مقالات

ما لا يعرفه الكثيرون عن المجتمع والحضارة الأمريكية

قرأتُ لكم([1])……………. 1-2

حضارة غربية وأخرى أمريكية

عندمت اتيحت لي الفرصة لرؤية الولايات المتحدة لأول مرة في سنه 1978, كنت أظن أنى سأرى فقط صورة مكثفة ومتطورة بعض الشي من المجتمع الاوربي, الذي كنت ارى تطوره عاما بعد عام كلما قمت بزيارة اهل زوجتي في انجلترا. فإذا بي اشعر بمجرد أن وطئت قدماى أرض الولايات المتحدة وكأنى انتقلت الى كوكب مختلف تماما عن كوكب الارض, وأدركت على الفور بان الذي اراه ليس مجرد ((الظاهرة الاوروبية مكثفة)) ولكن ظاهرة جديدة بمعنى الكلمة, حتى إنه كثيرا ما يخطر لي, منذ ذلك الحين, ان وصف ((الحضارة الغربية)) بهذا الاسم سوف يتضح شيئا فشيئا أنه يحجب عن الانظار حقيقة مهمة للغاية, هي هذا الاختلاف الشاسع بين نمطين من الحياة.

صحيح بالطبع ان نمط الحياة الأمريكية نشأ أوربيا في الأساس, ولكن قد تكون الحضارة الإنسانية كلها, بهذا المعنى واحدة, إذ ساهم كل من الحضارات في نشأة حضارة اخرى وتطورها. والتجربة الأمريكية تبتعد شيئا فشيئا عن الاصل الذي نشات عنه حتى انه عن قريب سوف يصبح من الممكن, بفرض أن هذا ليس ممكنا الآن, الكلام عن ((حضارة امريكية)) لها سماتها المهمة التي تميزها عن كل ما عداها.

أفول الفردية وشيوع الشمولية

وجدت المجتمع الاستهلاكي متطورا إلى درجة مذهلة في الولايات النتحدة, ولكنى وجدت أيضا شيئا آخر لعله كان بدوره نتيجة لنمو المجتمع الاستهلاكي وانتشاره. هذا الشئ الآخر بلغ في تطوره حدا خطيرا لم يكن من الممكن للعين ان تخطئه في الولايات المتحدة حتى إذا فات المرء الانتباه إليه في المجتمعات الأوربية. وأقصد بهذا “الشيئ الآخر” وبعكس الشائع عن الولايات المتحدة: أفول الفردية وشيوع نوع من التفكير الشمولى الذي يطبع مختلف جوانب الحياة الأمريكية.

كنت قد قرات رواية جورج أورويل (1984) قبل ذهابي للولايات المتحدة بعدة سنوات, وكنت أعرف ان الراي الشائع أن هذه الرواية وضعت أساسا لنقد النظام الشمولى في الاتحاد السوفيتي, فالأخ الأكبر هو ستالين, وبوليس الفكر هو جهاز المخابرات الروسى.. إلخ. ولكنى وجدت في الرواية اكثر من هذا بكثير, وقراءتى لاعمال أخرى لاورويل جعلتنى أعتقد ان ما كان يقلقة لم يكن النظام الشمولي السوفيتى أو الشيوعى في حد ذاته, بل قدرة المجتمع التكنلوجى على قهر الفرد، وأن نمو قوة الدولة إنما هو نتيجة حتمية لنمو قدرة المجتمع التكنلوجية وأن أورويل كان حريصا جدا على اتمام الرواية قبل أن يموت لأنه كان يشعر بأن من واجبه ان يحذر الناس من خطر يمكن جدا ان يحدث رغم انتصار الحلفاء على النازية والفاشية, وأن الدولة البريطانية نفسها يمكن أن تتحول إلى نظام شبيه بنظام (1984) لو لم ياخذ الناس حذرهم ويفهموا الخطر المحدق بهم.

فلما ذهبت الى الولايات المتحدة التي كانت ولا تزال يضرب لها المثل دائما على انها التجربة المناقضة تماما للتجربة السوفيتية, وان النظام الديمقراطى في امريكا هو نقيض النظام الشمولى الذى يصوره اورويل, إذا بي اجد ان الحقيقة ابعد ما تكون من ذلك.

أكثر الأمم انقياداً وأسهلها تصديقاً للدعايات

وجدت فى الامريكيين أمة, وإن كانت تباهي بتشجيع الفردية والتميز, يعشق أفرادها ان يكونوا اعضاء في فريق, يفعل كل منهم مثلما يفعل الآخرون, ويهتفون نفس الهتافات ويهيمون بنفس الابطال أو النجوم. وهم يثقون فى رؤسائهم اكثر من اللازم ويقبلون ما يقال لهم بدون شك او تمحيص, وهو ما يسهل مهمة الدولة في حكمهم, إذ يبدو الأمريكيون وكأنهم أسهل أمم العالم حكماً, وأكثرها انقياداً.

يمكن ان تغير وسائل الإعلام مسار الرأى العام من اتجاه إلى نقيضه بمجهود بسيط, ولا يحتاج الأمر إلى استخدام الكثير من الحجج والبراهين, كما يحتاج هذا فى اوروبا, بل يحتاج فقط إلى بعض الإلحاح واستخدام نفس أنواع المؤثرات التى تستخدم فى الدعاية للسلع, وهى مؤشرات لا تخاطب المنطق بقدر ما تخاطب اللاشعور.

قرأت فى أول رحلة لى للولايات المتحدة مقالاً (لناعوم تشومسكي) الذى يحمل عنواناً يلخص مضمونه وهو (حدود التفكير المسموح به) of thinkable thought) Boundaries) وكنت أرى يوميا فى امريكا ما يؤكد لى ان هناك مثل هذا الحدود التي لا يسمح بتخطيها, ليس فقط فى الفعل والكلام, بل وفي مجرد التفكير.

لقد فسرت هذه السمة من سمات الحياة الأمريكية بما يتيحه التطور التكنولوجي امام الشركات وأصحاب الأعمال من نشر الفكرة الواحدة والشعور الواحد بين الملايين من الناس في نفس الوقت, وباتساع السوق الامريكي الذى سمح بأن تستخدم وسائل التكنولوجيا المتقدمة في أمريكا قبل غيرها. وسلطان الدولة, الذى يبدو ضعيفا ولكنه في الحقيقة أقوى فى أمريكا منه في الكثير من الدول المسماة بالشمولية, مستمد من قوة الشركات وأصحاب الأعمال. ومن ثم فليس صحيحا الظن بان الخطر الذى يهدد الحرية الفردية واستقلال الرأى إنما يأتى فقط من ازدياد قوة الدولة, كما يظهر مثلا فى رواية 1984, بل قد يأتى أيضا من ازدياد قوة الشركات وأرباب الأعمال الذى قد يؤدى إلى ازدياد سلطان الدولة.

خدعة الديمقراطية الأمريكية

لم أتحمس قط إذن لما يسمى بالديمقراطية الأمريكية بل وجدت فيها الكثير من الزيف والادعاء، إذ اعتبرت أن أقل أنواع النظم حرية وديمقراطية هى تلك التى يظن فيها الناس بأنهم أحرار ويتمتعون باستقلال الرأى والفكر دون ان يكونوا فى الحقيقة كذلك. بل اعتبرت أن مصر وأمثالها, مما شاع اعتبار نظام الحكم فيها شموليا, وهو بالفعل كذلك, قد ينعم أهلها بدرجة أكبر من الاستقلال وحرية التعبير عن النفس, مما يتمتع به الأمريكيون، لمجرد أن المصريين لا يعتريهم أي شك في أي وقت في زيف ما يزعمه نظامهم من ديمقراطية, ولا تثير فيهم الدعابة السياسية من خلال وسائل الإعلام إلا السخرية المعلنة أو الصامتة, بينما يبدى الأمريكيون استعدادا مدهشا لقبول ما تقوله لهم وسائل الإعلام .

 

 

جلال أمين

ماذا علمتني الحياة/ 261-263

________________________________________________________________________________

  1. – أفكار الآخرين شمعة تضاف إلى حزمة النور التي تضيء مسيرتنا. ليس شرطاً أن نتفق مع كل ما ننقل مما نقرأ لكم، ولكن مما لا شك فيه أن تلك الشمعة تتسلل بأشعتها إلى زوايا قد لا تصل إليها امتدادات النور في حزمتنا المضيئة.
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى