مقالات

رسالة رمضان (4)

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم أيها الصائمون!

ويا أبناء القادسية!

كنت في المسجد ظهر هذا اليوم لأداء الصلاة، وفي الدقائق القليلة بين النافلة القبلية والفريضة كنت أقرأ القرآن. وكانت بين يدي سورة (طه)، تلك السورة العجيبة، التي كان مطلعها سبباً في إسلام الفاروق رضوان الله عليه! وبينما أنا أقرأ قوله تعالى:

(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طـه:11-14).

تذكرت ما قلته لكم في الرسالة الثانية من رسائل رمضان: (ثمة موعد بين عبد ضعيف مخلوق من تراب، ورب عظيم جليل سُبوح قُدوس. كيف يواجه هذا العبد ذلك الرب؟!!! لا بد من تطهر خاص يترقى به العبد ليصلح أن يواجه الرب، فكان الصيام هو آلة التطهر، ووسيلة الترقي، وعنصر الصلاح).

وهذا لقاء أيضاً بين عبد ورب! بل والعبد نفسه مع الرب لا رب غيره ولا إله سواه..! وتساءلت مع نفسي: أين الصيام من هذا اللقاء؟ بأي شيء تنقى هذا العبد، وأي وسيلة ترقى ليكون صالحاً لملاقاة الرب؟!

وتفكرت قليلاً والمؤذن يهم بإقامة الصلاة، وأنا ما زلت أقرأ من السورة العجيبة الجليلة، ثم قلت: وهل هناك أعظم من التغرب في سبيل الله؟! ألم يهجر موسى عليه السلام موطنه في سبيل قضيته، وكان الدفاع عن حق قومه ومناكفة الخصوم في ذلك، هو السبب الذي أدى به إلى هذه الهجرة أو الغربة التي طالت ثماني أو عشر سنين؟ ودعوكم من مجاوزة الحد الذي وقع فيه، وركزوا على أنه كان يحمل هم قومه ويسعى في نصرتهم، ولم يُنسه قصر فرعون معاناة شعب مضطهد ينتمي إليه! لقد كان موسى في تلك اللحظة، وهو يرقب المشهد ويتطلع إلى وجه صاحبه الذي استغاثه، كأنه رأى فيه صورة شعبه المضطهد قد تجمعت كلها فكانت فيه! وحين نظر إلى وجه القبطي، فكأنه رأى في صفحته فرعون وزبانيته يسومون قومه سوء العذاب: يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، فاجتمعت في نفس موسى كل المحفزات واندفع بها مرة واحدة فوكزه فقضى عليه، وكأنه قضى على فرعون نفسه لا على رجل عابر غريب!

دعوكم من هذه الجزئية التي عفا الله تعالى عنها، وانظروا إلى الموضوع بمجمله: رجل مترف، ابن ملك (أقصد ابنه بالتبني) يتقلب في نعم وافرة بين حدائق ناضرة زاهرة، في قصور عالية عامرة، يأمر وينهى فيطاع ويمتثل له. لكنه مع كل هذا ظل يستشعر انتماءه إلى أمة مقهورة مهانة، ويرى أن عليه أداء استحقاق هذا الانتماء. ومن أجل ذلك ضحى بمقامه ومنصبه، وإن كلفه ذلك أن يتحول بين ليلة وضحاها من أمير.. إلى…….. راعي غنم أجير!

وبقي يعاني شظف العيش، وألم الحنين إلى الأهل والوطن سنين، وهو يرعى الغنم في شعاب مدين، لا يؤبه له، ولا يدرى من هو؟

فأي وسيلة تطهر أعلى من هذه؟!

ثم قلت مع نفسي: ألم أقل في الرسالة السابقة: إن الدين منقسم بين عبادة وقضية؟ بلى! والصوم عبادة، والتغرب في سبيل القضية قضية. وكلاهما طريقان موصلان إلى الله جل في علاه. لقد كانت معاناة الصوم شهراً كافية للقاء الموعود، فلم العجب أن تكون معاناة القضية في ديار الغربة سنين آلة تطهر ووسيلة وصول وقبول؟

وهنا أقيمت الصلاة فصلينا. وظللت أفكر في هذا المعنى الجميل!

وظلت الأفكار تتداعى ويدعو بعضها بعضاً.. وتأوهت وأنا أفكر في هذا، ونظرت إلى نفسي وقلت لها: أيهما أصعب بالله عليك؟ وتذكرت قول صاحبي سلمان قبل ما يقرب من ثلاث سنوات وقد التقينا في بلاد غريبة: الغربة يا صاحبي حد من الحدود وعقوبة من العقوبات في شريعة الإسلام! أليس حد البكر أو الزاني غير المحصن جلد مئة وتغريب عام؟ الغربة يا صاحبي تغفر كبائر الذنوب.

وذكرت قوله تعالى في بعض الحدود: (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ) (المائدة:33)، فقد حمله بعض العلماء على التغريب، أي ينفى من الأرض التي ارتكب فيها الذنب إلى أرض أخرى غريبة. وقلت: فكيف إن كان التغرب من أجل القضية؟! وكاد عقلي يطيش حين وصل بي إلى هذا…..!

فأبشروا يا من هُجّرتم وأخرجتم من دياركم بمغفرة من الله ورضوان، وصلة وقرب من جناب الملك الديان.

وأنتم يا حملة القضية في داخل الوطن لكم أقول:

ليس شرطاً أن يخرج المرء خارج حدود بلده لينال جزاء المجاهدين المهاجرين؛ فقد يكون الإنسان غريباً وهو في وطنه، وما ذلك إلا في سبيل دينه وقضيته (فطوبى للغرباء)، الذين – كما جاء التعريف بهم في بعض الأثر – يُصلحون إذا فسد الناس. وفي أثر آخر: ناس قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.

وهنا تتلاشى الحدود في ميزان الله جل وعلا؛ لأن القضية هي مدار الوزن في ذلك الميزان. كن حيث كنت واحمل قضيتك، وأحسن عبادتك، فأنت أنت!

من أجل هذا قيدت في دفتر مذكرات لي قد ينشر في يوم من الأيام هذه العبارة، وأنا أضرب في أرض الله: (الخارج من أجل الداخل داخل، وكم هنالك من يودون لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم).

ثم أردفت معها: (إذا كان المُدخل مُدخل صدق، والمُخرج مُخرج صدق، فما تبقى فعنوان يعرفه الملك الموكل بكتابة الحسنات).

أيها الإخوة لولا ضيق الوقت ما تركتكم، ولبقيت معكم أواصل الحديث، ولولا شعوري بحقكم علي مع إدراكي عظمة هذه الفوائد وحاجة الراحلين إليها، ما وجدت فسحة أحدثكم بهذا. فمعذرة.. وإلى لقاء بإذن الله.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى