مقالات

العروبة .. بين المضمون الإسلامي والمضمون العلماني (1)

حيثما كان ظلم، وأينما حصل اعتداء فثمة قضية. لا بد أن تعالج، حتى يزال الظلم، ويرد الاعتداء. ويعود كل شيء إلى مكانه الذي كان عليه.

قد يكون الظلم والتفريط في حق فرد؛ فيكون الدفاع عنه، والتنويه بحقه وفضله واجباً مشروعاً. وقد يكون في حق جماعة أو جهة – مهما كانت تلك الجماعة أو الجهة: قبيلة، أو بلداً، أو أمة، أو مؤسسة – فيصبح الأمر أشد وجوباً، وأكثر مشروعية. فإذا زال الظلم رجع كل شيء إلى حاله وطبيعته؛ لأنه لم يعد هنالك من مشكلة، تؤسس لقضية.

 

النبرة القومية

كتب إلي صديق عزير على قلبي يقول: ((بعض الإخوة هنا اعترض على النبرة القومية)) أي فيما هو مكتوب أو موجود على الموقع الألكتروني. وكأنه يريد أن يكمل فيقول: وهذا لا يليق برجل إسلامي، قضيته إسلامية. بل هذا ما يريد قوله، ناقلاً أو متبنياً.

وأقول: أيها الأخ الحبيب! أشكرك على نصيحتك، كما أشكر الإخوة الذين رأوا هذا الرأي. كان عملاق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ((رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي)). فأسأل الله تعالى أن يرحمنا جميعاً، ويأخذ بأيدينا إلى سواء السبيل. وتحت ظلال هذه الرحمة الإلهية أجلس معكم، ويسرني أن أقول:

من حق كل إنسان أن يحب أهله، وقبيلته، وقومه، وبلده، وأمته، ويستشعر انتماءه إليهم، ويتغنى بحبهم وأمجادهم ومآثرهم. بشرط أن لا يدفعه ذلك إلى التعصب لهم، أو البغي على غيرهم، والوقوف معهم حتى ولو كانوا ظالمين معتدين. من حق الجبوري نسباً مثلاً أن يحب قبيلته – بل يجب عليه ذلك – وأن يفخر بمآثرهم وهم يصاولون المحتل، ويدفعونه عن دينهم وعرضهم وأرضهم. على أن لا يحمله ذلك على أن يغمط الآخرين مآثرهم وجهادهم. هذا من حيث الأصل.

فلو افترضنا أن ظلماً وقع على هذه القبيلة العتيدة، فصارت توصف بما لا يليق بها من التخاذل والبخل، أو وجد من يشكك بأرومتها العربية، وينسبها إلى غير العرب – مع أن الناس سواسية في أصل الخلقة – واستشرى هذا الظلم حتى ألفت فيه الكتب، وتكلمت به الصحف. بل انبنى عليه ما هو أكبر وأفظع، من تحقير أبنائها، وإخراج القبيلة من أرضها، وتشريد أفرادها! فكان ذلك حافزاً لابن القبيلة إلى أن يدافع عنها، ويصفها بالشجاعة والكرم، ويرد على من شكك في عروبتها، ويطالب باسترداد حقوقها. حتى لو تطور الأمر لديه فصار (قضية) يعيش لها، إلى أن تعود الحقوق إلى أصحابها، والأمور إلى نصابها.. فهل من الإنصاف أن تحصى على مثل هذا الأنفاس، وتسجل عليه الألحان والنبرات، ليوصف أخيراً بأنه (ذو نفس أو نبرة جبورية، أو عشائرية)؟ أو أن تخرج (قضيته) من إطارها الإسلامي إلى الإطار العشائري؟

أليس من الإسلام نصرة المظلوم؟ ورد الظلم؟ مهما كان صنفه وشكله ولونه. سواء ما تعلق منه بالدين أو الدنيا، الفرد أو الجماعة. الإنسان أو الحيوان… وهكذا. أم الإسلام هو تبني المسائل الإلهية، أو الدينية البحتة – كالعقيدة، والصلاة، والذكر وغيره من العبادات – والدفاع عنها، دون المسائل الأخرى التي لها تعلق بالناس أو الدنيا؟ أليست هذه هي (العلمانية) عينها؟

فإذا كان الظلم واقعاً على بلد بحاله، وأمة بأكملها، فإن الأمر يكون أحق، وأوضح، وأكثر مشروعية.

 

العراق مهدد في كيانه وانتمائه

أيها السادة!

هناك قطر يراد له أن يسلخ عن هويته، ويفصل عن أمته، ويجرد من عروبته. وهناك عدو عنيد مكابر، يناصب هذا القطر العداء على مر التواريخ والعصور، يريد أن يبتلعه، ويسحقه، ويجتثه من جذوره، ويسلبه حقوقه في الهوية والانتماء.

ثمة ظلم؛ فثمة قضية إذن.

وهذه القضية لا بد أن تتعلق ضرورة بهذا الظلم، وتتلون بلونه. وهي – مهما كان تعلقها ولونها – لن تخرج عن إطار الإسلام، ما التزم أهلها به، وحافظوا عليها في إطاره.

العراق أيها السادة، تدور عليه رحى مؤامرة. يريدون تجزئته.. ويريدون عزله عن انتمائه العربي، وقضمه – شيئاً فشيئاً – حتى لا يعود هناك عراق!

وليست المؤامرة هذه وليدة اللحظة، أو السنوات الأربع الأخيرة. كلا. ولا كلامنا عن ذلك كذلك.

إيران أيها السادة، إمبراطورية الشر، والشيطان الأكبر! تعتبر العراق جزءاً منها! تدفعها نفسية جمعية منحرفة، يغذيها إرث استعماري قديم قدم التاريخ. فهي كانت تغزوه دائماً، وتستوطنه ما قدرت على ذلك. وتقيم فيه المئات من السنين. كان آخرها قبل الفتح الإسلامي، وقد استمر إجمالاً ألفاً ومائة وخمسة وسبعين عاماً. من سنة 539 ق.م. إلى سنة 636 ب. م. ولطالما غزت إيران العراق قبل ذلك – وبعده – وأقامت فيه، حتى يتهيأ لها من يطردها خلف الحدود. فتنسحب ولها تغيظ وزفير، لتعد العدة، وتعيد الكرة مرة أخرى. فما من حضارة قامت في العراق إلا وكان تدميرها على يد شعوب إيران: وهذه هي المراكز الحضارية الستة في التاريخ التي قامت في العراق، وأماكنها وتاريخ تدميرها على يد إيران:

  • أكد (2160 ق. م.) في اليوسفية
  • وسومر (2006 ق. م.) في الناصرية
  • وآشور (612 ق. م.) في نينوى
  • وبابل (539 ق.م.) في بابل
  • والحضر (242 ب. م.) في نينوى
  • وبغداد (1258 ب.م. و 2003 ب. م.).

ومن إيران انطلقت الحركة الشعوبية الحاقدة ضد العرب، تتآمر في سبيل تشويه مآثرهم، وتحريف تاريخهم، والقضاء على ملكهم، وحضارتهم ودينهم. وشجعها الحكام الإيرانيون – وأولهم البويهيون – واحتضنوها، ودعموا دعاتها.

وظلت إيران تحلم بإعادة العراق إلى إمبراطوريتها، وضمه إليها، وتحن إلى سابق عهدها قبل الإسلام. وما الاحتلال البويهي الذي استمر قرناً ونيفاً إلا صورة من صور تحقيق ذلك الحلم. واحتل الصفويون بغداد مرتين.

ولا تخفي إيران اليوم حلمها في ضم دول الخليج والعراق تحت جناحها! وقد ضمت غيره من قبل كالأحواز والجزر الإماراتية الثلاث، ومساحات شاسعة من أرض العراق الحدودية.

إيران هي الدولة الوحيدة التي لم تعترف بالعراق عضواً في عصبة الأمم في عشرينيات القرن الماضي. وظلت مصرة على موقفها الغريب هذا، حتى أجبرتها السياسة – وتداخلاتها مع بريطانيا – ليتغير الموقف عام 1929. بينما كانت من أوائل الدول، التي اعترفت بالكيان الصهيوني، كدولة مستقلة منذ عام ‏1951،‏ أي بعد نشأته بحوالي ثلاث سنوات فقط. وقد استغلت إيران بريطانيا وخوفها من روسيا آنذاك، فتآمرت معها، وقامت باحتلال قطر الأحواز عام 1925 في مقابل صد الخطر الروسي.

 

الحكام الإيرانيون يصرحون : العراق جزء من إيران

ومرة بعد مرة يطيش رأس المسؤول الإيراني بذلك الحلم؛ فيأخذ بالهذيان، وتظهر النوايا على صفحات اللسان. حتى جاء الخميني صاحب (الجمهورية الإسلامية) ليعلن وزير خارجيته (صادق قطب زادة) أن العراق جزء من إيران. وبسبب هذه التصريحات، وما جرت على الحدود من تحرشات واعتداءات وقعت الحرب التي استمرت ثماني سنين. بل صرح هذا السفيه في مقابلة له أجراها “راديو مونت كارلو” في30/4/1980 علانية بـ(أنّ كلّ بلاد الخليج تشكل تاريخيّاً جزءاً من الأراضي الإيرانية). ولربما ظنها البعض زلة لسان، فأعادها وأكدها (روحاني) في 15/5/1980 حين ذكر في مؤتمر صحفي: (أنّ البحرين جزء لا يتجزّأ من الأراضي الإيرانية، وهي تشكل الإقليم الرابع عشر في إيران بموجب الدستور الجديد… وأنّ الشاه المخلوع تنازل للعراق عن مناطق شاسعة جنوبي إيران، بموجب اتفاق الجزائر 1975، وإننا نشعر بالحاجة الآن إلى إيضاح وضع البحرين بالنسبة لإيران، لأن بعض الدول العربية وبينها العراق تطالب بثلاث جزر في الخليج).

 

الخميني والحزام أو الهلال الشيعي

وفي لقاء لقناة الجزيرة مع الرئيس الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر كان أحد الأسئلة الموجهة إليه: هل الإمام الخميني كان يحدثك عن العلاقة مع الجوار العربي، مع دول الخليج ، هل كانت لديه أطماع في التقدم عسكريا باتجاه الدول من أجل تصدير الثورة مثلاً؟

وكان الجواب: لم يحدثني بهذا الموضوع، ولكن كان هناك مشروع آخر. كان يريد إقامة حزام شيعي للسيطرة على ضفتي العالم الإسلامي، كان هذا الحزام يتألف من إيران والعراق وسوريا ولبنان. وعندما يصبح سيداً لهذا الحزام يستخدم النفط وموقع الخليج الفارسي للسيطرة على بقية العالم الإسلامي. كان الخميني مقتنعا بأن الأمريكيين سيسمحون له بتنفيذ ذلك. قلت له بأن الأمريكيين يخدعونك، ورغم نصائحي ونصائح ياسر عرفات الذي جاء ليحذره من نوايا الأمريكيين فإنه لم يكن يريد الاقتناع[1]. فلم يكن (الحزام الشيعي) بدعة سياسية، اخترعها الملك الأردني، يوم حذر منها قبل أكثر من عام.

 

حفيد الخميني : العراق عراقنا والنجف عاصمتنا

في برنامج (الاتجاه المعاكس) على قناة الجزيرة يوم 22/2/2005 قال الأستاذ عوني قلمجي الناطق الرسمي باسم التحالف الوطني العراقي: في سنة 1979 جاء حفيد الخميني مبعوثاً عنه إلى المنطقة الشمالية من العراق – وكنا وقتها في المعارضة – ليقول لجلال الطالباني: ارفعوا يدكم أيها المعارضة عن العراق؛ العراق عراقنا، والنجف عاصمتنا.

 

الإصرار على تسمية الخليج بالفارسي

أما الإصرار على إطلاق اسم (الخليج الفارسي) من قبل حكام إيران على الخليج العربي، فقد أخذ منحى طفولياً سمجاً. في العام الماضي، وفي مقابلة مع قناة الجزيرة الفضائية، يقاطع الرئيس الإيراني السابق (محمد خاتمي) مقدم البرنامج الذي تلفظ باسم الخليج مطلقاً من أي وصف، ربما مداراة لمحدثه، ليقول له: (الخليج الفارسي.. نعم الخليج الفارسي)!. حتى وصلت السفاهة والاستخفاف إلى مندوبهم في العراق عبد العزيز الحكيم الذي ردد في لقاء رسمي قبل أشهر (آخر سنة 2006) اسم الخليج موصوفاً بـ(الفارسي) ثلاث مرات، بطريقة توحي بأنها زلة لسان. وما درى بأن زلة اللسان هنا تعني أن هذا هو المعتقد المترسب في العقل الباطن، الذي يظهر ما فيه من مكنونات حين تخف رقابة العقل الواعي. ولكني لا أرى إلا أنه قالها تعمداً واستخفافاً.

وكشفت الشعوبية عن سوءتها بعد الاحتلال، وانطلقت أفاعي الشعوبية بعد الاحتلال تستهزئ بالعرب والعروبة، وتطعن فيهم، وتنكر فضلهم وأياديهم، وتطالبهم بالكف عن (التدخل) في شؤون العراق، وتدعي أن العراق لا شأن له بالعرب، ولا شأن للعرب به. وترفع شعار: العراق للعراقيين. وقد توجت حقدها ومؤامرتها بالدستور، الذي نزع عن العراق الموحد هويته العربية، وبعد الأخذ والرد تكرمت عليه بجملة تقول: (الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية)! وهي تحصيل حاصل. فهل الشعب العربي في العراق جزء من الأمة الفارسية؟!

العراق إذن مهدد في وجوده وجغرافيته وعروبته وانتمائه.

ثمة ظلم إذن؛ فثمة قضية.

والظلم واقع على بلد اسمه العراق، وقيمة معنوية اسمها العروبة. فهو أعظم من الظلم الذي يمكن أن يقع على فرد، أو قبيلة. أو انتماء ذلك الفرد إلى تلك القبيلة. وله جذور تاريخية ممتد بعيداً في أعماق الزمن.

والقضية لا بد أن تأخذ اسمها من الظلم الواقع، والجهة التي وقع عليها الظلم.

 

15 – حوار قناة الجزيرة مع أبو الحسن بن الصدر ، الرئيس الأول للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، في برنامج زيارة خاصة ، بتاريخ 17/1/2000 .

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى