سيقولونها .. طائعين أو ملجئين
حينما تعود بالذاكرة إلى الفترة التي سبقت الاحتلال، تجد أنه لم يكن في العراق إلا قلة من النخبة في الوسط الديني تعد على الأصابع سبقت في تشخيص مشكلة العراق، وتحذير الأمة من خطر إيران، وأن المشروع القادم هو المشروع الشرقي، وأن المشروع الشرقي أخطر من المشروع الغربي، وأن العراق مشكلته شرقية لا غربية، وأن الشيعة هي الخميرة المتفجرة في عجينة هذه المشكلة وذلك المشروع. لقد منَّ الله تعالى علينا من بين هذه القلة النادرة بأن وفقنا للنطق بهذه الحقيقة المرة على أعواد المنابر، ومنصات المحافل، يوم أن لم يكتف الساكتون باللياذ وراء أكفان الصمت، إنما نطق منهم الكثيرون: بعضهم بدافع الجهل، والبعض الآخر جنح إلى ذلك في محاولة مقلوبة للدفاع عن النفس، نطقوا فاتهمونا بـ”إثارة الفتنة وتمزيق الصف”.. تلك الفتنة الثائرة من قبل ما جئنا ومن بعد ما أتينا، وذلك الصف الذي لم نر له من وجود خارج نطاق الأذهان المتوارية داخل تلك الأكفان! ورأيت قسماً ثالثاً يهمس لي بيني وبينه: “ما تقوله صحيح، ولكننا لا نقوى على التصريح به فاعذرنا”. وتبين لي أن بعض هؤلاء إنما يقول ذلك على طريقة (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)!
واحتل العراق بتمهيد وتسهيل ومراودة من الشيعة تقودهم جارة السوء ومنبع الفتنة. وظهر في الوسط السني رموز، ولمعت أسماء. العجيب أن هذه الرموز استمرت في صدودها عن الخطر القادم من الشرق، رغم أن الجمهور بدأ يصحو نتيجة الأحداث العاصفة، ويلوي عنقه إلى هذه الجهة شيئاً فشيئاً، وصار صوته يعلو قليلاً قليلاً. ورغم أن الشواهد تتكاثر باستمرار، وتتنوع على طول الخط على تدخل إيران في شؤون العراق، وانتشار عناصرها، وتغلغل عملائها في جميع مفاصل البلد بما يمكن أن نسميه احتلالاً مبطناً، إلا أن الرموز هذه صمَّت آذانها عن سماع الحقيقة، واستغشت ثيابها عن رؤيتها، وأصرت على موقفها، بل تمادت فرفعت أصواتها عالياً عن “اللحمة الوطنية” و “الدين الواحد”، وأن “لا طائفية” و “لا شيعية ولا سنية، وحدة وحدة إسلامية”، و “ما من فرق بين السنة والشيعة”. ولو بينوا أن الفرق المقصود هو الفرق بمعناه السياسي لهان الخطب، لكنهم يؤكدون على أن الدين واحد والعقيدة واحدة!
كنت أيامها أبتسم وأقول لمن حولي: رويدكم قليلاً، ووالله سيقولونها، سيغصون بها أولاً، ويتلعثمون ثانياً، وينطقونها فصيحة آخراً. ستلجئهم الأحداث، ويسوقهم القدر إليها سوقاً. ومن لم يستضئ بنور الوحي ستقوده سياط القدر. وما داموا لا يقولونها اليوم فالمصائب ستتواصل حتى يقولوها، ويعملوا بمقتضاها.
وضربوا لنا مقتدى مثلاً، ونسوا خلقه وأصله. قلت: انتظروا سيلعنونه. ومرت الأيام سريعة ليكشر عن سوأته، ويعبر عن معدنه؛ فيلعنوه، ولكن بعد أن دفعوا الثمن أغلى ما يكون!
وكثر أفراد الناطقين، وازداد عدد اللاعنين. وقد تجاوز الأمر أخيراً أسوار الفضائيات، والمستقبل يبشر بالمزيد، لقد قالوها أخيراً ولله الحمد. وما عليك إذا رأيت الكثيرين منهم حتى الساعة ما زالوا يكابرون.
هذا ما يخص الوسط الوطني الديني.
أما الوسط الوطني العلماني فما زالت رموزه تتغافل، وتفر من الاعتراف بالحقيقة فرارها من الأسد! وأقول: سيقولونها بعد أن يساقوا إليها سوقاً مرغمين، ويلوذوا بها محبطين. نعم سيقولونها. وبوادر ذلك أراها تلوح في الأفق العريض.
سيعترفون بالحقيقة المرة؛ الأحداث ستلجئهم أن يقروا بأن مشكلة العراق الحقيقية شيعية سنية. وما لم يصلوا إلى هذه النقطة الحرجة، ويشمروا لوضع الحل المناسب ستظل المشكلة بكل أبعادها قائمة. نعم ربما ستخبو حيناً، ولكن ستنفجر لاحقاً أشد وأبشع مما كان في المرة السابقة. مع ملاحظة مفارقة مهمة لصالح الوطنيين العلمانيين، هي أن عموم هؤلاء، لاسيما القوميين منهم، ومنذ البداية كانوا يحذرون من الخطر الشرقي، ويعلن بعضهم بأن الاحتلال الإيراني أخطر من الاحتلال الأمريكاني([1]).
تداعيات مجزرة الانتخابات الاجتثاثية
عندما وقعت المجزرة السياسية باجتثاث (15) كياناً انتخابياً، وأكثر من (500) مرشحاً، تلك المجزرة التي ارتكبتها (هيئة النزاهة والعدالة) برئاسة عضو فيلق القدس الإيراني علي اللامي. قلت يومها: أبشروا! لن يمر الحدث بلا شيء. هذه ضربة شاكوشية على الرأس ستفتح بؤبؤ هؤلاء المجتثين على بؤرة الحقيقة. سيتأكد لهم أن الصراع طائفي، وأن الشيعة لا يؤمنون بالتعايش إلا مرغمين. إن نتائج الانتخابات القادمة ستفصح عن انكماش شيعي وتمدد سني، وإن كان نسبياً. وهذا – مع أنني أتمناه وأؤمله – لكنه أخوف ما يخيفني؛ من حيث أنه سيكون عامل تخدير في أعصاب الانتباهة الذاتية السنية الأخيرة تجاه خطر المشروع الطائفي الشيعي المطبق على الأرض. سيصدق الكثيرون الشعارات الوطنية الشيعية، ويتعامَون عن رؤية هذه الشواخص الطائفية. والنتيجة بعض المكاسب السياسية المظهرية على حساب الهوية الدينية. يقابله لدى الطرف الشيعي خسارة سياسية بسيطة محتملة، تحمل على أكتافها مكاسب طائفية كبيرة، تعبر عن نفسها، وتتبلور في تمدد شيعي سرطاني في الجسم السني غير المحصن.
أما وقد جاء القدر بهذه الصفعة فإن حجم هذا الخوف سيقل. ولقد جاءت في وقتها. ولا أراها تمر بسهولة، وأقل ما فيها أنها ستضع أيدي المنخدعين أو المتخادعين، بحسن نية أو بغيره، على العصب المؤلم للمشكلة. المطلوب أن ننتظر قليلاً لنرى إن كان الأمر مدبراً باتفاق القطبين الموجهين للسياسة العراقية: إيران وأمريكا، أم إنه خطة إيرانية في مقابل الخطة الأمريكية. لم يمر يوم أو يومان حتى جاء نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن إلى العراق معترضاً على قرار “هيئة النزاهة والعدالة”، واعترض الاتحاد الأوربي على القرار، وكذلك الأمم المتحدة، والجامعة العربية. إذن ليس من اتفاق بين القطبين. والآن دعونا نرى: لمن سيكون الغلب: للخطة الأمريكية أم الإيرانية؟
لحد الآن يبدو أن الخطة الأمريكية هي الأقوى. وقرار الهيئة التمييزية قبل ثلاثة أيام عن ترحيل البت بموضوع الاجتثاث إلى ما بعد الانتخابات شاهد على ما أقول. حتى وإن تراجع قليلاً هذا اليوم إذ قررت الهيئة مراجعة ملفات المشمولين بالاجتثاث قبل موعد الانتخابات. لقد جن جنون الوسط الشيعي سياسيَّه ودينيه وشعبيه لهذا القرار، وخرجت منه تصريحات غير متوازنة مثل عدم الاعتراف بقرار الهيئة، وتهديد مستشار رئيس الوزراء ورئيس هيئة النزاهة بسحب الثقة من الهيئة التمييزية مع أنها أعلى سلطة قضائية في الدولة! أما مقتدى (الوطني والعروبي حد النخاع!) فقال: “قرار الهيئة التمييزية بإرجاء النظر بقرارات المساءلة والعدالة للمرشحين للانتخابات البرلمانية وصمة عار على جبين هذه الحكومة البائسة.! وكلي امل بالشعب و (مرجعيته) ان تقف سداً منيعاً ضد ارجاعهم ودخولهم في عملية ادعيت أنها ديمقراطية وهي تضم أعداءها، بل تحرم الإعانة على ارجاعهم من قريب ومن بعيد.. وأن تأجيل اجتثاثهم عين المنكر”.
وخرجت مظاهرات شيعية ترفع صوراً مشوهة للنائب صالح المطلك وظافر العاني، وتشتم البعث والبعثية. ويبدو أن الحزب الإسلامي وجبهة التوافق مرتاحة للموقف الشيعي، وتعمل على مساندته بطريقتهم المعهودة ذات اللون الرمادي.
أمس أعلن محافظ بغداد ومحافظ البصرة أنه من هذا اليوم (الاثنين) سيقومون بطرد البعثيين من الدوائر الرسمية. وتكللت الفضائح اليوم بظهور منشورات في بغداد موقعة باسم “كتائب المختار الجهادية” تهدد الضباط السنة وعوائلهم بالقتل ما لم يغادروا مواقعهم الوظيفية([2]). وهذا التزامن يدل على علاقة هذه الجهات ببعضها، وأن كل طرف يؤدي دوره المتناغم مع بقية الأدوار التي اتفق عليها سلفاً، ويكشف شركاء الجريمة.
ما يهمني من هذا كله أن الأحداث ستسوق حتى العلمانيين سوقاً إلى الاعتراف بالحقيقة المرة التي طالما تغاضوا عنها، وأنكروا على من تكلم بها. ولا شك في أنهم الآن يتحدثون فيما بينهم بها، وما أدراك لعلها يوماً ستبلغ الحلقوم، فيلفظونها مرغمين بإذن الله رب العالمين.
_________________________________________________________________________________
- – أخيراً قال الشيخ حارث الضاري: “إن خطر إيران بات اليوم يضاهي الخطر الأمريكي”. في خطوة سابقة تمهيدية – كما يبدو – لقول الحقيقة الأبدية، وليست الطارئة، بأن الخطر الإيراني أكبر من الخطر الأمريكي. شريط الأخبار/قناة الرافدين/8-2-2010. وقد قالها قبل أيام في مقابلة في صحيفة الأهرام. ↑
- – نشرة أخبار قناة الشرقية ظهر هذا اليوم 8/2/2010. أعلنت هذه الكتائب عن نفسها في بداية سنة 2004 باسم “سرايا المختار الثقفي”، بمنشور وزعته في بغداد، بينت فيه أن مهمتها تصفية السلفية وأزلام النظام السابق، ووصمت الدكتور محسن عبد الحميد بشيطان الحزب السفياني والدجال المراوغ، وأنه يدير عمليات اغتيال الشيعة من المنطقة الخضراء، ووصمت أعضاء هيئة علماء المسلمين بالدجالين والهيئة بهيئة علماء المنافقين! واعترفت بأنها “تلتزم بخط المرجعية، وتتكاتف مع الإخوة في أجهزة الأمن والشرطة العراقية، وسيكون دورنا مسانداً لهم لسد الثغرات التي لا تطالها يد القانون، حتى تتهاوى رؤوس الإرهاب في العراق” على حد قولهم. كما أعلنت مسؤوليتها عن العديد من عمليات الاغتيال في مناطق متفرقة من بغداد. وقد أتيت على ذكرها في كتابي (إلى متى نخدع؟ إلى متى نخادع؟) الذي انتهيت منه في بداية آيار/مايس-2004. ↑