مقالات

أحداث تونس ومصر (3)

يوميات مراقب من العراق..................... 

فكّر

عالمياً وتصرف محلياً

أحدى إشكاليات الفكر العراقي انشغاله بقضايا الأمة أكثر من قضايا البلد.

وهذه طبيعة في العراقيين ربما تعود جذورها إلى الانحدار البدوي لغالب سكان العراق، الذي يحمل في طياته أخلاق العروبة الأولى وسجاياها. تلك الأخلاق السامية التي جاء الإسلام ليتممها ويهذبها، ويقول بكل وضوح: (وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال:75]. لسنا أعلم من الله جل وعلا، ولا أخبر بشؤون عباده ومصالحهم وما يصلحهم. وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ في سبيلِ اللَّه، وَدِينَارٌ أَنْفَقتَهُ في رقَبَةٍ، ودِينَارٌ تصدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفقْتَهُ علَى أَهْلِكَ، أَعْظمُهَا أَجْراً الَّذي أَنْفَقْتَهُ علَى أَهْلِكَ » رواه مسلم. وهذا حين لا يكون الرجل يملك غير ذلك الدينار وأهله في حاجته.

بين المواطن العراقي والزائر العربي

في العراق كانت حقوق العرب الوافدين في الدراسة والعمل والتوظيف والخدمات هي نفسها حقوق أهل البلد سواء بسواء. هذا إن لم تزد عليها أحياناً. وكنت أتصور أن هذا هو الحال في جميع البلاد العربية. وحين سافرت إلى بعض تلك البلدان وجدت الأمر مختلفاً تمام الاختلاف؛ فابن البلد صاحب الامتياز الأول في كل شيء!

اسمعوا مني هذه الواقعة التي حصلت لي في أواخر عام 1986، يومها كنت طبيباً في مستشفى الفلوجة العام، وأستلم راتباً مقداره (130) ديناراً في الشهر. كنت أجلس في غرفة الفحص عندما دخل الفرّاش المصري ليمسح بَلاط الغرفة وينظفها. ولا أكتمكم أنني كنت أرتدي تحت الصدرية البيضاء سترة نيلية من مخلفات الكلية الطبية.. اشتريتها وأنا طالب، وقد مرت عليها لحد تلك اللحظة ثلاث سنين بالتمام والكمال، وها هي تدخل سنتها الرابعة من عمرها المديد.. لا أدري لم سألت الفراش، والسماعة الفضية تتدلى من رقبتي: كم راتبك الشهري؟ فأجاب: (260) ديناراً (!). أي ضعف راتبي بالضبط! نعم.. بالضبط([1]). وأرخت هذه الواقعة بقصيدة أسميتها (الطبيب الزاهد) تقول أبياتها:

قالوا : طبيبٌ ؟! قلتُ : هذي وظيفتي
قالوا : بخيلٌ ؟! قلتُ : ما من شاني
قالوا : فما بالُ الملابسِ رثةً
متغيراتِ الشَّكلِ والألوانِ ؟!
فأجبتُهم : سبحانَ من أوصافُهُ
عزَّتْ على التغييرِ والأزمانِ !
والناسُ في هذي البلادِ أراهمُ
رفعوا شعارَ العدلِ في الأوطانِ
لما تساوى الصخرُ والإنسانُ في

 

بلدي وصارَ الكلُّ في الميزانِ
ساوَوا بمنْ مسحُ البَلاطِ نصيبُهُ

 

من يمسحُ الأحزانَ عنْ إنسانِ
فلْتحْيَ في بلدي العدالةُ ولْتَعِشْ

 

أفكارُ من نادى بها .. وسباني

قال صاحبي د. سلمان الجبوري وقد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة: لو وضعت (الصخل) مكان (الصخر) كان أحلى!

حين تكون الفكرة هي التي تحكم بعيداً عن الواقع

إن هذا يعود إلى الخلل في معادلة التوفيق بين الآيدلوجيا والواقع، فيكون التفكير بناءً على الآيدلوجيا لا بناء على الواقع. القوميون عندنا في العراق أنظارهم مشدودة إلى بلاد العرب أكثر من الوطن، والإسلاميون يفكرون في بلدان المسلمين أكثر من العرب. وهكذا خسرنا الواقع.

انسحبت طبيعة التفكير هذه آلياً إلى أهل السنة. فإن أحد أسباب ضعف السنة في العراق أنهم يفكرون في قضايا الأُمة والبلد أكثر مما يفكرون في قضيتهم كسنة، مع أنهم اليوم مستهدفون من قبل شركاء لهم في الوطن لا يسلمون لهم عملياً بحق العيش فيه إلا ضعفاء مهمشين.

إنهم ينوءون بحمل أكبر من حجمهم، وذهنهم منصرف للتفكير خارج نطاق كيانهم.

وهذا خطأ في ترتيب الأولويات على مستوى التصرف والعمل. والسبب أن معالي الأمور والمبادئ السامية تغلب عليهم. أي إن تفكيرهم يتم بناء على (الآيدلوجيا) لا بناءً على الواقع. فيحدث الخلط عندهم بين ما هو أول في القيمة، وبين ما هو أول في العمل. بينما الصحيح التفريق بين الأمرين: فما كل أول في القيمة يكون أولاً ومقدماً في العمل. بر الوالدين أعلى في قيمته من الكسب للعيش. لكنك قد تقدم السفر وترك الأهل إذا كان من أجل تحسين وضعك المادي، فتبتعد قليلاً لتعود أقوى وأقدر على برهم مما لو مكثت عندهم فقيراً ضعيفاً.

هكذا يفعل الحكماء

انظروا إلى شعارات إخواننا المتظاهرين في مصر وتونس. لقد كانت كلها تركز على الوضع الداخلي للبلد. فلم يرفعوا شعاراً لتحرير فلسطين، ولا هتافاً يخص العراق، ولا لافتة عن هموم اليمن، ولا كلمة واحدة عن أي بلد آخر. وهذا صحيح كل الصحة إذا نظرنا إليه من الناحية المرحلية والآنية. فالضعيف لا يمكنه إنجاد غيره من الضعفاء ما لم يتخلص هو أولاً من ضعفه، وإذا دفعته حماقته (الآيدلوجية) لمثل ذلك فلن يزيد الضعفاء إلا ضعفاً على ضعفهم.

هذا إن كانوا معه. أما إن كانوا ينوون به الشر فيكون العمل للمجموع ونسيان الذات ليس حماقة، وإنما هو الهلاك عينه.

العراق في عيوننا .. والأمة في قلوبنا

العراق في عيوننا، والأمة في قلوبنا نحن السنة في العراق. وهذه القيم هي المقدمة في سلّم الأولويات العليا لدينا. ولكننا حتى نعيد العراق قوياً موحداً لا بد – نعم لا بد – أن نلتفت مرحلياً إلى كياننا كسنة فنقويه وندعمه، ونقفه على قدميه شامخاً عزيزاً، عندها ننتقل إلى المرحلة الأُخرى. وهكذا. وليكن شعارنا في هذه المرحلة (فكر عراقياً.. وتصرف سنياً). وذلك ترجمة عملية للحكمة الرائعة التي تقول: (فكر عالمياً وتصرف محلياً).

وإلا فوالله لن نجني إلا الضياع؛ فشركاؤنا في الوطن لا يريدون بنا غير ذلك.

وتجربة ثماني سنين تكفي….. فكفى.

________________________________________________________________________________

  1. – هذا إذا حسبتها طبقاً لظاهر الأمر. أما في الحقيقة فإن قوة راتبه – وهو فراش – تعادل راتبـي – وأنا طبيب – (18) مرة! كيف؟! كان القانون العراقي يسمح للمصري بتصريف الدينار بالسعر الرسمي وهو (3) دولارات للدينار الواحد. بينما سعر الصرف بالنسبة للعراقي معكوس تماماً كما انعكس راتبي وأنا طبيب فصار نصف راتب المصري وهو فراش! فالعراقي يدفع (3) دنانير مقابل دولار واحد! وبحسبة رياضية بسيطة – يضرب بها راتب المصري في (3) ويقسم راتبي على (3)، ثم يضرب راتب المصري مرة أخرى في (2) لأنه ضعف راتبي، أو يقسم راتبي على (2) لأنه نصف راتبه – تظهر الحقيقة الصاعقة التي ذكرتها في بداية الهامش جلية واضحة!

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى