استيلاء إيران على بئر نفطي في ميسان .. الحدث والعبرة
“إني أعالج أمراً لا يُعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجميّ وهاجر عليه الأعرابيّ حتى حسبوه ديناً لا يرون الحقّ غيره”.
لا أجد وصفاً يطابق حالنا نحن أهل العراق، وكل البلدان التي ابتليت بإيران في قضيتنا وتعقيدها، وقلة وعي الآخرين بها، بل قلة وعي الكثيرين من أهلها، ومعاناتنا في سبيل تعريف الناس بحقيقة ما يدور: كقول الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز رحمه الله، هذا الذي ابتدأت به السطور.
لا أدري هل أبتسم هازئاً، أم أعبس ساخراً من هذه القطعان السائمة التي تسنمت ذروة القيادات الشعبية والدعوية والسياسية والمقاومية، وقد وطَّأت من ظهورها لإيران مطية إلى الضفة الأخرى! ألا يعرفون العقيدة؟ أم لا يقرأون التاريخ؟ أم هم في عماء عن الواقع فهم في تيههم يترددون؟ كيف جعلوا من إيران قائداً للجمع المقاوم وهي ألد أعداء الأمة طراً؟!
أهو ظلام العميان؟ أم خطف بريق التومان؟
ألا بئست المرضعة، وبئست الفاطمة! و “لعن الله الراشي والمرتشي”.
ويضحكني إلى حد القرف ذلك التشويه الذي أصاب جماجم بالدوار فجعلها تتقيأ كذباً وجهلاً فتقول: إن العراق هو الذي بدأ الحرب ضد إيران، فلا أجد إلا أن أقول: تف على هذه الجماجم الخاوية العاوية. أيها العمه! ألم يكفكم سبع سنين تفرشون عيونكم على امتدادها لتروا؟ قاتلكم الله أنى تؤفكون! وأذلكم أنى تصرفون، وسلط عليكم هؤلاء، بحيث تستغيثون فلا تغاثون، وتصطرخون فلا تُصَدَّقون حتى ينقطع نيطكم، وتتفتق عضاريطكم.
قبل يومين بصقت عليكم إيران وجعلت عقلاء الدنيا كلها تجدف على عقولكم حين احتلت أحد آبار النفط في منطقة الفكة في العمارة، ورفعت العلم الإيراني فوقه، وهو البئر رقم كذا الذي تحتله إيران خلال هذه السنوات. وذلك تحت مسمع ومرأى الحكومة وحكومة الاحتلال والعالم كله! فماذا أنتم يا عبيد التومان قائلون؟
أيها الإخوة! دعونا من هؤلاء المأفونين فالموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.
العدوانية إحدى خصائص الشخصية الإيرانية
العدوانية صفة مغروسة ومتجذرة في النفسية الفارسية، فهي جزء لا يتجزأ من نسيج الشخصية الجمعية لهذا الشعب. وقد بلغ عمق هذه الخصلة في تلك الشخصية حداً بحيث أنها لا تشعر به، بل تعتبره حقاً من حقوقها، وممارسة طبيعية من الممارسات الحياتية اليومية وهي تتعامل مع الآخرين. والدولة الفارسية لا يمكن لهذا إلا أن تكون عدوانية: للتنفيس والتعبير أولاً، ولإشغال الداخل عن نفسه ثانياً. ولو أطبق العالم كله على مسالمة إيران فإنها تأبى إلا أن تقوم تجاهه وتبتدئه بـ(واجب) العدوان!
تكلمت عن هذا مطولاً في كتابي (التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية). ومما ذكرت فيه أن العدوانية تنتج من الشعور العميق بالنقص وانعدام الوزن وما يرافقه من شعور بالإحباط، وهي صفات مترسخة في النفسية الفارسية تدفع المصاب بها إلى (البحث اليائس عن الأنا، في الحاجة إلى توكيد الذات, في دفع الآخر للاستجابة إلى حقيقتك الذاتية: هذا أنا، أنا هنا، يجب أن تلاحظ وجودي، إذا لم تلاحظه بمحبتي فعليك أن تدركه من خلال ألمك، إني أنا من يجعلك تتألم. بألمك تعترف بوجودي الذي يصبح أكثر واقعية بمقدار ما تكبر معاناتك… ما يود العدواني الوصول إليه هو إذن نشوة الجبروت من خلال مسح وجود الآخر. بذلك فحسب يطمئن إلى قوته غير الواثق منها، ويخفف من حدة قلقه)[1].
وهذا هو السر المتواري وراء التصريحات النارية التي يثيرها بين فترة وأخرى محمود نجاد وبقية رموز النظام الإيراني من مثل مسح إسرائيل من الخريطة: نحن هنا، نحن موجودون. والتي يفرح بها ويهش لها عصافير الأحلام وخفافيش الأوهام.
والاعتداء عند الفارسي يصدر عن سابق قصد وخطة مدروسة. وقد لا يتورعون عن التصريح بها! نشرت صحيفة كيهان الإيرانية الرسمية نص خطاب قائد قوات الحرس محسن رضائي أمام المؤتمر الوطني للطلاب في 3/11/1985 جاء فيه: (في كثير من المواقع نحن نعمل هذه الأيام من خلال الإرهاب بدلاً من النهج الثوري والثقافة السياسية. لقد نشرنا إرهاباً مكننا من التحكم في المعارضين. وإذا ما رفع هذا الإرهاب فإنهم سيستعيدون حيويتهم، ويبدأون في تهديدنا. ويجب أن نلتمس الأسباب لرد الفعل هذا، وأن نقرر الحلول. يجب أن نعرف كيف نبني دولة إسلامية)!
والفرس يرون أن العدوان يعود عليهم بالنفع؛ لذا فهم يحرصون عليه. وإلى هذه الحقيقة أشار البروفسور عماد عبد السلام – في مقدمة كتاب الصراع العراقي الفارسي – حين قال: (لقد أدرك الفرس أن تحقيق سيطرتهم على عدد كبير من القوميات يفوقهم بعضها عددا وحضارة لا يكون إلا بإخضاعها إلى ضغط تحد خارجي وإثارة شعور التوجس لديها من خطر ما يأتي من الخارج) (وعليه فقد وظف الفرس التحديات المختلفة في المنطقة لصالح تأكيد هيمنتهم على قوميات ما عرف بإيران).
شرعنة العدوان
تصاحب هذه العملية العدوانية في الخارج عمليات نفسية في الداخل يشرعن بها هؤلاء ممارساتهم العدوانية من مثل ما يعرف في علم النفس بـ(تشييء الآخر)، (عندما يفقد الآخر في عيني القاتل حقيقته كشبيه إنساني متحولاً إلى أسطورة لا واقعية تبرر بتصرفاتها أو خصائصها الاعتداء عليها. هذه الأسطورة تؤدي إلى تغيير شخصية القاتل وتبرر له اتجاهه الانصافي. وبمقدار ما تحقر الضحية ، وتتحول إلى أسطورة، يزداد تسلط حق القاتل في القتل.
تصل عملية التشييء والتحقير هذه حداً بعيداً فتُحمّل الضحية المقبلة كل الأوزار والصفات المنحطة, يعبر عنها أولاً بالسباب والشتائم، ثم بالنعوت المتصاعدة في تبخيسها. وقد يعمم الأمر من المستوى الفردي إلى مستوى كوني : الضحية كائن خطر على الجميع
ويجب القضاء عليها . ولذلك يبدو القتل عندها في نظر القاتل كشيء طبيعي ، تفرضه الظروف وله ما يبرره دون أن يثير أي إحساس بالندم.
تتحول الضحية أسطورياً باختزال عادي في ذهن المعتدي لا إلى مستوى الشيء فحسب, ولكن إلى مستوى الشيء حامل اللعنة الذي يجب تحطيمه, الآخر المحقر, يحتل في ذهن المعتدي دلالة العقبة الوجودية التي تسرق له حقه في السعادة, حقه في الاستقلال, حقه في الحرية الخ… ولذلك يصبح فعل القتل, لا فقط بريئاً من الإثم ومبرراً فحسب, بل مطلوباً كواجب نبيل هو الدفاع عن الذات وكرامتها وقدسيتها، أو الدفاع عن الجماعة وقيمها. أو حتى الدفاع عن الحضارة والإنسانية من العناصر المخربة الهدامة. وهكذا يبدو العنف التدميري كضرورة مبررة لا بد منها لإعادة الأمور إلى نصابها كواجب على المرء النهوض به من اجل بدء وجود جديد لا تسممه ولا تعرقله الضحية – العقبة الوجودية)[2].
دور حيلة (الإسقاط) النفسية
تشترك حيلة (الإسقاط)، وهو اتهام الآخر بما في النفس، في تأجيج عقدة العدوانية وترسيخها، وكيف توجه إلى الآخر فيقول:
(في الإسقاط تحول النزوة العدوانية إلى الخارج, وفي مرحلة تالية نتخذ من هذا الخارج هدفاً لصب عدوانيتنا المتبقية. في اتهام الآخرين نجد راحة مزدوجة: تصريف العدوان بصبه عليهم (الانتقاد) وإثبات البراءة الذاتية (نفي تهمة العدوان عن الذات), ذلك ما يحدث في التعصب الديني والطائفي والسياسي. ليست العدوانية وحدها التي تسقط على الخارج, بل أيضاً مشاعر الذنب (الآخر هو المذنب وهو الذي يستحق العقاب) , ومن هنا تصبح العدوانية الذاتية مشروعة ومبررة, إنها إحقاق الحق من خلال قصاص الآخر… والإحساس بأننا ومن نحب, وكذلك من يحالفنا, مثال البراءة والارتقاء، وإسقاط كل الشر والخطر والعدوان على الأعداء[3].
هكذا تجدون العدوانية جزءاً لا يتجزأ من الشخصية الجمعية الإيرانية، والاعتداء ممارسة اعتيادية طبيعية في السلوك المنعكس عن هذه الشخصية، وقد أفصح عن نفسه دائماً وأبداً على مدى التاريخ بحيث سجل علماء التاريخ في العراق أنه لا يعرف فترة 15 عاماً لم يحصل فيها اعتداء من الجانب الإيراني باتجاه العراق.
هذه أحدى تعقيدات المعادلة أو القضية العراقية التي نجد أغلب إخواننا في الخارج يجهلونها؛ فيخطئون في فهم قضيتنا، ويظلموننا من حيث يشعرون أو لا يشعرون. لاسيما بعض (الإسلاميين)، ومعهم فريق من القوميين، حين يذهب الأولون في تهويمة أممية ساذجة فيحسبون إيران على الإسلاميين، ضاربين بعرض الحائط كل الحقائق الصارخة التي تنطق بغير ما فيه يهيمون، ويطرح الآخِرون نظريتهم القومية بحيث ينقشون على غير عرش! ذلك عندما يكون مقياس العروبة اللحم والدم وليس الروح والفكر، هذا إن لم يكن اللحم مستورداً من خارج الحدود.
_________________________________________________________________________________
- التخلف الاجتماعي ، ص198-199، د. مصطفى حجازي. ↑
- أيضاً ، ص201-202. بتصرف. ↑
- حدثني أحد أصدقائي الثقات – كان معتقلاً لدى (الحرس الوطني) في قضاء المحمودية، ثم خرج واغتيل بعد ذلك – أن أحد الحرس صرخ يوماً داخل المعتقل وبأعلى صوته: غصباً على الله سيدخل جورج بوش الجنة. كيف لا وهو الذي جلب لنا هذا الخير كله؟! ثم جيء لي بعد أكثر من سنة بشريط صوتي لأحد المحاضرين الشيعة يقول فيه: يريدون منا إخراج الأمريكان! كيف؟! نخرج هؤلاء الذين أذلوا صدام حسين والوهابية، جورج بوش رضي الله عن آية الله جورج بوش، هذا لو كان شيعياً لبايعته مرجعاً من المراجع. وآخر يترحم على اللعين فيروز أبو لؤلؤة قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم يطلب من القطعان الذين حوله أن يؤمنوا على دعائه بأن يحشرهم الله مع (العبد الصالح الولي أبو لؤلؤة) (!!!). ↑