مقالات

فلا نامت أعين الخطباء (3)

الهزيمة النفسية

اشتهرت إيران قبل الإسلام وبعده بالحقد وصفة الثأرية والانتقام ممن يعاديها، لا سيما العرب منهم، والعراقيون على وجه أخص. والعجمي لا ينسى ثأره، ولا يذهب حقده، ولا ينتهي انتقامه عند حد. وهذا ولّد عند العرب عقدة (فوبيا)، أو (رُهاب) من العجم. حتى إن الصحابة – على جلالة قدرهم، وشجاعة نفوسهم – كانوا يكرهون مقاتلة الفرس، ويتثاقلون من التوجه في جهادهم إلى جهة الشرق، بينما هم يتسابقون إلى قتال الروم، ويسارعون إلى الهجوم على جهة الغرب. وهذا أحد الأسباب في كثرة استعمال مصطلح (الغزو الغربي) على لسان المتأخرين، بينما ينعدم لديهم مصطلح (الغزو الشرقي) حتى من العراقيين والخليجيين، الذين هم على احتكاك مستمر بالعجم ومكائدهم، والتعرض لاعتداءاتهم وغزوهم الفكري والعسكري! يتطير جمهور العراقيين مثلاً من التعرض علناً لإيران وعملائها بسوء، بل هم يتلذذون بالتقرب إليها. بينما تجدهم يسارعون إلى التنديد بأمريكا وأوربا والغرب عموماً. وقد عانينا ما عانينا منهم بسبب مخالفتنا لهم. ولولا ما حصل مما حصل أخيراً في العراق لما تجرأ أحد على التحذير من إيران، ومن حذر فإنما جاء تحذيره متأخراً جداً.

وقعت كارثة الاحتلال فشبعت – وما شبعت – إيران من الانتقام من العراقيين، وشكلت فرقاً للموت والقتل والخطف والتعذيب والتهجير، وغيره من وسائل التنفيس عن الحقد، واندفعت بفيالق رجالها ومخابراتها، وزجت بعملائها وأحزابها، ودفعت بمراجعها وكلابها، وجميع المرتبطين بها إلى غايتها من الانتقام والأخذ بالثأر. وصارت تسيطر على دول وأحزاب ومؤسسات سنية: مدنية وعسكرية، تستعمل تأثيرها المادي والمعنوي لتطويعها في مشروعها المؤسس على تلك النزوات النفسية المتخلفة. إن هذا عزز من عقدة (الفوبيا) عند الكثيرين، الذين هم من الأصل مصابون بها، ويتصرفون بمقتضاها.

ولما كان الشيعة يشكلون نسبة كبيرة من سكان العراق، وقد ظهر لكل ناظر ما فعله جمهورهم بالمخالفين لهم من أهل السنة، فإن الفئة المصابة بـ(الفوبيا) من السنة – وهم كثر – صارت تسارع في البحث عن وسائل ترضية وتقرب من الشيعة، زيادةً على ما كانت تجده من قبل، ولم تجده قد أجدى. بالإضافة إلى ما هو معد وجاهز منها.

من شواهد ( الفوبيا )

قبل الاحتلال بسنين بنى أهل السنة مدرسة دينية في قضاء (المسيب) ذي الغالبية الشيعية، والقريب من كربلاء، تقع على التقاطع بين الطريق العام والطريق المؤدي إلى ناحية (جرف الصخر) السنية. سميت المدرسة باسم (مدرسة الإمام الشافعي)، ونصب لها على الشارع العام شاخص أو (قطعة) بهذا الاسم. ولكن بعد مدة قليلة – ولا أدري بتأثير أي مهزوم (ترضوي)؟ – غير الاسم إلى (مدرسة الإمام الحسن)!

وازدادت هذه الظاهرة بعد الاحتلال، وتسابق أهل السنة على تأسيس مدارس دينية بأسماء شيعية، بحجة أنها من (أهل البيت)، و(أهل البيت) معتبرون عندنا. والله يعلم أن السبب ليس هذا، ولو كان لهانت المصيبة. إنما السبب هو (الهزيمة النفسية) جراء (الفوبيا) القديمة، التي تضخمت عندهم بعد الحدث. حتى إن مدير المدارس الدينية في دائرة الوقف السني ما ذهب إليه أحد لغرض فتح مدرسة دينية، إلا واقترح عليه اسماً من هذا الجنس، بعيداً عن أي اسم يزعج الشيعة من قريب أو بعيد. وإذا اختار اسماً لصحابي فيختاره من الأسماء المقبولة عندهم، مثل (جعفر، وعلي، والحسين، وفاطمة، وعقيل). إلا أن البعض كان ينتبه إلى هذه المفارقة فيرفض، كما حدثني أحد المشايخ في ناحية (الاسكندرية) التابعة لمحافظة بابل أن المدير المذكور اقترح عليه تأسيس مدرسة في الناحية باسم (مدرسة الإمام محمد الباقر)! فرفض المقترح وبين له أسباب الرفض، التي لم يقتنع بها. بينما سألت شيخاً آخر في قرية (العدوانية) التابعة لناحية (الرشيد) جنوبي العاصمة بغداد: “لماذا أسميتم مدرستكم باسم (عمار بن ياسر)”؟ فكان جوابه: “وماذا في ذلك؟ أليس عمار صحابياً”؟ حاولت أن أشرح له وجهة نظري بأن لجوءنا إلى الأسماء المشتركة نوع من الضعف نهرب إليه من أجل ترضية الشيعة، في زمن نحن أحوج ما نحتاج فيه إلى المفاصلة، وإبراز عناويننا الخاصة، ووضع الحدود الفاصلة بين أهل السنة والشيعة. أهل السنة الذين يراد تذويب هويتهم، وطمس معالم وجودهم، وإخفاء رموزهم إلى حد أن أبناءهم يقتلون على الأسماء الدالة كعمر وعثمان وسفيان وعائشة وحفصة، وعلى الأشكال والشارات المميزة كالغترة والعقال والعمامة. فإذا استجبنا نحن القادة والقدوات والمبرزون في المجتمع لذلك، ورآنا العامة كانت استجابتهم أسرع، وطمس هويتهم أشد، وذوبانهم أكبر. وما بعدها إلا التشيع. الزمن إذن زمن المفاصلة والتميز وإبراز الهوية لنحمي أنفسنا من الذوبان. وليس زمن البحث عن نقاط التقاء ووسائل قربى. وإلا ضعنا وضاع من وراءنا.

كنت أحاول عبثاً؛ لأن الأسباب نفسية، وليست علمية. فلجأت إلى وسيلة أخرى. قلت له: “أسألك بالله أن تجيبني بما في نفسك بصدق: هل اخترتم للمدرسة اسم الصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنه لأنه صحابي؟ أم لأنه اسم مقبول عند الشيعة”؟ فضحك الشيخ هنا، ولم يجد بداً من الإقرار بالحقيقة المرة. وللسبب نفسه تأسست (مدرسة عقيل بن أبي طالب الدينية) في مدينة الرحالية التابعة للأنبار، لكنها قريبة من كربلاء. وفي مدينة الرمادي نفسها، وغيرها من أقضية الأنبار أسست مدارس دينية بأسماء مشابهة. وليس اعتراضي على أن نسمي مدرسة أو مسجداً أو مؤسسة باسم سيدنا علي أو الحسن أو الحسين أو عقيل أو فاطمة رضي الله عنهم أجمعين، وإنما الاعتراض على الإسراف في ذلك إلى درجة بحيث لا يمكن أن يفسر بالحب وحده، بينما المسجد الوحيد في الرمادي باسم (معاوية بن أبي سفيان) رضي الله عنهما، رفعت منه القطعة المكتوب عليها اسمه من واجهته منذ سنة (2005)! فظل هكذا إلى اليوم بلا اسم ولا هوية!

في المقابل لم نجد الشيعة أبداً سموا مسجداً لهم أو مدرسة دينية أو مؤسسة باسم أحد من الرموز التي نحبها، حتى وهم يبنونها في مناطقنا السنية. لن تجد على واجهاتها سوى اسم (المهدي المنتظر، أمير المؤمنين، الزهراء، الصادق، الباقر، الجواد…إلخ). في الوقت الذي لم يجرؤ أهل السنة في مناطق الشيعة أن يسموا مساجدهم بغير هذه الأسماء، إلا ما ندر لأسباب خاصة. ففي الحلة (بابل) مثلاً بنيت في التسعينات عدة مساجد: في حي المهندسين مسجد (زين العابدين)، وقد بقيت فيه قرابة السنتين، ثم انتقلت منه إلى مسجد (أهل البيت) في قرية (البو علوان) في قضاء المحاويل المجاور، وفي القرية بني مسجد (الكوثر)، وهو اسم شيعي يقصدون به السيدة فاطمة رضي الله عنها، على اعتبار أنها (الكوثر) الذي ذكره الله تعالى في السورة المعروفة به. وفي مركز قضاء (المحاويل) على الشارع العام بني مسجد (الإمام علي بن أبي طالب). والاسم نفسه حمله مسجد بني في حي (الإمام) في الحلة. وفي حي (البكرلي) القريب بني مسجد (عمار بن ياسر). ومسجد آخر في ناحية (أبي غرق) بالاسم نفسه. وفي ناحية (المدحتية) كان مسجد (الحمزة الغربي). وهكذا..!

وهذه كلها في الحلة.

وليس في المناطق ذات الغالبية الشيعية فيها كلها مسجد واحد يحمل اسم (عمر أو عثمان أو أبي بكر)، سوى مسجد (الفاروق) في حي (الإسكان) في (الاسكندرية)، وهو اسم غير صريح، ويكاد أن يكون مشتركاً؛ فالشيعة يطلقون لقب (الفاروق) على سيدنا علي، ويسمونه (الفاروق الأكبر). ومن شواهد ذلك حسينية قبيل سيطرة التفتيش على مشارف قضاء (المسيب) إلى يسار الشارع العام بالنسبة للذاهب إلى القضاء، كانت تحمل اسم (حسينية الفاروق). كما أن المسجد يقع في محيط سني كبير. وبني قبل حوالي (30) سنة، في زمن لم يكن يخشى فيه من ردود فعل طائفية. وثمة مسجد في مجاهل القرى والأرياف البعيدة عن العمران في ناحية (جبلة) التابعة لـ(المحاويل)، تسمى قرية (البكر) تيمناً باسم الرئيس العراقي (أحمد حسن البكر)، سمي المسجد أولاً بـ(مسجد البكر)، ثم ارتأى رئيس لجنة التوعية (سني) أن يحرف الاسم قليلاً فيجعله (مسجد أبي بكر). وبقي اسماً في السجلات الرسمية فقط. ولا أدري هل غيرت واجهة المسجد له أم لا؟ علماً أن الناحية لا يمكن اعتبارها من المناطق التي يغلب عليها التشيع، بل يكاد التسنن يغلب عليها، إن لم يكن هو الغالب حقاً.

ملاحظة/ استشهدت بهذين المثالين (الفاروق وأبو بكر) حتى يقاس عليهما ما قد يصدف من حالات مشابهة ربما فاتني تذكرها، مما قد تشكل على القارئ فلا يمكنه التوفيق بينها وبين كلامي السابق.

 

العلة قديمة جديدة

إن آثار هذا التقهقر، وهذه الهزيمة النفسية، وشواهدها قديمة في الثقافة السنية. وقد تسللت إلى كتب الحديث والتفسير والتأريخ واللغة والأدب، وتسلقت كراسي المحاضر وأعواد المنابر. ولن تجد كتاباً واحداً سالماً من لوثة لها صغيرة أو كبيرة، سوى القرآن الكريم. ولم تزدها الأيام إلا زيادة ورسوخاً. هل تجد لتخصيص فاطمة رضي الله عنها بالذكر في مقدمة خطبة الجمعة دون بقية بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأبنائه من سبب غير ما ذكرت؟ وإذا كانت فاطمة هي الأفضل من بينهم، فإن الأفضلية لا تستلزم إهمال ذكر المفضول إلى حد العدم. هل سمعت خطيباً يترضى في مقدمة خطبته عن (زينب أو رقية أو أم كلثوم)، وهن بنات النبي، ولهن من المنزلة ما لهن؟! وهل سمعت أحداً منهم يذكر في تلك المقدمة (القاسم أو عبد الله أو إبراهيم)، وهم فلذات كبد الرسول صلى الله عليه وسلم؟! انظر كيف أقام الشيعة الدنيا ولم يقعدوها بشأن (عبد الله الرضيع) ابن الحسين، الذي ربما هو مجرد أسطورة اختلقتها العقلية الشيعية المحشوة بالخرافات والأساطير. والجنين محسن، الذي يدّعون أنه أسقط من بطن أمه بسبب الباب الذي أطبقه عمر بن الخطاب على السيدة فاطمة رضي الله عنهما. والقصة كلها مختلقة ملفقة، على رغم أن اسم (محسن) تسلل إلى بعض الكتب السنية الترضوية؟!

وخذ مثالاً على ذلك أيضاً إطلاق لقب (الإمام) على سيدنا علي دون بقية الخلفاء، وتخصيصه بلازمة (كرم الله وجهه) مع أن أبا بكر لم يسجد لصنم، ولا عائشة أم المؤمنين، ولا كل الذين ولدوا في الإسلام من الصحابة. بل ربما ألحقوا به (عليه السلام) دون الآخرين من أقرانه وممن هو خير منه من الصحابة.

ازداد التقهقر، واشتدت الهزيمة النفسية عند الكثيرين منا بعد الاحتلال، وتعددت ألوانها، ومن ذلك التسابق على تبديل الألقاب، فهذا صار (حسيني)، وذاك (حسني)، وآخر (كاظمي)، ورابع (موسوي) وهكذا… بعد أن لم يكن يعرف بذلك من قبل.

لك أن تلمس آثار الضغط المسلط، وأنه السبب في ظهور تلك العلامات للهزيمة النفسية في العراق، بالمقارنة مع الخطباء والمتحدثين في الدول الأخرى التي لا يعاني أهل السنة فيها من ضغط شيعي مماثل، كالأردن وسوريا، وعدم ظهور مثلها على ألسنتهم.

فلا نامت أعين الخطباء

في السنين الأخيرة لحكم الرئيس صدام حسين شكلت لجان رسمية للتحقيق في أنساب المنتمين إلى الشجرة العلوية. وأثناء البحث والتحقيق، تبين زيف ادعاء كثير من العشائر. وتبين كذلك أن بعض القبائل التي لم تكن تعرف نسبتها إلى تلك الشجرة أنها منها، فأضيفت إليها. ومنها عشيرة (الحلابسة) الدليمية التي أنتمي إليها. ضحكت يوم أن سمعت أننا ننتهي بنسبنا إلى سيدنا (الحسين)، وقلت يومها: “ذلك نسب لم يكن ينقصني، ولا أراه يزيدني”. أما أبي الرجل المسن في عمره، البسيط في تفكيره، العشائري في ثقافته، فما إن سمع بها حتى طار لها فرحاً، وسارع إلى (نقابة الأشراف) في بغداد، ليثبت اسمه في سجلاتها، ويفوز بـ(هويتها). لم يدر رحمه الله أنه من هنا كان يخطو الخطوة الأولى إلى حتفه، الذي قادته إليه تلك (الهوية) ليقتل على يد تنظيم (القاعدة) في يوم (14/8/2007). ولم نجد في مكانه الذي ألقي فيه بعد مقتله غير هويته تلك، ونعليه، وخطوط من دماء صبغت المكان شاهداً على زمن صار الناس تقتل فيه على الألقاب والأنساب، والأسماء والصفات. أما جثته فلا شك أنها نقلت إلى كربلاء، ودفنت هناك – كغيرها من عشرات الآلاف من الجثث – على أنها جثة شيعي مجهول الهوية، وليست لسني منزوع الهوية.

… فلا نامت أعين الخطباء!

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى