مقالات

العروبة بين المضمون الإسلامي والمضمون العلماني (2)

الوطنية حق.. والعروبة – وكل انتماء موزون – حق

(الوطنية) أو الانتماء إلى الوطن الذي هو العراق، والدفاع عنه إذن حق، بل واجب، وبحكم الشرع. وكذلك الانتماء إلى العرب (العروبة)، وبحكم الشرع أيضاً.

وهذا الحق، أو الواجب، من حق كل القوميات والأعراق، متى تعرض أهلها إلى ظلم في انتمائهم إلى أصلهم وأمتهم التي انحدروا منها، لا ننفسهم عليه، ولا نعيب عليهم أو ننكر حقهم فيه، ما لم يخرجهم ذلك إلى تعصب، أو بغي على الآخرين. فمن حق الكردي أن يدافع عن قومه وكرديته، ومن حق التركي والفارسي، وحق كل الأمم والأوطان والشعوب.

وعلى هذا الأساس أقول: العراقية عندي، وكذلك العروبة ليست نفساً أو نبرة أنتقد عليها. إنها أجل وأكبر! إنها (قضية) أحملها، وقيمة أتشرف بها. لكنني أضعها في مكانها اللائق، وترتيبها الذي تستحقه في سلم القضايا الجزئية التي تتكون منها قضيتي الأكبر (الإسلامية). ولا أشتط، فأجعلها هي الإطار الذي يضم القضايا الأخرى، أو تكون هي البديل المقابل لـ(الإسلامية) كما هي الحال عند البعض أو الكثير من (القوميين). كما لا أجفو فأظلمها مع الظالمين، وأنسى – أو أتناسى – الواقع والجغرافيا والتاريخ.. حتى أخرج بحكم تجريدي يعلق الأشياء في الهواء. بذلك وحده أكون (إسلامياً) بحق. وبغيره لا أكون كذلك إلا في عالم التوهمات والأحلام والقيم التجريدية. الذي يهوِّم فيه الكثير ممن رأيتهم، وسمعت بهم. وإن أسموا أنفسهم (إسلاميين). هؤلاء هم أولى بالنقد، والمطالبة بالرجوع الصحيح إلى الإسلام.

 

التجريد أحد علل العقل البشري

من أكثر العلل العقلية شيوعاً بين بني البشر.. التجريد.

حين تعزل الأحداث عن ملابساتها، والأحكام عن ظروفها. ومن هنا يتولد الجمود؛ فيحتاج الدين – أي ما عليه الناس من تدين أو عمل ينسب للدين – إلى تجديد. وهو حاصل تزاوج بين الوحي الثابت والواقع المتغير. ولذلك قال الأصوليون: الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأعيان. وبسبب من هذه العلة ظلمت كثير من الشخصيات التي أحسنت إلى الإنسانية على مدار التاريخ. كما رفعت شخصيات أخرى إلى غير ما تستحقه من منازل وألقاب.

لو جردنا الأمور لما صحت كثير من التصرفات والمواقف والأحكام، بدءاً بأكل الميتة، وانتهاءً بالسياسة وأحكام السلطان.

كيف يطلب يوسف عليه السلام الوزارة قائلاً للملك: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّـي

حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف:55)؟ والقاعدة الشرعية لا تجيز طلب الولاية أو السعي إليها بنص الحديث الشريف. دعك عن تولي نبي مسلم لملك كافر. ولكن لو سكت يوسف لما تسنى له الوصول إلى هدفه الخطير من إنقاذ أرواح الناس في أيام الإمحال والحصار.

وكيف يذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه مآثره وحسناته يوم شغب عليه المشاغبون؟ وكيف يحق لمسلم أن يقيم بين ظهراني الكافرين – في أوربا وغيرها – وهو مأمور بأن لا تتراءى ناره ونارهم؟

حين ابتليت الأمة بـ(النواصب) كثر تدوين المحدثين لفضائل علي رضي الله عنه أكثر من غيره، حتى قيل: ((لم يؤثر من حديث في فضل أحد من الصحابة رضي الله عنهم كما أثر عن علي)). مع أن الصديق – مثلاً – كان أفضل منه. وكان السلف الصالح إذا جاء أحدهم الكوفة تحدث عن فضائل طلحة والزبير، وإذا قدم البصرة أو الشام تحدث لهم عن فضائل علي. وحين انتسب إلى علي على عهده من يسب الخلفاء الثلاثة، انبرى علي يدافع عنهم قولاً وفعلاً، ومن ذلك أنه سمى خمسة من ولده بأسمائهم. بينما لم يسم من قبله باسمه أحداً من أولاده؛ لأنه لم تكن في زمنهم مشكلة تتعلق به. ليس من ظلم، فليس من قضية.

حتى إذا وقعت المشكلة، وصار الطعن في علي بادر أهل الحق – وكان من أولهم سعد بن أبي وقاص –  فأصبحوا يروون فضائله، ويركزون عليها، حتى صارت أكثر الأحاديث في بابها، كما قيل.

وقد كنت أعجب – أيام فورة التدين الأول والتعلق التجريدي بالمبادئ – من الإمام عبد الحميد بن باديس، ودعوته القومية أو العروبية الظاهرة! وأقول: كيف هذا؟! والرجل عالم دين سلفي يؤمن بالمرجعية الإسلامية. حتى انتبهت بعد حين إلى العلاقة بين دعوته القومية، وبين سياسة فرنسا في المحو والتفريس وإلغاء وجود الجزائر العربي والإسلامي. وأن تلك نشأت من هذه؛ ردة فعل عليها، واستجابة طبيعة لها. ولولا هذا الظلم لربما لم نجد للرجل كلمة واحدة عن العرب والعروبة؛ لأنه ليس من مشكلة تتعلق بها. وهكذا الحال مع غيره ممن يواجه التحدي نفسه.

وهكذا حين يظلم شخص أو بلد أو أمة. يستدعي ذلك الدفاع والذكر والتنويه. ويكون ذلك واجباً حتى يرتفع الظلم وتعود الأمور إلى نصابها. بل قد يحتد المدافع حتى يقول الصديق رضي الله عنه في صلح الحديبية لأحد المفاوضين: ((امصص بظر اللات))! وهي عبارة – لو جردناها – في منتهى الفحش والقباحة. فكيف يتلفظ بها أعف الناس بعد النبيين عليهم السلام؟!

جردْ.. تجد القبح، وتقع في الظلم. وقيد تجد الجمال والعفة والعدل. وكذلك كل مسألة جردناها، وتركناها عالقة في الهواء.

لا زلت أذكر كيف كانت (الوطنية) – قبل الاحتلال – تهمة، لا يحوم حولها إلا أصحاب السياسة! ويتجنب ذكرها المشائخ على المنابر، فإن فعل أحدهم اتهم بـ(التقرب من السلطان) ومحاباته على حساب الدين! هذا والتقرب من السلطان لأجل النصيحة والدفاع عن حقوق الناس واجب شرعي من تركه أثم وغرم. ولكن ما إن احتل العراق، وشعر الناس بالخطر يتهدد الوطن، حتى ارتفع الشعور الوطني لديهم، بحيث صار علم العراق يرفع على مآذن المساجد، وتزين به واجهات المحال، وتجمل بصورته نحور العذارى وصدور الحسان!

 

علماء الأمة وموقفهم من العروبة

وأخيراً أقول: لقد تكلم علماء الإسلام عن العرب وفضلهم ووجوب حبهم وتقديرهم. وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه القيم (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم). كما ذكره بوضوح من المتأخرين الإمام حسن البنا رحمه الله تعالى في رسائله. فهل كان شيخ الإسلام (قومياً)، والبنا (ذا نبرة قومية) حين كتب ما كتب، وقال ما قال؟!

فإذا اعتدي على هذا الحق، وطعن في العرب – والطعن في العرب زندقة – وصار الهجوم عليهم على أعواد المنابر، وشاشات الفضائيات، وبدأ أعداء الإسلام من الفرس والروم يتآمرون على عروبة بلد من البلدان كما هو واقع اليوم في العراق، ومن قبل في الأحواز التي يحظر على أهلها التحدث بلغة القرآن، أو التزيي بزي قحطان وكهلان ومعد وعدنان. وتمنع السلطات الإيرانية (الإسلامية) بناء مدرسة عربية واحدة في جميع أنحاء هذا القطر العربي السليب؛ فقد وجب العمل والنفرة لدفع هذا الظلم. ومن قصر فعلى نفسه جنى. ولا يستحق العامل بالواجب هذا إلا النصرة والمؤازرة، حتى تعود الأمور إلى نصابها، والحقوق إلى أصحابها.

لقد اشتطت (القومية) في القرن الماضي، حتى أراد لها من أراد من حامليها، أن تكون عقيدة بديلة عن الإسلام. فأدى هذا بـ(الإسلاميين) إلى أن ينتقدوها، أو يذموها، ويردوا على أهلها تطرفهم وتجاوزهم. ولربما تطرف بعضهم في رده وذمه. ولكن لا يمكن أن يلغي هذا الحقيقة، أو يغطي على أن مراجع (الإسلاميين) الأوائل ما كانوا يقصدون الرد أو الذم بإطلاق.

ولكن كل شيء موكول إلى ظرفه وملابساته وزمنه.

لقد انتهت تلك الموجة ، أو انكسرت حدتها ، وعاد كثير من (القوميين) إلى جادة الوسطية أو الصواب. واليوم قد جاء زمن آخر، وطغت موجة أخرى. اليوم تضاءلت الدعوة القومية البديلة، حتى خفت صوتها، أو اختفى صداها. والقوى العالمية تريد تمزيق العرب، وما عادوا يتبنون تلك الدعوة في مقابل الإسلام. والفرس يطعنون في العرب والعروبة، وقد ابتلعوا الأحواز والجزر العربية وغيرها من ربوع بني يعرب. ويتلمظون اليوم يريدون ابتلاع العراق. فهل من الدين والعقل والسياسة والحكمة أن نظل نردد مقولات هي نتاج ظرف قد تغير، ومماحكات زمن قد ولى وانقضى؟! اللهم إلا عند من ينظر إلى الأمور مجردة عن ظروفها، وعارية عن ملابساتها. وهي علة عقلية أو فكرية، ينبغي على المصاب بها أن يسارع إلى تشخيصها وعلاجها. وعندذاك سيستقيم القصد، ويعتدل الميزان. الذي به ندرك أن النبرة القومية أو الوطنية، بل العشائرية، وحتى الشخصية – بقيودها وملابساتها – من الدين القويم، وصاحبها على الصراط المستقيم. صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقا.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى