قمم الثلج
قال لي صاحبي، وقد انتهى من قراءة مسودة كتابي (المنطق السليم): نحن في زمان تهاوي القمم. قلت: صدقت، وبدأنا نعدد أسماء لمعت في سمانا لطالما انتظرنا الغيث من ناحيتها، فإذا هو الجدب والقحط! رعد وبرق وجعجعة وضجيج.. ثم….. لا شيء بعده!
منذ حوالي ثلاثة أسابيع وردتني رسائل متعددة عن الشيخ أحمد الكبيسي تتحدث عن تشجيعه نكاح المتعة على قناة (سما دبي) في برنامج (خير الكلام)، وبتاريخ 6/2/2010. في البداية قلت: قد يكون في الخبر مبالغة! ولكنني حين عدت إلى المقطع المرئي الخاص بالموضوع تأكدت أنه ليس من مبالغة، وأن الأمر صحيح!
(ان الحل في عدم انتشار الزنا بين شباب المسلمين, أن يقوم الشاب الذي غلبه الشيطان، والذي افتتن بفتاة غير محللة له بدلاً من يقع في اثم الزنا… له أن يتزوج الفتاة قبل أن يقع في الحرام بأن تقول: ” زوجتك نفسي مقابل كذا وكذا “، وهو يرد: ” قبلت ” ، في ظل وجود شاهدين, ومن ثَم يقضي وطره، ومن بعد ذلك يمكن له أن يطلقها). هذا أخف ما جاء من كلامه. ومنه: (قل يا اخي سوي متعة بس لتحطها بالصيغة زوجتك بساعة ساعتين. لا خليها بلا وقت وخلي يطلق، لكن لا تخليها بالصيغة حتى يصير فاسد. زوجها وفي أمان الله وطلقها بعد ساعة. في كل الدنيا ناس تزوجوا وثاني يوم طلقوا ثالث يوم بعد أُسبوع بعد شهر بعد سنة يصير إحصان. ان يشترط في العقد التوقيت هذا (هو) الخطأ. لكن هذا الخطأ لا يجعله زنا بالاجماع هو ليس زنا. فيا ابو احمد انت عليش زعلان واحد يريد امرأة يزني، وتعرف أن فلاناً يزني بفلانه قل له يا أخي ليش تزني بيها سويها متعة قل لها تزوجتك وانتهينا ما فيها إشكال. على كل حال احنا ما نشجع .. ملايين المسلمين يتمتعون ملايين المسليمن من الشيعة في العالم يتمتعون. ششجع؟ يعني ههه قضية موجوده). وأشياء أُخر لا تساوي حبر كتابتها. ولا أراها في حاجة لرد أو توضيح.
عجبت .. ولم أعجب
عجبت من هذا الكلام المتهافت!.. ولم أعجب!
عجبت… لشناعة الأمر حين نظرت إليه مجرداً عن شخص المتحدث من هو تحديداً؟ سوى أنه شيخ سني بلغ من العمر عتياً تخرج من فيه مثل هذه الكلمة الكبيرة!
ولم أعجب حين رجعتُ إلى واعيتي فقلت في نفسي: إنه أحمد الكبيسي! صاحب الغرائب، والمقالب، ومخالفة المألوف، الذي كثر منه وكثر حتى ألفنا ذلك منه. وأنا من عادتي تجنب الحديث عن الأشخاص والهيئات ما استطعت. ولكن يعرض لي من ذلك أحياناً ما لا يمكن دفعه؛ فأتألم وأتألم، ويموج بحر الألم في داخلي حتى يلقي بزبده على شاطئ الكلم، فأجدني منساقاً إلى الكلام. وهذه من تلك. هذه التي (تلجئك والله إلى بيع القِدِر)!
رجل يعشق مخاطبة الجمهور بما خالف المألوف والمعروف، يميل إلى الخرافة في الاعتقاد، ويجنح إلى كل ما يكسب به ود الشيعة ورضاهم ما أمكنه ذلك، ولا يبالي بما قد يكون وراءه. مصدر قوته يكمن في قدرته على التعبير صوتاً ولغة وأداءً، وامتلاكه خزيناً جيداً من المعلومات يحسن المناورة في إنفاقها، ويجيد طريقة عرضها.
في ذلك اليوم البئيس التعيس
” بيّضَ الله وجوه الشيعة “… نعق بها ثلاثاً بين (خرائب) الأعظمية، في يوم بئيس من أيام بغداد، لم يمر عليها منذ تسعة عقود! القلوب دامية، والعيون باكية، وأرتال جنود الأمريكان تملأ طرقات عاصمة الرشيد! ما ظننت نفسي أعيش حتى أرى هذا اليوم، وما ظننتها تعيش حتى تسمع هذا النعيق، ومن مآذن مسجد أبي حنيفة في ذلك اليوم البئيس التعيس، عند ظهر الجمعة 18/4/2003 .
وا مصيبتاه! يا لَلهول! ماذا أرى؟! ثم ماذا أسمع؟!
إنه أحمد الكبيسي يخطب أول جمعة بعد احتلال بغداد، فالجمعة التي سبقتها تعطلت المساجد عن إقامتها. وأنى لها ذلك والحرب تدور من شارع إلى شارع؟!
ولا أدري على أي شيء من هذا الخراب يبيض الله جل في علاه وجوهاً اسودت واغبرت وعملت ونصبت في سبيل هذا الخراب اليباب؟! أهذا ما جئتنا به يا أحمد بعد غيبة سنين على شواطئ الخليج!
والتف شريط الأحداث في بالي سريعاً..
مثير المشاكل ومبلبل الأفكار
في النصف الثاني من الثمانينيات سمعنا بالشيخ أحمد الكبيسي، واعظاً متجولاً بين المساجد، ولم تخل محاضراته يومها من إثارة ومشكلة داخل الوسط الديني.
بعد العدوان الأمريكي الأول، وخروج الشيعة بحركتهم الغوغائية البائسة بفترة فاجأنا الرجل بمحاضرة محشوة بأحاديث وروايات مما يعجب القصاص ويستهوي العوام، نقلت على شاشة التلفاز الرسمي، فيها كلام ممجوج عن الصحابة أشبه بكلام الشيعة، من مثل أن أبا بكر تسلم الراية في خيبر فانهزم، وتسلمها عمر فانهزم! إلى آخر هذا الخلط والحشو وباقي المسرحية معروفة. وما زالت في أذني رواية نسبها للنبي صلى الله عليه وسلم نصها: (من أصحابي من لا يراني ولا أراه يوم القيامة)!
وعاد أحمد بعدها إلى جولاته تلك، ودارت الأسطوانة نفسها من جديد، كلام غريب، وإثارة، وبلبلة! وتكرر هجومه على سيدنا معاوية: ” لا يعقل أن يجتمع في قلبك حب علي ومعاوية “. هذه واحدة من أوابد تلك الأسطوانة المكرورة!
حدثني صديق لي كان حاضراً لقاء له في مسجد (مصعب بن عمير) في حي البنوك في بغداد، يقول: وازدحم الناس حتى امتلأ المسجد وفاض بهم إلى الحديقة، فما ترك رواية ضعيفة يحتج بها الشيعة كرواية الطير وأمثالها إلا وسردها! فصار ذلك الجمع ينفض عنه احتجاجاً على ما يقول ويخبِّص، فلما رأى ذلك قطع المحاضرة وخرج.
ومما أتى به من تخبيصات في ذلك المسجد وغيره من مساجد بغداد قوله: إن الخضر عليه السلام هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ وحجته في ذلك أنه ليس أفضل من موسى غير محمد! وأنه لما قتل الغلام لم يره أحد! وقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم حين أسري به تحول إلى جسم أثيري غير مرئي، والبراق عبارة عن مركبة. ورد عليه قوله الأخير الدكتور حسام النعيمي في محاضرة بجمعية الشبان المسلمين وسماه ومن على شاكلته بالمهزومين أمام ثقافة الغرب.
وحدثني الصديق نفسه، قال: في جامع السماوة الكبير وفي سنة 1994 – وكان صديقي إبانها طبيباً يزاول مهنته في تلك المدينة – ألقى الشيخ أحمد محاضرة قال فيها: إذا زرت الإمام الكاظم، وأردت أن تخرج فارجع القهقرى ولا تعطه قفاك حين الخروج!
والرجل دائم الترديد لمقولة كل مسلم في الجنة دون أن يرد النار: من لا يصلي، والخمار والراقصة، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)!
قبيل نهاية التسعينات بدأ الرجل يتحدث من خلال وسائل الإعلام العراقي، تابعت بعض حلقاته في تلك الفترة، فوجدت بوصلتها العامة تتجه – كالعادة – نحو الغرائب والمخالفات التي تضر ولا تنفع، تجلب أنظار العامة وتبهرهم، لكنها لا تنفعهم، بل تثير بلبالهم وتشغل بالهم، وتكون لبعضهم فتنة. أذكر منها حديثه عن جنة آدم عليه السلام وهل هي في الأرض أم في السماء؟ وتأكيده على أنها في الأرض! وكلاماً آخر عن حياة البرزخ يقلقل الأفكار على غير ذي جدوى. فعرفت الرجل وماذا يريد.
الآيقونة الفارغة
ثم غط الرجل غطته في شاطئ الخليج ليظهر لنا في ذلك اليوم البئيس التعيس. ودارت الأحداث دورتها سريعاً لنرى عدة بنايات في بغداد ترتفع عليها لوحات باسم (الحركة الوطنية الموحدة) للدكتور أحمد الكبيسي. وفي الرمادي رأيت لوحة أخرى. كنت يومها أقول: هل رأيتم آيكونة للحاسوب مزخرفة؟ تفتحونها فإذا هي فارغة لا شيء وراءها؟ وما أسرع ما جاءت الأيام تصدق ذلك. واختفت الآيقونة من ذلك الحاسوب. زوبعة في فنجان فارغ، ثم عاد أحمد إلى تلك الشواطئ من جديد، والعود أحمد يا أحمد.
نحن في زيارة تعارف ولسنا في زيارة عمل
وقبل أن يعود ترك لنا حزمة مذكرات، هذه بعض أعواد منها:
في بداية الاحتلال – وعلى طريقة الترضوية جميعاً – ذهب إلى النجف لزيارة الولد مقتدى (أكيد من أجل تأكيد وحدة الصف). كان لأهل السنة هناك مسجد كبير بني حديثاً اسمه مسجد العباس بن عبد المطلب، فاستبشر المصلون وتجمعوا – على قلة عددهم – ينتظرون مرور الشيخ أحمد بهم، ليشكوا له حالهم؛ فمسجدهم مهدد بالاستيلاء من الشيعة لا سيما جماعة مقتدى. أنبأني صديق لي شهد الوقيعة، فقال: فلما سمع ذلك منا إذا هو يجيبنا فيقول: وما المشكلة في ذلك؟ لماذا تخلقون فتنة؟ أنصحكم أن تسلموهم المسجد وتذوبوا في وسط الشيعة، أليس الشيعة في الرمادي يتحولون إلى سنة؟ فلماذا لا تتحولون أنتم إلى شيعة؟ ما المشكلة في ذلك؟
في تلك الأيام كان مقتدى يحتجز في مدينة الثورة أكثر من (150) رجلاً من إخواننا السوريين، الذين جاهدوا الأمريكان أول غزوهم العراق. فهمس أحد أفراد الوفد المرافق للشيخ أحمد في أذنه: لو كلمت مقتدى في شأن هؤلاء الأسرى عسى أن يطلقهم فيرجعوا إلى أهليهم؟ يقول: فأجابني: نحن في زيارة تعارف ولسنا في زيارة عمل! وذاب خبر هؤلاء الرجال الشرفاء من يومها فلم يسمع بهم أحد.
وما زال الشيخ في مرحلة التعارف، ولم يتسنَّ له المجال بعد لينتقل إلى مرحلة العمل.