مقالات

عندما يكون .. التاريخ هو القضية (1)

الحياة بلا قضية، قضية بلا حياة..! وحين نحذف الكميات المتساوية من طرفي المعادلة نخرج بنتيجة خطيرة هي أن الحياة بلا قضية تساوي الموت!

موضوعي هذه المرة له خصوصية على جانب كبير من الخطورة إذن!

ولكنه رغم ذلك يغيب عن أذهان الأكثرية الكاثرة من أهل الحق، بل من حملة القضية! وقد قيل: ما رأينا حقاً أشبه بباطل كالموت! وذلك أن جمهور البشر يستنفد طاقتهم النظر في اللحظة الحاضرة ويغيب فيها عما وراءها، ويستهويهم العاجل في مقابل الآجل. فيخسرون تاريخهم المستقبل والذكر القادم الحسن. وإذا لم يبق من القضية سوى التاريخ، فهذا يعني أن تفريط الأمة بتاريخها معناه موتها، فيا لها من خسارة!

تأملوا الفرق بين الحالتين من خلال هذا البيت:

أماويَّ إن المالَ غادٍ ورائحٌ وما يبقى من المالِ سوى الذكرِ

لا بد أن حواراً دار بين حاتم وزوجه ماوية جعله يخاطبها بقوله هذا. لقد كان نظرها متوجهاً إلى اللحظة الحاضرة، مغموراً بمستحقاتها، ومقيداً بقيودها الثقيلة، بينما نظره هو يتمرد على استبدادية اللحظة، وينطلق فوق العوائق، ليمتد مع الزمن ويكتب له التاريخ سطراً متألقاً بين سطوره الحسنة الجميلة. ولقد ذهب المال وذهب حاتم، وماوية أيضاً، ولكن بقي الذكر الحسن، بقي…. التاريخ.. التاريخ لمن لم يقبل المساومة عليه.

ما أشبه حال الكثيرين منا بحال ماوية! ولكنني أبحث عن حاتم فلا أكاد أراه!

وحين همّ أحمد بن الحسين أن يتجنب مواجهة الموقف الحاسم ويطلق ساق فرسه للريح إذا بأحدهم يصيح في أذنيه: ألست القائل:

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

فقال له: قتلتني والله، ثم لوى عنانها وقاتل حتى قتل هو وابنه، ليحجز له في سفر التاريخ مكاناً إلى جانب الذين صدقوا أقوالهم بفعالهم.

وخير من ذلك كله شاهداً قول أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام يناجي ربه جل وعلا: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) (الشعراء:84). إنه التاريخ..! هذا الرقيب الذي لا يعلو عليه عند الأحرار المؤمنين سوى رقابة رب العالمين..!

إن أكثر الأنبياء عليهم السلام والعظماء لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم التي نصبوا لها جهودهم في حياتهم الدنيا، ولم يجدوا لها في ميدانها المزدحم مساحة يقيمونها عليها، ثم ذهبوا.. لكن بقي لهم الكثير وإن لم يربحوا قضيتهم على أرض الواقع…..

لقد ربحوا التاريخ.

البعد الزماني والمكاني للقضية

القضية إذن لها بعدان: بعد في المكان، وآخر في الزمان. أما أحدهما ليس لك أن تتحكم فيه دائماً، وأما الثاني فزمامه في يدك أبداً. فإن فاتك الأول – كما فات الكثير من الأنبياء والعظماء – فإن العجز كل العجز والحمق كل الحمق أن تترك الآخر يفلت منك لتخرج من الميدان صفر اليدين، مهما كان الربح الذي تحصده على مستوى الواقع واللحظة الحاضرة: مالاً أم منصباً أم غير ذلك. هل ثمة أغلى من الحياة؟ فحتى الحياة عند الأحرار ليست أغلى من القضية! والله تعالى قد ذم أولئك الذين يريدون التمسك بالحياة على أية حال فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة:96).

شاهد عظيم من سيرة نبي الله موسى عليه السلام

ببs

قضى نبي الله موسى عليه السلام حياته يجاهد في سبيل خلاص قومه وإقامة دولة لهم في الأرض المقدسة، لكنه – في نهاية المطاف – لم يصل إلى هدفه النهائي من ذلك وهو إقامة الدولة. وأدركته الوفاة فمات وترك قومه تائهين في الصحراء! ليتحقق الهدف من بعده على يد نبي آخر، لم يذكر القرآن لنا اسمه. بل حين سجل الله سبحانه قصة ذلك النصر ذكر فيها موسى الذي لم يشهد ساحتها، بينما لم يسم لنا ذلك النبي الذي كتب على يده ذلك النصر العظيم! وهي مفارقة تلفت النظر: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة:246)! هكذا.. (نبي لهم)! من هو؟ لم يذكره لنا. أما موسى عليه السلام فقد كان حاضراً في القصة ذكراً وإن كان غاب عنها حدثاً؛ لأنه هو الذي مهد الطريق، ودق الأساس لمن بعده كي يعلي البناء.

إنه التاريخ الذي لولاه لما كان لمن بعده جغرافية يتحرك عليها.

فضل المؤسسين على البناة

وهكذا ينقسم العظماء بين مؤسس وبانٍ.. بين من ربح التاريخ فقط، ومن تمكن من ربح الواقع إضافة إليه. وقد لا يكون من جمع بين الحسنتين أفضل ممن لم تسعفه الظروف أن يربح سوى إحداهما التي لا يصح التفريط بها. فموسى عليه السلام هو أحد خمسة من أولي العزم من الأنبياء عليهم السلام، بينما خليفته المنتصر (الذي جمع بين الظفر بالواقع والفوز بالتاريخ) ليس من هذه الخلاصة القليلة!

تقول لنا هذه القصة أيضاً: إن أحد البعدين – وهو التاريخ أو البعد الزماني للقضية – شرط أو ركن لا يقوم الوجود الإنساني الرفيع إلا به، بينما الآخر – وهو الواقع أو البعد المكاني – ليس أكثر من شيء مكمل. البعد الأول يصنع قضية وإن تخلف الثاني. بينما العكس غير صحيح؛ إذ لا بد من أساس أو تاريخ مجيد لحاضر مشرق.

أرأيت كيف يكون التاريخ هو القضية؟! القضية التي لا يعذر أحد بالتفريط فيها مهما كانت المسوغات والأعذار، ومهما كان مقابلها من المكاسب والأرباح.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى