ذكرى معركة تحرير الفاو
أمة بلا تاريخ مجيد، هي أمة بلا حاضر مشرف، ولا مستقبل إنساني زاهر. فالحاضر – كما يقولون – غرس الماضي، والمستقبل جني الحاضر. وشاعرنا يقول:
إنَّا وإن أحسابُنا كرُمتْ لسنا على الأحسابِ نتَّكـلُ
نبني كما كانتْ أوائلـُنا تبني ونفعلُ مثلـَما فعلـوا
لا بد لنا – إذن – من أن نستذكر أمجادنا، القريبة منها والبعيدة، ونذكر بها الأجيال القادمة؛ لأن الأمة التي ليس لها تاريخ مجيد – ولو لفترة محدودة منه – تظل – في أعماق نفسيتها الجمعية – تشعر بالنقص. وينعكس هذا الشعور الجمعي على تصرفاتها عدواناً وأذى وتخبطاً يصيبها، ويصيب الآخرين. وهذا أحد اسباب العدوانية لدى الأمريكان، وأمثالهم من الذين ليس لهم تاريخ مجيد، سوى هذه المدنية المادية، التي جلبت من الدمار والشنار، ما لو كفانا شره وخيره، وتعادل الأمر لكان خيراً لنا، وأبعد عن سوء الحال، وشر المآل. سيما وأن أسباب الحضارة لا تقتصر على أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب. ولو تركونا على حالنا، لما كنا أقل منهم مدنية، وأخذاً بأسباب الرقي والصعود في سلم الحضارة. فتفعيل التاريخ والإتيان بأمجاد الماضي إلى الحاضر ضرورة من ضرورات بناء الحاضر، والتطلع إلى بناء المستقبل. الناس يحبون الماضي أو القديم – هذه ظاهرة اجتماعية – يحنون إليه ويمجدونه على حساب الزمن الحاضر أو القريب. وكأن الحاضر ليس فيه ما يحب ويفتخر به ويمجد! يعظمون الماضي ويغفلون أو يتغافلون عن الحاضر.
وقد يكون في الحاضر جوانب مضيئة وعظيمة، لا تقل عن مثيلاتها من جوانب الماضي. بل قد تزيد.
في هذه الأيام يستذكر العراقيون ذكرى معركة كبيرة، تمثل نقطة مضيئة لا تخطئها العيون، في صفحات المجد من سجل العراقيين، على كثرة نقاط أمجادها المضيئة في تلك الصفحات من ذلك السجل البارز من سجلات التاريخ البشري. هذه المعركة الكبيرة هي معركة تحرير الفاو. التي تصادف ذكراها يوم 17 نيسان من كل عام. ونحن نستذكرها اليوم إيماناً منا بأن في تاريخنا القريب مآثر عظيمة، لا نريد أن نغمطها حقها، ونجهل قيمتها، حتى تغور بعيداً في أعماق التاريخ.
أهمية المعركة وصعوبتها البالغة
من أين تأتي أهمية هذه المعركة؟ وقد خضنا ضد العدو الشرقي خلال سني الحرب الثمان مئات المعارك، التي أوقدها الخميني، وأصر على استمرارها وتغذيتها، وهو يحشها ويدور حولها، كما يدور عابد المجوس بناره؟
تأتي اهمية هذه المعركة وعظمتها من موقع مدينة الفاو الاستراتيجي، وجغرافيتها المعقدة. وأثر ذلك الموقع، وهذه الجغرافية على سير المعركة ونتائجها.
فلقد مثلت مدينة الفاو مثلثا يقع بين شط العرب من الشرق، ورأس الخليج العربي من الجنوب. يحيط بهذا المثلث من الغرب مساحة كبيرة، طولها يتراوح بين (25-30) كيلو متر من المستنقعات الملحية المعروفة بـ(المملحة). هذه الارض الملحية يصعب جداً على وسائط النقل، وعلى الدبابات أن تخترقها أو تسير فيها، إلا بوسائل غير طبيعية، ومكلفة جداً. الوسيلة الوحيدة التي من الممكن استعمالها لاختراقها هو المشي على الأرجل. وكثيراً ما تنغرس أقدام الجنود فلا يستطيع بعضهم أن يتحرك في تلك المستنقعات إلا بجهد جهيد! ومن الصعوبة جداً أن تحفر فيها مواضع مناسبة. شكلت هذه الطبيعة الجعرافية درعاً طبيعياً واقياً لهذا المثلث، يستعصي على المهاجم النفاذ من خلاله، وتحقيق نصر حاسم على القوة المتمركزة والمتموضعة وراءه.
احتلت القوات الإيرانية – بإيعاز وتخطيط بريطاني لما لبريطانيا من خبرة قديمة في العراق – شط العرب، وعبرته إلى الجانب الآخر، متخذة من ذلك المثلث معسكراً متقدماً داخل العراق. ويتصل من الجانب الآخر بالقوات الإيرانية المتجحفلة داخل الأراضي الإيرانية بواسطة جسر رابط بين الفاو والجانب الإيراني. تتحرك على هذا الجسر قواتهم غادية رائحة.
خنق العراق إذن، ولم يبق له من منفذ مائي على العالم! سوى ميناء ام قصر الذي كان من الممكن لإيران أن تحتله في أي لحظة مناسبة. واحتلاله يعني احتلال الكويت. ومن الممكن بعدها – وهذا امر غير مستبعد ضمن الحسابات الايرانية – أن تقوم إيران باختراق الخليج العربي والبحر العربي إلى أبعد نقطة في جنوبه.
لا بد من تحرير الفاو
لا بد إذن للعراق من أن يحرر الفاو!
ولكن الفاو – بهذا الوضع الذي حكيته لكم – منيعة حصينة، عصية على الاقتحام، وتحقيق هذا الهدف، الذي لا بد منه! سيما وأن الإيرانيين قد استعدوا جيداً، وحفروا المواضع، وبنوا الملاجئ المحصنة، التي لا يمكن للمدفعية الثقيلة والصواريخ البعيدة المدى أن تؤثر فيها شيئاً!.
ظل الجيش العراقي – وعلى مدى سنتين وأكثر – يحاول استرجاع الفاو. ولكن دون جدوى! وكانت الفاو فخاً خطيراً ظل يستنزف طاقة العراق طيلة هذه الفترة، استنزافاً كبيراً. ولكم ان تتصوروا أن العراق قد خسر في هذه الفترة دون أن يخوض حربا حقيقية (55) ألف جندي! وذهب هذا العدد الضخم ضحية تعرضات ومناوشات لم تسفر عن شيء! ولم
تؤد إلى نتيجة حاسمة!
ما هذا؟!!! ألا ما أعظمه من استنزاف!
إنه فخ يستنزف كل الطاقات والموارد!
ألا يعني هذا – طبقاً للحسابات البعيدة – أن مصرع العراق سيكون في الفاو؟
هذه خطورة معركة الفاو! وهذه أهمية معركة تحريرها!
ولهذا – ومع كل هذا – قرر العراق أنه لا بد ان يتحرر الفاو! ووضع القادة خطة رائعة بارعة استطاعوا بها – وفي زمن قياسي – أن يدخلوا الفاو مرة أخرى، ويحرروها من دنس هذا العدو الإيراني. هذا العدو الأبدي.. العدو الذي اتخذ من عدائه للعراق مهنة كأنه لا يحسن غيرها، ولا يستطيع أن يعيش من دونها!
أما تفصيلات الخطة فيمكن أن يتحدث عنها المختصون من العسكريين الذين لا زالوا على قيد الحياة، وحبذا لو تطوع أحدهم، وبعث لموقعنا تفصيلات تلك الخطة، لنقوم بنشرها. حتى تطلع عليها الأجيال، ويعرفوا كم بذل صناديد العراق من جهد في سبيل حماية البوابة الشرقية للأمة.
وهكذا حرر العراقيون الفاو!
كان ذلك يوم (17/4/1988). فكان يوماً عظيما سجله العراقيون – ومعهم الأمة التي ساندتهم، وحمت ظهورهم – ليكون إضافة جديدة لأمجادهم التي سطروها على مر التاريخ.
نعم !
إن معركة تحرير الفاو تمثل نقطة مضيئة لا تخطئها العيون في صفحات المجد من سجل العراقيين. وليس ذلك بمستغرب على قوم لهم ذلك التاريخ الزاهر المجيد. والممتد على خارطة الزمن مع هذا العدو، منذ زمن أكد وسومر وبابل وآشور. مروراً بدولة العرب في الحضر، وفي حيرة المناذرة. واستمرت حلقاته مضيئة زاهرة على عهد قادتنا الأفذاذ أبي بكر وعمر وعثمان. فكانت معركة ذات السلاسل والبويب والقادسية والمدائن وجلولاء وفتح الفتوح نهاوند. هذه المعارك العظيمة، التي خاضتها الأمة العربية المسلمة في سبيل تحرير الإنسان طبقاً لمنهج القرآن. وقد شكل العراقيون فيها رأس الحربة في صراعهم مع العدو الفارسي، والمجوسية الفارسية. وأعداء الأمة أجمعين
17/4/2007