مقالات

أمة النصيحة .. وتخلف ثقافة النقد

mantiq

قبل شهر ونيف قرأت كتاب الأستاذ محمد أحمد الراشد (نقض المنطق السلمي) عن تجربة العمل السياسي (الإسلامي) في العراق بعد الاحتلال. وأنا أقرأ تجمعت لدي ملاحظات كثيرة، سجلتها في صحيفة على حدة. وبعد الانتهاء من الكتاب بأيام شرعت أكتب في ضوء تلك الملاحظات وما استجد لدي – أثناء الكتابة والتأمل ونقاش الآخرين – من أفكار. لكنني بعد قليل وجدت الأمر أكبر من أن تتسع له مقالة أو مقالتان. إنه يحتاج إلى سلسلة مقالات ربما وصلت حجم الكتاب. قلت – وأنا أكتب – مع نفسي: اللهم أعني على ما سألقى من طعون واتهامات، ونبش في النوايا والمقاصد، ووصف بالنكران والجحود. كنت أسترجع في ذاكرتي تلك الردود التي تلقيتها على بعض المقالات التي كتبتها في إطار بيان مراجعات فكرية مهمة، لم أُرِد لها أن تظل حبيسة ذهني، قادتني إليها تأملات عميقة في مسيرة العمل الإسلامي، سرّع من تنضيجها الصدمات القوية التي تعرضنا إليها بعد الاحتلال.

لكن..

قبل أيام كنت في زيارة لموقع (إسلام أونلاين) لأطلع على الردود التي كتبت على مقالة لأحد أعضاء أسرة الموقع، الصحفي (علي عبد العال) عن الكتاب، أخبرني عنها أحد الأصدقاء.

ألفيت الردود يغلب عليها التشنج وضيق الصدر، والاتهام والاتهام المتبادل. أما المنصف وغير المنحاز منها فقليل. وحسب رأيي فإن الحقيقة ظلت غائبة. ذهلت مما قرأت! وصدمت من كثرة الردود التي تجاوزت دائرة الأدب، وحد الشرع، وأساءت إلى المنهج العلمي، ودخلت في الظنون الآثمة، ولم ترع حق شيخ على تلاميذه. ولا حق سابق في العمل لجماعة ينتمون هم إليها أعطى من عمره لها قبل أكثرهم – ربما – بعشرات السنين، وبسبب من هذا الانتماء والعمل حكم عليه بالإعدام، وتشرد في ديار الغربة ثلاثين سنة، ثم عاد بعد الاحتلال وقد قارب السبعين، مختاراً العيش مع أصحابه في أتون المحنة على رغد العيش في الخارج.

لا يجنحنَّ بك الخيال بعيداً فتتوهم أني أتحدث عن الردود الصادرة ممن هم خارج صف (الحزب الإسلامي العراقي) – والتمييز بين الفريقين سهل ميسور من خلال العبارات- لا أبداً..! إن حديثي محدد بالمناصرين للحزب المذكور! وهو الحزب الذي ينتمي إليه الراشد منذ تأسيسه، وإلى الجماعة التي انبثق عنها قبل أن يولد الحزب ببضع سنين.

اتهامات كثيرة ومتنوعة تدور حول الوصم بالهروب من أرض الرباط ليعيش في خضراء ماليزيا، وعلى الأرائك الوثيرة في أمريكا؛ لأنه لم يطق شظف العيش في العراق. همز ولمز بأنه لم يرب أبناءه على الجهاد وتركهم في أمريكا يعملون بالتجارة. ومنهم من يقول: عندما ترجع إلى العراق نسمع لك. ومنهم من يحمد الله على أنه أبان له عن معدنه، فعرف أنه شخصاني النهج يريد العلو والسمو والنجاة لنفسه دون إخوانه. ومنهم من يعجب “كيف يسقط المدّعون”.

سبحان الله!

لكن الحقيقة تقول: الراشد شيخ وهؤلاء من تلاميذه – على الأقل بحكم وحدة الانتماء – وأنه سابق وهؤلاء لاحقون، وربما بعضهم لم ينتم إلى الحزب إلا بُعيد الاحتلال، بل ربما بعضهم لم يلتزم بالصلاة إلا في هذه الفترة؛ فلا أقل من أن يراعوا فيهم وفيه قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10).

لا أقول هذا لأنني أتفق مع الراشد في كل ما يقول، أو لأننا ننتمي إلى جماعة حزبية واحدة. ولكن هذه آداب وأحكام وسياقات ينبغي أن تُتبع، خصوصاً من قبل التلاميذ تجاه شيوخهم. ووالله ما ظننت حين قرأت الكتاب أن يقع مثل هذا. وغاية ما توقعته هو الإعراض وعدم التطرق إلى الكتاب وصاحبه بشيء!

ضياع الخبرات وتجارب الشيوخ

كيف يتأتى لنا أن نكتشف أخطاءنا، ونصحح مسيرتنا، إذا كنا لا نتقبل الانتقاد والتوجيه حتى من أولئك الذين هم من داخل الصف؟! وما فائدة تجربة وخبرة الشيوخ، وقيمة ما يقولون ويكتبون إذا كان ذلك لا يستحق منا التوقف أمامه لحظة عسى أن يكون فيه كلمة حق: قليل أو كثير؟ فما أدرانا؟ ولا نكتفي حتى نواجه الناصحين أو المنتقدين بهذا السيل من التهم والكلام الذي لا يليق! كيف يعلو صوت الصدق من بيننا إذا كنا نخنقه بهذه الطريقة البشعة؟ وكم يتبقى لنا ممن يتجرأ على قولة الحق وهو يرى ما يرى؟!

أما إذا تناولنا الموضوع من زاوية المنهج العلمي في البحث والتحليل، والنقد، والرد: فإننا نكون ملزمين بمقارعة الحجة بالحجة، بعيدين عن الدوافع الذاتية. وكما قال الأستاذ البنا رحمه الله تعالى: “لتكن خصومتنا فكرية، لا شخصية”. دعك من قوله: “كونوا كالشجر يرميه الناس بالحجر ويرميهم بالثمر”. وهذا لم أجده إلا في سطور قليلة تكاد تختنق في لجة المهاترات والطعون والاتهامات، من أفراد ينتمون إلى الحزب نفسه والجماعة نفسها التي ينتمي إليها الرجل! فكيف لو كانوا هم من خارج هذا الانتماء؟ أو كان هو كذلك؟

ترى..! لو أنني قبل أن يُخرج الراشد كتابه في نقد الحزب الإسلامي كنت وصفت الراشد ببعض ما وُصف به من تلك الأوصاف ألا يتصدى لي هؤلاء أنفسهم، فيتهموني بكل منقصة، وينسبوا إلي كل سوء؟ وحمدت الله سبحانه حين قارنت بهذا ما حصل معي بخصوص مقالة (عجم يتمادون وعلمانيون يتصدون فأين الإسلاميون)! ولم أعد أعجب مما لقيت من ردود أصرت إلا أن تستغشي ثيابها، وتجعل أصابعها في آذانها!

أزمة ثقافية خطيرة

إننا أمام أزمة ثقافية خطيرة..!

مجتمعنا يعاني من تخلف في ثقافة النقد وقبول الرأي الآخر. ثقافتنا تخنق الأفكار، وتضطهد القابليات، وتميت الإبداع. إنها ثقافة القطب الواحد، والرأي الواحد. ثقافة من ليس معي فهو ضدي. ثقافة المدح والإطراء (وحثو الذهب في وجوه المداحين). ولا أزكي نفسي من بعض هذا، فنحن أبناء هذا المجتمع المنكوب. ولكن لا أقل من الاعتراف والتشخيص، والوصف الصادق وصولاً إلى الوصفة الصحيحة. اتصلت هاتفياً قبل أيام بأحد الصحفيين الذين يعملون لصالح جهة ما فقال لي وهو يضحك: “دكتور مر بنا مر؛ الجماعة زعلانين عليك”. قلت له: “وأنا أيضاً زعلان”. قال: “لماذا”؟ قلت: “لأنهم زعلانين مما لا يستحق الزعل. ألأني وجهت انتقاداً موضوعياً لخطأ يرتكب على رؤوس الملأ وطلبت التوضيح أو التصحيح يزعل مني”؟! لكنه الواقع. فتشت أغلب الناس والهيئات والأفراد فوجدتهم أمام النقد لا يثبتون. إنهم يقولون ما لا يفعلون، ويدعون ما لا يطيقون، وذلك بحكم الثقافة التي غذتنا، والشخوص التي قادتنا. يتشدقون بمقولة الفاروق: (رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي). ولكن جرب و(أهد) عيباً لأحدهم من عيوبه، ولو اتبعت ألين الأساليب، واستعملت أرق الكلم. إلا من رحم.

نحن الأمة التي جاء في كتابها خطاباً لرسولها صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (سـبأ:24). وجاء فيه خطاباً لنا: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت:46). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه البخاري. وفيه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم).

لا أريد أن أقول على عادة الخطباء الذين لا يملون من جلدنا، ولا يكلون من لومنا: “أين نحن من هذا”؟ لا فإن بعض هذا – ولله الحمد – موجود، والأخذ به من قبل البعض منا لا ينكر، ولكن أقول: أين ثقافتنا الجمعية، ولغتنا الثقافية من هذا؟ وأين الهيئات والأحزاب والمؤسسات من تربية أتباعها على تقبل النصيحة، وتعليمهم ثقافة النقد البناء، ومعرفة أدب الرد على من يخالفنا، وما يخالفنا؟

ترى..! لو نشرت دراستي عن كتاب الراشد ماذا سيقول عني محبوه – وأنا منهم – وماذا سيكتبون؟ أم بماذا سيرد عليّ المتعصبون؟

لنجرب. والجواب سيكون ما نرى لا ما نتوقع.. والله المستعان على ما يصفون.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى