الانتخابات النيابية القادمة .. مناقشة حجج المانعين
ينقسم المانعون من التصويت في الانتخابات إلى قسمين: قسم ينظر إليها من الناحية السياسية البحتة، وقسم يضيف إلى ذلك النظر من الناحية الشرعية. وحجج الفريق الأول، ومعه الفريق الثاني أيضاً، تتلخص فيما يلي:
إنها انتخابات طائفية. تجري تحت ظل الاحتلال. معرضة للتزوير. وخاضعة لقرارات قد اتخذت مسبقاً.
وأقول: نعم كل هذا صحيح، بل وزيادة. ولكن سيبقى لعنصر التصويت الحصة الأكبر أو حصة كبيرة في رسم الصورة النهائية، وإلا لما رأيت الجميع يتسابقون مستقتلين على كسب أصوات الناخبين.
أما المفتون بحرمة التصويت فيضيفون إلى ذلك ما يلي:
إن المجلس التشريعي وظيفته التشريع من دون الله. وإن الديمقراطية كفر؛ لأنها ترجع بالحكم لغير الله. والتواجد في المجلس يترافق مع نواهٍ شرعية. وإن التجارب البرلمانية التي حصلت في البلدان العربية ضيعت علينا الهدف وضيعت المنهج وضيعت القضية. وبعضهم يدّعي أن الموجبين للتصويت إنما يستندون إلى قاعدة (المصلحة المرسلة).
وأقول: هذا الكلام كله صحيح، سوى دعوى الاستناد إلى (المصلحة المرسلة). ولكنه مع صحته لا يقوى على أن يكون حجة شرعية معتبرة، لمنع الناس من التصويت.
وسأناقش هذه الحجج والدعاوى واحدة واحدة، وأبين كيف أن أصحابها جانبوا الصواب، وليس لديهم حجة علمية تثبت للنقاش:
عدم التمييز بين العزيمة والرخصة
لا يميز المانعون بين الرخصة والعزيمة. العزيمة هي الحكم الشرعي من حيث الأصل غير متعلق بالعوارض. ومثالها أكل الميتة: هل هو حلال أم حرام؟ والجواب: حرام. هذا هو الحكم الأصلي، غير متعلق بعارض الاضطرار، وهذا يسمى عزيمة طبقاً لأصول الفقه. فإذا تعرض مسلم لظرف يضطره للأكل من هذه الميتة حين ذلك نقول إن أكل الميتة في هذه الحال ليس حراماً، أي تغير حكمه إلى درجة أخرى وإلى مرتبة ثانية من مراتب الأحكام الشرعية. فالاحتجاج بما سبق ذكره من حجج صحيح، ولكن من حيث العزيمة أو الحكم الأصلي. لكننا تكتنفنا عوارض تضطرنا لتغيير الحكم، ونقله من مرتبة العزيمة إلى مرتبة الرخصة. فالاحتجاج بتلك الحجج للخروج بحكم التحريم مع إغفال الظرف العارض، لا يستقيم شرعاً لاستنتاج هذا الحكم.
الانتقائية في النصوص
ووجدنا المانعين يقومون بعملية ضرب بين النصوص بعضها ببعض، قائمة على الانتقاء والالتقاط من جهة، وبين النصوص والأصول والقواعد الفقهية من جهة أخرى. كما لا يميزون بين النص والأصل، وأيهما أعلى مرتبة في الاحتجاج!
هناك أصول وقواعد فقهية كلية قد أصلت وقعّدت من قبل العلماء من خلال النظر إما في النصوص، وإما في عموم الشريعة، لا يحق لأحد أن يتجاوزها لنص معين. إنما نقوم بعملية توفيق وجمع بين الأدلة، فإن لم نتمكن لجأنا إلى الترجيح طبقاً لمنهج أصولي موزون. ومن ذلك أن الأصل مقدم على النص، كما فصله الإمام الشاطبي في (الموافقات). إن نصوص الحكم بشريعة الله في اللحظة الحاضرة عرض لها الاضطرار، الذي يجعلنا نلجأ إلى قاعدة (الضرورات). فيقدم العمل بهذه القاعدة على العمل بالنص.
ووجدنا المانعين ينظرون إلى الحالة من خلال قاعدة (المصلحة المرسلة)، وهي ما لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا إبطال. ويقولون: كيف والشرع حكم ببطلان تشريع أحكام تخالف شريعة الله؟ وهذا روغان عن الحقيقة؛ فنحن لا نعتمد هذه القاعدة فيما نحن فيه، إنما نلجأ إلى قاعدة الضرورة التي تنص على أن الضرورات تبيح المحضورات. والله تعالى يقول: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة:173). فتغييب النظر عن القاعدة الفقهية الملائمة لحكم ظرفنا فيه نوع من اللبس أو التلبيس. والتقاط النصوص بإعمال بعضها، وتعطيل البعض الآخر وتغييبه عن دائرة النظر نوع آخر مما ذكرت.
فالنجاشي كان على رأس الحكم الكافر في الحبشة، فكان يحكم بقانون وشريعة غير شريعة الله. بل لم يتمكن حتى من إقامة الصلاة أمام الناس، أو أن يجهر بإسلامه. لقد كان يتظاهر بالكفر، ويحكم في الحقيقة بشريعة كافرة! لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ لأنه مضطر إليه اضطراراً، وإلا لاجتث المسلمون الذين كانوا في رعايته في الحبشة. ونحن أهل السنة اليوم في حالة اضطرار أشد من حالة النجاشي.
بل نبينا يوسف عليه السلام كان وزيراً في نظام كافر. وهذا الوزير كما يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كان يحكم بشريعة الملك. وهو وزير المال. وهذا المال فيه صرفيات لخمر الملك ولملذاته المحرمة، وكانت تخرج من تحت يدي يوسف عليه السلام. وبغض النظر عن هذه التفاصيل فيوسف كان وزيراً في دولة كافرة تحكم بغير شريعة الله.
والعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه كـان ينقل أخبار المجتمع المكي للنبي
محمد صلى الله عليه وسلم وتحركات المشركين أولاً بأول، بل كان أحد أعمدة الحكم في مكة! وكان – على قول بعض العلماء – يكتم إسلامه. حتى إنه خرج مع المشركين متظاهراً بقتال المسلمين في بدر. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله. ولم يقل للمسلمين لماذا؟ إنما ورى لهم بالأمر تورية من أجل أن لا يكتشف أمره.
فإغفال هذه النصوص والاحتجاج بنصوص أخرى لا يستقيم مع النظر العلمي المنهجي السليم.
التجريد داء دواؤه التقييد
مجمل القول أن المانعين لا يميزون بين المفهوم الذهني والمطلوب الواقعي. فهم غارقون في الذهنيات والافتراضات، وإطار التفكير الذي يحكمهم هو الإطار المنطقي، وليس المناطقي أو الواقعي. العقلية المنطقية هذه تعالج الواقع بافتراضات ذهنية لا وجود لها. انظروا إليهم بم أفتوا يوم دُمرت مساجد أهل السنة، وسُحل علماؤهم في الشوارع، ومُزّقت مصاحفهم، وقتل أبناؤهم. أعلنوا في وسائل الإعلام أن انسحبوا من هذه المساجد. ثم جلسوا مع ممثلي التيار الصدري في جامع أبي حنيفة! ورفعوا الأيدي متشابكة علامة الأُخوة، وقالوا ليس هناك من فرق بين السنة والشيعة، والسنة والشيعة دين واحد ومعتقد واحد، وانتهى الأمر عند هذا الحد، وقضي الأمر واستوت على الجودي وذهب كل إلى أهله! هو هذا الحل الذي قدموه. نعم هذا حل، ولكن على مستوى الذهن فقط، لا على صعيد الواقع. هذه عقلية منطقية، تقوم على افتراض مقدمة تستخلص منها نتيجة ثم تريد للواقع أن يطوِّع نفسه لهذا النتيجة (المنطقية) القائمة على تلك المقدمة الذهنية الافتراضية الباطلة، وليس العكس. وقد وجدنا هذه العقلية (المنطقية) تضرب كل ما خالفها من أدلة عرض الحائط ولو كان نصاً شرعياً صريحاً بحجة المصلحة. فالله تعالى يقول: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:114). هذه الآية نزلت فيمن خرب المساجد معنويا بالتشكيك في القبلة ماذا قال الله تعالى عن هؤلاء قال: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). يعني أيها المسلمون لا تسمحوا لهؤلاء بدخول المساجد إلا خائفين تحت السيف. وهؤلاء الذين خربوا مساجدنا معنوياً ومادياً دخلوها آمنين مطمئنين بكبرياء وأنفة وتعزز وعنجهية، غير آبهين ولا خائفين. قالوا: المصلحة اقتضت ذلك. مع أن المصلحة هذه ليست مرسلة، وهي وهمية غير متحققة. والواقع أثبت ذلك. فلا شرعاً طبقوا، ولا مصلحة حققوا. ثم يأتون اليوم ليعيدوا علينا الدور نفسه بصورة مقلوبة!
مما قالوه طبقاً لهذه العقلية (المنطقية) – وهم يفترضون حالات ذهنية خيالية – أن عدم المشاركة في الانتخاب تسقط شرعية الدولة، ولا يبقى سوى أن يخرج المحتل حتى تسقط وتنهار. ويفترضون جازمين أن من جاء مع المحتل سيرحل مع المحتل. ولم يقدموا لنا من حجة سوى تلك المقدمة الافتراضية! التي خرجوا من خلالها بتلك النتيجة المنطقية. ونحن نقول: ربما يخرج وربما لا يخرج، وهو الراجح؛ فالحكمة تقتضي أن لا نضع بيضنا كله – كما يقال – في سلة واحدة، إنما نضع في حسابنا كل الافتراضات، ونعمل على جميع الاحتمالات. إن ترك صندوق الانتخاب ينفرد به من جاء مع المحتل يزيد من احتمالية عدم خروجه، بل يثبت قدمه أكثر في حكم البلد، ويرسخ وجوده ويعمق قوته. فإن لم يكن لنا نصيب مؤثر في حكم البلد، ولم يكن لنا وجود حقيقي فاعل في الجيش والشرطة وقوى الأمن، وفي الوزارات ودوائر الدولة وفي شرايين الاقتصاد، ومراكز القرار: كيف لمن جاء مع المحتل أن يخرج معه؟ ولماذا يخرج؟ ومن يخرجه؟
يفترضون حاله ذهنية هي حاجة أذناب المحتل إلى الشرعية؛ وإذن لا تشاركوا في التصويت حتى لا تعطوه شرعية تبقيه بعد تغير الظرف ورحيل المحتل! والواقع أن هؤلاء في غيرما حاجة إلى شرعية من أي نوع، ولا تعوزهم الحجج لاختلاق أنواع وأنواع من الشرعية. فانسحابنا من العملية السياسية لا نتيجة له سوى تقويته وإعطائه الفرصة الذهبية ليتمدد كما يريد. ولهذا الغرض قاموا بعمليتهم الاجتثاثية المفضوحة لـ(15) قائمة انتخابية شملت أكثر من 500 شخصية مرشحة للانتخاب. ورئيس إيران يقول: لن نسمح للبعثيين أن يعودوا لحكم العراق. أنت حين لا تشارك في الانتخابات تكون قد خدمتهم خدمة لا يحلمون بها، وقدمت هذا المكسب على طبق من ذهب! بل أنت شاركت مشاركة فعالة في اجتثاث نفسك بنفسك! وهذا لا يفعله كيس فطن.
يقول المانعون: ما بُني على باطل فهو باطل. ويتناسون أننا داخلون في هذا الباطل المبني على باطل مضطرين لا مختارين؛ لنحفظ – ما استطعنا – ما تبقى من وجود لأهل السنة، الذين يتعرضون للذبح والاجتثاث. وأي اضطرار أعظم من الذبح؟! الذبح والمداهمات والاعتقالات والمطاردة والتهجير هذا كله وليس من اضطرار؟ أخبروني كيف يكون الاضطرار إذن؟
ما الأسباب التي أدت بالطائفية الشيعية إلى أن تتمكن إلى هذه الدرجة؟ أليس أحد أسبابها الكبرى هو زهدنا في المشاركة في الانتخابات السابقة؟
حينما تكون الشرطة شيعية طائفية، ويكون الجيش في غالبه كذلك، وحينما يكون الوزراء والوزارات السيادية على الحال المذكور: يكون مصير أهل السنة – وقد كان – كما ترون! والحال لم تعد خافية على أحد.
إن الرافضين للانتخابات يفترضون فرضيات خيالية غير واقعية، يحلمون ويتمنون، ومن عاش الحلم كواقع وتصرف على هذا الأساس، سيتحول واقعه الذي لا يرضاه اليوم إلى حلم يتمناه بعد حين ولا يلقاه. هؤلاء في نهاية المطاف يعملون دون أن يشعروا في خدمة المشروع الإيراني الشيعي. ويقدمون لهذا المشروع الخطير أكبر خدمة! وهم مشاركون في اجتثاث أنفسهم وأهلهم دون أن يشعروا.
النظر إلى العراق بعيون غير عراقية
أخيراً أرجو من إخوننا من غير العراقيين أن لا ينظروا لقضية العراق بعيون غير عراقية. فيأتي من ليس عراقياً لينظر إلى قضيتنا بقدر ما سيربح هو منها لقضيته، بل ربما لنفسه ونزوته. يريدون أن يربحوا لقضاياهم على حساب قضيتنا ودمائنا وأعناقنا وأرزاقنا!
إن العدل يقضي بأن يكون المضحي أول من يستفيد من دمه ومأساته وتضحيته. أما أن يتكلم هذا وذاك وتلك الجهة وذلك الفصيل كل من منطلقه ووجهته وزاويته، ويريدون التصرف والتحكم بشأننا العراقي من دون معرفة بالواقع ومن دون معرفة بالمأساة ومداخلاتها وحجمها وعمقها، ومن دون نظر لأولويتنا وأحقيتنا في قطف ثمار جهودنا، بل حتى ولا مشاركة لنا في مأساتنا: فهذا ظلم وسماجة نركلها بأقدامنا. وأظلم منه أن يصطف معهم بعض العراقيين المستفيدين مجاملة ومداهنة حتى لا يخسروا دعمهم والاستفادة منهم.
علماً أن هناك فريقاً يحرمون علينا المشاركة في الانتخابات علناً ويشاركون فيها سراً! ومنهم من ينظر إليها نظرة فئوية: فلأنه محروم منها فهو يحرمها، ويتكلم ضد من يشارك فيها. بل وجدنا من هو ينهى عن العملية السياسية وهو واقع في أشر من العملية السياسية حين يتحالف مع المجرمين، ومع المتلاعبين ومن لا يُشك في كفرهم؟!
الباطل وأهله موجودون ولن يزاحوا إلا بوجود الحق وأهله
إن أهل الباطل في واقع الحال موجودون، فكيف نزيحهم؟؟
نزيحهم بالكلمات والفتاوى؟ أم نزيحهم بالعمل الميداني القائم على المناكفة والمزاحمة والإزاحة وبكل ما نستطيع. والله تعالى يقول: (قل جاء الحق وزهق الباطل)، ويقول: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).
لهذه الحيثيات وغيرها أقول: هذه الفتاوى غير معتبرة. وعليكم يا أهل العراق في الداخل والخارج أن تهبوا للتصويت في الانتخاب النيابية القادمة. ومن تخلف عن التصويت فهو آثم، ومن دعى إلى عدم التصويت فكذلك.
الكل علمانيون ولا يوجد مشروع إسلامي في العراق
واعلموا أنني إنما أتكلم عن الانتخاب ولا أتكلم عمن ينتخب من المرشحين. هذه مسألة وهذه مسألة. صوّتوا لمن ترون أنه يخدم قضيتكم. واحذروا ممن يضرب على وتر (هذا إسلامي وهذا علماني). لا يوجد اليوم في العراق حزب أو جماعة إسلامية. الكل في الحقيقة علمانيون. فليس من جهة طرحت برنامجاً سياسياً بمرجعية دينية، أبداً. فلنخرج موضوعة الإسلامي وغير الإسلامي من المعادلة. نحن اليوم في ظرف وأمام حالة نريد إزاءها أن نحافظ على مجرد وجودنا كسنة. وأقولها بكل صراحة: إنها ميتة لا بد لنا من أكلها من أجل أن نستمر لنحفظ بيضتنا، ونصون البقية الباقية من كياننا ووجودنا، ونثبت أقدامنا، ثم الأمل بالله تعالى معقود أن نقفز قفزتنا في قابل الأيام من أجل أن تؤول مقاليد الأمور إلى الصالحين المصلحين من أبناء العراق، ولكن خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة. ولكل مقام مقال، وكل حادث حديث.