3 – إيران العداوة الأبدية
د. طه حامد الدليمي
2. مرحلة الاحتلال الطويل (539 ق.م – 636 ب.م)
عام (539) ق.م والتحول التاريخي الكبير
في هذا العام حصل تحول كبير، وابتدأ تغير خطير في تاريخ العراق، وطبيعة العلاقة الإيرانية – العراقية. في هذا العام تمت المؤامرة اليهودية الفارسية، وتمكن ابن اليهودية إمبراطور إيران (كورش الإخميني) من هزيمة العراقيين، والتغلب عليهم، ودخول عاصمة دولتهم مدينة بابل. بعد أن دخل العراق من شماله، ليكتسح أمامه ما مر به من مناطق، فيحرق ما يحرق، ويدمر ما يدمر. ومن ضمن الذين أحرقهم أهالي مدينة (اليوسفية). وهي إحدى نواحي مدينتي (المحمودية). واعتماداً على دلالة الأسماء ومسمياتها، وعادة الملوك في تسمية المناطق والأشياء بأسمائهم، أستطيع القول: إن المحرقة وقعت تحديداً في المنطقة التي تدعى اليوم بـ(كويرش). وهي قرية معروفة في ناحية اليوسفية. وكويرش مصغر كورش.
المشكلة أننا ننسى، لكنهم لا ينسون. إن كثيراً من مدننا ومعالمنا العراقية لا زالت تحمل بصمات أسمائهم: وشهربان – نسبة إلى اسم الملكة الفارسية (شهربانو) – في ديالى. ونهر ابن العلقمي، وشارع الطوسي… وغيرها، وغيرها، كلها أسماء فارسية، اعتدنا عليها دون أن تثير انتباهنا!
وهكذا دخل كورش العاصمة بابل، واحتل الفرس العراق احتلالاً دام مدة (1180) سنة – تخللها الاحتلال اليوناني الذي استمر أقل من قرنين – حتى جاء الإسلام فتحرر على يد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
توالت على حكم العراق في هذه العصور المتطاولة ثلاث سلالات فارسية: الإخمينيون ثم الفرثيون ثم الساسانيون. ماذا تراهم فعلوا في هذه المدد المتطاولة من تدمير وظلم وخراب؟!
الفرس الإخمينيون وسياسة الظلم والاستعباد
بعد الحرق والتدمير، والتقتيل والتشريد، أطبق الإخمينيون بمخالبهم على حكم العراق حكماً مباشراً ، واستقروا فيه بلا منازع. ، كما احتلوا مناطق شاسعة من أرض العرب. فقد سيطروا على الخليج، ومصر، وشمالي سوريا، وأحكموا قبضتهم على الطرق التجارية، والمنافذ المائية.
أما العراق فقد فتحوا أبوابه على مصاريعها أمام موجات استيطانية إيرانية كبيرة. صار فيها الإيراني هو السيد المتصرف في شؤون البلاد والعباد. وصار العراقي فيها هو الخادم والعبد الذليل، الذي يخدم في بيوت الإيرانيين، وفي بلاط ملوكهم. واستولى المحتلون على كثير من الأراضي، ووزعوها على الجنود. بحيث لم يبق جندي إيراني إلا واستولى على أرض له في العراق. ناهيك عن الموظفين، والحكام، والملوك، والأمراء والأميرات، والملوك والملكات! حتى ملك مصر الفارسي (أرشان)، كانت له مقاطعات في مدينة أربيل، وله ماشية في مدينة نفر في الناصرية!
وكان الإيرانيون يبنون القصور الفارهة، ويزرعون البساتين الواسعة على أجساد العراقيين. وأثقل كاهل المواطن العراقي بضرائب، وضرائب لا تخطر على بال.
فرض الملك الفارسي على أهل بابل ضرائب سنوية. فكان عليهم أن يقدموا (30) ثلاثين طناً ونصف طن من الذهب! و(500) خمسمائة شاب يخدم في البلاط. وعليهم أن يقدموا كل عام أيضاً (800) ثمانمائة حصان و(1600) ألفاً وستمائة فرس. وعليهم أيضا أن يدفعوا مصاريف الجيش والبلاط لمدة (4) أربعة أشهر كل عام. وكان مرزبان (حاكم) بابل الفارسي يقدم له أهل بابل يومياً كومة من الفضة . سوى (4) أربع قرى أعفيت من هذه الضريبة. هل تدري لماذا؟! لقد كان عند هذا الملك الطاغوت كلاب هندية، سلمها لهذه القرى تعتني بها وتطعمها؛ فكان هذا سبب خلاصهم من هذه الضريبة الظالمة!
هذه قيمة أهل العراق عند طواغيت إيران..!
وكان على كل شيء ضريبة! الحنطة، الخردل. حتى استعمال النهر لأي غرض من الأغراض! وتدخل أي بوابة من بوابات المدينة فلا تجتازها حتى تدفع ضريبة! وكانوا يسخرون أهل العراق في كري الأنهار وتنظيفها سخرة بلا مقابل. فكان من العراقيين من يموت من شدة التعب والجوع، ومنهم من يهرب من العسف والظلم والاضطهاد. ويشتد الفقر والجوع بأحدهم فماذا يفعل؟ يضطر إلى رهن أرضه. ويعجز عن تسديد الرهن فيبيع الأرض. وينفد ثمنها فماذا يصنع؟ يضطر إلى بيع أولاده وبناته عبيداً!!
ووصل ظلم الإخمينيين بأهل بابل، أنهم صاروا يأخذون كل امرأة غير متزوجة إلى إيران، تخدم هناك فلا تعود إلى أهلها أبداً! فماذا كان يفعل أهل بابل ليتفادوا هذا الفعل الشنيع؟ صاروا يعرضون بناتهم في مزاد علني للزواج!! وطبقاً لطبيعة الحال فإن الجميلة تجد من يتزوجها ويدفع لها مهراً، أما غير الجميلة فالفرصة أمامها محدودة؛ فهي مهددة بالسبي والأخذ إلى مجاهل إيران تخدم في بيوت الإيرانيين. فاتفق أهل بابل فيما بينهم على إعطاء مهر الجميلة لغير الجميلة حتى تدفع لنفسها مهراً لمن يتزوجها! فكانت مهور الجميلات تعطى لغير الجميلات حتى تجد من يتزوجها ويدفع عنها هذا الحيف الذي لا يطاق. واستمر هذا التدهور، وهذه المعاناة مئات من السنين..!
كان هناك فساد إداري كبير. عمت الرشاوى، وانتشر الربا. كان المرابي الإيراني يفرض فائدة ربوية تصل قيمتها إلى (40%)..! وربط العراق بإيران، فصار مقاطعة، أو ولاية تابعة لفارس.
ثورات بابلية لم يكتب لها النجاح
كان العراقيون يتململون، ويحاولون عبثاً الخلاص باستمرار. فعملوا ثورات عديدة. كان أبرزها ثورتان قام بهما عراقيان من أهل بابل. أحدهما اسمه (نادين تبيري)، والآخر اسمه (أراكوس). نادين تبيري هذا استغل اضطرابا سياسياً في مملكة إيران، جاء فيه (داريوس الاول) بانقلاب الى سدة الحكم. فاستغل أهل بابل الأوضاع وثاروا بقيادة هذا الرجل، الذي لقب بـ(نبو خذ نصر الثالث). قام هذا القائد بتجييش الجيوش، وقطع القنوات، وعمل على تحصين أسوار بابل المهدمة المخربة. لكن داريوس غزاه بنفسه وهزمه في معركتين كبيرتين راح فيهما مئات الضحايا، فانسحب العراقيون بعد هاتين المعركيتن إلى داخل الأسوار، التي حاولوا ترميمها وتقويتها. وخزنوا الأطعمة والمياه من أجل إطالة أمد المقاومة. وصمدوا رغم التفوق الإيراني طويلاً. ولم يستطع داريوس أن يدخل بابل إلا بحيلة عجيبة! وهذا هو شأن الإيرانيين. فماذا فعل داريوس؟ جاء بأحد قواده المعروفين واسمه (زوبيروس): صلم أُذنيه، وجدع انفه ثم ضربه ضربا مبرحاً! وتركه يتظاهر بالهرب إلى أسوار بابل. وانخدع أهل بابل بهذه الحيلة، وانطلت عليهم، فاستقبلوه بالترحاب والتقدير (وهذه هي مشكلتنا دائماً: قلوبنا طيبة.. ننخدع سريعاً) حتى إنهم سلموه قيادة فرقة من الجيش! فاستطاع بذلك أن يعمل ثغرة في جانب من جوانب السور. وهكذا دخل الجيش الفارسي بابل، ليعمل بأهلها ما يعمل من التقتيل والتخريب والتشريد.
واستمرت الثورات.. إلى أن جاء الرجل المسمى (أراكوس). نصبه أهل بابل ملكاً ولقبوه بلقب (نبو خذ نصر الرابع)، وقاموا بثورة حاولوا من خلالها طرد المحتل الإيراني. لكن الإيرانيين استطاعوا أن يخمدوا هذه الثورة. ونكلوا بأهل بابل. وكان أحد صور هذا التكيل أنهم أخذوا منهم ثلاثة آلاف شاب، قتلوهم جميعاً..! وعلقوهم على أسوار بابل.
واستمر الاخمينيون في حكمهم للعراق على هذه الشاكلة (208) سنين..!!!
كان هذا قبل خمسة وعشرين قرناً.
واليوم جاءونا، بعد هذه المدد المتطاولة.. ما تبدل منهم شيء، حتى أسماؤهم! حينما دخل الخميني ايران كان هناك رئيس وزراء يحكم ماذا كان اسمه؟ اسمه (شابور بختيار). شابور هو نفسه سابور او شابور ذو الاكتاف الساساني. وهو نفسه موفق الربيعي الذي اسمه كريم شابور، ماذا فعل ذلك الشابور الساساني؟ لقد خلع أكتاف العرب.. خمسين ألف عربي خلع أكتافهم. كيف؟ كان يربط يد أحدهم بفرس، واليد الأخرى بفرس أخرى، ثم يسوق كل واحدة منهما في اتجاه، ويخلع أكتافهم بهذه الطريقة البشعة!
الشيء نفسه فعله الخميني بأسرانا..!
الفرس الفرثيون وسياسة الاحتواء
استمر العرب بثوراتهم في وجه الاحتلال الإيراني، في العراق، وفي مصر وغيرهما من بلاد العرب، لكنها لم تنجح. حتى جاء (الفرثيون). وهم سلالة فارسية أخرى. وبسبب من هذه الثورات حاول الفرثيون أن يغيروا شيئا من سياسة أسلافهم، ويتبعوا سياسة أخرى هي سياسة الاحتواء والمداراة.
استمر ملك الفرثيين أربعة قرون، تنفست فيها أرض العرب، وأرض الرافدين شيئا ما. وأنشئت بعض المدن والممالك، وقامت بعض الحضارات. مثل: مملكة ميسان في جنوبي العراق، وتسمى ملكها باسم ملك العرب. وقامت في الخليج مدينة (الجرهاء). وفي جنوبي الموصل ظهرت مملكة (الحضر) في القرن الأول الميلادي. كما ظهرت في سوريا مملكة (تدمر). حتى جاء الفرس الساسانيون، فأزاحوا الفرثيين متبعين أسلوب الغدر، وحلوا محلهم في حكم البلاد.
الفرس الساسانيون وسياسة الحقد الديني
ينتسب إلى جدهم الأعلى ( ساسان ).
وساسان هذا هو الكاهن الأكبر لبيت النار في مدينة (اصطخر) الفارسية. كان له ولدان: احدهما اسمه (شابور) والآخر اسمه (أردشير). استطاع هذا الكاهن بنفوذه الديني أن يحصل لهما على مناصب عسكرية وإدارية كبيرة في الامبراطورية الفرثية. تمكنا بها من السيطرة على المقاطعات التي صاروا يحكموها. ثم اختلف شابور وأردشير فيما بينهما. واستطاع الأخير أن يحسم الوضع لصالحه، ثم يكون جيشا كبيراً، غزا به عاصمة الفرثيين في العراق. وذلك في عام (226) ب.م. وانتهت المعركة بقتل (أردوان الخامس) إمبراطور الفرثيين. فنصب أردشير نفسه مكانه، وأسس الإمبراطورية الساسانية التي استمرت في الحكم حتى مجيء الإسلام. أي إن حكمهم استمر (400) سنة تقريبا. غيّر الساسانيون من سياسة أسلافهم، ورجعوا هؤلاء إلى سياسة الإخمينيين التعسفية، مدعين أنهم الورثة الشرعيون للإخمينيين. ودفعوا بتاريخ الحقد دفعة كبيرة إلى الأمام. كما أضافوا إلى عقائدهم البالية بلية جديدة. حين استغلوا كون أبيهم (ساسان) هو كاهن النار فمنحوا حكمهم صبغة دينية، متخذين من هذه الصبغة مستنداً شرعياً لحصر الحكم في عائلتهم وسلالتهم. فتعقدت العقائد في زمانهم أكثر مما كانت عليه.
لقد أشاعوا بين الناس أنهم يحكمون باسم الإله، فالحكم بالنسبة إليهم هو حق ديني إلهي. واستمر هذا التثقيف مئات السنين، فصار الإيراني بعدها لا يفرق بين الملك العادي والإنسان المقدس. لقد صار الملك في عقيدة الفرد الإيراني إنساناً مقدساً، يجري في دمه عنصر إلهي. وصار البيت المالك عندهم هو البيت المقدس نفسه. وبيت المالك هو بيت الدين. فلا يجوز أن يخرج الملك عن هذا البيت.
من هنا اختلط الدين بالملك، والملك بالدين عند الفرس. وكلا الأمرين تمثلهما عائلة واحدة تتوارث الملك، وتتوارث التقديس. هذا هو التغيير العقائدي الكبير الذي حصل إبّان حكم الساسانيين.
جذور عقيدة (الإمامة) الشيعية
هنا يكمن سر عقيدة (الإمامة) الشيعية، وهذه هي جذورها، ومن هنا نبتت أصولها.. من ساسان كاهن النار، أو كاهن بيت النار الفارسي!!! من هنا بدأ تاريخ التشيع الفارسي، وتسلل إلى محيطنا.
بعد موت النبي دخل الإسلام بلاد فارس. لكن الإيرانيين لم يدخلوا في الإسلام بالطريقة نفسها التي دخل فيها العرب. فالعرب لم تكن لديهم هذه العقيدة اللاهوتية في ملوكهم ورؤساء قبائلهم. والعرب لم يدخل عمومهم في الإسلام جملة واحدة، إنما استمرت دعوة الرسول بينهم قرابة ربع قرن، فكان دخولهم فيه عن قناعة وطول تفكير ونظر. وساهمت هذه المدة الطويلة في إزالة ما كانوا عليه من عقائد باطلة من عقولهم ونفوسهم. ثم إن عقائد العرب كانت بسيطة، وليست معقدة كعقائد غيرهم من الأُمم. أما الفرس فلم يدخلوا في الإسلام عن طريق الدعوة الطويلة المدى. إنما دخلوا فيه جملة، وبسرعة، وعلى ما هم عليه من عقائد ولوثات دينية معقدة. فكان التغيير في عمومه بسيطاً وقشرياً. دخل الإيراني الإسلام وفي اعتقاده أن بيت الدين وبيت الملك واحد. العائلة المالكة هي العائلة المقدسة. وأن العائلة الدينية هي التي ينبغي أن تحكم. ولا يجوز بحال أن يخرج الحكم والملك منها أبداً.
فكان حتمياً عند الإيراني، طبقا لهذه العقيدة المتغلغلة في نفوسهم أن يتولى الحكم أو الملك بعد وفاة النبي شخص من عائلته وليس من خارجها. فكان علي بن أبي طالب هو الوحيد الذي يستحق أن يخلف النبي في قيادة الأُمة. كما يجب أن يتسلسل الملك حصراً في ذريته من بعده.
إضافة إلى هذا ما أشيع من أن الحسين تزوج ابنة كسرى فولدت له ابنه علي بن الحسين. فكان الشخص الذي اختلط فيه الدم المقدس من الطرفين: من طرف أمه، ومن طرف أبيه. فانتقلت الإمامة إليه، وبقيت في ذريته، دون ذرية الحسن، التي لا تمتلك هذه المزية حسب اعتقادهم.
استغل هذه العقائد الأُسطورية أساطينُ السياسة من العجم، ومن العرب الطامحين في الملك أيضاً. وهكذا التقى الطرفان، فعزفوا على وتر هذه الأُسطورة الاعتقادية، وانطلقوا بها من خراسان حيث الجو الملائم لها، وسهولة تصديق الناس هناك بها. فدعوا إلى الخروج على الأمويين، وطعنوا في شرعية حكمهم على هذا الأساس الباطل. لقد كان شعار العباسيين – ومعهم العلويون – (إلى الرضا من أهل البيت). واستولوا على الملك بحجة أنهم من أهل بيت النبي، على اعتبار أنهم من ذرية العباس عم النبي .
هذا هو التحول الخطير في العقيدة الذي جاء به الساسانيون. وهذه هي آثاره في المستقبل البعيد! وهذه هي إيران في عداوتها الأبدية للعراق.
8/8/2007