صحوة مفاجئة
قبل أقل من شهرين أصابت الأمة صحوة مفاجئة، واستيقظت ضد الخطر الداهم من الشرق. وذلك بعد عرض صور الإعدام المثيرة للرئيس صدام حسين.
لقد كانت صحوة عاطفية. والصحوة العاطفية – إن لم تستند على أساس – سرعان ما تنطفئ. بل قد تنقلب إلى الضد، إذا حرك العاطفة محرك مضاد. وأقرب مثال: العواطف التي تأججت في تموز الماضي نحو ما يسمى بـ “حزب الله” وصاحبه حسن. وانسحب الأمر – بطبيعة الحال – على إيران والشيعة عموماً. ثم لم يكد ينتهي العام حتى انقلبت تلك العواطف! وهي مرشحة لأن تنقلب مرة ومرة؛ فأخشى ما أخشاه أن تبرد عواطفنا قبل أن توجه التوجيه الصحيح، ثم تنقلب بمؤثرات مضادة.
وأخطر هذه المؤثرات ما نصنعها نحن بأيدينا؛ فإن الجمهور يتقبلها – لثقته بنا – أسرع مما لو كانت آتية من الطرف الآخر.
خبر ساءني
وقبل حوالي شهر قرأت على صفحات شبكة المعلومات أن وفداً من “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” سيتوجه إلى إيران، للقاء المسؤولين، وتكليمهم بشأن ما يحدث في العراق من قتل لأهل السنة ترتكبه المليشيات الشيعية، المرتبطة بإيران. وبشأن حملة ما سمي بـ “التشييع المنظم” الذي تديره إيران في العالم الإسلامي (السني).
ساءني الخبر، ووضعت يدي على قلبي وقلت: استرنا يا رب!
لا أقول هذا تشكيكاً في النوايا. فلولا غيرة هؤلاء العلماء وحرصهم على مصلحة الأمة، وألمهم على ما يحدث من مصائب وكوارث لإخوانهم في الدين والدم والمصير لما تحركوا. هذا أمر محسوم بالنسبة لي، وأشكره لهم. ولكن من أراد الدخول في أمر عليه أن يحيط به من جميع أطرافه. وقد دلت الدلائل الكثيرة على أن هؤلاء الغيارى لا يعرفون إيران والشيعة حق المعرفة. وضعف هذه المعرفة لا يتعلق بعقائدهم ودينهم وحده، وإنما يتجاوزه إلى التركيبة النفسية، والأساليب الملتوية، التي يتعامل بها الشيعة مع الآخر. والنتيجة أن أهل السنة لن يربحوا شيئاً في هذه اللقاءات والحوارات سوى مزيد من التخدير للجمهور المسكين. الذي لم نصدق أنه بدأ يصحو، ويفتح عينيه على الواقع؛ لعله ينطلق في الاتجاه الصحيح، حتى يأتيه من يعيدوه إلى قمقمه وخدره مرة أخرى.. وأخرى!
وهنا أسجل بعض النقاط المهمة التي توضح أو تشرح ما قلت آنفا:
- على موقع فضيلة الشيخ القرضاوي حفظه الله جاء العنوان التالي: “القرضاوي ورافسنجاني يدعوان الأمة للوحدة ونبذ الاقتتال”.
وأقول: من الظلم أن نجمع بين فضيلة الشيخ القرضاوي – بعلمه، وصدقه فيما يقول، وحرصه على وحدة الأمة، وسعيه في ذلك – وبين آخر دلت الدلائل القاطعة من التاريخ والعقيدة والواقع على العكس من ذلك تماماً. لكنني أرى أن مشكلة الشيخ القرضاوي تكمن في نقطتين. الأولى: أن العاطفة الصادقة تطفح لديه فتجعله يستعجل الوصول إلى ما ينبغي، وإن كان قفزاً على موانع لا يمكن الوصول دون التوقف عندها قبل تجاوزها. والثانية: تجاهله لأمور لا يصح تجاهلها. ولربما لا يكون عنده اطلاع عليها نتيجة بعده عن ساحة الحدث، نحن – لقربنا منها – أكثر اطلاعاً منه عليها. وهذه الأمور منها ما هو علمي يحتاج إلى مزيد بحث ودراسة، ومنها ما هو عملي واقعي يحتاج إلى معايشة.
- يرفض الشيخ القرضاوي “أن يتم تصنيف المسلمين على أساس عرقي أو مذهبي إلى “صفويين وعرب”.
ونحن – من حيث الأصل – معه في ذلك. لكن النوايا الطيبة لا تكفي ما لم تكن متبادلة من الطرفين. هذا أولاً.. وثانياً: أن نجد لها مصداقاً من العمل. وإلا فإن الأمور لا تتم بالتمني ولا بالتحلي، ولكن بما وقر في القلب وصدقته الأعمال. وحين نغادر ميدان الأحلام والأماني نجد أن هذا التصنيف تعبير مخفف جداً، وقد بلغ من التخفيف والتجفيف حداً ما عاد يعبر معه تماماً عن الحقيقة! وهو أقل ما يمكن إطلاقه للتعبير عن الحالة. ومع ذلك فالشيخ يرفضه! ويريد حذفه وإزالته. إن رفض تسمية السرطان بالسرطان لا يغير من الحالة شيئاً، بل يزيدها سوءاً؛ لأن التشخيص نصف العلاج، وشرطه الأساسي. فمتى نشفى والحكيم لا يعترف بتشخيص الحالة؟
إن الواقع يقول: إن إيران ومن شايعها من جمهور الشيعة كلهم صفويون وعنصريون لا يفكرون إلا في مصلحة وتاريخ وأهداف العرق الفارسي. ولا أريد من الشيخ حفظه الله تعالى إلا أن يطلب – امتحاناً لما أدعيه – من “رفسنجاني” وحكومته وعلماء حوزته أن يغيروا اسم الخليج العربي من “الخليج الفارسي” إلى “الخليج الإسلامي” فقط! وعندها سيكون أمام الحقيقة الآتية: إننا مجبرون على هذا التصنيف. وما لم يتحرك الفرس وأذنابهم عملياً لتغييره، فنحن لسنا أقل عزة، ولا أضعف قوة، ولسنا مغفلين إلى هذا الحد الذي يدفعنا لنبدأ التغيير من طرف واحد. بل إن هذا التعبير – كما أسلفت – هو تعبير مخفف ودبلوماسي، الأولى بأهل الدين والشريعة أن يبتعدوا عنه ويسموا الأشياء بمسمياتها. إن الصراع عرقي ديني طائفي. إنه صراع فارسي عربي، مجوسي إسلامي، شيعي سني. بل هو صراع شمولي حضاري. فخلافنا مع الشيعة أعظم من سياسي، وأكبر من طائفي، وأوسع من ديني. وأعمق من أن يكون خلافاً ! إنه صراع.. وصراع حضاري.
3. يقول الشيخ القرضاوي: ” إذا كنا نرحب بالحوار الإسلامي المسيحي فكيف لا نرحب بالحوار الإسلامي الإسلامي؟”
هذا كلام عمومي يطفو على سطح الحقيقة؛ خشية الاختناق من الغوص فيها. وقياس غير موفق؛ لأن من شرط القياس أن لا يكون مع الفارق. إن المسيحي يؤمن بالتعايش والحوار. أما الشيعة فمتى ما آمنوا بذلك صح القياس. وهم لا يؤمنون. عقيدتهم ترفض هذه المعادلة الراقية في العلاقة مع الآخر. وعلى ذلك شاهدا عدل آخران: تاريخهم، وواقعهم. فلا أساس لهذا التنظير يمكن أن يقوم عليه.
قبل أكثر من عام كتبت في كتاب ألفته اسمه (التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية؟) ما يلي: (ليس مقصودي الأول بعلاج التشيع هو تحويل الشيعة إلى دائرة أهل السنة والجماعة… إنما أقصد – أول ما أقصد – رسم الخطط، ووضع البرامج الكفيلة باتقاء خطرهم، وتخليص مجتمعنا من شرهم، بتحصين أهل السنة أولاً، ودفع الصائل الفكري والعسكري ثانياً. ثم – من بعد – يكون الاختراق ومحاولة رفع جمهور الشيعة إلى المستوى الحضاري في التعامل الإنساني، كأن يرتفعوا مثلاً إلى مستوى المسيحيين عندنا في العراق في تعايشهم السلمي معنا! ولو كان الشيعة كذلك لما أعطيناهم هذا الاهتمام من جهدنا ووقتنا).
4. أما “تحذير رفساًجاني الشيعة في العراق من أن يستغلوا الموقف وينزعوا إلى الانتقام بناء على أن السنة كانوا من قبل هم الحاكمين ثم صار الأمر لهم”. وتأكيده على “أنه إذا توحدت الصفوف فلن يبقى للمحتل مكان”.
فليس أكثر من تهديد مبطن لأهل السنة. أما الشيعة – وطبقاً للغتهم الخاصة المبنية على مبدأ “التقية” – فلا يفهمونه إلا على أنه دعوة إلى العكس وهو الانتقام. كما فهموا من دعوة السيستاني بعد تفجير قبة سامراء إلى التظاهر السلمي ما فهموه منها! ولو حملنا دعوته إلى توحيد الصف على ظاهرها، فهذا – وما هو أفضل منه – يقوله المحتل الآخر جورج بوش، ويسبح به صباح مساء. لقد شبعنا إلى حد التخمة والغثيان من الادعاءات والأقوال الفارغة البالية. ولم يعد لدينا مزاج ولا قابلية على الاستماع. نحن نريد أفعالاً. لقد فات الأوان.
5. التركيز على موضوع “إشكالية التبشير بأحد المذهبين في موطن الغالبية للمذهب الآخر”
يدفعني إلى الظن بأن الموضوع لم يحركه في الأساس محنة أهل السنة في العراق، والمآسي التي يقاسونها. وإنما استشعار الخطر القادم إلى ما وراءه من إقليم ودول. لا سيما وأن الإشكال قيد بـ”موطن الغالبية للمذهب الآخر”. والشيعة يدّعون أنهم غالبية في العراق؛ فلا إشكال إذن – على هذا الأساس – في بلد كالعراق في السعي الحثيث إلى تشييع أهل السنة. بل الإشكال سيكون في دعوة أهل السنة الشيعة إلى التسنن؟ والأمر نفسه ينسحب على إيران استناداً إلى القاعدة نفسها! وإذا كان أهل السنة في العراق يدّعون أنهم هم الأغلبية فهل ينعكس الأمر؟ ثم من يفصل في هذه القضية المختلف فيها؟ ومن يضمن تسليم الآخر بحكم الفاصل؟ وهل ترضى أقلية – مهما كان حجمها – بالسماح للأكثرية بالدعوة إلى مذهبها في صفوف أبنائها؟
أليس هذا كلاماً تنظيرياً في منتهى التنظيرية؟ ولا أثر له على الواقع؟ بل إنه ليس أكثر من مشكلة أريد لها أن تكون حلاً!!! نعم قد تكون فكرة صالحة لحل سياسي في بلد كمصر مثلاً. فليفصحوا عن ذلك إن كان هذا هو مقصودهم.
ثم على أي أساس شرعي تستند هذه القاعدة؟ والله تعالى يأمر عباده بدعوة الآخر إلى الدين. سواء كان الآخر كافراً خارج الملة، أم مبتدعاً داخلها. هل هي قاعدة سياسية؟ فقد أظهرنا عدم واقعيتها، بل إشكاليتها التي لا تزيد الإشكال إلا إشكالاً! أم شرعية فعلى أي أساس شرعي؟
6. أما وصف الاقتتال في العراق بأنه “ذو نفس طائفي”.
فهو كلمة سياسية مخففة أيضاً. تدور حول الحمى ولا تسمي الأشياء بمسمياتها. ندعو علماء الدين أن يبتعدوا عنها، ويتركوها للسياسيين. أو يبينوا أنهم بصدد علاج الموضوع سياسياً لا شرعياً، حتى لا يحصل لبس أو خلط للأمور. وهو ما يريده الآخر، ويعتاش عليه. كما أنه لا يزيد الجمهور السني إلا غفلة وخدراً.
15/2/2007