في الذكرى الثلاثين لعدوان إيران على العراق
” لمحة تحليلية نفسية “
أعياني ذلك المريض بشكواه التي لا تنقطع، وأدوائه المتعددة التي لم أستطع حسم واحد منها بوصفة ولا دواء!
قلت يوماً: هذا غير معقول!
وفي لحظة توهج تنتابني بين الفينة والأُخرى، جربت أن تناول الموضوع بالطريقة غير المعتادة. لم لا أنظر إلى المرض على أنه حالة نفسية وليست عضوية؟ وهكذا بدأت الاستعانة بمعلوماتي في الطب النفسي، رغم أنني لست طبيباً نفسانياً. وأنجدتني قراءاتي السابقة لبعض كتب العلامة الشهير سيجموند فرويد، فبدأت أحلل الحالة التي أمامي من خلال معرفتي بالمريض وحالته وعائلته ووضعه المادي والتركيبة النفسية لشخصيته. لا أريد أن أطيل عليكم، ولكن أذكر لكم عناصرها الأولية باختصار: (شاب فقير، يعيل أسرة كبيرة ترهقه بمطاليبها، وليس لديه من عمل ذي مورد ثابت يكفيه وعائلته. ثقافته بسيطة، وتارك للدراسة مبكراً. من النوع الذي يتهرب من المسؤولية ويلقي بتبعاتها على غيره. أمراض مختلفة يتشكى منها لا أثر من أعراض ظاهرة ولا باطنة أو تحليلات توقعك عليها). إذن قد يكون المرض بالنسبة لهذا خير مهرب للتخلص من مطاليب العائلة الملحة المتكررة، والتي عليه – بحكم الواجب، وبحكم الموقف الأخلاقي الذاتي والاجتماعي – الالتزام بها. المرض يعفيه – أمام الناس وأمام عائلته، بل وأمام نفسه – من هذا الالتزام الثقيل.
وحتى لا يُشكل هذا التشخيص على بعض القراء عليهم أن يعلموا أن هذا كله يجري تحت مستوى إدراك المريض. بمعنى أن المريض لا يعي من حالته المرضية ولا الطريقة الداخلية التي يواجهها بها شيئاً! إنما هي حيل نفسية لا شعورية يقوم عقله الباطن بتصنيعها وتصديرها بكل تفاصيلها. وحين أخبرت الشاب أن حالته نفسية، وأن الأمراض المتعددة التي يشكو منها لا وجود لها، ناصحاً إياه بأن يبحث عن عمل علاجاً لمعاناته، ضحك ساخراً مني، ورافضاً فكرتي من الأساس.
أخيراً اضطررت شخصياً لأن أسعى – وكانت بيني وبينه صلة قربى – لكي أجد له عملاً من النوع الذي يميل إليه ويجيده، يدر عليه كسباً يومياً مناسباً. وقد أفلحت – بفضل الله – في ذلك؛ فشفي الشاب من مرضه الوهمي، ولم يعد إلى شكواه القديمة، التي طالما كان يصدِّع بها رأسي دون انقطاع.
الشعوب كالأفراد
الشعوب كالأفراد سواء بسواء.. تمرض (جمعياً) بأنواع الأمراض: العضوية والنفسية. ومن عجب هذه الأمراض (الجمعية) أن الفرد قد لا يكون مصاباً بها كفرد، فلا يتلبسه المرض إلا حين يكون ضمن حالة جماعية. وتلك الأمراض غير مدرَكة من قبل الشعوب التي تعاني منها، بل ترفض الاعتراف بها حتى وإن شخصت من قبل الخبراء وذوي الاختصاص، وشرِّحت حالتها على طاولة البحث العلمي.
في قصة ذلك الشاب رأينا كيف أن الدافع الأساسي للحالة لم يكن ظاهراً على السطح، وأن جميع النقاشات والعلاجات كانت تدور بمعزل عن مكمن العلة. والنتيجة استمرار الأزمة بلا نتيجة. أي كل شيء هنا هدر في هدر، ما لم يتم نقل الحركة إلى ميدانها الصحيح.
ورأينا أيضاً كيف رفض المريض الاعتراف بالحقيقة التي تكمن وراء حالته أو علته؛ لأنه شعر كأنه ظهر عارياً بسوأته أمام الناظرين.
جارة السوء .. ذلك المريض المعقد الصفيق
تعالوا بنا نسقط هذه الحقائق العلمية الطبية للأمراض النفسية الجمعية على الحالة المرضية المزمنة المصابة بها جارة السوء إيران.
إيران تعتدي على العراق منذ فجر الوجود وإلى اليوم. ثم تعكس الأمر فتشكو هي من اعتداء العراق عليها.
نحن أمام حالة مرضية جمعية ولا شك.
ثم تدور النقاشات، ويكثر الجدل ويحتدم، وتتطاير التهم وتطول وتتسع، وتتدخل الوساطات وتذهب الوفود وتروح بشتى المقترحات والأفكار، وفي نهاية المطاف توضع الحلول، ولكن بناء على الوقائع الميدانية الظاهرة دون الحقائق الباطنة؛ لهذا ما إن تسحب نفَساً وتقول: الحمد لله؛ لقد هدأت الأمور، حتى تنفجر المشكلة مرة أخرى، ونروح في دوامة لا تنتهي إلا وتبدأ من جديد….. وهكذا منذ خمسين قرناً ويزيد.
أما الحقيقة فتجدونها في النفسية الجمعية المريضة لإيران الفارسية، المعبأة بأكثر من عشرين عقدة مرضية أحصيتها في كتابي (التشيع عقيدة دينية أم عقدة نفسية؟). تأتي على رأسها عقدة النقص ومنها تولدت بقية العقد: الاضطهاد والمحرومية (المظلومية)، الحقد، الثأر، العدوانية، التعصب، الاستكبار، الغدر، اللؤم، الكذب والإسقاط والصفاقة وغيرها.
إن هذه العقد تشكل التركيبة الأساسية للشخصية الجمعية الفارسية؛ ولهذا لا يمكن لهذا الشعب – كمجموع شعب لا أفراد – إلا أن يكون حاقداً بطبعه، ثأرياً انتقامياً بشعوره، عدوانياً بسلوكه، متشكياً متمظلماً بحاله وقاله، كذاباً بدعواه وحجته، مقذعاً فاحشاً متفحشاً بلسانه ولهجته. ملقياً بالمسؤولية ومسقطاً بنواقصه وجرائمه على غيره.
هنا مكمن العلة! هذه هي الحقيقة. لكنه – طبقاً لطبيعة الحالة – حين يواجه بها يتهرب منها ساخراً، ومفنداً؛ حتى لا يشعر بانكشاف سوأته أمام العالمين.
هذه السنين السبع لا غيرها
نعم لا يمكن لإيران أن تعيش وتستمر دون عدوان. ومن أشكل عليه ما أقول فلينظر إلى هذه السنين السبع الفائتة: العراق مشغول بنفسه وكارثته، وحكومته شيعية تدين بالولاء والتبعية لإيران، ومع هذا فإن إيران قامت بشن اعتداءات حدودية لا تحصى على العراق، منها ما كان بالقصف المدفعي، ومنها بالغارات الجوية على المدن القريبة، ومنها بالاحتلال العسكري السافر، كما حصل لحقل الفكة في ميسان وجزيرة أم الرصاص وشط العرب والملاحة النهرية وسرقة النفط المعلنة والخفية. بل إن الاحتلال الغربي للعراق شاركت فيه هذه الجارة مشاركة فعلية باعتراف مسؤوليها. وأما التدخل في الشؤون الداخلية، ودور السفير والقناصل الإيرانيين وفيلق القدس وعشرات الآلاف من أفراده، والقتل الذريع للعراقيين وملاحقتهم وتصفية العلماء والكفاءات، وغيرها وغيرها… فحدث ولا حرج. هذا ولا تجاوز واحد من قبل العراق على الطرف المعتدي ولو من باب الرد بالمثل! بل لو أراد ذلك ما استطاع.
كل هذا وما زال بعض المغفلين أو المتغافلين يقول: إن العراق هو الذي بدأ الحرب على إيران!
نحن إزاء مرض جماعي معقد وخطير. ترسخ فصار طبيعة مجتمع، وخصائص شعب، وخصال أمة. إن خصائص الشعوب لا يمكن تغييرها إلا بمحوها واستبدالها. وهذا مستحيل إلا على الله جل في علاه؛ فالحجج المنطقية – وإن كانت مطلوبة ومهمة – ليست هي الحل أو الملاذ، وإنما القوة – بكل ما تعنيه هذه الكلمة – هي السيف القاطع للنزاع في صراعنا الأبدي مع إيران، وأذنابها.
ونحن لها…. ولهم بالمرصاد إن شاء الله. نقولها مضطرين.. لا مختارين.
هذا قدرنا.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.