسيرة الأنبياء عليهم السلام مثل أبينا آدم e وزوجه حواء رضي الله عنها. وأبي الأنبياء إبراهيم u في شخص زوجه التي خاطبتها الملئكة فقالت لها: (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود:73). كما كانت موجودة بقوة في حياة النبي موسى u من خلال أمه وأخته وزوجه وأختها. وكذلك في حياة غيرهم من الشخصيات العظيمة التي تناولها القرآن العظيم، تكملها وتجملها وتبارك فيها عنصراً أساسياً من عناصر التكميل والتجميل والبركة المتبادلة بين الطرفين. وفي مواضع ومواقف أُخرى. لكنني لست في مقام الاستقصاء أو الإحصاء؛ فأكتفي بهذا القدر.
حين تخطئ المرأة
لم يتجاهل القرآن العظيم أن المرأة بشر، ومن لوازم البشـرية الوقوع في الخطأ مهما كان المرءُ عظيماً، إذ ليس من شرط العظمة النقاء حد العصمة. وذلك لتكتمل الشخصية في صورتها الطبيعية. وهذه هي طريقة القرآن الثابتة في تناول سيرة الرجال أيضاً، فهو يعرض الإنسان كما هو بجانبيه حتى وهو يتناول بالذكر أفضل الخلق الأنبياء عليهم السلام. وذا ما يفتقده المنهج الشائع اليوم، إذ يَعرض سيرة العظماء من جانبها القوي ويبالغ فيه، بينما يتناسى الجانب الضعيف ويُعرض عنه. وذلك من أسباب الخلل التربوي، والفشل القيادي؛ إذ يتطلب الناس قادة أسطوريين لم تشهد الأرض يوماً وجودهم على ظهرها! وحين لا يرون بين ظهرانَيهم مثل هذا المخلوق الأسطوري يكون الإحباط فالانفضاض فالفشل.
ومن أحكم ما فعل القرآن الحكيم في هذا السياق أنه أنزل هذه الصورة الثنائية على النساء القدوة في بيت النبوة في مواضع عدة منه. فكانت سورة (التحريم) أحد الشواهد. وهذا يعزز ثقة المرأة بنفسها، ويقلل من منسوب تضخيم الخطأ إذا صدر من المرأة مقارنة بالرجل.
نساء النبي صلى الله عليه وسلم
أما نساء النبي e فقد منحهن الله تعالى أعظم المراتب إذ قال سبحانه في حقهن: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) (الأحزاب:32). وحفل القرآن بكثير من أخبارهن ومواقفهن وذكر جوانب من العلاقة الرابطة بينهن وبين النبي e كزوج وكنبي.
وفي سورة (الأحزاب)، التي هي بحق سورة أمهات المؤمنين، وسورة (التحريم)، وغيرهما من السور، دلائل وبينات على التعامل الكريم، والاستقرار النفسي الذي كان يسود بيت النبي e، ورفرفات السعادة التي كانت تحوطه وتزينه. يكفي أن تقف عند هذه الآية: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (التحريم:3)! لم يشتد في تأنيب زوجته التي لم تحافظ على سره، ولم يسرد على مسمعها كل الحديث بل اكتفى بما يؤدي المقصود منه وأعرض عن بقيته احتراماً لمشاعرها ومداراة لحيائها وخجلها، ورفقاً بتلك القارورة أن تكسرها لمسة ضغطت عليها أكثر مما تحتمل زجاجتها. وقد يغاضب النبي زوجاته فيكتفي بالانسحاب وترك البيت لهن. ولو فعله واحد منا اليوم لربما عيروه ونبزوه.
يروي البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب t وقد سأله ابن عباس رضي الله عنهما عن المرأتين من أزواج النبي e، اللتين قال الله لهما: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) فقال: كنا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصحت على امرأتي فراجعتني، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولمَ تنكرُ أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي e ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل). وفي سياق الحديث يذكر عمر اعتزال النبي e نساءه جميعاً شهراً واعتكافه في مشـرُبة (أي غرفة). يقول: فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئ على وسادة من أدَم، حشوها ليف، فسلمت عليه، ثم قلت وأنا قائم: طلقت نساءك؟ فرفع بصره إلي، فقال: (لا ولكني آليت منهن شهراً). والحديث طويل. وفي رواية لمسلم: فدخلت على رسول الله e وهو مضطجع على حصير. فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره. وإذا الحصير قد أثر في جنبه. فنظرت ببصري في خزانة رسول الله e، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع. ومثلها قرظ (أي ورق شجر يدبغ به) في ناحية الغرفة. وإذا أَفِيق (جلد لم يُدبغ) معلق. قال: فابتدرت عيناي. قال:”ما يبكيك يا ابن الخطاب؟”قلت: يا نبي الله! وما لي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك. وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى. وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله e وصفوته. وهذه خزانتك. فقال: “يا ابن الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟”، قلت: بلى.
وهذا ما كان يفعله أحياناً بعض أصحابه حين يتعسر الخلاف بينه وبين زوجه، فيروي الشيخان عن سهل بن سعد قال: جاء رسول الله e بيت فاطمة، فلم يجد علياً في البيت، فقال: (أين ابن عمك)؟ قالت: كان بيني وبينه شيء، فغاضبني فخرج، فلم يقِل عندي. فقال رسول الله e لإنسان: (انظر أين هو)؟ فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد. فجاء رسول الله e وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، وأصابه تراب، فجعل رسول الله e يمسحه عنه ويقول: (قم أبا تراب، قم أبا تراب).
وما قيدته هنا إنما هو إطلالة خاطفة، أشرت بها سريعاً إلى مدى اهتمام هذا الدين بشأن المرأة، وحضورها الكبير في صناعة الأحداث ورسم تاريخ البشرية منذ بداية الخليقة إلى زمن تنزل القرآن.
وللرجال عليهن درجة
أخبر جل جلاله في كتابه الكريم أن للرجال على النساء درجة فقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:228). فما هذه الدرجة؟ هل هي درجة كرامة إنسانية؟ أم درجة وظيفة اجتماعية أنيطت بكل منهما تبعاً للتفاوت فيما جبل عليه كل جنس من مقومات تلك الوظيفة؟ لا شك أن معنى الدرجة يتعلق بالوظيفة أو الدرجة الاجتماعية، لا بالكرامة أو الدرجة الإنسانية. ولذلك عند التطبيق والتفصيل أبعاد متعددة. فالراجح من سياق الآية وهو الحديث عن الطلاق وأحكامه أن الدرجة هنا تتعلق بحق الرجل في رد زوجته المطلقة إلى عصمته ما دامت في فترة العدة. ومن أجمل ما قرأت في لطائف الآية قول ابن عباس: “الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة، والتوسع للنساء في المال والخُلق؛ فالأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه”.
وفي قوله تعالى: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء:32) ما يشير إلى معنى تلك (الدرجة) إذا فسرناها بالتفضيل الوارد في الآية، وهو التفاوت في الميراث بين الرجل والمرأة بناء على أسباب موضوعية اقتضت هذا التفضيل. وهو تفضيل يتعلق بالناحية المادية لا بالدرجة الإنسانية. كما يعطى الوزير نصيباً أكثر من المدير. علماً أن التفاوت في المقدار يكون تارة لصالح الرجل وتارة لصالح المرأة. وسنبين هذا لاحقاً، مع ذكر أسبابه وأمثلة عليه باختصار.
وفي قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء:34) ما يشير إلى أن (الدرجة) لها بعدٌ ذاتي مغروس في الجِبِلَّة، جاء التعبير عنه بقوله تعالى: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، وبعدٌ مادي عبر عنه بقوله: (بِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). والبعد الذاتي المتعلق بالقوامة وهي القيادة بشقيها: الصلاحية والمسؤولية؛ لأن (القوّام) هو “الذي يقوم على شأن شيء ويليه ويصلحه”([1]). هذا البعد يعني وجود عناصر فطرية جِبلّية مؤهلة للقوامة عند الرجل أكمل مما هي عند المرأة.. من القوة العقلية السالمة نسبياً من المعارض (الذي هو العاطفة)، والقوة البدنية التي فرضت القتال على الرجل دون المرأة.. وذلك لكي يتمكن من القيام بأعباء القيادة.
إن هذين البعدين: الذاتي والمادي يتفاوت فيهما حتى الرجال فيما بينهم؛ فليس كل الرجال على نسق واحد في القوتين: العقلية والبدنية. بل إن كثيراً منهم ينزلون إلى دون ما لدى المرأة خصوصاً في المؤهل العقلي. لكن الآية تقارن بين الطرفين كجنس مقابل جنس، لا كفرد مقابل فرد. وذلك يفسح مجال التنافس أمام الجميع دون استثناء؛ فإن قيمة الكرامة – في النهاية – تتعلق عند حسابها بالفرد كلاً على حدة، وهي قائمة على التقوى، والتقوى لا يعلمها إلا الله جل في علاه.
أما الحكمة الاجتماعية من وراء ذلك، فتبرز من إدراك أن هذه العناصر الجبِلِّية تتعلق بشيئين:
- قيادة البيت.
- وحماية من فيه، ومنهم المرأة.
والقيادة تقوم في الغالب على التفوق العقلي، وهو متحقق في جنس الرجال أكثر من جنس النساء. لأن القيادة خيار بين المرأة والرجل ولا ثالث لهما، وقد اقتضت حكمة الخلق أن تكون القيادة للرجل؛ فكان ينبغي أن تكتمل عناصر العقل فيه أكثر مما في المرأة. على أنه ينبغي هنا التمييز بين العقل والذكاء. فالذكاء كمية والعقل نوعية، والذكاء ثمرة والعقل شجرة، والذكاء بيانات والعقل برمجة، وقوة البيانات ببرمجتها لا بكثرتها. علاوة على ذلك فقد سلم عقل الرجل – نسبة إلى عقل المرأة – مما يعارضه من طغيان العاطفة. لهذين السببين: قوة العقل في ذاته، وسلامته النسبية من المعارض كان التفوق في هذا الجانب لصالح الرجل. وأما الحماية فتقوم على قوة البدن. وتفوق الرجل في هذا الجانب من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان.
وليس في ذلك خرم للدرجة الإنسانية لصالح الرجل على حساب المرأة؛ فإن الرجال أنفسهم يتفاوتون فيما بينهم من الناحية البدنية والعقلية. لهذا كان استحقاق القيادة العسكرية لمن بذّ أقرانه فيهما كما قال Y: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247). وأما السياسة والحكم فيشترط لقيادتها بسطة العلم، وتكمل ببسطة الجسم.
[1]– التحرير والتنوير، ص38، محمد الطاهر ابن عاشور. الدار التونسية للنشر، تونس 1984.
المرأة في حياة النبي
المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم: النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)([1]). وفيه – إن صح – التنبيه على منزلة المرأة وحضورها الكبير في حياة الرجل. وأن العلاقة بينهما علاقة حب بلغ من رقيه ورقته ما أهله أن يُقرن بالطيب! ولا يخفى على الفهم الدقيق والذوق الرفيع ما بين الاثنين: المرأة والطيب من تلازم.
أمنا خديجة .. الاستقلالية والشخصية والرأي السديد
كان حضور أمنا خديجة رضي الله عنها بارزاً في حياة النبي e، وتأسيس دولة الإسلام منذ أن بادرت هي فعرضت نفسها عليه كزوجة بواسطة صديقتها نفيسة بنت أُمية فذهبت هذه إليه وكلمته فقالت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قالت: فإن كفيت ودعيت الى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قالت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: عليّ. قال: فأنا أفعل. وفي هذا درس بليغ في استقلالية المرأة، وقوة شخصيتها، واحترام رأيها، وبطلان الحجر عليها في اختيار شريكها، ومعاملتها من قبل معظم المجتمعات الإسلامية اليوم شخصاً ناقص الأهلية في نفسها، وقد يتعدى نقص الأهلية إلى مالها.
في هذا الزواج المبارك شاهد لاستقلالية المرأة، لا سيما الثيب الرشيدة، في اختيار زوجها، وشرعية سعي المرأة للاقتران بمن تراه أهلاً لها. كما أنه يشير إلى أن المرأة كان لها في المجتمع القريشي الجاهلي شأن أعلى من شأنها اليوم في بعض الأوساط العربية والإسلامية، التي تحجر على المرأة في اختيار زوجها. إننا نربأ بأنفسنا عن هذه الثقافة المخالفة للشـرع وللإنسانية، ولا يصلح في مشروعنا السني من لم ينخلع من رواسبها، ويسعَ في علاجها وإصلاحها.
ثم انظروا إلى كمال عقل أمنا خديجة رضي الله عنها كيف استدلت على نبوته e بأمرين: سيرته العطرة وقرائن الحدث. وإذا كان الصديق آمن بالنبي دون تردد، فإن خديجة آمنت بنبوته والنبي e ما زال متشككاً فيها فقالت له، كما يروي الإمام البخاري عن عائشة ر: (كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكـَل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله e خبر ما رأى، فقاله له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى).
ثم نصرته بمالها ونفسها وهيأت له البيت الهادئ الملائم لحامل قضية؛ ولذلك أكرمها الله تعالى وجازاها من جنس عملها؛ فقدروى البخاري عن أبي هريرة t قال: أتى جبريل النبي e فقال: (يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب). لأن البيت الذي هيأته له كان خالياً من الصخب سواء منها أو من أطفالها، وبعيداً عن النصب أو التعب فقد كانت رضي الله عنها حريصة على إسعاده وعدم إيذائه أو إرهاقه بشيء.
وتأمل حبه e ومدى وفائه لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد، أخت خديجة، على رسول الله e، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: (اللهم هالة). رواه البخاري. هل تأملت كيف استفزت مشاعر النبي حين سمع صوتاً يشبه صوت خديجة (فارتاع)، انظر إلى هذه الكلمة المشحونة بالحب والحنين والوفاء وجيشان العاطفة واستفزازها: (فارتاع)!
وكانت علاقة النبي بخديجة مثالاً عالياً لوفاء الزوج لزوجته، حتى إنه كان يكرم – بعد موتها – صديقاتها إكراماً لها. يروي الشيخان عن عائشة. قالت: ما غرت على نساء النبي e إلا على خديجة. وإني لم أدركها. قالت: وكان رسول الله e إذا ذبح الشاة فيقول “أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة”. (وفي لفظ: ثم يُهديها إلى خلائلها) قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة؟ فقال رسول الله e: “إني قد رزقت حبها”. وظل النبي يذكرها إلى آخر يوم في حياته: (آمنت بي اذ كفر الناس وصدقتني اذ كذبني الناس وواستني بمالها اذ حرمني الناس ورزقني الله ولدها اذ حرمني أولاد النساء)([2]).
المعاملة الزوجية الراقية
هذا وكانت معاملة النبي لنسائه في غاية السمو والرفعة والاحترام، وسيرته شاهدة بذلك. يكفي في تصور ذلك قول أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله e شيئاً قط بيده، ولا امرأةً ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه. إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل) رواه مسلم. وفي حديث الأفك شاهد عظيم آخر، فقد اتهمت عائشة من قبل المنافقين ومن سمع لهم من المؤمنين، وكثر القيل والقال، فكان تصـرف النبي e سامياً حكيماً. احترم مشاعر زوجته فلم يواجهها بالتهمة قط، إنما سأل وتبين فلم يثبت له شيء. حتى نزلت براءتها من السماء. وتنظر إلى الواقع فتقول: كم من البريئات قتلن بسبب قالة أو شائعة بذريعة ظالمة مخترعة اسمها (غسل العار). أي غسل العار عن الغير من الأهل والعشيرة، أما المرأة فكأنها لا وجود لها ولا اعتبار، فتدفع حياتها ثمناً لغيرها.
أمنا أم سلمة .. وشورى النساء في الإسلام
كان e يستشير نساءه في أمور تطيش عندها أحلام الرجال! ففي صلح الحديبية يكون النبي في وضع حرج يقول لأصحابه، كما روى الإمام أحمد بسنده عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما: (يا أيها الناس انحروا واحلقوا)، فما قام أحد. ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد بمثلها، فما قام رجل. فماذا فعل؟ ومن استشار؟ دخل على أم سلمة فقال: (يا أمَّ سلمة! ما شأن الناس)؟ قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك. فخرج رسول الله e لا يكلم أحداً حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون. قال العلماء: وفي ذلك دليل على استحسان مشاورة المرأة الفاضلة ما دامت ذات فكر صائب ورأي سديد، كما أنه لا فرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة، طالما أنها مشورة صائبة.
حضور المرأة أخطر اجتماع في تاريخ الإسلام
من المواقف التي تُشَكل معلماً بارزاً من معالم تقدير الإسلام لدور المرأة، حضور امرأتين، هما أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، وأم منيع أسماء بنت عمرو رضي الله عنهما، أخطر اجتماع في تاريخ تأسيس الدولة الإسلامية وهو بيعة العقبة الثانية، الذي شدد النبي e غاية التشدد في إحاطته بالسرية. ناهيك عن مشاركة المرأة في حروب النبي مقاتلةً وممرضةً ومطعمةً وساقيةً.
الحجاب أم العزل .. إذا أُمنت الفتنة ؟
ورد في السنة النبوية من رواية الشيخين عن سهل بن سعد الساعدي قال: (لما عرس أبو أسيد “مالك بن ربيعة” الساعدي دعا النبيَّ e وأصحابه، فما صنع لهم طعاماً ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد. بلّت تمرات في تَور (إناء) من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي e من الطعام أماثته له فسقته، تتحفه بذلك. فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس). وتنظر إلى بعض المجتمعات فتجد العزل الكامل بين الرجال والنساء؛ حتى لكأن الناس لا يظنون ببعضهم إلا السوء. وحتى كأن الرجل لا يرى من المرأة إلا أنوثتها، ولا المرأة من الرجل إلا ذكورته!
وروى أحمد في (المسند) بسنده عن عياض بن غطيف، قال: “دخلنا على أبي عبيدة بن الجراح نعوده من شكوى أصابته وامرأته تُحَيفَةُ قاعدة عند رأسه. قلتُ: كيف بات أبو عُبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجرٍ…”([3]).
إن هناك فرقاً بين السفور المنهي عنه وبين الاختلاط المسؤول أو المحسوب مع ارتداء الحجاب الشرعي وخارج نطاق الخلوة، لا سيما بين الأقارب والأصدقاء. كما نرى أن هناك فرقاً بين الحجاب والعزل التام. فوجوب الحجاب لا يلزم منه العزل ما دامت الخلوة منتفية. وقد تمعنت في أدلة القائلين بالعزل المطلق فوجدتها خارج نطاق الشروط التي ذكرناها للقاء المشترك. وما يدّعى من نسخ حديث أبي أسيد فلا يتم إلا بتكلف ظاهر. سيما وأن الحجاب شيء والعزل شيء آخر. فلا حاجة لاستنزاف الجهد في محاولة إثبات وقوعه قبل تشريع الحجاب.
وفي الصحيحين وغيرهما: عن عمر بن عبد الله بن الأرقم أن سبيعة بنت الحارث أخبرته: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح، فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت، وأتيت رسول الله e فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي([4]).
على أننا لا نرى جواز اختلاط الذكور والإناث في المدارس – مثلاً – على اختلاف مستوياتها، وفي عامة الدوائر إلا لضرورة تقدر بقدرها.
ولا يسعنا الخوض في هذا الموضوع بأكثر مما قدمنا؛ لأن صفة المنهجية تستلزم الابتعاد عن الخوض في الفروع قدر الإمكان، إلا بما لا يتعارض مع المنهجية، لا سيما الفرعيات التي يشتد فيها الخلاف.
[1]– أخرجه أحمد وغيره عن أبي هريرة. وصححه الألباني في (صحيح الجامع). والحديث مختلف في صحته، ويروى أيضاً بزياد (حبب إلي من دنياكم ثلاث…)، وهي لا تصح.
[2]– رواه أحمد وغيره عن عائشة، وصححه شعيب الإرنؤوط (المسند:41/356).
[3]– حسنه شعيب الإرناؤوط (المسند:(3/220).
[4]– قال الألباني (سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، 6/494، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى. 1416هـ – 1996م): فما رأي المتحمسين للقول بأن المرأة كلها عورة دون استثناء في هذا الحديث الصحيح، وما ذكره الحافظ من الفائدة؟ لعلهم يقولون، كما هي عادتهم في مثل هذا النص الصريح: كان ذلك قبل نزول آية الحجاب! فنجيبهم: رويدكم! فقد كان ذلك بعد حجة الوداع كما في (الصحيحين) فهل من مدكر؟
أصل واحد وطبيعة متجانسة
أصل واحد وطبيعة متجانسة
يقول جل جلاله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء:1).
المرأة والرجل إذن جنس واحد وكينونة واحدة، بعضها من بعض؛ كما قال سبحانه في آية أُخرى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران:195)، لا ميزة لأحدهما على الآخر، إلا في مسائل اقتضتها خصوصية الوظيفة هي للتكامل أقرب منها للتمايز. فتفاوت الخلق في الإمكانية لا يعني تفاضلهم في الإنسانية. والرجل والمرأة في الإنسانية سواء وإن تفاوتوا فيما دون ذلك؛ والبيت سكن ودعة لا ساحة نزال أو حلبة مصارعة!
أما الفارق المشاهد ففي الاستعداد والوظيفة – كما يقول سيد قطب – لا في الأصل والفطرة. ويضيف: إنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر. وإن الرجل والمرأة ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان. شاء الله أن يجعلهما شطرين للنفس الواحدة. والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد… وأراد بالتقاء شطري النفس الواحدة – بعد ذلك – فيما أراد، أن يكون هذا اللقاء سكناً للنفس، وهدوءاً للعصب، وطمأنينة للروح، وراحة للجسد.. ثم ستراً وإحصاناً وصيانة.. ثم مزرعة للنسل وامتداد الحياة، مع ترقيها المستمر، في رعاية المحضن الساكن الهادئ المطمئن المستور المصون…
ومن تساوي شطري النفس الواحدة في موقفهما من اللّه، ومن تكريمه للإنسان.. كان ذلك التكريم للمرأة، وتلك المساواة في حقوق الأجر والثواب عند اللّه، وفي حقوق التملك والإرث، وفي استقلال الشخصية المدنية… ومن أهمية التقاء شطري النفس الواحدة لإنشاء مؤسسة الأسرة. ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة: أولاً: في توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها، وثانياً: في إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي.. كانت تلك التنظيمات الدقيقة المحكمة التي تتناول كل جزئية من شؤون هذه المؤسسة. إ.هـ.
قانون الزوجية الكوني
في القرآن الكريم، متى ما جاء التعبير عن العلاقة بين امرأة ورجل بلفظ (الزوج)، فهذا يعني أنه يصف تلك العلاقة في أرقى حالاتها، فالرجل زوج المرأة والمرأة زوج الرجل أيضاً (بالتذكير وليس بالتأنيث فقط). وذلك لأن الزوج في لغة العرب هو الشبيه المطابق لزوجه، ولا يقال للزوج زوجاً إلا إذا كان له نظير يشبهه ويجانسه من كل وجه. وبهذا البناء الحرفي جاء التعبير القرآني عن نساء النبي e كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) (الأحزاب:59).
حين تكون المرأة زوجة .. لا أنثى فقط
لم يطلق هذا اللفظ الرفيع (الزوج) في كلام الله تعالى إلا على (امرأة ارتبطت مع رجل بعلاقة زوجية رفيعة، تحقق المقاصد الشـرعية بحيث يحصل التوافق بين هذه العلاقة الرابطة وبين الشرع). ولم يسمّ القرآن – ولا في موضع واحد منه – زوجةً لنبيه محمد e بـ(امرأته) قط؛ ولهذا سر لطيف. ذلك أن لفظ (المرأة) يعبر عن الأنوثة وما تعلق بها دون أي معنى زائد آخر، بينما لفظ (الزوج) أو (الزوجة) يعبر عن التشابه والانسجام أكثر من أي معنى آخر. ومن هنا أُطلق لفظ (الزوج) – بالتذكير – في لغة العرب على الذكر والأنثى كليهما، ولم يقصر على الذكر فقط. بينما يطلق لفظ (المرأة) في لغة العرب على الأنثى فقط. ويطلق في لغة القرآن إذا كان المراد منه المرأة من حيث إنها أنثى تقوم بوظيفة أنثوية. لهذا لم يسمّ القرآن امرأة أبي لهب (زوجة)، ولا امرأة فرعون أو امرأة نوح أو امرأة لوط كذلك؛ لأن أبا لهب وامرأته لم يكن بينهما رباط إيماني يحقق مقاصد الشـرع ويمنح التشابه معناه الحقيقي. وامرأة فرعون المؤمنة لم يكن بينها وبين فرعون الكافر انسجام أو تشابه حقيقي يعكس معنى الزوجية. وكذلك امرأة نوح وامرأة لوط.
ويأتي التعبير القرآني عن الزوجة الحقيقية بلفظ (المرأة) إذا كان الحديث عنها قد تعلق بها من حيثياتها الأنثوية البحتة. ومن هنا ندرك كم كان القرآن دقيقاً حين قال في معرض الحديث عن سيدنا إبراهيم u وزوجته سارة ر: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) (هود:71). وقال: (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) (الذريات:29)؛ إذ المقام مقام حديث عن الحمل والولادة، وامرأة عاقر تحمل. وهذا كله يتعلق بالأنوثة البحتة، دون شرط الزوجية والانسجام.
سر ( الزوجية ) العجيب
وفي هذا الفرق سر بديع. فإن لفظ (الزوج) في لغة العرب – كما قلت آنفاً – يطلق على الشبيه. ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (التكوير:7) قال ابن كثير في (تفسيره): قال ابن أبي حاتم: (بسنده) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله e: (وإذا النفوس زوجت) قال: الضُّرَباء: كل رجل من كل قوم كانوا يعملون عمله. والضرباء هم الأشباه والنظراء([1]). وقال أيضاً: عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذا النفوس زوجت) قال: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة… وعن مجاهد: (وإذا النفوس زوجت) قال: الأمثال من الناس جمع بينهم.إ.هـ .
إن هذا التشابه والتجانس – سواء في الدين والخلق، أم الفكر والهم، أم المشاعر والأحاسيس، وغيرها من أوجه التشابه والتجانس والتقارب – هو سر المودة والرحمة المتبادلة بين الزوجين، وأساس السكون والدعة التي تظلل بيت الزوجية، ومن دونه لا تحصل الطمأنينة، ولا يتم الاستقرار، ولا ترفرف السعادة بأجنحتها الزاهية فوق ذلك البيت؛ استمع إليه تعالى كيف يقول: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21). هل تأملت؟ أزواج أي أشباه، ومن جنس وأصل واحد (من أنفسكم).
عندما تفقد العلاقة خاصية (الزوجية ) الحقيقية – وهي التشابه والتجانس – تبتعد الأشياء عن بعضها، وتتنافر في ودها، وتعيش حالة من الشعور المعنوي بالبرد لهذا الابتعاد؛ فإذا هي تحاول الاقتراب من بعضها لتسترد الدفء المفقود، وتستشعر أثره الذي يسـري في الروح والعقل والفكر، وفي اللحم والدم والعصب. فالدفء كما هو حالة مادية، هو أحاسيس روحية قد يستشعرها المرء – حين يعثر على نظيره – وهو في أجواء الصقيع، وقد يرتجف من البرد وهو بين أهله ومعارفه. أولئك الذين فقدوا طاقة الإشعاع النابعة من التشابه والزوجية الحقيقية!
الشبيه هو من يبحث عنه المرء طيلة حياته: فإن كان من جنسه كان صفيه وصديقه، وإن كان من الجنس الآخر كان حبيبه وخليله، الذي يتمنى أن يبعث في شرايينه كل نبض في دمه، بل يتبادل معه القلب والنبض والدم والشرايين. فلا يترك مساحة في كيانه إلا أنقذها من ذلك الشحوب الذي يذكر بالبرد والثلج والصقيع.
وسبحان من جعل الرجل يسعى المرأة كذلك حتى تعثر على شبهها وزوجها. عندها تَقَر وتستقر لأنها وجدت من يشبهها ويزدوجها. من يتكامل معها كما يتكامل شطر السّلم الجيني بالتلقيح مع شطره الآخر لتتسلق البويضة، التي التقى فيها الشطران وتطابقا في لقائهما، ذلك السلم المزدوج الجميل، وتخرج من ظلمة العدم والرحم إلى نور الوجود وفضائه الواسع البهيج.
بقي أن أقول لكل من الزوجين: حاول أن تعوّد نفسك على تقليم زياداتك، والتأقلم قدر الإمكان لتقترب من ميول وشخصية شريكك. على أنه ليس شرطاً أن يكون الشبه في كل شيء؛ فهذا لم يتهيأ حتى للتوأمين النازلين من صُلب واحد، الناتقين من رحم واحد.
الزوجية الاجتماعية
إذا خرجنا من دائرة الأسرة إلى محيط المجتمع، وتوسعنا في معنى (الزوجية) طبقاً لمعناها اللغوي، وفي ضوء ما ورد من تفسير شمولي، نجد أن هذه العلاقة يمكنها إحداث أكبر الأثر في الاستقرار والتنمية الاجتماعية، بشرط واحد هو أن تسلك الطاقات والقوى في سلك قانون (التكامل) الكوني، الذي سيأتي الحديث عنه لاحقاً بإذن الله. فاختلاف الناس في طاقاتهم وقواهم وصفاتهم، الأصل فيه أنه اختلاف تنوع: تتكامل وتتساند فيه جميعاً من أجل شد أفراد المجتمع ومؤسساته بعضها ببعض؛ لأن الحاجة وضعها الله تعالى في جانب لحكمة هي تكاملها مع الطاقة الموجودة في جانب آخر. وعند النظر إلى الصورة بكل أبعادها وأجزائها نرى أنها كـ(مسننات) نقل الحركة لا بد أن يكون فيها بروز (طاقة) وفجوة (حاجة) يتبادلان المواقع بينهما بحيث يكون في مقابل كل بروز في جهة فجوة في الجهة المقابلة. والتكامل هو الذي يُظهر ما في الجانبين أو الجهتين من قوة ونتائج مذهلة، فلا يبقى للحاجة وجود بالمعنى الملموس للحاجة قط. وإلا كان هذا الكيان النابض بالحياة المليء بالحركة جثة هامدة، بل متفسخة. فالبروز طاقة معطلة ما لم يزدوج ويتكامل بما يقابله من فجوة، التي هي – في حقيقته – طاقة كامنة لا تظهر إلا بالتكامل. والتكامل مظهر من مظاهر الزوجية في معناها الواسع الجميل.
عجباً لقانون (الزوجية) كيف يحل لنا كل ألغاز القلق والحزن والنفور في هذا الوجود المعمور! وهو من مصاديق قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات:49). وقوله سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (يس:36).
[1]– قال ابن منظور في (لسان العرب): الضَّريبُ: الشَّكْلُ في القَدِّ والخَلْقِ. ويقال: فلانٌ ضَريبُ فلانٍ أَي نظيره، وضَريبُ الشيءِ مثلُه وشكله. ابن سيده: الضَّرْبُ الـمِثْل والشَّبيهُ، وجمعه ضُرُوبٌ. وهو الضَّريبُ، وجمعه ضُرَباء. وفي حديث ابن عبدالعزيز: إِذا ذَهَبَ هذا وضُرَباؤُه: هم الأَمْثالُ والنُّظَراء، واحدهم ضَريبٌ.
بيت الزوجية
بيت الزوجية
ما زلنا في أجواء قانون (الزوجية الكوني) فإن الحديث عن ذلك السكن، الذي لا يكتمل معناه ولا تتجلى حقيقته إلا بوجود زوجين.. يفرض نفسه عند هذه المحطة الجميلة من محطات الرحلة الأبدية مع المرأة، وفي بالي ثلاث معان عن السكن هي: الأمومة وإدارة البيت، والجمال، ومخدع الزوجية. سأتناولها باختصار يتناسب ومنهج الكتاب.
الأمومة وإدارة البيت
من أساسيات استقرار بيت الزوجية ووجود السكن العائلي تكوين الأسرة التي تكتمل بإنجاب الأولاد وتربيتهم. والجهد المبذول في سبيل ذلك يقع معظمه – ولا شك – على عاتق المرأة.
إنه جهد شاق حقاً، لكنه يحقق – في الوقت نفسه – إنسانية المرأة، ويمنحها الاستقرار النفسي. إن من أسعد لحظات العمر تلك اللحظة التي تحتضن فيها المرأة طفلها وترده بيديها، بل بكيانها كله، إلى صدرها، وتتحسس جسمه وتشم رائحته. والطفل يبادل أمه شعوراً بشعور، وأماناً بأمان، ورضى برضى. وفي ذلك أعظم الآثار الإيجابية في تنشئة الطفل نفسياً وجسدياً. ولا يدرك عمق كلامي إلا امرأة عاشت حالة الأمومة!
وإذا نظرنا إلى بيت الزوجية من خلال قانون (التكامل الكوني) نرى في مقابل قيام الرجل بوظيفة توفير الرزق والحماية للأسرة، تقوم الزوجة بوظيفة الأمومة وإدارة البيت. وهي وظيفة – بما فيها من جهد كبير تبذله الأم في تربية طفلها وتنميته في جسمه ونفسه وفكره – من أعظم الوظائف الإنسانية. فليس في انصرافها لتأديتها على أكمل وجه ضير أو إزراء تقل به عن الرجل، أو يتميز به الرجل عنها، كما قد تتوهمه المجتمعات التي انحرفت عن سواء الفطرة البشرية.
الأمومة وظيفة تمنح المرأة رفعة، وترفعها درجة. وكيف لا؟ وهي تقوم على وظيفة سامية لولاها تعرض الولد للضياع، والبيت للاضطراب، والزوج للتشتت، ولن يعوض عن الأم وحنوها وحنانها ودورها الأصيل في البيت دار حضانة ولا خادمة، ولا الدنيا جميعا.
الشيء نفسه يقال عن إدارة البيت بكل فقراتها. وهو تقسيم عمل بين المرأة والرجل (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)، يضع المرأة حيث هي في موضعها اللائق بها طبقاً لقانون (التفاضل الاجتماعي، والتكامل الكوني)، وقاعدة (المقصود الأبعد)، التي سأتناولها لاحقاً بإذن الله تعالى.
وماذا لو أرادت المرأة العمل خارج البيت؛ لدافع ما، أو حاجة ذاتية أو مجتمعية؟ والجواب: لا شيء في ذلك ولا حرج. إنما نحن نشير إلى المَهمة الأَولى والأليق بكل من الجنسين، ونبين رأينا الذي نرجحه في ذلك. لكن في نهاية المطاف يبقى الأمر متروكاً تقديره للمرأة، فهي التي تقرر ما يتوافق ودوافعها وحاجاتها وظروفها. هذا مع بقاء مشكلة ابتعاد الأم عن طفلها أثناء ساعات الدوام. وذلك يستدعي حلولاً للتخفيف من آثارها. نذكر هنا ما نراه مناسباً لذلك بما يتوافق ومنهج الكتاب:
– إلحاق قسم حضانة مناسب بكل دائرة؛ ليكون الطفل قريباً من أمه أثناء ساعات الدوام. وذلك إلى أن يبلغ الطفل في عمره مرحلة الروضة.
– حبذا أن يكون قسم الحضانة متطوراً عالي الأداء، فيه مشـرفات ذوات خبرة وأمانة يتابعن مدى قيام العاملات المباشرات بوظيفتهن على أتم وجه.
– قد تكون للموظفة أم، أو أم زوج، لا مانع لديها من حضانة الطفل أثناء غياب أمه، على أن يتم تعويضها بشغالة لكي تنصرف الجدة للطفل واحتياجاته.
– التمتع بإجازة (الأمومة والطفولة)، كما تسمى في العراق، أو (رعاية مولود)، كما تسمى في السعودية، يمثل حلاً مناسباً وإن كان الراتب منخفضاً طول فترة الإجازة التي أقصاها سنتان.
– أو تترك الموظفة العمل إن كانت مقتدرة مادياً.
لست غافلاً عن مشاكل أُخرى تواجه المرأة الموظفة أو العاملة، ليس آخرها وقوع كثير من النساء تحت عنت اجتماع العبئين على كاهلها: عبء العمل خارج البيت، وعبء العمل داخله. ولكن منهج الكتاب يستلزم البعد عن الاستيعاب والتفصيل في طرح المشاكل واقتراح الحلول لها؛ فليس هذا من شأنه، إنما شأنه أن يهيئ المرأة ويمكنها لتجد الحلول بنفسها.
على أنني شخصياً أميل بقوة إلى أن تخطط المرأة وتعمل لتستقل اقتصادياً عن الرجل، ولا تربط مصيرها من هذه الناحية بغيرها، سواء كان هذا الغير زوجاً أم أخاً أم ولداً أم غيره؛ فإن الاستقلال الاقتصادي يقوي مركز المرأة الاجتماعي داخل البيت وخارجه، ويمنعها من أن تكون عالة على غيرها في حال شيخوختها، التي قد لا تكون فيها – رغم كبر سنها – سوى حاضنة مجانية لأنسال وأطفال الجيل الجديد، بوجود أمهاتهم أو عند خروجهن أو سفرهن مع أزواجهن.
سحر الكلمة وسر الاستقرار العائلي
هنا يأتي بيان سر عظيم من أسرار الاستقرار العائلي الذي لا يكون بيت الزوجية هادئاً هانئاً إلا به . فنقول:
بما أن المرأة ذات طبيعة عاطفية فمن العبث في معظم الأحيان أن نحاول حل المشاكل معها بما يخالف طبيعتها. فليس من الصواب اللجوء إلى المنطق الجاف كأساس لحل المشاكل الزوجية. إن النقاش والجدال وإيراد الحجج المنطقية – متى ما طغى على أجواء الخلاف الزوجي – أخطر عامل من عوامل خراب البيوت. وخير من ذلك الجنوح إلى شيء بسيط الكلفة عظيم الثمرة، هو أرخص شيء في الثمن المبذول لكنه أغلى ما يكون في الناتج المحصول.
ذلك هو الكلمة!
الكلمة أنجع مرهم للجرح، وأثمن جوهرة في عين المرأة. استعملها موشاة بالعاطفة النبيلة واللفظة الجميلة ترَ العجب. لم أجد كالكلمة شيئاً بالمجّان تشتريه المرأة بأغلى الأثمان! بل تبقى الكلمة فاعلة حتى مع الرجال؛ ولذلك قال النبي e: (الكلمة الطيبة صدقة)، بل قال الله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة:83).
وقال أحد القراء معلقاً على هذه الالتفاتة وقد نشرتها في مقالة على موقع (القادسية): “رغم كل الذي تعلمناه عن علاقة الرجل بالمرأة فإن مقالتك هذه قد أغنتنا عن قراءة العديد من الكتب التي تعالج هذا الموضوع. لقد أعدت قراءتها مرات عديدة كي أستمتع بهذه الكلمات. وانا أقرأ تأملت مع نفسي وراجعت علاقتي بزوجتي فوجدتها ضرباً من ضروب الجاهلية أو أشد. كم نحن في حاجة إذن لإصلاح علاقتنا مع أزواجنا! إن عدم فهم طبيعة المرأة يؤدي – بطبيعة الحال – إلى تفكك الأُسرة التي بتفككها تزود المجتمع بأفراد غير صالحين، فتعم الفوضى في المجتمع. ويبدو أن هذا هو جزء مهم من مشاكلنا التي نعاني منها”.
وفي الحديث الذي مر بنا في فقرة (المرأة في القرآن الكريم) عبارة لافتة! هي قول زوج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب له: (ولمَ تنكرُ أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي e ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل)! ففيها ما يبين أن الحياة الزوجية فيها من التعقيد أبعد مما يتصوره الكثيرون. وأن المشاكل لا تحل بطريقة (من المخطئ ومن المصيب؟). وهي طريقة، في الغالب، تعقد المشكلة ولا تحلها. ولو كان الأمر يُحل بمعرفة المخطئ من المصيب، ولمن الحق وعلى من؟ ما كانت أزواج النبي e إحداهن تهجره اليوم حتى الليل؛ فإنه لا يتصور أن النبي e يخطئ، ولا أزواجه يتصورن ذلك.
معادلة (01)
معادلة من أحكم وأروع معادلات العلاقة الزوجية.. تلك معادلة (01)! وهي تصلح كذلك لإدامة جميع العلاقات الاجتماعية.
أقول للزوج: قد تنفعل الزوجة عند الخلاف فتنحسر طاقتها الاستيعابية إلى حد الصفر (0) فكن أنت الرقم الذي يحتوي صفريتها العاطفية. على الأقل كن الرقم (1)، فتكون المعادلة (01). وإياك أن تترك العنان لعداد طاقتك حتى يصل إلى نقطة التصفير، وتكون المعادلة الكلية (00). إياك إياك!
وأقول للزوجة الشيء نفسه، وأعيده؛ فإنه أوقع في النفس: قد ينفعل الزوج عند الخلاف فتنحسر طاقته الاستيعابية إلى حد الصفر (0) فكوني أنت الرقم الذي يحتوي صفريته العاطفية، على الأقل كوني الرقم (1)، فتكون المعادلة (01). وإياك أن تتركي العنان لعداد طاقتك حتى يصل إلى نقطة التصفير، وتكون المعادلة الكلية (00). إياك إياك!
جربوا هذه المعادلة، ودربوا أنفسكم عليها. لن تحتاجوا إلى أكثر من شيء من الصبر في البديئة حتى تجدوها قد صارت جزءاً من حياتكم في البيت وخارجه، وسترون كيف تخف همومكم، وتخلد إلى راحة، لها مذاقها المتفرد، نفوسكم.
تأملوا هذه الآيات فإن أحق الناس بها أهلوكم وأولهم الزوج ذكراً كان أم أنثى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:34-36). وقال Y: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء:36). والصاحب بالجنب: هو الرفيق في البيت والعمل والسفر.
وكان هذا خلق النبي e مع أزواجه، فإذا استغلق الأمر ووصلت الدرجة بهن أو إحداهن إلى الصفر، حافظ هو على توازن المعادلة، وبقي الرقم الأصعب.. الرقم الذي لا تؤثر فيه كل عوامل التصفير وجميع رياح التعرية، ولو اضطرته إلى الانسحاب بهدوء. المهم أن لا يكسر قلباً طالما منح قلبه الراحة ونبضه التوازن. وقد مر بنا حديث عمر t يذكر اعتزال النبي e نساءه جميعاً شهراً واعتكافه في مشـرُبة (أي غرفة). يقول: فدخلت عليه، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال بجنبه، متكئ على وسادة من أدَم، حشوها ليف، فسلمت عليه… إلخ ما جاء في حديثه. وهو في (الصحيحين).
الجمال
الجمال من مكملات بيت الزوجية، بلمساته التي ترفرف بأجنحتها على ذلك التكوين الرباني الجميل.. المرأة، والرجل كذلك.
أود أن أنطلق في حديثي عن الجمال من أقل مقدار منه يتهيأ للمرأة، لنرى هل يمكن أن تكون المرأة التي كذلك أجمل مما هي عليه؟ أو يمكن – بشيء من الجهد والتحايل – أن تكون في عين من حولها أجمل من امرأة متفق على جمالها، أو امرأة هي أجمل منها؟ عندذاك يصبح الحديث عمن حباها الله تعالى قسطاً من الجمال تحصيل حاصل.
الجمال رزق، كرزق المال والولد، ومن لم تؤت حظها من الجمال عليها بثلاثة أمور:
أ. أن تعلم أن هذا هو قضاء الله تعالى لها؛ فعليها أن تصبر وتحتسب، وتعلم أن ما خبأه لها ربها خير مما قدمه.
ب. أن المرء – في حقيقته – بكماله لا بجماله. وبجوهره لا مظهره.
ت. أن في كل إنسان عناصر خفية للجمال، لو أثارها عوضته كثيراً عن تلك العناصر الظاهرة.
- أول هذه العناصر ثقة المرأة بنفسها، وأن لديها من الجمال الظاهر أو الخفي ما يكفي ويغني. إن بعض النساء لديها من الإشعاع الذاتي ما يفرض على من حولها أن يراها جميلة، أو محببة مليحة رغيبة وإن لم تكن في الأصل كذلك. وهذا يقودها لاستثمار رأسمالها المخزون. والواقع المشاهد دليل لا يقبل التكذيب.
- النظافة في الجسم واللباس والبيت والطعام وما شابه ذلك.
- الزينة: الزينة في نفسها جمال. وهي تأتي بعد النظافة، ولا بد. وفي قوله تعالى أشارة لطيفة إلى كلا الأمرين: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) (الحجرات:7).
والتزين مطلوب من الزوجين. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي؛ لأن الله تعالى يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ). وما أحب أن أستنطف حقي عليها، لأن الله تعالى يقول: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). ومعنى (أستنطف) أي أستوفي جميع حقي عليها، أي إنني أصفح لامرأتي عن بعض الواجب عليها ، وإغضي لها عنه). ولعل هذا داخل في الأدب النبوي الكريم الذي خلده الله تعالى لرسوله e حين قال: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) (التحريم:3). فاكتفى بالإشارة إلى جانب من حديثها ولم يستقص تجنباً للإحراج. يقول سفيان: (ما زال التغافل من فعل الكرام). ويقول أحمد: (تسعة أعشار حسن الخلق في التغافل). ويقول الحسن: (ما استقصى كريم قط).
ويروى هذا الأثر الجميل بصيغة ثانية: وقف ابن عباس رضي الله عنهما أمام المرآة يتجمل ويتزين ويأخذ من لحيته ويرجل من شعره. فقال له نافع: ما هذا يا ابن عم رسول الله؟ أتفعل هذا وإليك يضرب الناس أكباد الإبل من شرق وغرب يستفتونك في دين الله؟ فقال له: وماذا في هذا يا نافع؟ إني أتزين لامرأتي كما تتزين لي امرأتي، وهذا في كتاب الله. قال نافع: أين هذا في كتاب الله؟ قال في قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف).
لكن لكل امرأة ما يناسبها، وقد لا يناسب غيرها، من الزينة التي تُظهر محاسنها ومواطن الفتنة فيها. يستوي في ذلك اللباس والوجه والشعر وسائر تضاريس الجسد. وأمهر النساء تلك التي… والتي استطاعت أن تتلطف في زينتها بحيث تجعل ما ظهر منها كأنه جزء من تكوينها الذي خلقت عليه. انظري إلى جمال بعض الممثلات والمذيعات تجديه ليس أكثر من براعة فنان لامست ذلك الجزء الذي ظهر جميلاً، ولولا ذلك لم يك كذلك. مؤكد أن بعض التقنيات المتطورة في هذا الفن في حاجة إلى مال لا تملكه كل امرأة, ولكن مؤكد أيضاً أن كل امرأة لن تعدم وسائل بديلة تتعوض بها قدر المَكِنة.
اختلاف ذوق الرجل عنصـر أساسي ينبغي مراعاته في الوصول إلى النتيجة المنشودة. ومنه إدراك أي حاسة من الحواس الخمس تتسيد بقية الحواس لتكون مراعاتها والعمل عليها أكثر من غيرها. علما أن الرجل والمرأة يتفاوتان في أي الحواس أكثر تحسساً من الناحية العاطفية. يقال: إن البصر أكثر حواس الرجل تفوقاً في ذلك، والسمع والشم أقوى حواس المرأة. وفي رأيي أن التفاوت الشخصي وارد أيضاً؛ فالتجربة تشير إلى أن لكل امرئ حاستَه التي هي أكثر تحسساً من غيرها. فلا يمكن ضبط الأمر إلا بالتجربة والخبرة المكتسبة. وبذلك يمكن للمرأة أن تفرزن بين هذه وهذه.
حين تكتمل مدارك المرأة في معرفة قواعد الزينة، وتطبق تلك القواعد بما يتناسب وخصوصيتها الجسدية ووضعها المادي، وتخيرت لكل حاسة في رجلها ما يتملقها ويضمن انحيازها.. تكون قد أفلحت في زيادة رصيدها من الجمال.
الأناقة
الأناقة جمال مجاني. أو يكاد.
من خصائص الأناقة المتميزة التي تفترق بها عن الجمال أنها ليست قاصرة على الجميلات، بل كل امرأة يمكن أن تكون أنيقة، وكل رجل كذلك. لكن الميزة الرائعة للأناقة تكمن في علاقتها الوثيقة بالجمال من حيث إنها تضفي على غير الجميلة جاذبية وهيبة، والجاذبية والهيبة من عناصر الجمال الأصيلة.
والأناقة هي التفنن في إظهار ذائقية الجمال ولمسات الحسن.
ومبناها على دقة التنسيق والترتيب، والبراعة في استعمال العلاقات الجمالية الخفية بين الأشياء. وتكون في كل ما يظهر من المرأة.. الملبس، زينة الوجه، تسريحة الشعر، التعطر، نعومة اليدين وسائر الجسم، طريقة الضحكة، غنج الكلمة، أسلوب التحدث، هيأة الجلِسة، رشاقة الحركة، كيفية تناول الطعام، طقوس تقديمه، وسائر التصرفات. بشرط أن لا تفعل المسلمة ذلك: كله أو بعضه تكبراً وغروراً.
انظري إلى تأنق نبينا e في حبه لأمنا عائشة. تقول ر: كان رسول الله e يدعوني فآكل معه وأنا عارك (أي حائض)، كان يأخذ العِرق (أي العظم الذي فيه لحم) فيُقسم عليّ فيه فأعترق منه ثم أضعه، فيأخذه فيعترق منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من العِرق. ويدعو بالشراب فيُقسم علي فيه من قبل أن يشرب منه، فآخذه فأشرب منه ثم أضعه، فيأخذه فيشرب منه ويضع فمه حيث وضعت فمي من القدح.
وكان e يتأنق في تسميتها فيرخم اسمها في بعض الأحيان ويصغره لها قائلاً: (يا عائش، يا عويش).
وهذا داخل فيما حض عليه النبي e من الإحسان إلى الزوج رجلاً كان أم امرأة، فقال e: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)([1]).
ومن شواهد الأناقة في الإسلام ما جاء في الأدب النبوي من ترجيل الشعر، وتعطير الجسم، وأداب المائدة. وثمت آداب مكملة للأناقة مثل تخصيص اليمين بغير ما تختص به الشمال. كَم يزعجني في بعض المجالس وجود رجل بيننا إذا عطس أو تثائب أو سعل بادر فوضع يده اليمين على فمه، ثم يصافحنا بها مودعاً بعد قليل! والأمر مع المرأة أولى وآكد.
ولو رحت أتتبع شواهد الأناقة في الوحيين لطال بنا المقام. فمن ذلك قوله I: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) (لقمان:19). وقوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) (القصص:25). وقوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (الإسراء:24). وقوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ) (النمل:44)، فيا لَلهِ ما هذا الصرح الذي بلغ هذا المبلغ في المتانة والأناقة والجمال!
وانظر إلى هذا التأنق في الشجاعة، وفي التعبير عنها في رد سيدنا موسى u يوم: (قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)، فكان جوابه: (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) (الإسراء:101-102)! وهو لا يقل جاذبية عن تأنق أبي دجانة في الحرب. إذ روي أنه إذا دخل ميدان الحرب دخله مختالاً يتبختر وقد عصب رأسه بعصابة حمراء([2]). بل إن تحدي الرجل الفرد طاغية زمانه وهو على عرشه يحتاج من الشجاعة أضعاف ما يحتاجه المقاتل مع كتيبة المقاتلين.
وللأناقة شروطها. أهم تلك الشروط الثقة بالنفس، وعدم الانجرار إلى تقليد الأخريات. فالمرأة المحترمة لها شخصيتها الأصيلة. ومن شروطها صيانة ملامحها بالابتعاد عن قوادحها، مثل بعض الحركات التي تفسد الذوق، كرفع الصوت بالكلام أو الضحك، ونكش الأسنان والتثاؤب مع عدم تغطية الفم. وأمور مشابهة لا تخفى.
المخدع
الحاجة إلى الجمال لا تقتصر على الساكن، بل تشمل المسكون كذلك.
بهذا يتحقق السكون الذي جاء مرفرفاً تحت ظلال قوله تعالى: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21)، ويصبح البيت سكناً حقاً. هكذا كان بيت أمِّنا خديجة رضي الله عنها. حافظت فيه على الهدوء والسكون المطلوب لراحة الزوج؛ فكانت بشارة الله تعالى لها من جنس عملها. روى الشيخان عن أبي هريرة t قال: أتى جبريل النبي e فقال: (يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه، ولا نصب). والقصب هو اللؤلؤ.
وأجمل ما في السكن مخدع الزوجية.. ساحة المرأة التي تختبر فيها نتائج ما حباها الله تعالى به من جمال ظاهر أو باطن. والمضمار الذي لا ينازعها فروسيته فيه أحد. ويا أيتها المرأة الذكية، اعلمي أن أقرب وأيسر وأجمل ما تكسبين به قلب زوجك أن تجعلي من مخدعك مأوى متميزاً كل التميز عن باقي حجرات البيت: نظافة وراحة وعطراً وإضاءة، وغير ذلك مما تحتاجه أجواؤه الرفيفة، وأوقاته القصيرة الشفيفة.
أكتفي بهذا الإيجاز الشديد؛ فالكتاب لا يحتمل تفاصيل أكثر. ولأن معرفة آداب المخدع أمرها يسير على طالبه.
وثالثة أُخرى أهم وأحرى. هي أن هذا وأمثاله تقع مسؤولية بيانه على عاتق الأمٍّ فهي أولى وأوجب وأقرب أن تقوم به على أتم وجه.
ما أعظم الأمَّ حين تعي دورها الخطير في الحياة! فتقوم بإكماله قبل انتقال بُنَيتها من عشها الذي درجت فيه إلى عشها الذي كتب لها أن تقيم فيه، وما أجملها وهي تتمه بتثقيفها وتعليمها آداب العشرة الراقية، وكيف تجتذب المرأة زوجها، وما السبيل إلى الوصول لأعماق لبه، والاستيلاء على ما فيه من خالص حبه.
لقد كانت المرأة العربية في قديم الزمان تعلم ابنتها وتهذبها وتقوم بتزويدها بنصائح غالية تعينها على حسن العشـرة الزوجية. منها هذه الوصية التي حفظتها لنا كتب الأدب عن أم توصي ابنتها ليلة زفافها وهي تودعها:
أي بنيّــة، إنك قد فارقت بيتك الذي منه خرجت منه، ووكرك الذي فيه نشأت، إلى وكر لم تألفيه، وقرين لم تعرفيه. فكوني له أمَة يكن لك عبداً.
واحفظي له عشر خصال يكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية.. فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة.. فالتعهد لموقع عينيه، والتفقد لموضع أنفه؛ فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشمن منك إلا أطيب ريح. والكحل أحسن الحسن الموصوف، والماء والصابون أطيب الطيب المعروف.
وأما الخامسة والسادسة.. فالتفقد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مكربة.
وأما السابعة والثامنة.. فالعناية ببيته وماله، والرعاية لنفسه وعياله.
وأما التاسعة والعاشرة.. فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً؛ فإنك أن عصيت أمره أوغرت صدره. وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم بعد ذلك.. إياك والفرح حين اكتئابه، والاكتئاب حين فرحه؛ فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير. وأشد ما تكونين له إعظاماً، أشد ما يكون لك إكراما. ولن تصلي إلى ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببت أو كرهت.
والله يصنع لك الخير واستودعتك الله.
[1]– رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[2]– روي هذا في السيرة بسند ضعيف. لكن جواز الخيلاء في الحرب جاءت من طريق آخر صححه جمع من العلماء، منهم ابن القيم وابن حجر والألباني.
قانون التكامل الكوني
قانون التكامل الكوني
عند التأمل في الكون نجده يعج بأشياء تبدو في الظاهر متناقضة: الليل والنهار، الحر والبرد، الفقر والغنى، العلو والسفل، الحركة والسكون، القوة والضعف، الشدة واللين… وهكذا. عند التدبر والتعمق يظهر لك من بينها قانون يسلكها جميعاً يحيل تناقضها توافقاً ألا وهو قانون (التكامل الكوني)، حتى الصواب والخطأ، ضمن حدود معينة يكون الخطأ جزءاً من معادلة الصواب، والمشكلة جزءاً من معادلة الحل. ولهذا كانت التجربة أم الخبرة، والتحدي مصنع الرجولة. وقد لاحظ الإمام الغزالي هذا القانون فقال: (نقص الكون هو عين كماله، كما أن اعوجاج القوس هو عين قوته، ولو استقام القوس ما رمى). وانظر كيف جعل القرآن العظيم السيئة بشروط معينة جزءاً من معادلة الحسنة فقال تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الفرقان:70)!
وهكذا العلاقة بين الرجل والمرأة.
روى البخاري ومسلم أن رسول الله e قال: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيراً). وفي رواية لهما واللفظ للبخاري: (المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج).
وفي لفظ لمسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع؛ لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج. وإن ذهبت تقيمها كسـرتها. وكسرها طلاقها). قال العلماء: خلق الله تعالى حواء من آدم وأخرجها منه كما تخرج النخلة من النواة أو النبتة من البذرة. وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) (النساء:1). وبين أن علة هذا الترتيب في الخلق بعضاً من بعض هو السكن والألفة والشعور بالحاجة إلى القرب منها والالتصاق بها والاستقرار عندها فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف:189).
وما من شك في أن ابتداء خلق البشرية بهذه الطريقة فيه حكمة بالغة، لكن يبقى السر الكامل عند الله تعالى وحده، وإن كان من الممكن أن يتراءى لنا بالتأمل أطراف من حكمته، وظلال من أسراره، كما روي أن حكيماً سُئل: لماذا خلقت حواء من ضلع آدم ولم تخلق من موضع آخر؟ فأجاب: لم تُخلق حواء من رأس آدم لترأسه. ولم تُخلق من قدمه لتكون جاريةً له. بل خُلقت من ضلعه لتكون بجانبه، ومن تحت كتفـه لتكون في حمايته، ومن جهة قلبه لتكون محبوبته.
المرأة مخلوقة من ضلع الرجل .. لماذا ؟
من تجليات حكمة خلق المرأة من ضلع الرجل:
الضلع حنان وحماية
- المرأة ضلع، والضلع حنان وحُنُوٌّ وحماية للقلب. وفي لغة العرب تسمى الأضلاع حنايا، وفي اللفظة ما يشي بظلال جميلة وعميقة للرحمة والعطف، والقوة أيضاً. فإن كان الرجل كلمة.. فالمرأة نبض، وتبادل الأدوار في بعض الأحايين ضرورة، ونقطة توسط تسمح للطرفين بالاغتراف مرة من هنا ومرة من هنا؛ كي لا يجمد الطبع أو تتبدل الفطرة. والتكامل أصل يَنْظم القوى المختلفة اختلاف تنوع ليمنعها من اختلاف التضاد. فيا نصفي الآخر، تعالَ لنقول وننبض.. نقول وننبض.. و.. نعمل أيضاً؛ فلدينا (قضية).. وبانتظارنا أمة.
عوج الضلع كمال
- حين نفهم المشهد في ضوء قانون (التكامل) يكون عوج الضلع كمالاً يؤدي دوره من الناحيتين اللتين هما سر من أسرار البارئ في خلقه: الوظيفة والجمال. فلولا ذلك العوج الجميل ما تمكن القلب من النبض وأداء الوظيفة! ولكان تشوهاً في الخلقة تنبو عنه العين وتعافه النفس. قيل: إن غلاماً رأى الحداد يأخذ عيدان الحديد المستقيمة فيلويها ويُعْوِجها، فقال الولد لأبيه: لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها؟ فقال له الوالد: إن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها. وتأمل – مثلاً – الخطَّاف وآلة جمع الثمار من الأشجار، لو كانت مستقيمة ما أدَّتْ مهمتها .
انظروا كيف تتكامل قوة الجسد عند الرجل مع ضعفها لدى المرأة؛ تحقيقاً لقيادة البيت؛ فلو ساوت المرأة الرجل في القوة ما تمكن الرجل من قيادة الأسرة وحمايتها؛ ففي لحظات الغضب وفوران العاطفة التي تتميز بها المرأة قد لا تملك نفسها من تسليط الأذى على الرجل. وعندها ستشهد الشوارع والمقاهي أفواجاً من المتسكعين، وتتضخم مِلفات المحاكم بالشكاوى، وتزدحم بيوت الأقارب بالمطرودين، وردهات المشافي بالجرحى والمعاقين!
ومع الظلم الواقع على المرأة في الواقع المشهود نتيجة تفوق الرجل عليها في قوته، فما نلحظه من تلك النتائج المتوقعة أقل بكثير مما لو وسد الأمر للمرأة. والحياة قائمة على التوازن والترجيح، وليس على الخير والصواب المحض. وكل المطلوب تكامل قوة الرجل الجسدية مع ضعف المرأة برباط الاحترام والرحمة فتنقلب الأجواء الملبدة بغيوم الخلاف وغبار التعاسة إلى سماء جميلة صافية.
ومن شروط القيادة الناجحة تفوق القائد في سعة عقله والتريث في الاندفاع وراء عاطفته. وبما أن النظام الرباني جعل القيادة للرجل فقد وهبه الله سبحانه عناصرها بنسبة أكبر من المرأة، وإلا انتفى المقصود من النظام. لذلك قلل الخالق سبحانه من منسوب العاطفة عند الرجل وزادها لدى المرأة، وتعاكس الأمر بينهما في موضوع العقل. كما أن الرجال فيما بينهم يتفاوتون في مستوى العقلانية التي عليها كل واحد منهم. وليس هذا قادحاً في إنسانيتهم القائمة على قاعدة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13). فدرجة المرء في الإنسانية على قدر درجته في الاتصاف بالكرامة، وهذه تقاس بالتقوى لا بالعقل. ومجال التقوى مفتوح للرجل والمرأة على حد سواء دون تمايز.
كان لهذا التفاوت أثره المطلوب في تأدية الوظائف الأُخرى من قبل الطرفين في نسق متكامل حكيم. وكمثال على ذلك نقول: لولا تفوق المرأة في عاطفتها ما تحملت تكاليف الحمل والرضاعة والعناية بالطفل. ولولا تفوق الرجل في عقله ما سلّمت المرأة له زمام القيادة، ولما تمكن من القيام بدوره المناط به في مجتمعه. أما المشكلة فتأتي من النظر إلى الطرفين منفصلين. أو انفصالهما فعلاً عن بعضهما في الواقع. والأصل في النظر إليهما متصلين (التكامل).
التراب القاسي والضلع الآسي
- خلق الرجل من تراب، والتراب أقرب إلى الجفاف والصلابة، بينما خلقت المرأة من ضلع، والضلع فيه لحم ودم وعصب فهو أقرب للين والإحساس والتأثر.
وعلى هذا الأساس فإن محاسبة الرجل للمرأة على تصرفاتها التي تصدر منها بمقتضى طبيعتها وفطرتها التي فطرها الله تعالى عليها، انطلاقاً من الزاوية نفسها التي يُنظر منها إلى الرجل، تقلب حسناتها سيئات أولاً، وتجسم هذه الأخطاء ثانياً، وتفسد العلاقة الزوجية ثالثاً. وهي – مع هذا وذاك – نوع من العبث المؤدي إلى عكس المطلوب؛ فـ(المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج). والمرأة في حديث آخر كالقارورة، وقد أوصى بها النبي e فقال: (رفقا بالقوارير) متفق عليه. فالمرأة تشبه القارورة.. ناعمة رقيقة شفافة، لا تحتمل العنف، وتكسر بسرعة. فعاملها كقارورة، وإلا فإنها إذا كسرت فستتحول الى آلة حادة جارحة. هذا مع ذواء جمالها وذهاب رونقها وفقدان وظيفتها. وقد لا تنفع بعد ذلك في شيء؛ لأن إعادتها الى الأصل سيكون ضرباً من المستحيل!
ومن أجمل ما قيل في ذلك: على حواء أن تفتخر بأنها خُلقت من ضلعٍ وإن كان أعوج! فالاعوجاج إنما هو العاطفة عند المرأة التي تغلب عاطفة الرجل. وعلى آدم أن لا يُحاول إصلاح ذاك الاعوجاج؛ لأنه – كما أخبر النبي e – إن حاول الرجل إصلاح ذاك الاعوجاج كسرها.
فيا آدم، لا تسخر من عاطفة حواء فهي خُلقت هكذا.. وهي جميلةٌ هكذا.. وأنتَ تحتاج إليها هكذا. فروعتها في عاطفتها؛ فلا تتلاعب بمشاعرها.
ويا حواء، لا تتضايقي إن نعتوكِ بناقصة عقل.. فهي عاطفتكِ الرائعة التي تحتاجها الدنيا كلها.. فلا تحزني. وهي خلقتك التي تتكاملين بها مع زوجك كي يتحقق (المقصود الأبعد) من الزوجية. وكرامة المرء لا تتأتي من كون فلان ذاكرته أقوى من فلان، ولا عقله أكثر استيعاباً وقدرة على برمجة المعلومات والانتفاع بها؛ فالرجال أنفسهم يتفاوتون في ذلك. الكرامة بالتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). والتقوى سر الله تعالى الذي لا يعلمه سواه، (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32). ثم لا بأس بعد ذلك أن تأتي الدراسات العلمية الحديثة لتثبت، أو لا تُثبت، أن ذاكرة المرأة أضعف من ذاكرة الرجل، وأن المعلومات تبدأ بالتسرب منها في عمر أسرع من العمر الذي عنده يبدأ النسيان بالتسلل إلى ذاكرته؛ فالله تعالى ذكر ذلك، ولا ضير على المرأة من ذلك.
نقص بنقص وكمال بكمال
- إن هذا الإخبار النبوي عن خلق المرأة من ضلع، ورد في سياق وصية الرجال بالنساء: (استوصوا بالنساء خيراً)، ومعاملتهن بالمعروف، بأن يصبروا عليهن؛ لأن طبيعة المرأة تغلب عليها العاطفة بحكم خلقهن الذي لا يعلم مبدأه إلا الله سبحانه. فالنقص الموجود في المرأة هو كالنقص المقابل في الرجل، ليس نقصاً مطلقاً وإنما هو نقص تكامل لا بد منه لتلاقي (مسننات) الجنسين وتعشقهما ببعضهما: بروز في جهة يقابله تجويف في الجهة الأخرى. فمن فهم هذه الطبيعة، وفهم الغاية منها لم ير في نفسه فضلاً في المنزلة، وإنما تفاوتاً في الوظيفة لتستمر منظومة الأسرة كأي منظومة أُخرى في المجتمع: لا بد فيها من تراتب وظيفي كي يعتدل مسارها باتجاه تحقيق غاياتها، وإلا فسدت المؤسسة وانتهى وجودها.
وكون المدير أعلى مرتبة في السلم الوظيفي لا يلزم منه أنه أفضل منزلة في السلم الإنساني من أي عضو في المؤسسة. فإذا توهم المدير ذلك حصل التعالي والاستبداد وانقلبت الدائرة إلى بيئة لا تطاق. وهكذا البيت.
فغلبة العاطفة عند المرأة، التي تقابلها غلبة العقل عند الرجل، إذا كانت تعني نقصاً لديها في العقل، فإنها تعني في المقابل جفافاً في العاطفة لدى الرجل، وهو – بلا شك – نقص. لكن هذا النقص لا يظهر إلا إذا نظرنا للأمور منفصلة متناقضة، وذلك خروج عن (النظام الداخلي) لمؤسسة الأسرة. أما إذا التزمنا بذلك النظام الرباني وجمعنا بين الطرفين في منظومة كان النقص كمالاً. وذلك عندما نفعّل قانون (التكامل) الكوني. وما دام الرجل والمرأة شريكين في مؤسسة واحدة فلتعطي المرأة من فضل عاطفتها لزوجها وأولادها، وليعط الرجل من فضل عقله لزوجه وأولاده. وهذا التعاطي المتبادل واجب لا منة فيه، وتكامل لا نقص فيه. وفي ضوء هذا البيان نفهم قول النبي e: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) [وفي لفظ البخاري: (أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)] قالت: يا رسول الله! وما نقصان العقل والدين؟ قال: (أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ما تصلي، وتفطر في رمضان. فهذا نقصان الدين). متفق عليه.
الذكاء طاقة .. والعقل منظومة
لا بد هنا من ملاحظة أمرين مهمين:
أولهما: أن الذكاء طاقة بينما العقل منظومة لتوجيه الطاقة وتصريفها. والأصل اللغوي يفيدنا كثيراً في التفريق بينهما. فالذَّكاءُ: شدةُ وهَجِ النارِ… وذُكاءُ، بالضم: اسمُ الشمس. وبين (الذكاء) و(الزكاء) – ومن مشتقاته (التزكية) – علاقة بنائية ذات رابطة معنوية. فالزَّكاء هو: النَّماء والرَّيْعُ. والتزكية: التطهير([1]). أي الرعاية بالتنقية التي هي شرط التنمية. وهذا هو أس الذكاء الذي عليه يبنى، وروحه التي بها يتحرك ويكون مثمراً نافعاً، وسياجه الذي يحميه من الآفات. وإلا انقلب وبالاً على صاحبه. وفي الحكم: (فلان أوتي ذكاءً، ولم يؤتَ زكاءً).
والعقل: هو الحَجر والنُّهى، وهو ضد الحمق. والمَسك والحبس. والعقال: الرباط الذي يعقل به([2]). فالعقل هو المجال الذي يحتوي الذكاء أو الطاقة، ويمنعه من التفلت، وينقيه وينميه، ويجعل له مسلكاً أو منظومة يسري من خلالها إلى نهايته. وفي حالة ضعف المنظومة التي توجه الطاقة وتصرفها إلى نهاياتها بسلام تكون النتيجة ضعيفة. وكثير من الأذكياء يخونهم العقل، كما أن كثيراً من العقلاء يخونهم الذكاء.
والمرأة لا تقل ذكاء عن الرجل. لكن عاطفتها غالبة. وهذا الغلب يؤثر على متانة المنظومة فيتم تهريب كمية من الذكاء سدى فيحصل نقص في الطاقة يظهر على شكل نقص في أداء المنظومة ينعكس على المنظومة نفسها أي العقل. وقد يكون هذا أحد معاني قوله e: (النساء ناقصات عقل ودين)، رواه البخاري بلفظ مقارب([3]).
كثير من النساء أعقل من كثير من الرجال
والأمر الثاني: وهو أن هذه القاعدة (تفوق المرأة بالعاطفة، وتفوق الرجل بالعقل) تنطبق على النوع بعمومه وليس على الفرد بخصوصه. فكثير من النساء أعقل من كثير من الرجال. كما أن كثيراً من الرجال أشد عاطفة وخفة من كثير من النساء.
إذن هذا الوصف من رسول الله ليس سُبَّة في حق النساء، ولا إنقاصاً من شأنهن؛ لأن هذا الاعوجاج في طبيعة المرأة هو المتمم لمهمتها؛ لهذا كان حنان المرأة أغلب من استواء عقلها، لأنه الأنسب والأجدى لمهمتها؛ فمهمة المرأة تقتضي هذه الطبيعة. أما الرجل فعقله أغلب ليناسب مهمته في الحياة؛ إذ يُنَاط به العمل وترتيب الأمور فيما وُلِّي عليه. لقد خلق الله كلاً لمهمة محددة فقدر لتلك المهمة ما يناسبها من قوى. فسبحان (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:3،2).
المرأة بين الإدارة والقيادة
بالمقارنة بين الطرفين نلحظ أن دور الرجل في البيت أقرب إلى القيادة والتوجيه، بينما يكون دور المرأة أقرب إلى الإدارة والتنفيذ. ولا يمكن أن يتم عمل مشروع دون تكامل المنظومتين: القيادية والإدارية. فقيادة بلا إدارة تنظير يفتقر إلى أدوات التغيير، وإدارة بلا قيادة حركة فاقدة لبوصلة المسير، ومحرومة من عناصر النمو والتطوير. وكما أن منظومة الإدارة تبع لمنظومة القيادة، وهذا لا يضيرها ولا ينقص من قدرها، فكذلك المرأة تبع للرجل تبعية الإدارة للقيادة، ولا ضير في ذلك ولا نقص فيه يلحق بالمرأة. وأصل الخلقة يعبر عن هذه المعادلة فالضلع جزء تابع للجسد متعلق به، والمرأة في طبيعتها تتعلق بالرجل وتتبعه. ويمكن للمرأة أن تمارس الإبداع والقيادة في الإدارة، ولا مانع من أن تمارس القيادة المطلقة متى ما أثبتت قدرتها على القيادة وكانت جديرة بها من خلال شواهد الواقع. ولهذا فنحن نطمح إلى أن تؤدي المرأة واجبها – وكذلك الرجل – في إطار (قيادة التغيير) لا (إدارة التغيير) فحسب. ومعنى إدارة التغيير تنفيذ البرنامج المرسوم كما هو. أما قيادة التغيير فتعني التدخل في تغيير البرنامج لصالح الهدف العام كلما استدعت الحاجة، والتفكير الدائم في تطويره والعمل على ذلك طبقاً لقاعدة (الخروج على النظام من أجل النظام نظام).
كثير من النساء خير من كثير من الرجال
هذا من حيث الجنس عامة. أما من حيث الأفراد خاصة، فكثير من النساء خير من كثير من الرجال عقلاً وحكمة وفعلاً وأداءً. وهل يقاس ببلقيس معظم حكام زماننا! انظر كيف نظرت وانتظرت وتأنت وتأملت في رسالة سليمان عليه السلام وتهديده ووعيده، واستشارت قوادها، ولم يستفزها قولهم: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل:33) كما استفز بعض الحكام فـ(بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار). ولو كان في بلدنا حاكم كبلقيس رضي الله عنها في عقلها وحكمتها وفي دهائها وسياستها ما غزينا في عقر دارنا. وكم من الرجال كخديجة أو كمريم وآسية رضي الله عنهن، وكم من النساء اليوم في عصمة رجال دونهن مرتبة في العقل نفسه قبل غيره!
وأجد في ظاهر قوله I: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) (آل عمران:36) سنداً لما أقول من حيث إن المشبه به – في اللغة – أقوى من المشبه؛ لهذا توقف علماء التفسير عندها كثيراً. وأنا أثبت هنا ما أميل إليه مما قالوه، وأفرع عنه فأقول: إن معنى الآية: ليس الذكر الذي طلبتِه ليس في فضله كالأنثى الذي وهبتها لك. كنت تريدينه عابداً يخدم في المسجد وحسب. لكن هذه الأنثى سيكون لها شأن عظيم فوق ما تتصورين وغير ما كنت تطلبين.
وهذا يعني أن التفاضل بين الذكر والأنثى ليس بالجنس، وإنما بالعمل. فقد تكون الأنثى أفضل، وقد يكون الذكر أفضل. فالأفضلية ليست للجنس ولا للذكر مطلقاً.
[1]– راجع (لسان العرب) لابن منظور، مادة (ذكا)، ومادة (زكا).
[2]– راجع (لسان العرب)، مادة (عقل).
[3]– أدرك الفرس بعمق هذه المعادلة، واستثمروها لصالحهم، فركزوا على تهييج العاطفة عند جمهورهم برواية المقاتل والآلام بالأصوات المطرّبة الحزينة، والمشاهد المؤثرة، والإيحاءات والإيماءات الخفية، والأشعار والقصص والتهاويل والتصاوير، حتى إذا صار الجمع كالقطيع بدأوا بنفث سمومهم في عقولهم التي شلتها العاطفة. وهكذا دأبهم على مر العصور وكر الدهور حتى تغيرت الشخصية الشيعية فصارت عاطفية بحتة. ولهذا ترى الرجل الطرير الكبير يصدق أي خرافة، ويبكي لأدنى نغمة، ويأتي بحركات لا يفعلها إلا المجانين، فلا عقل ولا دين، مع أنهم رجال! أفيقاس هؤلاء بالمرأة الصيِّنة المتدينة؟!
قانون التفاضل الاجتماعي
قانون التفاضل الاجتماعي
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف:32،31).
هكذا تكلم – جلّ في علاه – ربنا!
إن قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) يكشف لنا عن قانون اجتماعي وضعه الله بين خلقه لتستمر حركة الحياة القائمة على تنوعِ الوظائف الاجتماعية التي لا تتحرك عجلة الحياة بدونها، واختلافِ درجاتها. وهذا التنوع في الوظائف والاختلاف في الدرجات اقتضـى منهم تفاوتاً في القدرات والقابليات والصفات.
وباستحضار هذه الحقيقة نفهم أن (الدرجات) في قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) إنما هي درجات في سلّم الوظيفة الاجتماعية لا درجات في سلّم الكرامة الإنسانية، التي حدد الله درجاته بالتقوى، فكانت هي المقياس، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). وهذا المقياس يشمل الرجل والمرأة – كما نطقت به الآية – على حد سواء؛ فكما أن المجال مفتوح أمام الرجل فهو كذلك أمام المرأة لتكون أكرم بالتقوى. ولأن التقوى – التي هي مقياس الكرامة – مسألة قلبية لا يمكن قياسها مادياً، ولا يَطَّلع على حقيقتها غير الله تعالى؛ إذن يبقى الحكم في الدنيا لمن هو أكرم متساوياً في عمومه بين الخلق رجالاً ونساءً؛ كما قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32).
إذن الرجل والمرأة متساويان في أصل الكرامة والحقيقة الإنسانية.
وقد أفصح القرآن الكريم عن علة هذا التفاوت الاجتماعي فقال: (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا). فلو كان الناس سواء في كل شيء ما تمكن أحد من تسخير أحد لمنفعته فتوقفت حركة الحياة. إذن هذا التفاوت الاجتماعي سنة من السنن الكونية استدعتها ضرورات استمرارية حركة الحياة لا علاقة لها بتفاوت البشر في كرامتهم وإنسانيتهم. وهذا التفاوت الوظيفي موجود بين الرجال أنفسهم، وكذلك النساء فيما بينهن، وليس بين الرجال من جهة مقابل النساء من جهة ثانية؛ فلا يلزم من هذا التفاضل الشامل تفاضل البشر في الإنسانية؛ وإلا كانت كرامة الإنسان تقاس بوظيفته وماله وجاهه، فمن اضطرته الحياة إلى ممارسة عمل متواضع، أو قل ماله وضؤل جاهه كان وضيعاً ينظر إليه باستصغار. كيف وقد جاء عن النبي e فيما يرويه الإمام مسلم عن أبي هريرة t أنه قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)!
وتأمل كيف جاء هذا التفاضل في سياق الإنكار على من قال: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وما في قوله من تعالٍ على الآخرين وازدراء لهم نتيجة فقرهم في المال والمنصب الاجتماعي، وهو موجه إلى النبي e: كيف يعقل أن يبعثه الله نبياً وليس هو من عظماء القريتين جاهاً ومالاً ومنصباً؟! قال الشوكاني في (فتح القدير): وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسود في قومه والمعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين.
وقال تعالى في موضع آخر ألصق بموضوع المرأة: (وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (النساء:32). قال ابن كثير في (التفسير) أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية أيضاً.. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح: نزلت في النهي عن تمني ما لفلان، وفي تمني النساء أن يكن رجالاً فيغزون، رواه ابن جرير.إ.هـ. وقال سيد قطب في (الظلال): “والنص عام في النهي عن تمني ما فضل اللّه بعض المؤمنين على بعض.. من أي أنواع التفضيل، في الوظيفة والمكانة، وفي الاستعدادات والمواهب، وفي المال والمتاع.. وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة.. والتوجه بالطلب إلى اللّه، وسؤاله من فضله مباشرة بدلاً من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت، وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد ومن حنق كذلك ونقمة، أو من شعور بالضياع والحرمان، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور”. وقال: إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء. والفطرة ابتداءً جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة لتنوط بكل منهما وظائف معينة.. لا لحسابه الخاص، ولا لحساب جنس منهما بذاته. ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم، وتنتظم، وتستوفي خصائصها، وتحقق غايتها – من الخلافة في الأرض وعبادة اللّه بهذه الخلافة – عن طريق هذا التنوع بين الجنسين، والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف. وعن طريق تنوع الخصائص، وتنوع الوظائف، ينشأ تنوع التكاليف، وتنوع الأنصبة، وتنوع المراكز.. لحساب تلك الشـركة الكبرى والمؤسسة العظمى.. المسماة بالحياة. إ.هـ.
فهوم خاطئة لنصوص مجملة
إن أحد أسباب التمييز الظالم بين الرجل والمرأة ذلك الفهم الخاطئ لبعض الآيات والأحاديث والفتاوى والتفاسير، خصوصاً القديمة منها لإجمالها وتجنبها الغوص في أعماق النص لإزالة إشكالاته، واكتفائها بإيراد الشاهد عادة. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة) (البقرة:228): أي في الفضيلة في الخَلق والخُلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والاَخرة. وقال الشوكاني في (فتح القدير): أي منزلة ليست لهن، وهي قيامه عليها في الإنفاق، وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوة، وله من الميراث أكثر مما لها، وكونه يجب عليها امتثال أمره والوقوف عند رضاه. إ.هـ.
إن هذا التفسير المختصر يلقي ظلالاً من التصورات تنمو تحتها بعض الفهوم الخاطئة. التي تحتاج إلى شيء من التدبر والتعمق لنصل إلى أن هذه الدرجة درجة وظيفة جاءت من كون الرجل أولى بقيادة البيت، وفرض القتال عليه، وإعطائه ضعف الميراث وما شابهه من أمر يتفاوت فيها الطرفان لا بسبب تفاوتهم بالدرجة الإنسانية وإنما بالدرجة الاجتماعية في مؤسسة الأسرة وقيادة المجتمع. كدرجة الرئيس على الوزير، ودرجة الوزير على المدير، ودرجة الأخير على الأجير. وقد يكون الأجير خيراً من الوزير مع أن للوزير عليه درجة ولكن في سلم التباين الاجتماعي لا في سلّم التراتب الإنساني([1]).
هكذا نفهم التفاوت بين الرجل والمرأة في بعض الجوانب.. تفاوت درجة اجتماعية لا تفاوت درجة إنسانية، تحتقر فيه المرأة وتبخَّس وتظلم حتى ينتقل هذا التبخيس إلى قناعة بعض النساء فـ(تجتافه) وتنظر إلى نفسها أنها كذلك، وما هي بذلك.
[1]– زيادة في الاستيضاح يمكن الرجوع إلى أول الكتاب، موضوع (المرأة في القرآن الكريم).
قاعدة المقصود الأبعد
قاعدة المقصود الأبعد
الحكم على الشيء بين التجريد والتجسيد
من عيوب العقل وقوعه في مطب التجريد، فينظر للحالة مجزوءة عن صورتها الكلية، كالذي ينظر لعين جميلة بمعزل عن الوجه الدميم الذي يحيط بها، فيحكم بالجمال لصالح صاحبها، وكالذي ينظر إلى حادث قتل بشع يقع أمامه فيحكم على القاتل بأنه ظالم، ولو اطلع على خلفية الحدث لربما كان الحكم على العكس من ذلك.
لا بد إذن من تجسيد عناصر المشهد كلها للخروج بنتيجة صحيحة. فالاقتصار على عنصر أو عنصرين مجانفة للمنهج العلمي للوصول إلى الحقيقة.
من عناصر التجسيد (المقصود الأبعد) أو النهائي لتكامل الأشياء وتفاضل الأشخاص. وهو الغاية التي من أجلها كان الشيء أو التصرف على الشكل الذي كان عليه، وفي حالة عدم استحضار ذلك المقصود تبدو الصورة مختلة.
لنأخذ على ذلك مثالاً واحداً؛ فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: بينا النبي e يَقسم ذات يوم قَسْماً [وفي رواية: بعث علي t، وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله e. فقسمها رسول الله e بين أربعة نفر] فقال ذو الخويصرة [رجل من بني تميم]: يا رسول الله اعدل، قال: (ويلك، من يعدل إذا لم أعدل)؟ وفي رواية: فغضبت قريش. فقالوا: أتعطي صناديد نجد وتدعنا؟ فقال رسول الله e: (إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم). فجاء رجل كث اللحية مشـرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد! قال: فقال رسول الله e: (فمن يطيع الله إن عصيته! أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني)؟
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب t قال: قسم رسول الله e قسماً فقلت: والله يا رسول الله! لَغير هؤلاء كان أحق به منهم. قال: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني؛ فلست بباخل).
حقيقة الحدث هكذا: أعطى النبي e جماعة من الأغنياء من رؤساء القبائل – منهم عيينة بن بدر الفزاري والأقرع بن حابس – بينما ترك فقراء أحق منهم بالعطاء. نظر إلى المشهد مجموعة من الحاضرين اتفقوا في أمر واحد وهو أن الأمر جرى على غير ما ينبغي عليه، واختلفوا في أدب التعامل مع المشهد: فمنهم من اعترض متهماً النبي بالجور في القسمة، ومنهم من غضب، وهو أهون، ومنهم من سأل ليفهم، وهو الأدب المشـروع في مثل هذه الحالة.
والسبب في استشكال الأمر على الجهات الثلاث هو غياب (المقصود الأبعد) عن الشهود، الذي يضبط هذا التصرف الغريب فيجعله مشروعاً من جهة، ويصحح صورته في ذهن الرائي من جهة أُخرى. ولو كان ذلك المقصود حاضراً – وهو تألف أولئك الأغنياء، أو دفع تهمة البخل عن شخص النبي e التي تصرف الناس عنه – لما:
- غضب من غضب (قريش)
- واستفهم من استفهم (عمر بن الخطاب)
- أما ذو الخويصرة فله شأن آخر؛ إذ اعتراضه ناشئ عن مرض قلبي لا إشكال فكري. على عكس الحالتين الأوليين فهما ضمن المدى المقبول على اختلافهما في الدرجة ما دام لا شك ولا اعتراض.
مع ملاحظة أن غضب قريش كان بحضور النبي e فهو غضب عتب وتدلل ينتظر قرار النبي: أيمضيه فيغنموا أم يمنعه فيُسلِّموا. وهذا ممنوع بالنسبة لمن جاء بعدهم، إذ ليس لهم إلا الاستسلام، وإلا فالاستفهام كما فعل الفاروق عمر.
المقصود الأبعد الضابط للتفاوت بين الجنسين
خلق الله تعالى الرجل وهيأه لغاية، أو وظيفة، غير الغاية التي خلق لأجلها المرأة. وهذا يستلزم تفاوتاً في الخصائص والقوى تبعاً لتفاوت الغاية أو (المقصود الأبعد) للخلق. لقد خُلق الرجل ليكون عامةُ سعيه خارج البيت خدمة للأسرة والمجتمع؛ فهذا يلزم منه أن يكون أقوى في بدنه وأثبت في نفسه. فمَن للبيت تحقيقاً لبناء الأسرة؟ وهو (مقصود أبعد) آخر.
لا أحد غير المرأة. وهذا يلزم منه أن تكون أكثر لطفاً ورقة وأغنى عاطفة وأرهف شعوراً. كما يلزم منه أن تكون أكثر ملازمة للبيت من الرجل؛ فلو خرج الاثنان ضاع الأولاد وتفككت الأسرة.
انظر ماذا أصاب العالم المتمدن من نتائج كارثية على مستوى الفرد والأُسرة والمجتمع يوم نظر إلى قيمة المساواة بين الجنسين فقط غافلاً أو متغافلاً عن قاعدة (المقصود الأبعد) وهو بناء الأسرة – دعك من الخلط بين قيمتي المساواة والعدل – فأخرج المرأة من بيتها للعمل والكسب! والرجل في الوقت نفسه يخرج للعمل والكسب أيضاً؛ فمن للأطفال، فضلاً عن مطالب الأسرة الأُخرى؟ غاية ما فعله أن عوّض ذلك بمؤسسات رسمية تتولى رعاية الأطفال على يد موظفات ريثما تعود الأم من عملها! لكن هؤلاء الموظفات لا تجمعهن بالطفل رابطة أمومة؛ فلا عاطفة تشبع، ولا حنان يدفئ، ولا حب يمنح الثقة والاستقرار للنفوس الشاردة. أضيفي إلى ذلك مدى الحرمان الذي يقع على الأم في المقابل بسبب ذلك!
فكانت النتيجة أن ينشأ الطفل محروماً من حنان أمه ودفء حضنها وطعم صدرها؛ فيصاب بالأمراض والعلل النفسية زيادة على ما هي عليه حتى أمست ظاهرة اجتماعية في ذلك العالم. وكان الجفاف في العاطفة بين أفراد الأسرة، ثم ضَعْفُ الترابط والعلاقة الأبوية والأخوية الذي ينتهي بالتفكك الوشيك للأسرة، ويكون مصير الأم والأب عند المرض أو الشيخوخة تلك المؤسسات الرسمية الجافة الخالية من أي لمسة للحياة جزاءً وفاقاً.
وعند البحث عن المشكلة من جانبها الفكري أو أساسها النظري نجده في النظر إلى المرأة من ثقب (المساواة) القريب الخادع في غياب هذا (المقصود الأبعد) الضابط، وهو البناء السليم للأسرة. كما أن هذا النظر القاصر أنتج عند المتأثرين من المسلمين بالمدنية المعاصرة تلك النظرة المختلة لحرص الإسلام على قرار المرأة في بيتها، على عكس الرجل.
على أن هذا لا يلزم منه منع المرأة من العمل والخروج المطلوب بمستوياته الثلاثة: الواجب والمستحب والمباح، بشروطه الشـرعية وآدابه المرعية فيما لو أرادت ذلك، كما لا يجوز الحجر عليها في البيت بحجة أن الله تعالى قال: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب:33). فالقرار في البيت لا يلزم منه عدم الخروج مطلقاً؛ فقد قال e: (قد أَذن الله لكُنَّ أن تَخرُجن لحَوائجِكنَّ) رواه البخاري. والحوائج كثيرة متنوعة؛ فكان من الصحابيات – مثلاً – من تخرج مع الجيش تقاتل وتمرِّض الجرحى وتسقي العطشى، وكان منهن من تتاجر. قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: (وقرن في بيوتكن) أي: اقررن فيها، لأنه أسلم وأحفظ لكن. (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) أي: لا تكثرن الخروج متجملات أو متطيبات، كعادة أهل الجاهلية الأولى([1]).
وفي قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص:23) أمران:
الأول: أن الأصل تواجد المرأة في بيتها؛ ولهذا قال نبينا موسى u مستغرباً وجود المرأتين في ذلك المكان خارج البيت: (مَا خَطْبُكُمَا)؟ وكأنه سأل – من ضمن ما سأل – عن سبب خروجهما فبينتا له السبب وهي الحاجة، وذلك في قوله تعالى: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ).
والأمر الثاني: جواز خروج المرأة من بيتها للحاجة، ومزاولة كل ما لم يرد النهي عنه في الوحي من العمل، بشرطين:
- الأول: عدم تفويت (المقصود الأبعد)، وهو الحفاظ على بناء الأُسرة.
- الثاني: التزام حدود الشرع والأدب، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ)، فلم تختلطا بالرجال.
وعند النظر في هذا التشريع نجد أن (المقصود الأبعد) هو تأسيس أسرة سليمة متماسكة مستقرة، والحفاظ عليها كذلك، وحمايتها مما يناقض هذا المقصود. هذا هو الأساس وهو المنطلق وهو المقياس الذي نرد إليه كل نشاط للمرأة. وهذا يلزم منه أمران نفهمهما في ضوء قانوني (التكامل الكوني والتفاضل الاجتماعي):
الأول: للأسرة حاجة من داخلها وهي ملازمة المرأة بيتها إلا لحاجة، ومنها الفسحة الحلال في حدود الحشمة، وطلبُ العلم، وممارسةُ العمل المباح.
الثاني: للأسرة حاجة من خارجها لا يتم المقصود إلا بها وهي خروج الرجل للعمل والكسب. إضافة إلى حاجة المجتمع للرجل أكثر من حاجته للمرأة، مثل ممارسة النشاط السياسي والعسكري.
والبيت على صغره مؤسسة كاملة لا بد فيها من رئيس ومرؤوس. وقد اقتضت حكمة الخلق أن يكون الرجل هو الرئيس والقائد. وهذا – أي قيادة الرجل للبيت، وهو (مقصود أبعد) أيضاً – يلزم منه أن يكون الرجل ذا فضلة في عقله نسبة إلى المرأة، وإلا اضطرب أداء هذا الدور فاختلت المؤسسة. وهو تفاضل وظيفي لا تمايز إنساني؛ فلا يعني شرطاً أن الرجل أكرم من المرأة. إنما الكرامة الإنسانية بالتقوى وهما فيها على قدم المساواة من حيث الأصل. والتفاوت فيها مفتوح لكليهما بالتساوي والتكامل.
وفي غياب هذين البعدين: الأسرة والقيادة، لا يحتمل النظر القريب تفاضل الجنسين في موضوع العقل، ويبقى متحيراً بين صحة الحديث الوارد في ذلك وبين ما يبدو له من خلل بسبب نظره القريب.
[1]– تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ – 2000م.
التبخيس الاجتماعي للمرأة
التبخيس الاجتماعي للمرأة
تتعرض الأنثى في كثير من البيئات إلى عمليات تبخيس منذ الصغر، تتخذ صوراً شتى تتراوح بين التصريح والتلميح والإيحاء إليها – وللذكر أيضاً – بأنها دونه في مرتبتها الإنسانية. قد يعبَّر عن هذا التبخيس والنظرة الدونية بألفاظ جارحة وإشارات غير لائقة وأمثال وتقاليد شعبية، وربما تعدى إلى الضرب والتنكيل. كما ينعكس على تقاليد وتواضعات اجتماعية لا يفهم منه سوى دونية المرأة في بشريتها وقيمتها الإنسانية.
خذ مثلاً على ذلك هذه الصور الأسرية في بعض الأوساط الاجتماعية، لا سيما في الريف:
- تحكم الأخ الذكر بأخته الأنثى فيأمرها بشتى الأوامر، وعليها أن تطيعه ولا بد. فإن خالفت لأي سبب لا يبعد أن يعرضها ذلك لأن تقذف بكلمة نابية، وقد يصل الأمر إلى الضرب. ترسبت هذه الحالة وترسخت كثابت اجتماعي. ساعد على ذلك كون الذكر هو من يسعى عادة لكسب الرزق خارج البيت، والأنثى هي التي تقوم بوظائف البيت. وتلك قسمة عادلة، يقتضيها قانون (التكامل الزوجي). وليست المشكلة هنا، إنما في ضعف إدراك هذا القانون، وسوء تطبيقه.
يستلزم قانون (التكامل الزوجي) تفاوت العمل وتقاسمه بين الجنسين، فواجبات البيت من شأن الأنثى بينما واجبات العمل خارج البيت من شأن الذكر، ومنه القيام بحاجات المرأة: أماً كانت أم أختاً أم زوجة أم غيرها، مثل حمايتها وتوفير مستلزمات تطبيبها وحاجات دراستها وحلول مشكلاتها التي لا تتهيأ لها بمفردها، وما شابه ذلك. وكما أن تقصير الأخير في أداء عمله يحمله مسؤوليةً عليه إنجاز تبعاتها، كذلك الأمر مع تقصير الأنثى في واجباتها الداخلية، وعليها تحمل مسؤوليتها. وعلى كل فريق أن لا يتضايق من مطالبته بأداء واجباته. لكن إن وقع التقصير – ولا بد أن يقع شيء منه قلّ أو كثر – فعلى الجميع أن يلتزموا حدود الأدب والاحترام المتبادل، مع الود والرحمة والسلوك الرفيع.
- إظهار الابتئاس بولادة الأنثى عكس الذكر، واختصاص بعض البيئات الذكر عن الأنثى بمزيد من العناية والعطف. ومن خلال التمييز في الطريقة التي يتعامل بها الأب مع الأنثى مقارنة بأخيها الذكر، ينطبع في ذهن الطفل أن الأنثى أقل قيمة في الخَلْق والانسانية.
- إشعار الأُنثى بأنها عورة وأن فيها نقصاً عليها التواري عن الأنظار لكي تخفيه منذ طفولتها، وتقييدها في اللعب والحركة والضحك. هذا لا يعني أن علينا – في سبيل ترك ذلك – أن نهمل القيم، مثل قيمة الحياء، الذي هو للمرأة جمال وقوة وهيبة، كما أنه جزء من طبيعتها، التي لا يصلح التنازل عنها ولا تصح الدعوى لإخراجها منها. كما لا يعني غض الطرف عن أن هناك مقداراً من التفاوت في درجة رعاية الأمر بين الجنسين. إنما المشكلة في غرس القيمة أو تنميتها بطريقة تعقد البنت.
- قد يُطلب الزواج بالمرأة من خلال ذويها، الذين يناقشون الأمر فيما بينهم دون علمها وكأن الأمر لا يعنيها البتة، فيرفضون أو يقتنعون دون اعتبار لرأيها. وقد ينتهي الطلب بالرفض دون علمها، أو تتم الموافقة ثم تجبر عليها بشتى الطرق ترغيباً وترهيباً. وعادة ما تشارك الأم في هذا الاعتداء الصارخ على أخص خصوصيات الإنسان ذكراً كان أم أنثى!
على أننا نلاحظ أن هذه الظاهرة قد بدأت تعرف طريقها إلى الانحسار.
حرية المرأة في اختيار الزوج
إن إجبار المرأة على الزواج بمن تكره مخالف للشرع والعقل والفطرة. روى البخاري في (باب: لا يُنكِح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها) بسنده عن أبي هريرة أن النبي e قال: (لا تنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا تُنكح البكر حتى تستأذن). قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت).
قال شيخ الإسلام: أما الثيب فقد زال عنها حياء البكر فتتكلم بالنكاح، فتُخطَب إلى نفسها، وتأمر الولي أن يزوجها. فهي آمرة له، وعليه أن يطيعها فيزوجها من الكفء إذا أمرته بذلك. فالولي مأمور من جهة الثيب، ومستأذِن للبكر. فهذا هو الذي دل عليه كلام النبي e. وأما تزويجها مع كراهتها للنكاح: فهذا مخالف للأصول والعقول، والله لم يسوغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شراب أو لباس لا تريده. فكيف يكرهها على مباضعة من تكره مباضعته، ومعاشرة من تكره معاشرته؟! والله قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة فإذا كان لا يحصل إلا مع بغضها له، ونفورها عنه فأي مودة ورحمة في ذلك؟([1]).
وروى البخاري في (باب: إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحهم مردود) بسنده عن خنساء بنت خذام الأنصارية: إن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله e فرد نكاحه. وروى ابن ماجة وغيره عن ابن بريدة عن أبيه قال جاءت فتاة إلى النبي e فقالت إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء([2]).
وفي الصحيحين وغيرهما: عن عمر بن عبد الله بن الأرقم أن سبيعة بنت الحارث أخبرته: أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك، رجل من بني عبد الدار، فقال لها: ما لي أراك تجملت للخطاب، ترجين النكاح، فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، وأتيت رسول الله e فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوج إن بدا لي.
قال الشيخ الألباني: وفي الحديث فوائد فقهية أخرى ساق الحافظ الكثير الطيب منها كقوله: وفيه جواز تجمل المرأة بعد انقضاء عدتها لمن يخطبها؛ لأن في رواية الزهري عند البخاري: فقال: مالي أراك تجملت للخطاب؟ وفي رواية ابن إسحاق: فتهيأت للنكاح واختضبت. وفي رواية معمر عن الزهري: وقد اكتحلت، وفي رواية الأسود: فتطيبت وتصنعت”([3]).
إن تجمل المرأة للخطاب – ضمن الضوابط الشرعية – مشروع في ديننا، وذلك من الحرية المكفولة للمرأة بإذن النبي e. وقد قال تعالى عن المرأة التي تأيمت حديثاً وهي ما تزال في فترة عدتها: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) (البقرة:235).
روى البخاري عن ابن عباس: (فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ) (البقرة:235). يقول: إني أريد التزويج، ولوددت أنه تيسر لي امرأة صالحة. وقال القاسم: يقول إنك علي كريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله لسائق إليك خيراً، أو نحو هذا. وقال عطاء: يعرض ولا يبوح، يقول: إن لي حاجة، وأبشري، وأنت بحمد الله نافقة. وتقول هي: قد أسمع ما تقول، ولا تعد شيئاً.
قال ابن كثير في (تفسيره): يقول تعالى: (ولا جناح عليكم) أن تعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح… عن ابن عباس قال: إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة, ولا ينتصب لها ما دامت في عدتها. وقال: وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها.
فهوم دينية خاطئة
ساعد على ظاهرة التبخيس بعض الفهوم الخاطئة لنصوص شرعية وأحكام فقهية ذكرنا بعضها في موضوع (قانون التفاضل الاجتماعي).
من هذه الفهوم الخاطئة تصور البعض وكأن الحجاب تم التأكيد عليه في حق المرأة بناءً على أن جسدها عورة تعني النقص. ولو تمعنا في الأمر أكثر لوجدنا ما يلي:
- إن عورة المرأة يغلب عليها الكمال، وليس النقص، مقارنة بالرجل؛ لِما في جسمها من زيادة جمال عن جسمه. فالجمال، الذي هو من جنس الكمال، هو الذي استدعى مزيداً من الستر لدى المرأة.
- ليس كل عورة نقصاً؛ فوجود عورة الرجل – مثلاً – كمال، وعدمها هو النقص وليس العكس، وهذا العدم عيب يُلزمه بطلاق المرأة إن كان زوجاً؛ ويجعله أقل منها درجة في هذا الباب، ويفقد شرط الكفاءة. فليشكر الرجل ربه على عورة أورثته كمالاً..!
- ولا ننسى ما جاء في حق السيدة مريم رضوان الله عليها من قوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12). ولم يرد في حق الرجل في المقابل مثل هذا التكريم العجيب. وقد مر بنا الكلام على هذا في أول الكتاب.
ويصل التبخيس حداً يجعل الرجل يشعر بالخجل من ذكر اسم أمه أو زوجه أو إحدى قريباته، وكأنه عورة ينبغي أن تستر. وهو نوع من المهانة الجمعية اللاشعورية الشائعة في المجتمعات الاضطهادية يسقطها الرجل على المرأة. أي إنها – في الحقيقة – تعبير عن نقص الرجل لا نقص المرأة. وذلك مخالف للقرآن الكريم والسنة النبوية؛ فقد سمى القرآن نساء بأسمائهن، ولم يكن النبي e يتردد من مناداة المرأة باسمها. فقد قال: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) متفق عليه، وروى مسلم عن عائشة قالت: لمّا نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء/214) قام رسول الله e على الصفا فقال: (يا فاطمة بنت محمد! يا صفية بنت عبدالمطلب! يا بني عبدالمطلب! لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم). تأمل كيف كانت المناداة باسم قريباته من النساء: ابنته وعمته على ملأ من الناس ومن فوق جبل الصفا!
[1]– مجموع الفتاوى، 32/25، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م.
[2]– ترجح لي بعد بحث طويل مذهب الأحناف في عدم اشتراط موافقة الولي في النكاح، ويكفي الشاهدان في صحة العقد.
[3]– سلسلة الأحاديث الصحيحة، 6/494. مصدر سابق.
سيكولوجية التبخيس الاجتماعي للمرأة
علم نفس (سيكولوجية) التبخيس الاجتماعي للمرأة
الثقافة الاضطهادية أساس تبخيس المرأة
تلك هي الجذور الاجتماعية للتبخيس. أما الجذور النفسية الجمعية فيمكننا إجمالها بكلمة واحدة هي (الثقافة الاضطهادية) الشائعة في مجتمعاتنا. وحتى نفهم منابع هذه الثقافة المتخلفة نحتاج إلى الاستعانة ببعض مقررات (علم نفس الجماهير).
حين يسلط على الإنسان ضغط أو تحد خارجي يعجز عن مواجهته أو تجنبه، يتعرض التوازن النفسي الداخلي إلى الخلل، ويقع الفرد في ما يسمى بـ(الأزمة النفسية). وهي حالة انفعالية مؤلمة تنشأ من الإحباط المتواصل لدافع أو أكثر من الدوافع القوية. تقترن الأزمة عادة بحالة من التردد والحيرة والتوتر والقلق (Anxiety)، إضافة إلى ما يترتب على إحباط الدوافع من شعور أليم بالنقص والخيبة والعجز، أو الشعور بالذنب والخجل والخزي والاشمئزاز، أو الشعور بالظلم والرثاء للذات، أو الشعور بالوحدة والاغتراب، أو شعور الفرد بفقد احترامه لنفسه.
وإذا لم يوفق الفرد إلى حل المشكلة التي تواجهه بطرق إيجابية واقعية، ظل في حالة من التوتر الانفعالي الموصول، فيدفعه ذلك للجوء إلى أساليب ملتوية خادعة، تحدث في منطقة اللاشعور من العقل، تخفف عنه بعض ما يكابده من تأزم نفسي، وتقيه مشاعر القلق والعجز والفشل والخجل والرثاء للذات وغيرها من المشاعر التي تنشأ عن إحباط دوافعه. فإذا به يتجاهل المشكلة أو يتناساها أو ينكرها أو يستصغرها أو يموه عليها أو يتنصل منها بإلقاء اللوم على غيره لا على نفسه. كل ذلك للخلاص مما يعانيه من القلق بدلاً من مواجهته. لذا تسمى هذه الأساليب الملتوية بالحيل الدفاعية؛ لأنها تدفع عن الفرد غائلة القلق، وتهبه شيئاً من الراحة الوقتية، وإن تكن وهمية، كي لا يختل توازنه النفسي([1]).
(التماهي بالمضطهد Identification with the aggressor) أحد تلك الحيل الدفاعية، تنشأ عندما يكون التوتر ناتجاً عن تسلط واضطهاد مستمر لا يمكنه مقاومته. وهي عملية نفسية دفاعية تحدث في الجانب اللاواعي للعقل من أجل مجابهة القلق والشعور بالعار. ومعناها (تمثل عدوانية المعتدي، مع البحث عن ضحية أضعف منه يصب عليها عدوانه بدلاً من المعتدي كتعويض عن عدم قدرته على تصـريف غضبه باتجاه الهدف الصحيح). وربما كان هذا نوعاً من عملية نفسية تسمى (التحويل)، وفيها يفرغ الشخص عاطفته على هدف آخر ليس هو الهدف الأصلي، مثل أن ينزعج موظف من كلمة نابية من مديره لا يقدر على ردها عليه، فيظل متوتراً حتى يفرغ انفعاله في أقرب ضحية يصادفها أضعف منه. وعادة ما تكون زوجته أو ولده.
الشيء نفسه يحصل للمجتمع حين يتعرض لاضطهاد، سيما إذا طال زمن الاضطهاد والاستبداد وتوالت على الشعب سياطه فتنشأ حالة من (التماهي الجمعي بالمضطهد) تعم المجتمع كله، فيتسلط أفراده بعضهم على بعض.
هذا سر اضطهاد المرأة الجسدي والنفسي في مجتمعاتنا الشـرقية؛ لأنها مجتمعات عانت من الاضطهاد طويلاً، فهي استبدادية اضطهادية: يسلط أفرادها الاضطهاد بعضهم على بعض: القوي على من هو أضعف منه، والضعيف ممن هو أقوى منه بصورة يكون فيها الجميع ظالماً ومظلوماً في وقت واحد. ولأن المرأة هي الجانب الأضعف دوماً فهي تتلقى الاضطهاد في جميع الأحوال ثمناً لإثبات الرجل ذاته كي يجابه المهانة والشعور بالنقص الذي يعاني منه باستمرار تجاه الأقوى.
هذا هو التشخيص.. هذه هي العلة!
وهنا نقول: إن إثبات الذات بتسليط الأذى على الضعيف خسة ولؤم ينبغي على الرجل أن يبادر إلى تركه والترفع عنه مع الذهاب إلى علاج نفسه المريضة كي يحقق إنسانيته المجروحة، لا بأذى المرأة واضطهادها، وإنما بمعرفة أصل الداء كخطوة أولى للشفاء، ثم احترام زوجته وولده ومن هم في دائرة مسؤوليته. وهذا المعنى الدقيق ورد في حديث لا يصح سنده لكنه دقيق المعنى عن النبي e أنه قال: (ما أكرمَ النِّساءَ إلَّا كريمٌ ولا أهانَهُنَّ إلا لئيمٌ)([2]).
قيادة المجتمع تبدأ من البيت
بل هناك ما هو أعمق أثراً.. وأعظم نتيجة!
إن داء (الصنمية) المستشري في القيادات المؤسسية والرموز الشعبية، سببه أن مجتمعاتنا في عمومها مجتمعات اضطهادية عانت طويلاً من التسلط والاستبداد. وعن طريق عملية (التماهي بالمضطهد) التي تحدث في اللاشعور الجمعي للمجتمع، تتقمص عامة الجماهير شخصية الحاكم المستبد. ولهذا تجد كل واحد منهم – إلا من رحم – يستبطن في داخله شخصية ذلك الحاكم الذي يضطهده فهو عبارة عن مستبد صغير، لا فرق بينه وبين المستبد الكبير سوى حجم القدرة التي يمتلكها هذا وذاك. ولذلك قيل في الأمثال: (فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر). ويكفي أن ينتقل هذا المرض بالحث والتأثر والعدوى؛ فليس شرطاً أن يتعرض كل فرد للاضطهاد حتى يصاب به([3])!
الصنمية أخطر عوق يصيب نفوس القادة، وهي أم الاستبداد. والسبب أن مجتمعاتنا اضطهادية، تنتج الاستبداد باستمرار. فالجمهور المتخلف أو الاضطهادي هو الذي يصنع الصنم، وهو الذي يحطمه بعد فوات الأوان ليقوم بتصنيع صنم آخر. وجذور ذلك قائمة على الاضطهاد بكافة أشكاله. فالثقافة الجمعية للمجتمع الاضطهادي تميل إلى التطلع للمنقذ السحري، والحلول العاجلة. وعادة ما تؤمن بما يسمونه (الحل الوحيد). ومن هنا نشأت (الثورية) والاعتماد على الحلول العسكرية، وإهمال الحل القائم على مشروع حقيقي (مدني): ينطلق من فكرة تؤسس لهدف، يتطلب وسائل وآليات، وتهيئة موارد، وتربية جمهور وإعداد قيادات رجالية ونسوية في منجاة من العقد والمعوقات النفسية: فردية وجمعية. وهذا ما اعتمده الرسول e في بناء الدولة وتأسيس الحضارة. و(الحل الوحيد) في حاجة إلى شخص ساحر الصفات، يتخذونه صنماً ينقذهم من صنم ليكون هو الصنم.
ظلم المرأة إذن ناتج عن التخلف الثقافي الجمعي للرجل.
وهي قضية نفسية جمعية لا واعية. تحتاج منا علاجاً نفسياً، أوله الوعي بالحالة. ودون ذلك ستفشل جميع عمليات الإصلاح في هذا الشأن، وأولها عملية الإصلاح الديني والتربوي والعلمي.
على هذا الأساس يبدأ إنقاذ المرأة بإنقاذ الرجل أولاً، وعلاجه من هذه الحالة الجمعية المستشرية في مجتمعاتنا.. حالة (التماهي بالمضطهد). هذا من أهم ما توصلنا إليه من حقائق قيادية منهجية. هدتنا إلى تثبيت أسس في (المنهج) غاية في الأهمية، منها فقرة (التجديد)، هي إضافات أجدها – حسب علمي – غابت عن بقية المناهج التغييرية، فاستمر إنتاج الصنم.
من هنا ندرك سر معنى لطيف للعلاقة بين الاستقرار العائلي وقيادة المجتمع في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74) كان ينبه عليه قديماً الشيخ محمود غريب رحمه الله([4]). فمن نجح في قيادة بيته: زوجاً وأولاداً قيادة قائمة على الحب والاحترام والمشورة وسماع الرأي والحرية المسؤولة – وهذه كلها من لوازم الاستقرار والسعادة البيتية (قرة أعين) – نجح في قيادة الجمهور وترؤس الدول بالطريقة نفسها.
إن هذا المعنى، مع إدراك سره، أراه من أعظم ما تحتاجه الدعوات التغييرية التجديدية اليوم للنجاح في محيطنا الشـرقي الذي يشيع فيه الاضطهاد بجميع أشكاله الفكرية والنفسية والجسدية. وهو أحد الفروق الأساسية بين دعوات الغرب ودعوات الشرق في العصر الوسيط والحديث. ولا يلزم من هذا القول بأن الغرب أنصف المرأة، كما أنه ليس قدوة لنا في معرفة الحقائق ورسم المناهج، وإن استفدنا منه في بعض الجوانب.
[1]– أصول علم النفس، ص447 فما بعدها، الدكتور أحمد عزت راجح، المكتب المصري الحديث للطباعة والنشـر، الاسكندرية. بتصرف.
[2]– حكم الألباني بوضعه في: الجامع الصغير للسيوطي، 1/6661.
[3]– لاحظ عبد الرحمن الكواكبي هذه الظاهرة قبل مئة عام فوصفها لكنه لم يذكر سببها حين قال (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص62، الطبعة الثانية، دار القرآن الكريم – بيروت، 1393هـ – 1979م): “الحكومة المستبدة تكون طبعًا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع”.
[4]– الشيخ محمود غريب عالم مصري، قدم العراق سنة 1974 إماماً وخطيباً في جامع (البنية) الواقع في منطقة (علاوي الحلة) ببغداد. كان له أثر كبير في الصحوة الربانية في العراق. غادر البلد سنة 1982 لأسباب أمنية. وتوفي رحمه الله في دولة عمان سنة 2013.
معادلة العدل والمساواة
معادلة العدل والمساواة
كثيراً ما تثار مسألة الإرث في الشريعة، ويركز على كون نصيب المرأة على النصف من نصيب الرجل مثالاً على أن الشريعة الإسلامية لم تنصف المرأة. وهذه النقطة، مع كون التنصيف ليس حكماً مطرداً في كل الإرث، نتناولها من جانبين:
الأول جانب العقيدة: فإن هذا القول كفر بالإسلام، ومروق من الدين؛ فالشريعة تنزيل رباني لا صنع إنساني. وهذا التقسيم للإرث ثابت في القرآن الكريم بالنص القطعي؛ ولا مجال فيه للاجتهاد الشخصي؛ فالاعتراض عليه – خارج نطاق الاستفهام – كفر لا يصدر من مسلم.
والثاني جانب البيان: فإن الاعتراض مبني على مفهوم خاطئ يقع فيه المعترض نتيجة اختلاط المفاهيم. ذلك أن أساس الاعتراض هو الانطلاق من مفهوم (المساواة) والخلط بينه وبين مفهوم (العدل). والمساواة المطلقة مفهوم غوغائي ديماغوجي([1]) لا موضوعي، يثيره النفعيون والدهماء ضد الحكماء، وأهل الفتنة لقلقلة المجتمعات المستقرة.
والأمر الآخر أن المعترضين أو الملبس عليهم يتصورون أن أساس التفاوت بين الجنسين هو الذكورة والأنوثة وأن الأنثى تأخذ أقل من الذكر لكونها أنثى وحسب. وهذا غير صحيح. وسأتناول كلا الأمرين في عنوان مستقل.
المساواة أم العدل ؟
المساواة لا تستلزم العدل دائماً، وهنا مكمن الخطأ الفادح. وما لم تحقق المساواة العدل أو تتطابق معه فهي خارجة عن مفهوم العدل. والخروج عن العدل ظلم مرفوض وأمر مبغوض. إن من شرط المساواة تحقيق العدل، وليس من شرط العدل تحقيق المساواة. وعلى المعترض أن يجيب بدقة على السؤال التالي: هل الأصل في ميزان الحياة: العدل أم المساواة؟
هل يصح أن نساوي – مثلاً – بين راتب مدير دائرة وراتب الفراّش الذي يخدمه؟ كلا، مع أنها مساواة! لماذا؟ انظر تر أن المساواة هنا أزاحت العدل، ولا تخلو معادلة من العدل إلا وكانت مختلة معتلة، ولا محققة له إلا وكانت متزنة معتدلة. إذن المساواة التي لا تحقق العدل خدعة زائفة. وهي ليست أكثر من شعار مستورد من الخارج، أشاعته الثورة الفرنسية التي كانت مطبوعة بطابع الغوغاء، وكان شعارها (الحرية، الإخاء، المساواة). وكان المفروض أن يضعوا شعار (العدل) بدل (المساواة)؛ فالحذر الحذر من الكلمات المزخرفة فإنها كما قال الحكم العدل سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام:113،112). ثم قال بعدها: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الأنعام:114-117). ثم تسلسل بعد تقرير هذه الحقائق تشريع كثير من الأحكام وأولها في الآية التي بعدها مباشرة وهي قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) (الأنعام:118). وهنا نصل إلى الجواب على السؤال عن الأصل في ميزان الحياة.
لقد قسم الله تعالى الإرث على أساس العدل، وليس على أساس المساواة، حتى لا يكون التقسيم ظالماً. لو أعطيت ولدك مئة دينار وكلفته بالتسوق للبيت، وأعطيت الآخر خمسين ديناراً له خالصة، هل من العقل أن يعترض عليك لأنك لم تساوه بأخيه؟ الشيء نفسه حاصل مع الإرث؛ فالمرأة غير مكلفة بالإنفاق – كالرجل – حتى على نفسها، ولا على أقاربها. ولا مطلوب منها الإنفاق على الأسرة؛ فهذا من مسؤوليات الرجل. وليست مأمورة بالجهاد ولا نفقاته. وأمور كثيرة غير ذلك معفاة منها، ومع ذلك لها نصف الإرث (مصرف جيب) فقط!
من ينبغي أن يساوى بالآخر ؟
وليس الإرث وحده قام على العدل بدل المساواة. الشريعة كلها كذلك، ما لم تلتق المساواة مع العدل. ولو استعرضنا فِقراتها على أساس مبدأ المساواة لربما ظهر أن الرجل هو الذي ينبغي أن ينصف! فالقتال من مسؤوليته وحده، والسعي للكسب والإنفاق على الأسرة، وعلى أخته المطلقة، وأمه الأرملة، وقريبته التي لا عائل لها، هذا وغيره من شأنه وحده دون المرأة. والمرأة تمكث الأيام لا تصلي، ولا تصوم. ولا تجب عليها صلاة الجمعة ولا الجماعة. والرجل يصلي أبد العمر، وآخر الدهر.
إن كل تشريع ورد في الإسلام إنما روعي فيه العدل، ومبدأ الغنم بالغرم، وهو من العدل. وما من أمر اختلفت فيه صورة التكليف بين الجنسين إلا وكان العدل حاضراً في الاعتبار، أو ثمت أمور أُخرى استدعت هذا الاختلاف. خذ الحجاب مثلاً، فالاختلاف فيه بني على سنة من سنن الله في خلقه وهي (الوظيفة والجمال)؛ فكل مخلوق روعي فيه هاتان الصفتان بحيث لا يلغي أحدهما الآخر ولا يكون على حسابه فيجعل وجوده مختلاً. وحسب الحال تكون النسبة المطلوبة لأحدهما في مقابل الآخر، ولهذا يكون التناسب أو التوازن بينهما هو معيار الدرجة. إن مقصود الجمال في ظاهر جسم المرأة هو الغالب على خلق المرأة، بينما مقصود القوة في الرجل هو الغالب عليه؛ فلا بد إذن أن تكون الأجزاء المستورة من جسم المرأة أكثر مما هي عليه لدى الرجل، وليس العكس كما هو الحال في المجتمعات التي انتكست فطرتها وانعكست نظرتها لتفلتها عن شرع الله. هذا إضافة إلى فوائد وحكم أُخرى لسنا بصدد تفصيلها مثل كون الحجاب يجعل من يتعامل مع المرأة يبني تقييمه لها على أساس شخصيتها وقدراتها الذاتية، وليس على أساس شكلها أو مظهرها الخارجي فقط. وبهذا تقيم المرأة على حقيقتها. وذلك من معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (الأحزاب:59).
وعصمة الطلاق جعلت في يد الرجل مراعاة لغلبة العقل لديه على العاطفة مقارنة بالمرأة، التي ينعكس لديها الأمر. وهكذا… فعندما نقيس الاختلاف بمنطق العدل والمصلحة الراجحة تظهر الحكمة في جانب التشريع واضحة. لا كما يفعل الجاهلون والمتعجلون بادي الرأي عندما يقيسون الأحكام بمقياس المساواة دون النظر إلى مدى تطابقها مع العدل والمصلحة فيغمط الحق وتضيع الحقيقة.
تقسيم الإرث لا علاقة له باختلاف الجنس
يقول د. محمد عمارة: معايير التفاوت في الميراث لا علاقة لها بالذكورة والأنوثة على الإطلاق. إنما المعيار شيء غير ذلك. وأول معيار هو درجة القرابة من المتوفى. والمعيار الثاني موقع الجيل الوارث من المتوفى. فكلما كان الجيل صغيراً في السن يستقبل الحياة كان نصيبه من الميراث أكثر؛ لذا يرث ابن المتوفى أكثر مما يرث أبوه، أي جد الابن. وذلك لأن الصغير سيحمل أعباء الحياة، والكبير سيغادر الحياة.
الحالة الوحيدة التي فيها (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ): حين يكون اتفاق في درجة القرابة، واتفاق في موقع الجيل الوارث من المتوفى.
فالمرأة قد ترث مثل الرجل، وأكثر من الرجل، أو ترث ولا يرث الرجل: في أكثر من ثلاثين حالة. بينما ترث نصف الرجل في أربع حالات فقط([1])! وهذا صحيح كل الصحة. وإليكم بعض الشواهد على هذه الحقيقة:
أولاً: حالات ترث المرأة مثل نصيب الرجل. منها:
- إذا ترك الميت بنتاً وأباً، فللبنت نصف التركة فرضاً، لقوله Y: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) (النساء:11). وللأب باقي التركة تعصيباً. وهو ما يساوي نصيب البنت.
- إذا ترك الميت بنت ابن وجداً، فلبنت الابن نصف التركة فرضاً؛ لأنها تحل محل البنت عند عدم وجود أبناء للميت. وللجد باقي التركة تعصيباً.
- إذا ترك الميت ابناً وأباً وأماً: فلكل واحد من الأب والأم سدس التركة فرضاً؛ لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) (النساء:11) والباقي للابن تعصيباً. وهنا تتساوى الأم مع الأب.
- إذا ترك الميت: ابن ابن وجدًا وجدة: فلكل واحد من الجد والجدة سدس التركة فرضًا، والباقي لابن الابن تعصيبًا. وهنا تتساوى الجدة مع الجد.
ثانياً: حالات ترث المرأة نصيباً أكبر من نصيب الرجل، منها:
- إذا ترك الميت بنتاً وأباً وأماً: فللبنت نصف التركة فرضاً؛ لقوله تعالى: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). (النساء:11). وللأم سدس التركة فرضاً؛ لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) (النساء:11). وللأب سدس التركة فرضاً، والباقي تعصيباً؛ لِما سبق من قوله Y، ولقوله e: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر. وبهذا يكون نصيب البنت أكبر من نصيب الأب.
- إذا ترك الميت: أماً وأختاً شقيقة وأخاً لأب: فللأم سدس التركة فرضاً، وللأخت الشقيقة نصف التركة فرضاً، والباقى للأخ لأب تعصيباً. وبهذا يكون نصيب الأخت الشقيقة أكبر من الأخ لأب.
- إذا تركت الميتة زوجاً وجدة وأخاً لأب: فللزوج النصف فرضاً، وللجدة السدس فرضاً، وللأخ لأب الباقي تعصيباً. وإذا وضعنا مكان الأخ لأب أختاً لأب كان لها نصف التركة فرضاً، وهو بلا شك أكبر من نصيب الأخ لأب.
ثالثاً: حالات ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل. مثلاً:
- إذا ترك الميت بنتاً وأخاً لأم: فإن البنت تحجب الأخ لأم، ولا يرث شيئاً بسببها.
- إذا ترك الميت: بنتاً وأختاً شقيقة، وأخاً شقيقاً: فللبنت نصف التركة فرضاً. وللأخت الشقيقة باقى التركة مع البنت. ولا شيء للأخ لأب؛ لأنه حجب بسبب إرث الأخ الشقيقة بالتعصيب.
رابعاً: حالات ترث فيها المرأة، ولو وجد مكانها رجل لا يأخذ شيئاً. مثلاً:
إذا ترك الميت: أباً وأم أم فلأم الأم سدس التركة. ولو وضعنا مكان أم الأم الرجل المناظر لها وهو أب الأم، فإنه لا يرث شيئاً؛ لأنه ليس من الورثة أصلًا.
وما ذكرته مجرد أمثلة. وبهذا يبطل القول بأن نصيب المرأة في الميراث دائماً أقل من الرجل. وأن الله تعالى جعل أساس التفاوت هو الجنس. بل الأمر كما ذكر د. محمد عمارة
هكذا تحل معادلة العدل والمساواة كثيراً من العُقد، وتوضح لنا كثيراً من الإشكالات. وملخص القول: المرأة والرجل متساويان في المرتبة الإنسانية، ويتفاوتان في الوظيفة الاجتماعية.
[1]– محاضرة بعنوان: الذكورة والأنوثة لا علاقة لها بفلسفة الميراث في الإسلام، الرابط:
[1]– ديماغوجي: كَلامٌ فَضْفاضٌ لا مَنْطِقَ لَهُ، يُحاوِلُ صاحِبُهُ أَنْ يَسْتَميلَ إِلَيْهِ الجُمْهورَ بِالإِغْراءِ. ومعناها السياسي: مجموعة الأساليب التي يتبعها السياسيون لخداع الشعب وإغرائه ظاهرياً للوصول إلى السلطة وخدمة مصالحهم.
الواقعية في التفكير والسلوك والفتوى
الواقعية في التفكير والسلوك والفتوى
اتفق العلماء على أن الفتوى تقوم على ثلاثة أركان: الواقعة والواقع والدليل. ولهذا قالوا بأن الفتوى تتغير زماناً ومكاناً وأعياناً، والضـرورات تبيح المحظورات. ليس الضرورات معتبرة فقط، بل الحرج أيضاً فهو مرفوع في شريعة الإسلام. وهذه هي (الواقعية) التي امتازت بها شريعة الإسلام السمحاء فكانت صالحة لكل زمان ومكان.
الثبات والمرونة من خصائص الشريعة .. والتغير لازم للفقه
الفتوى والفقه اجتهاد بشري يرجع إلى الشريعة وينبثق عنها. لكنه ليس هو الشريعة نفسها النازلة من السماء. والفتوى في أي واقعة يكتنفها نقصان اثنان:
- احتمال الخطأ من الأصل
- وطروء النقص عليها بتغير الواقع بالفعل.
لهذا نحن غير ملزمين بالفتوى كما هي لزوماً عابراً للزمان والمكان والأعيان؛ هذا من خصائص الشريعة وليس الفقه أو الفتوى، وإن استفدنا منها من جوانب أُخرى.
أحد المجاهدين كان يتشدد في خروج زوجته وحدها، ويمنعها من قيادة السيارة، وذلك قبل الاحتلال. وبعد وقوع الكارثة واشتداد الأزمة احتاجت المرأة كثيراً إلى قيادة السيارة لتنتقل من مكان إلى مكان هي وأولادها الصغار. وفي كثير من الأحيان كانت الحاجة ماسة إليها في نقل جريح لم يكن الرجال قادرين على نقله. فعلمته التجربة أن للحرب فقهاً غير فقه السلم. إذن الثبات والمرونة للشريعة، ولهذا كان التغير لازماً للفقه، الذي هو الاستجابة المرنة للشريعة الثابتة لدواعي الواقع المتغير.
سفر المرأة دون محرم
لنضرب مثالاً حيوياً من واقعنا المعاش هو سفر المرأة بلا محرم ضمن حدوده الشرعية، وحاجة العمل إليه كثيراً في ظروفنا الراهنة، وكيف أن لتغير مسائل النقل أثراً في ضرورة تعديل الفتوى بما يتلاءم والحاجة الماسة لحركة المرأة من أجل تمكنها من القيام بدورها في عملية التغيير والإنقاذ. وذلك باختصار شديد.
اختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جواز سفر المرأة دون محرم عند توافر الأمن، فقال: (وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم. وهذا متوجه في سفر كل طاعة)([1]).
ومن الفقهاء المعاصرين الذين ذهبوا إلى جواز سفر المرأة دون محرم عند وجود الأمن الشيخ ابن جبرين رحمه الله، إذ سئل: ما حكم سفر المرأة وحدها في الطائرة لعذر، بحيث يوصلها المحرم إلى المطار ويستقبلها محرم في المطار الآخر؟ فأجاب: “لا بأس بذلك عند المشقة على المحرم كالزوج أو الأب إذا اضطرت المرأة إلى السفر ولم يتيسر للمحرم صحبتها، فلا مانع من ذلك بشرط أن يوصلها المحرم الأول إلى المطار فلا يفارقها حتى تركب الطائرة ويتصل بالبلاد التي توجهت إليها، ويتأكد من محارمها هناك أنهم سوف يستقبلونها في المطار، ويخبرهم بالوقت الذي تَقْدُمُ فيه ورقم الرحلة؛ وذلك لعدم الخلوة المنهي عنها، ولعدم المحذور من سفرها وحدها الذي تكون عرضة للضياع أو لاعتراض أهل الفساد. وأيضاً فالمدة قليلة إنما هي ساعة أو بضع ساعات، هذه المدة قد لا تسمى سفراً أصلاً؛ لأن السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال، فلا ينطبق على المدة القصيرة ولأن الضرورات لها أحكامها([2]).
المحرم لذاته والمحرم لغيره
وقد قال بذلك كثير من العلماء الأقدمين والمحدثين، واستدلوا بأحاديث نبوية وقواعد شرعية، لا يحتمل (المنهج) الخوض فيها أكثر. ومن جميل ما ذكروه قاعدتان جليلتان:
الأولى: أن الأصل في أحكام العادات والمعاملات هو الالتفات إلى المعاني والمقاصد بخلاف أحكام العبادات فإن الأصل فيها هو التعبد والامتثال دون الالتفات إلى المعاني والمقاصد. كما قرر ذلك الإمام الشاطبي ووضحه واستدل له. والسفر من المعاملات لا من العبادات.
والثانية: أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضـرورة. أما ما حرم لسد الذريعة فيباح للحاجة. ولا ريب أن سفر المرأة بغير محرم مما حرم سداً للذريعة، والحاجة إليه واقعة.
فإذا جمعت إلى هذا ظروفنا المادية والأمنية، إضافة إلى السكن ومكان العمل، وما يشكله وجود أشخاص زائدين (كمحارم) من حرج. وحتى لو كانوا ضمن المشروع فإن هذا يقتضي منا زمناً أطول وجهداً أكبر ومؤونة أكثر؛ إذ أن ما يعطى للنساء من مادة تدريبية غير ما يعطى للرجال من ذلك، ناهيك عن التقيد الذي يعتري المرأة في حال وجود رجال آخرين. وذلك كله من الحرج الذي جاءت الشريعة السمحة برفعه، ومن التكلف الذي جاءت الشريعة بذمه.
هذا والطريق آمن بإذن الله، وأعضاء العمل مأمونون بحمد الله. السفر في عصرنا لم يعد كالسفر في الأزمنة الماضية محفوفاً بالمخاطر لِما كان فيه من اجتياز الفلوات والتعرض للصوص وقطاع الطرق وغيرهم. بل أصبح السفر بواسطة أدوات نقل تجمع العدد الكثير من الناس في العادة، كالبواخر والطائرات والسيارات الكبيرة، أو الصغيرة التي تخرج في قوافل. وهذا يجعل الثقة موفورة، ويطرد من الأنفس الخوف على المرأة؛ لأنها لن تكون وحدها في موطن من المواطن.
ومع هذه الفتوى العلمية الواقعية من كبار علماء الأمة قديماً وحديثاً، إلا أن بعض الناس ولعوا بالتشدد حتى تصوروه هو الدين، وأن كل رخصة تميع وتنصل – معاذ الله – من الشرع الحكيم. وهذا مخالف لِما قرره سلفنا الصالح على لسان الإمام سفيان الثوري رحمه الله حين قال: (العلم رخصة من عالم ثقة، أما التشدد فالكل يحسنه).
القيادة والتجديد والتغيير الاجتماعي في حاجة ماسة إلى عقل حر، وتفكير مرن، ونفس شجاعة، وشخصية ذات قابلية ممدودة للتكيف مع المتغيرات، تتعامل مع القديم الذي ما عاد مصدراً للمنفعة كتراث تعتز به لا حمل تنوء بثقله. أما الضار منه فلا أسهل عليها من التصـريح بنقده ومواجهة الحياة الجديدة بخلعه، وتمثل المطلوب في الواقع مع الغابر النافع. والفقه الإسلامي غني بالجواهر، لكنه في حاجة إلى الناقد الماهر الذي يعرف ماذا يأخذ وماذا يدع، وما الذي يحذف وأي شيء يضيف. علماً أن الفقه منتوج بشري يعتريه ما يعتري كل جهد أرضي من النقص، والقاعدة الفقهية الذهبية تنص على أن “الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأعيان”. أما المعصوم فهو الشريعة بوحيها الثابت، ولا غير.
[1]– الفتاوى الكبرى، 5/381، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1408هـ – 1987م.
[2]– فتاوى الشيخ ابن جبرين، 97/7، عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبرين.
معادلة المنظومة القيادية لا القيادة الفردية
معادلة المنظومة القيادية لا القيادة الفردية
صحيح أن “القائد واحد.. فالسقاء لا يتمخض إلا عن زبدة واحدة”، ولكنه في منظومة قيادة. القيادة الفردية مهما عظمت ما لم تكن ضمن منظومة قيادة تشاركية حقيقية فهي إما طاقة منفلتة ضائعة، وإما شخصية مستبدة طاغية. وفي غياب الكيان السياسي الجامع لأهل السنة فالطاقات القيادية تذهب سدى، ولا بد لاستثمارها من منظومة تجمعها وتنميها وتسددها وصولاً إلى ذلك الكيان الجامع.
وإذا كان القائد النموذجي هو من امتلك ثلاث صفات: (التأثير، والتحريك، والتوجيه نحو هدف)، فكثير من الرجال والنساء المتميزين في المجتمع إنما يمتلكون واحدة أو اثنتين من هذه الصفات، ولا يبلغون الكمال فيها مجتمعة.
المنظومة القيادية هي المعادلة التي تجيب على هذا النقص فتحيله كمالاً. وذلك نوع من الاستجابة لقانون (التكامل) الكوني. فتضع كل عامل – رجلاً كان أو امرأة – في مكانه، وتنمي خبرته حسب ما يحسنه وينشرح له صدره وتتفتح له طاقاته. فيكون مثلها كشركة تصنع منتجاً معيناً يتولى كل قسم من أقسامها تصنيع جزء منه، ثم تجمع الأجزاء في كيان واحد ليتم تصنيع ذلك المنتج.
الثقافة الاضطهادية ثقافة متخلفة؛ تتطلع إلى القائد الفرد بحيث تجد نظرها على الدوام مشدوداً إليه ومقصوراً عليه، فتسقط دوماً في مطب (الصنمية) الخطير. في مشروعنا نعمل طبقاً لمعادلة (المنظومة القيادية)، التي تسلك في نطاقها الطاقات جميعاً مع مراعاة درجاتها من السلّم التراتبي على تنوع مراتبها. وبذلك يتحول جميع أفراد المنظومة – على اختلاف قابلياتهم – إلى طاقة قيادية منسجمة ومتساندة مع بعضها في نسيج واحد للقيادة. وهذا قمة النماء والتطور والرقي.
إن هذا النهج التقدمي يستدعي من المؤسسة القيادية أن تضع في حسابها تنمية خبرات أعضائها حسب قابلياتهم، فيتطورون نوعياً ويتكاملون فيما بينهم كل من موقعه الذي يتناسب وقابليته، ويترقى مع عطائه. وخلال المسير قد تكتمل الصفات الثلاث عند من لم تكن فيه مجتمعة.
على هذا النهج سار النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رعى الطاقات المسلمة بأن هيأ لها المنظومة أولاً، ثم أطلق لها الحرية في أن تختار موقعها من المنظومة، ورعى هذا الاختيار ووجهه وسدده. مع الأخذ بنظر الاعتبار أنه لم يكره أحداً على العمل في غير مجاله الذي يحسنه، ووظيفته التي خُلق لها. فهو القائل صلى الله عليه وسلم: المتفق عليه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). وفي مثله قال تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء:84). قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن الكريم): أي: على سجيته التي قيدته، وذلك أن سلطان السجية على الإنسان قاهر؛ فالسجية فعل الخالق عز وجل، والعادة فعل المخلوق، ولا يبطل فعل المخلوق فعل الخالق. وهذا كما قال e: (كل ميسر لما خلق له).إ.هـ .
لم يكلف النبي صلى الله عليه وسلم حسان الشاعر حمل السيف، لأنه خلق للسان ولم يخلق للسنان. إنما شجعه كشاعر ورعاه وأكرمه وجعله يحتل منزلته الاجتماعية والتغييرية اللائقة بموهبته، وكان المجتمع مدركاً لأثر هذا التفاوت في الخلق، وواعياً بما فيه الكفاية لأن يحترم حسان كشاعر لا كمقاتل. وكان خالد بن الوليد قائداً عسكرياً ولم يكن عالماً ولا شاعراً. وكان من الصحابة من يحسن أكثر من عمل في معادلة التغيير؛ فأبو هريرة، مثلاً، كان عالماً يروي الحديث، وفي الوقت نفسه كان مقاتلاً يحمل السيف يذود عن دولة الإسلام، ثم كان أميراً على البحرين على عهد سيدنا عمر بن الخطاب. ومن الصحابة من جمع القيادة من أطرافها كالشيخين وأضرابهم.
وهكذا كان الشأن مع النساء على عهده صلى الله عليه وسلم. فمنهن من كملت كخديجة ومنهن من قاربت كأسماء، ومنهن من حملت السيف كأم عمارة، ومنهن دون ذلك. وقانون (المنظومة القيادية) كفيل بتوزيع الطاقات على سلمه التراتبي لتظهر نتائجها الجمعية وكأنها نابعة من جسد واحد، يتجلى فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً) وشبك أصابعه([1]).
[1]– متفق عليه، واللفظ للبخاري.
الثقة بالمرأة مفتاح شخصيتها
مفتاح شخصية المرأة .. الثقة بها
تأمل هذه الحقائق القيادية:
- القائد من يغرس في أتباعه الثقة بأنفسهم، وليس القائد من يجعل أتباعه يثقون به فقط. إنما ذلك الصنم.
- ثق بأتباعك وعرضهم للتحدي، وسترى كيف تكون الاستجابة.
- الثقة بالنفس تمنح الاحترام للآخرين، وإن كانوا أضعف منا.
- عندما تثق المنظومة المقربة بقائدها ويثق بهم، ينعكس ذلك على الجمهور فتشيع فيه الثقة بالجميع والحماس للعمل خلفهم.
بين الصنمية والانهزامية علاقة عضوية؛ فكل مهزوم نفسياً يكون صنماً مستبداً حين تؤول إلى يده عناصر القوة والتحكم. عندها يُسقط شعوره بالنقص على أتباعه، وأولهم المرأة من حيث إنها العنصـر الأضعف بين الموجودين. هذا هو السبب الكامن وراء فقدان الثقة بكفاءة المرأة في بعض الأوساط، وتعطيلها أو منعها من أداء دورها الذي ينبغي أن يناط بها.
كل إنسان في حاجة إلى ثقة من يتعاملون معه حتى ينشط للعمل. وتتأكد هذه الحاجة أكثر لدى المرأة؛ ربما لأسباب اجتماعية أهمها شيوع التبخيس في حقها، وربما لأسباب فطرية لها علاقة بأصل الخلقة (خلق المرأة من ضلع الرجل)، وما تورثه من تركيبة نفسية خاصة تجعلها في حاجة إلى رأي الرجل فيها أكثر من حاجة الرجل إلى رأي المرأة فيه.
نحن نؤمن بدور المرأة الفاعل في التأثير بالمجتمع، كما نثق بدورها في تحريك عجلة المشروع، وتحقيق الإنقاذ المنشود. ونسعى في منظومتنا لأن نوفر لها البيئة التي تعبر فيها عن طاقاتها، ونعرضها للتحدي الذي يناسبها ونحن مطمئنون مسبقاً إلى أنها ستستجيب له بما يناسبه. وقد تبين لنا بالتجربة أن المرأة سباقة في ميدان العطاء، بل وجدنا معظم النساء أسرع في استجابة النداء، وأسبق في الأداء من معظم الرجال!
في النساء رواحل .. كما في الرجال
لم يحرم جنس المرأة من صفات القيادة لتكون من حصة الرجل وحده دونها. إلا ما روعي فيه تلك الفروقات الفطرية والفسلجية، وغلبة العاطفة على العقل رفعاً للحرج عنها. قال النبي e: (إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ الْمِائَةُ لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً) متفق عليه. قال ابن حجر العسقلاني: (والراحلة من الإبل هي التي تُرحَل لتُركب، أي الصالحة للركوب؛ فاعلة بمعنى مفعولة. وما كل الإبل تصلح للرحل والركوب عليها، وإن كانت كلها حَمولة تصلح للحمل. قال الخطابي: إن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جداً، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحَمولة. وقال الأزهري: الراحلة عند العرب الذكر النجيب والأنثى النجيبة، والهاء في الراحلة للمبالغة. وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحَمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة)([1]).
وفي النساء رواحل، وإن كانت أقل مما هي عليه عند الرجال. فقد كانت خديجة وأسماء وعائشة وأم عمارة وهند وأم سليم وخولة وأمثالهن (رواحل) أو قريباً من ذلك في المجتمع الإسلامي عند تأسيسه وفي الصدر الأول من وجوده، ناهيك عن مريم وأم موسى وامرأة فرعون وبلقيس! ولكنْ كلٌّ من موقعها وفي اختصاصها طبقاً لشاكلتها وخبرتها وتيسير الله تعالى لها. وأياً ما كان قرب الواحدة منهن أو بعدها عن صفات (الراحلة) فقد كانت (المنظومة) كفيلة بأن تحول طاقتها إلى عامل فعال في عملية قيادة التغيير والتغيير القيادي.
إن كل واحدة من هؤلاء النسوة تقدم لنا مثالاً على جانب من جوانب العناصر الثلاثة الأساسية للقيادة (التأثير، التحريك، التوجيه): منفردة أو مجتمعة. فبلقيس كانت ملكة من خيرة الملوك. وخديجة ذات رأي ومال تتاجر به لترعى قائد الأمة، وتفرغه لمهام القيادة. وعائشة كانت فقيهة، وأم عمارة مقاتلة. وأسماء وهند مثال المرأة المربية الطَّموح التي تربي أولادها وتغرس في نفوسهم الثقة بأنهم أهل للترؤس والقيادة، وتشجعهم وتعدهم لذلك.
ومنهن دون ذلك. ولكن معادلة المنظومة تتكفل بتحويل الطاقة الفردية إلى طاقة قيادية جماعية. كما تتكفل بتنمية طاقة المرأة قبل تعريضها للمهام الاجتماعية قيادية كانت أم إدارية حتى لا تكون مشـروعاً للفشل، وشاهداً يضرب به المثل على عدم صلاحية المرأة للمنصب الجلل. وذلك بصرف النظر عن الحكم الفقهي في مرتبة المهمة ونوعها، وأي مرتبة تجوز أو لا تجوز في حق المرأة. فهذا له مجاله الذي لا نتجاوزه طبقاً للدليل.
مفهوم الفقه ومفهوم القيادة
يحصر البعض رؤية تأثير المرأة الاجتماعي ليتناوله من جانب (الفقه) فقط. ورؤيتنا أوسع من ذلك؛ فللتأثير والقيادة مجالها الذي يلتقي مع الفقه لكنها غيره. بل إن الفقه بمفهومه الاصطلاحي بعيد عن مجال القيادة من أكثر من وجه، يأتي على رأسها أن الفقه في مفهومه الدارج ذو طبيعة فردية، بينما القيادة ذات طبيعة جماعية. والفقه تحول – بسبب بعد عامة (الفقهاء) عن الواقع – إلى علم أقرب إلى التنظير منه إلى التطبيق، بينما القيادة يمتزج التنظير فيها مع التطبيق، وهي إلى الأخير أقرب منها إلى الأول. وكما أن للتوحيد – كعلم – مجاله، وللتفسير والتاريخ والأدب كذلك مجالاتها التي تتواشج أو تتلامس مع الأحكام الفقهية، لكنها غيرها. فكذلك السياسة والاقتصاد والاجتماع وبقية العلوم لها أبعاد قيادية تتلاقى مع الفقه ولكنها ذات طبيعة مختلفة، وهي لا بد منها – بنسب متفاوتة – لقيادة المجتمع وبنائه وتطويره. فحصر موضوع قيادة المرأة في مجاله الفقهي دون النظر في متعلقات الموضوع الأُخرى تقييد وجمود تأباه طبائع الأشياء. والإسلام دين الواقع؛ يتعامل معه ولا يتجاوزه أو يقفز عليه.
خذ – مثلاً على ما أقول – مسألة الخروج على الحاكم المسلم، فإن الخروج – في أصله – لا يجوز، لكن إذا خرج أحدهم وتغلب على الحكم، هنا صار التشريع أمام واقع جديد، يستدعي منه النظر إلى الموضوع نظرة جديدة مغايرة مراعاة لتغاير الواقع، فيقر بشرعية المتغلب ووجوب طاعته في هذه الحال، مع إيكال أمره إلى الله في مدى شرعية خروجه. ولا يكون دور قادة المجتمع ومسؤوليتهم الشرعية الاكتفاء بالقول بالحرمة طبقاً لأصل الحكم وحكم الأصل.
من الواقع المشاهد
لقد أفرز لنا الواقع الجديد في العراق أمثلة حية على ممارسة المرأة لدورها القيادي في المجتمع على مستويي (التأثير والتحريك)، أما التوجيه فقد عجز عنه حتى الرجال! فكان حضور بعض النساء إلى منصات (الحَراك) الذي استمر طوال عام 2013، وإلقاؤهن خطباً أو قصائد في الجمهور المحتشد.. مثالاً من أمثلة عديدة على قدرة المرأة على العطاء والتأثير في الجمهور وتحريكه.
الملاحظ أن منصة الرمادي لم تخرج لنا امرأة من الأنبار نفسها، إنما كان الحضور النسائي من خارج المحافظة؛ ليس عجزاً أو قصوراً من نساء الأنبار، ولكن بسبب الثقافة السائدة، التي تجعل أكثر الرجال يتقبلون من أي امرأة أن تؤدي نشاطاً شعبياً، ويعجب به ويتفاعل معه أشد ما يكون، لكنه يأباه على أي امرأة من ذويه! ونحن في مشـروعنا (الرباني) مسؤولون أمام الشرع لا أمام الثقافة، وإن كان لا بد من مراعاة الواقع لتغييره طبقاً لسنة التدرج، لأن القفز به غير ذي جدوى.
[1]– فتح الباري شرح صحيح البخاري، 11/335، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت، 1379.
المظالم الواقعة على المرأة
بعد هذه الجولة الطويلة مع المرأة ورتبتها في السلّم الإنساني وموقعها الاجتماعي من منظورنا الرباني، ومدى اهتمام القرآن والسنة بها، من جهة.. ثم التحليق في آفاق السنن والقوانين الربانية والمعادلات الأساسية، وما يتفرع عنها من حقائق فطرية ونفسية واجتماعية وتاريخية، من جهة ثانية.. بعد هذا كله يأتي بيان المظالم التي تعاني منها المرأة رغم كل ما أولاها الإسلام من اهتمام وأعطاها من قيمة ومنحها من حقوق، مقدمة بين يدي الدور المطلوب منها في عملية التجديد والتغيير والبناء والتطوير؛ فتحديد الأهداف ورسم الأدوار ينشأ من واقع الحاجة وألم المعاناة.
المظالم الواقعة على المرأة
الحاجة إلى تلبية الحقوق المصادرة من ضرورات الحياة، خصوصاً إذا عظم الظلم وتضاعف وتجاوز إلى مواطن حساسة تمس الكرامة الشخصية والعزة الذاتية: فرداً وجماعة. وبمعرفتنا لهذه المظالم يمكننا وضع مخطط للأنشطة التي من شأنها أن تلبي هذه الضرورات، وتعبر بها المرأة في عن دورها في التغيير والإنقاذ.
وهذه إلمامة مختصرة بأهم وجوه العنت والظلم التي تتعرض لها المرأة في مجتمعنا العراقي، وأهل كل بلد أعلم بما فيه. قسمتها إلى مظالم مشتركة عامة، ومظالم حادثة بعد الاحتلال الثلاثي (الأمريكي الإيراني الشيعي) للمنطقة السنية:
المظالم المشتركة
- العنف الجسدي. متمثلاً بالضـرب خارج نطاق الضوابط الشرعية. ويشارك الفهم السيئ لقوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء:34) بترسيخ هذه الظاهرة الظالمة. فلو طبقت الآية على أصولها بأن تقدم وعظ الناشز ونصحها على ضربها، فإن لم تستجب فهجرها في بيتها.. لما احتاجت المرأة إلى هذا الأسلوب العنيف جسدياً ونفسياً، ولذهبت عن الرجل فورة الغضب اللحظية التي ينساق بسببها عامة الرجال إلى ضرب النساء انتقاماً وتنقيصاً، فتكون القسوة ويكون الإيذاء.
إن الوعظ لا يتم إلا في بيئة نفسية هادئة، والهجر يستغرق أياماً فلا يبقى للغضب أثر. وقد خرّج بعض العلماء الموضوع تخريجاً يشهد له علم النفس والأمراض النفسية بأن ذهب إلى أن اتباع هذين الأسلوبين (الوعظ والهجر) كافٍ في علاج نشوز المرأة الصالحة . لكن توجد فئة قليلة من النساء لا يعالجهن إلا الضرب لحاجة نفسية مريضة عند هذا الصنف لا يشبعها إلا استعمال القوة العضلية للرجل تجاهها. فالضـرب – بشـروطه المذكورة في الفقه – إنما يكون لهذا الصنف المريض.
والنشوز لم يقصره القرآن الكريم على النساء فقط، بل عم به الجنسين: الرجال والنساء معاً، فقال تعالى في حق الرجل: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء:128).
- قتل المرأة طبقاً لمبدأ عشائري يسمى (غسل العار). وقد ترتكب هذه الجريمة دون تثبت. وربما تكون المرأة ملجأة أو لا يد لها فيما حصل لها كأن تخطف وتغتصب، أو تعتقل ويتم الاغتصاب في السجن، فإذا أفرج عنها قتلت! وهكذا تكون المرأة ضحية مرتين، ويقع عليها الظلم مرتين، وتتلوث سمعتها وتفقد حياتها ثمناً لغيرها.
- مصادرة حق المرأة في اختيار شريك حياتها، واحترام رغبتها وقرارها في الزواج بمن يناسبها ويكافئها. وفي بعض الأوساط الاجتماعية إذا كانت المرأة أرملة أو مطلقة ولديها أولاد فأرادت الزواج رميت بأنواع المعايب التي تجعل من زواجها نوعاً من المغامرة بسمعتها وكأنها ارتكبت نقيصة لا تغتفر! بينما تحترم رغبة الرجل في الزواج مهما كبر سنه وكثر ولده. وتزداد الحالة سوءاً إذا كان الأولاد كباراً. فيتحكم أولادها – ذكوراً وإناثاً – في حالها ومستقبلها وقراراتها المصيرية، فهي تنتقل كإنسان ناقص الأهلية من الأب إلى الزوج ثم تنتهي حياتها تحت وصاية الولد.
- ضعف الاكتراث بطبيعة المرأة المختلفة عن الرجل، فتسخر في الريف للعمل في الحقل الذي يتطلب جهداً لا يتناسب وطبيعتها، وتمارس ذلك الجهد وكأنه فرض عين تعاقب عليه إن قصـرت فيه. وربما لا تراعى حالتها الجسدية والنفسية أثناء الحيض والحمل والنفاس؛ ما يزيد في آلامها النفسية والجسدية. وقد يعتبر التصريح بذكر الألم أثناء الحيض من الممنوعات والمحرمات في بعض المجتمعات، فهي لا تستطيع أن تبوح به لكي تعفي نفسها عن الخدمة في شدة أيامه!
- قيام الرجل بهجرها جزئياً أو كلياً بلا إذن أو إرادة منها، عند الزواج بثانية؛ والله تعالى يقول: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) (النساء:129،130). والهجر بنوعيه: الجزئي والكلي يجعل الناس يتوهمون وجود نقص في المرأة الأولى هو الذي دفع الرجل إلى الزواج بأُخرى. وهذا – بطبيعة الحال – ما تأباه الزوجة السابقة فتنفر بشدة من تعدد الزوجات، وإن كان سبب النفور في أصله فطرياً، لكن هذه النظرة تزيد الطين بلة، والداء علة.
- الحمل القسري ضد رغبة الزوجة، حين تكون غير مستعدة لذلك بسبب المرض أو صغر العمر، أو الدراسة وما شابه.
- حرمان المرأة – خصوصاً في الريف – من التعليم كلياً أو جزئياً، وكثيراً ما تمنع البنت من مواصلة الدراسة بعد إكمال المرحلة الابتدائية.
- النظر باستصغار أو تشكيك إلى دور المرأة في نهوض المجتمع وقيادة عملية التغيير.
- احتكار الرجل منصب الاجتهاد والفتيا، وإن لم يقل بحرمته، لكنه هو حال الواقع بحكم واقع الحال نتيجة، فتفقد المرأة البيئة الحاضنة لنمو طاقاتها في هذا المجال.
- ازدراء حق المرأة في العمل، وحرمانها منه على اعتبار أنها مأمورة بالقرار في بيتها. وهذا يسلبها – بإرادة خارجية – أهم مقومات اسقلالها وهو الاكتفاء الذاتي؛ ما يجعلها عرضة للتقلبات المستقبلية من جهة الزوج إذا ظلمها، والابن إذا أهملها. مع أن الإسلام وإن رغب في القرار في البيت، لكنه لم يحرم الخروج على من أرادت ذلك، أو احتاجته للعمل أو لأي مصلحة أُخرى.
لم يمنع الإسلام المرأة من ممارسة التجارة والعمل في السوق، والخروج للجهاد، وغير ذلك من الأعمال خارج البيت، وإن كان قرارها فيه خيراً لها، وهو الأولى بها؛ فهو ميدانها الأول الذي تخرج منه الأجيال النافعة للمجتمع بنين وبنات. لكن ذلك على سبيل الترغيب لا الوجوب. وإنما المحرم هو أن تخرج متبرجة أي تتمشـى بين أيدي الرجال، أو تظهر محاسنها لهم، أو تمشي مشية تكسر وتغنج؛ فذلك تبرج الجاهلية([1]). ومن التبرج “أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وعنقها وقرطها ويبدو ذلك كله منها”([2]).
وأما قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب:33)، فقد قال الماوردي: قوله عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) قرئت على وجهين: أحدهما: بفتح القاف, قرأه نافع وعاصم, وتأويلها: اقررن في بيوتكن, من القرار في مكان. الثاني: بكسر القاف: قرأها الباقون, وتأويلها كن أهل وقار وسكينة([3]). وقال ابن كثير في (التفسير): أي الزمْنَ فلا تخرجن لغير حاجة. ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إِماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات)، وفي رواية (وبيوتهن خير لهن).إ.هـ .
مظالم ما بعد الاحتلال
أضاف إلينا الاحتلال الثلاثي (الأمريكي – الإيراني – الشيعي) أصنافاً من الاضطهاد وألواناً من الظلم تهد الجبال، وتوهن الحديد صبت على رأس المرأة صباً! إن ذلك يستدعي منا استجابة تأخذ بنظر الاعتبار متطلبات الحالة الراهنة من جهة، ووجود المعوقات القائمة من جهة ثانية، ثم قدرتنا الفاعلة من جهة ثالثة، وكيف يتم التعبير عن المحصلة النهائية للقوى الثلاث في المعادلة. وفيما يلي ذكر أهم أصناف الاضطهاد وألوان الظلم المضافة بعد الاحتلال الثلاثي، والتي تضاعفت بعد جلاء الاحتلال الأمريكي وانفراد الاحتلالين – أو بالحري الاستحلالين – الإيراني والشيعي في التحكم بشؤون العراق:
- شيوع ظاهرة الترمل بفقدان الزوج، أو اليتم بالأب. والأذى والحزن والانكسار بعد فقدان القريب كالأم والأخ والأخت ومن يليهم، والأحبة والمعارف والأصدقاء والجيران.
- تحمل المرأة أعباء الأسرة بعد اختفاء المعيل بالقتل أو الاعتقال أو المطاردة أو التهجير. كما أن قلة فرص العمل المتاحة أمام أهل السنة أدى إلى زيادة أعداد النساء اللائي اضطررن إلى تحمل تلك الأعباء.
- الاغتيال والقتل خارج القانون. بالإضافة إلى الإصابات غير القاتلة والإعاقات والعاهات الجسدية، وعقابيلها من الأمراض الجسدية والنفسية.
- الاعتقال التعسفي والاختفاء القسـري، والخطف على أيدي المليشيات ثم الاغتصاب والقتل والرمي في الشوارع والمزابل والمزارع.
- الإجهاض القسري داخل السجون، أو نتيجة التعذيب والضـرب المبرح.
- التعذيب في السجون بكل ألوانه الجسدية والنفسية، بما فيه الاغتصاب الجنسي.
- ولم يكن الإعدام آخر ما تحملته المرأة السنية في العراق من أصناف الاضطهاد وألوان الظلم.
___________________________________
[1]– أحكام القرآن، 3/471، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي، تحقيق عبد السلام محمد علي شاهين، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1415هـ/1994م.
[2]– تفسير الماوردي (النكت والعيون)، 4/400، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، تحقيق السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.
[3]– تفسير الماوردي، 4/399. المصدر السابق.
دور المرأة في عملية التغيير الاجتماعي
دور المرأة في عملية التغيير الاجتماعي
الدور المطلوب من المرأة
ليس المنهج موضعاً لبيان جاهز بتفاصيل الدور المطلوب من المرأة تأديته؛ فهذا ألصق بالأمور العملية منه بالأفكار النظرية. وأترك ذلك إلى ذكاء واختيار النخبة العاملة، المتناغم مع إملاءات الواقع. كما أترك بيان آلية التنفيذ إلى قسم (البرنامج) من المشروع. سوى إضافة ملاحظة مهمة هي أننا نطمح إلى أن تؤدي المرأة دورها في إطار (قيادة التغيير) لا (إدارة التغيير) فحسب. ومعنى إدارة التغيير تنفيذ البرنامج المرسوم كما هو. أما قيادة التغيير فتعني التدخل في تغيير البرنامج لصالح الهدف العام كلما استدعت الحاجة، والتفكير الدائم في تطويره والعمل على ذلك طبقاً لقاعدة (الخروج عن النظام من أجل النظام نظام). على أن أهم ما نرمي إليه من وراء الدور المطلوب من المرأة في المشـروع السني هو:
- تمكين المرأة من معرفة ذاتها ومنزلتها وحقوقها التي منحها الله تعالى إياها منحة ربانية لا منة لأحد فيها عليها، والتي فصلتها الدساتير والقوانين الداخلية والخارجية؛ فإن أول التغيير المعرفة.
- صناعة وعي اجتماعي يحوّل المعرفة إلى طاقة فاعلة؛ فإن الوعي بالحالة هو أول ما يثير النفس وينتج الطاقة ويبعث الحركة.
- تمكين المرأة المعرفي والعملي في جوانب الحياة الفكرية، والنفسية، والحقوقية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرها من الجوانب التي تطور المرأة وتنميها وتباركها وتزكيها، وتجعل منها إنساناً قوياً فاعلاً له وجوده الحقيقي ومكانه اللائق به في السلم الاجتماعي.
وما من شك في أن لكل حقل من هذه الحقول، وهدف من تلك الأهداف برامجه وأنشطته المؤدية إليه طبقاً لخطة مرسومة سلفاً. فعلى سبيل المثال: مشروعنا يشجع على الاستقلال المادي، وتسنم المرأة لوظيفة أو دور اجتماعي يناسبها؛ فإن هذا يشارك في حمايتها من الظلم الشائع حولها، ومن أن تكون عرضة للاستضعاف في مسار حياتها، ومن الإهمال والتشييء الذي عادة ما يكون من نصيب المرأة في خريف عمرها. فهذا الهدف، والدور المطلوب لتحقيقه، ناشئ من حاجة واقعية ومعاناة اجتماعية هي التي دفعتنا للتفكير الجاد كي نستخلص الفكرة المنتجة. ثم نتركها مفتوحة النهايات كي تكون على الدوام قابلة للتحوير والتغيير والتطوير. ولتحقيق هذا الهدف تحتاج النخبة العاملة إلى خطة وبرنامج وأنشطة مناسبة له.
خطوط عامة عن الدور المطلوب حسب مراحل المشروع
- في مرحلة التحصين: مطلوب من المرأة أن تقوم بمهمتها في الدعوة إلى ترسيخ الهوية السنية، وإعداد القيادات النسوية.
- وفي مرحلة التكوين والعمل المجتمعي تمارس المرأة دورها من خلال وسائل عديدة، أهمها تأسيس المنظمات المدنية وقيادتها، أو إدارتها. ويأتي تأكيدنا على المنظمات من حيث إن المنظمة المدنية تمنح المرأة حصانة رسمية وأمنية، وتيسر لها سبل التواصل مع المجتمع، وتهيئ لها موارد للدعم المادي والمعنوي.
- وفي مرحلة التمكين والعمل السياسي المحمي بالقوة: يمكنها أداء النشاط الذي تستدعيه المرحلة تأثيراً وتحريكاً، وتوجيهاً.
أهم المؤسسات المدنية في مرحلة ( التكوين )
حين نطرح (المؤسسة المدنية) ممثلة للدور المطلوب من المرأة أن تؤديه، لا نعني بها أنها المثال الوحيد للقيام بذلك الدور، إنما هي إحدى أهم الآليات المتاحة في الواقع، لكن أفردناها بالذكر لأنها تأتي في مقدمة تلك الآليات، وأكثرها تأثيراً في المجتمع وقدرة على جذب الطاقات واستيعابها وتطويرها، على الأقل في الزمن الذي نعيشه. ومن لم يساير الزمن تولى عنه وتركه يراوح على رصيف الضياع.
فيما يلي بيان لأهم المؤسسات أو المنظمات المدنية التي نريد من المرأة إنشاءها وقيادتها في المرحلة الثانية من المشروع، وهي مرحلة (التكوين) التي تقوم أساساً على العمل المجتمعي والتعامل المباشر مع الناس:
- مؤسسات الدعوة والإرشاد الديني، وما يتفرع عنها من مراكز تحفيظ القرآن الكريم ودراسة علومه، والعناية بالحديث الشريف وغيره من علوم الدين: تعليماً وتزكية. وطموحنا تخريج منظومة فقهية نسائية تحيي فقه النوازل.
- مؤسسات تعنى بتثقيف المرأة وتعليمها وتدريبها لاكتساب الخبرة في شؤون السياسة والإدارة العامة، كي تتمكن من تقلد المناصب السياسية والإدارية.
- مؤسسات حقوقية لتخريج فوج من المحاميات والقاضيات من أجل دفع المظالم واستحصال الحقوق ومحاكمة الجناة.
- مؤسسات إعلامية نسوية تهتم بالمرأة وقضاياها كافة.
- مؤسسات خدمية لتوفير الحاجات الأساسية للفئات المتضررة من النساء. ودعم الأسر الفقيرة والمتعففة.
- مؤسسات الرعاية الصحية لتقديم الخدمة الصحية للمرأة والطفل.
- مؤسسات تشغيل المرأة وتوفير فرص العمل والعيش الكريم.
- مؤسسات راعية للفتيات المراهقات والطالبات الجامعيات.
- مؤسسات حماية المرأة (قانونية، اجتماعية، اقتصادية وغيرها).
- مؤسسات تنمية الأسرة إيمانياً واقتصادياً واجتماعياً.
- مؤسسات سيدات الأعمال، وهي مؤسسات استثمارية لتخريج جيل من سيدات الأعمال والناشطات في المجال التجاري.
- مؤسسات ثقافية وأدبية وفنية.
- مؤسسات لرعاية الطاقات العلمية لدى الأكاديميات والطبيبات والمهندسات وغيرهن.
- مؤسسات ومراكز تعنى بالدراسات والبحث العلمي.
- مؤسسات نفسية لعلاج آثار الحروب والعنف الجسدي.
في ضوء ما سلف بيانه يمكن للمرأة، متعاونة مع شقيقها الرجل، رسم خطة مناسبة، ووضع برنامج تفصيلي للدور المطلوب من المرأة تأديته بمختلف أشكاله للخلاص من الواقع المرفوض وصولاً إلى بناء المستقبل المفروض. وذلك بالنظر المباشر إلى الحاجات الذاتية والاجتماعية الأساسية وتلك المتولدة نتيجة الظلم والتبخيس من جهة، ومراعاة مراحل المشـروع الثلاث: التحصين والتكوين والتمكين من جهة ثانية. مع استحضار ما ذكرناه من قواعد وتأصيلات عن نظرتنا الربانية للمرأة كما وردت ملامحها في الوحي الإلهي العظيم، واستخلصناه منه بالفكر الميداني المسدد والمقارب بتوجيهه الرباني القويم. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (النساء:124).
نظرات في القيادة
( 6 )
نَظَرَاتٌ .. فِي القِيَادَة
نَظَرَاتٌ .. فِي القِيَادَة
هذه خطوط عريضة، ونظرات مختصرة عميقة، مستفادة من الخبرة الذاتية، بما فيها من تجربة وتأمل، وقراءة واطلاع وتدبر. وددت تقييدها كمعالم ظاهرة، وعناوين بارزة في أدبيات القيادة. تاركاً تفاصيل الموضوع للقسم الثاني من المشروع، وهو البرنامج. حرصت على أن تكون واضحة مختصرة، تعتمد على المعاني الجامعة المُيسرة. وأن أجنبها التفاصيل المملة الثقيلة التي تعج بها كتب التنمية التقليدية، التي تخاطب المتلقي وكأن عقله حافظة حاسوب معدة للتخزين وحسب، لا تكوين جوهري وظيفته الفهم الذي يُعِد صاحبه للعمل.
منطلقاً من القاعدة التالية:
- أزمتنا أزمة هوية، وأزمة قيادة. فأمة بلا هوية واضحة أمة غائبة.. وأمة بلا قيادة ناجحة أمة خائبة.
حقيقة القيادة
حقيقة القيادة ولبابها وروحها ومعناها هو….. العطاء.
ولكنه العطاء المؤطر بمنظومة أو مؤسسة قيادية. والمبني على قاعدتين:
- الثقة بالله.. تحقيقاً للربانية.
- ثم الثقة بالنفس.. أساساً للإرادة، وتحقيقاً للريادة.
وجوب القيادة
القيادة واجبة بحكم الشرع والعقل معاً. والأدلة على ذلك متضافرة؛ فدين الإسلام لم يخاطب البشر كأفراد فقط، وإنما كمجموع أيضاً. بل حتى خطابه الفردي إنما جاء في سياق المجموع. والإسلام دين ودولة. وتشريعاته – كالصلاة والحج والزكاة والجهاد والعلاقات الأسرية والمجتمعية والسياسية وعامة تشريعاته المعاملاته – ذات طبيعة مؤسسية دولتية. بمعنى أن تنفيذها لا يمكن أن يكون دون وجود دولة. خذ مثلاً ما جاء من تشريعات في قوله Y: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة:33)، لا يقوم بتنفيذه إلا أجهزة متعددة – كالشرطة والأمن والقضاء – لدولة قوية قاهرة. ولو ترك ذلك للناس حلت الفوضى والحروب الأهلية وتم الخراب وغزتهم الدول من كل جهة!
كذلك قوله Y عن التوراة، وأمثاله في الكتاب كثير: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ* وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة:44،45). وأحكام القصاص ذات طبيعة دولتية كما وضحنا آنفاً.
ثم جاء في السياق قوله: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة:47). فتم الإعراض عن الحكم بما أنزل الله: كفراً وظلماً وفسقاً. ثم قال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (48-50) ([1]).
* *
ولا بد للقيادة العليا من قيادات تتفرع عنها، تتدرج في مستوياتها وأنواعها، تقوم بإسناد القيادة العليا من جهة، وبتلبية حاجات الناس من جهة. وإلا استحالت قيادة المجتمع. فكان وجود القيادات بمختلف مستوياتها وأنواعها واجباً وضرورة. وفي الأصول “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
القيادة والإدارة
- القيادة هي القدرة على حشد الطاقات وجذب الأتباع وتحريكهم باتجاه الهدف. والإدارة تنفيذ تفاصيل العمل.
- تهتم القيادة بالمسارات والكليات، بينما تهتم الإدارة بالتفاصيل والجزئيات. لهذا قيل: القيادة اختيار العمل الصحيح، والإدارة اختيار الطريقة الصحيحة للعمل([2]).
- بينما تتميز القيادة بالتركيز على إثارة الشعور وبعث الحماس، وغرس الأمل، وإطلاق الخيال المنضبط بالواقع، ورسم الصورة الجميلة للمستقبل.. المتوافق مع القدرة الكائنة، المتناغم مع الهدف الذي ينبغي أن يكون. فالقائد يشحذ الهمم ويحفز القوى ويستقطب النخب ويحشد الجمهور. . تتميز الإدارة بالتركيز على المنطق([3]) والجداول والبيانات والأرقام.
- القيادة روح ومعنى.. والإدارة جسم ومبنى.
- لو شبهنا المشروع بسفينة مبحرة في محيط، فالقائد هو الربان الذي يمسك بدفتها، ويحدد هدفها وخط سيرها، والمدير هو الذي يقوم بتنفيذ تفاصيل الأوامر التي تحافظ على سير وحركة السفينة وصيانتها، وتوفير لوازم العيش والراحة لركابها.
- القيادة عملية بناء وإعداد شامل تبدأ بالعقيدة والفكر، والنفس والجسد، وتنعكس على السلوك والعمل، وتظهر آثارها في الأنفس وتشرق في الآفاق.
- قد تكون القيادة فطرية، وهذه تتمثل في قلة من الناس لا تتجاوز الواحد أو الاثنين في المئة، كما قال النبي e: (إنما الناس كالإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلة)([4]). كما أن قلة من الناس لا تصلح للقيادة بحال. وهذا التصنيف يفتح المجال واسعاً للتفاؤل وبذل الجهد لإعداد الجمهور من أجل استخلاص الصالحين منهم للقيادة، ورفد المشروع على الدوام بمزيد من القيادات. وهذا من معاني كون القيادة عملية بناء. ينسحب ذلك على القيادات الفطرية أيضاً، فهي ليست بمنأى عن الحاجة للتهذيب والترصين والنقاش في الوسائل والأساليب، والبحث الدائم عن الفكرة المبدعة التي تنتج العمل الأوفق والأكثر إنتاجاً والأسرع حركة باتجاه الهدف..
ملاحظة/ ليس من خطوط حادة تفصل بين القيادة والإدارة. والصفات عادة ما تكون مشتركة، والمقارنة في معظم الأحيان نسبية لا حدية. سوى أن القيادة تغلب عليها الاهتمام بالكليات والمسارات والمعاني والعواطف والجماليات، والإدارة لا بد فيها من التفاصيل والجزئيات والمباني والأرقام والبيانات.
مهام القيادة
– إثارة الهمم وتحريكها، والتحكم في حجم ومدى الحركة الناتجة، والسير بها نحو الهدف الكبير أو العام.
– حسن توزيع المهام وتقسيم الأدوار على منظومة القيادة والإدارة.
– غرس الثقة وزرع الأمل الواقعي لا الخيالي في النفوس.
– إعداد القادة: بالبحث المستمر عن العناصر القيادية، واكتشافها، وتهيئتها لرفد المؤسسة بأجيال لا تنقطع من قادة المستقبل.
– تحديد هوية المؤسسة بناء على العقيدة أو الفكرة الأساسية من جهة، والتحدي الموجود في الواقع من جهة أُخرى.
– وضع المشروع، بما فيه من تحديد الهدف الكبير والأهداف المرحلية والجزئية، والوسائل والآليات الموصلة، ورسم الخطة، وتهيئة الموارد المادية وكيفية استثمارها. وتطوير القيادات وتنمية القدرات.
– كتابة النظام الداخلي، وتشكيل هيكل القيادة الهرمي، ورسم السياسات العامة وتمثيل المؤسسة أمام الدول في الداخل والخارج.
المؤسسة الإدارية
- يغلب على المؤسسات المتواجدة في الساحة اليوم أنها مؤسسات (إدارية) تقتصر وظيفتها على تسيير الأمور وتمشية الأعمال المشبوحة على خشبة الجدول.
- وتكاد تختفي من الساحة تلك المؤسسات (القيادية) التي تفكر وتطور وتبدع وتتبع مبدأ (لا بد من التغير المستمر حفاظاً على الاستمرار الثابت).
المنهج القيادي والمنهج الإداري و … المنهج الارتجالي
المنهج القيادي هو نظر كلي، يتجه إلى الجزئيات من خلال الكليات ليربطها بها، ويستخلص من كل حركة أو ظاهرة جزئية قانوناً كلياً يحل به إشكالاتها وينمي به طاقاتها. وهذا يحتاج منا إلى بيان المنهجية التي بها تُستنبط الأفكار، وتدريب مشاريع القادة عليها. فالمنهج لا يكتمل ولا يثمر دون تعليم المنهجية الكلية للأتباع، وكيف تستنبط الأفكار بالأنظار، وتستخلص الكليات من الجزئيات.
انظر – مثلاً بسيطاً – إلى ما فعلته إيران بالأحواز والعراق وسوريا ولبنان واليمن، وتهديداتها لباقي الأقطار: كصورة متكاملة لا مجزأة، تستنتج خطاً كلياً لسير مخطط فارسي إمبراطوري غايته ابتلاع المنطقة. يعتمد هذا المخطط في سيره محوراً نظرياً مزدوجاً يقوم على الهوية الشيعية للاستهلاك الداخلي، ودعوى محاربة الإرهاب للاستهلاك الخارجي. ويعتمد في تنفيذه عملياً على شيعة المنطقة كلها. كما تظهر بوضوح صورة قضية عابرة للأقطار هي (القضية السنية) في مقابل (القضية الشيعية)، وأن الهوية الصحيحة للمعركة هي (الهوية السنية العربية الربانية) في مقابل (الهوية الشيعية الفارسية المجوسية). وبذلك يتم اكتشاف زيف (الهوية الوطنية) في الأقطار ذات التركيبة الشيعية السنية، وهشاشتها للصمود أمام المخطط الشيعي، بل وخطورتها!
بذلك نتمكن من (التصنيع) المستمر للجيل القائد داخل المؤسسة. ونحول بين المؤسسة وهيمنة المنهج الإداري عليها، الذي ينظر إلى الكليات من خلال الجزئيات لينفذها طبقاً إليها، أو الانزلاق نحو هوة المنهاج الارتجالي الذي ينظر إلى الجزئيات كخرزات منفصلة عن نظامها أو سلكها، وينشغل بما صادف النظر منها.
خطورة تحول المؤسسة القيادية إلى منظومة إدارية
القائد من يُرجع كل جزئية إلى قانونها الكلي، كي يشمل به جزئيات أُخرى في الواقع، ويكتشف قوانين جديدة للحياة يضيفها إلى رصيده، ويصحح بها قوانين سابقة جزئياً أو كلياً أثبتت التجربة الميدانية حاجتها إلى التصحيح. والمدير من نظر إلى القانون الكلي ليُفَعّل الجزئيات طبقاً إليه.
ولا قيادة منتجة بلا إدارة كما أنه لا إدارة صائبة بلا قيادة. فالتلازم بين القيادة والإدارة شرط النجاح.
لكنَّ هنا سراً خافياً لا يُنتبه إليه بسهولة، وهو أن القيادة ما لم تنجح في إيجاد إدارة تبقى ظاهرة صوتية، مثلها كمثل منشار بلا أسنان. بينما الإدارة يمكنها العمل والإنتاج بدون قيادة تستحق عنوان القيادة. فيكون لها وجود اجتماعي ذو أثر يجتذب إليها كثيراً من الأتباع اقتناعاً أو انتفاعاً، دون أن يشعروا أن هذا الوجود تقليدي جامد يكرر نفسه في وسط بيئة متغيرة.
وعندما تتحول المؤسسة القيادية إلى مؤسسة إدارية تخبو الفكرة النابضة فتضيع البوصلة الموجهة وتنحرف الحركة الناهضة عن الهدف المرسوم.
جميع مؤسساتنا التي تريد الخلاص للسنة، أو تزعم ذلك، مؤسسات إدارية لا نبض فيها ولا روح، إما بفعل قانون (طول الأمد) أو أنها ولدت وهي فاقدة للطاقة القيادية من الأصل: سواء منها الفكرية والسياسية والقتالية. نعم تؤدي خدمة للمجتمع، ولكن إما خدمة تقليدية كمثل بائع فاكهة داخل سفينة متدهورة في طريقها إلى الحضيض. وإما خدمة ضررها النهائي أكبر من نفعها. والحل.. بالعمل على الإنقاذ من خارج السفينة.
أما حال باقي أهل السنة فعملهم عبارة عن ضرب في فراغ.. لا قيادة ولا إدارة. عمل بلا قضية، أو قضية بلا هدف ولا هوية، أو ليست هي القضية الأولى أو المركزية.. (القضية السنية).
فكثير من سنة العراق – مع أن الشيعة يحتلون أرضهم، ويمسخون دينهم، وينتهكون عرضهم، ويَحْرِمونهم حقهم في الحياة والفكر والحرية.. ومع كل هذا البلاء -ما زالوا يتوهمون أن قضيتهم الأولى تحرير فلسطين!
لقد عقم الفكر العربي والإسلامي عن أن يكتشف أن لكل قطر قضيته المركزية، وأنه لا قضية مركزية واحدة ما دامت الأمة متفرقة أقطاراً، وليست موحدة تحت أي نظام للوحدة.
معادلة الاستمرارية والتغيير
تقوم معادلة الاستمرارية والتغيير على الأسس التالية:
- كل شيء يتغير بمرور الزمن وتعاقب الحدث.
- كل وجود يبغي الاستمرار رغم التغير.
- كل مؤسسة في حاجة إلى مرونة تحقق الاستمرار والتطور من جهة، والثبات والمحافظة على الهوية الأصلية للمؤسسة من جهة ثانية.
لا بد من التغيير المستمر حفاظاً على الاستمرار الثابت. أي.. حتى أستمر لا بد أن أتغير.
- الاستمرار والتطور يحتاج إلى التكيف مع المتغير، بتبني سياسة التوازن بين التغيير والاستمرارية*.
سياسة التوازن
- من مهام القيادة تبني سياسة التوازن مراعاة ًلمعادلة الاستمرارية والتغيير.
تقوم سياسة التوازن على الأسس التالية:
أ. العمل المستمر للحصول على المعلومات المستجدة الموثقة*.
ب. السؤال عن أسباب التغيير.
جـ. التعويض المستمر عن النقص في الموارد البشرية والاقتصادية، مع اتباع سياسة التدرج في ذلك التعويض.
د. تقدير ومكافأة العاملين (المبدعين)، والذين يحافظون على تقدم وتحسن مستوى أدائهم*.
هـ. التخلي عن كل ما اعتبر ثابتاً ثم صار مصدراً للضرر، فليس هذا بثابت. إنما هو قيد يعتقل به الإنسان نفسه بنفسه.
[1]– يقول ابن حزم (الفصل في الملل والأهواء والنحل، 4/72، مكتبة الخانجي – القاهرة): “اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله e حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالوا لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يشاطوا الحق بينهم. وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة، وقول هذه الفرقة ساقط”. اهـ. ثم أخذ ببسط الأدلة النقلية والعقلية على ما قال. والصواب أن يحتج أولاً بالنص القرآني. ثم تأتي من بعدُ ما يصلح من الأدلة.
[2]– مهارات القيادة، ص6، إعداد أحمد بن عبد المحسن العساف. ملف على شبكة المعلومات.
[3]– المصدر نفسه، بتصرف.
[4]– متفق عليه عن عبد الله بن عمر. أفادني أحد المختصين بعلم الإدارة أن 2٪ من الناس يملكون القدرة على القيادة بالفطرة، و2٪ لا يصلحون للقيادة بحال. وأن 96٪ يمكن تدريبهم ليصبحوا قادة.
القائد
القَائِد
القائد: من ملَكَ القدرة على الجمع بين ثلاثة أمور، ولا يغني اثنان منها عن الثالث:
- التأثير في الجمهور
- وتحريكه
- وتوجيهه والتحكم بحركته نحو الهدف.
وما لم يكن القائد مجدداً: يشخص مواطن الخلل، ويضع لها العلاج المناسب، ومبدعاً: يتعامل مع التحديات والأشياء ماديةً ومعنويةً بصيغ مبتكرة تختزل الوقت والجهد. فليس بقائد حقيقي. وقد يصلح لأن يكون مديراً؛ فهو قائد وكيل لا أصيل.
وأخطر شيء على المجتمع أن يمتلك شخص القدرة على التأثير وتحريك الجمهور، ولكن نحو هدف خاطئ، أو هدف غير ممكن التحقيق، أو دون هدف محدد.
أهم صفات القائد : العلم والقدرة
منطلقين من القرآن الكريم نقول: أهم صفتين جامعتين في القائد: العلم والقدرة.
جاء هذا في عدة مواضع من القرآن كقوله I: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) (ص:45). وقال: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:247).
ومن العلم والقدرة تنطلق بقية الصفات.
من صفات القائد
- كل قائد رمز وكل قائد زعيم، ولكن ما كل رمز أو زعيم يصلح للقيادة. ومشكلتنا في الرموز، وعلتنا في الزعماء.. الذين لا يجيدون القيادة. هؤلاء لا يكتشف الجمهور عجزهم إلا بعد فوات كثير من الأوان، ودفع الثمن مضاعفاً.
- القائد منتج للأفكار، ويحسن طرح البدائل.
- الإبداع قرين القائد، أي التفكير والعمل بطريقة غير تقليدية.
- القائد يدرك بعمق أهمية التجديد لنجاح مشروعه، وبلوغ أهدافه. وليس التجديد الإتيان بجديد بقدر ما هو مناسبة القال والأفعال لمقتضى الحال والمآل. مع معرفة أن المتغير يكاد يكون هو الثابت الوحيد في حياة الإنسان.
- القائد يحسن الاستماع كما يحسن الكلام. وليس الثرثار بقائد.
- ومن أهم صفات القائد حفظ السر. فأدب المعلومة أن تعطى على قدر الحاجة، لا على قدر الثقة. كما أنه يحفظ أسرار من هم في دائرة مسؤوليته، ويتعامل معها بحكمة ومسؤولية. هذا والسر أبوابه كثيرة.
- القائد واعد.. فهو متفائل يخترق نظره حجب ظلام الحاضر إلى أنوار المستقبل من خلال رؤية عناصر النجاح المتوفرة، وهو يصوغ منها مشروعاً رائداً قابلاً للتحقيق.
- القائد حالم، لكنه واقعي. أو كما قيل: رأسه بين النجوم، لكن قدميه على الأرض.
- القائد يكبر دائماً؛ فإذا كبر التابع، وبقي (القائد) يراوح في مكانه؛ فلا يلومن غير نفسه. ومن سبقته الأحداث سبقه الأحداث.
- المؤسسة أو الجماعة التي لا تكبر مع صغارها، صغيرة لا تسع الكبار.
- إذا تمكنت من قيادة السنة، كنت على قيادة العراق أقدر.
وعي القائد
- القائد رائد: يسبق الحدث بوعيه، فيستشرفه بحسه ويعد العدة له. أما الجمهور فعادة ما يعي بعد وقوع الحدث.
- ليس وعي القائد تنبؤاً بالغيب، وإنما هو استنتاج من ناتج، ونظر في العواقب قياساً على معطيات الواقع*.
- مع وقوع المتوقع، ينبغي حساب تلك الأشياء المهمة التي تحققت ولم تكن من ضمن التوقعات. فمن طبيعة الإنسان أن يذكر الأشياء التي له، ويتناسى تلك التي عليه. إن الأشياء المهمة والمميزة دائماً ما تكون نتيجة تغيرات في القيم، والمفاهيم والأهداف. وهذه يمكن حسابها بحساب المتغيرات التي تطرأ بالفعل وتحدث في المجتمع، بواسطة دراسة وتحليل البيئة من الملاحظة العميقة، والدراسات الإحصائية للسكان، والمفاهيم الخاصة بهم. واستحضار العوامل الخارجية المؤثرة في المتغيرات ونتائجها الداخلية*.
- الوعي بـ(أثر رجعي) غير معتبر في قانون القيادة. فمن وجدتم وعيه لا يتأتّى إلا متأخراً، فلا يصلح للقيادة وإن كان زعيماً مقدماً.
- الزعامات التقليدية، أو المؤدلجة، أو التي تسيرها حاكمية المجموع: منظومة أم جمهوراً، لا تفيق بالحدث، ولا تتعلم منه، وإنما هي من ذوات (الوعي المتأثر بالموجة). فمتى ما وعى وتعلم الجمهور بالحدث، وتحول هذا الوعي إلى موجة جماهيرية، بدأت تلك الزعامات بالتسلل لركوبها. فتصور مدى البلاء الحاصل من زعامات متخلفة حتى عن الجمهور الذي تقوده! وهذه إحدى صور مأساتنا.
شجاعة القائد
- شجاعة القائد ناتج متوازن من إرادة عالية، ودراية واعية. ولا خير فـي شجاعة متعجلة لا تراعي المعنى الكبير فـي قول القائل:
الرأيُ قبل شَجاعةِ الشُّجعانِ هوَ أوّلٌ وهيَ المحَلُّ الثّانِي
- مشكلة المشاكل عند أهل العراق تقديم الشجاعة على الرأي، والإفراط فيها حد التهور، والتباري في ذلك بين الأقران. وهذا أحد أسباب فقدان الجسم المدني في المشروع، بل فقدان المشروع نفسه.
- المشكلة الثانية عند أهل العراق الإفراط فـي الكرم. والكرم إذا جاوز اعتدال الربانية كان خَصلة شيطانية، وصف الله أصحابها فقال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27الإسراء:). والإفراط فـي الشجاعة، أو تقديمها على الرأي، مثل الإفراط فـي الكرم، من نزغات الشياطين الخطيرة، التي لا تقوم لأصحابها قائمة.
- كان النبي e فـي القمة من الشجاعة، وكانت شجاعته يعنو لصولتها أشجع الشجعان. يصفها سيدنا علي t فيقول: كنا إذا احمر البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله فما يكون منَّا أحدٌ أدنى من القوم منه([1]). وأخبار شجاعته معروفة.
- مع ذلك كان رسول الله e يمر بأصحابه وهم يعذبون فلا يملك لهم إلا الدعاء. لم يستخفه المشهد المؤلم فيخرجه التصرف المرتجل عن سياق المشروع المنقذ. وكان الصحابة y يأتون إليه وهم في تلك الحال يستنصرونه فلا يستفزه ذلك عن مساره. فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله e وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)([2]). هذه هي الشجاعة.. إرادة عالية ودراية واعية.
- عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبي شاهراً سيفه راكباً على راحلته إلى وادي القصة، فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله يوم أحد: (لمَّ سيفك ولا تفجعنا بنفسك)؛ فوالله لئن أُصِبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبداً. فرجع وأمضى الجيش([3]). يقصد بـ(يوم أحد) لما أراد أبو بكر أن يبارز ابنه عبد الرحمن.
وأشار سعد بن معاذ t على رسول الله e فبنى الصحابة y له عريشاً أو قبة يشرف e منها على المعركة ومعه أبو بكر الصديق t يحرسه. . ولأمر ما أحاط الخالق البديع جوهرة الدماغ بالقحف الصلب، ومضغة الفؤاد بشبكة محكمة من الأضلاع.
- الثقافة السائدة التي تريد من القائد أن يكون دوماً في وسط معمعان الأحداث دون ضرورة، ولا تقدير للموقف يسبق ذلك.. هذه الثقافة في حاجة ماسة إلى ترشيد لا تأييد.
- بنيت هذه الثقافة على مقولات حماسية رددها الإعلام كثيراً حتى رسخها فصارت طابَعاً مميزاً لطبيعة شعوب المنطقة. خذ مثلاً شعار الجيش العراقي: “النصر أو الشهادة”. إنه يصلح عبارةً حماسيةً في موقف يستدعيها، ويناسب أجواء العسكرية لكن بتفصيل يُشرح للجنود لا بد من بيانه بوضوح. أما أن يكون قاعدة ثابتة من قواعد البناء الحضاري للشعوب الناهضة فلا. وقد جنى هذا الشعار علينا كثيراً كما يقول الخبير العسكري الفريق الركن القائد رعد الحمداني.
- “النصر أو الانسحاب” متحيزاً إلى فئة، هي القاعدة، وهي السلوك الحضاري. أما التربية على الاستعداد للشهادة فهي لبناء حالة نفسية معنوية يتدرع بها المجاهد لمواجهة أسوأ الاحتمالات وموقفٍ يفرض نفسه انتهاء لا غرض يطلب لغيرما ضرورة تلجئ ابتداءً. والقرآن العظيم في حومة بعث الحماس في نفوس المسلمين لا يَغفَل أن يقول لهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16،15)!
- وتأسيساً على هذا التوجيه الرباني قال النبي e عن انسحاب خالد بجيش مؤتة: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)([4]). وقد روي عنه e أنه قال: (بل هم الكرارون). وهي تصحيح لثقافة: (أنتم الفرارون) التي روي أن جمهور المدينة قالها لهم، حتى إن الرجل يجيء إلى أهل بيته يدق عليهم بابه فيأبون يفتحون له ويقولون: هلا تقدمت مع أصحابك فقتلت؟ وفيها وفيما أسلفت من أدلة غنية لتصحيح هذه الثقافة المتهورة التي ما زالت تتغلغل إلينا عبر نسغ التاريخ النازل حتى أمست هي الثقافة السائدة متجاوزة حدود المنطق السليم بجناحيه: الشرع والعقل. وخير من ذلك كله دليلاً قوله تعالى: (الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال:66).
القائد والماضي([5])
- القائد هو ذلك الإنسان([6]) القادم من المستقبل، ليقود الحاضر إلى المستقبل الزاهر. وليس القائد هو ذلك الكائن القادم من الماضي ليجر الحاضر إليه.
- المجتمع في حالة تغير مستمر؛ فهو في حاجة مستمرة إلى تجديد في الاستجابة لهذه المتغيرات.
- على القائد أن يكون مستعداً على الدوام للتخلي عن الماضي الذي لم يعد مصدراً للمنفعة* فكيف بما أمسى مضرة جامعة.
- إذا لم يكن القائد قادراً على الانسلاخ من ذلك الماضي بنوعيه، وهجره غير مأسوف عليه، فلن يكون قادراً على صنع المستقبل.
- القائد هو من يقوم في الحال باستغلال الموارد البشرية والمادية المتوفرة بما يتناسب ومتغيرات الحاضر*.
- آلية الانسلاخ يجب أن تتم بشكل هادئ وهادف ومنظم، وإلا حصل ما لا يحمد عقباه، وقد يعصف الأمر بالمؤسسة*.
[1]– مسند الإمام أحمد بن حنبل، 2/56، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت 241هـ)، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الحديث – القاهرة، الطبعة الأولى، 1416هـ -1995م. قال المحقق: إسناده صحيح.
[2]-صحيح البخاري، 9/20، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ. كانت هذه المنطقة آنذاك يحكمها الفرس؛ يبدو أن الفرس حيثما حلوا أو حكموا نشروا الخوف والخراب والفتن.
[3]-البداية والنهاية، 6/315، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصـري ثم الدمشقي (ت 774هـ)، دار الفكر، 1407هـ -1986م.
[4]– رواه البخاري، 5/27، عن أنس t.
[5]– بعض هذه القواعد مستلة بتصرف من كتاب (أفكار دراكر اليومية في الإدارة)، لبيتر إف دراكر. وقد ميزتها بهذه العلامة (*).
[6]– استعملت كلمة (إنسان) ليندرج تحته الرجل والمرأة.
طُرُز القادة
القائد رائد.
يرسم المعنى اللغوي لكلمة (الرائد) – كما جاء في (لسان العرب) لابن منظور: “وأَصل الرائد الذي يتقدّم القوم يُبْصِر لهم الكلأَ ومساقط الغيث”.. صورة حسية معبرة للرائد في معرفته وخبرته، وفي تقدمه على قومه وقيادته.
فالقائد رائد: يسبق الحدث بوعيه فيستشرفه، ويتقدم القوم بدلالته فيعد العدة له ويقودهم بسبقه وتميزه. فالريادة أجمل وأقوى مزايا القائد الجاذبة للأتباع بنوعيهم: النخبة والجمهور.
وأهم الأسس التي تستند إليها الريادة: الدراية ونقصد بها: السيولة الفكرية، المطعمة بالإبداع، والمعرفة المتوهجة بكيفية “تخليق الفكرة”. ثم الحركة الناشطة المسددة لاستثمار هذه القوى في تكوين المؤسسة وقيادتها بشقيها: البشري والمادي.
لا ينفصل ذلك عن إرادة قوية دافعة وثقة بالنفس عالية يغذيها التفاؤل والأمل. هذه الإرادة هي أهم عناصر القوة الذاتية الدافعة إلى المثابرة والإصرار على مواصلة العمل من أجل ما يؤمن به. مع حالة عشقية تربط بينه وبين القضية. كما أنها دافعة للغير نحو الالتفاف حول المؤسسة والعمل في ميدانها.
يخطط وينفذ.. يبني مشروعه على فكرة ينطلق منها، وله رؤية واضحة ذات هدف محدد يحققها. مرن التفكير، متجدد لا يعتريه الجمود، يدرس ويرصد ويعدل في أفكاره وخططه وبرامجه ويطورها باستمرار.
يتمتع بشعور مرهف تجاه قضيته، هو كالروح بالنسبة لحركته الدافقة في سبيلها؛ فالعمل المجرد مَهَمَّة الأجراء والموظفين لا أصحاب الرسالة وورثة المرسلين. ويتصف بإحساس عالٍ بالمسؤولية وهو يؤدي واجبه في تقديم مستحقاتها.. يبذل من وقته وجهده بلا تذمر، ويمنح من ذلك بلا منٍّ ولا أذى (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17). كل هذا يتم ضمن منظومة قيادية نسقية الأداء.
دراية.. ريادة .. إرادة .. إدارة
ولا تكتمل الدراية والريادة والإرادة إلا بالإدارة. أربع كلمات ذات مبنى صرفـي واحد! كأنها تقول: نحن تكوين واحد، نشأ من أصل واحد، ويهدف إلى غاية واحدة لن تتحقق إلا بهذا التكوين الواحد.
دراية فائقة، وريادة جاذبة، وإرادة دافعة، وإدارة نافذة.. رباعية متلازمة في تكوين شخصية القائد الأصيل.
وبتفاوت نسب ظهور آثار هذه القوى في خلطة التركيب التي تتكون منها شخصية القائد تُنتج لنا طرُز أو أنواع متعددة من القيادات. أهمها ثلاثة:
- القائد (أو القائد الأصيل): وهو الذي تغلب عليه آثار الدراية والريادة والإرادة، وتتجه الإدارة عنده إلى الخطوط العامة أكثر من التفاصيل.
- المدير (القائد الوكيل): وهو الذي تغلب عليه آثار الإدارة بصورتها التفصلية التنفيذية. ولا غنى للقائد الأصيل ولا للمؤسسة عن المدير؛ فالحاجة إليه ضرورية منفذاً للبرامج ومتابعاً للأنشطة.
- القائد النوعي: وهو الذي تغلب عليه آثار الدراية والريادة بشقها المعرفي الخبروي أكثرَ من شقها البشري التعبوي. فيكون له تأثيره الجذري في تطوير المؤسسة نوعاً، وهذا له تداعياته الإيجابية في نقلها إلى الأمام كماً، فيتغير مسارها من حيث الاتجاه ومن حيث الحركة. واختلافه الجوهري عن (القائد) أو (القائد الأصيل) من حيث القدرة على تحريك الجمهور وتوجيهه.
ومثاله: مفكر مبدع. أو خبير في علم الإدارة يقوم بتطوير المؤسسة وتنمية مهارات وخبراتِ أفرادها بطريقة إبداعية متميزة فيها روح القائد وتوهجها ونماؤها. أو شخص يجيد فن العلاقات مع الدول والمؤسسات الخارجية، أو مع القيادات والنخب والمؤسسات والفئات الداخلية؛ فيعود نفعه وتأثيره على المؤسسة بما يوازي أو يقارب تأثير القائد الأصيل.
ومن الممكن تطوير (القائد الوكيل) و(القائد النوعي) إلى طراز (القائد الأصيل). وقد لا يمكن لسبب ذاتي أو خارجي. ولا بأس فقد قال الله تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف:32). وقال نبيه e فيما رواه الإمام مسلم بسنده عن علي t: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)؛ ما دام التوازن بين القيادة والإدارة محفوظاً، وما لم تتحول المؤسسة – بفعل قانون طول الأمد – إلى مجرد إدارة تفتقر إلى روح القيادة وفكرها وفاعليتها.
إن تنوع طرز القيادة ضروري في أي مؤسسة ناجحة. وهذه الثلاثية الجميلة في تركيب القيادة لا تقوم أي مؤسسة إلا بوجودها؛ فلا يغني اثنان من طرزها عن الثالث. على أن يكون وجودها مظهراً من مظاهر قانون (التكامل)، وأثراً من آثار العمل بقانون (المنظومة القيادية) لا القيادة الفردية الصنمية.
القائد بين القامة والعنوان
القَائِدُ .. بَينَ القَامَةِ وَالعُنوَان
في صحراء مترامية المدى، بعد أن أذَّنّا وصلينا المغرب والعشاء، كانت لنا جِلسة على كثيب من الرمل الهتيت، أخذ الفكر والإيمان والقضية منها بنصيب. تناول أحد الجالسين سيرة أشخاص ظلموه، ولاكوا سمعته بغير حق، فأبدى ألمه من اتهامه بما ليس فيه وكيف أن التهمة تسري من فم إلى فم؛ فأنى له أن يرتاح؟ قلت له: دعهم لله يكْفِك ما أهمك من أمرك. فهز رأسه وتكلم بجمل تعبر عن مدى ألمه وصعوبة حاله.
الأمر معقد حقاً؛ فليس من السهل علاجه بمنطق الفكر المجرد. لا بد من دفق يقتلع جذور الأذى من أصولها، ويحملها في مسيله بعيداً عن زوايا القلب ومكامن النفس. ثم يعود على تلك الزوايا والمكامن بمرهمِ آسٍ رفيق يمسحها بلطف فيعالج آثارها، ثم يتركها لتمحى مع الزمن. وهل غير الإيمان المبني على الحقيقة مصدراً لذلك الدفق الآسي الرفيق؟ هذا إن كان لدى المخاطب استعداد لذلك.
المتكلم من حملة قضية له فيها باع. فقلت له: المرء عنوان وقامة. فهذا خفير وهذا مدير، ولنترك بقية العناوين. وأقصد بالقامة ما لدى المرء من طاقات نفسية وإنجازات عملية، وأقلها الاستحقاق الذي يفرضه العنوان. والناس الخيرون أقسام؛ فمنهم من قامته أعلى من عنوانه؛ فمن الظلم لنفسه أن لا يكون عمله ودوره الاجتماعي بمستوى ما منحه الله تعالى من قابليات فطرية، ومَكِنات مادية، فلا ينميها ويطورها ويجعلها تستطيل صعداً في سماء العطاء الظاهر بما يتناسب وقوة العطاء الكامن. وهذا هو ما يسميه علماء السلوك بـ(علو الهمة)، وكثيراً ما يردد ابن قيم الجوزية هذا البيت متحسراً على كسل الغافلين وغفلة المتكاسلين:
قدْ هيأوكَ لأمرٍ لو فطنتَ لهُ فاربأْ بنفسِكَ أنْ ترعى معَ الهَمَلِ
ومنهم من له عنوان أكبر من قامته فعليه أن يطيل من قامته لتكون بمستوى عنوانه؛ لأن الله تعالى سيحاسبه طبقاً لعنوانه. وكذلك الناس ينظرون إليه من خلال ذلك العنوان ويطالبونه بمستحقاته. وما من شك في أن ما يطالب به المدير أعلى مما يطالب به الخفير. وإلا فليغادر صاحب العنوان عنوانه إلى عنوان آخر يناسبه؛ فهو خير له عند ربه، وأعذر له بين خلقه.
كان نسيم الصحراء يبرد رويداً رويداً، والنجوم تأتلق، مع حلول الظلام وغيبة القمر، أكثر وأكثر؛ فتنتعش النفوس، وتنشرح الصدور لقبول الحق والتعاطي مع النصح. ونظرت فإذا الآذان مصغية لاستقبال المزيد. فليكن قبساً من نور القرآن ومَشْقاً من عطر سيرة سيد الأكوان e وأصحابه الكرام! فمضيت في حديثي أقول ما ملخصه:
عبق من السيرة
كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قريب اسمه (مسطح) ينفق عليه ويحسن إليه. فلما خاض المنافقون والذين في قلوبهم مرض في أم المؤمنين رضي الله عنها، خاض مسطح مع الخائضين. ثم أنزل الله جل وعلا -من بعد -براءة عائشة فحلف الصديق أن لا يصل مسطح ولا ينفق عليه أبداً. وهذا تصرف طبيعي، بل هو أقل ما يمكن أن يجازي به رجل رجلاً طعن في عرضه. ولا نعرف أحداً يمكن أن تسخو نفسه فيستمر بالإنفاق والإحسان إلى من فعل ذلك في حقه! اللهم إلا اذا بلغ في حسن الخلق من الدرجات أعلاها، وكرم النفس من المراتب أسماها، فينكر ذاته، ويعمل الخير من أجل الخير نفسه خالصاً من ذاته!
كانت هذه الدرجة العالية السامية هي التي أرادها الله تعالى لـ(صاحب) نبيه e فقال له داعياً ومرغباً: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/22). وكان جواب أبي بكر t: (بلى يا رب أحب أن تغفر لي)([1]). وعاد إلى مسطح يصله وينفق عليه!
إن هذه القامة لا يوفق الله إليها غير طراز خاص من المؤمنين يقول عنهم سبحانه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35،34). وما كان الله ليرضى من كان له هذا العنوان: (صاحب نبيه) إلا أن يكون من ذلك الطراز الذي تطول قامته وترتفع هامته إلى مستوى عنوانه!
الشيء نفسه فعله ربنا مع نبيه e حين عرض له الصحابي (الأعمى) يسأله ويلح عليه وهو مشغول بدعوة كبراء القوم! فعبس في وجهه ولم يرد عليه. وماذا يمكن أن يُتوقع منه غير ذلك؟ فالسائل قد تجاوز في الكلام حده وقاطع النبي e وهو مشغول بغيره. وكان الأولى به أن ينتظر حتى ينتهي من كلامه، أو ينصرف ليلتقيه في مكان آخر وظرف أليق. ثم إنه أعمى، والأعمى لا يرى عبوس من عبس في وجهه! لكن الله عاتبه في ذلك أشد العتاب!
والسؤال المهم: لو فعل هذا غير محمد e هل تتوقعون أن يعاتَب أو يحاسب؟ لكن الذي (عبس وتولى) هو محمد e! محمد.. صاحب القامة العظمى والعنوان الأعظم من بين الخلْق أجمعين! لهذا كان العتاب! وكذلك لو كان الذي قطع النفقة عن مسطح غير الصديق لما كلمه الله في شأنه وكلفه بالعود إلى صلته؛ لأن التكليف على قدر التشريف.
إن هذه المنازل لا يوفق الله تعالى لها إلا طرازاً خاصاً متميزاً من الناس.. طرازاً بقامات عالية، ونفوس سامية. فلنُطِلْ من قاماتنا لنكون بمستوى عناويننا.
وانتهى الكلام فإذا الصمت سيد الموقف. ولعله علامة الرضا. وقمنا من مكاننا ذلك وقد ازداد النسيم برودة، والنجوم تألقاً، والنفوس والصدور انتعاشاً وانشراحاً.
يا أصحاب القامات، توجوا رؤوسكم بما يناسب قاماتكم من عناوين. ولتكن قاماتكم -يا حملة القضية -بمستوى عناوينكم.
[1]-صحيح البخاري.
القائد ومنظومة القيادة
القَائِدُ .. وَمنظُومَةُ القِيَادَة
- القائد واحد.. فالسقاء لا يتمخض إلا عن زبدة واحدة، ولكنه في منظومة قيادة.
- القائد رائد.. فما معنى القيادة، إن لم تكن متقدماً على أصحابك برتوة؟! ولكنه في منظومة رواد.
الشورى التشاركية .. أو معادلة الارتباط والاستقلال
- عمل المؤسسة باستقلالية ومسؤولية: يحقق الحرية والكرامة للأتباع، وينتج مستوى عال من الإنجاز، وهو البديل الوحيد لسياسة الاستبداد، وسبيلنا الوحيد للحماية منه *.
- في غياب ذلك تسود الدكتاتورية، ويكون الاستبداد هو البديل الحتمي: فيحُل الإرهاب محَل المسؤولية، ويتعرض الأفراد للإهانة والشعور بالإحباط، ويلغى -في الواقع -دور المؤسسة؛ إذ يحصل فرد واحد على سلطة المؤسسة*.
- في قصة الهدهد مع سليمان u خير دليل على أهمية الحرية، والاستقلالية المسؤولة.
- من أهم ما نخرج به من قصة الهدهد وسليمان أن (الخروج على النظام لأجل النظام نظام).
الحرية والبيئة القيادية
- تحتاج المؤسسة الناجحة إلى وجود بيئة قيادية صالحة.
- أهم عناصر البيئة القيادية: الاحترام.. الحرية.. تحديد الأدوار.
- الحرية هي القبولُ بتعدد الآراء، واحترامُها، وعدمُ تسفيه شيء منها. مع شكر الجميع على إبداء الرأي مهما كان. وتمامُها بتفعيل الصالح منها.
- ومن الحرية تشجيع مبدأ (النصيحة) وإشاعته. فإن النصيحة تقويم وبناء. ولهذا تسمى بـ(النقد الإيجابي أو البنّاء)؛ فإن الغيبة هي البديل للنصيحة إذا غابت، أو كبتت. والغيبة تعويق وهدم.
- لا بد للإبداع من تمتع أفراد المؤسسة بالحرية، أو الاستقلالية المسؤولة.
- الحرية شرط الإبداع، والتجديد، والنمو، والتطوير.
- توفير أجواء الحرية يمنح أعضاء المؤسسة الفرصة التي بها يثبتون أنفسهم، ويعبرون عن طاقاتهم، ويشعرون بمتعة التحكم بأمورهم الخاصة*.
- تحديد الدور القيادي يحفظ الحرية من التفلت ويمنحها الفاعلية، ويجعل الحرية حرية مسؤولة، ويتيح الفرصة للمتابعة والمحاسبة؛ فالعمل المؤسسي ليس نزهة ولا مُتَّكأً لطلب الراحة.
الاستيعاب عند القائد
- القيادة حب جاذب، وقوة دافعة؛ فلا بد في النهاية من رباط يشد جموع المحبين.
- القائد يحُل المشكلة، ولا يولدها.
- القائد والد وحكَم محايد.. يستوعب ويحن ويحنو، ويغض الطرف ويتغابى أحياناً ويسمو. ولا ينافس أتباعه، أو يتحيز لبعض على حساب بعض؛ فإن الأب لا ينافس أولاده، ولا يتحيز لأحد دون آخر؛ وإلا لم يكن مرجعاً لهم يطمئنون لحياديته وعدله (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة:143).
- أغدق على منظومتك وأتباعك بلطف الكلام، والشكر على الإنجازات والفعال. واعتب على التقصير، وقد تزيد فتحاسب، وتشتد فتعاقب. وتفقد أحوالهم. وأشعرهم بوجودك معهم، ومتابعتك للعمل بينهم.
- من ألطف الأساليب وقعاً، وأقواها أثراً، وألذها في النفس، وأجملها ذكراً، وأسهلها وسيلة في إشاعة الحب والألفة بين أعضاء المؤسسة، وإزالة حواجز التكلف.. التزاورُ بقصد الصلة والشوق وتفقد الحال. والقيام بالرحلات الجماعية للتنزه والخروج من أجواء العمل. وإجابة الدعوة على شاي أو طعام غير متكلف. وحبذا فترات استراحة قصيرة أثناء الاجتماع للشعر والأدب والفكاهة ضمن حدودها المسموحة.
القائد العلَم .. والقائد الصنم
القَائِدُ العَلـَم . . وَالقَائِدُ الصَّنَم
القائدُ والدٌ..
القائدُ العَـلَـم هو أبٌ للمؤسسة: عادل ورحيم. يعمل ضمن منظومة قيادية شوروية، لها آلية محددة في اتخاذ القرار. وفي خلاف ذلك يبرز القائد الصنم، الذي هو – في حقيقته -زعيم مستبد، ورمز أجوف.
عظمة القائد
- العظيم من جمع حوله العظماء. فهو واحد في منظومة تشبهه وتدانيه. ولعظمته تميز من بينهم. وانظر إلى رسولنا محمد e! وليس العظيم من كان مفرداً في مجموعة من العاديين والبسطاء. على أن الاستثناء وارد لأسباب، كما في حالة نبينا موسى u.
- ومما قيل في ذلك: “من العظماء من يشعر المرء في حضرته أنه صغير، ولكن العظيم بحق هو من يشعر الجميع بحضرته أنهم عظماء”.
ثقة المنظومة بالقائد
- الأتباع يثقون بقائدهم طبقاً لمعادلة (الصبر واليقين): (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24)؛ فلولا شواهد الثقة التي يحفل بها تاريخه ما اتبعوه. وبهذا يكون الصبر معه وعليه. وبغير ذلك لا يتم الوصول إلى الهدف. (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (الفتح:10).
- من لم تتوفر لديه أسس اليقين المسبقة بصلاحية القائد لن يصبر على طول الطريق وتكاليفه، ولن يحسن التعامل مع فتنه ومطباته.
- استقامة القائد أساس الثقة. وبذلك يكون القائد قدوة يؤتسى به. والمؤسسة التي تجد قائدها أو مديرها مستقيماً نزيهاً تتمتع بروح معنوية عظيمة؛ لأن روح قائدها عظيمة. وهذا ينطبق على كل المنظومة القيادية؛ فإن روح العمل في أي مؤسسة تبدأ من قمتها. أما إذا فسدت هذه الروح في المؤسسة فيرجع ذلك أيضاً إلى قادتها، وفي المثل الأمريكي: “يبدأ موت الشجرة من قمتها”*.
ثقة القائد بمنظومة القيادة
- القائد يثق بأتباعه ويحترمهم؛ إذ أولى الناس باحترامك أتباعك.
- وثقة القائد بمنظومة قيادته أساسها حسن الاختيار طبقاً للمعيار. ومعيار الاختيار عندنا يقوم على ثلاثة: الإيمان والأداء والولاء. وللتفصيل محل آخر.
- القائد واثق بنفسه؛ لذا هو يحترم أتباعه ويقدرهم ويثني عليهم؛ فالمهزوم لا يثق بأحد، ولا يحترم إلا من يعارضه، أو من هو أقوى منه.
- الثقة بالنفس تمنح الاحترام للآخرين، وإن كانوا أضعف منا.
- ثق بأتباعك وعرضهم للتحدي، وسترى كيف تكون الاستجابة!
- القائد من يغرس في أتباعه الثقة بأنفسهم، وليس القائد من يجعل أتباعه يثقون به فقط. إنما ذلك الصنم.
- عندما تثق المنظومة المقربة بقائدها ويثق بهم، ينعكس ذلك على الجمهور فتشيع فيه الثقة بقادتهم، وينبعث الحماس للعمل خلفهم.
أبوية القائد
- الأبوية حاجة فطرية: فردية وجمعية. كل الناس يستشعرونها ويسعون لتلبيتها بغض الطرف عن العمر والجنس والمرتبة الاجتماعية.
- للبيت أب إذا فُقد شعرت العائلة باليتم. وللمجتمع أب هو الحاكم يحتاجه الجمهور ويشعر بحالة اليتم نفسها إذا فقده، ويسعى لتعويضه. وكذلك المؤسسة لا بد لها من أب هو قائدها الأعلى يلبي لأفرادها تلك الحاجة الفطرية: “الأبوية”.
- لا بد للمؤسسة من قائد أعلى يكون مصدراً للإلهام الروحي، والاستقرار النفسي، والنمو الفكري. يتأثر بشخصيته بقية القادة فيكون زعيماً حقيقياً لهم يستحق التقدم عليهم في المسير، ويلتف حوله الجمهور رمزاً يستحق الاتباع البصير. وعلى المؤسسة التجديدية الناهضة أن تعنى بوجود مثل هذا القائد باستمرار، وتهيئ البديل المناسب عند فراغ مكانه لأي سبب من الأسباب. وتحيطه بشيئين: منظومة قيادة تحفظ البنيان، ونظام داخلي يمنع الطغيان.
- من لوازم أبوية القائد زيارة إخوانه واستزارتهم، وتلبية دعوتهم، وعيادة مريضهم، والسؤال عن أحوالهم. والتبسط في الحديث معهم. وأن لا تكون كل لقاءاته وعلاقاته معهم لقاءات وعلاقات عمل؛ فهذا ألصق بالإدارة الجامدة منه بالقيادة الراشدة. ومن أوقع الأشياء في النفس وأكثرها بناء للروابط القلبية والعلاقات الأخوية.. السفرات والرحلات الترويحية الجماعية؛ إذ تترك آثاراً عميقة وذكريات جميلة، لها طعم لذيذ ولمس شفيف، يستعصي على عوامل التعرية مهما طال الزمن، بل لا يزيده الزمن إلا نمواً وثباتاً.
- ليس المقصود بالقائد القائدَ الأعلى للمؤسسة فحسب، وإنما القواد جميعاً في مختلف مراتب القيادة. فكل قائد هو تابع لمن فوقه في مرتبة القيادة، وهو – فـي الوقت نفسه -قائد لمن هم دونه فـي المرتبة. وهذا يستدعي من القادة جميعاً -بصرف النظر عن مراتبهم -أن يبعثوا في أنفسهم روح الأبوة للفريق، ويتمرنوا على ذلك باكتساب الشخصية الأبوية الحقيقية؛ وذلك بالتحلي بعناصرها المستحقة: نفسياً وروحياً ومعرفياً وخبروياً؛ فالأبوية ليست رتبة إدارية تنال بالتعيين، وإنما منزلة قيادية تنال بالتمكن من تلك الصفات في طريقها إلى تحقيق التمكين.
- على المنظومة أن تستحضر في رُوعها أن القائد بالنسبة إليهم كالشيخ بالنسبة لتلاميذه، والأب بالنسبة لعائلته. والقائد وإن كان لأتباعه أخاً وصديقاً ومعلماً، لكن هذه العناوين لا تمثله حق التمثيل، إنما (الأب) هو العنوان الذي يمثله ويعبر عنه أصدق تعبير.
- تستلزم الأبوية أن لا يعامل الأتباع قائدهم على اختلاف مراتبهم في المنظومة معاملة الإخوة لأخيهم، وإن كان هو أخاً للجميع. بل يعاملونه معاملة الأبناء لأبيهم: فلا يُرد عليه قوله دون تأنٍّ وتمعن. ولا تتبع معه في النقاش طريقة الجدل إلا عند الحاجة، وأحياناً لا على الدوام. ولا يُتضايق من نصحه منفرداً أو مجتمعاً، بل يقبل منه بترحاب، وإن كان ثمت نقاش فباحترام.
- بالأبوية العادلة الرحيمة، تكون العَلَمية، التي بها يتحقق التوازن بين الأخوية الباغية والصنمية، أو الأنوية، الطاغية.
- وقد عدى العلماء بعض الآداب التي شرعت مع الرسول e إلى “أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة”([1])، كما في قوله Y: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) (النور:62). ولا يبعد الاحتجاج بمثل ذلك على بعض الآداب الأُخرى التي ينبغي أن تراعى مع القائد أو الأمير أو الإمام، وإن لم تكن درجة الحكم واحدة لمقام النبوة، ولكن يؤخذ منها الأدب المطلوب اتباعه معه، كما في قوله Y: (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
القائد الصنم
- الصنمية أخطر عوق يصيب نفوس القادة.
- الجمهور المتخلف هو الذي يصنع الصنم، وهو الذي يحطمه بعد فوات الأوان ليقوم بتصنيع صنم آخر.
- الصنمية سببها ثقافي نفسي اجتماعي، أي الثقافة والنفسية الجمعية للمجتمع. وجذوره تنبت في تربة الاضطهاد بكافة أشكاله. فالثقافة الجمعية للمجتمع الاضطهادي تميل إلى التطلع للمنقذ السحري، والحلول العاجلة. وعادة ما تؤمن بما يسمونه بـ(الحل الوحيد). ومن هنا نشأت (الثورية) والاعتماد على الحلول العسكرية، وإهمال الحل القائم على مشروع حقيقي (مدني): ينطلق من فكرة تؤسس لهدف، يتطلب وسائل وآليات، وتهيئة موارد، وإعداد قيادات، وتربية جمهور في منجاة من العقد والمعوقات النفسية: فردية وجمعية. وهذا هو الذي اعتمده الرسول e في بناء الدولة وتأسيس الحضارة. و(الحل الوحيد) في حاجة إلى شخص ساحر الصفات، يتخذونه صنماً ينقذهم من صنم ليكون هو الصنم.. فكان الصنم!
- من أسباب التخلف الذي ينتج الصنم قلة الوعي. وهذا يشمل الوعي بالفكرة التي يبنى عليها المشروع، والهدف الذي يتجه إليه، والوسائل الموصلة طبقاً للموارد المتهيئة. كما يشمل الوعي بالذات وصفاتها وقدراتها إيجاباً وسلباً، ومعرفة البيئة المحيطة. مع معرفة عميقة بالعدو فكرياً ونفسياً، وحاضراً وتاريخاً، ومقاصد وأهدافاً، وخططاً وتدبيراً، وكيف يفكر ويعبّر. وكيف يسلك ويتصرف. وغير ذلك.
- من أسباب التخلف النظام الأساسي المتخلف للمنظومة القائدة، حين لا يتضمن ما يمنع من وصول الصنم إلى القيادة، أو الوسائل السلمية الناجعة لإزاحته إذا وصل. وليس فيه من القواعد والإجراءات التي تمنع صناعة الصنم من جديد في دورة لا تنتهي حتى تبدأ وتعيد. وحين لا يضمن وصول أخفتِ صوت من أضعف فرد في المؤسسة – مهما كبرت – إلى سمع القيادة الدنيا، أو القيادة العليا إن اقتضى الأمر، وعجزت القيادة المباشرة عن معالجة الحالة.
القائد والقضية : من يكبر على حساب من ؟
القائد العلَم هو الذي يكبر لتكبر به القضية. والقائد الصنم هو الذي يكبر على حساب القضية. فالقضية في حاجة إلى من يحملها لا إلى من تحمله؛ القضية التي تحمل أهلها لا يمكنها الاستمرار.
يقول الدكتور بيتر دراكر([2]) تحت عنوان (الاختصاصات الأربعة للقائد) عقّب عليه بعنوان تحته بخط صغير (اجعل تركيزك على المهمة دون نفسك فالعمل أهم): والاختصاصات الأربعة التي عناها بيتر دراكر هي: إجادة فن الاستماع، والتواصل مع الآخرين ليكون مفهوماً لديهم، وتصحيح الأخطاء بإعادة تنسيق الخطة باستمرار، والتحكم في الذات مقارنة بالعمل. وما يهمني هنا هو الاختصاص الأخير الذي شرحه بقوله:
“أما الاختصاص الأساسي الأخير فهو الاستعداد لأن تدرك عدم أهميتك إذا ما قورنت بالمَهَمة. فيجب على القادة أن يجعلوا أنفسهم خاضعين للمهام والعمل. أن يدركوا أنهم مهما كانت لديهم القدرة على الاحتفاظ بشخصيتهم وفرديتهم، ومهما أخلصوا للمهمة، فإن هذه المهمة سوف تطغى عليهم إن آجلاً أو عاجلاً؛ لأن العمل سوف يستمر بعدهم”. ثم يقول عبارة في غاية الأهمية يا ليت أتباع سنة محمد e يتدبرونها، هؤلاء الأتباع الذين وجدوا أول حديث في سنته في أعظم ديوان لها من دواوين الحديث هو حديث النية: (إنما الأعمال بالنيات). فإن هذه العبارة وردت في حديث رجل ربما لم يكرمه الله سبحانه بنفحة من إيمان، لكن الحياة علمته أن القائد الذي يريد لشخصيته أن تكبر وغاياته الشخصانية المباحة أن تكون، فعليه أن يحقق هذا خارج نطاق قضيته ومهمته، فيقول مباشرة بعد ما كلامه السابق: “غير أنهم يستعيدون حياتهم الشخصية والإنسانية خارج المهمة”.
ثم يواصل (دراكر) قوله وهو يتحدث عن مطب خطير يقع فيه القادة: “ومن ناحية أخرى فإنهم يقومون بعمل أشياء مبالغ فيها معتقدين أن هذا سوف يعزز فكرتهم؛ مما يجعلهم أنانيين، وعملهم غير مجد. وفضلاً عن ذلك كله يصبحون أناساً أنانيين ومغرورين. فإحدى القدرات العظمى التي كان يتمتع بها القائد “ونستون تشرشل” حتى آخر يوم من حياته هي مساعدة ودفع السياسيين من الشباب”.
[1]– هذا لفظ القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) عند تفسير آية (النور). وشبيه به ما قاله الجصاص في (أحكام القرآن)، وابن العربي (في أحكام القرآن). وقال الشوكاني في (فتح القدير): “قال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام… قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن”.
[2]-أفكار دراكر اليومية في الإدارة، ص150، الدكتور بيتر إف. دراكر.
فكر القائد
فِكرُ القَائِد
مفاتيح الفكر القيادي
في فقرة (الإيمان والتنمية الإيمانية) من (منهاجنا) حددنا جملة مقاصد نبغيها من وراء هذا الموضوع. كان المقصود الثاني منها “اعتماد مبدأ (التنمية الذاتية للإيمان). أي قدرة المسلم على تنمية إيمانه ذاتياً، ورعايته له شخصياً، والوصول إلى المراد الرباني من تزكية نفسه دون الاعتماد -كحاجة أساسية -على حث الآخرين وموعظتهم وتأثيرهم”. لكن كيف يمكن تحقيق هذه الغاية السامية بالقدرة الذاتية؟ وضعت لذلك مفاتيح لخصتها فـي ثلاثة:
- إطلاق طاقة النظر فـي آيات الأكوان.
- تدبر آيات القرآن.
- ثم رعاية ما ينتج عنها من ثمار حتى تصل إلى غايتها من الإيمان وعمل الأركان.
بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها
إيمان جمهورنا يستورد من الخارج بالتلقين والحث، وليس من الداخل بالحوار الفاعل بين الوحي والنفس. بينما الحكمة تقول: بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها. وفي طلب المؤمنين الهداية من الله في آخر سورة (الفاتحة): (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)، وجوابه تعالى لهم في أول سورة (البقرة) قائلاً: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) إشارة إلى أن الهداية لا تمنح من الخارج منحةً حتى لو كان المانح هو الله الذي هو على كل شيء قدير! ما لم تصنع من الداخل صناعةً قوامها العبد الراجي والكتاب الهادي، فدونكم هذا الكتاب خذوا ما فيه هدىً للمتقين.. أولئك العاملون لا غيرهم. هكذا نفهم قول الله Y.
مفاتيح التدبر لا ثماره فقط
ذات يوم قبيل صلاة الجمعة كنا (أنا وزوجتي) نستمع إلى أحد الشيوخ من خلال شاشة التلفاز، وهو يتحدث عن موضوع الحب في القرآن، في محاضرة يلقيها على مجموعة من الشباب في أحد مساجد إستانبول الواسعة الأرجاء والأبهاء. يبدو أنها حلقة في برنامج للتفسير بعنوان (تدبر). أجاد الرجل في طرح الموضوع، وأفادنا بمعلومات مفيدة. ابتسمت ونظرت إلى فاطمة، قلت لها: كلام قيم، ولكنه لم يضع في أيديهم مفاتيح التدبر، إنما أعطاهم ثماره فقط. لم يعلم الحاضرين الكيفية التي بها يمكنهم من أن يستنبطوا المعاني نفسها التي استنبطها هو، دون الحاجة إليه على الدوام. انظري! لم يعلمهم آلية “تخليق الفكرة”([1]). وهذا ما يفتقده المنهج الذي يسير عليه عامة شيوخ الدين، النابهين منهم قبل الخاملين. قالت أم محمد: كيف؟
قلت: هل عرفت كيف استنتج الشيخ هذه المعاني الجميلة المتتابعة كالماء المترقرق في كلمته؟ نظرت إلي ولم تجب. قلت لها: هذا يسمى (التفسير الموضوعي) للقرآن الكريم. ومن طرقه أن نختار كلمة مثل الجهاد، الصلاة، الإنسان… ثم نتتبعها في مواضعها ونجمع الآيات التي وردت فيها، ثم ننظر في معانيها ونتأمل جيداً في سياقها، وعلاقتها بالسورة التي هي فيها، والمحور العام الذي تدور فيه، والمعنى الخاص الذي جاءت في تضاعيفه… وهكذا سيجد القارئ والباحث نفسه أمام سيل من المعاني ذات العلاقة المشتبكة في تشكيلة دونها باقة الورد التي انتظمت بعد أن كانت متفرقة. وبالتحقيق والتدقيق تظهر معاني لطيفة خفية.
هذا ما فعله الشيخ. هذه هي الطريقة التي تخلقت بها أفكاره وتكونت محاضرته. ولو بيّـنها للحاضرين لكان أنفع له ولهم أضعافاً كماً ونوعاً. والحكمة تقول: “بدل أن تمنحني وردة علمني كيف أغرس شجرتها”. هذا هو الذي ينقص مناهج الوعظ والتعليم في منابر الخطب وكراسي المحاضرات. وهذا هو الذي ينقص مؤسساتنا كي تمارس دورها الريادي.
القدرة على تخليق الفكرة أهم من الفكرة
هذه مشكلة كبيرة ومزمنة. من نتائجها وجود كتل من العاملين ولكن بغير الطاقة الذاتية. نعم يعملون ولكنهم بمحرك من خارج أنفسهم.. يعيشون طفيليين لا يمكنهم إنتاج ما يغذون به مفاصل حركتهم الفكرية، والمادية أيضاً. مسيرين لا مخيرين. مستهلكين لا منتجين. ويبدو لي أن الأحزاب والجماعات التقليدية تبحث عن هذا الصنف من الأتباع؛ بمثلهم يمكنهم إدارة عجلة مؤسساتهم دون صداع. وربما يسعون عن عمد إلى صرفهم عن كيفية زراعة الشجرة، ولا يظهرون لهم سوى الوردة العطرة؛ فيحققون مكسبين في وقت واحد: الإعجاب بلون الوردة وعطرها، والتسويق الدائم لها في هذا الوسط الذي سيبقى على الدوام محتاجاً لشرائها من دكاكينهم؛ وبذلك يضمنون تبعيته الدائمة لهم.
هي عملية تشبه عملية الاستعمار الاقتصادي التي تعيث في أقطارنا. الاستيراد هو المسموح به أو – بالحري – هو المطلوب، أما التصنيع فممنوع، وكل سر لـ(تخليق) المنتوج يمكن إخفاؤه، يبقونه في ظلمات الكتمان، بل كل سر لأي منتوج ستراتيجي، مثل السلاح النووي، يجب أن يبقى حكراً على الكبار، ومن حاول معرفته من (الصغار) تخلصوا منه بأي وسيلة، ولاحقوا كل من لديه طرف منه بالاغتيال، كما حصل لصدام حسين وعلماء العراق.
وقف رئيس إحدى هذه المؤسسات يؤبن أحد أعضاء المؤسسة، وهو من أروع من رأيت من المفكرين المبدعين، ومن القلة الذين يستحقون وصف القائد فيهم. ولو أمهلته يد القدر لكان له اليوم شأن كبير. كانت أول كلمة قالها المؤبن في حقه: “لقد كان أخاً مطيعاً”. وتهدج صوته واستعبر وكاد يجهش باكياً عندما تلفظ بكلمة (مطيع). يبدو أن صفة الطاعة هي أسمى صفات العضو في تلك المؤسسة. وقد أضحكُ ساخراً وأنا أروي هذا المشهد وأقول: لو سكّنت العين ومددت الياء عدة حركات لبدت الكلمة (مطيـــــــ ـع) بغير عين)! هذا هو المطلوب في عامة المؤسسات التي أدركناها!
ذلك من أجل المحافظة على سياق التبعية.
لا أزعم أن كل أولئك الذين يمارسون عملية (التغذية الفكرية بالتقطير) يتعمدون ذلك. ولكن هذا واقع يحتاج منا إلى تفسير أولاً، ووعي ثانياً وهو أهم من الأول، وعلاج يقوم على مطالبة زعماء المسيرة بأن يعلّـموا أتباعهم، إضافة إلى الفكرة، كيفية “تخليق الفكرة” كي نسهم في ولادة جيل قيادي جديد باتت الحاجة ماسة إليه.
القائد الأصيل
من أهم صفات القائد الأصيل القابلية على تخليق الفكرة. وهذا الصنف من القادة هو الذي ينبغي على المؤسسة أن تحرص على وجوده أو إيجاده وصناعته بما يحقق الكفاية. وتُفرد لهذه المهمة برنامجاً خاصاً ملازماً لها دوماً بلا انقطاع؛ وبهذا تستمر مبدعة خلاقة متجددة.
القائد الأصيل هو روح المؤسسة وطاقتها المتوقدة المتجددة، وبفقدانه تتحول إلى هيكل لا حياة ولا نماء فيه. أو مجموعة أشخاص يتحركون ضمن مسار سرعان ما يتسلل إلى مفاصله الجمود والعطب ثم التوقف.
لا يكون همنا منصباً على وجود ذلك الشخص الذي يبدو للناظر قائداً لكونه يتقدم المسير، بينما هو في الحقيقة مجرد ناقل للفكر ومنفذ للبرنامج، لا صانع مبدع له. وإن كانت المؤسسة لا غنى لها عن مثله.
وإذا كانت القيادة صفة من الممكن أن تكتسب، فكيف يمكن أن يكتسب الشخص تلك الصفة التي هي كالأساس لبقية صفات القائد ألا وهي القابلية على تخليق الفكرة؟
[1]– قال تعالى عن نبيه عيسى u: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (آل عمران:49). وقال: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون:14).
تفجير طاقة التفكير
تَفجِيرُ طَاقَةِ التَّفكِير
تكتسب القابلية على تخليق الفكرة وتنمى وتطور باتباع منهجية راقية أسميناها (تفجير طاقة التفكير). تفجير طاقة التفكير هو ما نحتاجه لصناعة (القائد الأصيل). وفيما يلي أهم تِقْنِياتها([1]):
- ربانية التفكير
مشروعنا رباني المنشأ والمنطلق والمسار والغاية. وإذا كانت أول كلمة نزلت من السماء هي (اقْرَأْ) (العلق:1)، فإن تلك القراءة المأمور بها قراءة ربانية: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). بهذا تزكو وتنمو ويباركها الإله جل في علاه. وذلك يكون بأربعة وسائل، وهي في الوقت نفسه ضوابط تعصم الفكر من الانحراف عن الربانية، وتحافظ على وجوده ضمن سياقها: (الدعاء، الواقعية، القرآنية، العربية):
- الدعاء: الالتجاء إلى الله تعالى أن يفتح مغاليق العلم وأبوابه. وأعلى الدعاء هنا قراءة سورة (الفاتحة). ومنه الدعاء بما ورد أن النبي e كان يستفتح به صلاته إذا قام من الليل: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل. فاطر السماوات والأرض. عالم الغيب والشهادة. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)([2]). وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مئة تفسير، ثم أسأل الله الفهم وأقول: يا معلم آدم وابراهيم علمني. وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب وأسأل الله وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني).
- الواقعية: تدبر القرآن الكريم والنظر إليه من خلال الواقع، والنظر إلى الواقع من خلاله. فعندما تقرأ – مثلاً – سورة (الأحزاب) وأنت تنظر إلى واقع تسب فيه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فإن هذا سيحثك لاكتشاف أن محور السورة إنما سيق للحديث عن أزواجه e! وحين تقرأ قصة الهدهد في سورة (النمل) وأنت تعاني من القوالب الجامدة للأحزاب والجماعات والهيئات، ليس بمستغرب أن يتبادر إلى ذهنك هذه الحكمة العظيمة: (الخروج عن النظام لأجل النظام نظام).
- القرآنية: ونعني بها:
- تحديد مفاهيمنا طبقاً للقرآن العظيم.
- أن كل مفهوم تناوله القرآن، لا يصح أن نبحث عن تحديد معناه في أي مصدر آخر ولو كان هو الحديث قبل أن يتم تحديده طبقاً لكتاب الله.
من ذلك ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي الدرداء t قال: قال النبي e: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: (ذكر الله)([3]). لا ينبغي أن يفهم هذا بمعزل عن قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142) وما في معناه من الآيات المحكمات في وجوب الجهاد وعلو منزلته على نوافل العبادات: الصلاة فما دونها. لذا فسره بعض العلماء بأنه واقعة عين فيمن لا يطيق القتال.
ومنه القول بتأسيس الأصول على متواتر السنة، وإن كان ذلك في غياب النص المحكم (الصريح) من القرآن الكريم؛ فهذه القاعدة تخالف عشرات الآيات المصرحة بأنه مصدر الهدى، وأنه يغني عن سواه في بيان أصول الدين، كما قال سبحانه: (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (العنكبوت:50-52). كما أنها عاطلة غير منتجة؛ إذ يعجز أصحابها أن يأتوا بأصل غير مصرح به نصاً في القرآن الكريم.
وبهذا الضابط تتولد أفكار وتتأسس قواعد تثري حقل التأصيل وتجدده وتفعله. منها الحكم على كل حديث صريح في تأسيس أصل من أصول الدين بأنه ضعيف. وبهذا نوجه ضربة قاضية لروايات الشيعة المؤسسة للأصول فنسقطها جملة واحدة.
ث. العربية: القرآن الكريم كلمات نزلت بلغة العرب. يتم فهمها طبقاً لهذه اللغة على وضعها أيام التنزيل. فكل مفهوم يستنبط من القرآن على غير سنن العرب في معاني ألفاظهم آنذاك فهو فهم باطل. وإن احتج له بحديث فهذا دليل على أن الحديث لم يقله رسول الله e؛ لأنه أفصح من نطق بلغة الضاد؛ فلا يعقل أنه يمكن أن ينطق بلفظ مخالف للغة التي كان يتكلمها العرب أيام تنزل القرآن.
وبهذا نعلم ضعف كل الأحاديث التي وردت في شمول لفظ (أهل البيت) لمن هم خارج بيت النبي e من أقاربه. وهذا يتم بخطوتين:
الأولى: ورود لفظ (أهل البيت) في القرآن مرتين: مرة عن بيت سيدنا إبراهيم u: (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (هود:73). ومرة عن بيت النبي محمد e. وفي المرتين اقتصر معناه على زوجة النبي. وورد مرة واحدة بصيغة تنكير للبيت، أي (أَهْلِ بَيْتٍ) في قوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ) (القصص:12). ومعناه أهل بيت الطفل موسى. والمقصود حصراً هو أمه، كما أخبر تعالى فقال بعدها مباشرة: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) (القصص:13).
الثانية: لم يرد لفظ (أهل) مضافاً إلى شيء ما لم يكن أهله على علاقة ملازمة لا مؤقتة بذلك الشيء. خذ مثلاً قولك: (أهل العلم، أهل البلد، أهل الكرم، أهل القرية، أهل الدين…) وضع ما شئت من الألفاظ. وبهذا الشرط – أي الملازمة – ورد لفظ (أهل) في القرآن الكريم كله. مثل قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى) (يوسف:109). وقوله: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (الحجر:67). وقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43). وكذا قوله: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) (طه:40). وقوله: (إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ) (العنكبوت:31). وقوله: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) (الأحزاب:13). وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص:64). وهكذا في جميع المواضع وهي بالعشرات دون خُلف.
وعلى أساس هذا الضابط الرباني تبنى أحكام فقهية وتهدم أخرى، ليس هذا موضع تفصيلها.
- هاجس القضية
تحت شعار: “قضيتي أول.. وأنا أول”، عش للقضية، فتملك عليك كل شيء. لا شيء يتقدم عليها، ولا شيء يساويها ولا يوازيها: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:163،162). انظر إلى نبيك وقائدك كيف ملكت قضيته عليه نفسه، فكانت كل شيء في حياته!
فرق بعيد بين أن تكون القضية إحدى اهتماماتك، وبين أن تكون اهتمامك الأول، ومحور حياتك، وتستولي من عينيك على مركز الدائرة. حتى قيل: “رجل واحد تكون قضيته اهتمامه الأول، خير من مئة رجل تكون قضيتهم إحدى اهتماماتهم”. بهذا وحده تصل إلى درجة (التركيز) الذهني، التي يتحول التفكير فيها إلى حالة دائمة. فيكون ذهنك في حالة من الاستفزاز والاستنفار الفكري الذي يمنحك القدرة على العطاء وإنتاج الأفكار حد السيولة مع الإبداع.
ركز على ما تريده (القضية)، وقلل التفكير فيما لا تريده إلا ما كان في خدمة ما تريده. اجعل قضيتك نقطة المركز ثم انطلق منها إلى الخارج. وانظر حولك لترى أن معظم الناس يفعلون العكس، وهذا سر فشلهم.
القراءة العلمية المركزة
يقول آينشتاين: “لست أذكى من الآخرين، لكنني أستغرق في التفكير بالمسألة وقتاً أطول منهم”. وهذا من معاني “التدبر” الذي أمر الله تعالى به في أكثر من موضع من كتابه، منكراً على من تركه، كما في قوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد:24). من أهم تقنيات هذه القراءة:
– اتباع قاعدة “الفهم قبل الحفظ“؛ تجنباً للوقوع في فخ التقليدية والاستنساخ. وروح الفهم وحقيقته هو فقه المفهوم أي دقة فهمه.
وهذا يقوم على ركنين بعد الفهم:
- أن تعرف الحاجة التي أنتجت الفكرة، أو الغاية التي يراد الوصول إليها من ورائها. وذلك باستعمال أداة الاستفهام (لماذا).
- أن تعرف السبيل الذي اتبعه صاحب الفكرة للتوصل إليها؟ وذلك باستعمال أداة الاستفهام (كيف).
والتنقيب عن ذلك وذلك حتى تقع على جواب.
مثال: ربما يمر الكثيرون بهذه العبارة (مؤسستنا ربانية سنية عراقية)، ولا ينتبه إلى السر في في هذا الوصف الثلاثي المركب للمؤسسة.
- الحساسية الفكرية
ونقصد بها عملياً: التدقيق في المقروء والمشهود والمسموع.
الإحساس المرهف بالمشكلات من شروط الإبداع وصفات الشخص المبدع. ومنها دقة الرؤية المؤدية إلى ملاحظة الفروق الكامنة بين المتشابهات. فهو يعي الأخطاء في الأشياء التي حوله، ويدرك نواحي النقص والقصور ويحس بالمشكلات إحساساً مرهفاً. والمشكلة حالة تحريض للذهن، تدفعه لخوض غمار البحث فتزداد الفرص أمامه نحو الخلق والإبداع. المثال السابق يصلح للاستشهاد هنا.
مثال: تقييد مشروعنا بوصف (الرباني) دون (الإسلامي)([4]).
التدقيق المفضي إلى التمييز بين المتشابهات من التقوى التي أرشد الوحي إليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الأنفال:29).
- قانون الحركة والمسار / السياق
أي النظر في سياق الحدث لا الحدث نفسه فقط.
القائد لا يكون قائداً ما لم يكن كلي التفكير، لا تشغله الجزئيات عن وضعها في سياقها الذي انتظمت فيه، وقانونها الذي تمخض عنها، وغايتها التي ترمي إليها.
والحياة حالة مزدوجة، قوامها حركة وسياق يلتقيان فيكونان معنى واحداً هو محصلة الجمع بينهما. ودون هذا الجمع لا يمكن فهم ما تعنيه حقيقة الحركة. الحركة في سياق تعني شيئاً مختلفاً عنها في سياق آخر. فتفسير أي حركة خارج نطاق سياقها عماء، والبناء عليه تخبط وضلال. فأن تركب قطاراً تريد بغداد ينبغي أن يكون موضوعاً على سكة متجهة إلى بغداد لا إلى طهران.
هكذا خسرت المقاومة العراقية المعركة لأن قاطرتها كانت موضوعة على سكة مقاومة الأمريكان لا مقاومة الشيعة وإيران! حركة صحيحة في سياق خاطئ. بل كانت حرباً بالنيابة عن إيران! وحروب النيابة صورة جلية لمخالفة الحركة للمسار.
وهكذا ربح الشيعة الدولة، والكرد الإقليم في سياقهم إلى الدولة؛ لأن جهود كل منهما كان في سياق الهوية والقضية الخاصة، بينما خسر السنة لأنهم في زمن الطائفية والضعف عملوا في سياق الهوية والقضية العامة. والضعيف لا يمكن أن يقوى وينمو في زمن طائفية القوي ما لم يتمحور حول ذاته وهويته.
السنة قاطرة جيدة لكن على سكة خاطئة..
بينما الشيعة قاطرة سيئة لكن على سكة صائبة.
[1]-تِقْنيّة: مصدر صناعيّ نسبة إلى تِقْن. وهو أسلوب أو طريقة فنِّيَّة في إنجاز عمل أو بحث علميّ ونحو ذلك، أو جملة الوسائل والأساليب والطرائق التي تختص بمهنة أو فنّ.
[2]– رواه مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها.
[3]– فيه عبد الله بن سعيد بن أبي هند: وثقه أحمد ويحيى بن معين وأبو داود وضعفه أبو حاتم ويحيى بن سعيد، وقال النسائي ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ. راجع: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 15/39-40، يوسف بن عبد الرحمن جمال الدين المزي (ت: 742هـ)، تحقيق د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1400 – 1980.
[4]-يمكن الرجوع إلى فقرة (التعريف بالمؤسسة) من المنهج لمعرفة الأسباب بالتفصيل.
6. فهم أبعاد المشكلة قبل الانشغال بحلها
5- فهم أبعاد المشكلة قبل الانشغال بحلها
يقول أينشتاين: “إذا كان لدي ساعة لحل مشكلة سأقضي خمساً وخمسين دقيقة للتفكير في المشكلة، وخمس دقائق للتفكير في الحل”. يا لها من حكمة لو وجدت لها حملة! قاتل السنة الأمريكان قبل أن يفكروا في أصل المشكلة وأبعادها ونتائجها ومآلاتها. ولو أعطوا أنفسهم فرصة نصف سنة لدراسة مشكلة الاحتلال قبل التفكير في حلها، لأدركوا أن المشكلة ليست في الأمريكان، إنما في الشيعة. ولو فكروا أكثر لتوصلوا إلى أن المشكلة ليست في ضعف القوة العسكرية، إنما فقدان البنية المدنية. كم كانوا سيوفرون من الدماء والأموال والأعراض لو فعلوا ذلك! ولما خاضوا حرب نيابة لم يكسبوا فيها سوى الخسارة ضد عدو بدا لهم أكبر ثم وضعوا حاصلهم في سلة العدو الأخطر.
6- الحوار الداخلي والمطاولة والإصرار على إيجاد الحل
تعترض الكاتب مشاكل فكرية من النوع الذي يستعصي على الحل ابتداءً. فماذا يفعل؟ مواجهة المشكلة بطول التفكير وممارسة الحوار الداخلي أحدى تِقْنيات العثور على الحل. وإليكم هذه القصة الطريفة التي عشتها مع مشكلة استعصت عليّ عدة شهور:
عندما بدأت بتأليف كتاب (لا بد من لعن الظلام) سنة 2001 – ومن طريقتي أنني أعتمد القرآن مصدراً أساسياً، لا سيما في آياته الصريحة (المحكمات) – احترت إزاء الكم الهائل من الآيات الدالة على أصل الموضوع! لا أبالغ إن قلت: إن عدد الآيات الدالة صراحة تبلغ المئات، وبدا ذلك جلياً من عدد الصفحات التي غزتها الآيات عندما شرعت في كتابتها؛ فكيف أقيد ذلك في الكتاب؟ إن اقتصرت على عشر أو عشرين لربما لا ينتبه القارئ إلى ضخامة العدد فيفوته تصور مدى قوة الدليل القاطعة وعظمة حجمه الباذخة. وإن أحصيتها كلها لن أجد من لديه الصبر على قراءتها جميعاً.
فكرت أن أكتفي بجزء واحد من القرآن مثل (جزء عم) فواجهتني المشكلة نفسها وإن بصورة أقل، ثم إن هذا سيصرف القارئ عن آيات كثيرة في مواضع أُخرى ربما هي أدق وأقوى دلالة. وفكرت: لو جربت تصنيف الآيات مجاميع حسب موضوعاتها يكون ذلك أدعى للمتابعة، ويمنحني فرصة جيدة لتقييد عدد كبير من الآيات. لكن ما هي العناوين التي تصلح للتصنيف؟ لم يكن الأمر سهلاً. معضلة جديدة فماذا أفعل؟ هذا والقلم يسطر الآيات، والصفحات تترى! وهكذا ظللت أتنقل من فكرة إلى غيرها. إلى أن اهتديت إلى فكرة عملاقة كانت أساساً خماسي العناصر من أسس الكتاب، لم يكن مني من قبل على بال!
7-ترقيد الفكرة
قد يطول زمن الجهد المبذول حيال مشكلة فكرية دون مخرج. عند ذاك يمكن ترك الفكرة ترقد في خبايا الذاكرة فترة من الزمن، ومنحها فرصة كي تختمر وتتفاعل؛ فإذا هي بعد ذلك تخرج يانعة مكتملة لا تحتاج إلى أكثر من تعديلات وتحسينات شكلية.
عندما استعصت علي ّالفكرة المنقذة في علاج إشكالية كثرة الآيات الدالة على الفكرة الأساسية لكتاب (لا بد من لعن الظلام) لجأت إلى ترك التفكير في المشكلة شهرين أو ثلاثة، وانصرفت لكتابة بقية الفصول. كنت في ذلك أمارس طريقتي العفوية في إنبات الأفكار، وهي حالة تعتريني عندما تتضيق لدي مخارج الأفكار في مسألة ما، فأتركها مدة، وكأنني أستنبتها وأسقيها وأرعاها في زاوية من زوايا العقل تحت مستوى الوعي. ثم فجأة تخرج لي تلك المسألة من مكمنها وكأن قشرة الدماغ تشققت لها فتطل برأسها نبتة واضحة المعالم لا ينقصها إلا شيء من السقي وبعض من الزمن!
هكذا نبعت عندي فكرة تصنيف آيات (لا بد من لعن الظلام) حسب سور أربع: كل سورة تختص بمواجهة دين من الأديان الباطلة الأربعة؛ فسورة (البقرة) تخصصت باليهود، وباستقراء جميع آياتها في ذلك استخلصت منهجاً في مواجهة الباطل يرتكز على خمسة عناصر رئيسة، وزعت عليها كثيراً من الآيات. ثم رحت أطبق المنهج نفسه مع سورة (آل عمران) والنصارى، و(الأنعام) والمشركين، وأخيراً (التوبة) والمنافقين. وهكذا انحلت المشكلة وواجهت التحدي فتجاوزته وتمكنت من الجمع بين وفرة الآيات واستدراج القارئ إلى قراءتها أو – على الأقل – المرور عليها لكن مع أخذ تصور واضح لمدى قوة الدليل وعظم حجمه. هذا مع اكتشاف تلك المنهجية الربانية الخماسية الأبعاد في مواجهة الباطل بمختلف أصنافه. بالطريقة نفسها نبتت عندي، ونمت وترعرعت حتى تمت وكملت، أعظم قاعدة في إبطال دين الشيعة، وكل الأديان المبتدعة، ألا وهي (اتباع محكم القرآن في تأسيس الأصول).
8- اقتناص الفكرة
كثيراً ما تقتحم فكرة نيرة مجال الذاكرة كالبرق دون سابق تفكير. ومن مزاج هذا النوع من الأفكار أنها لا تمر بالذاكرة إلا مساً كمس الحلم سرعان ما يتبخر قبل أن تقدر عليه كما يتبخر الكُحْل([1]) الموضوع على راحتك في الفضاء، وأنها تغادر دون عودة. وغالباً ما يكون المرء أثناء مرورها (الكريم) على حال لا تسمح له بالتفكير فيها، وتثبيتها في طيات الذاكرة. لهذا يصطحب المبدعون ورقة وقلماً أو دفتراً صغيراً يصطادون به شوارد الأفكار قبل أن تتبخر وتتلاشى أو تطير إلى غير رجعة.
يقول محمد بن يوسف الفرَبري راوية صحيح البخاري: كنت مع محمد بن إسماعيل بمنزله ذات ليلةٍ، فأحصيت عليه أنه قام وأسْرَجَ يستذكر أشياءً يُعلِّقها في ليلةٍ ثماني عشرة مرَّة([2]). ومن واقع التجربة لا يمكنني إحصاء كم من الأفكار الشاردة اقتنصتُ وكتبتُ قبل أن تزول، فكانت منها قواعد وتأصيلات وأفكار جددت القديم وأبدعت في الجديد، وصارت أساساً لمقال طريف وكتاب بديع وخطبة ومحاضرة ومنشور نفع الله تعالى به ما شاء!
9-التقاط الفكرة
كثيراً ما تطرق السمع فكرة عابرة يقولها شخص أو تعثر بها في كتاب، لكنها طريفة قوية لها موسيقى فكرية تطرب لها آذان المبدعين وتهتز لوقعها عقول المفكرين. بيد أنها ما زالت مدفونة في خامتها، في حاجة إلى تنقيح واستخلاص وتنمية ومزيد بحث ونقش وتكميل. فمن التقطها ورعاها استخرج منها فكرة عملاقة أو أصلاً عظيماً أو قاعدة جديدة من قواعد العلم والعمل.
كان بدء كتاب (سياحة في عالم التشيع) كلمةً ألقاها صاحب لي ذات يوم من أيام عام 1995. قال: انظروا إلى دين الشيعة تجدوه يتوسع في الملذات من المال والجنس، ويضيق في العبادات. كان يجلس في المقعد الخلفي للسيارة في لحظة نوشك فيها أن نتناوش الجسر الذي على شط الحلة قاصدين بغداد قريباً من آثار بابل. وكان يمكن أن تتعرض لعملية إجهاض بسبب ضوضاء الطريق، أو تمر دون أن تسترعي الانتباه أو تثير الخيال. وبسرعة سللت القلم من جيبي وتناولت دفتر ملاحظاتي الصغير.. ما زلت أذكره: أصفر الغلاف، فيه خطوط سوداء ترمز إلى وجه امرأة، واستودعته هذه الملاحظة الذهبية وأغلقته، ورحنا في نقاش نتفحص ما قال. ثم طفقت – ردحاً من الزمن – أجمع الأدلة والشواهد على هذه الفكرة العظيمة حتى صارت كتاباً فيه قاعدة من أقوى القواعد على بطلان التشيع وإثبات كونه من صنع البشر لا من عند الله جل في علاه. ومن طريف ما يجمل ذكره هنا أن الكتاب ظل يبحث عن عنوان استعصى عليّ سنين، حتى إذا هيأته للتنضيد الإلكتروني استعداداً لتصوير بضع نسخ منه، اضطررت إلى أن أسهر ساعات وحدي في حجرة الضيوف من بيتي في اللطيفية بعد أربع سنين من ولادة فكرته لأختار هذا العنوان المثير: (سياحة في عالم التشيع) من بين عشرين عنواناً كنت قد اعتصرتها وسطرتها أمامي. وما إن انتهيت من وضع العنوان حتى سمعت صوت المسجد القريب يؤذن للفجر!
10- تقليب النظر في التجارب الشخصية
تشكل التجارب الشخصية مصدراً غنياً لاستخلاص الأفكار واكتشاف القوانين الفردية والاجتماعية والسياسية وغيرها، فيما لو أحسن صاحبها عملية تقليب وإعادة النظر فيها. فمن خلال النظر في التجربة الشخصية كان اكتشاف منهجية (التغيير الجمعي) الغائبة عن مناهج الجماعات الدعوية التي شهدناها في الساحة العراقية – على الأقل – والاهتداء إلى علة الصنمية في القيادة، وضرورة الاستفادة من علم النفس والاجتماع.
11-النظر في التجارب الاجتماعية
تجربة المقاومة العراقية أثبتت أن الأزمة وحدها لا تكفي لتحقيق الهدف؛ فاجتماع الناس عند المصيبة -ما لم يكن هناك توحد فـي الرؤية وكفاءة فـي القيادة – سيعقبه الاختلاف والتشتت وضياع الجهد. لهذا قلنا من اليوم الأول لحراك المحافظات السنية: “هذا الحراك ليس حراكنا، إنما هو حراك أهلنا. وهذه الجولة ليست لنا، إنما القادمة إن شاء الله”. بمعنى أننا غير قادرين على قيادته وتوجيهه في اللحظة الحاضرة. وكذلك أي جهة أخرى ستقف عاجزة عن ذلك. وسينتهي نهاية لا يريدها الجميع.
12-الاستقراء
الاستقراء في اللغة يعنى: التتبع. وفـي الاصطلاح: استنتاج حكم كلي من تتبع جزئياته. وهو تام وناقص. فإن كان الاستدلال على الكلي بكل جزئياته؛ فهو استقراء تام، وهو قليل الوقوع. وإن كان الاستدلال على الكلي ببعض جزئياته؛ فهو استقراء ناقص وهو الأكثر وقوعاً. وهي عملية انتقال من الظاهرة إلى القانون الذي يحكمها.
عملياً يتم الاستقراء بقراءة عدة حالات ثم تعميمها.
والاستقراء أيضاً: هو استغراق النظر في مواطن الأثر، بحيث تستوعب مظان البحث دون استثناء. مثلاً دراسة أي ظاهرة من جميع جوانبها أو العناصر الفاعلة فيها. وهي من أعمق وأدق تِقنيات البحث، وطرق اكتشاف الأفكار الخفية، واستخلاص القواعد والقوانين، ومحركات الظواهر الاجتماعية والسياسية وغيرها. وهي دليل إثبات لها فـي الوقت نفسه.
مثلاً حياً من الأحياء فيه ألف عمارة. بعض العمارات ذات أربع طوابق وبعضها ذات ستة طوابق. لماذا هذا التفاوت المنتظم؟ هل من سر؟ عند الدراسة الميدانية تكتشف أن الدائرة المختصة لا تسمح بأكثر من الأربعة. لكن إذا كان البناء على مساحة منخفضة فيسمح بستة طوابق.
بالاستقراء اكتشفنا عدم وجود أصل للشيعة ثابت بنص محكم من القرآن. وبالاستقراء كان اكتشاف قاعدة (توسع الشيعة في الملذات وتضييقهم في العبادات)، وبه تم إثباتها. وباستقراء التاريخ كانت حقيقة أن حضارات العراق جميعاً دمرت على أيدي الفرس أو بواسطتهم. وأن تاريخ العلاقة بين الأمتين تاريخ صراع ودم، وأن الصراع حضاري في طبيعته وطابعه.
ومن طريف ما وقع لي هو أنني وجدت بالشواهد المتكررة أحاديث مدح الفرس مجروحة إما ثبوتاً وإما دلالة. فتفكرت يوماً في حديث مشتهر على الألسنة، طالما ردّدته على منبر الجمعة: (سلمان منا أهل البيت). فقلت: أشك في هذا الحديث، وأرى أنه موضوع؛ وهو يدخل في باب شنشنة الفرس في تعظيم كل ما هو فارسي، والغض من كل ما هو عربي. فحرضني ذلك على البحث عن صحة الحديث فقد يكون هذا من ذاك. فوجدته لا يصح وقد ضعفه جميع العلماء، وقال عنه الألباني: ضعيف جداً. وكذلك كل شخصية تاريخية أوغل الشعوبيون في ذمها فلا بد أن تكون أوغلت في أذاهم والضرب على أيديهم، لا لأنها سيئة في ذاتها. وسيدنا خالد ومعاوية رضي الله عنهما والحجاج والرشيد رحمهما الله أمثلة واضحة لذلك. ويندر أن يستبرئ من لم يستقرئ.
[1]– هذا هو اللفظ العربي الأصيل لكلمة (الكحول) قبل أن تنتقل إلى الغرب ويلوون بها ألسنتهم فتعود إلينا ملتوية.
[2]– سير أعلام النبلاء، 12/404، شمس الدين الذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405هـ – 1985م.
14. طول التأمل والنظر المستديم في الواقع والمتغيرات والظواهر
13. طول التأمل والنظر في الواقع والمتغيرات والظواهر
طول التأمل في الواقع والمتغيرات والتنقير عن جذورها وأسبابها والسؤال الدائم: كيف حصل هذا؟ وكيف نتجنب هذه المشكلة أو نعالجها؟ أو نحقق هذا الهدف؟ بهذه التقنية اكتشفنا – مثلاً – معادلة تحقيق الوحدة باتباع منهجية (النواة الصلبة)([1]).
المعاناة الحقيقية للواقع، وممارسة المعاناة الفكرية من أجل فهم الظواهر الجارية فيه، والتمعن في عللها، والمحاولة المستديمة لوضع العلاج الناجع لها، مع وضع الأفكار المعتصرة موضع النقاش مستفيدين من التجارب السابقة ونتائجها الراهنة، يضع اليد على خلاصات فكرية رائعة، لا يظفر بها أولئك المنعزلون عن الواقع، أو أولئك الذين يعيشون فيه لكنهم يصرفون عقولهم عن النظر الحر في وقائعه، ويسيرون على أفكار نمطية كأنها مقدسات لا تقبل الاقتراب منها، تكرر نفسها مع آثارها السيئة في دورة لا تنتهي.
ما زالت غالبية الزعامات التقليدية تحلم بإمكانية جمع أصحاب السياسة إلى حملة السلاح في منظومة واحدة. ويرددون عبارة (الجناح السياسي والجناح العسكري) وضرورة التحامهما معاً. وقد عملت أغلب الفصائل المقاومة على التعامل مع من يمتهنون السياسة وإسنادهم من أجل الفوز بمقاعد في مجلس النواب وتسنم قيادة بعض الوزارات والسفارات. ورغم أن الواقع يثبت ضعف جدوى هذه الطريقة؛ فإن هؤلاء ما إن يصلوا إلى هدفهم حتى يركلوا السلّم الذي تسلقوه وانفصلوا عن الفصيل الذي وقف وراءهم.. رغم ذلك ما زالت هذه الفصائل تكرر التجربة الفاشلة نفسها دون أن تفكر في بديل منتج يتجاوز بهم النفق الذي تدهوروا إليه؛ فهم يسيرون من سيئ إلى أسوأ. والنتائج السيئة التي حصلت عليها تلك الفصائل جراء المشاركة في (جبهة التوافق) سنة 2005 لم تمنعها من إعادة المحاولة في (القائمة العراقية) سنة 2010 ثم (قائمة متحدون) في 2014 دون التفكير في حل آخر!
لقد فات هؤلاء أن الأجنحة لا تلصق بالغِراء لصقاً، وإنما تتفرع عن جسم نبتت فيه أصلاً. وإن اقترب هذان الجناحان من بعضهما يوماً، فلمصلحة عابرة سرعان ما تمر فيفترقان. وأن أصحاب المال والسياسة لا يؤتمنون؛ كلاهما تاجر يريد الاستثمار في مصرف السلاح. وأن القيادة لمن يملك المال. وفاتتهم قواعد كثيرة ومعقدة يحتاجون إلى استحضارها كي يبحثوا لهم عن خلاص.
وفاتهم الشيء الأهم من هذا كله، ألا وهو أن الجسم المنبِت للجناحين الجامع لهما مفقود؛ فمن أين ينبت جناح فضلاً عن جناحين؟! ولو كانت لهم عقول حرة متحركة خصبة مشدودة النظر إلى الواقع لعرفوا، أو على الأقل لم يكرروا تجربة كل دلائل الواقع وشواهده تثبت أنها فاشلة!
إن أصل النجاح في منظومة التغيير الشامل هو الجسم المدني. وفي هذا الجسم -بعد تكوينه – يستنبت الجناحان: السياسي والعسكري، ومنه يخرجان، وعنه يتفرعان، وفي حضنه ينموان، وبرعايته يمتدان في الفضاع الرحب وهما يخفقان براية النصر. وتحت قيادته يبقيان على الدوام.
14.واقعية التفكير
لا يتحول العلم إلى معرفة، أي لا يكون راسخاً مرناً منتجاً أقرب للصواب، ما لم يكن نتاج الواقع أولاً، ثم يعرض للتجريب في ذلك الواقع كي يتم تعديله وتحسينه وإخراجه في صورة أقرب ما تكون للصواب. ثم يترك مفتوح النهايات للتطوير والتغيير. من فوائد الواقعية في التفكير التفريق بين الحلم كحالة تزرع الأمل وتشيع التفاؤل ونكتشف في أجوائها الأهداف، وبين أن نتوهم أننا نعيشه واقعاً. فمن عاش الحلم كواقع تحول الواقع البائس الذي يحلم بتغييره إلى حلم يتمناه ولا يلقاه.
الفكر القومي عاش حلم (الأمة العربية) كواقع فلم يزده العمل طبقاً إلى هذا الوهم إلا تردياً وبعداً عن الهدف، وصار الواقع القديم الذي كان يرفضه أمنية هيهات أن تعود، وحالة تبعث الحنين، وحلماً يتراءى للناس في يقظتهم يتمنون عودته يوماً من الأيام ويسمونه بـ(الزمن الجميل). الشيء نفسه حصل مع الفكر الإسلامي الذي يكرر كلمة “الأمة” و”أمة الإسلام” وكأنها واقع معاش، وعندما فتح الناس أعينهم وقد أفاقوا من ذلك الحلم الشفيف وجدوا العدو يستبيح بيوتهم وأعراضهم، ولا من أمة تقف معهم، أو تسمع نداءهم، أو تشعر بوجودهم!
لهذا نقول: “إذا أردت فكن”. التكوين يسبق الإرادة. فمن لم يكن له كيان لا إرادة له، ولا أحد يصغي له. الجميع يرددون: نريد كذا ونريد كذا. لكن كم منهم أدرك هذا القانون فعمل لتحقيقه: “إذا أردت فلا بد أن تكون”؟
والواقعية تمنح الفكر القدرة على التلاؤم مع المحيط بأقل التكاليف. وهذا أحد أسرار سماحة الإسلام، وبعث النبي e “بالحنيفية السمحة”. وتغير الفتوى بحسب الزمان والمكان والأعيان. الواقع هو الذي دفع شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من العلماء إلى إطالة النظر في نهي النبي e المرأة عن السفر إلا مع محرم، ليستنبطوا أن علة النهي الخوف على المرأة؛ فقالوا بجواز سفرها دون محرم عند توفر الأمن.
والحاجة إلى تيسير حركة المرأة ماسة من أجل تمكينها من القيام بدورها في عملية التغيير والإنقاذ. واشتراط صحبة المحرم في كل سفر يقيد المرأة ويعيقها عن المشاركة الفاعلة في الإنقاذ، ويزيد من الحرج والتكاليف.
14.اتباع قاعدة ” الطبيب وليس الخطيب “
الطبيب بطبيعة مهنته إنسان عملي؛ يستمع إلى المريض ليكون فكرة عامة عن مرضه ويحصر التشخيص في احتمالات محددة، ثم يقوم بفحصه فتضيق دائرة الاحتمالات، ثم يجري له تحاليل مناسبة فتضيق الاحتمالات أكثر. وهكذا حتى يقع على العلة. فإذا تم له ذلك دخل في مرحلة العلاج توصيفاً، أو تطبيقاً بالإضافة إليه. فتجد الطبيب مشدود الانتباه إلى التشخيص أولاً، ثم وصف العلاج ثانياً، ثم قد يحتاج إلى مزاولته ثالثاً. وتأتي كلمات التطمين كمس على رأس، أو نقش على عرش.
بينما تجد الخطيب مستغرق الهم في بعث حماس السامعين، يحلق بهم في الأعالي، لكنه لا يحسن النزول بهم إلى الأرض. يبني قصوره في السحاب، ويغرس وروده في الضباب. يرسم الأهداف الكبيرة، ولا يضع لهم خطة ولو صغيرة. يهدد ويوعد، لكن زبداً. ويرغي ويزبد لكن بدداً، ويبرق ويرعد ولكن خلباً. كم شهدت ساحات الاعتصام طوال سنة 2013 من خطبة عصماء وخطيب مِصقَع! تدوي تكبيراتهم في ذلك اليباب كأنها قذائف المدافع! يعدون الوعود وينثرون البشارات، حتى قال قائلهم: “والله لينصرنكم الله لأنكم على الحق” قلت: أعوذ بالله من سخط الله؛ ما هذا التألي على العليم الحكيم! وكررها في أكثر من منصة، في أكثر من جمعة. وما هي إلا قليل حتى هبت الرياح على تلك الخيام – وا أسفاه! – فأحالتها خراباً، ولم ينتصر لهم الله!
وهكذا نحن منذ أكثر من مئة سنة! خطباؤنا أولى الناس بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف:2،3)! والسبب أنهم اقتسموا الدين وقسموه فولوا وجوههم شطر (الإيمان) وأداروا ظهورهم لشطر (النصرة). ثم كروا على ما تبقى فشطروه صنفين، أخذوا منهما ما لا يزعج الطرف الشيعي؛ فأخذوا من التوحيد – مثلاً -عمومياته، وتغاضوا عن إنكار شركهم وأباطيلهم، والنكير على طقوسهم وعباداتهم، وخرسوا فلم يتهموهم قط بكل ما حصل للسنة من فظائع، إنما رموا بذلك -عند الاضطرار إلى الكلام -على المليشيات وأمثالها.
لقد كانوا -والاستثناء لا ينكر -أجهل الناس بقوله تعالى: (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران:81). ومن لم يأخذ الدين (نصرة) لا يجد نفسه في حاجة إلى معاناة العمل الذي ينهض بالمجتمع، وذلك هو الشطر الأصعب من الدين، الذي يستدعي التفكير العميق لوضع الفكرة وتعيين الهوية وتحديد الأهداف ورسم الخطط وتهيئة الموارد وإعداد العاملين وتحشيد الأتباع وكسب المؤيدين. لهذا يجنح معظم المتدينين إلى الاهتمام بشطر (الإيمان)، من جانبه السهل المتيسر. وهذا في الأعم الأغلب لا يحتاج لأكثر من المواعظ والكلام. وعلى رأس هؤلاء هم الخطباء، فكانوا يقولون ما لا يفعلون! ومن كان كالخطيب في علاقته بقضيته جمد عقله وعقم فكره، فكان أبعد الناس عن تخليق الأفكار. إنما هذا شأن من نظر إلى المجتمع نظر الطبيب إلى المريض، فشخص المشكلة الكبرى، ووضع لها مقترحات الحل، وشمر عن ساعديه لتجربة أي المقترحات أنفع، وأي العلاجات أنجع.
[1]– معادلة توحيد القوى المتكافئة: النواة الصلبة ثم البؤرة الجاذبة ثم الكتلة الغالبة.
17. الشخصية الحرة
- الشخصية الحرة
الأحرار وحدهم يبدون استعداداً للقيادة.
القيادة تعني تحمل مسؤولية الأتباع. ومعظم الناس يتهربون من المسؤولية فيفضلون التبعية والعيش في ظل مسؤولية الغير، وهي من خصال العبيد. وكلما كان المرء أكثر إحساساً وشغفاً بالحرية كان أكثر استعداداً للقيادة. والفكر الأصيل أول صفات القائد، لهذا لا يكون القائد قائداً حتى يكون حراً في كلمته لا يقبل السكوت عليها، ولا يرضى أن تفرض عليه من فوق. من هنا كانت الشجاعة الأدبية من لوازم الفكر القائد؛ فما فائدة فكر صاحبه متردد أو جبان. لهذا يتبع الناس الشجاع المقدام، ويفضلونه على المتردد الجمجام وإن كان أذكى عقلاً وأعمق فكراً.
كان من أسباب قوة مشروعنا تصريحنا منذ وقت مبكر، وقبل الجميع بعبارات وأفكار لم يجرؤ أحد عليها. مثل التصريح بالسنية وعداوة الشيعية، والدعوة اللحوح للفدرالية. حتى إذا دار الزمان وصار الجميع يتكلمون بها ظهر تميز السبق في استشرافه ودقته وقوته.
- الفكر الحر
يحتاج المبدع للأفكار إلى أن يكون إنساناً حراً في فكره، ذا عقل ناقد، بعيداً عن خاصية التقبلية التي تجعل صاحبها مشلول العقل أمام الأفكار الصادرة من العظماء، شعاره “من أنا حتى أنتقد؟”. لكنه مع ذلك يدرك الفرق بين احترام الرأي وتقديسه. يفهم أن قوله تعالى عن المهاجرين والأنصار: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) (الحشر:10) يعني لا أحد فوق الخطأ غير النبي e ولو كان خيرة أصحابه y؛ فالاستغفار مع معرفة ما يستغفر لهم منه؛ يستلزم ممارسة التصحيح من جانبه الفكري والعملي.
كان شيخ الإسلام حر التفكير؛ لهذا أبدع في الفكر والفقه وكان إماماً من أئمة التغيير والتجديد، احترم من سبقه من العلماء لكن هذا لم يمنعه من النقد والتصحيح والإضافة، وإن دفع حريته ثمناً لذلك. ونظرنا في كتابه (منهاج السنة النبوية) فوجدناه من أفضل ما كتب في الرد على الرافضة. لكن هذا لم يمنعنا من النظر أكثر، فوجدنا الحاجة ماسة إلى أن نفصل بين منهجية نقاش السنة في اختلافهم بين بعضهم، ومنهجية نقاش الشيعة في خلافنا معهم. إن خلافنا مع الشيعة أصولي لا فروعي. وهذا يكفي في حسمه كلمة واحدة: هل الأصل المتنازع عليه يستند إلى دليل محكم من نص القرآن؟ وإذ تفتقر كل أصول الشيعة إلى هذا الدليل فهي باطلة. بينما مجمل اختلاف السنة فيما بينهم فروعي، والفروع يمكن الاستدلال عليها بالدليل الظني من آية تحتمل التأويل، وحديث ظني الثبوت والدلالة، ورأي يرى صاحبه رجحانه، وقياس وغيره من الأدلة المتعارف عليها بين العلماء. وهذا كله خارج دائرة الأصول التي من شرطها أن تكون منصوصاً عليها صراحة في القرآن بالدليل المحكم الذي لا يقبل الاختلاف في الفهم. وقد كتبنا في بيان هذا التفريق المنهجي رسالة (القواعد السديدة في إثبات أصول الشريعة والعقيدة) وطبقناها في كتاب (المنهج القرآني الفاصل بين أصول الحق وأصول الباطل).
هذا التفريق الفاصل بين منهجية نقاش السنة ومنهجية نقاش الشيعة لم يكن حاضراً في كتاب (منهاج السنة) لابن تيمية. وليس ذلك بضائره، ولا هو ممنوعاً علينا. وتفسيرنا لغيابه هو أن شيخ الإسلام عاش في بيئة لا يكاد الشيعة يوجدون فيها، ومن وجد منهم أسرّ بدينه ولم يبده، سوى قلة مقموعة في الجبال. حتى إن تأليفه للكتاب لم يكن بدافع ذاتي منه، وإنما بناء على إلحاح متكرر من الناس، كما ذكر هو ذلك صريحاً في مقدمته. هذا البعد النسبي عن معاناة البيئة الشيعية من الطبيعي أن يُضعف لدى الذهن خاصية التحفز الدائم للبحث والتدقيق. فكانت المنهجية واحدة، وإن جاءت النتائج عظيمة لسعة علم الشيخ وفرط ذكائه وسيلان ذهنه. لكن وضع منهجية جديدة خاصة بالشيعة أضافت وأغنت ومكنت السنة حتى العامي من الرد على علماء الشيعة وبطريقة (الضربة القاضية) دون الحاجة إلى تلك البحوث الشائكة والعلوم المركبة التي لا يحسنها إلا طلاب العلم وشيوخه.
- إعادة النظر في المسلمات
وقريب من صفة (حرية الفكر) صفة القدرة على إعادة النظر في المسَلمات القديمة أو الشائعة، بتفحصها قبل أن تبنيها. وهذا يمنحنا فرصة اكتشاف الفجوات والأخطاء الموجودة فيها. فمن المسلمات الخاطئة بسبب قصورها قاعدة (بدل أن تلعن الظلام أشعل شمعة)، وهذه ما لم تخصص بالقاعدين الذين لا يحسنون غير النقد لها آثارها الخطيرة، فهي التي أنتجت الفكر الترضوي الانهزامي. بل الأصل في بناء الحق أن يُهدم قبله بناء الباطل: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:256).
ومنها القول بأن (قوة العراق في وحدته)؛ فإن هذا القول مستخلص بسذاجة من الأصل المتعارف عليه وهو أن قوة الأشياء في توحدها. دون مراعاة وجود الشيعة في العراق الذي يشبه السرطان بلا فرق؛ والسرطان يبتعد عنه لا يتوحد معه.
ومن المسلمات الاجتماعية التي تدل على بساطة التفكير اعتقاد أن عملية الإنقاذ تبدأ من توحيد الفرقاء؛ بناء على ذلك الأصل. لكن يفوتهم أن (القوى المتكافئة متصارعة بطبعها). فالسبيل إلى توحيدها ليس الوعظ والنصح المجرد والدعوة إلى الجماعة وعقد المؤتمرات والندوات لذلك، دون وجود قوة جامعة تفرض على المجتمعين ما يفرضه الدين والمنطق عليهم قبل ذلك.
التقيت مجموعة من الإخوة السوريين نهاية 2006 من ذوي التوجه (الإسلامي)، فأبدوا استغرابهم من تفرق فصائل المقاومة العراقية. ابتسمت في داخلي من تفرقهم الذي أدمنوا عليه حتى ما عادوا يحسون به، لكنني لم أشأ مجادلتهم في أمر ينكأ جراحهم. قلت لهم: الاجتماع في حاجة إلى عناصر وآليات وظروف، ما لم تتحقق لا يكون. قالوا: أليست فصائل المقاومة في معظمها إسلامية والله يدعوهم للتوحد؟ فقلت: ما بالإيمان وحده يكون التوحد؛ ولو كان الصحابة أنفسهم اليوم في العراق وقد تعرضت دولتهم للزوال ففقدوا الرأس الجامع ما توحدوا. فبدا أنهم استكبروا هذا الكلام واعتبروه جريئاً وقالوا: كيف تقول هذا؟! قلت لهم: يا إخواني، لما اختلف الصحابة وتكافأت قوتهم تفرقوا واقتتلوا، فكانت وقعة الجمل وصفين وغيرها حتى ضم الحسن قوته إلى قوة معاوية فذابت بقية القوى وتمت الوحدة فكان عام الجماعة. وليس في العراق اليوم ما يجبر قوتين على التوحد، ولو توحدت قوتان لن يكونا القوة الأكبر والله المستعان. لم يقتنع الإخوة بقولي يومذاك. ومرت الأيام فوقع السوريون بأشد مما وقع فيه العراقيون من الفرقة والاختلاف والاقتتال! ولله الأمر من قبل ومن بعد.
- النقاش المفتوح
ذات جمعة لم تتح لي فرصة لمناقشة مادة الخطبة التي سألقيها بعد بضع ساعات. التفت إلى ابني محمد ذي أربع السنوات فصرت أدردش معه بما يتناسب وعقله في نقاط تتصل بالخطبة، فقال كلمات قدحت في ذهني فكرة طريفة ما عادت ماثلة في ذهني، ذكرتها على المنبر.
معظم المحاضرات والخطب وجميع المؤلفات أخضعها للنقاش المشترك مع من أتوسم فيه الكفاءة أو الفائدة. وقد يكلفني ذلك شد الرحال لسفر يستغرق في السيارة ساعات ذهاباً وإياباً. وقد استفدت من هذه التِّقنية فوائد لا تقدر بثمن أبداً. وأقرب مثال على فائدة النقاش في قدح الفكر وإنتاج الأفكار البديعة هذا الموضوع الذي بين يديك (تفجير طاقة التفكير)؛ إنه وليد اجتماعين أو ثلاثة اجتماعات ضمت عدة أشخاص كان طابعها الحيرة والتفكير العميق في شأن إعداد مادة ورشة تدريبية عن أمر غير مطروق، فكان هذا الموضوع أحد مواد الورشة. وقد ولد ولادة عسرة بدأت بخربشات على صفحة ورقة نتجت عن خربشات سبقتها. جلست – بعد ذلك – أعيد استيلادها وكتابتها مرة أُخرى وأُخرى حتى استتمت على هذا الشكل، الذي أتركه مفتوحاً للتتغيير والتطوير.
- العصف الذهني
العصف الذهني تقنية فكرية تعتمد على قاعدة “الكم يولد الكيف”. وذلك بتوليد أفكار كثيرة من خلال مجموعة من المشاركين، يطرحون كماً غير محدد من الأفكار العفوية حيال مسألة ما، دون توجيه أي نقد لأي فكرة مهما بدت غريبة أو شاذة أو ساذَجة، وتعليق الأحكام عليها إلى نهاية الجلسة.
ولها ثلاث مراحل أساسية هي:
1 ـ تحديد المشكلة.
2 ـ توليد الأفكار وتقييدها.
3 ـ إيجاد الحل.
بهذه الطريقة تنبثق أفكار كانت مكبوتة أو مخفية بسبب الثقافة السائدة، وقد يكون الحل والإبداع فيها.
- وجود بيئة التفكير القيادي
من الصعب إيجاد فكر قيادي يقوم على الإبداع، وتنميته، وتحويله إلى روح تسري في الجمهور، لا مجرد سطور في كتاب.. دون وجود بيئة تحتضن هذا الفكر وتشجعه وتوفر له مستلزمات النمو والنضوج، وتفتح له قنوات البلوغ إلى أبعد نقطة ممكنة في المجتمع. تقوم هذه البيئة على الأسس التالية:
أ. الحرية: وتعني توفير الأجواء المشجعة لإبداء الرأي بالحث عليه أولاً، واحترامه مهما بدا غريباً أو خارجاً عن المألوف، وشكر صاحبه لمجرد إبدائه.
ب. احترام أعضاء المؤسسة وتقدير عملهم والثناء عليهم.
جـ. إشاعة النصيحة وتشجيعها. ولم أجد كالنصيحة بشروطها شيئاً طارداً للغيبة وسريانها في جسد المؤسسة.
- قلب العبارات المشتهرة
بعض الأفكار البديعة تنتج من قلب العبارات أو المعاني المشتهرة، أو التي تطرح أثناء الحديث أو النقاش.
فعبارة مثل (فاقد الشيء لا يعطيه) كثيراً ما تكون سلبية معرقلة، لا يصح تداولها إلا في نطاق محدود في العمل القيادي. ويمكن قلبها إلى (بل فاقد الشيء يمكن أن يعطيه). وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (البلد:11) خطاباً لمن لا يملك مالاً ومع ذلك يحضه الرب سبحانه على اقتحام عقبة كبيرة، أتدري ما هي؟ (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد:12-16)! وكيف لفاقد المال أن يفك الرقاب ويطعم اليتيم القريب والمسكين التريب؟ هل يمكن ذلك؟ نعم يمكن لفاقد المال أن يعطيه ويستحصله ما دام يملك عينين يرى بهما المحتاج فيتقبض قلبه ويحرك لسانه وشفتيه ليدعو القادر على ذلك إلى سد حاجة المحتاج: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:8-10)؛ بل يمكن أن يكون مثل هذا مصلحاً اجتماعياً مؤثراً: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) (البلد:18،17).
ومؤسستنا نشأت من (تحت الصفر)، أي فاقدة لكل شيء. ومع ذلك أعطت وتعطي، وما زلنا ننتظر عطاءها الأكبر بإذن الله تعالى (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم:4).
وقلبنا شعار (لا للطائفية) إلى (نعم للطائفية) منذ سني ما قبل الاحتلال؛ فالطائفية لا تُفَل إلا بمثلها. ثم إن الانتساب إلى (الطائفة المنصورة) الذين هم أهل السنة عز وفخر. وعند التقابل فأهل السنة هم الأمة وغيرهم الطائفة. وها هي الأمة تؤوب إلى نهجها وتثوب لرشدها فتتبنى ملجأة – وا أسفاه! – هذا المنهج العزيز، وستذوق ثماره الطيبة بعد هذه السنين العجاف إن شاء الله.
- اختصار المعاني الجليلة بكلمات قليلة
من أهم صفات الفكر البديع قدرته على اختصار المعاني الكثيرة بكلمات قليلة. مثل: (مشكلتنا شرقية لا غربية، السنة عبادة بلا قضية والشيعة قضية بلا عبادة، الإقليم تنظيم لا تقسيم، القوى المتكافئة متصارعة، حتى تريد لا بد أن تكون وحتى تكون لا بد أن تتكون، إذا تمكنت من قيادة السنة كنت على قيادة العراق أقدر، الثورات فاقدة للصلة بين المحرك والمتحرك..) وهكذا. وهذا يدخل في باب يسميه النبي e (جوامع الكلم) فقال: (أعطيت جوامع الكلم)([1]).
- حسن الصياغة اللغوية
العلاقة بين الوظيفة والجمال ظاهرة كونية ورابطة حميمية. فكل شيء خلق لأداء وظيفة يؤديها بإحكام، لكنه ركب على هيئة جميلة. والتوازن بين إحكام الوظيفة وجمال الهيئة واضح في خلق الله. والمعاني العميقة ما لم توضع بقوالب من الألفاظ جميلة لا تعطي الأثر المنشود. لهذا تكلم البلاغيون عن العلاقة بين اللفظ والمعنى. وقسمموا البلاغة إلى محاورها الثلاثة المعروفة (المعاني والبيان والبديع).
وفي فكرنا المؤسسي نحرص على ذلك عاية الحرص؛ لذلك نتخير للمعاني والمعادلات العميقة صياغاتها الجميلة. مثل: (الخروج على النظام من أجل النظام نظام، القائد رائد، من لم ينفعه نور الوحي أدبته سياط القدر، الفقه فقه النوازل لا فقه الأوائل، المجدد هدام بناء، المال ليس أولاً ولكنه ليس ثالثاً…).
[1]– رواه مسلم عن أبي هريرة. وفي رواية للبخاري بلفظ (بعثت بجوامع الكلم).
عقبات
عَقَبَاتٌ .. فِـي طَرِيقِ القَائِد
تبرز أمام القائد ثلاث عقبات مطلوب منه اقتحامها وتجاوزها بنجاح: (رؤية العمل، والعائلة، والوظيفة). وإذا كانت المسؤولية على قدر العنوان فما نقوله هنا يتعلق بـ”القائد الأصيل”، الذي لا تنهض المؤسسات التجديدية إلا بهذا الطراز من القادة الذين هو منهم.
- رؤية العمل
أما رؤية العمل فالمقصود بها أن ينظر العامل إلى حجم عمله فيجده كبيراً يزيد على ما هو مطلوب منه – كما يتهيأ له – بحيث ينتج عن هذه الرؤية حالات مرضية قد تفسد أصل العمل وتذهب به (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (إبراهيم:18). وهذا مخالف للأصل؛ فمن أذكار المسلم في الصباح والمساء فيما رواه البخاري عن شداد بن أوس t ما سماه النبي e (سيد الاستغفار) وفيه (أَبوءُ لَكَ بِنِعْمتِكَ علَيّ، وأَبُوءُ بذَنْبي). ومعنى “أَبُوءُ” -كما في لسان العرب -أُقِرُّ وأحتملُ وأَرجع. ومن معانيه العدل والتكافؤ والمساواة. فهو اعتراف بأنه ليس من العبد إلا الفقر والذنب، وليس إلا نعمة الله تعالى عليه تحيط به من كل جانب؛ فما عمل من عمل فهو بتيسير الله فضلاً منه ونعمة، وإن قصّر فمن نفسه يقر بذنبه راجعاً به إلى ربه محتملاً إياه يسأله أن يعفو عنه فضلاً، ويطلب منه أن لا يعاقبه عدلاً. وكأن حقيقة العلاقة فيها كفتان: كفة ليس فيها إلا الفضل، وكفة ليس فيها إلا الذنب! فكيف يرى عبد عمله وهو يستحضر هذه المعادلة؟
وليس معنى هذا إعدام الرؤية من الأصل، وإنما ضرورة انتفاء ما يصاحبها من حالات مرضية أخطرها:
أولاً: المنُّ بالعمل في نفسه أو على أعضاء منظومته. فإن المن بالعمل دليل رؤيته واستكثاره. وهذا من أول ما نهى الله تعالى عنه نبيه e لحظة أن كلفه بتبليغ رسالته فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ * فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (المدثر:1-10).
فقد جمعت هذه التوجيهات مؤهلات الداعي (وهو القائد) النفسية، التي من دونها لا يمكنه تحمل مسؤولية النذارة أو أداء مهام الرسالة، وهي:
- تعظيم الله سبحانه وتكبيره فيتصاغر لدى المؤمن كل كبير عملاً كان أم غيره.
- طهارة الثوب والاهتمام بالمظهر الذي يجذب المدعوين، ولا يكون عاملاً مضافاً من عوامل تنفيرهم، وهذا يستلزم طهارة الباطن من باب أولى؛ فذلك موضع نظر الخلق، وهذا موضع نظر الرب.
- هجر الرجز أي الذنوب، وهو لغة في الرجس، أو هو العذاب النازل بسبب الذنوب؛ فعبر بالمسبَّب وأراد السبب. وذلك طهارة الباطن.
- عدم المنّ بالعمل استكثاراً له؛ فمن استكثر فقد منّ. وكيف يستكثر من ربَّهُ يُكبّر!
- الصبر لله.
- ثم النظر في المآل وهو يوم القيامة.
ثانياً: الضيق بالنصيحة، والانزعاج من النقد. وهذا مؤشر خطير على وجود بذور الشرك الخفي؛ فعلى صاحبه الإسراع بنبشها قبل هبشها.
ثالثاً: التطاول الخفي أو العلني على أقرانه.
رابعاً: التذمر من إرهاق العمل لا بطريقة العرض الهادف والنقاش الهادئ، وطلب الإعفاء من بعض الأعمال الزائدة، وإنما بطريقة الشكوى وتحميل أقرانه أو مسؤوله تبعية انشغاله وإجهاده، وربما ذكر تقصيره في حق نفسه وأهله نتيجة استغراقه. لا سيما إن كان ما يعمله يعمله باختياره، ولم يلزمه أحد بأدائه.
من أراد أن يكون (أول المسلمين) فليعط الأولية استحقاقها:
دَبَبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا فَكَابَدُوا الْمَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ |
لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُــــــهُ لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْــدَ حَتَّــى تَلْعَقَ الصَّبِـرَا |
خامساً: تفسير تفوق غيره في العطاء دون ظهور بادرة تذمر منه بأنه يتمتع بأسباب خارجية، لا إلى مزايا ذاتية تعينه على ذلك. وهذا مخالف لقوله تعالى: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران:165) وما في بابه من الآيات. يعود سبب هذا التفسير إلى جذور نفسية قد يكون أساسها صحيحاً وهو الثقة بالنفس والاعتداد بها والتبرم بتفوق الغير عليها ما دام دافعاً لصاحبه إلى التنافس المحمود. لكن حين يتضخم هذا الأساس في غفلة من صاحبه يتحول إلى طغيان خفي، وإهمال لردم الفجوات ومعالجة للعلل الداخلية.
هناك حالة يوجه فيها النقد إلى رأس المؤسسة بطريقة غير مقبولة، منها ما يكون مستنده دعوى تمتعه بمزايا خارجية كالنفوذ أو العلاقات أو المال، يرجع إليها سر تفوقه الذي ينبغي أن يكون من مميزات رأس المجموع؛ وهذه – كما يبدو – عبارة عن دفاع سلبي مبطن عن الذات ناشئ عن رغبة خفية في التقليل من شأن الجميع. وقد لا يكون التقليل مقصوداً لذاته، وإنما رغبة في التوصل إلى الدفاع عن تقصير الذات وإرضائها بنوع من الشعور بالتفوق، وإظهار ذلك للآخرين. وكأن عقله الباطن يهجس له قائلاً: لولا تلك التسهيلات والأسباب الخارجية ما زاد عليك رئيسك، ولو جُرد مما حرمت منه لكان دونك. فكيف بمن دونه في المرتبة!
في خريف/2008 كنت أدرس حالة شخص هو من أقل العاملين معي إنتاجاً، وأبطئهم عملاً، وأكثرهم كلفة، وأشدهم تذمراً وشكوى تسبب في مشاكل جمة أثرت على آخرين معه. فتوصلت بعد التفكر والنقاش إلى أننا أمام حالة تقصير وصلت إلى درجة القعود من شخص يبدو أنها أقلقته وأزعجته، لكنه يصعب عليه أن يواجه نفسه بما هي عليه من حالة لا يرضاها، ثم هو -لسبب ما -لا يريد التخلص مما هو فيه بالطريقة السليمة. هنا يأتي دور الحيل النفسية للعقل الباطن من أجل التخلص من الضغط الداخلي الذي سببته له هذه الحالة؛ فلم يجد خيراً من (إسقاط) ما هو فيه على غيره على العاملين معه وسيلةً يتخفف بها من القلق والإنزعاج. ثم لا أفضل من أن يكون رأس المؤسسة هو أول من يتوجه إليه بهذا (الإسقاط)؛ لأن هذا يجلب له غاية الراحة، ويمنحه العذر الكافي لتبرير تقصيره وقعوده؛ فإذا كان القدوة هو العلة الأساسية لما يعاني منه ويلام عليه؛ فلا يمكن لنفسه -بعد ذلك -أن تؤنبه، ولا لأحد أن يلومه على تقصيره؛ لأن ما هو فيه سيبدو تحصيل حاصل، ومن باب أولى.
وتأملت في العلاج فوجدت وصفته في أمرين:
- إرشاد العامل وتشجيعه على طرح معاناته أو اعتراضه بالصورة المقبولة بعيداً عن التشنج.
- تحديد المهام تجنباً للإرهاق؛ فقد يكون الشاكي على حق، ولا عجب ولا بأس ما كانت شكواه لماماً وأسلوبه تماماً. فمن زاد طوعاً لا كرهاً في عمله، فلا يُحملنَّ أصحابه مسؤولية عبء هو اختاره لله بنفسه، وليكن هِجِّيراه: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) دون ضيق، أو يتخفف منه بالطلب الرفيق. وليستحضر خصال القائد الرسالي في أول سورة (المدثر). وإنما يكلف المرء على قدر عنوانه.
ودون ذلك ربما وصل المرء إلى أخطر الحالات وهي:
سادساً: الانقطاع عن العمل بالكلية. وربما زاد فهجر سربه هجراً غير جميل، وسلق صحبه بلسان طويل صقيل. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
- العائلة
تأتي الزوجة على رأس العائلة في عملية التعويق؛ فالمرأة – بحكم طبيعها وظروفها –عادةً ما تكون بعيدة عن أجواء العمل القيادي بحكم ، وتأثير الثقافة الشائعة. وربما كانت الزوجة رقيقة الدين، تغلِّب الدنيا على الآخرة؛ فبدلاً من أن تكون عوناً لزوجها على دينه وقضيته تكون عبئاً عليه وعائقاً في سبيله. وهذا غالباً ما يؤدي إلى ضعف في تقييم الموقف؛ فينتج التذمر من طول غياب الزوج عن البيت. وقد يكون التذمر طبعاً لدى بعض النساء فتكثر منه حتى تسوء العلاقة البيتية فيتأثر الزوج بنسب متفاوتة، إن لم يقتنع تمام الاقتناع بما تقول له وتهجس به إليه فيتباطأ وقد يتوقف فينقطع عما كان عليه من قبل من عمل يمثل البطاقة الأرجح في ميزان الحسنات والخطوة الأفسح في سلّم الدرجات. وفي ذلك يقول سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:14-16): قال ابن كثير في تفسيره ما مختصره: بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون). وقال مجاهد: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه. وذكر في سبب نزول الآيات عن ابن عباس قال: هؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله e فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدَعوهم. فلما أتوا رسول الله رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهمّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هذه الاَية (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم)([1]). إ.هـ.
فذكر فتنة العائلة (الزوجة والولد) إلى جانب فتنة الوظيفة (ممثلة بالمال) وحذر منهما معاً. ثم وضع العلاج المناسب لهما، وهو مركّب من ثلاثة عناصر:
- الأمر بحسن التعامل مع العائلة وذلك بالعفو والصفح والمغفرة.
- حث الزوج أهله على العمل في السبيل نفسه الذي يسير هو فيه. وذلك من مفردات عموم التقوى المنوه عنها في قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ويؤيد هذا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) (التحريم:6)؛ فوقاية الأهل من التقوى المأمور بها.
- الإرشاد إلى أن يتقي المرء ربه قدر استطاعته، ولا يحمل نفسه فوق طاقته، فيقصر في حقها وحق عائلته. وليكن نشاط القائد خاضعاً لقاعدة (ساعة وساعة)([2]).
فإذا فعل الرجل هذا ثم استمرت العائلة على ما هي عليه، فهو على مفترق خيار: أن يبتغي أي حل آخر ليحافظ على مستواه ويترقى فـي مسراه. أو أن يستمر في تأثره وتعثره فلا يحسبن نفسه من ذلك الطراز من القادة، الذي تتجدد به الحياة، وتنتصر الدعوات.
- الوظيفة والانهماك في العمل
قد يبدأ الشاب حياته داعياً نشيطاً، يؤمن بأن الحياة الحقة هي ما كان صاحبها يعيشها لأداء رسالة. وينتهي قائداً في مؤسسة قبل أن تثقله الوظيفة بأعبائها، أو يكرثه العمل من أجل الكسب بمطالبه. حتى إذا ابتلي ببعض ذلك أو كله بدأ بالتباطؤ شيئاً فشيئاً والتنصل عن مسؤوليات هو تحملها، وهي التي أهلته للقيادة. وربما كان الكسب من أجل كماليات الحياة والتأثل منها، لا من أجل ضرورياتها وحاجياتها. فيؤثر العاجل على الآجل مع رغبته في تصدر العمل القيادي، وينسى أن جدارته التي كان عليها هي التي رشحته للصدارة. وهو اليوم يتطلب صدارة بلا جدارة؛ وهذا لا يكون. وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن:15). وهي حالة خطيرة تنشأ من الغفلة إذا طال أمدها، حذر الله تعالى منها الصحابة أنفسهم y، فكيف بغيرهم! فقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).
ما نحتاجه ركناً للمؤسسة وشرطاً لدوام حيويتها وقدرتها على التجدد والإبداع المستمر هو وجود ما يكفي من طراز “القائد الأصيل”، ووضع الضوابط لعدم صعود “القائد الوكيل” إلى رأس المؤسسة. هذا هو الذي يحافظ على قيادية المؤسسة وعدم تحولها إلى مجرد إدارة مهمتها التنفيذ دون القدرة على التوجيه والتعديل.
- نظرة الجمهور التقديسية إلى القائد
من أعظم العقبات في طريق القائد نظرة الجمهور التقديسية إلى لقائد. وجذورها العميقة تنبت في تربة التثقيف الديني المِنبري، والطرح الوعظي الاستعراضي، والقَصص الشعبي، والإعلام بجميع أشكاله. وكلها تقوم على تضخيم صورة القائد في ذهن المتلقي، وتصويره كتمثال بِلَّلوري يشف صفاء ويشع بهاء. لا ثلمة فيه ولا أسرار أو حيثيات خاصة تعتريه، سوى هذا الذي يظهر للعيان.
عندما ينظر المعاصرون للقائد والمقربون منه فيجدونه مغايراً لما ثبتت في ذاكرتهم من صورة قدسية له، تقل منزلته في نفوسهم ويتضاءل أثره في القدرة على قيادتهم، فيزهدون فيه ويبحثون عن غيره في دائرة لا تعرف مبتداها من منتهاها. أخيراً يجد القائد نفسه بين خيارين: إما استعمال القوة أو التسليم. وهو إلى الخيار الأول أقرب.
الشعوب المتخلفة هي التي تصنع الصنم.
إن هذا مخالف للمنهج الرباني في التربية. فالقرآن الكريم يطرح القائد بشراً يخطئ ويصيب. ولم يستثن من ذلك الأنبياء عليهم السلام.
وذكر أهل بدر رضي الله عنهم فكان أول شيء ذكره عنهم اختلافهم في قسمة الغنائم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأنفال:1)، وترددهم في القتال: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (الأنفال:5،6). ولم يكن هذا بضائر لهم ولا مانعاً من أن يُثني الله تعالى عليهم أجمل الثناء فيقول عنهم في آخر السورة: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال:74). هذا هو شأن الجيل القدوة، فمن رضي فله الرضا واستقامت عنده الأمور بين القائد والشعب. ومن سخط فليس له إلا السخط.
[1]– وكذا رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
[2]– روى مسلم عن حنظلة الأسيدي (قال: وكان من كتّاب رسول الله e) قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟! قال قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله e، يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين. فإذا خرجنا من عند رسول الله t، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله e. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال e: (وما ذاك)؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأى عين. فإذا خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله e: (والذي نفسي بيده! إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم. ولكن، يا حنظلة! ساعة وساعة) ثلاث مرات.
البطل الأسطوري
البَطَلُ الأُسطُورِي وَظَاهِرَةُ الشَّلَلِ القِيَادِي
“رأى صلاح الدين الأيوبي في إحدى ساعات السحر خيمة من خيم المعسكر أصحابها نائمون، فقال: “من هنا جاءتنا الهزيمة”. وأيقظهم لقيام الليل”. هذا ما قاله خطيب الجمعة. كان إلى يساري رجل – رأيته ختم سورة (الكهف) مع صعود الإمام المنبر- أخذ يحرك رأسه تأييداً لما قال الخطيب، وكأنه يؤنب نفسه على تقصيرها!
عند باب المسجد قلت لصاحبي:
– الهزيمة تأتي بترك المستحبات أم الواجبات؟
– بل بترك الواجبات.
– فهل كان صلاح الدين يجهل هذا؟
– لا، بل خطيبنا.
إن الثقافة السائدة تعرض لنا الأبطال متدثرين بثياب الأساطير، وكأننا نرى الممثل الأمريكي (سيلفستر ستالون) في سلسلة أفلام (رامبو) التي لا وجود لوقائعها الخيالية إلا على شاشة السينما أو التلفزيون. الحقيقة أن (رامبو) الأمريكي الذي في الميدان رأسه مدمى بكُدوم الخسارات. هذا هو واقع أي جهة منتصرة: فرداً أو جماعة، قد تقل الخسارات مع هذه الجهة أو تزيد مع تلك. لكن الثقافة العربية تأبى إلا أن تطرح أبطالنا في ثياب الأساطير.
منهج الإسلام في عرض سيَر الأبطال
إن خيرة الخلق هم الأنبياء عليهم السلام، ومع ذلك طرح القرآن الكريم صورة النبي في حالتيه: القوة والضعف. وخيرة الصحابة هم أهل بدر. لكن سورة (الأنفال) التي قصت علينا معركة (بدر) افتتحت آياتها -كما ذكرنا في موضع سابق -بالحديث عن اختلاف أبطال بدر حول الغنائم: (الأنفال:1-4)، وعن تردد بعضهم عن خوض غمار المعركة: (الأنفال:5-8)!
أحد أبطال (بدر) حاطب بن أبي بلتعة، كان يشتط في معاملة عبيده حتى شكوه إلى رسول الله e. وهو الذي أرسل إلى قريش ينذرهم غزو النبي e لهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) رواه البخاري.
وممن شهد بدراً مسطح، وكان ممن خاضوا في (الإفك). تقول عائشة رضي الله عنها: (فأقبلتُ أنا وأم مسطح، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح. فقلت: “بئس ما قلت، تسبين رجلا شهد بدراً) رواه البخاري. وكان علي وعمه عباس رضي الله عنهما يتنازعان في شأن أرض لهما حتى يستبا. متفق عليه. لكن يظل هؤلاء هم خيرة الرجال، ولا ينقص من أقدارهم مثل هذا؛ فإنه من لوازم طينة البشر.
الثقافة المنبرية تريد منا أن نكون في واقعنا خيراً من هؤلاء العظماء!
جناية الثقافة السائدة على البطل الراهن
يصر الواعظ والخطيب والمدرس والمربي على عرض صورة زاهية للبطل أو القدوة تصل به إلى حد التقديس أو العصمة الشاملة. بل سمعت من يقول: نريد جيلاً في الإيمان كالصدّيق، وفي العدل كالفاروق، وفي الأمانة كأبي عبيدة، وفي الشجاعة كابن الوليد… ولم يترك صفة راقية إلا ويريد من الجيل الراهن تمثلها. مع أن حيازة تلك الصفات مجتمعة على أعلى درجة يعجز عنه الواحد أو الجيل من الصحابة أنفسهم!
إن لهذا آثاره الخطيرة على الاجتماع والسياسة وغيرهما، من تلك الآثار:
- تبخيس الذات: غرس اليأس في نفس المتلقي من أن يكون له موقع قيادي في المجتمع؛ فينكفئ على ذاته، ولا يجد دافعاً كافياً لتنمية مواهبه؛ لأنه ينظر إلى نفسه فيجدها عاجزة عن بلوغ ذلك المستوى الذي خيلوا له أنه شرط لبلوغ ذلك الموقع. مع أن كتاب الله تعالى فتح الباب أمام جميع المسلمين كي يتنافسوا في المراتب العليا، فقال سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162،163). وجعله النبي e أحد أدعية استفتاح الصلاة. ومن دعاء عباد الرحمن: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74).
- تبخيس القائد: زهد المرء في الشخص الذي يقوده، أو يجده يتقدم أي منظومة عمل سواء كان أو لم يكن منتسباً إليها. بل سرعان ما يتفلت عن طاعته، ويروغ عن مسار جماعته. وقد يتركه ذاماً له خاذلاً إياه. إنه يبحث عن القائد الأسطوري فيصاب بالإحباط بعد مدة ليست طويلة يجربه فيها فيجد له عثرات وخطيئات وخصومات؛ فيزهد فيه ويتركه. وقد يتمرد عليه.
هكذا تعيش الأجيال في دوامة من الفشل الذي يلاحق أي عمل قيادي.
هل تعلم أن هذا سر زهد المشركين في النبي الراهن الذي يعايشونه، مع تعظيم النبي السابق الذي لم يروه. كشأن قريش آمنوا بإبراهيم وإسماعيل، وأهل الكتاب آمنوا بموسى وعيسى، عليهم السلام، لكنهم كفروا بمحمد e، مع أنه أعظم من أولئك.
إنهم يبحثون عن نبي أسطوري (ليس من جنس البشر العاديين)، والله تعالى يؤكد على أن النبي بشر مثلهم ومن جنسهم. ويحكي لهم من قصص الأنبياء ما يؤكد بشريته، ومنه أنه يخطئ ويذنب ويخاف ويفر ويتردد.
وقد شارك الأشاعرة في ترسيخ النظرة العصموية للأنبياء في الثقافة السائدة. وكتب الرازي كتاب (عصمة الأنبياء) تأوّل فيه جميع الأخطاء التي ذكرها القرآن عن الأنبياء.
- استبداد القائد: يجد القائد في نهاية المطاف نفسه في حيرة من أمره؛ إذ يبقى يعاني من تفلت الناس؛ فإما أن يتساهل معهم فلا يطيعوه، وإما استعمل معهم القوة فأجبرهم على طاعته.
من هذه النقطة يولد القائد المستبد.
وقد ينزلق أكثر فيتحول إلى القائد الطاغية.
وهذا أحد أسرار وجود الطغاة في الشرق. إنها النظرة العصموية الأسطورية لدى شعوب المنطقة تجاه القائد. ويشارك الوعظ الديني مشاركة فاعلة من حيث لا يدري في تنمية وإدامة هذه الظاهرة الخطيرة.
* *
وواصلت الحديث مع صاحبي قائلاً: هل تعلم أن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي كان يشرب الخمر ويمارس أنواع اللهو إلى ما بعد سيطرته على زمام الحكم في مصر والقضاء على دولة الفاطميين؟ وكان يلعب مع الأمير نور الدين زنكي الكرة؟([1]). يقول المؤرخ ابن شداد (ت 632هـ)، وهو معاصر لصلاح الدين، وكان مرافقاً له أيضاً، عن عمه شيركو: وفوض الأمر بعده إلى السلطان واستقرت القواعد واستتبت الأحوال على أحسن نظام. وبذل المال وملك الرجال وهانت عنده الدنيا فملكها وشكر نعمة الله عليه، فتاب من الخمر وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بلباس الجد والاجتهاد وما عاد عنه ولا ازداد إلا جداً إلى أن توفاه الله إلى رحمته([2]). وإذا علمنا أن عمه أسد الدين شيركو توفي عام 564هـ، علمنا أن عمر صلاح الدين (532 هـ – 589 ه) يوم تاب 32 سنة. وركاب المنابر يقولون: لم يضحك قط حتى فتح بيت المقدس؟
وضحكنا، لكن ضحكاً لم يخل من غصة.
[1]– سير أعلام النبلاء، 21/282، شمس الدين الذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة ، 1405هـ/1985م.
[2]– النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (سيرة صلاح الدين الأيوبي)، ص81، يوسف بن رافع ابن شداد، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1415هـ – 1994م.
مجانين العقلاء وكارثة القيادة
مجَانِينُ العُقَلاءِ .. وَكَارِثَةُ القِيَادَة
يمكنك ملاحظة حالة عقلاء المجانين عندما ترى شخصاً غير متوازن في ظاهره وسمته، لكنه هادئ ينطق أحياناً بكلمات عاقلة، قد تبلغ عمقاً لا يبلغه بعض العقلاء بعقولهم! لا أدري إن كان علم النفس قد درس شخصية (عقلاء المجانين)، لكن هناك ما هو أهم وأخطر حري بعلم النفس والاجتماع أن يدرسه دراسة مستفيضة هو شخصية (مجانين العقلاء)!
الناس صنفان: عقلاء ومجانين. والمجانين صنفان:
- صنف مجانين في ثوب مجانين. لكن الجنون يأتيهم على شكل نوبات تقصر أو تطول، يعقبها فترة هدوء تطول أو تقصر. في فترة الهدوء تبدر منهم كلمات، يرقى بعضها إلى مستوى الحكمة. يطلق على هؤلاء اسم (عقلاء المجانين). وهؤلاء قلة في المجتمع.
- صنف مجانين في ثوب عقلاء، وهؤلاء يمثلون معظم المجتمع! وإليكم الدليل:
المجانين أكثر من العقلاء .. هل تعلم !
للجنون في علم النفس تعريفات تتفق مع تعريفات علماء الأصول، يلزم منها أن جمهور الناس هم من صنف (مجانين العقلاء)! فالجنون طبقاً لـ(علم النفس) يدور معناه حول (مجموعة من السلوكيات الشاذة التي تميز أنماطاً من السلوك الشاذ يقوم بها أشخاص دون وعي وإدراك، ورغماً عن إرادتهم)([1]). والجنون عند الأصوليين: (اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب بأن لا يظهر آثارها ويتعطّل أفعالها، إما لنقصان جُبل عليه الدماغ في أصل الخلقة، وإمّا لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال بسبب خلط وآفة، وإمّا لاستيلاء الشيطان عليه وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه)([2]).
ويؤيد هذا ما اشتهر عن ألبرت آينشتاين في تعريف الجنون بقوله: (الجنون هو أن تفعل الشيء مرةً بعد مرةٍ وتتوقع نتيجةً مختلفةً). وهذا ديدن معظم الناس. واستناداً إلى ما سبق يكون معظم المجتمع أو جمهور الناس مجانين في ثياب عقلاء.
وفي القرآن الكريم ما يؤيد ما قلت آنفاً؛ فالله تعالى يقول: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179). ليس هؤلاء عقلاء في حقيقة الأمر. وسيعترف بهذه الحقيقة هؤلاء المجانين أنفسهم حيث لا ينفع الاعتراف: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:12،11). وإذا عرفت أن أهل النار أكثر من أهل الجنة تبين لك ضخامة نسبة المجانين في الناس مقارنة بالعقلاء. على أنني لا أقصد مجانين المجتمعات الكافرة فحسب، إنما أتعداه إلى المسلمين.
المشكلة أن هذا التصنيف ربما يرفضه أكثر القراء؛ لأنه لا أحد يرضى أن يصنف نفسه أو يصنفه غيره ضمن زمرة المجانين حتى وإن وصفوا بالعقلاء. حتى المجنون يرى نفسه يتربع على قمة العقل، ولو وصفته بالجنون لربما هاجمك فقتلك. فالقضية نفسية لا علمية. وهنا مكمن الصعوبة.
الحد الفاصل بين مجانين العقلاء وعقلاء المجانين
الحد الفاصل بين (عقلاء المجانين) و(مجانين العقلاء) هو الثوب أو الإطار الذي يغلف كلاً منهما. فـ(عقلاء المجانين) عقلاء في إطار مجانين، واضح من اضطراب هيئتهم وقيافتهم وتصرفهم وكلامهم أنهم يعانون من خلل عقلي، لكنَّ لهم عبارات وأقوالاً مقبولة، وربما تجاوزت القبول إلى الإعجاب. كما روي عن البهلول أنه قيل له: عظنا يابهلول؟ فقال: بم أعظكم؟ هذه قصوركم وهذه قبوركم.
أما (مجانين العقلاء) فهم مجانين في إطار عقلاء. هيئتهم، قيافتهم، تصرفهم، كلامهم، كل ذلك وغيره يجري على سَنَن العقل، مؤطر بالمعقول والمقبول والمدلل عليه إن احتاج إلى دليل. ومن هذا الصنف أساتذة جامعات، ورؤساء وملوك وأمراء وشيوخ دين ووجهاء وتجار وغيرهم. لكن الجنون يكمن في المضمون. عقلاء بمضامين مجنونة، على العكس من الصنف الآخر: مجانين بمضامين معقولة.
متى يصبح مجانين العقلاء خطراً على المجتمع ؟
عقلاء المجانين لا يخشى منهم البتة؛ لأنه لا أحد يلتزم بكلامهم، حتى المعقول منه يسمعه الناس وهم يبتسمون، ويروونه وهم يعجبون! ثم هم قلة ضعيفة لا تمتلك القدرة على التفكير والتخطيط، فضلاً عن القيادة. إنما الخشية من مجانين العقلاء؛ فهم جمهور المجتمع.
ويبدأ الخطر بالتجسد حين يقفز من هذا الجمهور أفراد يتصدرون المشهد الاجتماعي سيما إذا صاروا قادة أو زعماء. هنا تتفجر طاقة الجنون التي كانت متوارية في داخلهم خطباً حماسية تثير النفوس، ومواعظ رقيقة تستدر الدموع، وكلاماً محكماً يقيد العقول، ومشاريع تحشد لها الألوف، ومعارك تجند لها الزحوف. كل ذلك يتم في إطار دعوى الحق والحقيقة. وربما جرى تغليفه بالمصلحة الشرعية والعزة القومية والوحدة الوطنية! والجمهور من ورائهم يهتف ويصفق ويسير.
وإذا تبين للزعيم المجنون خطأُه أصر عليه لموقعه وعنوانه الاجتماعي، في مفارقة قاتلة تدفع الشعوب لها أثماناً باهضة؛ لأن عنوانه يدفعه إلى الاعتزاز بالإثم. عكس الجمهور، فإنه إذا اكتشف الحقيقة المؤذية صرح بذمها وتنصل منها. لهذا عادة ما يتعلم الجمهور بالحدث، لكن الزعيم المجنون لا يتعلم لا قبل الحدث ولا بالحدث ولا بعده. إلا حين يجد الجمهور قد انفض عنه. هنا يبدأ بتبني ما مال إليه الجمهور شيئاً فشيئاً من أجل العودة إلى ظهره ليركبه من جديد. ولكن بعد فوات الأوان.
أرأيت كيف صار مؤخراً كثير من (الوطنيين)([3]) ينطقون على استحياء بلفظ (السنة) أو يتكلمون باسمها! وكنا قبل ذلك بسنين نتحداهم، ونتحدى القنوات الفضائية العراقية مثل الرافدين (هيئة علماء المسلمين) وبغداد (إخوان مسلمون) والشرقية (ليبرالية)، ومثل قناة الجزيرة القطرية، والعربية الإماراتية أن يظلوا على (وطنيتهم) ثابتين ويصمدوا أمام الظروف فلا يقولوها حتى لا يصبحوا مثلنا (طائفيين). وقلنا لهم: ستجبركم الأيام على تقيؤِها لأن الاستمرار في مكابرة الحقيقة مخالف للحقيقة. وها هم يقولونها ولكن تقيؤاً مثيراً للغثيان ومتخلفاً عن الأوان.
من جملة المفارقات القاتلة أن الوقائع إذا وقعت، والحقائق إذا تكشفت وتبين للجمهور حجم الخديعة، لا يحسن الجمهور المسكين غيرَ تبديل زعيم بزعيم وإن كلاهما مجنوناً!
دعوتُ على نوري فماتَ فسرَّني
فلما قضى المجنونُ وانثلَّ عرشُهُ |
فلما أتى المجنونُ([4]) نحتُ على نوري
بكيتُ على المجنونِ ثمَّ على نوري |
أمثلة لمجانين العقلاء
إن أمثلة كثيرة كنيرون وهانيبعل ونابليون وهتلر وموسوليني وستالين وفيدل كاسترو وشاوشيسكو وكيم إيل سونغ وتوني بلير وجورج بوش، وغيرها من الأمثلة التي أمست في ذمة التاريخ قد لا نختلف فيها كثيراً. لكنني أريد أن أشير بيدي إلى مجانين في واقعنا المر يصعب الإشارة إليهم دون إثارة إشكالات فكرية وفئوية أقلها أن يقال: فماذا أبقيت؟! ولبعضهم حسنات تستغرق نظر البعض فلا يرى غيرها، منهم:
- عبد الناصر وأبو رقيبة والشاه والخميني وصدام والقذافـي وبشار الأسد وعلي عبد الله صالح ونوري المالكي. وكل عقيد قوم يشبه هؤلاء وأولئك الذين يصدق عليهم قوله تعالى: (بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم:28) من ذوي الأهواء والأدواء أو الأفكار الخيالية التي بذلوا في سبيل إنباتها في الهواء أنهاراً من الدماء، وحولوا بلدانهم إلى أطلال وأشلاء.
- الأحزاب الدينية كجماعة الإخوان المسلمين وتفرعاتها، والقاعدة وأخواتها. ومعظم فصائل المقاومة الفاقدة للمشروع، إن لم تكن جميعاً، والأحزاب القومية والليبرالية والعنصرية والإلحادية مثل البعث والشيوعية.
- كل من يقفز إلى الحل العسكري أو السياسي قبل أن يُحْكِم المشروع المدني. بغض النظر عن أحقيته وغيرته ونخوته. فالجنون لا يلغي الحق ولا الحقوق.
- جميع فقهاء الفروع، الذين لا يعلمون كثيراً عن فقه النوازل ولا معنى الفقه الشرعي، ولا من هو الفقيه الحقيقي.
- معظم شيوخ العشائر والوجهاء والأثرياء الذين لا يهمهم سوى وجاهتهم ونفوذهم وأموالهم وشهواتهم.
قبل بضع سنين جمعني مجلس بشيخ دين([5]) يرأس إحدى المؤسسات التقليدية فكان يتحدث بحماس عن الأخوة السنية الشيعية، والشيعة العرب ولا فرق بين سني وشيعي، والبلد الواحد، والوشائج والمصاهرات والدين الذي يشد الجميع بحبله المتين. فقلت له: يذكر المؤرخون أن بغداد تعرضت منذ تأسيسها على يد المنصور حتى الآن إلى (16) احتلالاً، أي بمعدل احتلال واحد كل (80) سنة. وإذا كانت معركة الشيعة معنا في الاحتلال الأخير دارت في العاصمة بغداد، ووصلت أطرافها إلى الفلوجة، وطال بعض شرارها الرمادي: فإننا – إذا بقينا على هذا التثقيف -سنصحو على الشيعة عند الاحتلال القادم، أو قبله بعد أقل من خمسين سنة – لا سمح الله – وهم يقاتلوننا في الفلوجة والأنبار.
يبدو أنني يومذاك كنت متفائلاً كثيراً؛ فبعد سبع سنين فقط – لا خمسين – ها هو قاسم سليماني يتجول في تكريت ويقود المعركة من عقر دار المجنون الأخير. ولم يتمكن التكارتة ولا غيرهم حتى من الحفاظ على قبره([6])!
وبعد..
فهذا ما وفقني الله تعالى إليه من نظرات في ميدان القيادة. أشكره تبارك وتعالى عليه. وأسأله أن ينفع به أمتنا السنية في طريقها الناهض إلى الأمام.. الصاعد باتجاه السماء، وينفعني به وقارئه في الدنيا والآخرة. إنه سميع قريب مجيب.
[1]– راجع الرابط التالي: (http://ar.wikipedia.org/wiki) على موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة بعنوان (جنون) محيلاً إلى: An interview with Dr. Joseph Merlino, David Shankbone, Wikinews, October 5, 2007.
[2]– المصدر نفسه محيلاً إلى: محمد علي التهانوي، كشف اصطلاحات الفنون ص640.
[3]– كتبت هذا الموضوع في ربيع سنة 2015.
[4]– المجنون لقب أطلقه العراقيون على عبد الكريم قاسم الذي أنهى الحكم الملكي في العراق سنة 1958.
[5]– الشيخ حارث سليمان الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين.
[6]– لا يعني ذلك نفي ما عند بعض هؤلاء من نوايا صالحة، وأفعال خيرة، وإنجازات قيمة. فالرئيس صدام حسين – مثلاً – حارب إيران ثماني سنين. لكنه فعل ذلك بعقلية مجنون. ولو كان عاقلاً ما كانت نهايته ونهايتنا ما تعلمون! وقس على ذلك.
نظرات في السياسة
( 7 )
نظرات في السياسة
نظرات في السياسة
كل مشروع حقيقي للإنقاذ يبدأ بفكرة، تنمو فتصبح منهجاً، يتطور عبر المجتمع لينبثق عن تكوين يواصل مساره حتى يصل إلى مرحلة يحتاج فيها إلى التعبير عن نفسه من خلال منظومة سياسية تسعى لتغيير الواقع بأدواتها ووسائلها المناسبة لأهدافها.
وهذه الفقرة أودعتها معاني ومعالم تجديدية في السياسة، تستفيد من الناتج المطروح، وتضيف إليه ناتجاً جديداً نابضاً بالحيوية؛ لأنه يجمع بين ثلاثة أشياء: البساطة التي هي قرينة العظمة، والجدة التي هي أس الإبداع، والواقعية التي هي روح التجديد.
ليس قصدي مما كتبت أن يكون بحثاً جامعاً في علم السياسة وتطبيقاته؛ فهذا لا تخلو منه المكتبة العربية ولا غيرها، وعادة ما يجنح للتنظير فيكون للتجريد أقرب منه للتطبيق.. بقدر ما هو قواعد وكلمات قامت على العلم، وأبرزتها الحاجة، وأنضجتها المعاناة، ومحصتها التجربة، وقومها الفكر. اخترتها بعناية لتكون معالم مفصلية في طريق السياسة الربانية، ضمنتها أموراً مهمة كثيرة قد لا تجدها في كتب السياسة المتخصصة، منها وضع معادلة علمية حيوية تحول بين السياسي والانزلاق في مفاسد السياسة، والعسكري والوقوع في قبضة طغيان القوة. وبهذا تخلصنا من أعظم آفتين من آفات السلطة:
- فساد السياسة
- وطغيان العسكرية.
إضافة إلى فك الارتباط بين الانتماء للمؤسسة والعصبية الحزبية التي عادة ما تنشأ نتيجة الشعور بهذا الانتماء. فكان هذا الكتاب جامعاً بين ثلاثة أشياء: وضع معالم البناء، وتشخيص عوامل الهدم، وبيان أسس العلاج.
معادلات سياسية
منطلقات
- السياسة قبل القيادة، فأن تقود يعني أن تسوس.
- السِّيَاسَةُ في اللغة: القيامُ على الشيء بما يُصْلِحُه.
- والسياسة في الاصطلاح هي: فن حكم الناس وقيادة الجمهور. وتقوم في أساسها على الرفق ورعاية المصالح. والشد مطلوب في موضعه.
- والسياسة أيضاً هي التعبير المرن عن المبدأ. فالثبات في العقائد والمبادئ، والمرونة في السياسات والمواقف.
- سياستنا شرعية: تراعي أحكام الشريعة فيما ورد فيه نص شرعي، وتراعي القيام على الناس بما يصلحهم ويحقق مصالحهم فيما لا نص فيه ضمن ضوابط الشريعة، أو بما لا يتعارض معها.
- العمل السياسي الرصين هو العمل الذي يمر عبر عمل مجتمعي منظم يلبي حاجات الجمهور، وهو ما نطلق عليه اسم (المشروع المدني)، ويحفظ نفسه ومكاسبه بقوة حامية ترد عنه عدوان الخصوم.
- المشروع المدني بمثابة الجسم القائم، والصدر الحاضن، والقلب النابض، والرأس المفكر. والسياسة والقوة بالنسبة إليه بمنزلة الجناحين. ولا جناح يخفق بلا جسم يقوم به وصدر يحضن وقلب ينبض ورأس يفكر ويوجه ويقود.
السياسة والقوة
- القوة أس السياسة: فسياسة بلا قوة مقامرة بأوراق مكشوفة.
- إذا كانت المصلحة أم السياسة، فالقوة أبوها.
- الأغبياء والضعفاء ينتهون في عالم السياسة إلى أحد مصيرين: الفقر أو العمالة. أو التوقف عن العمل السياسي.
- كن قوياً وقل وافعل ما شئت. وكن ضعيفاً وجامل ما شئت، فلن تكون إلا ضحية للأقوياء.
- حتى تريد لا بد أن تكون، وحتى تكون لا بد أن تتكون، فتظهر بكيان واضح للعيان.. مؤثر في الميدان. ثم ادخل عالم السياسة.
- القوة الشرعية قوتان ممتزجتان: قوة الإيمان وقوة الكيان. ولا تغني إحداهما عن الأُخرى. ولا يتأتى ذلك إلا بمنظومة قيادة يلتحم بها جمهور؛ فالفرد لا مكان له في سوق السياسة مهما أُوتي من قوة شخصية وإمكان وحجة وبيان.
- قوتنا اليوم في إبراز هويتنا، وإعداد منظومة قيادتنا، في مشروع واضح الفكرة الجامعة، محدد الهدف البعيد، يراعي مجموعة الأهداف المرحلية، ويهتم باستثمار الموارد المتاحة، ويتخذ الآليات المناسبة للوصول إلى الكيان القادر على أن يريد فيكون؛ لأنه كان فأراد.
- دخول عالم السياسة دون مشروع يجعل صاحبه ضحية لمشاريع الآخرين.
التوازن بين القوى الثلاث : المدنية والسياسية والعسكرية
يتكلم السياسيون عن الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، ويُغفلون ذكر التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية، وهذا لا يقل أهمية عن الأول إن لم يكن أهم منه. بل إن (الفصل) لا يُضبط إلا بـ(التوازن)، ودونه تستقل السلطة التنفيذية بالقرار ويكون التشريع والقضاء مجرد ذيل تابع لها.
يقوم هذا التوازن على مبدأ الفصل بين امتلاك القوة أو السلطة وممارستها وذلك بأن:
- تمارس السلطة ولا تملكها. كما يتاجر المرء بما لا يملكه.
- وتملك السلطة ولا تمارسها. كما يفوض المالك غيره يتاج بماله.
فيُمنع الجناح السياسي والعسكري (وهو من يمارس السلطة) من امتلاكها. ويُمنع الرأس المدني (وهو من يملك السلطة) من ممارستها.
يجب الفصل التام بين السلطتين: العسكرية والسياسية. فلا يتولى العسكري منصباً سياسياً، ولا السياسي منصباً عسكرياً. بهذا نمنع فساد السياسي وطغيانه، وطغيان العسكري وفساده. هذا هو الأساس، وللتحقيق تفصيله.
بهذا نبني دولة المؤسسات: دولة ولكن بمفاهيم أمة. دولة لا تكون السلطة فيها دُولة بين الأقوياء، كما لا يكون المال فيها دُولة بين الأغنياء.
تمدين الجيش
(تمدين الجيش) مصطلح غريب على السياسة. ما زالت أدبيات السياسة تتحدث عن (عسكرة المجتمع) وضررها على السياسة والاجتماع، غافلة عن ضرورة إبراز البديل أو الأساس المعالج له. كمن يهتم بتشخيص الداء ويهمل توصيف الدواء.
(تمدين الجيش) معناه: جعله جزءاً من التكوين المدني لمشروع الدولة، وليس كياناً خارجاً عنها متحكماً فيها. وذلك بأن تكون البداية بناء مشروع شمولي أساسه العمل المدني. حتى إذا تم الجسم المدني – بإذن الله – واستوى على سوقه، جاء دور انبثاق الجناح العسكري منه في وقته وموضعه كإحدى لبنات المشروع في هيكل البناء، وليس قبل ذلك، كما تقرر ذلك فـي (المنهج) كثابت من ثوابت العمل الرباني السديد. مع مراعاة قاعدة (التوازن).
بذلك يتمدن المجتمع كله: عسكريه ومدنيه. ويكون العسكر كأي مؤسسة مجتمعية، سوى أن وظيفتها خدمة المجتمع المدني بالحفاظ عليه من خارجه بالقوة في مواجهة ما يهدده، لا أن يكون هو المهدد له من هناك. وذلك بالتأسيس على قاعدتين:
- أن ينشأ الجناح العسكري بآلية (الانبثاق) عن الجسم المدني من داخله، لا بآلية (الإلصاق) به من خارجه.
- أن يتصرف بالقوة ولا يملكها.
عندها لن تكون مؤسسة الحكم في حالة خوف وترقب من المؤسسة العسكرية، ولن تتعرض الدولة للهزات والانقلابات الكارثية على يد العسكر، لا سيما مع قاعدة (التوازن بين القوى الثلاث: المدنية والسياسية والعسكرية)، التي تمنع من تحول القوة إلى دُولة بين الأقوياء، كما يمنع الاقتصاد الرباني من تحول المال إلى دولة بين الأغنياء.
السياسة والتاريخ والجغرافيا
- لا تاريخ في السياسة أكثر من بداية للتأسيس، وإنما تقوم السياسة على الجغرافيا أي الواقع؛ لذلك قيل (جيوبوليتيك) ولم يقولوا (هستوبوليتيك).
- الحالمون وحدهم يدخلون عالم السياسة وليس في أيديهم شيء سوى التاريخ: فعلنا، وكانوا وكنا. وهؤلاء دائماً يخرجون من الحلبة مفلسين، فيتعوضون عن الإفلاس في الجغرافيا تضخماً في مصرف التاريخ.
الجمهور
- السؤال عن قابلية الجمهور للانقياد، والعمل على صناعة هذه القيمة وتنميتها، لا يقل أهمية عن السؤال عن قدرة القائد على القيادة وصناعتها وتنميتها.
- لا يكون القائد قائداً في جمهور غير قابل للانقياد.
- المشروع المدني القائم على تدريب القادة، وتأهيل الجمهور، وربطه بالقيادة هو الطريق نحو قيادة جمهور واعٍ، يدرك قيمة الطاعة في المنشط والمكره.
- الجمهور يكثر بالنصر، ويقل وينفض بالهزيمة.
- الجمهور مزاجي سريع التقلب: فلا يخدعنك إقبال الجمهور، ما لم تكن أعددته من قبل، ثم كانت في يدك أعنة الترغيب، وأسنة الترهيب.
- الجمهور عاطفي تثيره الكلمة، وتشده الصورة، ويجذبه المشهد، ويدفعه الحماس. فالعواطف ضرورة من ضرورات قيادة الجمهور إلى دائرة العقل الرشيد، ومسار العمل السديد.
- الجمهور منخفض الوعي، ومستوى التفكير، لا يأبه للمنطق الخالي من العاطفة. لا يتغير بالحجة والدليل. إنما بالشعارات العامة المؤكدة المكررة.
- الجمهور ينظر إلى يدك ومكانك أكثرَ من كلامك.
- إدخال الجمهور في ميدان الصراع ضرورة من ضرورات النصر. ومن اقتصرت معركته على النخبة كانت عاقبته الخيبة.
قبل أن تسأل عن القائد .. اسأل عن الجمهور القابل للانقياد ؟
“أهل السنة في العراق اليوم.. غالبيتهم مع الفكر الذي تطرحه. لكنهم في حاجة إلى قائد ينزل إلى الميدان. وهو ينتظرك”. هذا ما قاله لي رجل قضى ربع قرن من عمره في أوربا.. هجر موطنه وتزوج من هناك، بعد أن شغل منصباً عسكرياً رفيعاً في وزارة الدفاع، يحمل شهادة دكتوراه في الاقتصاد. قبل سنين قليلة رجع إلى الشرق وحصل على وظيفة أستاذ في إحدى الجامعات. قومي الفكر، تديَّن مؤخراً وآمن بأن كل الطرق مسدودة غير طريق الله جلّ في علاه.
قلت له: لم يأن الوقت بعد.
قال: الوقت ليس في صالحنا.
قلت: الانتظار…… مع الإعداد، خير من الانتحار.
لم يردّ، بينما بدت علامات الحيرة تطل من عينيه اللتين ما زال فيهما وبيص يقاوم ظلمات عمقها ستة عقود. ابتسمت وواصلت حديثي، وكان فيه أخذ ورد، ولم يكن متصلاً ولا على وتيرة واحدة: أضرب لك مثالين:
فـي شتاء 2010 صليت الجمعة في جامع سيدنا عمرو بن العاص t في الفسطاط بمصر القديمة، حتى إذا انتهى الخطيب من خطبته صار يدعو ونحن معه فكان آخر ما قال: (اللهم هيئ لهذه الأمة صلاح الدين آخر يأخذ بيدها إلى النصر). ابتسمت في داخلي، وقلبت الدعاء لأقول: (اللهم هيئ لصلاح الدين أمة تُظهره وتظاهره، وتنصره ولا تخذله بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين).
لولا أن صلاح الدين وجد في محيط قابل للبعث من الرقاد ما وصل به الحبل إلى ما أراد. هذا معنى ما قاله لي صديق قبل أكثر من ثلاثين سنة، وما زال قوله عالقاً في ذهني! وتأمل القائد العظيم موسى u لِمَ لَمْ يتمكن من إقامة الكيان المنشود لبني يهود؟ والجواب ببساطة: لأن جمهوره لم يكن قابلاً للتكوين. ولم يكن يوشع عليه السلام خيراً، ولا طالوت أقوى وأعلم، ولا داود أخلق بالملك منه. لكنهم بنوا دولة، من حيث أن موسى لم يتمكن من ذلك. لقد كان يهيئ لهم لبناتها. ولولا لبنات موسى ما كان بناء داود. فأين الحلْقة المفقودة؟ إنه الجمهور القابل للانقياد.
جمهورنا اليوم غير مهيّأ، ولم يجد من يهيئه. فهو محبوس بين قضبان الانتظار، وإذا تطلع فإلى فضاء الانتحار!
وماذا ينتظر؟
ينتظر القائد السحري الذي يخلصه من الواقع المرير بقفزة عفريت أو لمسة ملَك، قبل أن يسأل الجمهور نفسه هل هو على استعداد لأن يقاد حتى من قبل ذلك الفارس الخرافي المهيب؟
إنه سؤال جوهري، بل إن السؤال عن الجمهور القابل للانقياد أهم من السؤال عن القائد المأمول للقيادة. وفي غياب السؤال الأهم يبقى الجمهور مغيباً عن التأثير، بعيداً عن الإعداد والاستعداد، فتضيع الجهود سدى.
لا يكتمل هذا السؤال الجوهري إلا بإدراك مفارقة جوهرية هي أن “القائد موجود رغم غيابه بين جمهور غائب رغم وجوده”!
هل تعلم أن القائد موجود بين الجمهور لكن الجمهور لا يراه؟
بل المشكلة ربما لأن القائد موجود بين الجمهور! وهذه هي الإشكالية الثانية. والسبب ببساطة أن الجمهور الذي توالت عليه العصور دون إعداد، يريد القائد كائناً أسطورياً: قوياً تصرع عضلاته الأسود، ملائكياً يشع من عينيه النور، ولياً ينشق عن آثاره العشب والزهور، قديراً يقول للشيء كن فيكون. فإذا كان القائد المؤهل يعيش بين ظهرانيهم، خبروه فوجدوه يخطئ ويصيب، يتعب ويقوى، يتلكأ ويُقدم: فإذا انبرى لممارسة القيادة نبذوه، وركلوه، بل ربما قتلوه قبل أن يتمكن من استثمار فرصته في تهيئتهم وبنائهم، قائلين: لقد خيب ظننا ولم يحقق مطلوبنا فارجموه.
ثقافتنا تصنع للقادة في ذهن الجماهير صورة زاهية أشبه بالأساطير. وحيث إن الأساطير لا توجد إلا في ثنايا السطور فلن تلد مخيلة الناس ذلك القائد الأسطورة الناشب في أحشائها، إنما يموت دوماً ويختنق أثناء الطلَق. أو تنفرج الظروف عن رجل من جنس الجمهور نفسه يسوق الناس بعصاه.
وبين القائد الأسطورة المفقود والقائد المتجبر الموجود يعيد التاريخ نفسه.
السياسة الشرعية
السياسة الشرعية
- الإسلام دين ودولة، لكن بمفاهيم أمة. ولا دولة بلا سياسة.
- مفهوم الدولة مفهوم سياسي عسكري، بينما مفهوم الأمة مفهوم ثقافـي إنساني، حضاري أخلاقي. بهذا تلتقي الأطراف الثلاثة للحضارة: الرسالة والسياسة والقوة.
- سياستنا لا تنفصل عن الأخلاق؛ لأنها شرعية مقيدة بحدود الدين وآدابه. وابتغاء المصلحة لا يبرر تحصيلها بأي سبيل.
- العلمانية لا ترى من السياسة سوى جانبها الدنيوي دون الأُخروي، والمصلحي دون الخُلقي. والواقعي/ البراغماتي. وهذه الأخيرة حسنة، لكنها ضائعة دون هذين الضابطين: الخلق والإيمان.
- مِن العلمانيين مَن عزلوا السياسة عن الدين تنزيهاً له وتعظيماً. إذ اشتبه الأمر عليهم بحيث لم يروا من السياسة إلا جانبها السيئ. وزاد الشبهة رسوخاً أمران: السلوك السياسي لعموم الإسلاميين، وجهل العلمانيين بمبادئ السياسة الشرعية.
- العلم العميق بشمولية الإسلام والإيمان الوثيق برب الأنام، من أصول السياسة الشرعية.
- السياسة الشرعية هي رعاية الدنيا وسياستها بالدين.
- أو هي “تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار بما لا يتعدَّى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين”([1]).
- تنطلق السياسة الشرعية من الدين في أصولها، ولا تتعارض مع الشرع في تفاصيلها. فالسياسة من العاديات أو المعاملات التي قال علماء الأصول فيها: (الأصل في العاديات الجواز حتى يرد نص بالمنع. والأصل في العبادات المنع حتى يرد نص بالجواز).
- باختصار: السياسة الشرعية هي ما وافقت بنودها الشرع أصلاً، وإن لم ترد فيه نصاً.
- الأصل فـي السياسة قيامها على المصالح ما لم تتعارض مع الشرع.
الواقع
- لا سياسة بمعزل عن معرفة الواقع أو البيئة الداخلية والخارجية اعتماداً على المعلومات الصحيحة والبيانات والإحصاءات الدقيقة. فالسياسة الشرعية ليست فقهاً بالنصوص حصراً، وإنما معرفة بالواقع أيضاً، وكيفية التعاطي معه في ضوء الشرع اعتماداً على فقه المقاصد طبقاً للضوابط.
تجارب الشعوب
- الاستفادة من تجارب الشعوب في سياسة الناس بما لا يتناقض مع الشريعة أصل مقـرر لا حرج فيه، بل فعل مندوب يُحمد عليه، أو واجب يطالَب به. فبعض الدول -مثلاً -تسير على سياسة مزدوجة في شؤونها المدنية والعسكرية: فالجيش له ظهير شعبي يكمله، ويقوم بإسناده في حال ضعفه عن حماية الدولة، أو يتولى هذا الواجب في حال انهيار الجيش أو نكوله -لأي سبب -عن حمايتها ومنعها من السقوط. وفي حال الاحتلال يكون الشعب جاهزاً للمقاومة بدلاً من التشتت والبحث الارتجالي عن المال والسلاح والقيادات وحشد القوى: البشرية والمادية؛ فيكون الثمن مضاعفاً. هذا وأمثاله مما ينبغي الاستفادة منه. والأمثلة كثيرة. منها دراسة النظم السياسية للدول المتطورة في العالم.
استقرار الدولة وتماسكها
- استقرار الدولة والحفاظ على وحدتها من أهم مقاصد السياسة الشرعية التي ينبغي رعايتها. وهذا هو علة اختلاف آليات انتقال السلطة في تاريخ صدر الإسلام. فقد انتقلت السلطة إلى أبي بكر وعمر بآلية التعيين الفردي. وإلى عثمان بآلية اختيار واحد من مجموعة محددة. وإلى الحسن ويزيد بتعيين الخليفة لابنه. وإلى معاوية بتنازل الحسن. وإلى الوليد بن عبد الملك فمن بعده بآلية الوراثة. واستمر الأمر على ما هو عليه حتى نهاية الدولة العثمانية سنة 1924.
- اجتماع الناس على المفضول الأنسب أولى من التفرق على الصالح الأفضل. وهذا هو الواجب شرعاً، والمفروض عقلاً. وعليه مدار اختيار الحاكم المسلم.
- لا يجوز تولي الكافر حكم المسلم. ولا يجوز تولي الشيعي حكم السني سواء بسواء.
- لا يشترط فـي القائد أن يكون الأعبد والأورع، مادام عاملاً بالواجبات متجنباً فعل الموبقات. إنما يشترط فيه أن يكون الأكفأ في فن السياسة والقيادة، ولا تقبل منه الحدود الدنيا في هذا الفن.
- لو خيرنا بين رجلين: أحدهما أعبد الناس، لكنه ضعيف في فن السياسة، والآخر دونه فـي العبادة لكنه أكفأ سياسةً وأقدر على القيادة وجب علينا اختيار الثاني؛ لأن علاقته بالأمة تحددها الكفاءة السياسية والمَكِنة القيادية أكثر من الناحية العبادية. إن قوة القائد وضعفه للأمة أو عليها. أما عبادته فله وحده.
- يقبل فـي شرط العبادة بالنسبة للحاكم أدنى الواجب. أما شرط السياسة فلا يقبل فيه إلا أعلاه. فلا يقبل منه الحد الأدنى من الكفاءة فـي السياسة، كما يقبل منه الحد الأدنى من الواجب فـي العبادة.
واجبات الحاكم
- أعظم واجبات الحاكم، بعد صيانة الدين وتحكيم شرعة رب العالمين، أمران: تأمين أسباب الرزق وفرص الكسب للشعب. ثم تحقيق الأمـن والقيـام فـي الناس بالعـدل ، مع حماية كيـان الدولة بالفعل. أي رعاية الموجود وحماية الحدود: (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش:4).
- أما ما مطلوب من مؤسستنا في هذه المرحلة: فتوفير المنظومة الناجحة التي من خلالها يعبر السنة عن دينهم: إيماناً ونصرةً، أو عبادةً
وقضيةً. وتكون أساساً لبناء دولتنا السنية العراقية، صعداً في خدمة الأمة والمشاركة فـي إعادة كيانها. وهي مسؤولية يشترك فيها الجميع، بصرف النظر عن درجة العامل في سُلّم المسؤولية.
صناعة الأصدقاء وتفريق الأعداء
- الحب أساس الوحدة والجماعة، ولكن القوة تبنيها، ثم تكون سياجها الأمين.
- صناعة الأصدقاء، حتى من الأعداء، فن لا غنى للسياسي الناجح عنه. بعض السياسيين بارع في فن صناعة الأعداء، حتى من الأصدقاء!
- تفريق الأعداء عنك، لا تجميعهم عليك من أولويات السياسة؛ السياسي لا يدع أعداءه يجتمعون عليه.
السياسة الخارجية
- المصلحة أم السياسة، والقوة أبوها.
- الإنسانية، الأخوة، الدين، الجوار: كلمات لا وجود لها فـي قاموس السياسة.
- المصالح المتبادلة أساس السياسة مع الدول.
- الدول ليست جمعيات خيرية، بل هي مؤسسات ربحية بكل معنى الكلمة، لا تعطي ما لم تأخذ.
- ليس في عالم السياسة أن تأخذ بلا مقابل، حتى مع العدو. الساذَجون وحدهم من يقول: كيف تفعل هذا، وفيه مصلحة لعدوك؟
- السياسة الناجحة أن تجعل الآخرين يرون مصلحتهم في تحقيق مصلحتك.
- أنجح المشاريع هو ذلك المشروع الذي تجتمع عليه مصالح الدول. فإذا كان هذا في مصلحتك فبادر لاقتناصه ما لم يكن مانع شرعي.
- السياسي الناجح من عمل على استثمار التوازنات الدولية لتحقيق مصلحته الداخلية.
- نحتاج إلى تعريف صحيح للعميل من أجل أن نحسن قراءة الواقع. فمهام الحكم تجعل الحاكم في مواجهة العالم. وهذا يلجئه إلى المناورة واتباع (سياسة التوازن) بين متطلبات الشريعة ومطالب الشعب من جهة، وضغوط القوى العالمية من جهة أُخرى.
- “فقه المقاصد” القائم على معرفة “فقه الأولويات” و”فقه الموازنات”، يحقق للحاكم المسلم (سياسة التوازن) ضمن حدود الشرع.
[1]– السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف، ص 20، دار القلم، الكويت، 1408هـ – 1988م.
الموازنة
السياسة الشرعية
والموازنة بين المصالح والمفاسد
الشريعة حكيمة، جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد. وليست هي مجرد أوامر ونواهٍ معلقة في الهواء، أو تغرس في الأرض كيفما يُشاء. إن هذه المصالح قد تحيط بها ظروف وحاجات وتحديات متغيرة تجعل الحكم الشرعي عند الفعل غيره عند الأصل. وقد جاء في الشريعة نفسها ما يضبط هذا التغير، ولم يترك ذلك نهباً لضعف الإنسان وجهله وهواه.
التحديات الدافعة إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد
وإذا كانت الظروف والحاجات والتحديات دائمة التغير حسب الزمان والمكان، فإن من أكثر التحديات التي تواجهنا في عصرنا الذي نعيش فيه، ويحتاج المسلم -خصوصاً السياسي الذي يكون في موقع المسؤولية -إلى قرار وموقف يوازن بين المصالح والمفاسد طبقاً لضوابط الشرع يرجح تقديم هذا (أي القرار من حيث التنزيل والفعل)؟ أم هذا (أي القرار من حيث النزول والأصل)؟ أقول: من أكثر تلك التحديات ما يلي([1]):
- الانشغال بإشعال حرب واجبة في الأصل، ضد عدو معتد محتل. ينبني على حربه انهيار الدولة وتكالب الأمم؟ أم الانصراف إلى تحقيق مصالح الأمن الداخلي للمواطنين، والكفاية الاقتصادية للدولة، وتكوين علاقات حسنة مع دول العالم؟
- محاسبة فاسدين كثر، ينبني على محاسبتهم انشغال القضاء سنين طويلة، واضطراب الأمن، وتأليب العامة، وفقدان الحاضنة الداخلية، وانتشار الشائعات والأكاذيب عن تسلط الدولة وظلمها، وفقدان الولاء لها؟ أم تربية المجتمع، والعمل على كف أيدي السارقين المتنفذين، وتعيين الأكْفاء في المناصب المالية، وإشاعة العدل؟
- تطبيق الحدود الشرعية جملة دون تدرج؛ ما يؤدي بالناس إلى رفض الدولة والعمل على إسقاطها؟ أم تكوين رأي عام في الأمة تجاه أوامر الشرع وأحكامه لا سيما حدوده؟
- جباية الجزية من أهل الكتاب، وهدم كنائسهم الناشئة ومنعهم من بنائها؟ أم طمأنة تلك الأقليات الكافرة تجاه الحكم الإسلامي العادل، وتكوين رأي عام إيجابي لديهم عنه؟
- إلغاء السياحة كلياً مع تحمل ما ينبني عليه من رفض شعبي قد يتطور إلى ما هو أسوأ؟ أم التدرج فـي بناء السياحة المشروعة بالشروط التي يمكن تطبيقها ضمن الظرف المتدرج؟ وما يقال في السياحة يقال فـي الفن السائد.
- إغلاق المصارف الربوية وتصفية أموالها جملة واحدة؛ ما يؤدي إلى احتقان خطير داخل المجتمع وخارجه على النطاق الدولي، يؤدي إلى ضرر بالغ في استقرار الدولة واقتصادها؟ أم تحقيق مصالح إغناء المواطنين عن الاقتراض من هذه المصارف والمؤسسات الربوية عن طريق الدعوة والإعلام، وعن طريق تقديم البديل الشرعي، ونشره بين الناس، وتطوير تلك المؤسسات وتغييرها لتتلاءم مع الشريعة عن طريق عونها وإغرائها وتقديم البدائل لها؟
- عقوبة أصحاب محال الخمور ودور الزنا وفضحهم، وكسبهم أعداء للدولة؟ أم إغلاق هذه المحال والدور وإغناء أصحابها مالياً بتأمين أعمال شريفة لهم تسد حاجتهم، وتحقق الستر لهم، مع العمل على إعادة تأهيلهم إيمانياً وتربوياً لمنحهم فرصة للتوبة والانضمام إلى المجتمع ؟ مع التأكيد على ضرورة تحديد فترة زمنية مناسبة منعاً للتساهل والتماهل الذي يؤدي إلى التعود فالخضوع إلى الأمر الواقع.
محاذير سياسة الموازنة بين المصالح والمفاسد
خطران كبيران يكتنفان الأخذ بالخيار الثاني في حاجة إلى رصدهما والحذر منهما: الأول قبل التمكين، والثاني بعد امتلاك أدوات التمكين، وتهيؤ البيئة الداخلية للعمل بالأحكام الأصلية. وهما:
قبل التمكين:
- دخول العمل السياسي بلا قوة (القوة تعني الجسم المدني والجناح العسكري) يؤدي إلى انزلاق السياسي في دهاليز السياسة وضغوطها وإغراءاتها، دون إمكانية محاسبته أو ردعه.
بعد التمكين:
- أن تتخذ سياسة الموازنة ذريعة للاستقرار على ترك درء المفاسد المحرمة وجلب المصالح الواجبة، حتى بعد التمكين والقدرة على تطبيق المشروع بعيداً عن المحذور؛ فنصير إلى الحكم بغير ما أنزل الله اختياراً ورغبة!
إن هذا يتطلب ضرورة تأصيلاً وتخريجاً شرعياً يضبط الموازنة بين المصالح والمفاسد، تحقيقاً للسياسة الشرعية الرشيدة.
بعض الأدلة الشرعية
- قوله Y: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْـتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة:3).
- قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن:16).
- التدرج في تحريم الخمر، ومن نصوصه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة:219).
ومما جاء في الحديث مما يتوافق وما ذكرناه آنفاً من آيات الكتاب:
- روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي e قال لها: (يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم).
- روى البخاري عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله t يقول: كنا فـي غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمعها الله رسوله e قال: (ما هذا)؟ فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي e: (دعوها فإنها منتنة). قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبي e أكثر ثم كثر المهاجرون بعد. فقال عبد الله بن أبي: أوَقد فعلوا، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فقال عمر بن الخطاب t: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، قال النبي e: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).
- روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن أبا هريرة أخبره: أن أعرابياً بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله e: (دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء، أو سجلاً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
- روى البخاري عن جابر بن عبد الله ، يقول: قال رسول الله e: (من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله)؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: (نعم)، قال: فأذنْ لي أن أقول شيئاً، قال: (قل). فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنّانا، وإني قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضا والله لتملُّنه، قال: إنا قد اتبعناه، فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين.
- روى الترمذي وأبو داود وغيرهما عن بسر بن أَرطاة t قال سمعت النبي e يقول: (لا تقطع الأيدي في الغزو)([2]).
- ترك عمر بن الخطاب t حد قطع يد السارق فـي عام الرمادة.
مفاهيم ضرورية لفقه السياسة الشرعية وممارستها
تحتاج السياسة الشرعية إلى معرفة بالعلوم والمفاهيم التالية([3])، بعد معرفة (علوم الآلة) وعلى رأسها أصول الفقه، واللغة، والقرآن والحديث:
فقه المقاصد والأولويات والموازنات
المقاصد: وهو فقه مراد الله بعد فهم قول الله. يقول الإمام ابن قيم الجوزية (إعلام الموقعين عن رب العالمين:1/167): الفقه أخص من الفهم،
وهو فهم مراد المتكلم من كلامه. وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة.
فقه الأولويات: وهو معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق. أو هو وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم، أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغّر الأمر الكبير، ولا يكبّر الأمر الصغير.
فقه الموازنات: أو الموازنة بين المصلحة والمفسدة: وهو المفاضلة بين المصالح المتعارضة والمتزاحمة بين بعضها، وبينها وبين المفاسد إذا ازدحمت، وبين المفاسد نفسها إذا تعين فعلها وازدحمت مع بعضها؛ لتقديم الأولى بالفعل منها. ويلخصه قول عمر بن الخطاب t: (ليس العاقل من عرف الخير من الشر، إنما العاقل من عرف خير الخيرين). ويمكن تفصيل هذا القول ليكون (معرفة شر الشرين، وخير الشرين، وشر الخيرين). وله علاقة مترابطة بـ(فقه المقاصد) و(فقه الأولويات).
[1]– انظر: مسالك التمكين في السياسة الشرعية.. الموازنة في المصالح والمفاسد، ص27-30، بتصرف، أ عبد الله عيسى السلامة، د. عبد الله محمد ربابعة، د. أسامة عدنان الغنميين، دار عمار للنشر والتوزيع، عمان – الأردن، الطبعة الثانية، 1436هـ – 2051م.
[2]– صححه الألباني وغيره. ولفظ أبي داود (باب الرجل يَسرِقُ في الغزو، أيُقطَعُ؟ … عن جُنادَة بن أبي أُمية، قال: كنا مع بُسْرِ بنِ أبي أرطاةَ في البحرِ، فأتي بسارقٍ يقال له: مِصْدَرٌ، قد سرقَ بُخْتِيَّةً، فقال: سمعتُ رسولَ الله e يقول: (لا تُقطَعُ الأيدي في السَّفر) ولولا ذلك لقطعتُه. صححه شعيب الإرناؤوط. وقال الترمذي: حديث غريب. (قلت “طه”: وهو حكم بالضعف عند الترمذي) وقد روى غير ابن لهيعة بهذا الإسناد نحو هذا. والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم: الأوزاعي: لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو. فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه كذلك قال الأوزاعي.إ.هـ. ونقل ابن قدامة على هذا إجماع الصحابة، وأتى بعدة شواهد عليه عن عمر وحذيفة وسعد. انظر: المغني: 9/309.
[3]– اعتمدت في إيراد المصطلحات الأصولية الآنفة وتعريفاتها أو شروحها على أكثر من مصدر منها كتاب (تكوين ملكة المقاصد)، د. يوسف بن عبد الله حميتو، ط1، بيروت 2013. ومصادر أُخرى على شبكة المعلومات.
مفاهيم ضرورية لفقه السياسة الشرعية وممارستها
المصلحة
وهي جَلْبُ منفعة أَوْ دَفْعُ مضرة. وتقسم إلى معتبرة وملغاة ومرسلة.
فأما المعتبرة: فما وردت بدليل شرعي من كتاب أو سنة أو إجماع. مثل تشريع الجهاد وتحريم الخمر.
وأما الملغاة: فهي التي ألغاها الشارع من الاعتبار، أو كانت في خلاف المشروع كالديمقراطية في الحكم والبدعة في العبادة، وتسوية الذكر بالأنثى في الإرث.
المصلحة المرسلة
وهي مصلحة لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا بإلغاء. وحقيقتها كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع، دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو
الإلغاء. مثل جمع القرآن الكريم في مصحف واحد بعد أن كان مفرقاً. وعقد ورش التدريب لصناعة الخبرة.
الاستحسان
الاستحسان يتلخص في أمرين: (ترجيح قياس خفي على قياس جلي؛ بناء على دليل). و(استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة بناء على دليل خاص يقتضي ذلك)؛ وذلك مراعاة للمآل، واعتباراً للعوارض المحيطة بالمكلف، والتفاتاً للعدل والمصلحة، ورفعاً للحرج، وتحقيقاً للموازنة بين المصالح والمفاسد عن التزاحم، وتنزيلاً للأحكام على واقع الأنام. مثل قضاء الصوم دون الصلاة للحائض في رمضان؛ فإن مقتضى ظاهر القياس أن الصلاة أولى بالقضاء لأنها أعظم منزلة، لكن -عند التدقيق -يكون الحرج بقضاء الصلاة أولى بالمراعاة، ورفع الحرج أصل شرعي. وتجويز الفدية للحامل والمرضع، والأصل القضاء.
وتجويز الشرط مع البيع لمن يغبن في البيع ولا يحسن تجنبه مثل حبان بن منقذ فقال له النبي: (إذا بايعت فقل: لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام). وعقد الاستصناع وهو تعاقد شخصي مع صانع على أن يصنع له شيئاً نظير مبلغ معين، مع أنه بيع معدوم.
وإقامة الإقليم وإن خالف ظاهر أصل الجماعة. أو الانعزال عن الشيعة إن كان أهل السنة في حالة من الضعف بحيث لا يقدرون على دفع شر الشيعة عن دينهم واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وإن أدى ذلك إلى الانفصال بدولة مستقلة، كما فعل القوم الذين بين السدين مع يأجوج ومأجوج وقد طلبوا من ذي القرنين أن يفصلهم عنهم بسد؛ لأن الحفاظ على ضروريات الحياة من الدين والكرامة والنفس والعرض والمال والعقل أولى من الحفاظ على وحدة أرض لا يأمن فيها المسلم على كرامته وباقي مقومات وجوده كإنسان كريم.
سد الذرائع
والذريعة ما أفضى إلى فعل محرم؛ فله حكمه، كما في قوله سبحانه: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الأنعام:108). ومثل الإقامة في بلاد الكفر، وصناعة التماثيل.
تحقيق المناط
وهو الاجتهاد في إثبات وجود علة الحكم في الفرع. وهو وسيلة تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع. ويستلزم معرفة علة الحكم أولاً، ثم التثبت من تحقق مناط العلة نفسها في الفرع المراد الحكم عليه. والفرق بينه وبين القياس بزيادة مراعاة الأعيان والزمان والمكان والمآل. وهو (فقه الواقع والتوقع). وله صورتان:
الأولى: إثبات علّة في الفرع متـّـفق عليها في الأصل لإلحاق الفرع بالأصل. أي نقل حكم الأصل إلى الفرع بإثبات وجود هذه العلة الجامعة التي يدور عليها الحكم. ويمثلون له في الأصول بإثبات كون نباش القبور سارقاً لقطع يده. فالمناط هو السرقة إن اثبتناها طبقنا نص السرقة فيه. وإثبات أن علة اعتزال النساء في المحيض هي الأذى، فينظر في تحقيق الأذى في النفاس ليكون الحكم هو الاعتزال في حالة النفاس. ومن ذلك البحث فـي حكم السبي والاسترقاق في هذا الزمان: هل المناط مجرد الكفر؟ أم المقابلة بالمثل؟
الثانية: تطبيق القاعدة العامّة فـي آحاد صورها. مثال ذلك: قاعدة العدل في قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِـﭑلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى ٱلْقُرْبَى) (النحل:90). فتعيين ولي الأمر العدل يعتبر تحقيقاً للمناط؛ لأنّك طبّقت القاعدة العامّة وهي “العدل” فـي آحاد صُورها وجزئيّاتها وهو: تعيين أولياء الأمور، ونصب القضاة. وكذلك في قوله تعالى: (فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ) فلو قتل شخصٌ حماراً وحشياً فعليه بقرة لأنّها تشبه الحمار الوحشي.
وإلحاق هذا النوع بباب (تحقيق المناط) فيه مسامحة. قال الشنقيطي: “والمناط هنا ليس بمعناه الاصطلاحي؛ لأنه ليس المراد به العلة، وانما المراد بـه النص العـام وتطبيـق النص فـي أفراده هو هذا النوع من تحقيق المناط. ولا يخفى أن في عده من تحقيق المناط مسامحة، ولا مشاحة فـي الاصطلاح”([1]).
[1]– مذكرة أصول الفقه، ص227، محمد الأمين بن المختار الشنقيطي.
اعتبار المآل
اعتبار المآل
وهو مجاوزة الواقع إلى ما هو متوقع؛ للحكم عليه بما يناسب المقصِد الشرعي من وضع الحكم. ويستلزم اعتبار المآل معرفة بقواعد أو مسالك تطبيقية للتحقق من تنزيل الأحكام تنزيلاً سليماً مثل: التدرج والتأجيل والاستثناء.
التدرج
وهو التنزيل الجزئي لأحكام الشريعة على الواقع بحسب ما يقتضيه ترتيب المصالح والمفاسد. وفيه مراعاة لقوانين النفس والاجتماع وطبيعة النفس البشرية. ويشهد له ما فـي (البخاري) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ” إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام. ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً. ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً. لقد نزل بمكة على محمد e وإني لجارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده”.
وفيما رواه الشيخان من وصية النبي e لمعاذ بن جبل t دليل حين أرسله إلى اليمن من التدرج في دعوة الناس إلى التوحيد ثم الصلاة ثم الزكاة. ويشهد لذلك، إن صح، ما قاله عبد الملك بواعز فورة الشباب المتحمس لأبيه عمر بن عبد العزيز: (يا أبت ما لك لا تنفذ الأمور؟! فوالله ما أُبالي لو أن القدور قد غَلَتْ بي وبك في الحق) فأجابه: (لا تعجل يا بني؛ فإن الله قد ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحَرَّمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً فيدفعوه جملةً، ويكون من هذا فتنة). ثم دخل عليه ثانية، وقال: (يا أمير المؤمنين: ما أنت قائل لربِّك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم تُمِتْها، أو سنةً فلم تُحْيِها؟!) أو قال: (إِنِّي لأرَاك يَا أبتاه قد أخرت أموراً كَثِيرَة كنت أحسبك لَو وليت سَاعَة من النَّهَار عجلتها، ولوددت أَنَّك قد فعلت ذَلِك وَلَو فارت بِي وَبِك الْقُدُور) فقَالَ لَهُ عمر: (أَي بني إِنَّك على حسن قسم الله لَك وفيك بعض رَأْي أهل الحداثة وَالله مَا أَسْتَطِيع أَن أخرج لَهُم شَيْئا من الدّين إِلا وَمَعَهُ طرف منالدُّنْيَا أستلين بِهِ قُلُوبهم خوفًا أَن ينخرق عَليّ مِنْهُم مَا لَا طَاقَة لي بِهِ). وروي بطرق لا تصح.
التأجيل
وهو العدول عن تطبيق الحكم الشرعي في ظرف معين وإسقاط العمل به في ذلك الظرف حتى يحين ظرف آخر مناسب يعاد فيه ذلك الحكم إلى التطبيق. مثاله ما رواه الشيخان أن النبي e قال لأم المؤمنين عائشة ر: (لولا حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ. وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفين) أي بابين. وهذا داخل في باب تعارض مصلحة مع مفسدة أكبر منها، ولا يمكن فعل إحداهما إلا بترك الأُخرى؛ فيقدم درء المفسدة الأكبر، والانتظار بالمصلحة إلى حين زوال صحبة المفسدة. وأيضاً نهي النبي e عن إقامة الحدود في الغزو اعتباراً للمآل الضرري على المسلمين؛ إذ قد يدفع الحد من أقيم عليه إلى الالتحاق بالعدو وما شابه ذلك. ويقول القرطبي: “إنهم اتفقوا على أن للإمام أن يؤخر القصاص إذا خاف فتنة”.
الاستثناء
هو العدول عن تطبيق الحكم الشرعي في حق بعض الأعيان والوقائع والأمكنة.. مثل عدم قطع أمير المؤمنين عمر t يد من سرق عام الرمادة. وإسقاطه سهم المؤلفة قلوبهم لزوال علته رعاية لمصلحة المسلمين.
قواعد أصولية
بذلك جاءت القواعد الأصولية وعلى رأسها قاعدة (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)، وقواعد أُخرى عظيمة في هذا الباب مثل: (الضرورات تبيح المحظورات)، و(لا ضرر ولا ضرار). وقاعدة: (يغفر في البقاء ما لا يغفر في الابتداء). ومثالها ترك النبي e بناء الكعبة على قواعد إبراهيم u.. وقاعدة: (المنع أسهل من الرفع) ومثالها حديث البائل في المسجد فإن النبي e أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه، وقد يحدث عليه جراء ذلك داء في بدنه، وينجس موضعين، وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد؛ فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر. وهذا كله – كما يقول الشاطبي – نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة مقتضى النهي أو تزيد.
وهذه القاعدة تعتني بالمنهيات بعد الوقوع. وقد عرفنا سابقاً أن الشريعة الإسلامية مقصدها تحقيق مصالح العباد، وأن الأوامر فيها لجلب المصالح، وأن النواهي فيها لدرء المفاسد. وهذه القاعدة جاءت لتعالج تصرفات المكلف بعد تلبسه بالممنوع اذا ترتب على منعه مفسدة أشد أو أكبر. قال بعض العلماء: ”إن المفسدة التي حرم الله لاجلها الممنوع ستقابل بمفسدة اشد إذا أردنا زواله فنرجح بقاءه على وجه يليق بالعدل، وبذلك نتفادى وقوع ضرر أكبر من ضرر الأصل”.
وهذا كله يبرز أهمية تلك القاعدة الجليلة في دفع المفاسد. وهذا يؤكد أن هذه القاعدة نوع من أنواع الاجتهاد التطبيقي، أنيطت بها مهمة ترجيح إحدى كفتي الميزان بعد النظر في الواقع الجديد بما هو مصلحة للمكلف.
الثبات والمرونة في الشريعة الإسلامية
إن هذا يُثبت ويحقق خاصية (الثبات والمرونة في الشريعة الإسلامية). وقد جاء في بعض تعريفات (المرونة): “الحد الفاصل بين الثبات المطلق الذي يصل إلى درجة الجمود، والحركة المطلقة التي تخرج بالشيء عن حدوده وضوابطه، أي إن المرونة حركة لا تسلب التماسك، وثبات لا يمنع الحركة”. والشريعة الإسلامية وسط بين الجمود والميوعة؛ إذ تنقسم أحكامها إلى قسمين:
الأول: أحكام ثابتة لا تقبل التجدد أو التطور. وهي المسائل التي وردت فيها نصوص قطعية في ثبوتها وفي دلالتها؛ فهي لا مجال فيها للاجتهاد، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان. إلا في جانبها التنزيلي على مواردها من الواقع. وهو ملحظ من ملاحظ المرونة في شريعة الإسلام.
الثاني: أحكام قابلة للاجتهاد والرأي والنظر. وتشمل جانبين، الأول: ما استجد من الحوادث ولا نص فيها. والجانب الثاني: الأحكام الظنية من حيث ثبوتها أو دلالتها، فهي قابلة للاجتهاد البشري من خلال مسالك الاجتهاد والاستنباط المعروفة. هذا ما جعل التشريع الإسلامي قادراً على التكيف ومواجهة التطور والملاءمة مع كل وضع جديد بحيث لا يحدث جديد إلا وللإسلام فيه حكم: إما بالنص وإما بالاجتهاد. وبذا فهولا يضيق بالوقائع المستجدة وحاجات الناس ومصالحهم.
لا بد من ضبط فقه المقاصد والمصالح وبقية أنواع الفقه بضوابط الشرع، فما كل مصلحة جازت عقلاً اعتبرت شرعاً. وقواعد مثل (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، و(ما لا يتم الباطل إلا به فهو باطل)، و(الوسائل لها حكم المقاصد).. ليست على إطلاقها. فالجلوس على مائدة الخمر لا يصح وسيلة لدعوة الخميرين.
وفـي ضوء ما قدمنا نفهم قول الفقيه الأصولي الحنبلي نجم الدين الطوفـي (ت: 716هـ) فـي شرحه لحديث (لا ضرر ولا ضرار): “ولا يقال إن الشرع أعلم بمصالحهم -مصالح العباد -فلتؤخذ من أدلته، لأنا نقول: قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأخصها، فلنقدمها في تحصيل المصالح، ثم إن هذا إنما يقال في العبادات، التي تُخفَى مصالحها عن مجاري العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم، فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإذا رأينا دليل الشرع متقاعداً عن إفادتها، علمنا أنه أحالنا في تحصيلها على رعايتها”([1]).
اكتساب الملَكات
من الضروري التمرن على هذه العلوم والقواعد والمفاهيم حتى تتحول لدى السياسي إلى ملَكة([2]) خادمة للسياسة الشرعية، والتي لا يستغني عنها القائد الرباني لا سيما السياسي. مثل:
- ملكة الاستقراء: وهو تقرير أمر كلي بتتبع جزئياته.
- ملكة التقعيد: وهو تأسيس قضية كلية جامعة مانعة، حاكمة بصيغتها على كل ما يصدق عليه عنوانها؛ بناء على تتبع جزئيات موضوعها.
- ملكة التكييف: وهو التصور الكامل للنازلة وتحريرها وبيان انتمائها إلى أصل معين معتبر. ويحتاج التكييف تصوراً تحصل معه صورة الشيء في العقل بناء على قاعدة “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”.
[1]– التعيين في شرح الأربعين، ص237. وقد قيد الطوفي كلامه هذا بما يشبه ما قلناه، وذلك في كتابه (مختصر الروضة) و(شرحها).
[2]– الملَكة: صفة راسخة في النفس، أو استعداد عقلي خاص لتناول أعمال معينة بذكاء ومهارة). ولا تحصل إلا بالتعليم وطول المران.
الحكم الراشد في الإسلام
الحكم الراشد في الإسلام
يقودنا الاستقراء إلى أن عناصر الحكم وقواعده الأساسية فـي الإسلام خمس، تمثل أهم مكونات الحكم الراشد ومضامينه فـي الإسلام. وهي:
- تحكيم الشريعة.
- إقامة العدل بين الناس (الشعب)، وكماله الرحمة.
- تحقيق الأمن. وهو قسمان:
أ. داخلي: بالحفاظ على أرواح الناس وأموالهم، وعقاب من يهددهم في ذلك. ومن ذلك ما جاء في حد (الحرابة)، ومسؤولية الحاكم في تأمين الطرق وتنفيذ الحدود على المخالف.
ب. خارجي: لحماية الدولة ببناء (القوة)، وتنظيم العلاقات مع الدول: سلماً وحرباً.
- توفير فرص الكسب والعيش الكريم.
- الشورى. وهي الوسيلة الشرعية الموصلة إلى المقاصد السابقة.
وعلى هذا يدور كلام العلماء من السياسيين وغيرهم. يقول علي بْن أَبِي طَالِب t: (لا بد للناس من إمارة: برة كانت أو فاجرة. فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؛ فقال: يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء)([1]). فذكر أصول المقصود من الإمارة وهي: تطبيق الشريعة (إقامة الحدود)، ورعاية الناس في أمنهم ورزقهم (أمن السبل وتقسيم الفيء)، وهذا في الداخل. وحماية الدولة بدفع العدو، وتمامها بالجهاد لنشر الرسالة.
وقال أبو المعالي الجويني: (الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين)([2]).
مع ملاحظة ما يلي:
- مدار الحكم الصالح على العدل، لا على المساواة.
- المساواة معتبرة متى ما حققت العدل، وإلا فهي هدر.
- والحرية حق مكفول للناس. فالناس أحرار داخل حدود الشرع وضمن ضوابط الاجتماع. فلا حرية في مخالفة الشريعة. كما أن حرية الفرد أو المجموع تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين: فرداً أو مجموعاً.
عدم تحديد شكل للحكم في الإسلام
أما شكل الحكم، فلم يرد في الشرع تحديد له، وحصره في نوع معين من أنواع الحكم. فأي نظام تكتمل فيه هذه العناصر فهو حكم شرعي سواء كان خلافياً أم ملكياً أم جمهورياً أم غيره. فقد اختار الله تعالى لبني إسرائيل ملكاً كطالوت، ومدح ملكاً كذي القرنين. فالمدح والذم يتوجه لمضمون الحكم لا إلى شكله. وفي ذلك ورد القول عن سيدنا علي أنه قال يوم الجمل: إن رسول الله e لم يعهد إلينا عهداً نأخذ به في إمارة، ولكنه شيء رأيناه من قبل أنفسنا، ثم استخلف أبو بكر – رحمة الله على أبي بكر – فأقام واستقام، ثم استخلف عمر -رحمة الله على عمر -فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه([3]).
مجمل القول: الإسلام يركز على المضمون ولا يهمه الشكل، وبهذا نزلت نصوص الوحي كما قال سبحانه في وصف الحاكم الراشد:
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:40،41).
الشورى في الإسلام
- الشورى: مأخوذة لغة من (شَوْر) العسل: وهو استخراجه من خلاياه. فالشورى استخراج الرأي من مواضعه في رؤوس المستشارين، بالنقاش والتداول. فالمستشير يستخلص من المستشارين رأيهم، كما يستخلص النحال العسل من الخلية ويصفيه وينقيه مما يعلق به من شوائب كالشمع وغيره.
- حقيقة الشورى: الرجوع إلى أهل الرأي والاختصاص في الأمور الدينية والدنيوية، سواء في ذلك المسائل الظنية الاجتهادية، والمسائل النصية القطعية من ناحية تنزيلها على مواردها في الواقع؛ للوصول إلى الأصلح والأنفع للأمة.
- المستشارون: هم الخبراء من كل أصناف المجتمع تبعاً لاختصاصهم يستوي في ذلك جميع العلوم الضرورية من الدين والسياسة والعسكرية والقانون والاقتصاد والاجتماع والنفس والتاريخ وغيرها. وتحديد صنف الخبراء المستشار تبع للنازلة المستشار فيها.
- أهل الحل والعقد: أصحاب الشوكة والعصبية والقوة من الرؤساء والقادة والعلماء وسائر وجوه الناس القادرين على حسن الاختيار وتحقيق الإرادة، وإمضاء الأمر على المخالف. والقوة شرط فيهم؛ فلا حل ولا عقد دون قوة تلزم الناس به. والفرق بينهم وبين المستشارين وجود الشوكة. والشوكة هي القوة النافذة: معنوية كانت أو مادية؛ فليس كل مستشار من (أهل الحل والعقد). ونرى أن أصل الشوكة ذاتي يتمتع به المستشار بحكم امتلاكه لعصبية أو شعبية أو منصب أو مال، أو ما شابه ذلك. لكن لا بد من تفويض وتعيين رسمي للأفراد الذين يمثلون (أهل الحل والعقد) منعاً للفوضى.
- ونرى أن الشورى واجبة، على تفصيل تبعاً للأمر المستشار فيه.
- الشورى لا تقتصر على اختيار الحاكم وحسب، وإنما تتجاوزه إلى إدارة شؤون الدولة بعد تولي السلطة.
- ثمت جوهري بين الشورى واتخاذ القرار. الشورى هي كما أسلفنا. أما اتخاذ القرار فله آلية أُخرى. والأصل فيها أن من له الإمرة هو الذي يملك ذلك بعد إجراء الشورى واستطلاع الرأي. وله الحق في أن يكل جزءاً من صلاحيته لغيره فيشرك أهل الشورى في حسم الأمر طبقاً لأي آلية يراها، كما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t في نقل السلطة إلى من بعده؛ إذ جعل الأمر لستة يختارون من بينهم من يرونه الأصلح. وعلى هذا الأساس نقول:
- الشورى – بعد إجرائها – مُعلِمة لا ملزمة. ويضبط الأمر خوفاً من وقوع فوضى الاستبداد بوجود جهة عليا لها حق الرقابة على الحاكم، وعزله إذا وجدته يغلب عليه الاستبداد الضار أو لا يحسن الأخذ بالرأي الأصوب. وتوضع لذلك ضوابط تُضمّن في (النظام الداخلي/الدستور).
- البيعة بيعتان:
لكن ليس كما دلس فيهما الإسلاميون المتأخرون. إنما حقيقة البيعتين كما يلي:
- بيعة الانعقاد: وهي حق الخليفة السابق لمن يختاره، فإذا استخلف أحداً انعقدت البيعة له شرعاً. وبقي تنفيذها متوقفاً على طاعة أهل الشوكة والعامة.
- بيعة الطاعة: وهي بيعة أهل الحل والعقد أو أهل الشوكة، وبيعة العامة.
والناظر في أدلة الشرع وتطبيقاتها يجد أن الشرع راعى في البيعة أمرين:
- انعقاد البيعة شرعاً. وهذا مرجعه إلى الحاكم السابق. إلا إذا افتلت قبل أن يعين خلفه لأي سبب من الأسباب. فيكون انعقاد البيعة هنا راجعاً إلى أهل الشأن، وهم من يطلق عليهم مصطلح (أهل الحل والعقد).
- انعقاد البيعة واقعاً. وهذا يتوقف على جهتين:
أ. بيعة أهل الحل والعقد.
ب. ثم بيعة عامة الناس.
فإن امتنعت إحدى الجهتين فهي آثمة بصرف النظر عن أثر هذا الامتناع في إمضاء العقد واقعاً من عدمه.
بهذا تكون البيعة الصحيحة شرعاً السليمة العواقب واقعاً ما تمت على ثلاث مراحل:
- اختيار الإمام بعد مشاورة أهل الشأن. وبه تنعقد البيعة الشرعية لمن عقدت له.
- بيعة أهل الحل والعقد لمن اختاره الخليفة. وبها تتم الخطوة الأولى والأكبر لتنفيذ البيعة وجعلها واقعاً ملموساً؛ لأنهم يملكون الشوكة، ويتبعهم جمهور العامة. وبهذا تضمن الخطوة الثانية والأخيرة، أو المرحلة الثالثة. فإذا بايع أهل الشأن حصل الاطمئنان بموافقة العامة، وصارت فرصة المخالفة ضعيفة الوقوع أو ضعيفة الأثر.
- وتبقى المرحلة الثالثة، وهي أشبه بتحصيل الحاصل. فإنه يندر أو ينعدم أن يبايع أهل الشأن ويخالفهم جمهورهم. ولو افترضنا حصل امتناع من العامة وتمرد على الخليفة الجديد، فإن بيعته لا تتم واقعاً إن لم تكن عند الخليفة قوة قاهرة. وإن غلبته العامة كانت آثمة لعصيانها أمر الخليفة السابق.
وهذا مجرد افتراض قد لا يكون وقع وربما لن يقع، كتبته لتجلية حق الاستخلاف، ودور كل من النخبة والعامة فيه.
- تختلف الشورى عن الانتخاب من حيث إن الشورى طريقة لاستخراج الحكم وتعيين الحاكم، أما الانتخاب فوسيلة لتعيين الحاكم لا استخراج الحكم. الشورى استخراج الرأي واستبيانه بالتداول بين أهل الشأن. والانتخاب هو اختيار واحد من بين عدة مرشحين بالتشاور بين أهل الشأن. وهي مسألة زائدة عن الشورى، وإن كانت داخلة فيها. فكل انتخاب شورى، وما كل شورى انتخاب، ولا هو لازم لها.
- الانتخاب هو أحد طرق تولية الحاكم، وليس الطريقة الوحيدة. فقد يتم اختياره بغير الانتخاب أي بتعيين واحد يتم التشاور بشأنه كما فعل أبو بكر يوم عيّن عمر، ولم يلزم -ولا يلزم -منه انتفاء الشورى. فلا تلازم بين عدم الانتخاب وعدم الشورى.
- الانتخاب الشرعي – إذا جرى العمل به لتعيين الحاكم – لا يرجع به إلى جمهور الناس، وإنما هو حق النخبة؛ لأنهم الجهة العليمة بأمر الساسة ومن يصلح للسياسة. والسياسة بمختلف شؤونها أمر تخصصي ضيق المسالك لا يحسنه الجمهور، وليس من شأنه. وما فعله الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف t للترجيح بين عثمان وعلي رضي الله عنهما اجتهاد منه. وميل عامة الناس إلى عثمان أكثر من علي لم يكن منهم لسبب موضوعي علمي يتعلق بالسياسة، وإنما لسبب ذاتي عاطفي يتعلق بحب الناس للحاكم اللين الجانب أكثر من الشديد، لا سيما إذا كان غنياً كريماً. وكان علي شديداً كعمر، ولم يكن غنياً. فمال الناس عنه إلى عثمان للينه وسماحته مقارنة بعلي. وفي كلٍّ خير. وإنما أردنا الغوص في هذه المسألة لفهمها على حقيقتها، وبيان كون الجمهور هو الجمهور في عاطفيته ومزاجيته ومحدودية إدراكه ونطاق اختياره في كل زمان ومكان. لا الوقوف عند ظاهرها كما هي عادة المحتجين بها. وفي رأيي أن الأمة آنذاك كانت أحوج إلى شدة علي منها إلى لين عثمان، وفي عهد علي كانت أحوج إلى العكس، والله أعلم.
- لا بأس باللجوء إلى الانتخاب فـي حالات معينة. مثل أمر النبي e الأنصار في (بيعة العقبة الكبرى) أن يخرجوا من بينهم اثني عشر نقيباً. على أنه انتخاب محدود بمجموعة معينة لا مفتوح على الجمهور. وقد روي أنه لما ولى ابن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي خراسان قَالَ له: عليك بعمال العذر. قَالَ: وما عمال العذر؟ قَالَ: من شاورت فيه العامة فأشاروا عليك به؛ فإنهم إن أحسنوا كان حسنهم لك، وإن أساءوا اتسع العذر بينك وبينهم وبين الناس. لكن في الخبر علتين: الانقطاع. وكونه فـي الشورى لا فـي الانتخاب.
- لا نجد مانعاً شرعياً من تحديد فترة معينة لولاية الحاكم. مع مراعاة حاجة الشرقيين الماسة إلى رمز معنوي ذي شخصية أبوية آسرة. وفي الموازنة بين وجود رمز دائم محدد الصلاحيات منضبط بدستور، ووجود مجلس تشريعي وحكومة تنفيذية متغيرين حل وسط لهذه الإشكالية.
- الشورى شيء والديمقراطية شيء آخر: تأصيلاً وتفصيلاً. وفي الشورى غنية. ولا بأس في الاستفادة مما توصل إليه العقل البشري ضمن ضوابط الشرع، بل ذلك مندوب مطلوب.
- نرى أن الديمقراطية نظام سيئ، وإن تضمن بعض المحاسن التي لا مانع من الأخذ بها؛ وذلك لمخالفته للشريعة، ولأنه خدعة وضعت للاستحواذ على السلطة من قبل الأغنياء والأقوياء، قائمة على الدعاية والإعلام إيهاماً للجمهور بأنه يختار الحاكم برأيه وإرادته. والحقيقة أن الشعب مُسير في ذلك بالإيحاء والإغراء لا مخير. هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن السياسة، ومنها معرفة من يصلح للحكم ممن لا يصلح، فن معقد لا يحسنه سوى النخبة، والجمهور عاجز بطبعه عن إدراكه وإتقانه.
[1]– السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص51، ابن تيمية. وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1418هـ .
[2]– غياث الأمم في التياث الظلم، ص22. عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين (ت 478هـ)، تحقيق عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية، 1401هـ .
[3]– رواه أحمد، وفيه رجل لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح. انظر الرابط التالي:
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=8954&idto=8998&bk_no=87&ID=1863
التمكين
التمكين .. بين مفاهيم الدولة ومفاهيم الأمة
الإسلام دين ودولة .. لكن بمفاهيم أمة
مفهوم الدولة مفهوم سياسي عسكري، بينما مفهوم الأمة مفهوم ثقافـي إنساني.
أرض وشعب وحكومة.. هذه هي مكونات الدولة، والحكومة سياسة وقوة. أما مكونات الأمة فكل ما يقوم عليه بناء الدولة من معان ومفاهيم إنسانية تشكل ثقافة الشعب وأخلاقه وسلوكه داخل الدولة. ولا تماسك ولا استقرار ولا نماء ولا استمرار لدولة لا تقوم على مفاهيم أمة.
والإسلام دين ودولة، لكن بمفاهيم أمة.
لقد كانت مفاهيم الأمة حاضرة في دين الإسلام منذ لحظة نزوله، وذلك قبل قيام الدولة أو نزول مفاهيمها. ففي سورة (العلق) كان العلم والنظر في آفاق الكون ودلائله، والنفس وما فيها من علل، والمجتمع وما فيه من طواغيت. كل ذلك موشحاً بالإيمان باليوم الآخر، ومختوماً بالسجود والقربى. وفي سورة (القلم) دخل الخُلُــق بشقيه الإيجابي والسلبي ميدان التأسيس. وفيها النظر في تاريخ الماضين؛ ليأخذ المتلقي: نبياً وأصحاباً درساً في الثبات؛ فعاقبة الخروج عن السبيل، ولو قليلاً، مخيفة. ولم ينزل الأمر بدعوة الخَـلق وإنذارهم في سورة (المدثر) قبل استكمال عدة العلم والخُلُــق والعبادة، ولم يكتب إلا محفوفاً بجملة من الشروط والمؤهلات ابتدأت بتعظيم الرب وانتهت بالأمر بالصبر؛ فمن كان عاجزاً عن دعوة نفسه وتربيتها فهو عن غيره في ذلك أعجز.
وتواتر التنزيل المكي يربي في نفوس الصحابة مفاهيم بناء الأمة وتهيئة المجتمع. تأمل سورة (الإسراء) وما فيها من مفاهيم بانية للمجتمع. منها تأسيس الدعوة على العلم بالحقائق لا على المعجزات والخوارق. وهو مفهوم يكاد يغيب عن ذهن المسلم اليوم. وتتابعت المفاهيم فكان منها أسباب هلاك الأمم، والتوحيد، وذم الشرك، وبر الوالدين، وصلة الأقارب، والإحسان إلى المحتاج موصولاً بذم الإسراف والتبذير علاجاً لطغيان حالة الكرم عند العربي عن حدها. وكان منها النهي عن قتل النفس والزنا وأكل مال اليتيم. وتطرقت إلى السوق لتعالج الجشع: إجرائياً فأمرت بإيفاء الكيل والميزان، وإيمانياً فذكرت أن هذا خير وأبرك عاقبة. وعالجت العقل فأرشدت إلى تفعيل مداخل علمه: السمع والبصر والفؤاد. كما عالجت النفس فنهت عن الخيلاء والكبرياء. وفي ذلك ما فيه من التواضع للخَـلق وترك التعالي عليهم، فتتقارب النفوس وينبعث الحب وتزيد الروابط بين المجتمع. ودون ذلك لا يمكن إقامة دولة قوية متماسكة.
وتربية المسلم على أنه صاحب رسالة عالمية: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (ص:88،87). والتواصل الروحي مع الأنبياء والرسالات والأمم المسلمة السابقة.. جزء من مفاهيم الأمة: (… وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ * إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:47-92). وفـي سورة (المؤمنون) نسق مشابه. وهكذا؛ فكانت الفترة المكية محضناً لتربية المسلمين على مفاهيم الأمة.
قيام الدولة الربانية على مفاهيم الأمة
ثم تأسست الدولة في المدينة وقام بناؤها، وتنزلت مفاهيمها من العدل والشورى وإعداد القوة وبسط الأمن الداخلي والخارجي وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وتوفير الخبز وفرص العمل وتشغيل الأيدي العاطلة وغيرها. ولكن كانت مفاهيم الأمة هي الأساس الذي قام عليه بناء الدولة. وفي سورة (البقرة) بيان تفصيلي للترابط الوثيق بين تلك المفاهيم بشطريها. ومن أمثلتها تأسيس الجهاد -الذي هو، في أصله، مفهوم دَوْلتي -على الرسالة: ملخصةً بـ(الهدى) تأصيلاً وتفريعاً، وعلى الترابط الاجتماعي مشاراً إليه بالزواج من الأيامى وكفالة اليتامى، وما تبع ذلك من بيان للعلاقة الأسرية الناجحة. عدا الأمر بالزكاة والصدقة والدَّين والإنفاق في وجوه الخير. وغير ذلك من أسس الترابط الاجتماعي. مع النهي الشديد عن كل ما يؤدي إلى التفكك المجتمعي ومنه الربا.
وبقيت هذه المفاهيم الأممية تتنزل حتى آخر سورة وهي (النصر) مع أن موضوعها وهو النصر على الأعداء يتعلق بالدولة. لكن الله تعالى أراد من عبده المنتصر أن ينظر إليه نظرة ثانية. فالنصر الذي تحقق هو (نصر الله) لا نصره؛ لهذا عليه أن يسبح الله تعظيماً له على إنجاز ما وعد. فالله هو الذي يُعظم في هذه الحال، فيلهج بذكره. وأما الفاتح المنتصر فليس له – وهو في أوْج النصر – إلا الاستغفار والتوبة مما اعترى فعله من نقص وتقصير، ولا غير. وغياب هذا المعنى هو الذي يفسح المجال لدى الفاتحين لبروز الغرور وظهور معالم الطغيان التي تبلغ مداها في استباحة البلاد المفتوحة وظلم أهلها.
عندما تطغى مفاهيم الدولة على مفاهيم الأمة
إقامة الدولة أمر ممكن متى ما ابتغيت إليه أسبابه. لكنها – إذا كانت خاوية من مفاهيم الأمة – إما تزول سريعاً أو تكون قائمة على الاستبداد؛ لأن هذه المفاهيم هي التي تصنع الدِّعامة الساندة والحاضنة الصالحة، وبفقدانها ستختل العلاقة بين الحاكم والشعب فيجد نفسه مجبراً ومدفوعاً إلى استعمال القوة للحفاظ على كيان الدولة، وسيجد مئة عذر وعذر يسوغ له حكم الناس بالقوة. وهذا هو الاستبداد، وفاعله المستبد. وليس شرطاً أن يكون المستبد شاعراً بأنه مستبد. بل قد يكون منسجماً مع نفسه وإرادته وفعله مهما كان؛ أليس ما يفعل لأجل دولة الإسلام؟ وفي نهاية المطاف ينفصل الشعار عن الواقع، فتكون الدولة إسلامية وحقيقتها استبدادية؛ فالأمر ليس بالتمني ولا بالتحلي. ولكل شيء لغته ومفتاحه.
حين لا تقوم الدولة على مفاهيم الأمة يكون الجيش حامياً للدولة لا حامياً للشعب، وتتحول الدولة إلى كيان عسكري مخابراتي ليس لأجهزته الأمنية مهمة تتعدى التجسس على الناس ومتابعتهم ومطاردتهم حفاظاً على سلامة الحاكم وأعوانه، وعلى هيكل الدولة ومؤسساتها؛ لأن العلاقة بين الدولة والأمة أو بين الحاكم والشعب استحالت إلى كراهية وشك وتوجس وخوف. على العكس مما لو قامت الدولة على مفاهيم الأمة فإن الجيش يكون حامياً للشعب، والحاكم جزء من هذا الشعب فحمايته تحصيل حاصل؛ وعندذاك يستميت الشعب في الحفاظ على هذه الدولة.. على هذه الأمة.
الاستثناء وارد .. ولكن إلى حين
هذا هو التسلسل الطبيعي لقيام دولة الإسلام. يكون بناء الأمة فيه مقدماً على قيام الدولة رتبة وتوقيتاً. لكن هذا لا يعني عدم التعامل مع المتغيرات بحسبها؛ فقد نلجأ إلى حمل السلاح لحماية الذات قبل نضوج الفكر بما فيه من مفاهيم. والانتظار حتى اكتمال البناء طبقاً لهذا التسلسل قد يسبقه المحو فالزوال. لهذا نحن مع أي جهد لإنقاذ أهل السنة وحمايتهم من طاغوت الشيعة: سياسياً كان الجهد أو عسكرياً، وإن كنا لا نتفق معه تمام الاتفاق. ومن هذا الباب دعونا وندعو لتكوين الإقليم السني. ومن الباب نفسه نفرح لانتصارات أسود السنة دون تفريق على الشيعة وأعوانهم دون فرق، وندعو لهم بالنصر والصلاح. ولكن نحن نعلم يقيناً أن إقامة دولة بعد التمكن العسكري مع إهمال أو ضعف توفر مفاهيم البناء المدني الأممي سيؤدي بهذه الدولة إلى النهاية المذكورة آنفاً مهما كانت نواياها صالحة، أو ظنت نفسها كذلك. وإن أسمت نفسها دولة أو خلافة إسلامية؛ فالعبرة بالحقائق والمعاني لا الأسامي والمباني. وهذا هو الذي يدعونا للتحذير والنصيحة والبيان.
المشروع المدني
تجنب المطب الكبير الذي سقطت فيه الأمة منذ زوال الخلافة الإسلامية، يحتاج ضرورة إلى البناء على مشروع نهضة ربانية بانية يبدأ من الأسس، وتعلو سافاته من هناك يتلو بعضها بعضاً دون قفز أو فجوة بسبب ردات الفعل الطارئة، وإنْ تعامَل مع الطوارئ بحسبها. وهو ما أسميناه بـ(المشروع المدني) الذي نتبناه وندعو إليه بقوة؛ ففي هذا المشروع يتم الإعداد لجيل واعد عظيم، يعرف كيف يقيم دولة ولكن بمفاهيم أمة.
الحاضنة الاجتماعية من مفاهيم الأمة في إقامة الدولة
الحاضنة الاجتماعية من مفاهيم الأمة في إقامة الدولة
الإسلام دولة، لكن بمفاهيم أمة.. مفاهيم تقوم على مبادئ إنسانية وثقافة مدنية ومنطلقات حضارية أخلاقية. تؤسس لدولة على قواعد ثابتة تتجاوز المحلية إلى العالمية؛ ولولا هذه المفاهيم الراقية الراسخة ما تهيأ للإسلام أن يقيم دولة عالمية امتدت عميقاً في الزمان والمكان، وهي اليوم تتهيأ لأداء الدور نفسه، وتدوير عجلة التاريخ بيد الإسلام العظيم مرة أُخرى (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21).
من المفاهيم الأممية للإسلام، ذات البعد الاجتماعي والسياسي مفهوم “الحاضنة الاجتماعية أو الشعبية”. وهي ببساطة المجتمع الذي تعيش وتتحرك فيه.
إن تكوين “حاضنة اجتماعية” يتطلب إقامة نوع من الروابط العامة مع المجتمع المحيط أساسها الحب والتسامح والرحمة والعدل والإنصاف. ولأن المجتمع الإسلامي يقوم على التنوع الديني والقومي والمذهبي فتكوين “الحاضنة” بطبيعة الحال لا يشترط له الاتفاق في كل شيء، وإنما يكفي فيه نوع من التوافق على الأهداف العامة للفرقاء، يعود على الجميع بالفائدة بصورة متوازنة تقتضي شيئاً من التنازل الخاص حفظاً للوجود العام ضمن حدود الإسلام. وهنا ينقسم الناس طرفين ووسطاً: طرفاً ينفلت من كل قيد شرعي أو عرفي مراعاة للحاضنة. وطرفاً يهمل رعاية الحاضنة حفاظاً للقيد الشرعي أو العرفي. ووسطاً بين هذا وهذا. فإذا كان ضمن ضوابط الشرع في تحقيق التوازن كان هو الحق الذي يؤسس لدولة على قواعد ثابتة تتجاوز المحلية إلى العالمية. ودون ذلك فباطل محض، أو باطل مغلف بحق.
يشهد لذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة، كقوله سبحانه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9،8).
أما النبي e فكان يحرص على كسب “الحاضنة الاجتماعية” وتكوينها وإدامتها. ومن أهم وسائل كسب “الحاضنة” استمالة شيوخها ورؤسائها وقادتها، وإن كانوا جفاة ذوي أخلاق صعبة وسلوك اجتماعي خشن، أو يحملون في أنفسهم ضغينة للمسلمين ويترصدون الفرص السانحة لأذاهم. وفي موقف النبي e من عيينة بن حصن الفزاري وعبد الله بن أُبَي بن سلول شواهد راقية لذلك:
- كان عيينة بن حصن الفزاري شيخ قبيلة فزارة. قال أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب): “كان عيينة يُعدُّ في الجاهلية من الجرّارين، يقود عشرة آلاف”. وكان أحمق ذا مشاكل ومشاكسات أتعبت النبي e. ولقب لحمقه ورئاسته لقبيلته بـ(الأحمق المطاع)! لكن النبي e كان يتألفه، ويغض الطرف عنه، ومن ذلك أنه أعطاه يوم حنين مئة من الإبل. روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي e فلما رآه قال: (بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)، فلما جلس تطلق النبي e في وجهه وانبسط إليه. فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله e: (يا عائشة متى عهدتني فحاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره). قال ابن بطال: هو عيينة بن حصن الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع، وقد رجا النبيُّ e بإقباله عليه تألُّفَه ليُسْلِم قومُه؛ لأنّه كان رئيسهم. وكذا قال عياض والقرطبي والنووي جازمين بذلك.
- وكان شراً منه رأس النفاق عبد الله بن أُبَي بن سلول. وما فعله من أذى في حق النبي e والمسلمين معروف مشهور. من ذلك استغلاله لخلاف وقع بين أنصاري وآخر مهاجري انتصر بعض الحاضرين من الصحابة لهذا وآخرون لهذا، وكانوا راجعين من غزوة (بني المصطلق) فقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل) معرضاً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم! فاستأذنه عمر رضي الله عنه في قتله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). والقصة في صحيح البخاري.
وأشد ما فعله من ذلك اتهام بالنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. والحادثة مشهورة ومعروفة بـ(حديث الإفك) كما سماها القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور:11). تقول عائشة: (وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول) رواه مسلم. وجاء في سياق الرواية عن عائشة: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: “يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً. ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي”. فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله؛ إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلته الحمية فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا).
وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلمفذكر ذلك وتلا القرآن. فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضُربوا حدهم، وسماهم: حسان ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش). ولم يجلد ابن سلول مع أنه كبير الساعين في الإفك. وقد اختلف العلماء في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلده. فقيل: لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة. وقيل: لعدم توفر البينة فإنه كان يرمز ولا يصرح. وكل ذلك تأويل بعيد، مجانب لرواية أمنا عائشة رضي الله عنها، وفي آية (النور) ما يشير إلى كون (الذي تولى كبره) معروفاً مشخصاً. لهذا نرجح القول الآخر مما قاله العلماء وهو ترك حده تألفاً لقومه ومداراة ابنه؛ فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة الفتنة، فقد ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه. والأصول كلها تشهد لذلك.
ومن أشهر ما جاء في مداراة (الحاضنة الاجتماعية) إكرامه صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان، وهو الذي كان يتولى كبر محاربة النبي e وقيادة الجيوش لذلك، حتى قال في حقه، والحديث في (صحيح مسلم): (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)؛ فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته!
وهذا كله يدل على أن الدولة -لاسيما في أول تأسيسها -لا تقوم على القوة فحسب، ولا الإكراه، ولا ملاحقة الناس واتهامهم تتبعاً للشبهات والعورات، وإثارة أجواء الشك والشك المتبادل، فضلاً عن المسارعة في القتل ما لم تدع إلى ذلك ضرورة ببينة واضحة معتبرة. بل على العفو والصفح وإكرام وجوه القوم وتقريبهم، وإشاعة أجواء الثقة والطمأنينة، والإيحاء بأن العهد الجديد يبشر بالخير والسلام في دين الناس ودنياهم. فإن هذا هو الذي يؤسس لدولة على قواعد ثابتة تتجاوز المحلية إلى العالمية. ودون ذلك الاستبداد والاضطهاد المؤدي إلى زوال الدولة عاجلاً أم آجلاً كما دلت السنن: كونيها وشرعيها، وجاءت بذلك الأخبار عن الأولين والآخرين.
المشروع المدني أساس الحاضنة الاجتماعية
إن الذي عليه العمل منذ أكثر من مئة عام، هو القفز إلى القتال أو السياسة دون إعداد الحاضنة الاجتماعية، أي “المجتمع الذي نعيش ونتحرك فيه”، سوى تجارب محدودة هنا وهناك.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف نُعِـد هذا المجتمع الذي نعيش فيه؟ أو كيف نهيئ “الحاضنة الاجتماعية”؟ والجواب المباشر بلا تأخير: (المشروع المدني) هو الذي يحقق هذا الإنجاز العظيم، الذي هو المستند الوحيد لقيام “دولة بمفاهيم أمة”. ففـي (المشروع المدني) فقط يتم تهيئة الإنسان من الناحيتين: ناحية الفكر وناحية العمل.
الفكر المرن القادر على التجدد ومواجهة تحديات الحياة بالثوابت والمتغيرات، وتصحيح المفاهيم، والتخلص من الفكر العقيم، أو القديم الذي ما عاد صالحاً أو أمسى ضرراً معوقاً. ثم تحويل الفكر المنضبط بالخلق الشرعي وقواعد السلوك الإنساني إلى برامج عمل ذات هدف منشود وخطة مناسبة تأخذ في اعتبارها القدرات والمعوقات والظرف المحيط: داخلياً وخارجياً.
هذا مع المراجعة والتغيير كحق والتطوير كواجب، ثم ترك النهايات مفتوحة لذلك.
بهذا يتم تحويل الشخص العادي إلى إحدى مراتب التأثير الإيجابي الثلاث: قائد أو مدير أو منفذ لبرنامج تجمع بين الواقعية والطموح. وفيه يتحول الشخص من فرد الى منظومة قيادية. علماً أن كل مرتبة من هذه المراتب عبارة عن فكر وجهد ومال وعناء وزمن، وليست مجرد أسماء وعناوين. فحين نقول “قائد” فهذا يعني عملية استحالة معقدة مجهدة.
الخطيب القائد مثالاً
الخطيب القائد مثالاً
خذ مثالاً على ذلك كيف يتم تحويل الخطيب من خطيب تقليدي قائل إلى خطيب تجديدي قائد، وذلك على وجه الاختصار بما يتلاءم وطبيعة الموضوع:
الخطيب التقليدي له وظيفتان اثنتان، فإذا زاد فثالثة: إمامة الناس في الصلاة وخطبة الجمعة. والبعض يرتقي فيؤدي محاضرة في بعض الأحيان، أو يقيم احتفالاً في بعض المناسبات. ثم لا شيء بعد ذلك. الخطيب القائد له شأن آخر. شخص علم أن الدين إيمان ونصرة. وكلاهما يستلزم وجود برنامج متعدد النشاطات لتحقيقهما. خذ هذا البرنامج مثالاً:
- المسجد هو أقوى منظمة مدنية؛ فللمسجد، بالإضافة إلى توفر العنصر البشري ذي الخبرات المتعددة فيه، قدسية تفتقر إليها كل المنظمات المدنية في المجتمع. وللخطيب صفة دينية تضفي عليه هيبة وتأثيراً يفتقر إليه أي مدير لمنظمة أو وحدة اجتماعية.
والسؤال: كيف نستثمر هذه القوة الاجتماعية المتميزة؟
- يحتاج الخطيب إلى برنامج إعداد مكثف يمَكّـنه من اكتساب المهارات القيادية التي تجعله قادراً على التعامل مع ذوي الخبرات من مصلي مسجده وتحريكهم في شرائح المجتمع.
- يقسم الخطيب رواد المسجد حسب تخصصاتهم: فهؤلاء مدرسون وهؤلاء محامون، وهؤلاء أدباء، وأثرياء، ورياضيون، وأطباء… وغير ذلك من الأصناف. علماً أن كل صنف متعدد التخصصات، فمدرس لغة عربية، ومدرس رياضيات، وآخر كيمياء، وغيرها… وهكذا بقية الأصناف.
- يشكّل من كل صنف منظومة تؤدي نشاطاً اجتماعياً تطوعياً يلبي حاجات المجتمع المحيط. فالمدرس، مثلاً، بدل أن يذهب ويجيء ويتحرك كالبندول، يوجَّه لأن يقوم بتقديم دروس خصوصية مجانية لأبناء الحي سيما الفقراء منهم. والطبيب يعمل منظمة صحية – مهما صغرت -تعالج المرضى وتسعى في حل مشاكلهم الصحية. والمحامي يكوّن منظمة حقوقية تجمع ملفات المظلومين للدفاع عنهم واستحصال حقوقهم. والأديب يؤسس منتدى ثقافياً، ولو بأبسط صوره: كأن يكون قاعة في المسجد، يستقطب فيه ذوي الميول الأدبية من شعر ونثر وخطابة وغيرها. ويلتفت الخطيب إلى صنف آخر يتعاون معه على إنشاء منظمة خيرية تعنى – مثلاً – بتزويج الأرامل والعوانس والعزاب، ورعاية الأيتام. ويستعين بالأثرياء لتمويل المشاريع والأنشطة. بالطريقة نفسها يتم استثمار جهد الرياضي وغيره وغيره.
- مع تقديم الخدمات يبث العاملون رسالتهم في أوساط من يخدمونهم، ويدعونهم إليها، وينتقون من بينهم من يصلح لضمه إلى مؤسستهم القائدة على اختلاف خبراتهم ومراتبهم ليضيفوهم إليها، مع التربية والتطوير والتنمية.
ولك هنا أن تدرك حجم الكسب الذي يحظى به الخطيب القائد بهذه الطريقة من عوائل وأفراد الحي أو المدينة. وطبيعة ونوع العلاقة الناشئة بينه وبينهم ورقيها وقوة أواصرها!
أين هذا من الخطيب القائل، بل القاعد؟
- إن هذا يفيد الخطيب والمؤسسة التي ينتمي إليها وتشرف على (المشروع المدني)، كتحصيل حاصل، ثلاثة أمور جوهرية تؤسس لقيام دولة قوية مستقرة قائمة على مفاهيم أمة:
الأول: التعرف على الناس الذين في محيطه ومعرفتهم معرفة قائمة على الاختلاط والتجربة والمعايشة المباشرة، بما فيهم من خير فينميه وشر فيعالجه أو يحذره فجتنبه. وهذا يساعده مستقبلاً حين يكون رجل دولة على أن تكون العلاقة البينية مبنية على أساس بيانات علمية صحيحة تمنع الاختراق والتشكيك من طرف جاهل أو مغرض، كما هو شأن الدول التي تتأسس بفعل القوة العسكرية وحدها، فتكون دولاً بوليسية أمنية استبدادية، مهما حاولت أن لا تكون، ومهما رفعت من شعارات: دينية أو علمانية.
والثاني: التفاف الناس حول الخطيب أولاً وحول المؤسسة ثم الدولة المتحولة عنها؛ لأنهم خبروهم وجربوهم فوجدوهم ساعين في علاج مشاكلهم وجلب الخير إليهم. فتكون القيادة قائمة على أساس وثيق من الحب والثقة المتبادلة. فيعطونهم أصواتهم ويبذلون لهم من أموالهم ومهجهم طواعية لا كراهية.
والثالث: إيجاد خبرات مدنية اجتماعية جاهزة تجنباً للوقوع في مطب العجز عن إدارة مؤسسات الدولة حين استلام السلطة في جانبها المدني والأمني والخدمي، أو الحاجة إلى استيراد تلك الخبرات أو إيجادها بطريقة تعسفية.
قيام الدولة على جمهورها
أرأيتم الفرق بين الخطيب القائل الذي هو نتاج العمل العشوائي، والخطيب القائد الذي هو نتاج (المشروع المدني)؟ هكذا يكون الفرق بين المدرس والمدرس القائد، والطبيب والطبيب القائد، والمحامي والمحامي القائد، والغني القائد، والأديب القائد، والرياضي القائد، وكل صنف من الأصناف الاجتماعية في حالتيه الفردية والقيادية.
بهذه الطريقة الحضارية نصنع مجتمعاً مدنياً وجمهوراً موحداً واعياً ملتفاً حول قيادته، يستعصي على الهزيمة والاختراق ومحاولات التطويع من الأعداء، في غير ما حاجة للعسف والعنف لقيادته وضمان طاعته؛ لأن الدولة قد صنعت مسبقاً جمهورها.
في هذا الجمهور المهيَّــأ مدنياً ينبت جناح السياسة وجناح القوة، ومنه يخرجان وينموان. فيكون وجودهما ونموهما أمراً طبيعياً قوياً لأنه يستند إلى أساس مكين، ونابع من جذر ضارب عميقاً في تربة المجتمع، ليس من السهل على أي قوة أن تقتلعه وتنهيه.
جيل الهزيمة
في غياب المشروع المدني يكون مصيرنا -وقد كان -كمصير بني إسرائيل يوم تاهوا فـي الأرض أربعين سنة، ولم ينتفعوا بوجود قائد هو من أعظم القادة بين الأنبياء عليهم السلام، الذي جازاه شعبه أذى وعصياناً وعقوقاً.
لقد كان التيه ورشة عمل كبيرة تم فيها تهيئة بني إسرائيل مدنياً وصناعة جيل جديد قادر على تحقيق الهدف. هكذا ظهر طالوت وداود والثلة المؤمنة التي أقامت دولة بمفاهيم أمة. وقد سجل القرآن العظيم ذلك لنستفيد منه في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) (الأحزاب:69)، وذلك في سياق تهيئة هذه الأمة لتسلم الأمانة الربانية واستلام زمام قيادة البشرية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا * إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب:70-72).
ومثل بني إسرائيل مع موسى u كان شيعة الكوفة مع علي t. لم يكن جمهور الكوفة مهيَّــأً كجيل الشام للقيام بأعباء الدولة. هذا هو سر انتصار معاوية على علي رغم أن رصيد الأخير التاريخي أوفر من الأول؛ إنه فرق بين مشروعين، وليس بين شخصين مجردين. فصاحب المشروع الأفضل يغلب صاحب المشروع المفضول بصرف النظر عن أفضلية الصاحب. ومن لم يكن له مشروع كان ضحية لمشروع الآخرين. وما يغني القائد عن المشروع إن كان المشروع ضعيفاً، ولا الجمهور إذا كان متخلفاً: (وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (يونس:101-103). وفـي ذلك درس عظيم، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
جيل النصر
يوم يتم تفعيل عناصر (المشروع المدني)، ويتكامل الربط بين أجزائه جميعاً، يكون قد ولد فينا (جيل النصر)، الذي يستعصي على القوى الخارجية، والداخلية أيضاً، أن تمنعه من الوصول إلى هدفه، أو أن يقطف ثمار جهده بنفسه لنفسه. أو أن يضطر قادته لأن يكونوا عملاء أو أجراء عند غيرهم. وعندها لن يقاتلوا بعد اليوم بالنيابة عن الأعداء – كما هو الحال التي وجدنا عليها أمتنا منذ مئة عام – ولن يكونوا ضحية لمشاريع الآخرين. وهذا بعد عناية الله تعالى ورعايته. وما ذلك على العاملين المخلصين ببعيد.
الحاضنة الخارجية من مفاهيم الأمة في إقامة الدولة
الحاضنة الخارجية من مفاهيم الأمة في إقامة الدولة
قلنا: إن الإسلام دولة، لكن بمفاهيم أمة.. وإذا كانت “الحاضنة الاجتماعية أو الشعبية” من مفاهيم الأمة لإقامة الدولة، فإن لهذه الحاضنة الداخلية حاضنة أُخرى تكملها من الخارج، يمكن أن نطلق
عليها اسم “الحاضنة الدولية” أو “الحاضنة الخارجية”. فكون الدولة مسلمة لا ينفي تكوين علاقات مع دول غير مسلمة أو كافرة، كما أن ذلك لا يتناقض مع بناء علاقة داخلية مع رعايا الدولة من غير المسلمين. فبالحاضنة الداخلية المكينة والحاضنة الخارجية الرصينة يتحقق الاستقرار والأمن الداخلي والخارجي لدولة الإسلام.
التعاون على الخير مع الخارج
يقول تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة:2). وهذا القول الكريم من الأسس التي يقوم عليها مفهوم (العلاقات الدولية)، من حيث التعامل بالسلم مع المسالم، والتعاون معه على البر والتقوى (قيل: البر: فعل الخير، والتقوى: تجنب الشر). ويؤيده ما رواه البيهقي في (السنن الكبرى) عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ أَن رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلامِ لأَجَبْتُ). وَكَانَ سَبَبُ الْحِلْفِ أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَتَظَالَمُ بِالْحَرَمِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَدَعَواهُمْ إِلَى التَّحَالُفِ عَلَى التَّنَاصُرِ، وَالأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَجَابَهُمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَعْضُ الْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ([1]).
الحفاظ على سمعة الداخل والحرص على عدم تنفير الخارج
وتترك لنا سيرة النبي معلماً من معالم كسب الحاضنة الخارجية والحرص على عدم تنفيرها من الإسلام. فلما بلغه e قول عبد الله بن أبي بن سلول في إحدى المناسبات: “أقد تداعوا علينا، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”. فقال عمر: “ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث”؟ لعبد الله، فقال النبي e: (لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه)([2]).
وقد اشتهر بين الأمم العدل عند المسلمين وإنصافهم الآخرين من أنفسهم؛ فكان ذلك من أسباب استبشار المظلومين وضعف مناصرتهم للدول الطاغية التي كانت تحكمهم. فشعب مصر تقاعس عن نصرة الرومان لما علم من العدل والرحمة التي عامل بها المسلمون أهل الشام. وكانت تلك السمعة سبباً فـي سهولة فتح الأندلس.
سياسة تفريق الأعداء
كان من سنة النبي e فـي السياسة الحرص على تفريق الأعداء،والسعي في عدم اجتماعهم عليه. فكان يقسمهم أصنافاً فلا يعامل الأصناف جميعاً معاملة واحدة. كما قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِـطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8،9). فإن اجتمع الأعداء مرة حاول بكل سبيل تفرقتهم، ولو بدفع المال لهم! كما روي في سيرة ابن هشام أن النبي e في غزوة (الخندق) فاوض غطفان على إعطائهم ثلث ثمار المدينة مقابل انسحابهم من المعركة. فلما استشار السعدين (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة)… قالا: يا رسول الله أمرًا تحبه فنصنعه؟ أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ أم شيئا تصنعه لنا؟ فقال: (بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة, وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما)([3]). والشاهد في القصة – إن صحت – أن النبي e أراد كسر الحلف المجتمع وتفرقة صف العدو. ومن الأدلة على هذه السنة العظيمة في السياسة النبوية ما صنعه النبي e مع نعيم بن مسعود الغطفاني حين ساقه الله عز وجل إلى رسول الله ليعلن إسلامه، فقال له رسول الله e: (إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة). فقام نعيم بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة، وقد وفق في سعايته أيما توفيق؛ فنجح في عزل اليهود في الداخل عن المشركين في الخارج.
وكان صلى الله عليه وسلم يقتنص كل سانحة لتوهين صف العدو بعدم اجتماع الكفار ضده صفاً واحداً، وتقوية صفه بعقد الأحلاف مع الأقرب إليهم منهم. فلما عقد (صلح الحديبية) مع قريش أدخل في الحلف معه قبيلة خزاعة، وكانت مشركة. وكانوا سبباً في فتح مكة بعد سنتين.
كما كان صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدات الموادعة والمصالحة مع القبائل المشركة في الجزيرة العربية من حوله، لينصرف إلى العدو الأكبر الذي تمثل هزيمته رمز انتصار الإسلام، والفتح المنتظر، وهو قريش.
أحكام الجهاد لا نسخ فيها
قد يقال: إن هذه الأحكام منسوخة بقوله تعالى: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:5). والصواب المتحصل من مقابلة الأدلة مع بعضها، والتبحر في أقوال العلماء، والنظر في حكمة الشريعة ومقاصدها، ومراعاة الشرع لقوانين الاجتماع والنفس.. أن أحكام الجهاد راعت حال المسلمين من قوة وضعف، وما في الحكم من ضر أو نفع، وما تحصل للمسلمين من مصلحة أو مفسدة؛ فنزلت حسب الأحوال واختلافها من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان. فالآيات كلها محكمة ولا نسخ فيها، وإنما تحمل كل آية على ما ناسبها من حال أو مرحلة. وقد كان المسلمون في المدينة يقاتلون الكفار بينما لم يفعل ذلك مهاجرو الحبشة.
لهذا نفى كثير من العلماء نسخ الآية المذكورة لما تقدم قبلها من أحكام الموادعة والمصالحة والبر بالمسالمين من المشركين والقسط إليهم، منهم الطبري قال: “وأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل”. وابن العربي وابن تيمية وابن كثير. ونصر هذا القول من المتأخرين ابن باز وقال: هذا القول أظهر وأبين. ويلخص الزركشي أقوال العلماء بقوله: “وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف: أنها منسوخة بآية السيف. وليست كذلك بل هي من المنسأ: بمعنى أن لكل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبداً([4]). لهذا روت كتب التاريخ أن سيدنا معاوية رضي الله عنه دفع للروم مالاً وخيلاً ليأمن جهتهم. وكذلك فعل الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله. وفعل غيره طبقاً لما تمليه الظروف من صروف.
فتهييج الأعداء كلهم وجمعهم على دولة الإسلام ليس من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم ولا هو من صنيع العقلاء. ودولة الإسلام لا يمكن أن تكون كياناً منبتاً عن العالم من خارجها، نابتاً على غير تربة صالحة من داخلها.
[1] – صححه بشواهده جمع من العلماء منهم الألباني.
[2] – رواه البخاري عن جابر بن عبد الله.
[3] – قال الهيثمي: في إسناده محمد بن عمرو وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. قلت (طه): الحديث في حاجة إلى مزيد تحقيق.
[4] – البرهان في علوم القرآن، 2/42، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي (ت 794هـ)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، 1376هـ – 1957م، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه.
سايكولوجيا الانحراف السياسي
علم نفس ( سايكولوجية ) الانحراف السياسي
- الازدواجية
أكثر الناس يأبى إلا أن يمر بجسده على مبضع التشريح؛ لذا يعيد التاريخ نفسه عليهم. ومن لا يقرأ التاريخ يتولى التاريخ قراءته. فكيف وبين أيدينا النَّيِّران، بل النوران: الكتاب والسنة!
ضع هذا أمام عينيك ثم تعال معي لنرى أخطر ما في السياسة، ألا وهو (الازدواجية)! عندما يكون السياسي: فردأً أو جماعة في العلن غيره في السر؛ متصوراً أنه قادر على تحقيق التوازن بين ما يؤمن به وما لا يؤمن. محافظاً على الأول، خادعاً خصمه في الثاني. وكانت النتيجة أن صار الخداع للأتباع، والتبعية للخصم!
لاحظ كيف استُدرج (الإخوان المسلمون) -رغم إيمانهم العميق عند التأسيس بمبدأ وعقيدة (الحاكمية) -عندما انغمسوا في العمل السياسي حتى تخلوا عنها مع أنها أهم وأعلى ثوابتهم. تحولت (الحاكمية) لديهم إلى (حكم) مجرد عن مضمونه الرباني. ثم لم يصعب بعد ذلك تبرير هذا التحول الفكري الخطير بأدلة شرعية يتأولونها. هكذا تأولوا لأنفسهم الإعراض عن تطبيق الشريعة عندما وصلوا إلى السلطة في أكثر من قطر بأمور منها تفسيرهم قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256) حاملين إياه علــى الشرائع العملية مع أنه في أصل العقائد الإيمانية. وتجويزهم حكم غير المسلمين للمسلمين، وغيرها. حتى قال قائل منهم([1]): “مشكلة العراق في المشروع الإسلامي؛ لأنه إما شيعي فلا يدخله السنة، وإما سني فلا يدخله الشيعة. والحل في مشروع علماني ليبرالي ديمقراطي. وإلا كانت النتيجة تقسيم العراق”. وهو ما تقوله أدبيات حزب البعث.
تقسيم الشريعة إذن ولا تقسيم العراق! وصدق الله تعالى إذ يقول: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر90-94).
الازدواجية أدوى أدواء السياسة
عندما دخل الحزب الإسلامي العراقي العمل السياسي بعد الاحتلال برر ذلك بأن هذا من باب الاضطرار؛ فهو السبيل الوحيد لحماية السنة، والتعرف على مكائد العدو من داخله لتجنبها أو مواجهتها قبل أو بعد الشروع بتنفيذها. ثم في النهاية وجدناه يذوب في دولة الشيعة ومشروعهم، ويرضى بالوضع دون نية في التغيير لإنقاذ أهل السنة مما هم فيه عن أي طريق سوى ما هم فيه من عمل سياسي بائس رغم ثبوت فشله.
وانظر هل تكاد تجد سياسياً من ذوي الالتزام الديني خلال السنين الماضية ثبت على ما هو عليه من الحق، وكان له موقف ثابت أو وجه واحد وكلام واحد؟ حتى رأينا التلون السياسي ينتقل إلى حياته الخاصة وعلاقاته مع أصدقائه.
فكيف يحصل هذا التغير أو التحول عن المبادئ، بحيث لو قيل للسياسي أول الأمر إنك ستصل إلى هذا المستوى في النهاية لما صدق، ولربما رفض الانغماس في ما هو مقبل عليه من العمل الذي سيؤدي به إلى هذه النهاية!
الأمر لا يعدو سلسلة من التداعيات النفسية المترافقة بتداعيات فكرية، تبدأ من نقطة تنازل أولى، ثم تأخذ حركة التداعيات مسارها حتى النهاية، كمثل راكب فرساً أخذ بها على وادٍ شديد الانحدار فتدهدهت به؛ فما عاد يمكنه الإمساك بها مهما حاول بزمامها حتى تصل به قرارة الوادي! وقد انتبه أسلافنا إلى هذا الملحظ النفسي الخطير فصاغوه على شكل قصة رمزية ترسم صورة واضحة له، هي قصة (الراهب والشيطان).
قصة الراهب والشيطان
يروى، فـي قصة رمزية، أن راهباً عبَدَ الله أربعين سنة خالياً وحيداً في صومعة، بعيداً عن المدينة لا يذهب إليها إلا لضرورة تشتد به. وكان الناس يقدرونه ويجلونه لعبادته وتبتله وانقطاعه عن الدنيا.
وصادف أن كان هناك ثلاثة إخوة يريدون الخروج للجهاد ولهم أخت، فاحتاروا لمن يتركونها؟ ثم وقع اختيارهم على الراهب؛ فمَن غيره يمكن أن يؤتمن عليها، وهو الزاهد الورع؟ في البداية لم يوافق الراهب. ثم بعد إلحاح منهم رضي أن يبنوا لها بيتاً على مقربة من صومعته. فكان له ما أراد، وذهب الإخوه للجهاد وتركوا أختهم مطمئنين في ذلك البيت بجوار العابد. بدأ العابد فكان أول العهد يقدم الطعام لها ويتركه على بابها ثم يغادر المكان. لكن الشيطان وسوس له.. هل ستتركها هكذا؟ ربما كانت مريضة؛ لم لا تذهب وتكلمها؛ ألم يأتمنك إخوتها عليها؟ واقتنع الراهب فجلس معها، وكلمها، ونظر إليها. ومرت الأيام.. والشيطان ما يزال به يستدرجه ويخطو به.. هلا أكلت معها؟ هل ستتركها تأكل وحيدة هكذا إلى الأبد؟ ويأكل الراهب معها. ويوماً بعد يوم يزيد ولعه بها. حتى إذا ما اختلى بها ذات مرة وفي لحظة ضعف وقع بها!
وحملت الفتاة. وهنا صار يفكر.. ماذا سيقال عني؟ وكيف ستكون سمعتي بين الناس إن هم علموا بفعلتي؟! فما كان منه إلا أن قتلها والجنين في بطنها ووارى جثتها التراب! ورجع يحاول إقناع نفسه أن شيئاً لم يكن. وقام يتعبد، لكنه لم يجد لذة الطاعة كما كان من قبل.. لقد تغير كل شيء! وعاد الإخوة من الغزو.. أين أختنا أيها الراهب الجليل؟
- أختكم مرضت وماتت، ودفنتها. وذاك قبرها.
وصدقوه؛ فهو الراهب العابد المتبتل.
عادوا إلى المدينة. فإذا الشيطان يأتيهم في المنام واحداً واحداً. لقد فعل الراهب بأختكم.. ثم لما حملت قتلها.. ودفنها بجوار صومعته. واذهبوا لتتأكدوا بأنفسكم! واستيقظوا فقص أحدهم على أخويه ما رأى، فإذا كلهم رأى الرؤيا نفسها!
وذهب الإخوة، ونبشوا القبر، فوجدوا الأمر كما رأوا في المنام! وافتضح أمر الراهب ورفع أمره إلى الحاكم، فحُكم عليه بالموت. وهنا يتمثل له الشيطان عياناً ليقول له: أتريد ان تنجو بحياتك؟ أنا الذي أوصلتك إلى هذه الحال، وأن قادر على خلاصك.
– الراهب: بلى أريد! ولكن كيف؟
– الشيطان: تسجد لي سجدة واحدة.. واحدة فقط يكون فيها خلاصك.
وسجد الراهب. لكن الشيطان عند هذا الحد قال له: أنا بريء منك!
وينفذ حكم الموت بالراهب ويموت، لكن عاصياً.. بل كافراً مرتداً. وصدق فيه وفي أمثاله قول الله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) (الحشر:16،17).
تداعيات الانحراف
القرآن الكريم يصف لك العلاج الناجع من أول نقطة.
ويبين أن الانحراف القليل سيأخذ مساره فيؤدي آخر الأمر إلى الخروج عن السكة. اقرأ قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة:49). وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) (محمد:25،26).
انظر إلى كلمة (بعض) في الآيتين: فالانحراف (عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) لا كله، والطاعة للكفار (فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) لا جميعه! تؤدي – في النهاية – إلى الارتداد التام عن الإسلام (ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)! وهو من معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100). وقوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (آل عمران:149).
ويأتي التعبير عن هذا (البعض) في سورة (الإسراء) بكلمة (شيء قليل)، لكن بصورة يهتز لها كيان المسلم وتملأ قلبه رعباً؛ فالخطاب موجه لأحب الخلق إلى الله جل وعلا النبي محمد e ومع ذلك فيها من الوعيد بالعذاب المضاعف إن هو – حاشاه – ركن شيئاً قليلاً لمطالب الكفار؛ فكيف بسواه! حقاً إن الأمر جد خطير! فعلى السياسي قبل أن يقدم فيخوض غمار السياسة أن يكون نصب عينيه قوله Y: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) (الإسراء:73-75)([2]).
والمتأمل في النهي عن الانحراف القليل يجد سره في مؤداه إلى الانحراف الكثير في نهاية الأمر أو أثناءه. مثل ضلعي الزاوية يكونان قريبين من بعضهما عند نقطة الافتراق، ثم يبتعدان عن بعضهما كلما امتدا إلى الأمام. هكذا يؤدي القبول بالانحراف اليسير إلى الوصول إلى الانحراف الخطير، وقد يصل إلى الكفر والعياذ بالله. لهذا يقول سبحانه: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود:112،113). ويقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الأحزاب:36).
- قانون ( البعض يساوي الكل )
فكرت طويلاً في ظاهرة الانحراف السياسي عند الإسلاميين فوجدت أن الانحراف ينتج عبر سلسلة من التفاعلات والتحولات النفسية: الفردية منها والجمعية، وأساسه أن الله تعالى فطر الإنسان على أمرين:
– الأول: عدم تحمل الإنسان الاستمرار على حالة الانشطار الذاتي بين ظاهره وباطنه.
– والثاني: كرهه الفطري لأن يبدو أمام الآخرين متلوناً أو ذا وجوه متناقضة.
عمليات التحول الداخلي
أبدأ الحديث عن عمليات التحول الذاتي، أي التفاعلات النفسية الداخلية التي يمر بها السياسي فيتحول من إنسان مبدإي إلى آخر نفعي أو مصلحي، بسؤال: لماذا يتخذ السياسي موقفاً معلناً لا يؤمن به في دخيلة نفسه، فيصرح للجمهور بنقيض ما يتم تداوله بين خاصته من صحبه أو حزبه؟
واقعاً وجهت هذا السؤال لأصدقائي الإسلاميين خصوصاً بعد احتلال العراق سنة 2003 فكان الجواب يدور حول تحصيل منفعة أو دفع مفسدة. هذا هو الأصل الذي يستند إليه الإسلامي فـي موقفه المناقض لمبادئه. ثم لا تمر فترة -تطول أو تقصر -حتى يجد نفسه غير قادر على التنصل مما بدر منه في العلن، لاسيما إذا كان ثابتاً عنه وموثقاً بخط يد أو تسجيل صوت أو صورة: متحركة أو جامدة. وهذه هي الخطوة الثانية في رحلة التحول التي تنتهي بالانحراف.
وتستمر الحالة فيكون السياسي أمام أحد طريقين ليس له إلا أن يسلك أحدهما: فإما أن ينزع إلى مبدإه وينتهي عما أعلن عنه من قبل. وإما -وهو الغالب -أن يستمرئ ما هو عليه، فتأخذه سلسلة متتابعة من حلقات (التحول الذاتي) بما فيها من تبعات لا تنفك عنه حتى تصل عملية التحول إلى نهايتها.
أول العلامات الظاهرة للتحول الداخلي
أول علامات التحول التي تظهر على السياسي، ومن خلالها يمكنك التنبؤ بأن عناصر الانحراف أخذت تتفاعل في داخله، هي البحث عن مبررات تسوغ له أمام الجمهور موقفه المعلن الذي بدا لهم مناقضاً لمبادئه ومنهجه. وشيئاً فشيئاً، وخطوة فخطوة تتم عملية (التحول) العكسي؛ فبدلاً من أن يخضع الظاهر لحركة الباطن يكون التغيير منصباً على تغيير الباطن ليتوافق مع حركة الظاهر. .. وهكذا حتى يصل إلى مرحلة القناعة الذاتية. ويكون الانحراف والموقف الجديد هو المبدأ. وعادة ما يتم هذا التحول بطريقة جمعية، تجعله يسري بين معظم الفريق أو الحزب الذي ينتمي إليه.
إن ما أتكلم عنه ليس ظاهرة سياسية فقط، بل هو ظاهرة اجتماعية خطيرة أيضاً؛ فالسني الذي يعيش في بيئة شيعية فيزور المراقد مع جيرانه الشيعة في موسم الزيارات؛ بقصد الحفاظ على نفسه في البداية، سينتهي – إن لم يكن هو فولده وذريته من بعده – بـ(التحول) التدريجي إلى شيعي ينافح عن الشيعة، ويعادي السنة ربما أكثر من الشيعي الأصلي! لهذا أمر الله تعالى عباده بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء:97). ولنا فيما حصل للأندلس من تحول انتهى بخسارة الدين بعد زوال حكم العرب المسلمين عبرة.
قانون الالتزام والانسجام([3]) .. وخطوات التحول إلى عميل
يسمى القانون أو الأسلوب الذي تتم به ظاهرة (التحول) هذه في الدراسات النفسية والاجتماعية الحديثة بـ(أسلوب الالتزام والتوافق) أو (الالتزام والانسجام).
أول من التفت إلى هذه الظاهرة وقام بدراستها طبقاً للمنهج العلمي هم الصينيون، وقد طبقوا نتائج دراستهم على الأسرى الأمريكان في الحرب الكورية في خمسينيات القرن العشرين. وفيما كتبه البروفيسور الأمريكي روبرت جالديني في كتابه (التأثير وسيكولوجيا الإقناع) شيء يدعو للتوقف تجاهه كمَعْلَم من معالم سر الانحراف عن المبادئ الأولى الذي يصيب السياسيين، والسياسيين الإسلاميين على وجه الخصوص، عندما يدخلون عالم السياسة مجردين من القوة التي تصون لهم مبادئهم.
يتناول الكتاب أسلوب (الالتزام والانسجام commitment & consistency)، الذي اتبعه الصينيون مع الأسرى المذكورين.
يبدأ الأمر بقاعدة تبدو يسيرة لكنها خطيرة: (انتزع من الخصم تنازلاً صغيراً مهما كان ثم ابن عليه). من هنا يبدأ الانحراف.. (تنازل صغير)، وهو يساوي في لغة القرآن العظيم: (“بعض”.. “في بعض”.. “شيئاً قليلاً”) اللذين وردا في قوله تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة:49). وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ) (محمد:26). وقوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (الإسراء:74).
أما الالتزام فيعني: مجيء خطوتين بعد الخطوة الأولى، خطوة التنازل القليل:
- الأولى: توثيق التنازل.
- والثانية: استدراج الأسير للاعتراف بتبعات ولوازم هذا التنازل.
ويستمر الأسير على هذا… إلى أن يجد نفسه قد تغيرت نفسيته ليصبح منسجماً مع موقفه الجديد. وهذا هو المقصود بالانسجام. وتتفاقم هذه التنازلات حتى يصبح في النهاية عميلاً من حيث لا يشعر.
يبدأ التوثيق من طلب إلى الأسير ليدلي بتصريحات تبدو في غاية البساطة وبدون أي تبعات تذكر مثل “أمريكا ليست كاملة”، أو “لا توجد مشكلة بطالة في الدولة الشيوعية”. تأمل كم هو يسير هذا الطلب (لاحظ: بعض، شيئاً قليلاً)!
ثم يطالبونه باتخاذ موقف آخر يبدو تلقائياً نتيجة للتصريح الأول، لكنه يمثل تنازلاً أكثر وتلبية أقرب لمطالب العدو. فمثلاً يطلب من الأسير كتابة قائمة بالمشاكل التي تعني أن أمريكا ليست كاملة، ثم يوقع باسمه على القائمة.
ثم يخطون بالأسير الخطوة التالية: يطلب منه بعد فترة قراءة هذه القائمة في جِلسة نقاش مع الأسرى الآخرين. ثم يطلب منه بعد فترة كتابة مقال يتوسع فيه بشرح تفصيلي عن تلك النِّقاط التي كتبها في قائمته وجوانب تلك المشاكل. ثم يقال له: أليس هذا ما تعتقده أنت بنفسك دون إجبار أحد؟ والآن لا نطالبك بأكثر من التصريح بمعتقدك؛ فإن كنت واثقاً من معتقدك فأنت على استعداد أن تلتزم به، ألست كذلك؟ وهذا معنى (الالتزام).
وهكذا تتتابع الخطوات.
انظر حقاً إنها (خطوات) كخطوات الشيطان: خطوة بعد خطوة، بطريقة هادئة لا تثير انتباه الشخص نفسه إلى ما يجري داخل نفسه! وكل خطوة يحتف بها مبرر أو جملة مبررات.
بعدها يجرون مسابقة بين الأسرى لكتابة أحسن مقال في المقارنة بين أمريكا والشيوعية. وقد يفوز مقال يمدح في العموم أمريكا لكنه يلين لوجهة النظر الصينية الشيوعية في موضع أو موضعين. المهم انتزاع أي تنازل مهما كان بسيطاً (لاحظ: بعض، شيئاً قليلاً)! وبشرط أن لا يعطى الفائز شيئاً ذا قيمة مادية، إنما شيئاً رمزياً مثل قلم رخيص السعر، أو وردة، وما شابه ذلك. ثم يقوم الصينيون ببث مقال الأسير مع اسمه على الراديو الموجه للقوات الأمريكية، وكذلك في كل معسكرات الاعتقال بحيث يسمعها الأسير نفسه، فيجد الأسير نفسه قد قام بتصريحات تخدم العدو؛ فصار بطريقة أو بأُخرى (متعاوناً) مع العدو.
إن حجر الزاوية هنا أن يدرك الأسير أن ما قام به من تصريحات وكتابات قام به طواعية دون إكراه أحد. لأنه لو تم الأمر بالإكراه لوجد الأسير لنفسه – وكذلك الناسُ من حوله – عذراً لمواقفه هذه، يمكنه به من التنصل عنها لاحقاً. ولأدى ذلك إلى رفضها ونفوره وتبرئه الداخلي منها. لكنه فعل ما فعل طبقاً إلى قناعة ذاتية داخلية دون إكراه؛ وهذا ينتهي بالأسير إلى تغيير نظرته إلى نفسه حتى يصبح متوافقاً ومنسجماً (consistent) مع الفعل الذي قام به، ومع التعريف الجديد لنفسه كمتعاون مع العدو.
لقد بدأ الأمر بتصريحات تافهة وعديمة القيمة، لكن الأسير التزم بهذه التصريحات. ثم استدرج إلى خطوات أخرى غيرت من نفسيته فانسجم معها. وهذا التغيير بدوره سمح له بتقديم تنازلات أكبر، وهكذا دواليك.. إلى أن يكتب مقالاً موسعاً ينتقد فيه نظام الدولة التي كان يحارب من أجلها، بل ويتعاون مع عدوها.
العوامل الأربعة في علم نفس الانحراف السياسي
لاحظ الخبراء وجود عوامل أربعة مهمة للغاية لضمان فعالية أسلوب الالتزام والانسجام:
- التوثيق: إن توثيق الأسير تصريحاته؛ أقوى في تغيير انطباعه عن نفسه وانطباع زملائه عنه. فالشخص الذي يوثق ما يقول يستحضر لا شعورياً مواقفه السابقة – وخاصة الموثقة منها – وكأنها المصدر الرئيس لمعلوماته عن نفسه وتحديد شخصيته. لذا كان الصينيون حريصين على انتزاع موقف موثق منسجم مع رغباتهم.
وتتجلى أهمية التوثيق في بلوغ ذلك الحرص درجة أن الأسير إذا رفض أن يكتب العبارات المذكورة سابقاً، مثل (أمريكا ليست كاملة)، فإنه كان يطلب منه نسخ سؤال وجواب مكتوبين له مسبقاً فيهما هذه المعاني. فهذه الكتابة بخط يده تستدرج الأسير – كدليل ملموس – إلى التغيير النفسي ولو بدأ فكان (شيئاً قليلاً). كما أنهم كانوا يُطلعون الأسرى الآخرين عليها لأجل تغيير نظرتهم إلى زميلهم.
وهذا يجعل زملاءه – وإن علموا بأن الكاتب لم يختر كتابة تلك السطور بدافعية ذاتية – يشعرون بأن هذه الكتابات تمثل حقيقة اعتقاد الأسير وإحساسه طالما أن صياغتها لا تُشعر بأنه كتبها مكرهاً. وهذا يعني نفسياً أنّ (تغير نظرة الآخرين لك تجعلك تغير نظرتك إلى نفسك).
- الالتزام العلني: فالذي يتخذ موقفاً معلناً يكون أكثر التزاماً به ودفاعاً عنه ممن لا يعلن موقفه. لذلك كان الصينيون يعلقون مقال الأسير على الجدران ويبثونه في الراديو ليجد الأسير نفسه مدفوعاً إلى المحافظة على موقف اتخذه مبرراً للتصريح الذي أعلن به؛ وذلك لكي يبدو إنساناً لديه موقف ثابت، إنساناً منسجماً مع ذاته، متوافقاً مع أفعاله. فالمتناقض يبدو للناس متقلباً غير واثق، مشتت الفكر، غير جدير بالثقة. وهذه الخصائص مكروهة من المجتمع ومن الشخص نفسه. على العكس من الشخص المتوافق مع نفسه الثابت في موقفه.
- الجهد الإضافـي المبذول: فهذا يؤدي إلى التزام أعلى. فالشخص الذي يعاني ألماً ويخوض عناء في سبيل الحصول على شيء وتنميته ورعايته؛ يعطيه أهمية أكبر بكثير ممن يحصل على الشيء نفسه بجهد أقل. فكتابة مقال موسع للفوز بالمسابقة ليست أمراً سهلاً([4]).
- الاختيار الذاتي: وهو العامل الأكثر أهمية. لم تكن جوائز الفوز عن المقال ذات قيمة عالية (قلماً، سجائر، “شيئاً قليلاً” من الفواكه الطازجة). ولا ترقى إلى الملابس الجيدة أو تسهيل الاتصال بالعالم الخارجي. إن علة حجب الجوائز الكبيرة هو من أجل أن يحس الأسير أن كتاباته هي ملكه، نابعة من ذاته دون أن ينظر لنفسه أنه كتب ما كتب طمعاً في جائزة كبيرة. أي يتحمل الأسير أمام نفسه مسؤولية ما كتب، فلا يشعر أنه غيّر مبادئه من أجل جائزة؛ فهذا ذنب معلوم يجعل نفسه تؤنبه فتمنحه فرصة للتراجع. القناعة الذاتية ضرورة لا غنى عنها([5]).
وبين قصة الراهب والشيطان وحيل الصينيين مع الأسرى، ودراسة الأمريكان النفسية وخروجهم بمصطلح (الالتزام والانسجام commitment & consistency) تكمن الحقيقة، التي لا ينبغي للسياسي الرباني أن يغفل عنها، وإلا فقد يكون مصيره مصير الراهب الذي مات كافراً، أو راكب الفرس الذي تدهدهت به من شاهق فما عاد قادراً على لجمها وإيقافها.
هل أدركنا الآن مدى عمق ودقة وعظمة قول اللطيف الخبير: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49)!
- قانون التسديد .. وعلاقته بقانون الالتزام والانسجام
عندما يسدد الرامي سهمه نحو الهدف يجب أن تكون الزاوية صفراً بين نقطة الانطلاق ونقطة الهدف. فلو حصل خطأ ما -ولو بقدر عشر درجة -سيبتعد السهم عن نقطة الهدف بمسافة تتناسب ومقدار الخطأ في زاوية التصفير. وكلما ابتعدت أو زادت المسافة العمودية نحو الهدف زادت المسافة الأفقية التي تفصل بين الهدف والسهم.
قانون التسديد هذا.. قانون كوني، يسري حكمه على شتى الظواهر: الرياضية منها والاجتماعية، بما فيها السياسة.
أما قانون (الالتزام والانسجام) -الذي تناولناه سابقاً، والذي يفسر فاعلات التحول الداخليالتي تعتمل في نفس من يبدأ من السياسيين سيره في طريق السياسة بميل بسيط في اتجاه معين… حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه -فهو أحد مظاهر قانون التسديد السابق.
سأضرب لكم مثالاً صادماً يضعكم وجهاً لوجه أمام هذه الحقيقة الخطيرة كما هي دون مواربة أو مجاملة. عندها تتجلى حقيقة أُخرى سافرة كما الشمس في ظهيرة الصيف في نجد والعراق، هي أن أحكام قوانين الله -الشرعية منها والكونية – واحدة، لا يفلت منها أحد من خلقه: الصالح منهم والطالح، بحيث تكون نهاية كلٍّ منهما واحدة. أعني أن هذا القانون الكوني يشمل الظواهر الاجتماعية، كما يشمل المجتمع نفسه: أفراداً وجماعات.
علي بن أبي طالب سياسياً
علي رضي الله عنه.. هل يشك مسلم في سابقته وفضله، ونزاهته وعدله.. وحرصه على العمل بشرع الله؟ حاشى لله! لكن فيما حصل بينه وبين قتلة عثمان رضي الله عنه من تداعيات شيء يدعو إلى العجب، يدفع السياسي الرباني لأن يتحوط كثيراً قبل الإقدام على أية خطوة سياسية ما لم يكن في حرز من تداعياتها وسلامة من مآلاتها.
ابتدأت تلك التداعيات من نقطة صغيرة هي الاستجابة لضغط قتلة عثمان في قبول البيعة على غير رضى من كبار الصحابة. ثم تداعت أكثر فتدهورت الأوضاع السياسية والأمنية إلى حد الانقسام والاقتتال بين المختلفين!
إن فيما جرى درساً عميقاً لكل رباني يعمل في ميدان السياسة. هذا الدرس العميق لا ينبغي أن يظل مغيباً بسبب العقلية التقليدية التقديسية لأهل السنة، وهي قريبة من العقلية العصموية الشيعية. التقديس والتعصيم داء يمنع الإنصاف ويحجب الحقيقة؛ لأنه يمنح المقدس والمعصوم بطاقة البراءة له، في مقابل قرار التجريم لخصمه دون البحث في حيثيات القضية. وحب السابقين وتقديرهم مع الاستغفار لهم، وليس تقديسهم أو تعصيمهم، هو كل ما يجب علينا تجاههم. وليس مما يناقض هذا الواجب ذكر خطأ أو خلل ما، في ذكره درس عميق للأمة كدرسنا بالشروط الربانية المذكورة: الحب والتقدير والاستغفار.
إن خللاً ما لا بد أن يكون قد وقع كان سبباً لذلك التدهور المتتابع. وإلا لا يمكن أن يكون الصواب المحَكَّم سبيلاً لواقع قد تشرذم. فأين الخلل؟
إن الخلل بدأ فكان على مرحلتين أو خطوتين:
الأولى: لين عثمان رضي الله عنه مع رؤوس الفتنة فتفاقم شرهم حتى قتلوه. وبذلك انتقلت الشوكة إلى أيديهم. لكنهم وقعوا في ورطة. إن ما فعلوه جريمة في غاية البشاعة، وجيوش الأقاليم التي بعث إليها أمير المؤمنين عثمان سراً لنجدته في طريقها إلى المدينة، وليس سوى القصاص منهم إن هي وصلت، سواء بقوا في المدينة أو تفرقوا في البلدان. واستقر رأيهم على ضرورة إقناع واحد من رؤوس الصحابة رضي الله عنهم أن يتقلد الحكم وذلك بأمرهم وتحت قوة سيوفهم؛ فهم أصحاب القوة في ذلك الظرف بلا منازع. وبذلك يسيطرون أو يصادرون أهم خصائص الحاكم وهو اتخاذ القرار. ورفض الجميع العرض بتولي الحكم: علي، الزبير، طلحة، سعد، ابن عمر، ابن مسلمة. ثم فوجئ الجميع بعد ثلاث بعلي في المسجد تؤخذ له البيعة تحت أسنة قتلة عثمان! ورجعت الجيوش بعد أن سمعت بمقتل عثمان، الذي جره إليه لينه مع من لا يستحقون. وقد أُثر عن الخليفة عبد الملك بن مروان رحمه الله قوله: (وما خالف عثمانُ عمرَ فـي شيء إلا باللين، فإن عثمان لان لهم حتى رُكب، ولو غلظ عليهم جانبه كما غلظ عليهم ابن الخطاب ما نالوا منه ما نالوا).
من هنا بدأت المرحلة الثانية، وهي استجابة علي لهم فتولى الأمر بضغط من قتلة الخليفة ومن جمهور أهل المدينة. وقد تضمنت هذه الاستجابة لزوماً تأجيل إقامة الحد على القتلة.
من هذه النقطة الحرجة (تأجيل إقامة الحد) بدأت سلسلة التداعيات، حتى وصلت إلى اقتتال وقتل طال خيرة الصحابة، منهم طلحة والزبير رضي الله عنهما. وذلك بدل أن يأخذ مجراه الطبيعي فيطال من هو أحق به وهم قتلة عثمان رضي الله عنه. فترْكُ الحد في قتل من يستحقه قاد إلى قتل من لا يستحقه! وتأمير من حقه القتل كرأس الفتنة مالك الأشتر قاد إلى قتل من حقه التأمير كالزبير أو الأمر بعزله كمعاوية ؛ وليس معاوية t شراً من الأشتر، ولا الأشتر خيراً من معاوية؛ وأنى ذلك وهو رأس الفتنة وقائدها وقاتل ذي النورين عثمان بن عفان t([6])!
ولو أن علياً لم يستعجل فيطاوع البغاة ويرضى بالتأمير بمعزل عن أهل الرأي من الصحابة، وصبر حتى وصلت الجيوش من الأمصار فقلعت أولئك البغاة، واجتمع أهل الرأي فأمروه أو أحداً سواه، والتأم الشمل؛ فلم تقع تلك الأحداث المؤسفة.
هذا من أعجب وقائع التاريخ، التي لم أجد من وقف عندها ليأخذ العبرة منها!
ثمت سؤال كبير: من منا له عقل علي ودينه وتقواه؟
ليستذكر السياسي هذا جيداً ويحذر من الاعتماد على عقله وتأويلاته؛ وذلك تجنباً للانحدار في مزالق ربما طوحت به في طريق إلى جهنم بعيد القرار!
[1]– هو د. رافع العيساوي، كرر هذا القول على أكثر من قناة فضائية أيام الحملة الانتخابية/ 2010.
[2]– قال السيوطي (لباب النقول في أسباب النزول): أخرج ابن مردويه و ابن أبي حاتم من طريق أسحق عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش فأتوا رسول الله e فقالوا: يا محمد تعال تمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك. وكان يحن لإسلام قومه فرق لهم؛ فأنزل الله (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك – إلى قوله – نصيراً). قلت: هذا أصح ما ورد في سبب نزولها، وهو إسناد جيد وله شواهد. أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله يستلم الحجر، فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا. فقال رسول الله e: وما علي لو فعلت والله يعلم مني خلافة، فنزلت. وأخرج نحوه عن ابن شهاب. وأخرج جبير بن نفير: أن قريشاً أتوا النبي e فقالوا: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فنكون نحن أصحابك، فركن إليهم، فنزلت.
[3]– اعتمدت في هذا الموضوع على مادة مرئية بعنوان (سايكولوجيا الانحراف) للدكتور إياد القنيبي، على الرابط الآتي:
[4]– تذكّر قاعدة (الولاء للإعطاء لا للأخذ). وهي قاعدة ذات أهمية بالغة فـي مجال السياسة المالية.
[5]– تأمل الفرق بين البدعة والمعصية! وقول السلف: “البدعة أحب إلى إبليس من المعصية”. وفسروه بأن المعصية يمكن أن يتاب منها، على العكس من البدعة. لأنها داخلة في القناعة الذاتية للعامل بها.
[6]– يقول د. أكرم ضياء العمري (عصر الخلافة الراشدة، مقتطفات من ص59-60): تولى علي الخلافة إثر مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما في ظروف خطيرة حيث سيطر الناقمون على عثمان على المدينة، وأفلت الأمر من يد كبار الصحابة، ولم تعد ثمة سلطة عليا تحكم الدولة الاسلامية، وقد سعى الناقمون إلى تولية عبد الله بن عمر، وهددوه بالقتل إن لم يرض، ولكن لم يجدوا منه إلا صدوداً. لكن أحداً لم يكن ليقبل منهم السلطة في ظروف الفتنة، لأنهم لا يمثلون الأمة، بل يمثلها كبار الصحابة في المدينة، وهم الذين يقبل الناس في أنحاء الدولة اختيارهم، وقد أدرك المعارضون ذلك بعد فشل محاولاتهم. وقد بادر الناس إلى علي ليبايعوه، فاظهر رغبته عن الخلافة في تلك الظروف: “والله إني لأستحي أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال فيه رسول الله t: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة). وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يُدفن بعد” فانصرفوا. فلما دُفن عثمان t أتوه مرة أخرى وسألوه البيعة وقالوا: لابد للناس من خليفة، ولا نعلم أحداً أحق بها منك… فقال: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه. وقال لهم: فإذا أبيتم عليّ، فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني. فخرج إلى المسجد وبايعه الناس عن رضاً واختيار، سوى طلحة والزبير فإنهما بايعاه مكرهين ولم يكونا راضيين عن الطريقة التي تمت بها البيعة حيث لم يتم التداول بين أهل الحل والعقد بشأنها، ولم يعقد مجلس للشورى. ولأن الثوار أتوا بهما بأسلوب جاف عنيف. ولا شك أن هذه الطريقة فرضتها طبيعة الأحداث لسيطرة هؤلاء الأعراب الجلف على المدينة. واعتزل بعض الصحابة فلم يبايعوا علياً ومنهم محمد بن مسلمة وأهبان بن صيفي وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر، فقد كانوا يرون الناس في فرقة واختلاف وفتنة، فكانوا ينتظرون أن يستقر الأمر فيبايعوا. كما أن معاوية بن أبي سفيان وأهل الشام وكثيراً من أهل البصرة ومصر واليمن لم يبايعوه. ويرى ابن حزم أن عددَ من امتنع عن بيعته مثل عدد من بايعه، وقدّر عددهم بمئة ألف مسلم.
نظرات في المال والسياسة المالية
( 8 )
نظرات في السياسة المالية
نظرات في السياسة المالية
مقدمات
- المال إحدى نعم الله تعالى وهباته، التي تستحق من العبد الشكر تجاهه: اعترافاً بفضله في هبته، وتحديثاً بزيادة نعمته، وكسباً حلالاً من مصدره، وإنفاقاً مندوباً في صالح وجهته. هذا مع الشعور بالتقصير في حقه جل جلاله.
- وحب المال فطرة مركوزة في كل إنسان، وليس في ذلك عيب ولا نقصان؛ ما دام ضمن حدوده الشرعية، وقيوده المرعية. وقد شهد بذلك العالم الشهيد فقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات:8). ومما تعلمناه من أسلافنا: (المال في يدك: نعم.. في جيبك: نعم.. في كيسك: نعم. في قلبك: لا ولا كرامة). ومما قالوه أيضاً: (المال كالدابة أحتاجها وليست في قلبي).
- نتخذ للرزق الأسباب، ولكن القلب معلق بالرازق الوهاب ثقة به وتوكلاً عليه (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:60). فترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد عليها قدح في الشرع. والحق بين بين ووسط بين طرفين.
معالم أساسية
- المال هيبة ورئاسة، وأحد أسباب السيادة ونجاح السياسة. ولا قضية جادة بلا مادة.
- المبدأ أولاً، ولكن المال ليس ثالثاً.
- القضية في حاجة إلى من يحملها لا إلى من تحمله.
- القضية التي تحمل أهلها لا يمكنها مواصلة السير طويلاً، كالسفينة إذا كثر ركابها غارقة لا محالة.
- الولاء للإعطاء، وليس للأخذ.
- “من أعطى والى، ومن أخذ تولى”.
- المنتفع يستمر معك على قدر المنفعة، فإذا قطعتْ انقطع.
- المعطي أو المضحي يشعر بعمق أنه جزء من المنظومة، ويكون حقاً كذلك. بينما الآخذ أو المستفيد يشعر أنه خارجها، ولا يقبل الاندماج بها مهما أعطيت وحاولت. ولا يزيده الأخذ إلا عمقاً في الشعور، وتثاقلاً في المسير.
- شجع أفراد المنظومة على البذل، والسعي في توفير المال لتحقيق أنشطة المنظومة. ولا تعودهم على التفكير في أي نشاط أو إنجاز أي هدف دون التفكير في تهيئة ما يلزمه من نفقة. وفـي قصة بني إسرائيــل دلالة حين طلبوا من موسى u أن يعرف لهم القاتل فقال لهم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (البقرة:67). فالمنجزات التي تأتي عفاء تذهب هباء.
- لا تمنح شيئاً من يتوهم أن ما تعطيه هو حقه أو بعض حقه! وأنك مجرد مؤتمن يؤدي ما فـي يديه أو محاسب يسلم له ما عليه. فإن هذا سيفجرك في اللحظة التي ينقطع فيها العطاء، وربما انقلب لك عدواً ناكراً. وستكتشف أن كل عبارات الشكر القديمة كانت ملقاً ومداهنة، أو مداراة ومجاملة.
- للناس علينا أن نقوم لهم بتهيئة المنظومة التي من خلالها يعبرون عن دينهم وقضيتهم، وليس لهم علينا أن نقوم عليهم بما كسبوا.
- المؤهل هو الأول عند التقييم والنظر، والمال لاحق ولكنه هو العامل الفاعل لجعل المؤهل واضح الأثر. وبهما كليهما كانت القوامة: (بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء:34).
- صاحب المال فـي الواقع هو القائد مهما تدنت مؤهلاته. فعلى أهل الشأن أن يحرصوا على امتلاك المال؛ ليكونوا في مكانهم الرائد. وإلا اختل المسير لصعوبة تحقيق التوافق بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن بحكم الواقع.
- لا تحصر همك في تحصيل المال من خارج المؤسسة، واجعل جهدك منصباً على تحصيله واستثماره من الداخل: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3).
- واحذر (المال السياسي) فإنه مزلقة ما لم يحسب بدقة. واجعل شعارك “مال المانح ليس بصالح”.
- المال السياسي قنطرة منخورة، سرعان ما تنهار وتؤدي بعابرها إلى البوار. والضمان بالتنمية الذاتية للمال قدر الإمكان. تأمل قوله Y: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة:3). وانظر إلى ما روي عن أنس بن مالك t (أن رجلاً من الأنصار أتى النبي e فسأله عطاء. فقال: (أما فـي بيتك شيء) قال: بلى، حِلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه من الماء. قال: (ائتني بهما). قال: فأتاه بهما فأخذهما رسول الله e بيده وقال: (من يشتري هذين)؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم قال: (من يزيد على درهم)؟ مرتين أو ثلاثاً. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: (اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قَدوماً فأتني به. فأتاه به) فشد فيه رسول الله e عوداً بيده ثم قال له: (اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً). فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم. فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً. فقال رسول الله e: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة. إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع) رواه أبو داود واللفظ له، والنسائي والترمذي وحسنه.
وفـي صحيح البخاري عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: (لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أحبلهُ, ثم يأتي الجبل, فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ, فَيَبِيعَهَا, فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَه, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ, أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ).
- المال عامل بناء، أو معول هدم.
- أكبر أسباب الفتنة فـي المؤسسات أو الجماعات هو المال، عندما:
- يساء استخدامه: عمداً أو جهلاً.
- يفشو الجهل بين الجمهور وتتحكم الشبهات، وتهمل الأصول والمحكمات.
- تضعف التربية الإيمانية؛ فيتحكم الهوى والطمع.
دروس من القرآن الكريم والسنة النبوية
من دروس القرآن الكريم والسيرة النبوية
سورة (آل عمران)
سورة (آل عمران) درس عظيم من دروس معركة (أحد). وفيها:
- الثقة بالقائد أساس نجاح المنظومة. والمال أول ثغرة فـي نفس المريض يتسلل منه الشك فـي الثقة به. والشك في القائد الموثوق إنما يترشح من خبث نفس الشاك، وإلا كيف اختاره واتبعه؟ فالأصل هو الثقة، وفـي التأول لصالحه مندوحة.يقول تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (آل عمران:161). قال ابن جرير (بسنده) عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فـي قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها. فأكثروا فـي ذلك، فأنزل الله الآية. قال الترمذي: حسن غريب. وعن ابن عباس: اتهم المنافقون رسول الله e بشيء فُقد، فأنزل الله تعالى: (وما كان لنبي أن يغلّ).
فإذا كان الناس – على فرض صحة الرواية – لديهم الجرأة على اتهام نبي مزكى من الله، فكيف هم بسواه! والعاقل من غلّب التأويل على التشكيك. وسابق التأمين لا يستقيم معه لاحق التخوين.
من دروس السيرة النبوية
- الاستفهام قبل الاتهام.
- لا يجاب المبادر بالاتهام، الجواب لمن طرح السؤال على سبيل الاستفهام. أما المبادر بالتهمة على الظن والشبهة فلا يصلح له جواباً ولا علاجاً سوى الزجر والتأديب.
روى الإمامان البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: بينما نحن عند رسول الله e وهو يَقْسِم قَسْماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: (ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل). وفي رواية: قال: فنزلت فيه: (ومنهم من يلمزك في الصدقات).
بينما المتأدب بأدب الإسلام، والمتربي فـي مدرسة الرسول e يدرك بإيمانه وعقله ومنطقه أن اليقين الراسخ لا يقاوم بالشك الطارئ. فإن عرض من ذلك عارض لجأ إلى الاستفهام، فيأتيه الجواب دواءً وشفاءً. (إن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201). ذلكم هو الفاروق t الذي كان موقفه فرقاناً وبياناً وسنةً وقانوناً نسير على هداه فـي ضباب هذه الشبهات.
روى الإمام مسلم فـي (صحيحه) عن عمر بن الخطاب t قال: قسم رسول الله e قَسْماً. فقلت: والله يا رسول الله لغير هؤلاء كان أحق به منهم. قال (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخّلوني. فلست بباخل).
وهذا هو ديدن الصحابة رضوان الله عليمهم فـي الحالات المشابهة. فقد روى الإمام مسلم فـي (صحيحه) أيضاً عن عامر بن سعد عن أبيه سعد رضي الله عنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس فيهم. قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً لم يعطه. وهو أعجبهم إلي. فقمت إلى رسول الله e فساورته فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. قال: (أو مسلماً). فسكت قليلاً. ثم غلبني ما أعلم منه. فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً. قال (أو مسلماً). فسكت قليلاً. ثم غلبني ما أعلم منه. فقلت: يا رسول الله! مالك عن فلان؟ فوالله! إني لأراه مؤمناً. قال (أو مسلماً). قال: (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه. خشية أن يكب في النار على وجهه).
الأحمق ذو الخويصرة .. وأمثاله !
قف..! وقارن بين موقف عمر وسعد رضي الله عنهما، وموقف الأحمق الخائب ذي الخويصرة. وفيما يلي زيادة شرح لبعض الفقرات التي ذكرتها آنفاً:
في سورة (آل عمران) حديث مهم وجوهري عن المال وكيف يمكن أن ينحرف دوره فيكون عاملاً من عوامل تمزيق النسيج الجمعي للمؤسسة، وفصم العلاقة بين القائد وجنوده عندما يثور الشك في بعض تصرفاته المالية التي تحتاج إلى تفسير من أجل فهمها على وجهها، وأن بعض الأتباع يبادرون إلى الاتهام قبل الاستفهام. يعيننا على هذا الفهم ما ورد في السورة الكريمة من قوله تعالى وغيره: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (آل عمران:161). فإذا كان النبي محمد e معرضاً لأن يتهم بالغلول (أي الأخذ من الغنيمة خلسة قبل أن تقسم)، فغيره أولى بتعرضه للتهمة.
قال ابن كثير رحمه الله: وقوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون… وقال ابن جرير (بسنده) عن ابن عباس أن هذه الاَية (وما كان لنبي أن يغل) نزلت فـي قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها، فأكثروا في ذلك، فأنزل الله (وما كان لنبي أن يغلّ ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) وكذا رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب… وروى ابن مردويه من طريق أبي عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: اتهم المنافقون رسول الله e بشيء فُقد، فأنزل الله تعالى: (وما كان لنبي أن يغلّ). وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم. وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة فـي أداء الأمانة وقَسم الغنيمة وغير ذلك.
والسيرة النبوية حين نستعين بها نجدها ثرة معطاءة فـي توسيع دائرة هذا الفهم. وفـي قصة ذي الخويصرة عبرة وتبصرة.
دروس من مقتل الإمام عثمان بن عفان
من دروس الانقلاب على الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه
انقلاب فضل الإحسان إلى نكران
- فضل الإحسان إذا تكرر فتحول إلى راتب.. تحول من مرتبة الفضل إلى مرتبة الحق الواجب، فإذا قصّر المحسن فيه انقلب الإحسان إلى سيئة ونكران.
هذه ظاهرة نفسية بشرية عامة.
- إذا أردت إعانة محتاج فلا تجعل معونتك راتبة، واجعلها متقطعة بين آنٍ وآن. وإلا فمتى انقطعت أو تأخرت طالبك بـ(حقه)، أو ذمك بـ(ظلمه).
وإذا قلبنا صفحات الفتنة الكبرى التي وقعت فـي صدر الإسلام والصحابة متوافرون، وتوقفنا عند مفاصلها الحيوية نستنطقها ونستجلي حقيقتها ونعرف كيف ولدت ونمت وتطورت.. نجد عندها الكثير.
ظاهرة نفسية جمعية
ما حقيقة مشكلة عثمان t؟ ومن أين أتت الفتنة؟
لا يمكن إدراك هذه الحقيقة على وجهها ما لم نقف عند ظاهرة نفسية بشرية تعم الناس جميعاً إلا من لجمها بنور العقل، وجملها بحسن الخلق، وقليل ما هم. تلك هي أن فضل الإحسان إذا تكرر واستمر جريانه، ومرت عليه فترة مناسبة تحول لا شعورياً عند كثير من أصحاب النفوس الضعيفة، وارتفع من درجة الفضل إلى مرتبة الواجب. ومتى ما وصلنا إلى هذه النقطة فقد دخلنا فـي دائرة الخطر!
إن المسافة الفاصلة بين المرتبتين كبيرة جداً، كالمسافة بين النافلة والفرض. ويمكن أن تظهر صورة الخطر بشكل أوضح عند النظر إلى الفرق بين استحقاقات كل من المرتبتين. ففي الحالة الأولى (حالة الإحسان المتقطع) يشعر المرء بالحب والامتنان تجاه المحسن، والحاجة إلى شكره والتعبير عن شعوره ذلك نحوه. ولا يكون فـي باله – فـي غالب الأحوال – أي تحسس غير طبيعي من انقطاع الفضل لأي سبب من الأسباب.
أما فـي الحالة الثانية (حالة الإحسان الراتب) فيضعف الشعور الإيجابي ويأخذ بالتلاشي شيئاً فشيئاً بعد مدة من المرور بمحطة الشعور الطبيعي الذي ذكرناه آنفاً… إلى أن يتحول إما: إلى جفاف عاطفي؛ على أساس أن المحسن إنما يؤدي واجباً عليه أن يقوم بأدائه، لا أكثر ولا أقل. أو ينقلب إلى ملق ومداهنة وخوف من شخص المعطي خشية انقطاع عطائه. يترسخ بفعل الزمن، وربما استحال إلى نفرة، تتطور فتصل حد الكره. وهذا شيء طبيعي ووارد جداً عند أصحاب النفوس التي تعاني من (عقدة النقص). إن التعايش بشعورين متناقضين ظاهر وباطن ليس من السهل تحمله دون انعكاس آثاره على نفسية وشخصية صاحبه. وستعبر الأمور عن نفسها عند أول بادرة خلاف.
فإذا حصل أن قل الفضل أو انقطع فستبدأ المشاكل بالظهور، وننتقل إلى مرحلة أخرى تفصح فيها الأزمة النفسيـة المخـتبئة عن ذاتـها، وتنطلـق مـن عقـالها متذرعـة بشتى الحجج، وملقية بمختلف التهم دون اعتبار لقوله جل وعلا: (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:237).
جذر الفتنة
يعود جذر الفتنة التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى اليوم الذي قرر فيه عمر بن الخطاب t توزيع الأموال على المسلمين بعد أن فاض بها بيت المال. فجمع الأصحاب رضوان الله عليهم وأهل الرأي والمشورة منهم فوضعوا أساساً أو منهاجاً لتوزيع هذا (الفضل) يبدأ بأزواج النبي e وأقاربه ثم يتدرج مقدار المنحة نزولاً حسب السابقة فـي الإسلام والبلاء فيه.
لفت نظري ذكر البلاذري اعتراضاً ذكياً من أبي سفيان بن حرب على هذا التصرف يدل على بعد نظر وتحسب للعواقب والمآلات ورثها عنه ابنه معاوية، فقال: “أديوان مثل ديوان بني الأصفر؟ إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان وتركوا التجارة. فقال عُمَر: لا بد من هذا فقد كثر فـيء المسلمين”([1]).
استمر الوضع على ما هو عليه فـي عهد عثمان بن عفان t، حتى كان مناديه ينادي: (أيها الناس اغدوا إلى أُعطياتكم فيأخذونها وافية. أيها الناس اغدوا على كسوتكم فيغدون فيجاء بالحلل فتقسم بينهم. حتى والله سمعت إذ نادى: يا معشر المسلمين اغدوا على السمن والعسل فيغدون فيقسم بينهم الطيب من المسك والعنبر وغيره. والعدوان والله منفي والأعطيات دارة والخير كثير… ثم أنكر الناس على عثمان أشراً وبطراً).
لقد صار لدى الناس موردان للرزق: مورد يأتيهم بجهدهم من تجارة وزراعة ورعي وجهاد وغير ذلك. ومورد يأتيهم عفواً دون مقابل من بيت المال. وإذا تأملت الحالة وجدت هذه المنحة (فضلاً) مضافاً تكرمت به الدولة على رعيتها، وليست هي فـي الأساس حقاً واجباً لهم عليها. ولا شك أنهم أول الأمر كانوا فرحين بهذا الفضل الذي صار يأتيهم سهلاً من غير جهد، ويرون يد الدولة عليهم فيه واضحة. لكن مع تكرر منح (القيمة المضافة) واستمرار جريانها إليهم جعل الناس ينظرون إليها فـي نهاية المطاف على أنها حق من حقوقهم الواجبة الأداء فـي عنق الدولة تجاههم. والويل الويل لمن قصر أو تهاون فيه أو قلل من مقداره فـي يوم من الأيام.
الأمر الآخر هو أن منهاج القسمة يؤدي بطبيعته إلى التفاوت في مقدار العطاء. فصار ذوو المراتب الدنيا في سلم الرواتب من الناشئة والأعراب وأمثالهم يتذمرون من هذا التفاوت بينهم وبين من هم أعلى منهم مرتبة لا سيما قريش وأهل المدينة حتى طلبوا من الخليفة (ألا يأخذ أهل المدينة عطاءً. فكان إذا لحق لاحق من ناشئ أو أعرابي أو محرر استحلى كلامهم فكانوا في زيادة حتى غلب الشر). ولجأوا إلى رفع شعار المساواة تحقيقاً للعدل المفقود كما يدّعون.
ثم إن هذه (القيمة المضافة) – مع الموارد الأخرى ذات الطابع الشخصي – أوجدت اكتفاء مادياً، بل وفائضاً عن الحاجة لدى الكثير من أفراد وطبقات المجتمع. وهذا وفر لهم متسعاً من الوقت وفراغاً لم يجدوا ما يشغلونه به سوى الخوض في مجريات الأمور فـي مركز الخلافة، ومحاولة التدخل فـي شؤونها، والاعتراض على بعض الإجراءات التي كانت تصدر من الخليفة أو نوابه فـي المركز أو الأقاليم، على قاعدة (الجيش الذي لا عمل له يجيد المشاغبات). فتجاوزوا حدود العلاقة الرابطة بينهم وبين الخليفة، مستغلين لينه وغلبة الرحمة والتسامح على علاقته بهم، فاختلت هذه العلاقة بين الطرفين وأدى ذلك إلى التصادم بينهما آخر الأمر.
الاستفهام قبل الاتهام
أهل الفتنة يسارعون إلى الظن السيء دون تثبت، ثم لا يترددون بعد ذلك من التصريح بمقتضى هذا الظن من الاتهام والقالة بالباطل، كما هو شأن ذي الخويصرة. وهذه إحدى علامات أهل الفتن، وواحدة من طرائق تفكيرهم المنحرف.
وإذا سأل سائل فقال: فماذا ينبغي أن يفعل التابع إذا حاك فـي صدره شيء تجاه متبوعه؟ نقول: ثمت أشياء تدور فـي نفس كل إنسان ، لا ضرر منها إذا بقيت فـي دائرة حدودها. وإنما المشكلة فـي استرسال صاحبها وتهاونه معها حتى تُدخله في دائرة الإثم والظن السيء، أو حين يتوسع الشق أكثر فيقع فـي الفتنة ويكون من دعاتها.
الموقف الصحيح فـي مثل هذه الحال أن يبادر من أشكل عليه الأمر إلى الاستفهام قبل أن يبني على ظنه أي تصرف من قول أو فعل. لقد تعرض الصحابة y إلى مثل هذا فـي علاقتهم بالرسول e، فسألوا واستفهموا ولم يشكّوا أو يتهموا، كما بينا قبل قليل.
المسارع إلى الاتهام لا يجاب.. الجواب لا يجدي
قارن موقف النبي e من ذي الخويصرة بموقفه من عمر بن الخطاب وأمثاله من الصحابة المتأدبين بالأدب الرباني، المتحلين بالخلق الإيماني.. تجد أن النبي e أجاب عمر وسعداً بما أزال الإشكال، وأراح الصدر. بينما لا نجده أجاب من أساء الأدب، وتجاوز الحد فبادر إلى الاتهام قبل الاستفهام. والسبب فيما يبدو لي -والله أعلم -أن مشكلة هذا وأمثاله علة نفسية، وليست إشكالية فكرية. وإذا كان الأمر كذلك فالحل لا يجدي معه الشرح والتوضيح؛ ولذلك اكتفى النبي e بتعنيفه لافتاً نظره إلى التناقض بين اعتقاده بأنه رسول الله، واتهامه بعدم العدل؛ فإنهما لا يجتمعان. فالظالم لا يكون نبياً؛ وإذن هو خائب خاسر باتباعه مثل هذا.
وقد دل الدليل الواقعي على عدم جدوى البيان مع المبادر إلى التهام؛ فالحال نفسه تكرر مع الخليفة عثمان بن عفان t. لقج حاول علاج المشكلة بالشرح والتوضيح والتفسير فلم ينفعه ذلك. بل تمادوا في غيهم حتى طالبوه أن يخلع نفسه فلما أبى قتلوه. وفـي هذا درس لنا بليغ. وعندما خلفه علي بن أبي طالب t عمل بما أراده القتلة من سلفه من قسمة المال بينهم بالسوية ففعل، وكانوا يعترضون عليه فيشرح لهم ويبين ويحاول. ولم يكن ذلك ليغني عنه.. حتى ألحقوه بصاحبه.
كثرة المسائل والاعتراض والتدخل في عمل القائد
العلاقة بين القائد والأتباع قائمة على قاعدة (الطاعة في المنشط والمكره). وأساس الطاعة الثقة في القائد، تقابلها الشورى. وتدعمها الرحمة، يقابلها الحزم، مع وجود ضابط العقاب للمخالف.
من خصائص العمل الجماعي كثرة أسراره وتفاصيلها وأنواعها، ومنها أسرار خاصة بالقائد ليس لأحد أن يناقشه فيها، لاسيما فـي ظروف العمل السري. وسمي العمل بـ(السري) تمييزاً له عن العمل فـي الظروف الطبيعية. فالثاني تقل فيه الأسرار وتتسع دائرتها، بينما الأول تكثر فيه الأسرار وتضيق دائرتها حتى تقتصر على القائد أحياناً. فـي هذه الحال يكون الاعتماد على الاجتهاد في تصنيف الأسرار الخاصة والعامة. وقد وقد يقع في اجتهاد القائد خطأ من الأصل. قد يتشدد حتى يتجاوز على حقوق الجماعة، وقد يتساهل حتى يتجاوز على حقه لصالح المجموع. ومادامت الثقة موجودة فينبغي للجماعة أن تسلم وتطيع ما دامت الشورى موجودة، وحق النقاش والاعتراض الشرعي مكفول. على أن يعرف الجميع حدودهم، فيعرفوا أين يقفون، وأين يتقدمون. وبهذا وحده يتهيأ للعمل فرصة النجاح. فإذا انشغلت الجماعة بالسؤال والبحث والتنقير بحيث لا يخطو القائد خطوة قبل أن تكون مفهومة ومبررة، فالعمل محكوم عليه بالفشل حتماً.
ولو افترضنا وجود جماعتين: إحداهما تطيع القائد دون نقاش، وتسلم له فـي كل ما يرى ويقرر ويفعل، وقد يستشيرهم وقد لا يستشيرهم، والأخرى تتدخل فتسأل عن الصغيرة والكبيرة، وتريد أن يكون لها رأي فـي كل مسألة، وتختلف عليه فيما لا تقتنع به أو ما لا يستشيرها فيه.. فإن الجماعة الأولى، على علاتها، أمامها فرصة للنجاح والوصول إلى أهدافها، بينما الأخرى محكوم عليها بالفشل حتماً ومن البدايـة؛ لأنها جماعة مريضة عليلة بما لا يرجى لها البرء والشفاء منه.
هكذا كانت جماعة علي t. انظر ماذا يقول له ابن الكواء: (إن لنا في كل أمر رأياً، فما أتاك فأطلعنا عليه حتى نشير عليك). وقد آل أمر ابن الكواء إلى أن صار من رؤوس الخوارج. وهذا يفصح عن طبيعة العلاقة بين هؤلاء وبين قائدهم، وذلك أنهم كانوا لا يرضون الانقياد والسمع والطاعة له دون مراجعة منهم لما يراه، أو دون أن يكون لهم رأي فيه. بل وأكثر من ذلك أنهم كانوا يريدون أن يأخذ بما يرونه هم له لا ما يراه هو لهم. وفـي كل يوم لهم رأي، فمرة يجبرونه على قبول التحكيم، ومرة يكفرونه به ويطلبون منه التوبة والرجوع عنه.. وهكذا.
لقد أرشد النبي e إلى أن الطاعة في الحالين: المنشط والمكره، إلا ما كان في معصية الله. وكانت أوامره فـي هذا واضحة جازمة: (وإن جلد ظهرك وأخذ مالك). (أدوا الذي عليكم، وسلوا الله الذي لكم). وبيّن e سراً من أسرار هلاك الجماعات (بمعنى تشتتها وزوال عقدها ووجودها كجماعة) في قوله: (إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم).
تأملوا هاتين الصورتين المختلفتين فـي الطاعة، وكيف كانت إحداهما عاملاً من عوامل النجاح، والأخرى عاملاً من أهم عوامل الفشل!
الصورة الأولى: نادى معاوية في الناس فاجتمعوا فقام فيهم خطيباً فقال: إن علياً قد نهد إليكم في أهل العراق فما ترون؟ فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون، فقام ذو الكلاع الحميري فقال: عليك الرأي وعلينا الفعال. وهذا لا يعني أبداً أن سيدنا معاوية t كان من نوع الحكام المستبدين، بل كان يستشير أصحابه ويناقشهم ويحاورهم ويستجيب لهم. كما فعل مع أبو مسلم الخولاني وأبي الدرداء وغيرهم. وكما هو في هذه الواقعة.
الصورة الثانية: نادى علي t في الناس فاجتمعوا إليه فقال: إن معاوية قد نهد إليكم في أهل الشام فما الرأي؟ فاضطرب أهل المسجد: هذا يقول الرأي كذا، وهذا يقول الرأي كذا. وكثر اللغط واللجب فلم يفهم علي من كلامهم شيئاً ولم يدر المصيب من المخطئ، فنزل عن المنبر وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
النتيجة أن الجماعة المطيعة لقائدها تغلبت على الجماعة المتفلتة المختلفة على قائدها. وهذا أحد أسباب الفتنة التي تعرضت لها الأمة فـي عهد عثمان رضي الله عنه.
[1]– فتوح البلدان، ص440، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري (ت 279هـ)، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988.
من دروس السياسة المالية
من دروس السياسة المالية لمعاوية رضي الله عنه([1])
- المال العام يصرف على نشاط مؤسسي عام.
- لا يستعمل المال العام في الصرف على شأن الخاص، إلا لسبب يدركه فلا ينشأ عنده شعور بأن المال المصروف عليه خاصة من المال عامة حق من حقوقه إلا بذلك السبب الخاص من عمل يؤديه، أو حاجة لا بد من قضائها، وما أشبه ذلك.
- كيفية صرف المال العام في الشأن العام من شأن القيادة العليا؛ فهي المؤتمنة عليه، وهي المسؤولة عنه. وليس لأحد سواها التدخل في ذلك، إلا على سبيل الاقتراح والتقويم والنصيحة. والقيادة في ذلك – بعد المشورة – بالخيار.
السياسة المالية السابقة لعهد معاوية
حكم معاوية رضي الله عنه دولة واسعة الأرجاء، وفيرة الموارد، متعددة المطالب والمشاكل، كثيرة وجوه الإنفاق. هذا مع تجربة اقتصادية سابقة وصلت حد الاحتقان، وأدت إلى اضطرابات هددت كيان الدولة وأدت إلى مقتل خليفة.
اقتضت هذه المتغيرات والتجارب استحداث سياسة مالية جديدة متطورة تلبي الحاجة الراهنة وتأخذ بالاعتبار المآلات والمشاكل الناتجة. فاستحدث رضي الله عنه إصلاحات كثيرة في هذا المجال الحيوي والخطير من جوانب الحياة والأنشطة المجتمعية. وحتى ندرك ما يجري علينا أن نعرف ما جرى. فنقف وقفة قصيرة أمام التجربة السابقة.
المال فـي دولة الإسلام قسمان:
أ. الأول: هو حق خاص للشعب فصلته النصوص، لا حق للحكومة في التدخل فيه: لا قسمة ولا منعاً، مثل الميراث والزكوات والصدقات والغنيمة بعد استخراج خمسها.
ب. الثاني: هو حق خاص بخزينة الدولة، مثل خمس الغنيمة والخراج. وهذا يتنازعه حقان، وينظر إليه من زاويتين: فمن زاوية أنه في نهاية الأمر مُلك للشعب لا ملك للدولة. هذا هو الحق الأول. ومن ناحية أنه ملك عام لا ملك خاص للشعب كالموارد التي ذُكرت آنفاً. فهو مُلك مآل لا ملك حال. أما فـي الحال فهو مُلك الحكومة. هذا هو الحق الثاني.
وملكية الحكومة لهذا القسم من المال تعني أن للحكومة – وليس للشعب – حق التصرف فيه وصرفه في الأنشطة التي تخدم المجتمع مثل الصحة والتعليم والجيش والقضاء والخدمات. وليس بمعنى أن أفراد الحكومة لهم حق التصرف فيه لصالحهم الخاص، كما أنه لا يعني شرطاً أن يُصرف على شكل عطاء نقدي أو عيني للناس.
دعونا ندرس التسلسل التاريخي لهذا القسم من المال، وكيف كان عامل بناء، ثم تحول إلى عامل هدم..
- تراكمت الموارد فـي بيت المال على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t، ولم تكن الدولة آنذاك قد تدرجت في سلّم المدنية ليمكنها تصريف هذه المقادير الكبيرة من المال في مناشط عامة كثيرة. فوجد عمر أن أفضل وسيلة للتعامل معها توزيعها بين المسلمين. فاستحدث (ديوان العطاء). وقد ذكر البلاذري، كما أسلفت سابقاً، اعتراضاً ذكياً من أبي سفيان بن حرب على هذا التصرف يدل على بعد نظر وتحسب للعواقب والمآلات ورثها عنه ابنه معاوية، فقال: “أديوان مثل ديوان بني الأصفر؟ إنك إن فرضت للناس اتكلوا على الديوان وتركوا التجارة. فقال عُمَر: لا بد من هذا فقد كثر فيء المسلمين”([2]). لم ينكر عمر على أبي سفيان تخوفه، لكن هذا هو الحل المتوفر أمامه في ذلك الوقت. فهو من باب العمل بالممكن لا بالمستمكن.
- أما من الناحية الشرعية فلم يكن هذا التصرف واجباً على الدولة، وإنما هو رأي واجتهاد رآه عمر، ولم يقدم الآخرون -كما يبدو -اقتراحاً أمثل. بمعنى أن عمر بن الخطاب لو لم يقم بتقسيم المال على الناس، وإنما اتبع بدائل أُخرى مثل: إقراض المال للمتاجرة والمزارعة وما شابه من وجوه الاستثمار حسب ضوابط مناسبة، على أن يعود رأس المال، أو المضاربة به مع الناس على نسبة معينة ولتكن خمسة بالمئة، للخزينة وباقي النسبة للمضارب.. لما كان عليه من بأس من ناحية الشرع.
- فـي النصف الثاني من خلافة عثمان برزت مشاكل كأثر جانبي لهذا التصرف؛ طبقاً لظاهرة نفسية جمعية لم يُـلتفت إليها. وهي (أن فضل الإحسان إذا تكرر بصورة راتبة واستمر جريانه، ومرت عليه فترة مناسبة تحول لا شعورياً فـي قرارة نفس المحسَن إليه من مرتبة الفضل إلى مرتبة الوجوب على المحسن). ومتى ما وصلنا إلى هذه النقطة فقد دخلنا، ودخلت الأمة كلها، في دائرة الخطر.
- لقد تحول العطاء على عهد عثمان وعلي في نظر الشعب إلى حق من حقوقه، على الحكومة أداؤه تجاهه واجباً غير محمودة ولا مشكورة. بل لا شك فـي أن هذا التحول السلبي في النظر إلى العطاء بدأ في عهد عمر؛ كما تقضي به طبيعة الأمور، لكن لم يظهر أثره آنذاك لحزم عمر وهيبته واستقامة أزمة الأمور في يده.
- بعد فترة تجاوز الناس هذه النظرة إلى ما هو أسوأ. فإذ أصبح توزيع المال من قبل الدولة على الناس حقاً من حقوقهم؛ إذن على الحكومة أن توزعه حسب ما يرون هم، لا حسب ما ترى الحكومة. فسلبوا الحكومة حقها الخاص في كيفية تصريف المال، متبعين المتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله حسب ما تشتهي أنفسهم وترتضي أهواؤهم.
وصل تدخل الناس في حق الخليفة في تصريف مال الخزينة حداً مقرفاً. فقد روى ابن حبان بسنده عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: سمع عثمان أن وفد أهل مصر قد أقبلوا، فاستقبلهم، فلما سمعوا به، أقبلوا نحوه إلى المكان الذي هو فيه، فقالوا له: ادع المصحف، فدعا بالمصحف. فقالوا له: افتح السابعة، قال: وكانوا يسمون سورة يونس السابعة، فقرأها حتى أتى على هذه الآية: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون) (يونس:59)، قالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك به أم على الله تفتري؟)([3])! لو كان عمر مكان عثمان هل كان هؤلاء المعوقون الأغرار يجرؤون على مثل هذا!
لقد ارتقى الفساد فـي هذه المرحلة درجة خطيرة، صار فيها الناس يتدخلون بصورة فجة سمجة في حق الدولة الخاص؛ اعتماداً على حق لهم غير محدد عام. حتى طلبوا من الخليفة “ألا يأخذ أهل المدينة عطاءً”([4])!
فكان إذا لحق لاحق من ناشئ أو أعرابي أو محرَّر استحلى كلامهم فكانوا في زيادة حتى غلب الشر. ولجأوا إلى رفع شعار المساواة تحقيقاً للعدل المفقود كما يدّعون.
- من ناحية أخرى أوجد العطاء اكتفاء مادياً، وفّر للنفوس المريضة بالهوى أو الجهل متسعاً من الوقت وفراغاً لم يجدوا ما يشغلونه به سوى الخوض في مجريات الأمور فـي مركز الخلافة، ومحاولة التدخل في شؤونها، والاعتراض على بعض الإجراءات التي كانت تصدر من الخليفة أو نوابه فـي المركز أو الأقاليم، على قاعدة (الجيش الذي لا عمل له يجيد المشاغبات). والإنسان إذا حقق الاقتصاد تاق إلى السياسة. فتجاوزوا حدود العلاقة الرابطة بينهم وبين الخليفة، مستغلين تساهله وغلبة الرحمة والتسامح على علاقته بهم، فاختلت العلاقة بين الطرفين وأدى ذلك إلى التصادم بينهما آخر الأمر.
- أحس الخليفة عثمان بن عفان t بأن العلة الرئيسة وراء هذه الفتنة هي الفضل الذي انقلب في الأنفس المريضة إلى واجب لا شكر عليه؛ فرأى أن يوقف هذا العطاء الزائد، إلا ما كان راتباً عن عمل محدد يؤدى. فقام في الناس خطيباً فقال: (ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليلحق فليحتلبنه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد). لكن الأوان قد فات هذا العلاج المتأخر جداً. وكانت نتيجته أن ” غضب الناس، وقالوا: هذا مكر بني أمية”([5]). وما زالت الأمور تتطور حتى انتهت بانقلاب قُتل فيه الخليفة عثمان بن عفان، واهتزت بل تزعزعت أركان الدولة. وتمخض عن تحكم أهل الفتنة بشؤون الدولة على عهد الخليفة الجديد علي بن أبي طالب.
لا بد لهذه الوضع أن يتغير، ولهذه السياسة إذن أن تصلح، ويجرى عليها التعديل المناسب. وإلا تكررت المأساة بدرجة أشد وأفظع!
[1]– هذا الفصل مستل من كتاب (معاوية بن أبي سفيان رجل المرحلة والمجدد الأول في تاريخ الإسلام)، للمؤلف.
[2]– فتوح البلدان، ص440. مصدر سابق.
[3]– الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، 15/358، محمد بن حبان (ت 354هـ)، تحقيق وتخريج وتعليق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ – 1988م. قال شعيب: رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي سعيد مولى أبي أسيد فقد ذكره المؤلف في “الثقات” 5/588 – 589… وأخرجه الطبري في “تاريخه” 4/354 – 356 و383 – 384 عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي، بهذا الإسناد. وأورده الحافظ ابن حجر بطوله في “المطالب العالية” 4/283 – 284، ونسبه إلى إسحاق بن راهويه في “مسنده”، وقال: رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض. وزاد نسبته في “فتح الباري” 5/408 إلى ابن خزيمة وابن حبان. لكن الشيخ شعيب لم يجزم فيه بشيء: لا صحة ولا ضعفاً.
[4]– المصدر نفسه.
[5]– المصدر نفسه.
تجديد معاوية في مجال السياسة المالية
تجديد معاوية في مجال السياسة المالية
للخير باب يفضي إلى رحاب واسع، وللشر باب يؤدي إلى نتائج لا تنضبط. والمقصود هو الأساس والفكرة الرائدة التي تمثل الأصل الذي يبنى عليه. فما هو الأساس الذي بنى عليه معاوية سياسته المالية؟
صرف المال في بناء المؤسسات .. لا الصرف المباشر على الناس
لقد غير معاوية الأساس الذي بنيت عليه السياسة المالية فـي العهد السابق وهو صرف المال في مصالح الناس كأفراد، إلى أساس آخر هو صرف المال في مصالح الناس كمجموع.
أي استعمال المال أولاً في تدعيم الدولة وتثبيت أركانها وتشييد مؤسساتها في بُناها العلوية والتحتية: العسكرية والأمنية والقضائية والتعليمية والخدمية وغيرها. فما فائدة بذل المال كله لشعب انقسم إلى قسمين: قسم يتقوى بهذا المال على هدم الدولة، وقسم آخر يتفرج عاجزاً عن فعل شيء ضد هذا التجاوز الخطير؟!
ساهم المال السابق فـي تهديم ولاء الناس للدولة فعكس معاوية النتيجة بسيره على ذلك الأساس، وصار المال سبباً في تدعيم ولاء الناس للدولة. وقصير النظر يركز على الفعل مجرداً، ولا يدرك غايته فكرة، ولا نتيجته واقعاً.
وما فعله معاوية رضي الله عنه فـي هذه الجزئية هو عين سياسة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تندرج تحت باب (المؤلفة قلوبهم). لكن ذا الخويصرة اعترض عليه حتى تجاوز قدره فقال له: “اعدل يا محمد؛ إنها والله قسمة ما أريد بها وجه الله”! وهو عين ما قاله ويقوله المخالفون لمعاوية حتى اليوم؛ ينظرون إلى الفعل كجزئية مجردة عن أساسها ونتيجتها وحيثياتها. لكن ماذا نفعل إذا كان كثير من الناس: جمهوراً ونخبة باتوا من طراز (ذي الخويصرة) بسبب تلك الثقافة السائدة الفاسدة!
لقد كانت السياسة السابقة تستعمل المال في مصلحة الأفراد، فعمل معاوية على سياسة جديدة تميل إلى استعمال المال في مصلحة الدولة، ومن خلال هذه المصلحة العامة تتحقق المصالح الخاصة للأفراد. ولم يكن في ذلك بخس لحق أحد؛ فحقوق الأفراد المالية المبينة بالشرع مكفولة لا تجاوز فيها عليهم. وإنما الكلام في المال الذي فـي خزينة الدولة (بيت المال). وهو، وإن كان في النهاية موضوعاً لخدمة الناس، لكنه من ناحية ثانية وهي طريقة التصرف فيه، هو حق الدولة المحض، بعد أن أدي فـي أصله حق الناس. مثل خمس الغنيمة بعد صرف أربعة أخماسها على مستحقيها: لا شأن للناس في تحديد طريقة التصرف فيه وتوجيهها. كما أنه لم يرد في الشرع تفصيل فيها؛ فيكون الحق فـي طريقة تصريفه فـي نهاية المطاف لولي أمر الناس، وليس للناس. وهذا ما عناه معاوية بقوله: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”([1]). لا كما فهمته الظنون الآثمة للمخالفين.
وإذ المال مال الدولة فلها الحرية فـي كيفية إنفاقه أو توزيعه. فعمل معاوية على توجيه عامة مال خزينة الدولة إلى ما يعود على الدولة أو الشعب ككل بالفائدة. مثل رواتب الجند وتكاليف تصنيع السلاح وأدوات الجهاد القديمة والمستحدثة مثل صناعة السفن وبناء الأساطيل حفاظاً على إدامة الفتوح ونشر الإسلام. ورواتب الحرس والشرطة وأجهزة الاستخبارات وما يقوم على توطيد الاستقرار والأمن الداخلي. ومصارف الزراعة وما تحتاجه من إصلاح الري وحفر الأنهار وإحياء الموات وغيرها من الاحتياجات. ومصارف (المؤلفة قلوبهم) لترسيخ ولائهم للدولة وكف شرهم عن الفتن. وكذلك مصاريف مؤسسات الدولة الأُخرى: القديمة والمستحدثة، مثل ديوان الخاتم والبريد والخراج والتعليم. وما يصرف للفقهاء وطلبة العلم، وعمارة المساجد وبناء المدن وعمارة البلدان وغيرها من المصارف التي تعود بالنفع الخاص على أفراد الناس، ولكن من خلال مؤسسات النفع العام للدولة.
وكان أمير المؤمنين معاوية يتابع الواقع ويواكب حاجاته بما يناسبها. فحين وقعت حوادث غش وتلاعب في الكتب التي تتضمن صرف المال، استحدث معاوية الخاتم وديوان الخاتم. “وصار هذا الديوان الجديد من أهم معالم القواعد المالية الجديدة زمن الأمويين، فكانت له نظم دقيقة، وعمال يقظون، فإذا صدر توقيع من الخليفة بأمر من الأمور أُحضر التوقيع إلى ذلك الديوان، وأُثبتت نسخته فيه، وحُزم بخيط، وختم بشمع، وختم بخاتم صاحب الديوان”([2]).
وقد كانت الدولة مهتمة بالصالح العام إلى حد قد لا يتخيله العض. فمن ذلك أن والي الموصل فـي عهد هشام بن عبد الملك، وفـي وقت كانت ترزح فيه خزينة الدولة تحت ضغط مواجهة الأخطار الخارجية، قام بإنشاء مشروع رئيس لجر المياه عبر المدينة، وذلك بحفر قناة متفرعة من نهر دجلة تمر بالمدينة، تبنى عليها ثماني عشرة طاحونة، كلفتها ثمانية ملايين درهم. أنجز المشروع سنة (121هـ) بعد (15) سنة، وعمل عليه (5000) رجل([3]).
إن هذا التصرف فـي استثمار المال العام وتدبيره أولى وأنفع للناس ألف مرة من صرفه عن طريق التوزيع المباشر عليهم.
كانت هذه السياسة من أكبر عوامل الإصلاح والتجديد الذي عمله معاوية؛ وكانت الأمة آنذاك في أمس الحاجة إليه.
سياسة وسط .. تحفظ ميزات القديم وتلبي طلبات الجديد
- ما من شك فـي أن نصيب الناس من الموارد المحددة لهم شرعاً، كالزكوات والصدقات والغنائم وغيرها، لم تتأثر بالتغييرات الجديدة. وكذلك أعطيات النساء والمواليد الجدد. ومستحقات النوازل والكوارث التي تحل بالناس، وحقوق المرضى مثل العميان والمجذومين. فلم يوقف معاوية العمل بـ(ديوان العطاء) كلياً، لكن من المؤكد أن الأساس الذي سار عليه معاوية في سياسة المال أثر عليه، ولصالح الدولة: شعباً وحكومة.
وقد ورد ما يشير إلى هذا، من أن معاوية خطب الناس فبيّن لهم أن المال مال الدولة تتصرف فيه بما تشاء مما تراه قائماً بمصالح الناس وإصلاحهم، وليس هو مال الناس يتصرفون فيه بما يشتهون وليس للحكومة غير إجراءات الصرف. والنص الوارد عنه في ذلك قوله: “إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”([4]). لكن يبدو أن النص حصل فيه تصرف من القادحين والمادحين على السواء. أما القادحون فقد جعلوا النص دليلاً على تعسف معاوية وتصرفه بالمال خارج ضوابط الشرع. مع أن ما يشبهه ورد عن عثمان بن عفان حين خطب الناس أيام الفتنة فقال: (ألا من كان له زرع فليلحق بزرعه، ومن كان له ضرع فليلحق فليحتلبنه. ألا إنه لا مال لكم عندنا، إنما هذا المال لمن قاتل عليه، ولهذه الشيوخ من أصحاب محمد). وقد مر قريباً ذكره. لكن الانحياز أعور.
وأما المادحون فقد أشكل عليهم النص – كما أرى – فوضعوا له زيادة أفادت بأن معاوية إنما قال ذلك اختباراً لغاية دينية سامية، ولم يقله مؤمناً به متبنياً له. ولو نظروا إلى النص نظر من عرف السياسة الشرعية في المال، ودرس الوضع الاجتماعي في تلك الفترة، لوضعوا القول موضعه. وعلموا أن معاوية إنما أراد بذلك أنه لا حق للناس فـي التحكم بمصارف هذا المال، فهذا الحق كله للدولة تعمل فيه ما تشاء من المباحات والمستحبات والواجبات على ما يرى القائمون عليه من أهل الشأن والتكليف والخبرة وأولهم الخليفة، لا على ما يرى عامة الناس ممن لا شأن لهم ولا تكليف ولا خبرة. والمال بهذا الحق مال الدولة ممثلة بالخليفة ونوابه والفيء فيئها؛ تعطي من تشاء وتمنع من تشاء. وليس هذا نفياً لحق الناس العام فيه.
إن الشيء ينفى ويثبت كلٌّ باعتبار. لقد أثبت الله تعالى مشيئة العبد فقال: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (الإنسان:29)، ثم نفاها فقال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان:30). فتلك مشيئة السبب، وهذه مشيئة القدر. ومشيئة القدر لا تجري اعتباطاً- حاشى وكلا! – بلا حكمة؛ لذا عقّب عليها فقال: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) (الإنسان:30). وعلى هذا قول معاوية: “من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا”؛ فليس هو عطاء ومنع بلا ضابط شرعي سليم.
وفـي هذا المعنى يروي ابن تيمية في (منهاج السنة:6/234) فيقول: روى محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: “إن فـي بيت مالكم فضلاً بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاماً قابلاً قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة عليّ، فإنه ليس بمالي، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم”([5]). فهنا يقول معاوية بأن المال ليس ماله وإنما مال الله الذي أفاء عليهم. فالنفي باعتبار والإثبات باعتبار. اعتبر فـي الأول حق التصرف فأضاف المال إلى نفسه، واعتبر في الثاني حق الانتفاع فنفى ذلك عنها.
وفـي النص ما يفيد أن معاوية اختط خطاً وسطاً بين عوائد العهد الماضي ومطالب العهد الراهن. وأنه سار على سياسة استعمال المال فـي مصلحة الدولة أو الصالح العام، لكنه لم يهمل استعماله في مصالح الأفراد.
ولم يكن معاوية ممن يتصرف بالمال دون شعور بالمسؤولية الشرعية، حاشى وكلا. لكنه كان يجتهد كما يجتهد غيره ممن سبقه مثل علي والحسن، أو لحقه كعمر بن عبد العزيز. ومما يدل على حرصه على سلامة دينه فـي المال أنه لما حُضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال. كان أراد أن يطيب له الباقي لأن عمر قاسم عماله”([6]).
[1]– سيأتي تخريجه لاحقاً.
[2]– السياسة الشرعية، ص130، مناهج جامعة المدينة العالمية، جامعة المدينة العالمية.
[3]– الدولة الأموية المفترى عليها، ص427، د. حمدي شاهين، دار القاهرة للكتاب، القاهرة – جمهورية مصر العربية، 2001.
[4]– أصل النص (كما في السلسلة الصحيحة، 4/398-399، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف، 1415هـ – 1995م): أخرجه أبو يعلى (4/1781) من طريق ضمام بن إسماعيل المعافري عن أبي (قبيل) قال: “خطبنا معاوية في يوم جمعة، فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا ومن شئنا منعنا، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال: مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن يشهد المسجد، فقال: كلا بل المال مالنا والفيء فيئنا من حال بينه وبيننا حاكمناه بأسيافنا. فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية، فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا، أحياه الله، سمعت رسول الله e يقول: “سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم يتقاحمون في النار تقاحم القردة”، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم”.
قال الألباني عن الحديث المرفوع: وهذا إسناد حسن لولا أن ابن عقبة لم أعرفه. لكنه قد توبع، فأخرجه أبو يعلى أيضا.. وذكر ما أثبته أعلاه. فكان ما أثبته قد ذكر للمتابعة. والحديث لا يرقى إلى مرتبة الحسن بسبب ابن عقبة. ثم قال الألباني: وأخرج المرفوع منه الطبراني في “الأوسط ” (رقم – 5444) والزيادة له، وقال: “لم يروه عن أبي قبيل إلا ضمام”. قلت: وهما ثقتان، على ضعف يسير في الأول منهما. والحديث قال الهيثمي في “المجمع ” (5/236): “رواه الطبراني في “الكبير” و “الأوسط ” وأبويعلى، ورجاله ثقات”.إ.هـ . قلت: ويتبين من هذا أن الزيادة – وهي القصة – لا ترقى إلى درجة الصحة.
[5]– ذكره الذهبي في (سير أعلام النبلاء، 3/152)، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، 1405 هـ/1985م) فقال: أبو اليمان: حدثنا ابن أبي مريم، عن عطية بن قيس، قال: خطبنا معاوية، فقال: “إن في بيت مالكم فضلاً عن عطائكم، وأنا قاسمه بينكم”.
[6]– صحيح تاريخ الطبري، الخلافة في عهد الأمويين، المجلد الرابع، 4/38، د. محمد بن طاهر البرزنجي، بإشراف ومراجعة المحقق محمد صبحي حسن حلاق، راجع فصولاً منه وأبدى ملاحظاته كل من: أ.د أكرم ضياء العمري و أ.د عماد الدين خليل، دار ابن كثير/ دمشق – بيروت/ الطبعة الأولى 1428هـ – 2007م.
علوم أساسية
( 9 )
علوم أساسية في ( منهاجنا )
ثلاثة علوم
ثلاثة علوم مهمة جداً (علم النفس والاجتماع والتاريخ)، تكاد تكون غائبة عن برامج الدعوات التغييرية التي أدركناها. ربما تجد لها إشارات في تلك البرامج، وقد يُدرس أحدها أو شيء منها، ولكن ليس من باب أنه جزء لا يتجزأ من المنهج الفكري التوعوي، والتغييري التطويري التنموي، وإنما من باب أنه علم مفيد كبقية العلوم ينتبه له حيناً ويُهمل أحياناً.
فيما يلي إشارات عن أهمية هذه العلوم. والتوسع فيها يطلب في مظانه. ونحن نتطلع أن نبلغ درجة عدم اتخاذ قرار في أي اجتماع شوروي دون وجود متخصصين في علم النفس والاجتماع والتاريخ. وكلي أمل بأننا سنبلغ هذا الهدف بعون الله جل في علاه.
- علم النفس
علم النفس يفيدنا في فهم النفس البشرية طباعاً وميولاً، وكيف نتعامل معها ونؤثر فيها ونتأثر بها. أي كيف نصوغ خطابنا ونوجهه لغيرنا، وكيف ينبغي أن نتلقى خطاب الغير. ولا يقل عن ذلك أهمية معرفتنا بأنفسنا وطباعنا ودوافعنا الذاتية وعللنا النفسية لنعالجها.
من خلال علم النفس نعلم أن الإنسان – بالدرجة الأولى – مخلوق نفساني لا جثماني ولا عقلاني. فهو – بحكم طبعه – يريد بنفسه ثم يبرر بعقله، ويندفع بقدمه. لكن إذا وعينا ذلك، ودخل (الكتاب) في المعادلة، وكانت ثمت نفس قابلة، عرفنا كيف نعالج هذا الخلل.
في غياب هذا الوعي تحوّل تفكير معظم الناس من رحاب عقولهم إلى دهاليز نفوسهم. فتجد أحدهم يفكر بنفسه لا بعقله، وتنحصر وظيفة عقله بالتبرير لمطالب النفس، لا التنوير المطلوب: تفكيراً وتفسيراً. وما دام المرء كذلك فلن يبلغ عقله نقطة التوهج التي يصل على ضوئها إلى النتيجة الإيجابية المنشودة. (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122).
علم النفس يضعنا أمام أنفسنا وجهاً لوجه. فبه – مثلاً – ندرك مدى أثر (الإسقاط) في حياة البشر! تلك الحيلة التي يحوِّل بها الإنسان نقائصه إلى غيره، وقد يحارب ذلك الغير ويعاديه ويتعنت في ذلك، وهو لا يدري أنه – في الحقيقة المترسبة في قعر اللاوعي – يحارب ذاته ولكن… في ذات غيره.
منهجية الحماس وصناعة الإحباط
لست هنا في مقام تفصيل فوائد هذا العلم الغائب عن مناهج المؤسسات السائدة، والتي تبنت على عاتقها – كما تقول – مَهمة التغيير الاجتماعي، وأولها تلك المؤسسات التي تريد التغيير طبقاً للمنهج الرباني؛ فلذلك موضعه. إنما أقصد أن أضرب أمثلة توضح المراد يمكن البناء عليها والنسج على منوالها.
الأمل إيمان وطاقة ونشاط، والقنوط كفر وحسرة وقعود. وللإسلام منهجه في غرس الأمل وجني ثماره الطيبة: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87). وللمؤسسات السائدة منهجها في غرس اليأس وحصاد الشوك!
شرطان للنصر في الإسلام: التزام الحق وحمل النفس على الصبر. والمسلم منتصر ما دام ثابتاً على طريق الحق. ذاك يعني أنه وفى بالعهد، وحاز الشرط. وقد ورد التعبير عن الشرط المزدوج (الحق والصبر) بصيغ متعددة:
(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57).
(وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:1-3).
من أول الطريق يصارحك بأن المسار طويل والمسير صعب والسائر في كبد. ويبين لك أن لكل هدف وسيلته، فلا يكفي لبلوغ الهدف كونك على الحق ما لم تلتمس له أسبابه من وجوهها. ثم تنتظر حكم الله تعالى، ولا تستعجل النتيجة. فالعمل مع الله يجري على قاعدة (أدّ ما عليك ثم ما عليك).
يقول تعالى: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21). ولنا أن نسأل: كم مرت من سنين بين العبودية والتمكين؟ ويقول تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:5،6). ثم انطلقت رحلة التمكين لبني إسرائيل فكانت طويلة؛ ابتدأت بمولد القائد المؤسس: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7). واستغرقت حياته كلها وتجاوزتها إلى الجيل – أو أكثر من جيل – من بعده: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة:246). وجاء جيل آخر هو جيل طالوت وداود فكان على يده التمكين. والآن هل لك أن تجيبني: كم مرت من عقود بين التمكين الموعود وظهوره حقيقة في عالم الوجود؟
في كل الأحوال يبقى الأمل في قلب المؤمن لا يفارقه مهما اشتد الخطب، وادلهم النهار، وقل الناصر وكثر الخاذل. والعقد هو العقد ماضٍ على سنة (أدّ ما عليك ثم ما عليك). بل قد تكون هذه الحال علامة على اقتراب الفرج: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110).
قارن هذا مع الثقافة الراهنة، القائمة على بذل الوعود سخية بالنصر، وربطه بمجرد الحق، في غفلة عن شرط الصبر. متغافلين عن المضامين الحقيقية لكلا الشرطين. فمن الحق إعداد العدة، ومن الصبر عدم استعجال المدة.
لو قلت: إن كل الجهات العاملة مطبقة على هذه الثقافة: قولاً وفعلاً لا أظنني عدوت الحقيقة. والمقتصد المقتصد من أقر بالقول، وخالف بالفعل. الكل في عجلة من أمرهم. فصائل الجهاد طراً، والسياسيون جمعاً، والخطباء كلاً. الجميع ينتهج مع الجماهير خطاباً حماسياً يجعلهم يعيشون هاجس النصر على مرمى خطوة أو هو أقرب، قطعاً ويقيناً.
كم شهدت مِنصات (الحَراك) على اختلاف من علا عليها في المحافظات السنية العراقية التي انتفضت طوال 2013.. من قسَم معظَّم على أنهم منصورون يقيناً لا يعتريه ريب، ولا يشوبه شك! والدليل الوحيد على ذلك هو الدعوى بأنهم على حق. والحق عندهم هو (الإيمان) مجرداً عن (النصرة). و(النصرة) هي القوة بمفهومها العسكري بعيداً عن الأساس المدني. والمدني عنده هو السياسة وإن كانت في معزل عن القوة.
خبط عشواء، وحركة في عماء. بعيداً عن معرفة النفس البشرية ومحركاتها، وغيبة عن معرفة وبيان سنن الله في خلقه ودورها في استجلاب نصره. وما يقابل ذلك من معوقات في حاجة إلى إزالة، وعقبات في حاجة إلى اقتحام. ثم لا ترى بعدها غير الأشلاء والدماء، وتغول الطغام وتسيد الدهماء. وانفضاض الجماهير آيسة محبطة.
إهمال علم النفس ودوره في غياب المنهج مع حضور التشريع
قس على ما سبق مثلاً:
المسارعة إلى إقامة الحدود، والأحكام الفقهية، دون الالتزام بضوابط التطبيق ومنهجيته الشرعية القائمة على (فقه المقاصد)، وهو فقه يراعي طبيعة النفس وقوانين الاجتماع. هذا مع ضعف التفريق بين الشريعة كتنزيل رباني، والفقه كمنتوج فكري بشري.
ينفذ ذلك شباب بهذا الفهم المجتزأ، يسيطرون على بعض المدن بقوة السلاح ويسمونها دولة. وهي غير قادرة على دفع أهم مستحقين على الحكومة تجاه الشعب: توفير مقومات الأمن والرزق.
ينفذونه على ناس لم يبلغ الزمن بهم مستحقه من الفهم والترويض على أحكام الشرع. متوهمين أن هذا هو معنى (تحكيم الشريعة).
أضف إلى ما سبق جزئية قد تبدو للبعض صغيرة، لكنها في ميزان علم النفس وأسرار قيادة الناس كبيرة، هي ارتداء حملة السلاح لباساً غريب الهيئة مستورداً من بيئة بعيدة إلى بيئة أُخرى لم تألفه، ومن الصعب أن يجد إلى نفوس أهلها سبيلاً أو قبولاً.
ليت هؤلاء يدركون أن الإنسان مخلوق نفساني لا جثماني. وأن هيئة الملبس أحد مفاتيح النفس البشرية، شأنها شأن اللغة واللهجة والعادات والطباع والأعراف لها أثرها في التلامس النفسي والتمازج الاجتماعي، وصناعة البيئة الداخلية الحاضنة. ولو كان المتصدرون على دراية بعلم النفس والاجتماع ما ارتكبوا في حق أنفسهم ولا أقوامهم هذه الإساءات.
مراعاة التشريع الرباني للنفس البشرية في جميع أحوالها
راعى الإسلام في تشريعاته جميعاً الجانب النفسي في الإنسان في جميع أحواله، بدءاً بالإيمان (وأساسه العقيدة) وانتهاء بالسياسة مروراً بالعبادات والمعاملات بلا استثناء. فدخل بالإنسان إليها من باب النفس. ويظل هذا الباب يلازم البابين الآخرين وهما باب العقل، وباب الروح.. في مزيج متجانس يصعب كثيراً التمييز بين مكوناته قبل بذل جهد كبير.
اقرأ سورة (الفاتحة) وتأمل معنى الابتداء باسم (الله) من جانبه النفسي، وما يشيعه هذا الاسم العظيم (اللَّهِ) موصوفاً بـ(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) من تطمين وأمان، هو أفضل مدخل للقراءة، ولكل عمل صالح. وقف عند (الْحَمْدُ)، ثم استمر مع أسماء الله وصفاته التي تضمنتها السورة. وطأطئ رأسك مستحضراً عظمة ربك وحقيقة نفسك وأنت تتلو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وهل رأيت كم هو عظيم ولطيف هذا الطلب: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) بحيث أفرد من بين جميع المطالب، وجعل مدار حاجة الإنسان تجاه الرحمن! فإذا نظرت وأنت تقرأ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فرأيت مواكب الهداة من الأنبياء والصالحين تترى أولها عند آدم u وآخرها عندك، يتوسطها (السراج المنير) e وأنت تسلك الطريق إلى الله آخذاً محلك بين هذه المواكب النورانية.. عرفت سراً من أسرار قوله تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر:21). لا سيما إذا أتبعتها بتلك الباقة العطرة من (أسماء الله الحسنى) التي ختمت بها السورة: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر:22-24).
ليس بالإمكان متابعة تعاليم الإسلام باباً باباً – ولو بالإشارة – حول مراعاته جانب النفس في الإنسان. لكن أقتطع من السيرة هذين الموقفين، مع ما بينهما من بون؛ إذ أحدهما في الإيمان وثانيهما في السياسة، لكن يجمع بينهما علم النفس:
شاهد على استثمار علم النفس في الإيمان
يرى النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات مشهداً إنسانياً مؤثراً فاستثمر المشهد لإثارة العقل، ولكن من باب النفس، نحو سعة رحمة الله تعالى بعباده. روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فإذا امرأة من السبي قد تحلَّب ثديها تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : (أترون هذه طارحة ولدها في النار)؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: (لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
شاهد على مراعاة علم النفس في السياسة
إبان مفاوضات (الحديبية) ترسل قريش أحد مفاوضيها، فيكسبه النبي صلى الله عليه وسلم بحركة عجيبة لم تزد على أن استثمرت المعرفة بأسرار النفس استثماراً طريفاً بحيث لم يبذل سيد الساسة طراً e كلمة ولا جهداً، سوى أن نظر إلى الخلفية النفسية للمفاوض القادم ليوظفها في خدمة هدفه السياسي، ثم ترك حيوانات عجماء تتولى الأمر مع ذلك المفاوض!
روى الطبري في (تاريخه) قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال في حديثه: ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة- أو ابن زبان- وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بلحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه). فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس، رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى. فقال: يا معشر قريش، إني قد رأيت ما لا يحل صده: الهدي في قلائده، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله. قالوا له: اجلس، فإنما أنت رجل أعرابي لا علم لك.
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أن تصدوا عن بيت الله من جاءه معظماً له. والذي نفس الحليس بيده لتُخلُّن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد! قال: فقالوا له: مه! كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به([1]).
هل تأملت مدى علاقة علم النفس بجوانب الحياة جميعاً التي جاء الإسلام لإصلاحها وتنميتها!
نعم، لا يخرج الحقل التشريعي الرباني البحت عن مراعاة الجانب النفسي للإنسان: فرداً ومجتمعاً. وإن أدنى تأمل في ذلك يعود منه صاحبه بحقيقة ظاهرة هي أن الإسلام راعى في أحكامه الشرعية شيئين: علم النفس من حيث خطاب الفرد، وعلم الاجتماع من حيث خطاب المجتمع. خذ مثالاً على ذلك المنهجية الربانية في علاج ظاهرة شرب الخمر وظاهرة الرق. وللتفصيل موضع آخر.
مراعاة النفس أصل شرعي لكل الأجيال لا حالة مؤقتة بالجيل الأول
ما أريد الخروج به هو أن مراعاة هذين الجانبين ليس حالة مؤقتة كان مناطها خاصاً بذلك الجيل، إنما هي حالة دائمة مناطها شخصية الإنسان في مظهريه: الفردي والجمعي. ولو علم المتصدرون هذه الحقائق لما خفّوا إلى تنفيذ أحكام الشريعة قبل تطبيق منهجية الشريعة في تنفيذ أحكام الشريعة. فبهذا وحده يكون الإنسان: فرداً ومجتمعاً مهيأً نفسياً وعقلياً وجسدياً للعمل بالشريعة وتحويلها إلى حقيقة حضارية تمتد طويلاً في الزمان والمكان؛ لأنها أخذت مداها عميقاً في داخل الإنسان وداخل المجتمع.
القائد عالم نفس
علينا إذن أن نضع معلماً ثابتاً من معالم القيادة، هو أن يكون من شرط القائد على اختلاف مرتبته أن يكون على دراية بعلم النفس. ويوثق ذلك بشهادة علمية من معهد أو جهة معتبرة. يضاف إلى تلك الدراية بهيكلها العلمي أساسها الرباني القائم على مزج العلم الطبيعي بالعلم الشرعي، وأساسها الواقعي القائم على تطويع هذا العلم للواقع السني، شأنه شأن بقية العلوم في مؤسستنا. ويخضع لاختبار لجنة خاصة في المؤسسة متخصصة بعلم النفس والاجتماع تصادق على صحة الشهادة الممنوحة بأسسها الثلاثة: العلمية والربانية والواقعية.
[1]– قال المحقق الدكتور محمد طاهر البرزنجي (صحيح تاريخ الطبري السيرة النبوية:2/214): إسناده إلى ابن إسحاق ضعيف. ولكن أخرجه ابن هشام بسند حسن عن طريق ابن إسحاق (3/312).
2. علم الاجتماع
- علم الاجتماع
التوسع في علم النفس يدخلنا – ولا بد – في علم الاجتماع، الذي يمكن لي أن أصفه بأنه علم نفس المجتمع. أو سيكولوجية الجماهير كما هو مقرر في استعمال المتخصصين.
يتلامس علم الاجتماع مع مشروعنا في نقاط ويخدمه من نواحي أهمها:
- التعرف على قوانين للاجتماع لها علاقة بأسرار تغيير المجتمع وسيرورته التاريخية؛ وصولاً لاستثمارها في التحكم بدفة التغيير.
- صياغة خطاب جماهيري يتجاوز دائرة الخطاب الفردي، يدرك كيف يؤثر في المجتمع ككل، من خلال معرفته بالنفسية الجمعية للجمهور، والعوامل المؤثرة فيها.
- معرفة جذور الشخصية الصنمية المتجذرة في نفوس الزعامات الشرقية؛ من أجل تشخيصها ووضع علاج مناسب لها في مؤسستنا منعاً لوجودها في أوساطها.
- الاستفادة من معرفة النفسية الجمعية للجمهور لإدراك أسرار الثورات الجماهيرية: ما الذي يهيجها؟ وما هي أسباب فشلها؟
من ذلك علمنا بأن للفرد شخصيتين: واحدة فردية وأُخرى جمعية. ولكل شخصية خصائصها والمؤثرات التي تفعل فيها. وما هي العناصر الفاعلة في تغيير المجتمع؟ وكيف تتم التحولات الكبيرة والصغيرة في أحوال المجتمعات؟ ولهذا يتنوع الخطاب: فالخطاب الموجه للجمهور له قوانينه وأساليبه، والخطاب الموجه للفرد له قوانين وأساليب أُخرى. ومن هذا المنطلق كان المرتكز الرابع من مرتكزات العملية التغييرية في منهاجنا هو التغيير الجمعي، فأساس التغيير المقصود عندنا هو تغيير المجتمع، الذي يأتي في المرتبة السابقة لمرتبة تغيير الفرد.
من خلال علم الاجتماع نعرف لمَ تثور الجماهير على الحاكم، حتى إذا أزاحته عن منصبه واستلم الثائر السلطة كان – عادة – كسابقه أو أشد ظلماً وطغياناً منه، في دوامة لا تكاد تنتهي! فكأننا – نحن شعوب الشرق – كتب علينا أن نعاني الظلم دائماً، وندفع الثمن في الحالتين: السكوت أو التمرد أبداً.
منبع الاستبداد
من أين يجيء الاستبداد؟ إن الشعب الذي يعاني من حاكم مستبد، يتحول تلقائياً إلى شعب مستبد بطبعه. لكنه يختزن الاستبداد في حالة الضعف، حتى إذا قوي وتمكن ظهر ما كان خافياً، وانفجر ما كان مكبوتاً.
من حالة الاستبداد التي عاناها ويعانيها الشعب إذن جاء الاستبداد! فهو يكره الاستبداد واقعاً عليه، ولكنه يمارسه واقعاً على غيره دون أن يشعر بهذا التناقض. فليس من الغرابة أن يدعي الطغاة أنهم عادلون، ويتوهمون أنهم كذلك!
التماهي ( أو التوحد ) بالمعتدي والتماهي الإسقاطي
كيف يحصل ذلك؟
بعمليات نفسية داخلية غير واعية، أهمها عملية (التماهي بالمضطهد أو المعتدي). وهي عملية نفسية دفاعية، معناها تمثل وتقمص عدوانية المعتدي وأخلاقه وصفاته حتى تصبح هذه الحالة جزءاً من شخصية المضطهَد أو المعتدى عليه. لا تقتصر هذه الحالة على الفرد فقط وإنما يمكن أن تصبح حالة جمعية، أو مرضاً اجتماعياً متوطناً؛ بالمعاناة والعدوى. وهكذا تكره الشعوب حكامها.. تثور عليهم.. تستلم السلطة.. تمارس الظلم على الشعب الذي أتى بهم إلى السلطة، في دورة لا تنتهي!
نحن نصنع الطاغية، والطاغية يصنعنا
الحقيقة أننا نخلق الصنم الذي نعبده! ثم نأكله متى ما أردنا وقدرنا على ذلك! لنصنع صنما آخر يأكلنا ونأكله!
علينا أن نعرف أمراً آخر مكملاً لما سبق. شيئاً اسمه (التماهي الإسقاطي) وهو عملية نفسية يحاول الشخص من خلالها إدخال ذاته لا شعورياً داخل شخص آخر: إما مكروه بالنسبة إليه كي يسيء إليه ويمتلكه ويسيطر عليه، أو هو أقرب شخص ضعيف منه كالزوجة والولد ومرؤوسي العمل، يحول إليهم لا شعورياً صفاته التي ينفر منها كالحقد، أو نزعاته التي يخشاها كالغدر والعدوانية؛ وبهذا يحتقره ويؤذيه، ويجد نفسه منساقاً إلى ذلك الشعور والسلوك دون أن يملك له رداً، حتى وإن كان لا يرغب في ذلك.
إنه يحارب ذاته ويكره صفاته في الآخر وهو لا يدري!
نمارس الطغيان ونلعنه
هذا هو السبب العميق الذي لأجله لا يأبه الطاغي لشعبه، ولا يحترم مدير الدائرة موظفيه، ولا يأخذ رئيس الحزب أو الهيئة أو التجمع برأي أتباعه ومرؤوسيه. ولهذا أيضاً تظلم المرأة حين يسلط أقرب الناس إليها: زوجاً أو أباً أو أخاً أو حتى ابناً، طغيانه، ويوجه إليها ازدراءه، ويعتبرها في لاوعيه أدنى درجة منه، حتى وإن أقر بلسانه بغير ذلك: كاذباً أو صادقاً. المسألة نفسية لا عقلية، ولا شعورية وليست واعية.
هكذا نمارس الطغيان ونلعنه. نصنع الصنم ونعبده، ثم نهدمه. فما الحل؟
أول العلاج الإدراك.. إدراك المريض أنه مريض. هذا شيء عظيم لا يستهان به. علم النفس والاجتماع يساعدنا في إدراك أهم عللنا النفسية: الفردية والجمعية.إذا عرفنا هذا عرفنا أننا في حاجة إلى العلاج، فسألنا عنه أهل الاختصاص واستعملناه فشفينا منه.
شركة صناعة الصنم
هذا وغيره من جوانب علم النفس والاجتماع هو الذي هدى المؤسسات المتطورة إلى مبدأ الشورى التشاركية، التي ينبغي أن نمارسها بكل قناعة. وبذلك نقضي على (شركة صناعة الصنم)، التي هي السبب الأساس في كل مشاكلنا ومآسينا. العلة التي تقضي على الإبداع في أي مؤسسة، وتحول أفرادها إلى مجرد نسخ عن الرئيس، والأجواء إلى مجالات مكهربة بالإرهاب الفكري، ومصطلحات التخوين والتآمر والعمالة.
هل أدركنا الآن كم هو عظيم قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)؟!
لا بد من وجود عالم النفس والاجتماع في مؤسستنا
الدعوة التغييرية الحقيقية، هي الدعوة التي تستكمل جميع عناصر التغيير والنجاح داخلياً وخارجياً.
لهذا أؤكد على ضرورة أن يكون في كل مؤسسة خبير نفساني اجتماعي، لا نعقد رأياً إلا بوجوده وبعد أخذ رأيه الذي يرشدنا كيف يكون القرار مجدياً من حيث التأثير الاجتماعي، وما هي العناصر أو العنصر الذي ينبغي أن يضاف إلى المعادلة كي تصلح لتحريك المجتمع باتجاه الهدف المنشود، وتجعله متفاعلاً مع المشروع المطروح، وهل المشروع صالح لنقل الجمهور وتحريكه، أم إنه مجرد نظريات جامدة أو ضعيفة، لا يمكن التعاطي معها إلا في حالة واحدة هي الخوف أو الترهيب؟ وبهذا ننقلب إلى طغاة مستبدين نفرض آراءنا ومشاريعنا بالقوة العمياء.
3. علم التاريخ
- علم التاريخ
أهمية التاريخ .. ولماذا جعلناه جزءاً من منهجنا
من عرف الجذور سهل عليه قراءة ما فوقَ الأرض. فإذا أردت أن تعرف أي أمة أو طائفة، اقرأ عقيدتها، وقلب صفحات تاريخها. أما واقعها فيكفيك منه الإشارات. ولكن علتنا في جمهور لا يقرأ، و.. محمور لا يتعلم إلا بالنخس!
والنظر في التأريخ عبادة أمرنا بها في كتاب الله عز وجل في آيات عديدة وجهتنا إلى السير في الأرض والنظر في سير الأقدمين لأخذ العبرة. والقرآن الكريم نفسه قص علينا طرفاً من قصص الماضين وتأريخهم، الصالحين منهم والطالحين. وذلك كله متضمن في قوله تعالى: (اهدِنا الصراطَ المستقيمَ * صراطَ الّذينَ أنعمْتَ عَلَيهِمْ * غيرِ المغضوبِ عليهِمْ وَلا الضّالِّينَ) (الفاتحة:5-7). فمعرفة منهج المهتدين، ومنهج التائهين مرتبط – في جانب منه – بمعرفة أخبارهم وأخلاقهم. وهذا هو التأريخ.
للتاريخ فوائد جمة إليكم أهمها:
- معرفة من نحن
التاريخ هو ذاكرة الأمة بأبعادها العرقية والثقافية المتعددة، وفي مقدمتها – بالنسبة لنا نحن سنةَ العراق – يأتي البعد العراقي والعربي والإسلامي. كما أنه يمثل أحد المكونات المهمة للجذر الذي تفرعنا عنه، والنسغ الحضاري الذي تغذينا منه وربونا عليه. وبهذا نعرف من نحن بكل الأبعاد التعريفية. ونعرف ما لنا وما علينا، بعيداً عن التهويل في الحالتين. وتكتمل الصورة عندما نعرف الناس الذين حولنا من الأمم الأُخرى.
- معرفة خصائص الشعوب
التاريخ أحد المِجسات التي تختصر علينا الجهد – بالتساند مع مِجسات أُخرى – في معرفة الشعوب: عدوها من صديقها، كيف تفكر؟ وإلى مَ تسعى؟ وما هي محركات سياستها؟ فكثير من صفات الشعوب وخصائصها، وميولها وطرائق تفكيرها، وغاياتها وأهدافها، تستنسخ فيها – إذا استثنينا بعض المظاهر والمتغيرات الجزئية – جيلاً فجيلاً في عملية جمعية متكررة. فكأن الجيل الماثل من أي مجتمع حاضر هو نفسه ذلك الجيل الغابر.
- استشراف المستقبل
إن الأحداث نفسها تكرر نفسها. وكأنني أنظر إلى صفات الشعوب وخصائصها روحاً أزلية تسري في جسد الأحداث فتبعثها وتجسدها وتجددها. بقراءة تاريخ الشعوب نعرف كيف تفكر؟ وإلى مَ تسعى؟ وما هي المحركات الخفية لها في تصرفاتها وسياساتها؟ إن كثيراً من صفات الشعوب وطبائعها وخصائصها، وثقافاتها وعاداتها، وميولها وطرائق تفكيرها، وغاياتها وأهدافها، تستنسخ فيها جيلاً عن جيل في عملية جمعية متكررة، إذا استثنينا بعض المظاهر والمتغيرات الجزئية. فكأن الجيل الماثل هو نفسه ذلك الجيل الغابر. فعندما نقرأ التاريخ نستطيع توقع ما يبغيه الشعب الفلاني بنا: خيراً أو شراً، وبهذا نتمكن من استشراف واستثمار كثير من الفرص لصالحنا، كما نتمكن من استشراف وتجنب كثير من الأخطار قبل أن تقترب منا أو تحدق بنا. بتعبير آخر نعرف كيفية التعامل مع الشعوب والأمم. ولو أتقنا ذلك جيداً ما أعاد التاريخ علينا دورته في كل مرة، حتى قال بعضهم: (الشيء الوحيد الذي استفدته من التاريخ أننا لا نستفيد منه ولذلك يعيد التاريخ علينا نفسه)!
انظر كيف يُذَكِّر القرآن العظيم، اليهود الذين عاصروا التنزيل بأعمال أسلافهم الغابرين، بأسلوب، لولا الفارق الزمني لقلنا: إن الجيل المعاصر – لا الجيل الغابر – هو الذي ارتكبها! خذ مثلاً قولَه تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة:55). وهذا مثال واحد من كثير!
وأياً ما كان الأمر فقد أشار القرآن العظيم في سورة (الفاتحة) إلى قراءة التاريخ، ودعا إلى السيْر على طريق المهتدين وتجنب طرق المغضوب عليهم والضالين، وهذا لا يتم إلا بمعرفة سيَر وتاريخ هذه الأصناف الثلاثة. فكان تفصيل هذا الإجمال في سورة (البقرة) وغيرها من سور القرآن الكريم، التي قصت علينا تواريخ الأقوام السالفة بأصنافها الثلاثة المذكورة آنفاً.
من ذلك قوله تبارك وتعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران:137). وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يوسف:109).
إعادة كتابة التاريخ على أساس الهوية
استجاب علماء الإسلام لهذا التوجيه الرباني فاهتموا بتدوين التاريخ، وتركوا لنا ثروة كبيرة منه. لكنها في حاجة إلى تأصيل وتدقيق وتحقيق، على أسس علمية سليمة خاصة بالتاريخ، تتجاوز آلية (روى) إلى منهجية (رأى). وهذا يستلزم نفض كل ما تركه الأقدمون من تراث تاريخي من أجل تنقيته وتنميته وإضافة ما فاتهم من تأسيسات وتقنيات، أهمها اعتماد الآثار كعنصر أصيل من عناصر كتابة التاريخ.
توجد صيحات وجهود لتصحيح التاريخ أو إعادة كتابته. ولكنها تعاني من عوق ذاتي يمنعها من أن يتحول جهدها النخبوي إلى ثقافة عامة. يتمثل ذلك العوق في كونها تعاني من ثلاث علل:
- الفردية: وأقصد بها غلبة الجهد الفردي وضعف الجهد المؤسسي الذي يولي ملف التاريخ حقه ومستحقه. إن الجهد الفردي – مهما عظم – يبقى صيحات متقطعة يسمعها شتات من الناس هنا وهناك، سرعان ما تخبو وتتوقف قابليتها على التأثير قبل أن تحدث الأثر الجمعي الصانع للثقافة المجتمعية. والحل يكون بوجود مؤسسة تصحيحية خاصة بالتاريخ تنبثق عن مؤسسة أكبر: دولة أم غيرها، تديم حركتها وتوجه مسارها وتنميها وترعاها.
- النخبوية: وأقصد بها بقاء العلم محصوراً في إطار النخب المتخصصة. لقد وجدت جهود رعتها مؤسسات مثل الدولة، وهذا أمر كبير لا يستهان به. لكنها افتقرت إلى شيئين: الأول: اللغة السهلة التي تكون في متناول فهم الجمهور. وهي خطوة ضرورية لإخراج العلم من قوقعة التداول الحصري بين العلماء، وإيصاله إلى عامة الناس، ودون ذلك لا يمكن صناعة رأي وثقافة عامة. والثاني: الوسائل التي توصل تلك الجهود إلى الجمهور، مثل الإعلام والتأليف والتمثيل والفن والندوات الشعبية واللقاءات المباشرة وغيرها من الوسائل والقنوات الواصلة بين النخبة والجمهور.
- الهلامية: أي غياب الهوية الصائبة. لقد كشف الواقع عن عجز الهويات التي سادت في المئوية السابقة عن تحصين الجمهور المسلم ضد الخطر الشرقي.. والغربي أيضاً.
فالهوية (القومية) تجلب الخطر الشيعي إلى عمق المجتمع؛ لأن أصحابها ينظرون إلى المشكلة من تلك الزاوية فقط. فما دام الشيعي من القومية نفسها فلا مشكلة.
والهوية (الإسلامية) كالهوية القومية في نظرتها إلى الشيعة. وتزيد عليها في نظرتها المضرة بنا تجاه إيران. فهي أخطر من الهوية القومية.
والهوية (الليبرالية) لا تتحسس الخطر الفارسي ولا الخطر الشيعي. إنما تنظر إلى الصراع المحتدم في المنطقة منذ آلاف السنين على أنه صراع بين متطرفين من الطرفين، يفتقرون إلى التوعية والتعليم والتثقيف لتنحل المشكلة. ولا تستوعب أن الصراع في حقيقته صراع حضاري بين الفرس ضد العرب، والمجوسية ضد الإسلام، والشيعة ضد السنة. والصراع الحضاري – خصوصاً إذا كان الفرس أحد طرفيه – هو أعمق أنواع الصراع. هذا هو التشخيص الصائب. ولا علاج ناجعاً دون تشخيص صائب.
الهوية (السنية) هي الهوية الجامعة لكل عناصر الخير في الهويات الفاعلة، والنافية لكل عناصر الشر التي تعاني منها.
مجمل القول: نحن في حاجة إلى مشروع بهوية صائبة في مؤسسة فاعلة؛ لكي يستمر التصحيح في مساره السليم ولا يتوقف حتى يبلغ مداه المرسوم.
هذه مجرد إشارات تتعلق بالتاريخ وما نريده منه؛ فإن كتاباً منهجياً لا يحتمل أكثر من ذلك. محيلاً كلمتنا التي نريد قولها إلى كتابنا (هكذا نقرأ التاريخ .. وهكذا نكتبه)؛ ففيه ما يكفي ويشفي بإذن الله.
موقفنا من العروبة ومن القوميات الأخرى في العراق ( الكرد نموذجاً )
( 1 )
مَوقفُنا منَ العُرُوبَة
لماذا الاهتمام بالعروبة
في بداية التعريف بالمشروع قلنا: إن العروبة أحد عناصر المشروع؛ وعللنا ذلك بما يلي:
- لأن العربية عربية لسان وثقافة، لا عربية عرق ونسب؛ فمن تكلم العربية فهو عربي، ومن تغير لسانه فإلى لسانه ينسَب. وإلا فكل الناس عرقياً: انحدروا من أبٍ واحد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). وإنسانياً متساوون عند خط الشروع، والتفاضل يقوم على أساس العمل والتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).
- ولأننا عرب؛ ومن حق أي إنسان أن يهتم بأصله وجذره ومنحدره.
- ولأن الله تعالى اختار العرب لحمل رسالته إلى الأمم.
- ومن هنا كان كره العرب من النفاق، وحبهم العرب من الإيمان.
- ولأن عدونا الأول يعادينا كعرب، لا كمسلمين فقط. فمن طبيعة الفرس إلا القليل، وخلافاً لكل الشعوب المسلمة، أنهم يكرهون العرب كما يكرهون الإسلام والمسلمين، ويطعنون فيهم جميعاً. فالفرس لا يعادوننا لإسلامنا فحسب، ولكن لأننا عرب أيضاً. فإدخال العروبة في معادلة الصراع ضرورة لكي يعتدل ميزان القوى المتصارعة المختل في غياب هذا العنصر الفعال.
- ولأن العراق مهدد في هويته وانتمائه العربي.
- ولأننا في حاجة إلى بيان أن عروبتنا ليست عرقية عنصرية، بل تقوم على أساس أن الناس سواسية في أصل الخلقة، وفي نقطة الشروع. وعلى أساس أن من أحب العرب فهو منهم روحاً ووشيجة، فهو بهذا المعنى عربي. بل المجال أمامه مفتوح لأن يكون خيراً من عربي دونه في مقياس التقوى والعمل. كما توضحه الفقرة الأولى بآيتها الكريمة. واعتبار غير العربي بالمعنى الذي ذكرناه ليس لأجل الاستحواذ والتكثر، بل الحب والتقرب. وفي الفقرة التالية زيادة بيان.
آن الأوان لكي نتخلص من ردود الفعل السلبية ضد من تطرف في تبني القومية فجعل العروبة بديلاً عن الإسلام، فكان الرد أن أخرجت العروبة من ساحة الصراع. وإذا كان الإسلام هو الروح وهو الأصل والأساس، فلا يضيره – بل يشده ويقويه – أن تأخذ العروبة موقعها في سلم الخطاب دون إفراط أو تفريط.
منشأ العروبة
نظرتنا للعروبة ذات منطلق إنساني يقوم على:
- الفطرة. أي الطبيعة التي خلق الإنسان عليها؛ فكل إنسان يحب أسرته، ثم أقاربه، ثم تتسلسل الحلقات حتى تصل به إلى قومه. ومن حب القوم جاءت كلمة (القومية). ولهذا فإن حب المرء أسرته وشعوره بالانتماء إليها أكثر من بقية الأُسر شيء يأتي في سياقه الطبيعي. كذا حبه لقومه. بشرط أن لا يخرجه حبه من حق، ولا يدخله في باطل. ولا يتعالى بهم على غيرهم. فالتعالي علامة عِلَلِيّة لا تليق بالأصحاء الأسوياء.
- الدين. فقد ثبت في النص الرياني أن الوجود البشري بدأ بزوجين: رجل وامرأة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13). وأن هذين الزوجين هما آدم وحواء. وثمت ما يدل في النصوص القرآنية على أن مهبط أبوينا كان بمكة عند بيت الله المحرم: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:96،97). ومن هنا انطلقت مسيرة البشرية.
وهذا لا يمنع أن يكون قد سكن الأرض قبل أبينا آدم u بدهور متطاولة فصيل من البشر. بل في النص الديني ما يفهم منه أن هذا الفصيل أفسد في الأرض فكان مصيره الهلاك. وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30). يترجح عندي أن وصف الملكئة لساكن الأرض القادم آنذاك بالفساد وسفك الدماء متأتٍّ من تجربة سابقة. وحين نذهب إلى نص آخر في القرآن يتعلق ببدء الخليقة يبدو لنا أن ثمت فرقاً بين ذلك الفصيل وبين آدم، هو وجود الروح عند الأخير دون الأول: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر:28،29).
وتذكر الآيات أن أول من شمخ بأنفه على غيره بسبب عرقه (قوميته) هو إبليس؛ لقد منعه اختلاف العنصر الذي تحدر منه أن يسجد لآدم رغم الأمر الإلهي: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) لماذا؟ (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (الحجر:30-33). وجاء في نص آخر: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (ص:75،76).
- الآثار والدراسات التاريخية واللغوية والبحوث العلمية الجينية: تُجمع الدراسات القائمة على البحث العلمي والوثائق الآثارية (الآركيولوجية) مدعمة بعلم (الميقاتية = الكورونولوجيا)([1]) أن بداية الإنسان الحديث ومنشأ الحضارة كان من الجزيرة العربية([2]). وهو يؤيد ما جاء في القرآن من أن البداية كانت بمكة (أو بكة كما كانت تسمى من قبل)، وأن لغة البشر أصلها واحد، ثم تفرقت الألسن وتغيرت بعد أن خرج الإنسان من الجزيرة وابتعد عن منبته الأول شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وإلى ذلك أشار كتاب الله: (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) (البقرة:31). وذلك يكشف عن السر الذي لأجله نجد أي لغة معاصرة من لغات العالم، أكثر من نصف مفرداتها ذات جذور عربية. إلا الفارسية فإن 90% من مفرداتها ذات جذور أو أصول عربية([3]). والغرب لا ينكر أن الأبجدية هي من ابتكار العقل العربي. وليس أمامه سوى الاعتراف بالحقيقة؛ فما زالت بصمات الأبجدية العربية حاضرة مطبوعة على أبجديات لغاتهم. فالأبجدية الإنكليزية تبدأ بكلمة (ABCD = أبجد). مع ملاحظة أن حرف الجيم (ج) في العربية القديمة قد اختفى في اللاتينية، واستعيض عنه بالحرف (c). كما كتبوا اسم الجمل: (Camel) فوضعوا حرف (C) بدل الجيم . وفيها (KLMN = كلمن) و(QRST = قرشت).
وما زالت كلمات مثل (ألفا = ALFA) (بيتا = BETA) (جاما = GAMA) شائعة في كتبهم العلمية، ومنها أشعة جاما في الطب. وهي أسماء عربية لأحرف عربية.
اللغة العربية هي أصل جميع لغات العالم، ومنها اشتقت بقية اللغات في آسيا وأوربا وإفريقيا وغيرها؛ لإن جزيرة العرب موطن الإنسان الأول الحديث متمثلاً في آدم u.
العروبة إذن عروبة لغة أو لسان. أما عرق البشرية فواحد. فمن بقي على اللسان العربي بقي اسمه، المشتق من لغته، كما هو عربياً. ومن تغير نطقه لأصل لغته تغير اسمه، ونسي أصله إلى حد أن الناس ما عادوا يعرفون حقيقة انحدارهم ومعنى اختلافهم القومي، لا يدركون نقطة الربط بين الاسم المتعدد والأصل الواحد. وهذا شيء طبيعي؛ فكثير من العشائر اليوم نراها تختلف في تحديد الجذم القبلي الذي تحدرت منه.
العربي إذن إنما سمي عربياً نسبةً إلى لسانه ولغته، وليس العكس، أي: لم تكتسب لغته اسمها العربي نسبة إلى عرقه. وكذلك القرآن الكريم، وصف بأنه عربي – كما في قوله تعالى وغيره: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف:2) – نسبة إلى اللسان العربي لا نسبةً إلى العرق. فالعروبة لسان، أما الأصل، أصل البشر و(عشيرتهم) فواحدة([4]).
علينا إذن أن نتذكر دوماً أن القومية في أصلها قومية لغة ونطق، لا قومية جنس وعرق. وحين تكون العروبة عروبة نطق لا عروبة عرق، وتفهم الشعوب هذا التوجه في الفهم ومدى عمق أثره في تشكيل ذهنية الإنسان ونفسيته تنحل كثير من العقد. وتستشعر البشرية أنها من عائلة واحدة. وبهذا يرتقي مفهوم القومية، أيِّ قومية، من مستواه العرقي العادي إلى مستواه الإنساني السامي.
الإسلام هو الإطار الحاكم
ولزيادة الأمر توضيحاً، وبعداً عن الإشكالات أقول: الإسلام هو الإطار الذي يحتوي ويحكم كل المبادئ التي نؤمن بها؛ وبهذا نفترق عن (القوميين) الذين جعلوا العروبة هي الإطار الحاكم، وأبعدوا الدين عن موقعه المرجعي الأعلى من المعادلة. كما أننا نفهم أن من حق كل إنسان أن يعتز بقوميته ويصل أبناء أمته ويحبهم أكثر من غيرهم؛ فتلك هي الفطرة التي فطر الناس عليها. وذلك هو حقه بحكم تلك الفطرة، بل الواجب عليه، ما لم يخرجه ذلك إلى تعصب، أو بغي على الآخرين. فمن حق الكردي أن يدافع عن قومه وكرديته، ومن حق التركي والفارسي، وحق كل الأمم والأوطان والشعوب.
أقوال بعض الأئمة
قال أحمد بن حنبل في (الرد على الجهمية والزنادقة): “ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها. ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون بفضلهم”.
وقال أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: وسبب هذا الفضل – والله أعلم – ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم. وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع، وإما بالعمل الصالح. والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة. والعرب هم أفهم من غيرهم. وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة. ولسانهم أتم الألسنة بياناً وتمييزاً للمعاني: جمعاً وفرقاً. يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل، إذا شاء المتكلم الجمع. ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر، كما تجده من لغتهم في جنس الحيوان. فهم – مثلاً – يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة، ثم يميزون بين أنواعه في أسماء كل أمر من أموره: من الأصوات، والأولاد، والمساكن، والأطفال إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي، التي لا يستراب فيها. وأما العمل: فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس. وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم، فهم أقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والوفاء، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة([5]).
الأسباب الموضوعية لتبني العروبة
لماذا تميز الإمام أحمد، والحنابلة عموماً بالتأكيد على العروبة؟ بسبب نشأة المذهب الحنبلي في العراق القريب من إيران، واحتكاكه الشديد بالشعوبية، وظهورها في زمان ومكان نشأته أكثر مما كانت عليه أيام أبي حنيفة. وهي الأسباب نفسها التي تدفعنا إلى تبني العروبة في موقعها المناسب من معادلة المشروع.
أضف إلى ذلك أن العراق يراد له أن ينسلخ عن هويته، ويفصل عن أمته، ويجرد من عروبته. وهناك عدو عنيد مكابر هو إيران، يناصب هذا القطر العداء على مر التواريخ والعصور، يريد أن يبتلعه بفارسيته، ويسحقه بشعوبيته، ويجتثه من جذوره، ويسلبه حقوقه في الهوية والانتماء. ثمت ظلم وخطر؛ فثمت قضية إذن.
وإيران تعتبر العراق جزءاً منها! تدفعها نفسية جمعية منحرفة، يغذيها إرث استعماري قديم قدم التاريخ. فهي كانت تغزوه دائماً، وتستوطنه ما قدرت على ذلك. وتقيم فيه المئات من السنين. كان آخرها قبل الفتح الإسلامي، وقد استمر إجمالاً ألفاً ومائة وخمساً وسبعين سنة (539 ق.م – 636 ب. م). وما من حضارة قامت في العراق إلا وكان تدميرها على يد شعوب إيران: وهذه هي المراكز الحضارية الستة في التاريخ التي قامت في العراق، وأماكنها وتاريخ تدميرها على يد إيران:
- أكد (2160 ق. م) وعاصمتها في المحمودية (جنوبي بغداد)
- وسومر (2006 ق. م) في المثنى (الجنوب)
- وآشور (612 ق. م) في نينوى (الشمال)
- وبابل (539 ق.م) في بابل (الوسط)
- والحضر (242 ب. م) في نينوى
- وبغداد (1258 ب.م ، و 2003 ب. م)
ومن إيران انطلقت الحركة الشعوبية ضد العرب، تتآمر في سبيل تشويه مآثرهم، وتحريف تاريخهم، والقضاء على ملكهم، وحضارتهم ودينهم. وشجعها الحكام الإيرانيون – وأولهم البويهيون – واحتضنوها، ودعموا دعاتها.
وظلت إيران تحن إلى سابق عهدها. تحلم بإعادة إمبراطوريتها وضم العراق إليها. وما الاحتلال البويهي الذي استمر قرناً ونيفاً إلا صورة من صور النزوع إلى ذلك الحلم. واحتل الصفويون بغداد مرتين.
إيران هي الدولة الوحيدة التي لم تعترف بالعراق عضواً في عصبة الأمم في عشرينيات القرن الماضي. وظلت مصرة على موقفها الغريب هذا حتى أجبرتها السياسة – وتداخلاتها مع بريطانيا – فتغير الموقف عام 1929. بينما كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل دولةً مستقلة منذ عام 1951، أي بعد نشأتها بثلاث سنوات فقط.
وقد استغلت إيران بريطانيا وخوفها من روسيا آنذاك، فتآمرت معها، وقامت باحتلال قطر الأحواز عام 1925 في مقابل صد الخطر الروسي. والحكام الإيرانيون ما فتئوا يصرحون من قديم الزمان بالعراق جزء من إيران. ومرة بعد مرة يطيش رأس المسؤول الإيراني بذلك الحلم؛ فيأخذ بالهذيان، وتظهر النوايا على صفحات اللسان. حتى جاء الخميني صاحب (الجمهورية الإسلامية) ليعلن وزير خارجيته (صادق قطب زادة) أن العراق جزء من إيران. وبسبب هذه التصريحات، وما جرت على الحدود من تحرشات واعتداءات وقعت الحرب التي استمرت ثماني سنين.
ولا تخفي إيران اليوم حلمها في ضم دول الخليج والعراق! وقد ضمت غيره من قبل كالأحواز والجزر الإماراتية الثلاث، ومساحات شاسعة من أرض العراق الحدودية.
إن التحسس من العروبة لدى بعض (الإسلاميين) إنما هو من بقايا ردة الفعل من (القوميين) الذين جعلوا العروبة فوق كل اعتبار، حتى إن بعضهم اتخذها ديناً بديلاً عن الدين. أو مما تخلف عبر القرون من ترسبات الشعوبية.
لقد اشتطت (القومية) في القرن الماضي، فأدى هذا بـ(الإسلاميين) إلى أن ينتقدوها، أو يذموها، ويردوا على أهلها تطرفهم وتجاوزهم. ومنهم من اشتط وتطرف في رده وذمه. ولكن كل شيء موكول إلى ظرفه وملابساته وزمنه.
لقد انتهت تلك الموجة، أو انكسرت حدتها، وعادت نسبة معتبرة من (القوميين) إلى جادة الصواب والوسطية. واليوم قد جاء زمن آخر، وطغت موجة أخرى. إذ تضاءلت الدعوة القومية البديلة حتى خفت صوتها، ويكاد يختفى صداها. والقوى العالمية تريد تمزيق العرب، وما عادوا يتبنون تلك الدعوة في مقابل الإسلام. والفرس يطعنون في العرب والعروبة، وقد ابتلعوا الأحواز والجزر العربية وغيرها من ربوع العرب. ويطمحون اليوم لابتلاع العراق. فليس من الدين والعقل والسياسة والحكمة أن نظل نردد مقولات هي نتاج ظرف قد تغير، ومماحكات زمن قد ولى وانقضى.
[1]– الكرونولوجيا (Chronology) أو الميقاتية: علم يقوم على تحديد الحوادث وفقاً لتسلسل وقوعها، وتقسيم الزمن إلى فترات وتحديد التواريخ الدقيقة للأحداث، مثل نشأة الكون ونشأة الأرض ونشأة الحياة وتاريخ الإنسان والتاريخ الحديث.
[2]– مؤخراً (في 2016) قام فَريق من العُلماء في أوربا وأمريكا بقيادة الدُكتورة البريطانية (فرانشيسكا غانْديني عالمة في الوراثة والبيولوجيا الجزيئية والخلوية في جامعة هدرسفيلد Huddersfield بالمملكة المتحدة) بإنجاز بحث علمي يستَنِد إلى دِراسة سُلالة الحِمض النووي للميتوكوندريا النادِرة، وهي أكثر شيوعًا بشَكل فريد في شبه الجزيرة العربية والقرن الأفريقي. أقروا فيه أن الجَزيرة العربية هِي مَوطِن الإنسان الأول. ومنها انتَشَر البشر إلى إفريقيا وأوروبا وآسيا. نشر البحث في المجلة العلمية:
Scientific Reports 6, article number: 25472; doi: 10.1038lsrep25472
انظر: سلسلة تدوينات لخالد آل كمال (@Khalid_Al_Kamal) ١٦ ديسمبر 2022.
[3]– للتوسع في الموضوع يمكن الرجوع إلى المصادر التالية: موسوعة البروفيسور عالم التاريخ واللغات السوري الدكتور أحمد داود الموسومة بـ(تاريخ سوريا الحضاري القديم) بستة مجلدات. قصة الحضارة، ويل جيمس ديورانت. معذرة كولومبوس لست أول من اكتشف أمريكا، هاينكه زودهوف. العصور القديمة، جيمس هنري بريستد. المَجَلة العِلمية العالمية “Scientists Reports.
[4]– يوغل د. أحمد داود أكثر في كشف حقيقة خطيرة غائبة عن الجمهور فيقول (تاريخ سوريا الحضاري القديم 1- (المركز)، ص63-64): (أما العربية الفينيقية فهي لغة اليونان وإيطاليا القديمة؛ إذ إن العرب السوريين هم أول من استوطنها وشاد فيها المدن ونقل إليها أسباب الحضارة. ويكفي شاهداً على عروبة هذه اللغة أن أباطرة روما من الفينيقيين مثل سبتيمو سفيرو، ومن السوريين مثل فيليب العربي أصروا على أن تكون كلمة (العربي) هي اللقب الذي كانوا يتخذونه لأنفسهم وهم على كرسي روما الإمبراطورية)! وقال في موضع آخر (تاريخ سوريا الحضاري القديم 1- (المركز)، ص674): ماذا يمكن أن يقول العربي إذن، الذي يجد في كل من الفارسية والهندية والتركية ثلاثة أرباعها من العربية القديمة أو الحديثة، وإن في اللغات الأوربية جميعاً من الكلام العربي القديم والحديث ما تزيد نسبته عن النصف؟ أما الإغريقية القديمة والإيطالية القديمة، فهي، في مجملها، العربية الفينيقية كما أثبتت جميع الدراسات الجادة والموضوعية اليوم.
ويقول (تاريخ سوريا الحضاري القديم – 2، ص533-540): إن جميع الدراسات الجادة لتاريخ الإغريق أثبتت – كما برهن العالم السوري المعاصر د. أحمد داود – أنهم جميعاً كانوا يتكلمون لغة واحدة هي السـريانية، وإن اختلفت لهجاتها. بل إن لغة التخاطب للشعوب التي يمتد تواجدها من حوض السند إلى المحيط الأطلسـي، ومن شواطئ البحر الأسود إلى شواطئ بحر العرب وإفريقيا إلى اليونان وإيطاليا هي السريانية. ولم يكن السوري قديماً وهو يتنقل بين هذه الأصقاع في حاجة إلى مترجم للتفاهم مع سكانها. لقد كانت السريانية هي اللغة التي نطق بها إسكندر بن فريام في طروادة، وهيلين الجميلة في إسبارطة، وإخيل وأبناء قدموس في طيبة، وأرسطو وإفلاطون وسقراط في أثينا، وفيثاغورث في صاموس، وهيرودوت في كل البقاع التي طافها من سوريا إلى شبه جزيرة العرب إلى وادي النيل وليبيا. وكما تكلمها كورش وداريوس تكلمها أدونيس القائد في صاموطراقا، وإسكندر بن فيليب في مكدونيا… وبكلمة موجزة واحدة: ما من عبارة واحدة نطق بها إنسان للتفاهم مع جماعة حضرية أو كتب بها كاتب أو نظم بها شاعر غير السريانية التي كان يتكلم بها الجميع بالسليقة، ويتعلم أصولها الآخرون”. استند د. داود في ذلك إلى علمه بالتاريخ واللغة. واستشهد لذلك بعلماء من الغرب والشرق مثل أندريه إيمار ومحمد كامل عياد وبيير روسي وويل ديورانت. ويقول (تاريخ الحضارة، سلسلة محاضرات على اليوتيوب، الحلقة الأولى): إن عرب الجزيرة أسسوا أول حضارة في تاريخ الهند في سواحل أو جزر الهند الغربية وذلك في الألف الرابع قبل الميلاد، ودعيت بحضارة ما قبل الهندية.
[5]– اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، 1/447، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة، 1419هـ – 1999م.
موقفنا من الكرد والقضية الكردية
( 2 )
مَوقُفنا منَ الكُردِ والقضيةِ الكُرديَّة
موقف العرب من الكرد، وموقف الكرد من العرب، تشوبه أفكار حماسية وعاطفية، بعضها تشنجية ناتجة عن ترسبات تخلفت عن أحداث ما كان ينبغي لها أن تكون، قديمة لم يطرأ عليها تجديد، ومفاهيم مختلطة لم تخضع لتفصيل. ابتعدت عن التأصيل الشرعي الثابت، وتغاضت عن التغيير الواقعي الحادث. واختلط فيها الحق بالباطل. أنتجت مواقف مأزومة يتسيدها التعصب القومي المتبادل الذي يرى كل فريق في أجوائه أن الحق كله معه، وأن الباطل كله مع الآخر. ويريد من المقابل أن ينظر للحالة من منظوره هو فقط، ويخضعها لقناعاته دون مراعاة لنظرة الآخر .
باعتبارنا عرباً نحتاج إلى استعمال المنظور الكردي في النظر إلى الحالة، كي ننصف الكرد فننصف أنفسنا. وفي الوقت نفسه ندعو الكردي إلى استعمال المنظور السني العربي للأهداف السامية نفسها. وذلك على قاعدة (أحب للناس ما تحبه لنفسك، واكره لهم ما تكره لها). فماذا نرى؟
- ما زال السنة العرب يخلطون بين الهوية والمذهب والدين.
- ما زال الإسلاميون منهم يستصحبون في الذاكرة الجمعية اللاواعية حالة وجود دولة الخلافة كأنها حقيقة ماثلة يتصرفون دون وعي على أساسها ويطالبون الكرد باستحقاقاتها، رغم زوالها قبل قرابة مئة عام. وما زال القوميون منهم يستصحبون وجود الدولة الوطنية بما يشبه حالة الإسلاميين سواء بسواء.
- يتوهم الكثير من العرب أن الإحساس بالعروبة لدى الكردي كما هو لدى العربي ما دام أنهم مسلمون. وربما يريدون منهم ذلك. مع أن الإحساس بالعروبة ناتج من نواتج الانتماء أو الشعور القومي، والكرد انتماؤهم القومي كردي لا عربي.
- القوميون العرب يريدون من الكردي أن يشعر بانتماء وطني لبلد اسمه العراق صفته عربي. بينما الكردي في زمن القوميات لا شك في أن نظره مشدود إلى دولة قومية كردية؛ فيكون العراق العربي خارج نطاق شعوره وانتمائه.
- يزداد المنظر تشوشاً عندما يدخل المذهب في بناء المعادلة. ولا أجدني أعدو الحقيقة إن قلت: إن معظم السنة العرب يريدون من الكردي، باعتباره سني المذهب، أن يتبنى قضايا السنة العرب، بينما السنة العرب أنفسهم لم يتبنوا حتى اللحظة قضاياهم باسم (السنة العرب)، ولم يعترفوا هم قبل غيرهم بأنفسهم كـ(سنة عرب)، ولا يدركون حتى الفرق بين مصطلح (السنة العرب) ومصطلح (العرب السنة). أو – ربما – لأنهم يدركون ذلك يتحاشون المصطلح الأول. هذا إن اضطروا اضطراراً إلى التلفظ – على خجل وشعور بالنقص – بلفظ (السنة). ويرفضون حتى إقامة إقليم سني عربي ولو ضمن العراق الواحد!
- يتعقد الأمر أكثر حين يريد السنة العرب من الكردي أن يخضع لدين الإسلام لا كدين فقط، وللمذهب السني لا كمذهب فقط، وإنما كسياسة أيضاً، فتكون مواقفه السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها لصالح السنة العرب ما دام أن دين الإسلام والمذهب السني يجمعهما، حتى ولو على حساب مصلحة الكرد. بينما السنة العرب أنفسهم، وفي أولهم (رجال) الدين، يفرون فراراً من الدين والمذهب عند الخوض في السياسة، وإن تشدقوا بذلك في دروسهم ومجالسهم الخاصة!
- ما زال كثير من الكرد، أو بعض منهم، يعيش في أجواء نفسية جمعية مترشحة عن الفترة الماضية. ويرى في العربي صورة الجندي الذي كان يحاربه من قبل. أو الحزبي وكاتب التقارير والمخبر ورجل الأمن. فتنبعث فيه عواطف الثأر والانتقام تجاه شباب ربما لم يكونوا قد خلقوا في تلك المرحلة، وأشخاص ربما لم يكونوا آنذاك داخل العراق، أو كانوا عرضة للملاحقة في داخله.
- يرى كثير من الكرد أن الشيعة أصدقاء لهم، وإخوة يمكن التعايش معهم. والحقيقة أن الشيعة يتعاملون مع الكرد مرحلياً ريثما ينتهون من شأن السنة العرب، وتحين الفرصة لضرب الكرد كلياً.
إن كلتا الرؤيتين ليست في صالح أيٍّ منهما على المدى البعيد. والجهة التي تملك القوة اليوم سرعان ما تفقدها غداً، والضعيف لن يبقى ضعيفاً أبد الدهر. فلا بد من إنهاء هذه الحالة الطارئة على تاريخ التعايش بين الشعبين. نحن بحاجة إلى تفكيك بعض العقد كي نصل إلى معادلة راسخة للتعايش والحل المتوازن السليم.
محورية الهوية .. وهوية الكردي المحورية
خمسة مفاهيم مختلطة في حاجة ماسة إلى تفصيل كي تنتج لدينا معادلة راسخة متوازنة للحل: (الهوية، والدين، والمذهب، والقومية، والوطن). وقد يحتاج بعض القراء الرجوع إلى باب (الهوية) في (منهاجنا) من أجل المتابعة العلمية السلسة لهذا الأمر. فأقول:
دين الكردي: الإسلام. والسنية مذهبه، والكردية هويته، وكذلك الكردية قوميته. أما وطن الكردي فلم يتشكل بعد، لكنه ليس العراق قطعاً، إنما جزء منه يكون في العراق.
ومن بين هذه العناوين الخمسة فإن الصراع السياسي، وجميع أنواع الصراع، مبناه على الهوية. ولا يكون واحد من العناوين الأربعة وغيرها هو الهوية لأي تكوين إلا بشرط أن يكون هو محور الصراع.
فقد يكون الدين هو الهوية عندما يكون هو محور الصراع بين طرفين. وقد يكون المذهب هو الهوية إذا كان محوراً للصراع والتحدي من قبل جهة تستهدف جهة ثانية بناء على مذهبها. وكذلك الأمر بالنسبة للقومية والوطن.
قد تتنازع عشيرتان من دين واحد ومذهب واحد على أسباب عشائرية؛ فهوية النزاع المرفوعة هنا لا يمكن بحال أن تكون مذهبية ولا دينية ولا وطنية أو قومية، إنما عشائرية، كل واحدة من العشيرتين تذكر اسمها الصريح عنواناً لها في حومة النزاع. وقد يكون التنازع بين مذهبين (مثلاً: حنابلة وشافعية) من دين واحد على قضايا تتعلق بالخلاف المذهبي؛ فلا يمكن أن يكون عنوان النزاع عشائرياً ولا دينياً (يرفع فيه اسم الدين عنواناً لكل منهما) ولا قومياً ولا وطنياً. وهكذا حين يكون موضوع النزاع وطنياً (مثلاً: بريطانيا وفرنسا) تكون الهوية وطنية ولا تكون تحت أي عنوان آخر. ولكن حين يكون موضوع النزاع دينياً (مثلاً: نصارى ويهود) هنا تكون الهوية ذات عنوان ديني صريح.
الهوية إذن مفهوم نسبي متغير لا مفهوم مطلق ثابت. الهوية هي العنوان والمحور الذي حوله يدور النزاع بين طرفين، وعليه يكون استحصال المكاسب، وبه يدفع خطر خصم يحمل عنواناً مناظراً. متى ما وضعت يدك على موضع النزاع فثمت الهوية.
إذا استحضرنا هذا يمكننا أن نفكك بعض العقد ونفض بعض مواضع الاشتباك لنقول:
- النزاع بين الكرد والعرب ليس محوره أو موضوعه مذهبياً ولا دينياً، إنما هو نزاع قومي الموضوع. نشأ بعد زوال الدولة العثمانية الجامعة، ووجود الموجة القومية المفرقة التي عمت العالم.
- لقد انفصمت الرابطة الدينية الجامعة بين الكردي والعربي، وتحول العرب إلى دول قومية. فما الذي يجمع الكرد بالعرب والحالة هذه؟ حين يفكر العربي بدولة قومية عربية، فشيء طبيعي أن يفكر الكردي بدولة قومية كردية، وينشأ النزاع فيكون موضوعه قومياً، فتكون هوية الكردي المعبرة عنه هي الهوية القومية الكردية. أما المذهب والدين فليس لدى الكردي مشكلة من ناحيتهما؛ فهو مسلم الديانة سني المذهب. عدا أولئك الذين اشتطوا فألحدوا، وفي العرب مثلهم. ليس الدين والمذهب إذن يمكن أن يمنح الكردي هويته.
- بالهوية الكردية حافظ الكرد على مصالحهم القومية أن يبتلعها الشيعة وأنشأوا إقليمهم الحامي لهم. وفي الوقت نفسه ما زال كثير من السنة العرب واهمين يريدون من الكردي التنازل عن هويته الكردية لصالح المذهب أو لصالح الدين، مع أنه ليس لواحد من هذين الأمرين موضع في موضوع النزاع. وفي الوقت نفسه يهرب السني العربي من تبني مذهبه، ويُبعد الدين عن السياسة. ومنهم من يريد من الكردي التنازل عن هويته لصالح الوطن أي العراق، مع أن العراق ليس هو الوطن الذي يشغل ذاكرة الكردي.
- بجهل (العرب السنة) بمدار الصراع بينهم وبين الشيعة، ومكابرتهم في تجاهل علة العلل في استهدافهم من قبل الشيعة، وهي (سنيتهم) قبل أي عنوان وانتماء آخر. وجهلهم بـ(فقه الهوية).. أضاعوا هويتهم القومية الجامعة وهي (السنية)، وبقوا غارقين في استصحاب وضع وطني قد زال وانتهى، وحل محله وضع تفجر فيه صراع تتسيده هوية شيعية شعوبية. فضاعوا وضيعوا كل شيء، فلا وطن ولا إقليم ولا كيان ولا مذهب ولا مصلحة ولا وجود! إنهم اليوم في حالة تيه شامل.
استغلال الشيعة الوضع المختلط رغم احتقارهم للقومية لكردية
استغل الشيعة هذا الوضع، فتجاوبوا – ولو جزئياً ووقتياً – مع تطلعات الكرد، فكسبوهم إلى جانبهم. وبقي السنة العرب في أحلامهم الدينية وأوهامهم القومية، بعيدين عن سر السياسة، ألا وهو:
- القدرة على تحقيق مصلحة لمن تريد كسبه إلى جانبك.
- والقدرة على تحقيق المصلحة لا تتهيأ إلا بكيان سياسي مؤثر قائم ماثل للعيان.
- والكيان السياسي لا يكون بلا عنوان وهوية صالحة لأن تكون هي الهوية. كل ما عند السنة العرب من بضاعة يقدمونها للكرد هو المذهب السني، الذي هو بالنسبة للكردي مذهب يعترف به، لكنه ليس هوية له.
كسب الشيعة الكرد، وخسرهم السنة؛ رغم أن الشيعة – بحكم دينهم الثابت بالروايات الموجودة في أوثق مصادرهم وفتاوى مراجعهم – يحتقرون الكرد قومياً وعنصرياً. إضافة إلى عدائهم المتأصل ضدهم بسبب سنيتهم.
يروي محمد بن يعقوب الكليني عن أبي عبد الله (ع) قال: (لا تُنكحوا من الأكراد أحداً فإنهم جنس من الجن كشف عنهم الغطاء)([1]).
وروى الشيخ الصدوق عن الربيع بن الشامي قال: سألت أبا عبد الله (ع) فقلت له: إن عندنا قوماً من الأكراد يجيئوننا بالبيع ونبايعهم؟ فقال: يا ربيع لا تخالطهم فإن الأكراد حي من الجن كشف الله عنهم الغطاء فلا تخالطهم([2]).
وتجاوز الأمر الرواية إلى الفتوى. أي إن هذه الروايات جرى العمل بها عند الشيعة. فقد أفتى شيخ الطائفة الطوسي (النهاية- الشيخ الطوسي ص373) فقال: “لا ينبغي أن يخالط أحداً من الأكراد، ويتجنب مبايعتهم ومشاراتهم ومناكحتهم”. وبذلك أفتى علماء كثيرون قدماء ومعاصرون لا يحصون كثرة([3]).
الموقف الذي تتبناه مؤسسة ( التيار السني ) تجاه الكرد
- ليس للمسلمين اليوم دولة جامعة. فالحجة الوحيدة التي يمكن الاستناد إليها من قبل الإسلاميين في دعوة الكرد وغيرهم من القوميات إلى التوحد معهم في كيان واحد أمست مفقودة. وحتى في حال قيام كيان رباني جامع، فليس الدمج هو الحل الصائب في التعايش بين القوميات المختلفة. إنما (الأقلمة) التي تتيح لكل قوم ممارسة حياتهم وتشريعاتهم بما يحقق مصالحه في إطار الدين العام، هي الوضع الأنسب للتعايش والاستقرار
- في زمن الدول القومية القطرية؛ فليس للعرب القوميين حجة صالحة لإجبار الكرد على التوحد معهم في دولة قومية جامعة، إلا باختيارهم.
- إجبار الكرد من قبل الوطنيين العرب على العيش معهم في إطار وطن واحد اسمه العراق دون رغبتهم يفتقر إلى أدنى مقومات الحجة، ويتناقض مع أول مقومات الكرامة الإنسانية وهي الحرية، التي ينتج عنها التراضي شرطاً للعيش المشترك القائم على التعاقد الحر. والسبيل الوحيد لتكوين دولة وطنية مع بقية القوميات هو إيجاد وضع سياسي تلمس فيه هذه القوميات مصلحتها، وتجدها في التعايش الحر في وطن واحد.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
[1]– فروع الكافي، 5/352.
[2]– علل الشرائع، 2/310، باب العلة التي من أجلها يكره مخالطة الأكراد.
[3]– كذا قال محمد بن إدريس الحلي. واحتج يحيى بن سعيد الحلي بالروايتين السابقتين في كراهة التعامل مع الأكراد ومخالطتهم ويتجنب مبايعتهم ومشاركتهم ومناكحتهم. (منتهى المطلب 2/1003، تذكرة الفقهاء 1/586). وبذلك قال المحقق الأردبيلي (جمع الفائدة 8/129) والحر العاملي (وسائل الشيعة2/84). ومن المتأخرين مرجع الشيعة في بداية القرن الماضي آية الله السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي بكراهة تزويج الأكراد (العروة الوثقى، الجزء الثاني، كتاب النكاح). وسئل المرجع الديني المعاصر الملقب عند الشيعة بـ(العلامة المحقق) الشيخ محمد جميل حمود العاملي عن ذلك فأجاب: “لقد أفتى مشهور فقهاء الإمامية بكراهة التعامل التجاري مع الأكراد والزواج منهم تعبداً بالخبرين المتقدمين اللذين رواهما الكليني أعلى الله مقامه في كتابه الجليل الكافي ج5 في باب المعيشة ومناكحة الأكراد والسودان من الزنج والسند وغيرهما ولم يطرحهما أحد من أعلام الإمامية بل كلهم تصافقوا على صحة مضمونهما مع تأويل كل واحد لهما بحسب فهمه للخبرين المذكورين٬ وبعض المحسوبين على الإجتهاد جامل من باب المداراة حرصاً منهم ألا يؤدي الأخذ بظاهرهما إلى عواقب غير محمودة أو تؤدي صراحتهم إلى نفور الناس… ونحن لا نجامل ولا نداهن ولا تأخذنا في الله تعالى لومة فنصرح علناً بكراهة التعامل مع الأكراد بشكل عام….”. انظر: موقع مركز العترة الطاهرة للدراسات والبحوث، علاج الأخبار الواردة في حكم التعامل مع الأكراد والزواج منهم. بتوقيع (العبد محمد جميل حمود العاملي ــ بيروت بتاريخ 9 رجب الأصب 1433هـ). 2/6/2012:
http://www.aletra.org/print.php?id=408