إشكالية التوفيق .. بين الاحتكام للشريعة وتحكيم المصلحة عند ( الإسلاميين )
اشتهرت الحركة الإسلامية المعاصرة بمفارقتها للحركات العلمانية في مسألة أصولية عظيمة هي التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، وهو ما أطلق عليه (الإخوان المسلمون) مصطلح (الحاكمية). هذه هي نقطة الافتراق الأساسية التي تفصل بين الفريقين، وما عداها فتفريع عن هذا الأساس. فبينما يدعو الإسلاميون إلى مبدأ الحاكمية ووجوب التحاكم إلى الشريعة، يدعي العلمانيون أن الشريعة الإسلامية غير قادرة على مواكبة مستجدات الحياة بأحكام وضعت لعلاج أوضاع لم تعد موجودة في المجتمعات الحديثة. فالدين عندهم عبادة لا شريعة. ويديرون ظواهر الحياة بما تراه عقولهم وترجحه من مصلحة خارج دائرة الأحكام الشرعية على اختلاف أدلتها المعروفة لدى أصحاب الشأن.
ولكن ما إن دخل الإسلاميون معترك السياسة بعد احتلال بغداد – وكلامي هنا خاص بالتجربة العراقية – سواء منهم من دخل العملية السياسية، أو من قاطعها: حتى رأينا سيلاً من القرارات والمواقف والأحكام تتخذ في خلاف الحكم الشرعي، أي في خلاف الشريعة ومبدأ الحاكمية! وعندما نسألهم عن هذه المفارقة، فإما يتحاشون الجواب، وإما يتعللون بالمصلحة. كنا في بداية الأمر نعرف وننكر، ونتأول ونتعلل، لكننا وجدناهم في نهاية المطاف قد توسعوا في ذلك توسعاً ما عدنا نميز معه بينهم وبين العلمانيين بشيء، سوى أن هؤلاء كانوا منطقيين مع أنفسهم، وصرحاء مع قومهم، فقالوها بوضوح: لا سياسة في الدين، وأولئك لاذوا وراء غطاء ديني هو (المصلحة) يعطلون بها أحكام الشريعة، فقالوها بلسان حالهم: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وأثبتوا ذلك بالفعل؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال. ولم نجد لهؤلاء وهؤلاء مثلاً أوضح ممن يستحل الزنا تحت غطاء (شرعي) هو المتعة، وآخر شجاع صريح يأتيه باسمه ويستحله برسمه.
بلا ضوابط
الحقيقة أننا في بلبلة من أمرنا؛ فأصحابنا لم يذكروا لنا الضوابط الشرعية التي تحدد اختيارهم في الحالتين. فهل يعقل أن الله تعالى الذي أنزل في كتابه يقول: (: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً – إلى قوله – فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:59-65). ويقول: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثـية:18،19). ويقول: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63). ويقول سبحانه ويقول.. ويقول… في عشرات ومئات من الآيات التي تؤكد عظمة الالتزام بأحكام الشريعة، وعدم جواز مخالفتها تحت أي ذريعة. قال ابن كثير: (ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً) أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك, وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق, أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة, كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله: (فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ـ إلى قوله ـ فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)إ.هـ : هل يعقل أن هذا كله يمسح ببضعة حروف من وضع البشر اسمها (المصلحة)، وتعطل تلك الأحكام الثقيلة دون ضابط واضح يضع المسلم به يده على الاختيار الصحيح دون شعور بالحرج، وتخوف من الإثم. ثم إننا نعلم أن اللجوء إلى (المصلحة) رخصة في ظروف استثنائية خاصة، والأصل في الرخصة أنها عارضة، وليست دائمة، إنما الدوام لأحكام العزيمة، وهي الأحكام الشرعية الأصلية دون تعلقها بالعوارض الطارئة. ثم هل يعقل أن شرع الله تعالى مخصص بأوقات اليسر، دون أوقات العسر؟ وأننا في هذه الأوقات نلجأ إلى عقولنا ونعطل أحكام شرعنا؟
المفارقة الأخرى هي أن المتأخرين من الإسلاميين لا زالوا – حين يريدون الإنكار على خصومهم من العلمانيين وغيرهم فيما بينهم – يلجأون إلى موضوع الشريعة وكون الآخر مخالفاً لها! فما عدنا نفهم متى يجوز مخالفة الشريعة إيثاراً للمصلحة؟ ومتى لا يجوز؟! أم إن المخالفة تجوز للإسلاميين دون العلمانيين؟ مع أنهم أولى بالالتزام بها كما تقضي القاعدة. أم ذلك يجوز لقوم دون قوم؟
مع بيان هيئة علماء المسلمين عن الاتفاقية مع أمريكا
تواردت هذه الخواطر والتداعيات على ذهني وأنا أستمع إلى بيان هيئة علماء المسلمين في (13/10/2008) عن (الحكم الشرعي في الاتفاقية المزمع عقدها بين الحكومة الحالية وبين إدارة الاحتلال الأمريكي). علماً أنني لست في معرض الحديث عن هذه الاتفاقية الجائرة، ولا في صدد مناقشة الحكم النهائي الذي خرجت به الهيئة، وإنما أنا في دائرة محاولة الخروج من الحيرة التي يسببها التناقض في كيفية اختيار الحكم أو طريقة استنباطه والاستدلال عليه في المسائل المعروضة عليها طيلة الفترة المنصرمة، التي كنا نرى ونراقب كيفية صدور الأحكام، ليس من قبل الهيئة فقط، وإنما من قبل جميع الذين خاضوا في السياسة إيجاباً وسلباً.
جاء في ثنايا البيان: (إن هذه الأحلاف إذا تمت بين طرفين احدهما مسلم والآخر غير مسلم، فهي باطلة من أساسها؛ ولا تنعقد شرعا وليس لأحد أن يلزم بها الأمة ولا تلتزم بها حتى ولو عقدها أمير المؤمنين). وعللت هذا الحكم بقولها: (لأنها تخالف الشرع). فعلة التحريم إذن هي (مخالفة الشرع). واستدلت على هذه المخالفة بآيات وأحاديث عديدة منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118)، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (ارجع فلن أستعين بمشرك) رواه مسلم.
لكننا وجدنا الهيئة تقع في العلة المذكورة نفسها في كثير من المسائل التي تقررها، والمواقف التي تتخذها. وحين نواجههم بالنصوص الشرعية يتعللون بالمصلحة والمصلحة الوطنية. وهنا يبرز أمامنا سؤال كبير وخطير:
- فلو احتجت الحكومة الحالية في العراق بالحجة نفسها على جواز توقيعها الاتفاقية بينها وبين أمريكا، وقال رئيسها نوري المالكي: نظرنا فوجدنا المصلحة الوطنية تحتم علينا توقيعها، فما هو جوابنا؟ وكيف نرد عليه؟
- سيما وأن المالكي مرجعياً غير ملزم بما يصدره أهل السنة من فتاوى.
- بل وفوق ذلك أن السيستاني مرجع المالكي أفتى بجواز توقيعها..!!!
- والهيئة تعترف بما يسمى بـ(المذهب الجعفري)، وتعتبر احتكام الشيعي إليه مشروعاً ومبرئاً للذمة. وهذا ما عليه الإخوان المسلمون والدائرون في فلكهم من الأحزاب الإسلامية.
- وللهيئة علاقات تعاون أو استعانة بأطراف مقطوع بكفرها مثل المسيحي ميناس اليوسفي رئيس الحزب الديمقراطي المسيحي في الموصل، واليزيدي (عابد الشيطان) أنور معاوية.
- وأما آية (آل عمران) موضع الشاهد سلفاً، فهي في مورد المنافقين أكثر منها في مورد الكافرين، وإن كان يجوز الاستدلال بعمومها على المعنى الثاني، وبكلا المعنيين قال المفسرون. لكن أصل ورودها في المعنى الأول، والسياق يدل عليه؛ فالآية التي بعدها تقول: (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:119) وهذا شأن المنافقين لا الكافرين؛ فإن هؤلاء يعلنون أمام الجميع بعدم إيمانهم، ولا يقولون – إذا لقوا المؤمنين: “آمنا” حتى إذا خلوا صرحوا بمكنون أنفسهم من الكفر.
- وقد وجدنا الهيئة – وغيرها من (الإسلاميين) – أقامت أحسن العلاقات مع مقتدى الصدر وأتباعه. ولن تجد في هذا العصر جماعة كمقتدى وجماعته تنطبق عليهم هاتان الآيتان والآية التي بعدهما: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:120). وليس مقتدى وأمثاله ممن يمكن حسابهم على دائرة الجهلة أو العوام حتى يمكن الاعتذار بالجهل لكفرياتهم المخرجة من الملة بإجماع علماء الأمة، على رأي من يرى العذر بالجهل مانعاً من انطباق الحكم. بل هو من رؤوس الكفر وعتاة المجرمين.
- وقبل أيام قليلة (14/10) ظهر جواد الخالصي – كما أخبرني أحد المتابعين – على قناة الرافدين التابعة لهيئة علماء المسلمين يقول: “إن عبد الهادي الدراجي كان يحضر جميع اجتماعات الأمانة العامة للهيئة”. وكانت تعقد أسبوعياً. ومن المعلوم أن هذا المنافق الكبير والمجرم الخطير كان يرأس المحكمة الصدرية التي تفتي بقتل أهل السنة في الرصافة من بغداد. وكان يسكن في البيت الملحق بأحد المساجد السنية المغتصبة، وقد حول المسجد إلى حسينية ضرار وقتل وتفريق بين المؤمنين وإرصاد لمن حارب الله ورسوله من قبل!!! واعتقلته القوات الأمريكية في ديسمبر/2006 على خلفية هذه الحيثيات، ولا زال معتقلاً لديها. فكيف يتخذ أمثال هؤلاء بطانة؟! على أي أساس شرعي؟ من نص أو قياس سوى القول بالمصلحة المطلقة عن أي قيد من الشرع!
مخالفات شرعية ومصالح وهمية
أكتفي بهذا القدر من التساؤلات، وقد أغضيت عن الكثير من المواقف والأحكام التي اتخذت في مخالفة الشرع، وتركت التعليق على العديد من النصوص الشرعية آيات وأحاديث التي وردت في البيان عطلتها الهيئة بحجة (المصلحة). والعجيب أن المصالح المدعاة في غالبها موهومة:
- فما المصلحة التي تحققت من وراء العلاقة مع مقتدى وتياره وجيشه؟ سوى تخدير أهل السنة وتغريرهم في الداخل والخارج، في وقت نحن أحوج فيه ما نكون إلى وعيهم ويقظتهم وتحفزهم. وسوى إعطاء الفرصة للشيعة أن يسرقوا جهادنا، بعد أن سرقوا وطننا ودماءنا؟!
- وماذا يستفيد المسلمون من علاقة الهيئة مع شخصيات لا وزن لها خارج نطاق جبتها، مثل جواد الخالصي والبغدادي، ممن وصفهم شاهد منهم وشعوبي مثلهم هو حسن سلمان قبل أيام على قناة الجزيرة وهو يرد على الدكتور مثنى حارث الضاري قائلاً: “هذه شخصيات إنترنيتية”.
- ولقد صلت الهيئة ممثلة بالشيخ عبد السلام الكبيسي والدكتور عصام الراوي رحمه الله وغيرهما مع ممثلي جيش المهدي في جامع أبي حنيفة، وأعلنوا أنهم يد واحدة وهم يرفعون عالياً أيديهم المتشابكة، كان ذلك يوم (22/2/2006) يوم تفجير مرقد سامراء، فماذا أغنى عنا هذا الترقيع في خلاف قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:114). ولقد وقع الخزي لهم بعد ذلك، ولكن ليس على يد الهيئة ولا يد (الإسلاميين) الآخرين، وإنما على يد نوري المالكي والأمريكان! (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251).
- وجلسوا جميعاً بعد ذلك بأشهر في ليلة القدر من سنة (1427) وفي مكة مع الجزار جلال الصغير وأمثاله من السفاحين الحاقدين، ووقعوا وثيقة تحرم دم المسلمين. فماذا جلبت لنا الوثيقة غير مزيد من القتل والتهجير والتدمير. فأين المصلحة المدعاة، وفي مخالفة الشرع؟! فلا مصلحة حققوا.. ولا شرع حفظوا..!
أجيبونا يرحمكم الله
راجين من الهيئة الموقرة أن تجيبنا على تساؤلاتنا، بما يخرجنا من حيرتنا، ويطمئن أفئدتنا. وأعتقد أن هذا من حقنا عليها كهيئة شرعية. فنرجو أن تجيبنا مشكورة الجواب الشافي عن هذا الأمر العظيم؛ فهو ليس خاصاً بنا، وإنما هو قضية عظيمة وأمانة ثقيلة، حصل فيها اللبس والتغرير لجمهور المسلمين، فتوجب على ذوي العلم أن يقولوا كلمة الفصل فيه، وبيان الحق بشأنه؛ فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ونأمل أن لا تهمل حقنا هذه المرة كما حصل في مرة سابقة في رسالتنا المفتوحة إليها، وتركت الأمر لصبية مراهقين يردون علينا ردوداً متشنجة، كأنهم فهموا منا أننا لسنا ممن يريد بقوله البيان والإصلاح. أو أن لنا أغراضاً غير مشروعة، أو ليس من حق أحد أن يوجه سؤالاً أو اعتراضاً أو نقداً لها أو لغيرها، وما دروا أن العصمة ليست لأحد أو جهة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن من مصلحة كل فرد أو جماعة أن تشرح صدرها لأمثال هذه التفاعلات والتساؤلات، أو حتى الانتقادات والاعتراضات، فبذلك وحده يحصل الاستيعاب الذي هو شرط أصيل من شروط القيادة، وتجتمع القلوب، ويلتئم الشمل. وإلا كثرت القالة ونبت الورم ومرضت النفوس وتقوقع كل على نفسه وأشباهه.. وفرحت شياطين الأنس والجن.
قد يقول قائل: لماذا يكون التساؤل علناً؟ ولا يكون سراً بينك وبين المعنيين بالأمر؟ وأقول: وما الضير في ذلك؟ ولماذا نخشى مناقشة مثل هذه الأمور في العلن؟ هل هي عورات فتستر؟ أم نقائص فتطوى؟ أم شتائم فلا تليق؟ أم نصيحة فتخفى؟ ليست هي هذا كله، ولا سواه مما يصلح الاعتراض عليه. وليس بيننا وبين إخواننا من جميع الاتجاهات من مشكلة شخصية أو قطيعة لا سمح الله، بل العلاقة جيدة، والزيارة متواصلة وإن كانت من جانب واحد! والتناصح متبادل. وقد نصحت واعترضت وبينت مباشرة في السر وعلى الملأ ضمن الأصول والأداب الشرعية. ثم إن هذا الأمر – وهو عظيم! – غير مختص بفرد، أو مقتصر أثره على جماعة بعينها. ولا هو مما يجري في السر فيناقش في السر. ولم نجد – ما علمنا – من تصدى للبيان أو الاعتراض إلا القليل، ففعلنا ما فعلنا في ظلال الأخوة، أداء للأمانة، وبياناً للأمة. معتقدين أن مصيبة الأمة في مفاهيمها ودينها أكبر من مصيبتها في مالها ونفسها ووطنها. وإن حصل شيء من حرارة الاحتكاك فبسبب طبيعة الحال وانعكاس الظرف، وهو مما ينبغي احتماله بين أصحاب القضية ما داموا يريدون مواصلة السير معاً باتجاه الهدف؛ فلسنا في نزهة سياحية، ولا أمسية شعرية. ولا نحن في مجلس مديح، أو ديوان صلح عشائري تنثر فيه الورود تطييباً للخواطر، وتكبيراً للرؤوس.
الأمر أكبر من هذا. ولتعلمن نبأه بعد حين بإذن الله رب العالمين.