مقالات

قصص من واقع العراق الجديد…. (1)

السيد سارق المحفظة

رواية الأخ علي العراقي

صياغة وإخراج الدكتور طه حامد الدليمي

iraq_soldier_200810

كان لي شرف المشاركة في معركة القادسية الثانية التي مرغت أنوف الفرس في وحل الهزيمة. لم يبق لي من ذلك الزمن العزيز سوى ذكريات أجترها بفم يبحث عن قطرات ماء!

في إحدى المعارك استشهد بعض الجنود الأبطال. وكان معنا أحد الجنود الشيعة المعروفين بالتخاذل عندما يحمى الوطيس، فقام هذا الجندي بسرقة سلاح أحد الشهداء. اكتشف أمره فأودع التوقيف، وتشكل بعد المعركة مجلس تحقيق لهذا الشأن، ثم أحيل إلى المحكمة العسكرية. وبعد الاستماع إلى الشهود واعتراف الجندي بالسرقة حكم عليه بالسجن مدة سنة واحدة.

كان هذا الجندي من المدينة التي أسكن فيها؛ فكنت أعطف عليه، وأساعده كثيراً. كنت أذهب إليه في سجنه كل يوم تقريباً وأقضي له بعض اللوازم والحاجات. في أحد الأيام زرته  فوجدته يبكي! وسألته ما يبكيك؟ قال: اشتقت إلى أهلي. قلت له: لم يبق سوى ستة أشهر ويفرج عنك؛ فأجهش ثانية بالبكاء وقال: يا علي أسألك بجميع الأئمة المعصومين أن تلبي لي طلبي. كنت وقتها ما زلت أعتقد بهذه الخزعبلات. فقلت: وما هو طلبك؟ قال: أريد أن أذهب إلى أهلي. قلت: وكيف لي بذلك؟ قال: إن الحرس وآمرهم هم أعز أصدقائك، ولا يردون لك طلباً. ثم بكى وتوسل إلي كثيراً؛ فرَق قلبي لحاله. ذهبت إلى صديقي آمر الحرس فاشترط عليّ أن إذا سأل عنه الضباط أو المسؤولون سيقول لهم: استلمه علي بوصل استلامٍ موقع؟ فوافقته. وبعد أن رتبنا له هوية  ونموذجاً مزورين، ووقعت وصل الاستلام إلى آمر الحرس، ذهب السجين إلى أهله.

فوجئنا بعد ثلاث ساعات بعودته إلينا مدمى مصاباً بكدمات ورضوض! فقلنا له: ها؟ ماذا أصابك؟ قال: تشاجرت في مرأب السيارات.

وهكذا أرجعناه إلى السجن. لكن تبين أن وراء ذلك قصة أخرى! إذ جاءنا بعد قليل أحد الجنود يخبرنا أن صاحبنا سرق محفظة نقود جندي مجاز! فما كان من الجندي المسروق إلا أن استغاث بمن حوله فاجتمعوا عليه وأوسعوه ضرباً، فلم يجد أمامه غير الهرب. وأثناء الركض سقطت منه محفظته بما فيها من هوية ونموذج إجازة؛ فاضطر للعودة إلى الثكنة العسكرية.

كانت ذلك بداية سنة 1988. بعدها نقلت إلى  وحدة عسكرية أخرى، فودعت صاحبي، ولم أره بعدها. وهكذا انقطعت عني أخباره.

ومرت الأيام والأعوام.

بعد الاحتلال بخمس سنين راجعت إحدى الدوائر الحكومية بكتاب رسمي من دائرة أخرى، فقال لي الموظفون: إن هذا الكتاب معنون باسم الدائرة قبل الاحتلال وقد تم تغيير اسمها، وهذا مخالف لأوامر السيد. قلت: هل أنا في الحوزة أم في دائرة حكومية؟ ثم إنها مسألة بسيطة ولا تحتاج إلى هذا التعقيد. فقالوا لي: هذا هو النظام المعمول به هنا. والسيد متشدد وملتزم بالقانون، ولا يخالفه أبداً. قلت لهم: دلوني على سيدكم؟ فأشاروا إلى الغرفة المقابلة. طرقت الباب ودخلت، فوجدت اثنين من الموظفين والسيد يتكلم وهو غضبان بصوت مرتفع عن الأمانة والصدق والشرف والنزاهة واحترام القانون والحفاظ على ممتلكات البلد. تقدمت قليلاً وسلمت، فلم يرد أحد السلام. كان السيد منشغلاً بإلقاء المواعظ، والموظفون بالاستماع إليه بكل اهتمام. أعدت التحية مرة أخرى فانتبهوا فردوا السلام. نظرت إلى وجه السيد فعادت بي الذاكرة إلى سنة 1988، إنه هو نفسه! نعم والله سارق سلاح الشهيد! إنه يتكلم عن الأمانة والشرف والالتزام! سبحان مغير الأحوال!

قلت له: لحظة يا أستاذ أظنني أعرفك؟ قال لي: من أين تعرفني؟ قلت له: ألا تتذكر في عام 1988 يوم كنا في الوحدة العسكرية (ل) فقال لي: من أنت؟ قلت له: أنا فلان ألا تعرفني؟ فحك رأسه ثم تذكر قائلاً: نعم نعم عرفتك! ولكن كيف عرفتني وقد تغيرت ملامحي وهذه النظارات على عيوني؟ قلت له: لو أنك لبست قناعاً لعرفتك. أدرك صاحبي ماذا أقصد؟ وإلى م أرمي؟ فقال لي: تفضل اجلس يا أستاذ. وأمر الموظفين بالخروج من الغرفة. وعندما خلا الجو قال: ما نوع المساعدة التي تريد أن أقدمها لك؟ ما إن أكملت كلامي حتى أخذ مني الكتاب بيده وذهب إلى الموظفين يحمله بنفسه. فاندهش الموظفون وهم لا يكادون يصدقون ما يرون! السيد! هذا الجبل الذي لا يتزحزح من مكانه، ولا يرحم أحداً منهم يفعل هذا؟! ترى! ما هو السر؟

وخلال دقائق معدودة أنجزت معاملتي وحصلت على كتاب رسمي بالذي جئت من أجله. قال لي أحد الموظفين ولا زالت علامات الاستغراب على وجهه: هل تعلم أن السيد لم يساعد أحداً قبلك؟ فكيف ساعدك؟ قلت له: بيننا معرفة قديمة، فقد خدمنا معاً في الجيش. قال: إنه لا يساعد أحداً من الموظفين الموجودين معه. قلت له: إن قصتي مع هذا السيد عمرها سبعة عشر عاماً. وتركته وأنا أغالب ضحكة أخذت بخناقي، وأنا وأردد وأقول: هذا هو العراق الجديد.!

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى