مقالات

قراءة في كتاب ( المسألة العراقية ) .. (4)

للشاعر العراقي معروف عبد الغني الرصافي

rusafi

تقديم أم تهديم ؟

يدخل د. رشيد خيون في (ارتياباته) دخولاً سلساً مغرياً، مفتتحاً إياها بمقتبس من كلام الرصافي على يسار الصفحة مذيلاً باسمه. ثم تكون البداية: “بلدة الفلوجة أو الفلوجتان أو الفلاليج، حسب تسمية البلدانيين، والاسم من انفلاج نهر الفرات فيها، كانت مهداً لروائع معروف الرصافي (1875-1945) وارتياباته الفكرية”. وتثير كلمة (ارتيابات) في نفسي شعوراً بالرغبة في متابعة الكلام لأتعرف على المقصود بهذه الكلمة القريبة البعيدة. لكنني ما إن توغلت قليلاً حتى وجدتني أتحرك في حقل من الألغام والمتفجرات الفكرية المريبة!

وشيئاً فشيئاً يبدأ التسقيط! وبأسلوب منمق يعتمد النعومة والسلاسة، ثم اللدغ بحركة رشيقة خاطفة في لحظة مقتنصة بعناية! (فارتياب الرصافي من الفرس على وجه الخصوص إنما هو لأمر ربما تعلق بالحنين إلى العهد العثماني، الذي كان للرصافي فيه شأن). وعروبة الرصافي موضع ارتياب لدى خيون (فالرصافي لا يقر بجنسية، ولا قومية له). ويستشكل بغضه الانكليز، ويعبر عن صعوبة في (وضع اليد على أسباب هذا البغض هل: إنها شحنة من الوطنية؟… أم كانت هواجسه الغاضبة تعبيراً عن الحنين إلى العهد العثماني حيث استقرار الرصافي النفسي والاجتماعي؟ ويومها كان على مقربة من علية القوم: الصدر الأعظم (رئيس الوزراء، ووزير الداخلية. إضافة إلى أنه كان عضواً في البرلمان العثماني). وهي نوع من (الإسقاطات النفسية) عند الشخصية الشعوبية: فالحنين لإيران والفرس، ينقلب لدى الآخر حنيناً للترك، والتمظهر بالوطنية والقومية العربية حسب مقتضيات المصلحة يترك أثره الفاعل في النفس بحيث لا يمكن أن يرى الآخر في وطنيته وعروبته إلا ستاراً للمنافع.

ويبلغ التسقيط ذروته في (إسقاط) تقليدي آخر، معروف ومشتهر عند القوم، حينما يدعي أن لديه صورة رسالة للملك فيصل الأول مكتوبة بخط يده يذكر فيها سبب رفضه تعيين الرصافي في المجلس التأسيسي الأول، متهماً إياه بسوء الخلق وعدم المحافظة على الأدب العام، بتفاصيل أعف عن ذكرها! وبغض النظر عن ثبوت هذا من عدمه فإنني ألمح في هذا التسقيط الإسقاطي مقصوداً ملحاً لتحطيم شخصية الرصافي.

لماذا ؟

وأبحث عن السبب في أثناء الكتاب، فأجده في مقدمة الخيون نفسها. إنه موقف شاعرنا من الشيعة والتشيع! وأتوغل في الكتاب فتتضح الصورة أكثر وأكثر. الطائفية المقنعة إذن هي السبب، وهي العلة أيضاً! فلا وطنية، ولا عروبة، ولا اعتدال. وينضاف دليل آخر إلى جملة أدلتي التي تدفعني للاستهزاء بالجمع بين هذه المتناقضات: الوطنية والعروبة والتشيع الفارسي، والمتشيع بهذا التشيع مع وصفه بالوطني والعروبي والمعتدل! ووجدت المقدمة طافحة بالأدلة والشواهد على هذا التناقض العجيب!

وهذا – في رأيي – هو السبب الذي لأجله يقدم شيعي لهذا الكتاب..! وإنني لأغبط هؤلاء القوم على نشاطهم وذكائهم وحرصهم على نصرة طائفتهم وطائفيتهم! ومتى ما وصلنا إلى هذا الوعي وهذه الهمة في نصرة قضيتنا فقل: الآن أنام قرير العين مرتاح الفؤاد.

الطائفية والبراقع الشعوبية

من أول السطور تبدأ الطائفية تطل بقرونها: “ولو أدرك الرصافي الفلوجة (معارك 2004) وفي أيامها الأخيرة، عندما تحولت إلى دار هجرة وبغداد دار حرب لزاد فصلاً في كتابه (الرسالة…)”. ومعارك المقاومة في الفلوجة سنة 2004 هذه التي لا يرى منها خيون إلا أسوأ ما ترى عين الشعوبية الفارسية: فخر كل عراقي وعربي ومسلم، بل وكل إنسان شريف في العالم! بها طرد أبطال الأمة غزاة السكسون وحرروا مدينتهم منهم، فكانت أول بقعة في العراق تتطهر من دنس الغزاة. لقد كسر فيها الأمريكان كسرة لم يكسروها في الأرض منذ سنة 1973 يوم هزموا في فيتنام! معارك بيض الله جل وعلا بها وجوه العراقيين، وسود وجوه الطائفيين والعملاء والمبرقعين. ولكن تأبى الطائفية إلا أن تنفرج عن جاعرتيها، وتثلط بين رجليها.

ثم ينزاح البرقع عن وجه الشعوبية المقنعة أكثر حين يفتخر الخيون بشعار الفرس الذي اتخذوه منهاجاً ينخرون به دولة الإسلام، في عبارة ظاهرها ناعم وباطنها الموت الزؤام! وغاية ما يمكن أن يقال فيها ما قاله سيدنا علي في شعار الخوارج حين قالوا: (لا حكم إلا لله) فقال رضي الله عنه: (كلمة حق أريد بها باطل). ينقل خيون هذا الشعار عن خدين هولاكو العالم الشيعي ابن طاووس (ت 664 هـ)، الذي قاله بين يدي هولاكو في المدرسة المستنصرية بعد أن دمر بغداد: (الكافر العادل خير من المسلم الجائر). وكان دعاة الغزو المغولي والممهدين له من أعوان إيران قد طاروا به كل مطير يبشرون به بين أهل العراق من الشمال إلى الجنوب قبيل وصول الغزاة إلى بغداد، كما جاء في كتاب (الصراع العراقي الفارسي) الذي ألفه نخبة من عمالقة مؤرخي العراق، منهم البروفيسور عماد عبد السلام رؤوف. وقد وجدت هذا الشعار الخطير صار يبثه دعاة الشعوبية قبيل الغزو الأمريكي الإيراني للعراق سنة 2003 بين أوساط العراقيين! وقلت هذا لوكيل وزارة الأوقاف عبد الصمد القيسي في بداية سنة 2003 أو نهاية 2002 يوم لم يكن لرئاسة لجنة التوعية في العراق، لأسباب شخصانية أنوية، من همٍّ ولا شاغل سوى كتابة التقارير للوزارة عني بحجة أنني أفرق الصف وأثير الطائفية، وكنت يومها أحذر بأعلى صوتي من الخطر الأسود الزاحف من الشرق. فجمعنا وكيل الوزارة للتحقيق، فقلت لهم والألم يقطع نفسي، وكان إلى جانبي رئيس اللجنة على مستوى العراق، ولا أريد ذكر اسمه فيما يسوء ويفضح، يصول ويجول (حرصاً على وحدة الصف): “يا جماعة ألا تستشعرون الخطر؟! الغزاة على الأبواب، وشعار (الكافر العادل خير من المسلم الجائر) أسمعه يتردد كثيراً هذه الأيام! إنه الشعار الذي رفعته الشعوبية بين يدي الغزو المغولي لعاصمة الخلافة، وها هم اليوم يعيدون تاريخهم مرة أخرى؛ فحذار حتى لا يكرر التاريخ نفسه على رؤوسنا مرة أخرى”. ثم يأتي الخيون بعد أربع سنين مفتخراً ومادحاً الخونة من فقهاء ملته بما ينبغي أن يضع به رأسه بين ركبتيه ولا يرفعه إلى يوم يقبرون.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى