مقالات

سورة الحج – تأملات جهادية

سورة الحج .. تأملات جهادية

14/12/2007

العلاقة بين سورة الحج والسورة التي سبقتها ولحقتها

توسطت سورة (الحج) بين سورة (الأنبياء) قبلها، وسورة (المؤمنون) بعدها. والسور الثلاث ينظمها موضوع واحد، وإن اختلفت زاوية نظر كل سورة إلى الموضوع نفسه. أما الموضوع الواحد فإن السور الثلاث جميعاً تتحدث عن الخلق كيف ابتدأ؟ وكيف ينتهي؟ تتخلله أحداث عديدة يشدها الحدث الأعظم، ألا وهو يوم القيامة. الذي يمثل الإيمان به أحد الأركان الثلاثة الكبرى للإيمان: الإيمان بالله تعالى، والإيمان برسله، وباليوم الآخر. مع ذكر الدلائل العلمية على وقوعه مستقبلاً.

أما زوايا النظر إلى الموضوع الرئيس، التي تعددت بتعدد السور:

فإن سورة الأنبياء تحدثت عن اقتراب يوم القيامة: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:1) وبداية الخلق بـ(الانفجار العظيم): (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) (الأنبياء:30) ونهايته بتوقف حركات الكون، وعودته إلى ما بدأ به: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء:104).

بينما ابتدأت سورة الحج بالحديث عن المشهد المروع لذلك اليوم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) (الحج:2،1).

أما سورة المؤمنون فكان حديثها عن ذلك اليوم العظيم بنهايته السعيدة بالنسبة للمؤمنين بعد مرور تلك الأحداث الكونية الجسام، ألا وهي دخولهم الجنة التي ورد ذكرها بأعظم أسمائها وأوصافها (الفردوس) كما ثبت ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن) رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. فابتدأت تقول: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون:1-4) إلى قوله تعالى: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون:10-11).

الحركة والانتقال تشد أجزاء السورة

بين الحديث عن بداية الخلق ونهايته بيوم القيامة ودخول المؤمنين جنة ربهم جل وعلا، جاء حديث الرب جل وعلا في سورة (الحج). وحين ترجع البصر في هذه السورة الكريمة تجد عناصر ثلاثة تشد أجزاءها: يوم القيامة، والحج، والجهاد. وكل عنصر منها جاء عرضه بطريقة تعبيرية تهز القلوب هزاً عنيفاً يكاد يخلعها من أماكنها. طريقة تعتمد على عامل الحركة والانتقال من مكان إلى مكان.

فيوم القيامة عبارة عن زلزلة عظيمة تذهل لها الخلائق. زلزلة تشغل العاقل عن عقله، والمرضعة عن وليدها، وتسقط الحامل جنينها! كما جاء الدليل عليه أرضاً هامدة، ينزل عليها الماء فتتحرك وتهتز وتربو فتنبت من كل زوج بهيج. لاحظ عامل الحركة والانتقال! الذي يبرز مرة أخرى يوم القيامة بالطريقة نفسها: الأرض هامدة بالموت والسكون، فإذا نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت، ولكن هذه المرة نباتاً من نوع آخر، لبذور من نوع آخر أيضاً. وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (الحج:6،7). وأصل البعث في اللغة هو التحريك بعد سكون. ولي هنا أن أسأل وأقول: أين القلوب التي تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج من معاني الإيمان والوجل والتذلل والتلذذ والخشوع؟

والحج كذلك حركة وانتقال، يهرع فيه الناس رجالاً وركباناً قاصدين الله جل وعلا في بيته: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج:27). وهي حركة تتوافق مع حركة البعث يوم القيامة، حين يحشر الناس جميعاً إلى ربهم. فهناك حشر رمزي إلى الله متمثل بالتوجه إلى بيته، وهنا حشر حقيقي إليه في عرصات يوم القيامة. ومن هنا ختمت آيات الحج في سورة (البقرة) بذكر الحشر إلى الله بقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة:203).
وإذا كان المؤمن في كل حركاته يتوجه إلى ربه: حين يصلي، وحين يحج، حتى إذا مات رجع إلى ربه كما قال سبحانه وتعالى : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً) (الفجر:28،27)، فإن حركة الكافر على العكس من ذلك، حتى إذا جاءه الموت تحركت روحه الحركة نفسها مبتعدة عن ربها. فهي بدلاً من أن تستمر صاعدة – كروح المؤمن – تسفل مبتعدة لتهوي إلى الأرض: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج:31).

فيا لله! ما هذا التناسق العجيب بين هذه الحركات؟!

قارن بين هذا وذاك ثم تلمس قلبك وأخبرني عن حاله كيف هو؟ وبماذا يحس؟

أما الجهاد فكله حركة وقلق وانتقال. وجاء التعبير عن ذلك بقوله سبحانه: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج:40). وكل من أخرج من داره بسبب الجهاد يعلم عمق هذا الوصف وهذا التعبير. ولكن ليعلم أن ذلك في سبيله.. انتقال وخطوات مسرعة متلاحقة في الطريق الممتد إلى الله.

أيها المجاهد! إنك حين تخرج من دارك فإنك إنما تضع نفسك في الطريق الذي تسير فيه قافلة الراحلين إلى دار الخلود؛ فلا تأس ولا تحزن. إنها السنن، وإنك تسرع الخطى للوصول إلى دار الحبيب. إنك تتحرك وتنتقل من دار الأتراح والأحزان إلى دار الأفراح والرضوان.
ومن استحضر هذا وقارن بين الدارين هان عليه الأمر، واستعذب ترك الديار، واختيار التغرب في سبيل الله؛ لأن ذلك معناه أنه على الطريق الواصل إلى الله!
أيها الأخ المجاهد! أرني عينك هنا.. فهنا.. تسكب العبرات..!

العلاقة بين الحج والجهاد

من المعروف في تاريخ التشريع الإسلامي أن مشروعية الجهاد حصلت يوم نزل قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39). وأعقب الآية هذه بذكر الإخراج من الديار: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج:40). وقد اختار الله تعالى لهذه الآية أن تكون في سورة تتحدث عن الحج، وأسماها بالاسم نفسه، فسميت بسورة (الحج)، وقدم لها بالحديث عن يوم القيامة، وذكر دلائل وقوعه. فلماذا هذا الموضع دون سواه؟

الحج أعظم وأروع صورة محسوسة للحركة في الدنيا، والتوجه بهذه الحركة إلى الله.
وإذا كانت الصلاة أعظم الأركان العملية، فلا يبعد أن يكون الحج جزءاً أو امتداداً للصلاة. يمثل قمتها وثمرتها. فالصلاة أولها القيام متوجهاً إلى الكعبة، وقمة هذا التوجه وثمرته الأحلى حين تهرع إلى هذه الجهة بجسمك وقلبك جميعاً، بعد أن توجهت إليها بقلبك وحده. حتى إذا وصلت إليها جذبتك حتى صرت تدور حولها، وتطوف بها كما يطوف القمر بالأرض، والكواكب بالشمس. وإذا كان العبد أقرب ما يكون إلى الله رمزاً بالسجود في الصلاة، فإن هذه الرمزية تتضح أكثر حين يلتزم أركان بيت الله، ويلمس الحجر الأسود ويقبله.

فما علاقة ذلك بالجهاد؟

الجهاد أعظم حركة معنوية وعملية يعبر بها العبد عن حبه وانجذابه إلى ربه ومولاه. وهل هناك أعظم من أن يضع الحبيب روحه ودمه قرباناً بين يدي محبوبه؟! كلا والله! (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) (التوبة:111).

الجهاد إذن أعظم حركة يؤديها العبد في طريق الوصول إلى الله. وهو العمل الذي به تصدق الأعمال، ويشهد لها بالصحة والكمال. ومن هنا سمي الشهيد شهيداً.
وإذا كان العبد يهوي قلبه إلى بيت ربه، ويرجع حين يرجع بالحسرة والتوجع لفراقه، والحنين للعودة إليه، فإن الشهيد لن يرجع عن حضرة ربه، ومعراج قدسه، ولن يتحسر ولن يتوجع. وإن كان هناك من حنين فإلى الدنيا للرجوع، لا حباً بها، ورغبة في الاستزادة من متعها، بل للعودة منها مرة أخرى، وتكرار الرحلة الجميلة إلى الله.

فلماذا نرى الناس يتزاحمون على باب الحج، ولا نراهم يزدحمون على باب الجهاد، وكلا البابين يوصل إلى الله؟ بل طريق الجهاد أقصر. إلا الصادقين، أمثال خالد بن الوليد الذي كان أكثر الناس حجاً وجهاداً، وهارون الرشيد الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً. ولربما جاء اقتران الأمرين عند الرجلين لهذا السبب، الذي أدى إلى التلازم كنتيجة طبيعية، أو لأنهما أدركا هذا التلازم فجمعا بينهما.

هذا ما نراه من السر في وضع آية تشريع الجهاد في سورة الحج دون غيرها!
فكأن الله يريد أن يقول: من كان صادقاً في طلبي عن طريق الحج، فليطلبني عن طريق الجهاد، فهما طريق واحد؛ فمن وجدته هنا وجدته هناك. ومن أراد أن يجدني في واحد منهما دون الآخر فلن يجدني؛ فإنه ليس على الطريق وإن توهم أنه عليه.
ومن هنا أجد في الحديث عن قرابين الحج، وكونها من المناسك العظيمة، وأن من مقاصد الحج أن (يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) (الحج:28). إشارة إلى شعيرة عظيمة من شعائر الجهاد، ألا وهو قرابينه من بهيمة الكفار المعتدين، الذين قال الله تعالى عنهم: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179). وقال أيضاً: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (الأنفال:22).

نعم!

الحج رحلة إلى الله.. والجهاد رحلة إلى الله. ولكن طريق بعيد وآخر قريب. ويوم القيامة نهاية الرحلة التي يتبين فيها الراحلون الصادقون، ويتميز القاعدون المخلفون. والله الهادي إلى سواء السبيل.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى