مقالات

انزعوا فتيل الفتنة نعم .. ولكن كيف السبيل ؟ (1)

لا تعالج الفتنة

الجائحة بالعاطفة الجانحة

منذ عشرين عاماً، أو يزيد، وقعت على هذه الجملة اللطيفة للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، في عدة مواضع من كتابه (مدارج السالكين): (شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه)، يقدمها بين يدي بعض ردوده على الشيخ أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (ت: 481هـ) رحمه الله. وجدت فيها قاعدة مهمة لكل من تصدى للإصلاح الاجتماعي في أسلوب التعامل مع الآخرين حين يختلف معهم في بعض أفكارهم. وهي وإن كانت خفيفة الحمل، لكنها ثقيلة الأداء؛ فهي تعرض أصحابها لمشاكل ما كان لهم أن يتجنبوها كلما اضطروا لممارسة النقد البناء من أجل الإصلاح العام.

download (6)

في ظل هذه القاعدة الإصلاحية الذهبية أقول: كتب الشيخ الفاضل عائض القرني – حفظه الله تعالى ونفع به وبعلمه ومواعظه – في صحيفة (الشرق الأوسط)([1]) مقالاً بعنوان (انزعوا فتيل الفتنة بين السنة والشيعة). قرأت المقال وقلبته على وجوهه؛ أفتش له عن دليل راجح من الشرع، أو مورد صالح من الواقع، أو سبيل موصل إلى الغاية المعلن عنها في العنوان، أو نوع من التوازن بين المعتدي والمعتدى عليه الوارد ذكرهما في مضمون المقال، فما عدت من هذه الأربعة بشيء!

إنما وجدت خطاباً عاطفياً، طغت لهجة العاطفة فيه فاتجهت إلى تصور للمشكلة وتوصيف للحل اعتمد تنظيراً فكرياً مجرداً، يمكن لمثله أن يقال عن أي جهتين مختلفتين حين ينظر إلى المشكلة بينهما من خارجها دون الغوص في حيثياتها وتفاصيلها، التي لو وضعت عناصرها الرئيسة في المعادلة لتغيرت الرؤية، وكان للخطاب شكل آخر قد يكون مغايراً تماماً للخطاب في وضعه الأول. والفكر ما لم يتعرض للاختبار في بوتقة الميدان لتجرى عليه التحويرات والإضافات التي تفرض نفسها على كل فكر حين يوضع موضع التطبيق والامتحان، يظل فكراً تنظيرياً جامداً لا ينصر حقاً ولا يكسر باطلاً، بل هو إلى العرقلة والتعويق أقرب منه إلى الحركة الموزونة في الاتجاه الصحيح.

وألتمس للشيخ عذراً في أنه عاش حياته في وسط سني، لم يتعرض للتحدي الشيعي ليأخذ الفكر استحقاقه من التعديل والتطوير، مارس العلاج والإصلاح في هذا الوسط، فتوصل إلى خلطة أو وصفة علاجية تتناغم معه، ثم هو يريد نقل هذه الوصفة إلى وسط آخر مغاير، دون ملاحظة اختلاف الوسطين وتفاوت المرضين من حيث الدوافع والأهداف والشخصية الجمعية والتركيبة النفسية، بمعنى أنه يستعمل علاجاً واحداً لمريضين مختلفين.

إنها إشكالية مزمنة، وأزمة مقعدة في فكر وأدب الدعوة وقواعدها لدى عموم الجماعات الإسلامية السنية، حين تحاول ممارسة الدعوة في أوساط الشيعة، أو تتكلم عنها وتُنَظِّر لها، استنساخاً لتجربة جرت في وسط سني؛ اعتماداً على تقرير نجاحها في ذلك الوسط. بمعنى أن العلة ليست في الدواء، وإنما في المريض من حيث طبيعة مرضه، التي تستدعي تغييراً ضرورياً في تركيبة الدواء. وحتى يتم هذا التغيير يظل العلاج بلا فائدة. وهذا ما دعاني لتأليف كتابي (لا بد من لعن الظلام)، وكتابي (التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية؟).

إن لنا في العراق (ميدان الاختبار الحقيقي لكل نظريات التعامل مع الشيعة) تجربة رائدة بدأناها قبل ربع قرن، طبقنا فيها جميع النظريات المطروحة، وعرضناها للاختبار، وخرجنا منها بخلاصة نعتقد أنها أقرب للصواب، نأمل من إخواننا في دول الجوار، أو البعيدين نسبياً عن المحيط الشيعي، أن يدرسوها وينتقدوها وينتفعوا بها.

عند بوابة المقال

تظهر من خلال قراءة المقال، والانتباه إلى توقيته الذي صدر فيه، جملة أمور مهمة تتعلق به من خارجه قبل الدخول في مضمونه، أهمها ما يلي:

  1. ثمة سؤال ضروري الإجابة قبل الشروع في وضع العلاج، وبيان كيفية التعامل مع الشيعة: هل أزمة الحالة الشيعية الداخلية أو مشكلتها الذاتية: فكرية أم نفسية؟ ونحن – من خلال تجربتنا الميدانية الغنية بالاحتكاك والتفاعل والرصد والتحليل، ومن خلال دراستنا النظرية المعمقة، المتواشجة مع التجربة الميدانية الواسعة – توصلنا إلى تشخيص الحالة، وأجبنا عن السؤال السابق بأن التشيع عقدة نفسية جمعية أفرزت عقيدة دينية اجتماعية، أو هي عقيدة وطقوس وسلوك اجتماعي ناتج عن عقدة نفسية جماعية. وأودعت هذه الحقيقة في كتابي آنف الذكر. إن هذا التشخيص شرط ضروري للعلاج الناجع، أو التعامل الصائب مع الحالة، ومن دونه يبقى العلاج معلقاً في الهواء، وتذهب جميع الجهود مع الريح، سوى نتائج فردية لا تغير من المعادلة الاجتماعية الكلية شيئاً له قيمة في هذا المجال. وهذا الخلل في التشخيص ليس مقتصراً على الشيخ عائض وحده، بل هو أزمة فكرية عامة.
  2. وجدت الشيخ الفاضل يجمع إلى غياب هذه الحقيقة المهمة عن باله، التغاضي عن حقيقة التشيع نفسه كعقيدة ودين وفكر وطقوس وسلوك، فكان كلامه بعيداً عن رؤية عقيدة الشيعة في الشرك بالأولياء، وتكفير الصحابة وأهل السنة عموماً، والتهجم على أمهات المؤمنين واتهامهن بأشنع التهم، والطعن في علماء الأمة ورموزها في القديم والحديث، وموقع السيستاني نفسه شاهد صارخ على ما أقول. بحيث أن الشيخ ينكر حتى مجرد وصف التشيع بالبدعة! أما انعكاس هذا الدين، بكل ما فيه من بلايا، على الواقع فلا تحس له من أثر في كلامه واهتمامه! وحكمي هذا مقتصر على هذا المقال حصراً.

وآخذ مثالاً واحداً: مسيرات الشيعة في مواسمهم الدينية، التي لا يخلو شهر أو نصف شهر من إحداها، في شوارع بغداد والمدن الأخرى، وما يجري فيها من تحدٍّ لمشاعر السنة واستثارتهم بالشعارات الهمجية، وما فيها من لعن وسب لرموز الأمة الدينية والتاريخية: هل يعلم الشيخ عائض كيف تتعطل الحياة الاعتيادية والاقتصادية أياماً متتابعة لسكان هذه المدن، وينكفئ الإنسان العراقي العادي على نفسه في هذه الأيام العجاف يتضور وأهله جوعاً؛ لأن رزقه النكد ينقطع فيها فلا يعود إلى أهله بشيء من كسب أو متاع؟! ولا بد – حين يستحضر الشيخ في ذاكرته هذا الواقع المزري – أن يستشعر ماذا يعني هذا بالنسبة لفقير لا يملك قوت يومه، ولا عنده إمكانية ليكسو جلود بناته في زمهرير الشتاء، ولا يسترهن في أتون الصيف! والفقراء في بلدي كثير كثير. يؤسفني أن أقول: هذا مثال واحد، واحد فقط! وبسيط يشهد على أن المقال مقال من لا يكاد يدري عن الواقع العراقي، ولا يستحضر من آلامه شيئاً. وظننا بالشيخ غير هذا.

ناهيك عن سعي الشيعة الحثيث في التآمر على الأمة أفراداً وجماعات ودولاً وحكومات؛ فالشيعة مكون اجتماعي متفجر، سرطاني السلوك، اجتثاثي العلاقة، ينشر الفتنة والخراب في المجتمع الذي يتواجد فيه ما وجد إلى ذلك سبيلاً. بينما كلام الشيخ ينطلق من نقطة معكوسة تصور الشيعة جماعة مسالمة مظلومة، تتلقى الطعنات واللكمات من الآخرين، وما يصدر عنها من فعل مقابل إنما هو رد فعل من مضروب يتأوه، ومعذب يصرخ من الألم الذي يسببه له الآخرون. بينما الحقيقة هي بالضد من ذلك تماماً.

  1. إن أهم ما يميز المنهج السلفي التركيز على العقيدة الإسلامية الصافية، وتبديع من خالفها والإنكار عليه، وفضح رؤوس الضلالة؛ فالإسلام لم يكتف بفضح العقائد الفاسدة مع التستر على قادتها ورموزها. وإذا بحثنا عن فرقة تقابل السلفية، وتناقضها من جميع الوجوه لا نجد غير فرقة الشيعة الاثني عشرية. إنها البدعة مقابل السنة ضداً بضد وعكساً بعكس! والردود المتبادلة بين الطرفين تبديعاً وتفسيقاً وتكفيراً معلومة. ولم يخرج علينا في تاريخ السلفية (ولا الشيعة الاثني عشرية) عالم يحرم الرد على الطائفة الأخرى، وينكره أو يستنكره، وينحى باللائمة على فاعله. وما نعرفه أن الشيخ عائض سلفي، فكيف جمع بين هذا وهذا؟!
  2. واضح أن المعني بالمقال هو الشيخ الفاضل محمد العريفي في وصفه السيستاني بالزندقة، في معرض خطبته عن فتنة الشيعة الحوثية وقتالهم ضد اليمن والمملكة العربية السعودية.

ونرى – عند ملاحظة توقيت المقال – أن الموقف الصحيح و(واجب الوقت) المفروض شرعاً وقانوناً وعرفاً أن يتجه الخطاب إلى تثبيت الشعب وتعبئة الجيش عقائدياً وفقهياً وعاطفياً بما يزيده إيماناً بقضيته، وعدالة هذه القضية في معركتها ضد المعتدين، ويرفع حماسة الجميع للوقوف ضدهم. وإذا كان ذلك كذلك فأول لوازم هذا الواجب الابتعاد عن كل كلمة يمكن أن تغرس الضعف في القلوب، وتلقي بالوهن بين الصفوف، وتجعل الإصبع يرتخي عن الزناد، وتأجيل كل حديث يمكن أن يؤثر على بوصلة الأزمة في الاتجاه المذكور.

الوقت وقت حرب مطلوب فيه أن تحشد كل الطاقات لها، لا وقت سلم يمكن أن تناقش فيه الاختلافات الفكرية، وتثار فيه الأزمات الاجتماعية. وأقل ما يجب في هذه الحال السكوت عن الخلاف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).

وإذا ربطنا هذه الجزئية بالخطة الفارسية القديمة قدم زوال دولة الفرس، والتي كان أول ثمارها إثارة الفتنة التي انتهت بمقتل الخليفة عثمان بن عفان، تلك الخطة المتجددة بشواهدها التاريخية والمعاصرة، التي تقوم على إلقاء بذور الخلاف ونشر أسباب الفتن بين الشعوب وحكامها من جهة، وبين الشعوب نفسها مع بعضها من جهة أخرى، إذا ربطنا الجزء ذاك بالأصل هذا تبين لنا أن المقال لا يتوافق مع الهدف المعلن عنه في العنوان، ألا وهو نزع فتيل الفتنة.

_________________________________________________________________________________

  1. – العدد 11382 ، الثلاثاء 26/1/2010.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى