مقالات

الشعوبية >> كيف تسللت إلى داخل حصوننا (2)

270px-Ashoora

يريدون إسقاط الرشيد تمهيداً لسقوط عاصمته

من هو هارون الرشيد؟

أحد الخلفاء العظماء والعلماء الفقهاء، ملأ الدنيا عبادة وجهاداً، وبلغت بغداد قمة رقيها على عهده. جده الرابع عبد الله بن عباس؛ فهو من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

لم أجد في ثنايا القصة كلمة “رحمه الله” أو ما يقوم مقامها – ولو مرة واحدة – على هذا الرجل العظيم! هارون الرشيد..! نبخل عليه بكلمة رحمه الله أو رضي عنه. بينما ترحم القاص على عمر بن عبد العزيز، وقد جاء ذكره في سياق القصص؛ ما يعني أن في الأمر شيئاً من القصد ولو في خفايا اللاشعور. نعم نترحم على عمر بن عبد العزيز: هذا من حقه علينا، لكن هارون الرشيد لا يقل، بل قد يزيد، فضلاً على الأمة. لكن ابن عبد العزيز أبرزه دون غيره مكر الشعوبيين ليقولوا ليس في الأمويين عادل سواه؛ حتى يتمكنوا من إسقاط دولة الإسلام من نظر الأجيال في زمن خير القرون! فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)[1]: فدولة الأمويين في زمن القرون الخيرة. ولم أجد في قراءاتي وتتبعي لدولة الإسلام بعد الخلافة أو صدر الخلافة، لها من الفضل على المسلمين كدولة الأمويين.

ثم نجد – بعد ذلك – الطعن واللمز: فالفضيل بن عياض لا يستقبل الرشيد! وفي حركة نكوصية نراه “ارتقى إلى السراج فأطفأه، ثم التجأ إلى زاوية…”! وكأننا أمام أطفال يلعبون لعبة التخفي، لا عند عظماء الأمة: هارون والفضيل! هل يجهل الفضيل حق امرئ عادي يأتيه إلى خيمته فلا يستقبله؟ فكيف بحق خليفة المسلمين؟! وهل الرشيد رجل من عامة الناس لا مكانة له ولا هيبة، يمشي هكذا شبه وحيد، يتجول بين الناس! ليس معه رجال أشداء تحف به وتحميه؟!

ثم أين أدب الإسلام، وواجب الإكرام؟ أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، وبهذا المستوى العالي من الخلق الرفيع يأتي بنفسه إلى مكان إقامتك، ولا تستقبله! كيف؟! لو أن إنساناً، أيَّ إنسان، يأتيك في دارك، يطرق عليك الباب، فإن واجب الإسلام يحتم عليك استقباله والترحيب به، والله تعالى يقول: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (النساء:86)، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)([2])، فكيف إذا كان الضيف هو الخليفة، وفي موسم الحج؟!

وبدلاً من ذلك “تطفئ السراج وتنهزم إلى زاوية”! هل هذا فعل عاقل؟ هل يعقل أن الفضيل بن عياض رحمه الله يفعل مثل هذا الفعل؟ كلا والله؛ فإنه لم يكن مجنوناً ولا جامد القلب. ولا الرشيد عليه رحمة الله فيه جذام ليهرب منه هروبه من الأسد.

وحينما يبكي ويقول له الوزير: ارفق به، يقول له الفضيل: يا وزير قتلته أنت وأصحابك وأرفق به أنا!

(قتلته) أي من الغش والخداع والمعاصي. ويمهد للعقل الباطن أن يتهيأ لاستقبال هذا المعنى السيئ بالقول عن كف الرشيد (وهو ما يزال يبحث عنه في لعبة التخفي): “أواه من كف ما ألينها إن نجت من عذاب الله”! ما هذه النظرة السوداوية لرموز الأمة؟ هارون الرشيد.. الذي كان يقتل رؤوس الكفر والزندقة والمجوسية المبرقعة، هذا الذي صنع للأمة في زمانه حاضراً زاهراً، وللأجيال مجداً عظيماً: هذا جزاؤه: ضلله الخداع وقتلته المعاصي؟

لو كان هارون مغفلاً ما بلغت الدولة في عهده أوج عظمتها؟ ولو كان كما تريد القصة أن تصوره طاغياً فاسداً ملطخاً بالمعاصي، لقتل الفضيل على ما قال وفعل.

الثوري والصنعاني أيضاً ..!

لم تكتف القصة بلمز الرشيد، وإنما فجرت بيوت اثنين آخرين من عظماء الأمة!

سفيان الثوري.. هذا الجبل العلم.. الذي حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبث زنادقة العجم ونفايات الأمم. وعبد الرزاق الصنعاني رفيقه في درب الدفاع عن سنة المصطفى. هذان العابدان العالمان الواعيان كيف صورتهما القصة – وبكل حبكة – طلاب دنيا!

من بقي لنا إذن؟!!!

التفريق بين الحاكم والجمهور .. أخطر مكائد العجم ..!

ثم انظروا كيف يغرسون في نفوسكم البعد عن مراكز القرار حتى لا تقدموا لحاكم نصيحة، وحتى لا تقوموا بواجبكم تجاه أولياء الأمور. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)([3]). ثم لا تكون بيننا وبين الحاكم، ولو كان بتقوى وجهاد وهمة وفضل هارون الرشيد! أية علاقة؛ فينفردون هم في توازن مدروس بين الابتعاد والاقتراب (قسم يعارض ويطعن، وقسم يتقرب ويمدح)؛ عندها يسهل عليهم ضربنا ببعضنا بإلقاء الشكوك والتهم والدسائس فيما بيننا.

أليست ثقافتنا الدينية هي ثقافة الابتعاد عن الحاكم؟ كم منا سأل نفسه: ما مدى ملائمة هذه الثقافة مع الدين؟ متى نبتعد؟ ومتى نقترب؟ أما الابتعاد بإطلاق فهي نتاج تلك الثقافة المتخلفة، التي غرستها فينا الشعوبية الخبيثة، وهي تمتطي جحوش الزهادة الجاهلة.

القصة – وآلاف من القصص والروايات والمواعظ والفتاوى الجاهلة مثلها – تقول لك: ابتعد عن الحاكم. والنتيجة يكون الشعوبي والفاسد والجاهل والانتهازي هو البطانة، التي ستخنقك فيما بعد، وبأمر الحاكم، الذي أنت أعطيت الفرصة لأولئك كي يخنقوك بأمره! ثم لا تجد بعدها غير العويل والدعاء عليه، وربما السعي ضده؛ فتستمر الحلقة المفرغة.. وهو المطلوب.

فمتى نعي؟ ومتى نكسر هذه الحلقة الفاجرة الجاهلة؟

كفاما سماعاً لهذه القصص الرقيعة، التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب! غصت الكتب حتى قاءت، وملئت الأسماع حتى فاضت! آهٍ آه لو كان هناك وعاة!

والخطيب المغفل تستهويه مثل هذه الأقاصيص، يكبها عليك يستجدي بها من عينيك دمعة؛ ليقال أن خطبته اليوم كانت رائعة! لقد أبكانا فنعم الخطيب هو! وليس من قصدي التعميم فأشمل المخلصين العاملين.. حاشى لله!

للدمع مواطن فلنحدد إقامته فيها. والدمع عزيز فلا يباعنّ لغير الله. وإلا فكم من دمعة جاهلة، استقلها الشعوبيون للعبور إلى ضفتنا، والتسلل إلى داخل حصوننا؟

_________________________________________________________________________________

  1. – متفق عليه.
  2. – رواه البخاري
  3. – رواه مسلم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى