مقالات

رسالة رمضان (5)

بسم الله الرحمن الرحيم

هدية العيد

الحياة حين ننظر إليها من خلال القرآن والسنة وسير الأنبياء عليهم السلام هي حياة المجاهدين. وما عداها فهي طعام وقصف وشراب. وتلك حياة الدواب. وثمة منزلة بين المنزلتين.

الفوز الأكبر، والدرجات الاعلى، والمغفرة الكاملة للمجاهدين. إن الجهاد يغفر الذنوب جميعاً. أما سمعتم قوله تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (الصف:10-12).

لم يقل الله تعالى: (يغفر لكم من ذنوبكم)، كما قال نوح لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) (نوح:3،4). إنما قال سبحانه: (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)!

أرأيتم!

الجهاد هو الذي يذهب بالذنوب جميعاً. وهو إما بالسلاح أو المال أو الكلمة. باختصار أن يعيش الإنسان من أجل قضية، ويقبل التضحية من أجلها. ان لا يكون حاله كحال البهائم التي لا تعرف غير الطعام والشراب والتناسل.

وحياة المجاهدين تحتاج الى قلوب رقيقة وأرواح هفهافة.. هؤلاء لهم حالات مع الله غير حالات البشر. انظر..! هذا لقمان حين يقول لابنه: (يا بني! لا يكونن الديك اكيس منك يوقظ الناس للصلاة وانت نائم). يوقظ حسه بالمقارنة. هذا المعنى المعنى لا يلتقطه الا اصحاب القلوب الرقيقة. احدهم نظر الى حمامة فقارن بينها وبين حاله فقال:

لقد هتفت في جنح ليل حمامة
على فنَنٍ وهناً وإني لَنائمُكذبتُ وربِّ البيتِ ل كنتُ صادقاً
لما سبقتني بالبكاء البهائمُ

وأزعمُ أني هائمٌ ذو صَبابةٍ
لربي فلا أبكي وتبكي الحمائمُ

سر المغفرة

نعم! يغفر الله تعالى للعاملين الذين سبقت لهم معه سوابق الخير الكبيرة والكثيرة ما لا يغفر لسواهم. هل سألت نفسك: لماذا تسامح النبي مع حاطب وقال لسيدنا عمر : (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لهم) متفق عليه.

بين نبيين عظيمين من أنبياء الله تعالى

ولنا في القرآن خير بيان: موسى ويونس نبيان عظيمان.

نحن لا نقارن بين الأنبياء وغيرهم؛ فلا وجه للمقارنة. إنما بين الأنبياء أنفسهم بعضهم مع بعض، وهم يتفاوتون في الدرجات. والأمر يفهم على قاعدة: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

ماذا فعل يونس حتى عاقبه الله عقوبة كادت تأتي عليه (لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (القلم:49)؟

ترك قومه بعد ان أن أتعبوه وآذوه. فخرج مستنزلاً العذاب عليهم، وهو يظن أن نبوته وقربه من الله مانع من نزول العقوبة عليه: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الانبياء:87). وفي هذا درس عظيم للمجاهدين أن لا يروا أعمالهم في حضرة الله جل وعلا، ولا يتكلوا عليها، أو يتطاولوا بها. هل انتبهت إلى المنادي من أي مكان نادى؟ ومن أي ظلمات؟ إنها أوطأ نقطة في الأرض! فلا يأمننَّ أحد على نفسه، ولا يمننَّ بسابقته وعمله.

خرج نبي الله يونس قبل أن يستنفد جهده، أو يستأذن ربه. هذا هو العمل الوحيد، ولا نعرف له عملاً غيره، ولا نظن فيه سواه، الذي استنزل كل هذه العقوبة! وفي هذا درس للعاملين – خصوصاً العراقيين المعروفين بمللهم وكثرة اعتراضاتهم على قادتهم والتنفير في جزئيات الأمور والبحث في دقائقها الصغيرة – حين يتخلون عن مهامهم قبل نهايتها، ودون استئذان ممن تجب عليهم في حقهم الطاعة لهم.

تعالوا الى سيدنا موسى وقارنوا: كم عمل من الأعمال المشابهة! بل منها ما هو أكبر، فلا يعاقب ولا……. يعاتب!

* قتل نفساً بغير نفس.

* ذهب يناجي ربه… فأخبر أن قومه عبدوا العجل. فرجع ولما رأى ما رأى ألقى الألواح، وهي كتاب الله (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف:154)!

* وضرب أخاه النبي هارون .

كل الذي كان مقابل هذين، عتاب من الله خفيف، يمس أوتار القلب الرقيقة الهفهافة من بعيد. كأن الله لا يريد أن يجرح عبده موسى، أو يخدش إحساسه: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (الأعراف:154).

* هرب من بين يدي الله خائفاً.

* طلب رؤية الله جل في علاه، وهو ما لا ينبغي له.

وفي النهاية من الذي صار القدوة لرسوله محمد : يونس الذي لم يرتكب إلا مخالفة واحدة؟ أم موسى؟

يونس : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (القلم:48).

موسى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الاحقاف:35).

يونس قلت منه أعماله تلك، لكنه ليس بقدوة لمحمد . وموسى تعددت تلك الأعمال منه، لكنه بقي هو القدوة لمن وعى الدرس الرباني جيداً، فكان كلما اشتدت به الأزمات تذكر (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) فقال: (رحم الله موسى لقد اوذي بأكثر من هذا فصبر) رواه البخاري. صلى الله عليك يا سيدي! يا خيرة خلق الله!

لماذا ….. ؟

وهنا يحق لمن يسأل أن يسأل: لماذا؟

انظر إلى نبي الله موسى كيف امتلات حياته بالمصائب والصعاب:

من أول يوم في حياته في تابوت تتقاذفه الأمواج في اليم البهيم!

ثم يترك حياة النعومة الى الرعي.. ثم يرجع بعد عشر سنين ليبعثه الله نبياً مع أخيه في أصعب مهمة: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي*اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) (طـه:42،43).

تصور..! يؤمر أن يذهب الى الطاغية المتأله فرعون، الذي يبحث عنه ليقتله؛ فموسى عند فرعون مجرم. والمجرم يتخفى من شرطي. أما أن يذهب الى رئيس الدولة التي فيها ذلك الشرطي فهذا أمر آخر تتزلزل عنده القلوب! (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) (طـه:45).

وظل موسى يتحمل المصاعب ويحمل ثقال المهام. مصاعب وأثقالاً لا يتحملها الا أمة. لكن أمته خذلته؛ فهو وحده يتحمل أثقالهم مع أثقاله. ولا يجد منهم مقابل كل هذا سوى الشكوى مع التنصل عن حمل تبعات القضية:

(قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا)، ولكنه يتحمل جحودهم بصبر وثبات تتدكدك له صم الجبال فكان جوابه: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:129).

(فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء:61).

(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة:24).

وآذوه واتهموه بشتى التهم. وعبدوا العجل، وفعلوا ما فعلوا!

موسى يضحي من أجل قومه بكل شيء، وهم لا يريدون التضحية بأي شيء. ثم يتيهون في الصحراء، ويتحمل موسى معهم شظف العيش، والسبب فيهم لا فيه. ويموت موسى وهو على هذه الحال تتقطع نفسه على قومه حسرات.

انظروا الى يونس وقارنوا بينه وبين موسى . نبي الله يونس لم يتعرض لمثل هذا؛ لذلك حسب عليه هذا العمل الوحيد، كما حسب على آدم عمله الوحيد. الذي كان كيونس بل أحسن وأنعم منه حالاً.

إذن…… من لم يتعرض للصعاب تحسب عليه أخطاؤه. ومن كثرت الصعابه أمامه وهو يسعى في سبيل الله، لا يني ولا يفتر ولا يقيل ولا يستقيل: هذا له حساب آخر. هذا لا ينظر الله الى أخطائه. بل ذنوبه مغفورة كلها.

هذا هو سر المغفرة للعاملين.

فأبشروا يا حملة القضية في أرض الرباط والمرابطين!

وهذه أجمل هدية أقدمها إليكم بمناسبة العيد.

وإلى لقاء في رمضان القادم إن شاء الله تعالى.

والسلام عليكم

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى