مقالات

من فضائل الصدِّيقة بنت الصدِّيق (1)

فروع العقيدة كفروع الشريعة يجوز الاختلاف فيها.

والإنكار فيها من المثبت على النافي، وبالعكس، لا يجوز. فضلاً عن التفسيق أو التكفير. ما لم يكن في المسألة نص محكم سنداً ومتناً.

والنصوص الحديثية في هذا الباب حجة على من صحت عنده بالفهم الذي يترجح في ذهنه، دون من لم تصح لديه. وقد تكون صحيحة بالنسبة للطرفين، لكن دلالتها ظنية، فيسوغ الاختلاف كل حسب فهمه.

أما الأصول فلها شأن آخر.

لماذا؟ لأنها ثابتة بنص القرآن المحكم. ومن خالف نص القرآن المحكم عالماً به فهو كافر. مثلا؟

  • الاعتقاد بمجيء المهدي على طريقة أهل السنة: مسألة اعتقادية فروعية. قال بها جمهور العلماء وخالف فيها آخرون. ولم ينكر أحد الفريقين على صاحبه بشيء، سوى النقاش العلمي، وهو مشروع مطلوب.
  • الإيمان بعدالة الصحابة: مسألة اعتقادية أصولية، ثابتة بنصوص القرآن المحكمة. لهذا أجمع علماء المذاهب الأربعة وغيرها من سلف الأمة على أن من كفّر جمهور الصحابة فهو كافر، يستتاب وإلا قتل. وإن كان مكفرهم فئة ممتنعة تقاتل، عند القدرة، حتى تقر بذلك.

سيدة نساء العالمين

الذي أعتقده، من خلال مجموع أطراف الأدلة، أن أُمنا عائشة رضي الله عنها – بعد أُمنا خديجة رضي الله عنها – هي سيدة نساء العالمين دون منازع من بقية النساء؛ لأسباب كثيرة منها أن الأمة انتفعت، وتنتفع إلى يوم الدين، بما ورثته من علمها، ما لم يكن لامرأة غيرها. وهذا الفضل المتعدي نفعه إلى الغير من عموم أجيال المسلمين لا يمكن إدراكه أو سبقه بعمل الذات المقتصر نفعه على صاحبه.

dc15bc807ac816203dd92fe8a791ca63

أما استثناء السيدة خديجة الكبرى؛ فلأن لها فضلين: فضل السبق، وفضل رعاية الإسلام ودعوته في أول نشوئها إلى ما يقارب نهاية العهد المكي: فهي التي سهرت على راحة النبي صلى الله عليه وسلم، فآزرته وأعانته ونصحت له، وهيأت له بيتاً لا صخب فيه ولا نصب. وهي التي أمدته بما يحتاج إليه من مال ليتفرغ لشؤون الرسالة وتبليغها. فهذا فضل سابق متعد لا يدانيه فضل لامرأة سواها، بل يترتب عليه – والله أعلم – أن كل عامل بالدين من الرجال والنساء ممن تأخرعنها لها من أجره نصيب.

لهذا نقول: لا بد لكل صاحب دعوة، كي يبلغ مبالغه فيها، من صاحب مال يمده، وزوجة ترعاه وتدفعه وتوده. وهذا – والله أعلم – من أسرار قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74)، وإلا لماذا ذكر الإمامة مع الزوجة حين تكون لزوجها قرة العين ومنشرَح الفؤاد؟

وفي الحنايا منَ الماضينَ موعظةٌ
يتلو مزاميرَها التاريخُ مُتَّئِدا

” لولا ( خديجةُ ) و ( الصدِّيقُ ) ما ظَهَرَ الـ
إسلامُ مؤتلقاً والشركُ ما خمَدا “

مما يؤيد رأينا في تفضيل خديجة وعائشة رضي الله عنهما على سائر نساء العالمين، ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء: إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

تذكروا أن هذه مسألة اعتقادية فرعية، يسوغ فيها الاختلاف، وتعدد الآراء ووجهات النظر.

من فضائل الصديقة أُمنا عائشة رضي الله عنها

أريد أن أقف عند آيتين من الآيات التي نزلت في أُمنا عائشة رضي الله عنها، حين تكلم فيها أصحاب الإفك. أُولاهما قوله تعالى: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَـذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (النور:16).

هل رأيتم كيف نزه ربنا تعالى عائشة بهذه الكلمة: (سبحانك)، التي لا تقال إلا لجلال الله خاصة؟ وهل تفكرتم في سر ورودها هنا في هذا الموضع؟

يقول بعض العلماء: معنى الآية أن من كان مسبحاً لله، منزهاً له عما لا يليق بجلاله وكماله، ما يكون له أن يتفوه بهذا وينسبه لأم المؤمنين عائشة، وإلا كان طاعناً في الله نفسه. فجعل الله تعالى الطعن في عائشة بمنزلة الطعن فيه سبحانه! وهذا لم يكن لأحد من النساء سواها.

تصوروا لو أن هذه الآية نازلة في سيدنا علي رضي الله عنه، لقال الشيعة: هذه من أكبر الأدلة على عصمته وإمامته؛ فالتسبيح يعني التنزيه، فلولا أن علياً منزه عن الذنب والخطأ، لما جاء الدفاع عنه بصيغة التسبيح المنسوب إلى الله نفسه! وصدق من قال:

ما تبلغُ الأيامُ من جاهلٍ ما يبلغُ الجاهلُ من نفسِهِ

والآية الثانية قوله تعالى: (لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـَذَآ إِفْكٌ مّبِينٌ) (النور:12).

يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السيء, وما ذكر من شأن الإفك فقال تعالى: {لولا} يعني هلا {إذ سمعتموه} أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها {ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً} أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم, فإن كان لا يليق بهم فأُم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى. وقد قيل: إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما, كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار: إن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم وذلك الكذب, أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله, قال: فعائشة والله خير منك).إ.هـ.

فلو أن الطاعنين في أُمهات المؤمنين بمستوى فوق أن تكون أعراضهم ملوثة، ونفوسهم قد أدمنت الخنا بأدنى وأوطأ أشكاله، لما طوعت لهم تلك النفوس الخبيثة أن يتفوهوا بما تفوهوا به من كلام (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً) (مريم:90). ومن معرفتنا الميدانية أن أغلب هذه النماذج مصابون برذيلة (الأُبنة) على أوسع نطاق. فما بالك بنسائهم! وهذا جزاء من يدلع لسانه ويلغ في عرض سيدات نساء العالمين، وعرض أكرم وأشرف وخيرة النبيين. ولولا أنهم، قطعاً، كذلك لما تجرأُوا على مثل ذلك. فليلتفتوا إلى أدبارهم ليحموها، ونسائهم ليلجموها، وما هم بفاعلين. لعنهم الله تعالى في الدنيا والآخرة، ومن رضي بفعلهم، ومن لم يلعنهم، ومن لم ينكر عليهم.

يتساءل بعض الناس: لماذا لم يدافع هؤلاء عن البلد حينما احتله الغزاة؟ فأجيبهم: كيف لمن لم ينتخ ولم يتمكن من المحافظة على مساحة (سم2) واحد بين حاذييه أن ينتخي لحماية العراق العظيم؟!!!

من شواهد الواقع

ذات يوم قبل الاحتلال بسنين شكا إلي أحد الشباب الذين يصلون في مسجدي من مشكلة تتلخص في أن أُخته متزوجة من شيعي يسكن مدينة كربلاء، وأن حماها (أخا زوجها) يسيء إليها بالطعن في أمير المؤمنين الفاروق رضي الله عنه، ويصفه بأنه (نغل) بهذا اللفظ! وتتعقد المشكلة حين ترد عليه وتجادله. ومر زمن كدت أنسى فيه هذه الحكاية. وفي إحدى خطب الجمعة، تطرقت إلى القول بأن من يطعن بعرض النبي صلى الله عليه وسلم فليراقب زوجه أو أُخته فإنها تزني، ولا بد، إلا لحكمة يعلمها الله جل في علاه. وإذا بالشاب يأتيني بعد الصلاة يقول لي: تذكر الرجل الذي أخبرتك عنه أنه يطعن في عمر بن الخطاب ويقول عنه كذا وكذا؟ اسمع ماذا كانت نهايته: مات والد نسيبي وترك إرثاً، ولما جلس أبناؤه لقسمة التركة رفضوا أن يعطوه شيئاً.

أتدري لماذا؟

لقد تبين أن الرجل (نغل) وجده أبوهم مُلقىً على إحدى المزابل، فحمله إلى بيته ورباه، ولم يخبره بالحقيقة حتى مات، فصرح بها من كان يعلم بها ويكتمها من قبل!

قلت: سبحان الله!

قال: نعم، وهذا دليل على ما قلته في الخطبة من أنه لا يطعن في عرض النبي صلى الله عليه وسلم إلا من كان مدخول العرض.

وصدق الله تعالى إذ يقول: (لّوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـَذَآ إِفْكٌ مّبِينٌ) (النور:12).

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى