مقالات

مصافحة ومصافحة

talbanibarak

مما يروى من طرائف ونكت شعبية عندنا في العراق، أن آمر وحدة عسكرية في إحدى جبهات القتال مع إيران، معروف عنه أنه لا يمكن أن تثيره أقوى الطرائف مدعاة للضحك، وأنه كانت ترصد مكافأة إجازة لمدة عشرة أيام لمن يستطيع إضحاكه. وفي أحد الأيام تجمع الجنود كلهم، فلم يتركوا طرفة مضحكة إلا وأوردوها، ولا نكتة إلا ورووها. كان فصلاً صاخباً من الضحك اشترك فيه الضباط والجنود جميعاً، إلا آمر الوحدة، الوحيد الذي ظل متماسكاً دون أن تثيره رواية واحدة من تلك الروايات المضحكة الكثيرة! وأخيراً قال أحد الجنود: “أكو (في) واحد صعد إلى السطح”. وكانت نكتة باردة، تبعها جندي آخر فقال: “سيدي أكو واحد صعد إلى السطح” فقال الآمر: “قالها صاحبك”! فأجابه الجندي: “لا سيدي هذا الواحد غير ذاك الواحد”. فتبسم الآمر، وكاد أن يكشر ضاحكاً. وهنا ضجت الوحدة العسكرية كلها بالضحك والتصفيق، وسجلت نقطة على الآمر، وفاز الجندي بالجائزة.

قبل أيام وخلال مؤتمر في اليونان صافح (الرئيس العراقي) جلال الطالباني وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، بوساطة من الرئيس الفلسطيني محمود عباس. والوساطات مع الإسرائيليين هذه الأيام كثيرة! منها – على سبيل المثال لا الحصر – وساطة الطيب رجب. ولا بأس فقد قيل: “عش رجباً تجد عجباً”!

وقامت قيامة الكثيرين مما حصل. ففي البرلمان العراقي طالب بعض الأعضاء جلال الطالباني إلى تقديم الاعتذار للشعب العراقي، أو تقديم الاستقالة جراء المصافحة. ووصفوا المصافحة مع باراك بإنها إهانة كبيرة للشعب العراقي، الذي يعتبر إسرائيل العدو اللدود للأمة العربية. قال أحدهم: “ان مصافحة طالباني مع باراك تعتبر إهانة وصفعة قوية للشعب العراقي؛ لأن العراقيين جميعا يعدون باراك مجرم حرب قاد جيش الاحتلال الصهيوني لإبادة شعبنا العربي في فلسطين. ودعا الشعب العراقي إلى القيام بمظاهرات احتجاجاً على المصافحة التي وصفها باللحظة الخطيرة والمؤسفة”. آخر: “لا نرضى بأن يكون شخص يدعي أنه رئيس للعراق ويصافح مجرما وعدوا لدودا للامة العربية مثل باراك”. وآخر: “إن المصافحة غير مقبولة. فمن المفترض بالرئيس أن يمثل السياسة العراقية مما يعني عدم الاعتراف بإسرائيل. وعليه أن يعتذر”. وآخر أيضاً: “إن المصافحة بين طالباني وباراك كشفت للكتلتين الكبيرتين الائتلاف والتوافق أن الاكراد ليس من مصلحتهم التوحد وأنهم يعملون لمصلحتهم الشخصية ليس الا. وأعتقد أنها جاءت بنتيجة ايجابية رغم الالم الذي يعتصر قلوبنا لحظة المصافحة المؤسفة من حيث انها عبرت عن نوايا الزعماء الاكراد سواء كانوا في الرئاسة او الحكومة أنهم بعيدون عن مصلحة وكرامة العراقيين”. وركزت وسائل الاعلام العراقية على لقطة المصافحة وهاجمتها واصفة ذلك بأنه استخفاف بمشاعر العراقيين. أما مكتب طالباني فقد أصدر بيانا ادعى فيه أن طالباني التقى باراك بصفته ممثلاً عن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وليس باعتباره رئيساً للعراق.

لقد قلت لك آنفاً: “عش رجباً تجد عجباً”؟! ولا يفوتنك أن تتذكر أنك الآن في شهر رجب! فلا عجب إذن! و…. لا عتب! لا على رجب ولا على غير رجب.

لسنا مع هذه المصافحة

لسنا مع هذه المصافحة. ونضم صوتنا إلى أصوات المنكرين، وإن اختلفت النوايا وتعددت القضايا. ولكننا لسنا مع غيرها أيضاً مما لا يختلف عنها في المضمون والمضموم.

لماذا هذا الإنكار والاستنكار؟ أليس لأن إيهود باراك يمثل كياناً غاصباً مغتصباً لأرض غير أرضه، وقتل شعباً آمناً وشرده. هل نحن متفقون على أن هذه هي العلة؟ البعض يتوهم أن السبب كون اليهود يهوداً. وأريحه من البداية فأقول: الإسلام لا يقتل الناس أو يعاديهم بناء على أديانهم، فاليهود والنصارى والصابئة والمجوس – وهم غير مسلمين – لهم حق الحياة في ظل دولة الإسلام، والله تعالى يقول: (لا إِكراهَ في الدينِ) (البقرة:256). وهذا أمر اتفقت عليه قوانين البشر أيضاً. إنما يقتل المرء أو يقاتل على موقفه حين يرتكب ما يستحق عليه ذلك سواء كان مسلماً أم كافراً. فالإنكار على مصافحة هذا وذاك قائم على العلة التي ذكرتها، وليس على غيرها لا الدين ولا سواه. إذا اتفقنا على هذا أقول:

malkinajad(1)

ما الفرق بين مصافحة جلال لباراك ومصافحته وغيره لجورج بوش محتل العراق، وقاتل شعبه ومشرده من أرضه؟ وما الفرق بين هذه المصافحة ومصافحة نوري المالكي لمحمود نجاد الذي تغتصب دولته قطراً عربياً هو الأحواز قبل اغتصاب فلسطين من قبَل اليهود بربع قرن؟! ودعك من احتلالها للجزر العربية في الخليج، واحتلالها العراق، ومساعدتها الأمريكان في ذلك، وتسخيرها كل طاقاتها لقتل شعبه وتشريده من أرضه! وما الفرق بين يد باراك ويد خامنئي التي طالما صافحها أعضاء مجلس النواب هؤلاء أنفسهم الذين ينكرون ويستنكرون؟! والتي صافحها رمضان شلح، وصافحها وأهوى عليها مقبلاً متمسحاً خالد مشعل، وكل الذين شلحوا ثيابهم بلا حياء، وأشعلوا مع الفرس نيرانهم ورفعوا أعلامهم الخضراء والصفراء؟!

أما أنا فلا أرى فرقاً بين اليدين القذرتين، ولا المصافحتين البائستين (من البؤس والبوس)، سوى أن العقلية الجمعية العربية – بسبب الضخ المتكرر ضد اليهود، وحرمة الصلح معهم، وعدم جواز مصافحتهم – صارت تختزن باللاوعي الجمعي كمية كبيرة من ردة الفعل الأولي، تقفز تلقائياً إلى الوعي بمجرد أن تستثار ضد هذا الفعل دون غيره مما يماثله؛ لا لشيء إلا لأن هذا الفعل الثاني لم يسلط عليه الإعلام ثقله، ولم تكرر عليه الآلة المضادة ما يكفي من الضخ كي يكتسب قوة الاستجابة نفسها التي اكتسبها الفعل المثير الأول.

ومن كان يرى أن “هذا الواحد غير ذاك الواحد” فليتصل بي. وأنا ضامن له مكافئةً إجازةً لعقله من الدوام عشرة أعوام، قابلة للتجديد.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى