مقالات

اتفاق الدوحة .. تهدئة لأزمة طارئة..؟ أم حل لمشكلة دائمة..؟

libnan

أنهى المجتمعون في قطر بشأن الأزمة اللبنانية الأخيرة اليوم نقاشات وجدالات صعبة دامت ستة أيام (16-21/5)، وذلك بحل توافقي بين الأطراف جميعاً، وصف بأنه “لا غالب فيه ولا مغلوب”. ومع تمنياتنا بأن تكون تهدئة الأزمة بداية لحل المشكلة من أساسها. إلا إننا لا نجد نافذة لأمل بمستوى هذه الأمنية. وهذه أسبابنا:

إن المشكلة فيها طرف معبأ بعقيدة عدمية، مؤطرة بنظرية فكرية جامدة، تسندها سيكولوجية خاصة. هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية فإن المعادلة فيها عنصر داخلي مانع من الحل، وعنصر خارجي مغذ للفتنة.

1. العقيدة العدمية

الناظر بتأن في عمق العقيدة الشيعية يجدها عقيدة سرطانية السلوك، من حيث أن علاقتها مع الآخر تقتصر على كونها علاقة عدم أو وجود، دون فرصة لتواجد خيار ثالث.

تقوم هذه العقيدة على أساس الولاء المطلق للطائفة، والعداء المطلق للآخر. وهو ما يسمى عندهم بـ(عقيدة الولاء والبراء)، التي لا يصح إيمان الشيعي إلا بها. يسند هذه العقيدة نفسية مجروحة معبأة بعقد عديدة – يأتي على رأسها “عقدة النقص”، و “عقدة الاضطهاد” – تجعل الشيعي يشعر على الدوام بأنه مظلوم، مضطهد من قبل الآخر، الذي يشاركه العيش في وطن واحد. ويتحين الفرصة للانتقام منه، واسترجاع (حقه المغتصب) بأي وسيلة ممكنة. وهذه علة أساسية لعدم إمكان التعايش بين الشيعي وغيره، إلا غالباً أو مغلوباً. وهو سبب أصيل من أسباب وجود المشكلة، ودوامها. ولذلك فإن اتفاق “لا غالب ولا مغلوب” لن يدوم.

2. الشيعة مشروع “دولة داخل دولة”

إن هذه العقيدة العدمية تمنع الشيعي من أن يكون مواطناً صالحاً داخل أي دولة يكون فيها، إلا على سبيل المغلوبية وإظهار حال “التقية”. وهو في الوقت نفسه يسعى لبناء دولة داخل الدولة التي يعيش فيها. ومتى ما تمكن من القوة الكافية فإنه سرعان ما يعلن عن نفسه لا كما تفعل المعارضة في أي بلد، وإنما يظهر كياناً متكاملاً من جميع النواحي: النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، مفصولاً عن الكيان الأم، أو – بتوصيف أدق – يعيش على حساب الدولة الأم. وتكون العلاقة بين الكيانين علاقة تناقضية، تماما كالسرطان وعلاقته بالجسم الأم، إذا قوي وكبر ضعف الجسم، والعكس صحيح؛ فإنه لا ينمو إلا على هدم الجسم الذي يحتضنه، وامتصاص عوامل البناء والطاقة فيه. وحتى في حالة الضعف والمغلوبية فإن إشكالية “الدولة داخل الدولة” موجودة لدى الشيعي في عزلته النفسية عن دولته وتعلقه بمرجعه “الحاكم الشرعي” حسب المصطلح الفقهي الشيعي، وولائه للدولة البعيدة “إيران”. في نظامه الاقتصادي القائم على بدعة “الخمس” و “الحقوق الشرعية” الأخرى. في سياسته القائمة على العداء المستحكم ضد النظام الحاكم والدولة الحاضنة، وسعيه لتقويضها. في نظامه الاجتماعي الخاص في زواجه وطلاقه وعلائق أسرته، وشعائر حزنه وفرحه، وعلاقاته الاجتماعية، وطقوسه الدينية، ومؤسساته العلمية والثقافية، وغيرها، وغيرها. وكلها قائمة على فتاوى وتعليمات وتقاليد وتواضعات خاصة تزيد في عزلته، وتؤكد انكفاءه الداخلي. وهي حالة كنا نلاحظها بوضوح، ونشخصها قبل زوال “الدولة الأم” في العراق في نيسان سنة/2003، والتي شاركت “الدولة السرطان” مشاركة فاعلة في قتلها وزوالها. وتظهر بادية للعنان اليوم في لبنان. ومن المفارقات أن الشيعة وهم يحكمون العراق اليوم لا زالوا يعيشون حالة “الدولة داخل الدولة”، ولا يستطيعون التخلي عنها. فحكومتهم لا تحسن العمل إلا للطائفة، التي هي “الدولة” في نظرها. أما العمل للمجتمع أو الدولة ككل، دون تفريق بين طائفة أو مكون وآخر فقد بدا جلياً أنهم لا يعرفونه، ولا يحسنونه.

إن مشروع “الدولة داخل الدولة” مانع أصيل من موانع استمرار التهدئة؛ وصولاً إلى حل المشكلة، فكيف يمكن لدولة أن تستقر، وحكومة أن تمارس دورها الطبيعي في الحكم والسيطرة وإدارة شؤون الدولة بوجود دولة أخرى داخلها، تديرها حكومة أخرى، لا هي حكومة طبقاً للتوصيف القانوني، ولا هي رعية طبقاً للواقع المفروض بقوة السلاح؟! ولنا في قوله تعالى: (لو كانَ فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفسدتا) (الأنبياء:22) خير شاهد ودليل.

3. إيران وأمريكا

مما يزيد الحالة تفاقماً دخول دولتين كبيرتين في عناصر المعادلة، تدور في فلكها دول أخرى أصغر، هما إيران وأمريكا؛ فكلتا الدولتين ليس من مصلحتهما التهدئة الدائمة، أو حل المشكلة من جذورها. وهما اللاعبان الأساسيان في دائرة الصراع السياسي، بمشروعين عنصريين إمبراطوريين، يلتقيان مرة ويفترقان أخرى، والضحية في كلتا الحالتين هي المواطن والوطن. ومما يكمل مشروع “الدولة داخل الدولة” أن الشيعة في لبنان – وغيرها أيضاً – يرتبط قرارهم الديني والسياسي بدولة خارجية هي إيران. إن مبدأ “ولاية الفقيه” ليس مبدأً دينياً محضاً، بل هو مبدأ سياسي بالدرجة الأولى، مؤطر بالتشريع الديني، يربط الشيعة أينما كانوا بـ”الولي الفقيه” أو “ولي أمر المسلمين” كما يطلق عليه عندهم. وهذا يرهن القرار السياسي والعسكري لشيعة لبنان بما يقرره “مرشد الثورة الإيرانية”، الذي هو خامنئي حالياً، والخميني سابقاً. وعليه فإن معركة “حزب الله” مع إسرائيل سنة 2006 مثلاً كانت بقرار إيراني، لا لبناني. فحسن نصر الله “الوكيل الشرعي” لـ”ولي أمر المسلمين” لم يرجع إلى الحكومة اللبنانية في اتخاذه قرار الحرب، وإنما كان قراراً اتخذه بموجب أمر إيراني اقتضته مصلحة إيران.

فكيف، والحالة هذه، يمكن لتهدئة أن تستمر، وتكون خطوة في طريق الحل؟!

لقد تم التوافق في قطر دون اتخاذ الخطوة المهمة، التي هي بمثابة نزع صاعق التفجير من العبـوة المتفجرة، إلا وهي تجريد مليشيا “حزب الله” من السلاح، وحصره بيد الدولة. لأن ذلك ليس من مصلحة الطرفين المتصارعين، ومعهما إسرائيل. ومن عرف سر بقاء “حزب الله” مسلحاً دون بقية الفرقاء، يفهم كلامي مباشرة. أما إيران فمعلومة مصلحتها في هذا. وأما أمريكا وإسرائيل فقد أبقت على السلاح بيد هذه المليشيا دون بقية الأطراف الأخرى، وفق اتفاق بين الفريقين تعهد بموجبه “حزب الله” بحماية أمن شمال كيان إسرائيل، ومنع أي شخص مقاوم فلسطينياً كان أم لبنانياً من عبور الحدود وتنفيذ عمليات عسكرية داخل الكيان. وقد وقع السيد حسن نصر الله في (27/4/1996) – ومن قبله في (تموز/1994) – مع إسرائيل ما اصطلح على تسميته بـ(تفاهمات نيسان)، الذي حظي بدعم إقليمي ودولي واسع. نص تفاهم نيسان على أن حكومتي إسرائيل ولبنان يكفلان ما يلي: أن يتوقف حزب الله والمنظمات المسلحة عن استهداف إسرائيل بالصواريخ مقابل توقف إسرائيل والمتعاونين معها عن استهداف المدنيين اللبنانيين. وأنه بدون خرق هذا التفاهم لا يوجد مانع لأي طرف من ممارسة حق الدفاع عن النفس، وأن يتم تشكيل مجموعة مراقبة دولية من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وسوريا ولبنان وإسرائيل، وأن التفاهم لحل الأزمة بين البلدين ليس بديلاً عن حل دائم[1]. ولست في صدد ذكر أدلة إثبات هذه الحقيقة. فهي ثابتة وعلى لسان الشيخ صبحي الطفيلي الأمين السابق لـ”حزب الله”، الذي صرح بها مرات على الملأ من خلال الفضائيات كالجزيرة وغيرها. أما ما يحدث من مناوشات بين الطرفين فهو تعبير عن تقاطعات مصالح آنية، تحدث طبيعياً بين الأخيار، فكيف بغيرهم؟!

ليس من مصلحة اللاعبين السياسيين الأساسيين إذن نزع سلاح “حزب الله”، إلا إذا حصل في المستقبل تغير سياسي استراتيجي جديد، يقوم على تبديل عناصر اللعبة، أو تغيير وسائلها المتبعة في هذه المرحلة.

لكل هذه الحيثيات وغيرها لا نرى في “اتفاق الدوحة” أملاً في حل نهائي للمشكلة المستعصية، ولا خطوة في الطريق إليه. إنما هو تهدئة لأزمة طارئة، ومخدر وقتي سرعان ما يزول تأثيره بعدما يفيق المريض ويعود إلى وعيه القديم.

___________________________________________________________________________________________

  1. 1- حزب الله من النصر إلى القصر، ص161.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى