مقالات

الحالمون .. والمشروع الوطني الفاشل

lolwa

في مجلس حافل ضم شتى أصحاب التوجهات الفكرية من العراقيين وبعض العرب تكلمت بعد تناول طعام العشاء – وكان فاخراً باذخاً على عادة كرم أهل العراق – فقلت: لقد آن الأوان، وصار ضرورة ملحة تدق ناقوس الخطر من سنين، لمراجعة المفاهيم القديمة وتجديدها، والنقاش بشأنها للخروج بورقة عمل ذات مصداق واقعي، تشارك في خروجنا من الأزمة المحدقة. من هذه المفاهيم مفهوم التعايش بين السنة والشيعة على أساس “لا فرق بين سني وشيعي”. وهو المفهوم الذي انبثق عنه عام 1921 (المشروع الوطني) الذي تأسست عليه الدولة العراقية الحديثة. والذي أثبت على مدى ثمانين عاماً فشله الذريع المريع، ولم نجن منه – نحن أهل السنة – سوى خسارة العاصمة والميناء الوحيد بيد الشيعة، ما كان سبباً أصيلاً في ذبحنا وتهجيرنا وتهميشنا والاعتداء على حرماتنا ومقدساتنا حتى عدنا أضعف مكون من المكونات الثلاثة الرئيسة، رغم أننا أكبرها حجماً وأكفأُها نوعاً! قارنوا ذلك بالوضع عشية الاحتلال الانجليزي؛ حين كانت العاصمة بغداد في عافية من وباء الشيعة والتشيع.

إن سبع سنين من الجهد الكبير الذي بذله أهل السنة بعد الغزو الأمريكي، والثمن الباهض الذي تحملوه ودفعوه لم يسفر إلا عن هشاشة وزنهم، وضعف تأثيرهم، والخوف من ذوبانهم وضياع هويتهم!

لماذا؟ لأن أهل السنة ما زالوا على تلك المفاهيم القديمة.

الحالمون الواهمون

تكلم صاحب الدار – وهو من أتباع الهيئة([1])، رجل فاضل كبير السن، يحمل شهادة الدكتوراه، في قلبه حرقة ولوعة، وفي لهجته حرص، وقلبه هم – فقال: في الشيعة أناس خيرون، أما السيئون فهم قلة لا يمثلون الشيعة. واستشهد بعلاقاته ببعض شيوخ العشائر في ناحية من نواحي إحدى المحافظات العراقية، وكيف أنهم لا يفْرُقون عنا بشيء، ويحفظون العهد، ويكنون لنا الود. إنهم مثال (الشيعة العرب) الذين يقوم عليهم المشروع الوطني، الذي فيه إنقاذ البلد. تركته يسترسل في كلامه ولم أقاطعه إلا في جملة بالغ فيها كثيراً لا يسكت عليها. قال: إن نفوس تلك الناحية يبلغون نصف مليون نسمة! وكلهم معنا، وهكذا عامة الشيعة في الجنوب. فقاطعته قائلاً: إن نفوس المحافظة التي تنتمي إليها تلك الناحية كلها (660) ألفاً، فكيف تبلغ نفوس ناحية ريفية نائية صغيرة هذا العدد؟!

تشعب الموضوع من قبل المتكلمين، أحدهم شيخ فاضل معمم معروف حاصل على درجة الدكتوراه في الشريعة، (هيئوي) أيضاً. حاول كثيراً أن يتجه بالموضوع إلى فتوى المشاركة في الانتخابات. لكنني لم أستجب لمحاولاته خوفاً من تشتت الفكرة المحورية، وهي فشل (المشروع الوطني)، وضرورة الخروج بحصيلة نافعة بشأنها. سوى نقطة واحدة رددتها سريعاً ولم أتوقف عندها كثيراً حتى لا ننجر إلى خارج نطاق الحديث. قال الشيخ: كيف تصف المفتين بحرمة التصويت بأنهم لا يعرفون الفرق بين (الرخصة) والعزيمة)؟ أنا اليوم درّست هذا الموضوع لطلابي.

خياليون لا واقعيون

لو وقفتم لحظات عند هذا السؤال لتكشف لكم سر أزمة المتصدين للتقدم أمامنا، لقد وجدنا أكثرهم لا يصلحون لقيادة الحياة. إنهم يحاكمون الأشياء محاكمة ذهنية بعيدة عن الواقع، فيتوهمون أنهم بمجرد معرفة الأصول الفقهية أو الأحكام الشرعية، وعقد الجلسات للحديث حولها يمكنهم حل مشكلات المجتمع، دون أن ينتبهوا إلى أن المهم من هذا كله هو تنزيل تلك الأحكام على مواردها المتحركة من وقائعها المتغيرة. وهذا إن أصابوا فيه مرة أخطأوا مرات ومرات، سيما في أمور السياسة. قلت له: يا شيخ! ليس المهم حفظ القاعدة، المهم تطبيقها. هذا ما قصدته، وقطعاً لم أقصد بما قلت عدم المعرفة العلمية.

قال الشيخ الفاضل أثناء حديثه: لا منقذ لنا إلا مشروع سياسي يجمع بين الوطنيين من السنة والشيعة. قلت له: لقد جربنا ذلك فجنينا على أنفسنا أعظم ما يجني أحد على أمته. ابحثوا لنا عن مخرج آخر، ودعوا الحلول المجربة الحائزة على الفشل بدرجة (امتياز)؛ نحن غير مستعدين لأن نلف الطريق مرتين. قال: لا مناص من ذلك. قلت: المشروع الوطني هو عقد اجتماعي، وكل عقد بين طرفين لا بد لإبرامه من موافقة طرفي التعاقد. إن الشيعة غير جادين فيما يدّعون. إنهم يبغون بلع العراق كله وتشييعه من الجنوب إلى الشمال. عقيدتهم وعقدتهم وقادتهم وجمهورهم متواطئون كلهم على هذا. أما الذين تسمونهم خيرين منهم، فليسوا سوى قلة لا تأثير لهم، والدليل على ما أقول هذا الواقع الذي ينضح بمأساة أهل السنة دون أن يتقدم أحد من (أخيار) الشيعة بمبادرة لها أثرها في منع ذلك أو التخفيف منه.

ليس واجب الوقت دعوة الشيعة وإنما الحفاظ على السنة

أيها السادة! ليس ما نحن بصدده دعوة الشيعة إلى الحق حتى نقول: في الشيعة خيرون نبدأ منهم في دعوتنا تلك، إنما نحن إزاء كارثة وقعت علينا: كيف ندفعها عن أهلنا؟ وبأي وسيلة نضرب على يد العابثين والمجرمين الذي قتّلونا وشردونا ودمروا ما بأيدينا من عناصر الخير والقوة والبناء؟ من ادعى قيادة السنة فليبدأ من هنا. ليست الأولوية اليوم لدعوة الشيعة، وإن كنا لا نعارض من حاول ذلك. الأولوية لإنقاذ السنة وكيف يكون؟ وهذه معادلة لا يصح وضع هذا العنصر في أحد طرفيها إلا بنسبة ضعيف جداً لا تتجاوز الكسور العشرية ضمن أرقام صحيحة عديدة. لنبحث أولاً في الأرقام الكبيرة ذات التأثير الفاعل في نتيجة الحساب.

كيف يمكن إقامة عقد وطني مع طرف يؤمن بعقيدتين – على الأقل – هما (الإمامة) و(التقليد)([2])؟ الإمامة لا تكتفي بتكفير السنة، وكل المخالفين معهم، إنما تلزم الشيعي بقتلهم والاستيلاء على أموالهم بكل وسيلة. والتقليد يربط الشيعي من خلال المرجع بإيران، فكيف يستقيم مثل هذا العقد؟ دعوكم من العقد النفسية المعبأة بها نفوس الشيعة، والتحريض الطائفي المقيت لجمهورهم من قبل علمائهم وسياسييهم ووجهائهم وتنظيراتهم وطروحاتهم ونياحاتهم ومظلوميتهم.

سَـمُّوا لنا رجالكم

أخيراً، ومحاولة مني لأن أضع حداً لهذا الجدل خاطبت المحاورين فقلت لهم: أجيبوني عن سؤالين وأنا معكم فيما تقولون:

1. من هم ممثلو الشيعة في (المشروع الوطني) المعترف بهم من قبل جمهورهم، بحيث يمتلكون القدرة على توقيع العقد الاجتماعي، وكف سفهائهم عنا، والإيفاء بلوازم العقد؟

2. ومن منكم بالمواصفات نفسها، وبحيث له القدرة على إجبار الآخر على الالتزام بالعقد ولوازمه؟

كان هذان السؤالان بمثابة الغصة التي لا يتهيأ لهم ازدرادها ولا لفظها، فصاروا يناورون ويجيبون بأسئلة فضفاضة لا طائل من ورائها. مثل قول الشيخ: إنهم شرفاء الشيعة، والشعب العراقي! حتى نطق الدكتور المضيف بعد إلحاح مني فقال: حسين المؤيد، وجواد الخالصي! قلت له: هل غير هؤلاء؟ فلم يجد ما يجيب به، فقلت له: هؤلاء لا أحد يتبعهم من الشيعة أو يعترف بهم، ويلتزم بقولهم. فما جدوى الاتفاق مع من لا يملك قراراً، ولا يمكنه ضمان أبناء طائفته ولا كف سفهائها؟ ولو كان العمل مع هؤلاء وأمثالهم مجدياً لظهر أثره منذ زمن بعيد؛ فسبع سنين ونيف مدة كافية لذلك. والعلاقة بينكم وبينهم والزيارات مستمرة، فلا أدري بأي حصيلة خرجتم؟ من يمنعكم أو يمنعهم مما تريدون؟ أنتم في الأمنية، فلماذا آل وضعنا إلى ما آل إليه؟ هذا إن افترضنا حسن النوايا عندهم، وهو منهم بعيد.

ثم أنسيتم مقتدى؟ هذا الذي سوقتم له كثيراً حتى جعلتموه رمز الوطنية والعروبة، وكان المشائخ يقنتون له في الصلاة وعلى المنابر يدعون له. وكانت الشعارات تكتب باسمه على الجدران في الرمادي! وقد حذرت منه أيامها وقلت: إنه أخبثهم وشرهم، فلم يسمع منكم أحد، وظللتم تراهنون على الحصان الخاسر حتى خرج مذموماً مخذولاً من المضمار، فاستبدلتموا به من هو أخسر. وها هو بطول لسانه قبل ستة أشهر يذم الهيئة ويصف رئيسها بالتطرف على قناة الجزيرة، ويقول: أنا غير مستعد للتعاون مع المتطرفين، ثم ليس للهيئة وجود على أرض الواقع([3]).

هذا طرف مما دار في تلك الجلسة. وهي مثال على الوهم والخيالية التي يتخبط فيها كثير ممن يشار إليهم بالبنان، ويتصور أنهم على شيء، وما هو بشيء! حتى أوصلونا إلى ما وصلنا إليه. ولو كانوا يتعظون ويعتبرون لهان الخطب، ولكنهم في وهمهم سادرون لا ينتبهون!

أصحاب الأحلام واالمنامات

إن أغلب من حاورتهم من الرؤوس لا يتكلمون بأكثر من الأمنيات والأحلام والمنامات. ليس لديهم مشروع عملي، ولا فكرة واقعية. سوى كلمات عائمة هائمة يجترونها منذ عشرات السنين، لم تورثنا غير الخسارة والويل والثبور، وذهاب الريح والدولة، وفقدان مقاليد الأمور.

ليس لدى القديم من حل، لا بد من تأسيس جديد. يقوم على منهج إسلامي المرجعية، عراقي القضية، سني الهوية، يتكلم باسم السنة دون تردد ولا تلعثم؛ فالزمن زمن طائفية (دينية وعرقية)، والحكم ليس بأيدينا، فنلتفت إلى كياننا السني لنكونه من الأساس، ونقيمه ونقومه، ونقويه وندعمه. عند ذلك نتكلم فنُحترم، ونأمر فنطاع، ونقول فنفعل. بهذا يتحقق الحلم، وإلا فمن عاش الحلم كواقع، عاد الواقع المرفوض حلماً يتمناه ولا يلقاه.

_________________________________________________________________________________

  1. – هيئة علماء المسلمين.
  2. – التقليد عند الشيعة يدخل ضمن العقيدة من حيث أنهم يعتقدون أن العمل غير مبرئ للذمة من دون تقليد. وهي فكرة سياسية مغلفة بالدين، غايتها ربط الجمهور الشيعي حركياً بشخص معمم، يحركهم في الاتجاه المطلوب سياسياً باسم الدين. وهو – عادة – مرتبط بإيران. وهكذا يسقط الشيعة تلقائياً في الفخ الإيراني. وبهذا يفترق التقليد عنه عند السنة، إذ بقي لديهم في إطاره الفقهي الديني البحت.
  3. – نص الكلام على موقع قناة الجزيرة في برنامج (الحوار المفتوح) في (10/4/2010) على الرابط التالي: http://www.aljazeera.net/NR/exeres/06E89F17-BCB6-44E5-B9AD-40F29571D60E:غسان بن جدو: المشاركة السنية كما يقال بأنها كثيفة ولكن هيئة العلماء بقيت على موقفها بعدم المشاركة في هذه الانتخابات.

    مقتدى الصدر: هيئة العلماء حاليا لا تمثل شيئا في العراق، سابقا كانت تمثل.

    غسان بن جدو: لا تمثل شيئا في العراق؟

    مقتدى الصدر: إيه يعني ما أعتقد قاعدة شعبية أو فد كذا، أخذت الأحزاب أماكنها في العراق ومشيت الأمور وأكثر من ذلك أن أكثر – مو كلهم – أكثر السنة يميلون إلى الجانب العلماني لا يميلون إلى الجانب الديني… بعد 9 نيسان، دزيت وفدا لهيئة علماء المسلمين المتصدية لهذا أنه نسوي فد شيء مشترك بين الشيعة والسنة لكنها كانت أمور دينية وليست سياسية: الأذان، الصلاة، أول الشهر آخر الشهر، لم يتعاونوا نهائياً، وأصلاً ما أعطوا من أنفسهم قليلاً ولا كثيراً أبداً، ولم يتعاونوا. فإذا هناك جهات أخرى غير متشددة مو مثل هيئة علماء المسلمين أنا أتعاون معها وأخلي يدي بيدها ونسوي أموراً عقائدية وأمور سياسية مشتركة ما بين الشيعة والسنة وهذا أحد أمنياتي لو صح التعبير والعراق لا ينجح إلا بهذا الاتحاد.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى