أشخاص أحببتهم
حررتها بتاريخ
في مثل هذا اليوم ( 22/4 ) عند الظهر ، وفي يوم الجمعة أيضاً ، قبل واحد وخمسين عاماً أطلقت أول صرخات الحياة . وبالقرب مني تتمدد امرأة أشرق وجهها بابتسامة البشر رغم آلام الطلَق ، وتسعة أشهر من المعاناة كي تصنع لي بدمها وأنفاسها تلك الحياة بإذن الله جل في علاه ، وهي تسمع القابلة ترفع صوتها ليصل إلى الرجل الذي ينتظر خارج الحجرة بأن القادم ولد ، أي ذكر . وقد صادف ذلك يوم 27/شوال/1379 للهجرة الشريفة . حدث هذا في مدينة النواب بقضاء الكاظمية ، التي رحل إليها الوالد ليكون قريباً من محل عمله في معمل الغزل والنسيج هناك .
طه أم غايب ؟
وتوقفت القابلة عند كتابة الاسم في ( بيان الولادة ) ! الأب يقول : سميه ( غايب ) ، وترد الأُم :
- لا لا ، بل ( طه ) على اسم النبي عليه السلام ، أيش هذا الاسم ( غايب ) ؟ أعوذ بالله منه ، ما غايب إلا إبليس .
كان أبي قد أحب قبل ذلك شابة من أهل الجنوب ، وعلى عادة بعض أهل العراق يلقبون من لا ولد له بـ( أبو غايب ) كانت تناديه ويناديها بهذه الكنية . وغابت تلك الحبيبة من حياته لكن أثرها ما زال حاضراً ، فليكن ( غايب ) هو اسم الابن البكر وفاء لذكرى تلك الحبيبة الغائبة الحاضرة . وهكذا كان ، فخطت القابلة اسم ( غايب ) في الحقل المخصص له من ( البيان ) ، رغم اعتراضات الوالدة التي أنهت النقاش بقولها :
- سترى اسمي يبقى والا اسمك ؟
وشاء الله تعالى أن لا أُعرف بهذا الاسم ولا أَعرفه إلا يوم دخلت المدرسة ! فالأهل والأقارب ينادونني باسم ( طه ) ، حتى كبرت ووصلت السنة قبل الأخيرة من الإعدادية ، فغيرته رسمياً إلى اسمي المعروف ، ليعود ذلك الاسم إلى غيبته الأبدية كغيبة المهدي ، سوى بعض زملاء الدراسة القدماء ، الذين ما زال بعضهم إلى اليوم إن التقينا صدفة حياني به . بعد ذلك بعشرين عاماً جاءني من يقول لي :
- هل علمت بالخبر الجديد ؟
- أي خبر ؟
- الشيعة يقولون : هذا يكذب عليكم ليس اسمه شيخ طه ، إنما اسمه غايب
ضحكت وأنا أُجيبه :
- قل لهم : غائبنا ظهر بعد أقل من عشرين سنة ، لكن شوفوا غائبكم !
ثم أردفت :
- أما وجدوا غيرها ؟ الحمد لله الذي رد كيدهم إلى الوسوسة
كان أبي رحمه الله رجلاً ملولاً لا يتحمل الاستقرار على شيء : لا في عمل ولا مسكن ولا حال . بضعة أشهر قضاها هناك ، ثم هجر وظيفة النسيج وطوى رحله وعاد إلى أرضه في ريف المحمودية فلاحاً . ثم ما عتم أن ترك الفلاحة لينخرط متطوعاً في سلك الشرطة ، تلك الوظيفة التي طوّف من أجلها كثيراً في مدن العراق ، ونحن معه نرتحل من مدينة لنحط في مدينة ، ونغادر حياً إلى آخر. خمس مدارس تنقلت بينها مدرسة مدرسة في المرحلة الابتدائية فقط ! والقصة طويلة طويلة، وفيما ذكرت كفاية. فلا تعجبوا إن رأيتموني أقفز بين الأسطر من مكان إلى آخر: فآناً في الكاظمية، وآناً في المحمودية، وثالثاً في الصويرة، ورابعاً.. وخامساً.. .
في مناسبة سابقة كتبت شيئاً عن ذكريات السنين الأولى للطفولة.
لا بأس هذه المرة أن أذكر شيئاً من ذلك، فلربما فتحت بذلك نافذة يطل منها القارئ على مساحات مجهولة تجذبه لأن يتطلع إليها، أو يعجبه أن يطّلع عليها.
اخترت اليوم لتلك الإطلالة هذا العنوان (أشخاص أحببتهم) . لا أدري لماذا ؟! ولكن هكذا كان . لا بأس أيضاً .. فأستأذنكم أن أزيح طرفاً من الستار عن تلك النافذة تحت هذا العنوان :
محمد ابن خالي
إن أنس من أحداث الماضي شيئاً لا أنس صورة تراود خيالي دائماً ، وأتذكرها كثيراً ، فيُعتصر لها فؤادي حنيناً ، وتذوب لها نفسي حسرة وشوقاً .
ما زال وجهه الأسمر المشدوه ، وهو يبتسم بمرارة ، عالقاً في مخيلتي .. ها هو بين جمع المودعين ، مهملاً لا يأبه له أحد من ذلك الجمع ، ولا يشعر بما يمور في داخله . كانت عيوني مشدودة إلى ذلك الوجه .. وعلى ضوء مصابيح السيارة في تلك الليلة تلقي عليه نظرة الوداع وقد تجمد فكاي وانفرجت شفتاي، كأنهما تفسحان لصرخات الاحتجاج الطريق وتقولان لها : ” هيا اخرجي.. انطلقي ” . ولا من أحد يأبه لي ، أو يشعر بما يمور في داخلي . كنت لحظتها أجلس مع أبي في صدر السيارة ، وقد جاء يسترضي والدتي ومعه مجموعة من الوسطاء . لكن خالي أبى عليه وعليهم ذلك . وطال الأخذ والرد ، فلما أيس لم يجد أمامه إلا أن يأخذني معه ؛ وسيلة ضغط علها تصل به إلى مبتغاه .
- ها طه ! تحب أبوك ( والا ) أمك ؟
قالها وهو يضحك شاب ( شقي ) من أخوالي ، وأنا أتشاغل عنه بتحريك قدميّ الحافيتين وأراوح بينهما الواحد تلو الأُخرى على أحد جانبي الفتحة التي اتخذت منفذاً أو – قل – باباً في الجدار الطيني الذي يفصل البيت عن ( ربعة ) الضيوف ، وقد أسندت جسمي إلى الجانب المقابل فأنا معلق في الهواء وثوبي يتبادل الانحسار عن ركبتيّ مع حركة القدمين ولا أدري عن حال ذيله شيئاً ! قبل ذلك كنت أرد بكل ثقة على مثل هذا السؤال :
- أُمي أحبها أكثر
لكنني اليوم خائف من هذا الجواب . نعم أحب أمي أكثر ، ولكن من يضمن لي سكوت هذا الراوي ( الشقي ) فلا يذيع ( السر ) أو ينقل الخبر ، وأبي على بعد أذرع مني ؟ لكَم كان يزعجني بإلحاحه وضحكه كأنه يقول لي : ” ها ؟ أين ثباتك ؟ ” . يا رب ماذا أقول ؟! ولم أجد ملاذاً إلا التشاغل بتلك الحركة . لم أعد أذكر كم ظللت في موضعي ذلك أواصل المراوحة بين قدميّ ذَينِك الحافيتين ؟
وكنت أنا ضحية ذلك اليوم ! ليحملني أبي ويضعني إلى جانبه في صدر السيارة وكأنني حَمَلٌ صغير يجلبونه للبيع ، فلا يدري أذاهبون به للمسلخ أم للمرعى ؟
كنت حزيناً حزيناً . وها هو رفيقي يقف بين ذلك الجمع حزيناً أيضاً ، ليودعني وأودعه .. ولكن بصمت .. وسكون .. نعم سكون ؛ فحتى أكفُّنا لم نكن نعرف كيف نرفعها أو نلوح بها لتأدية مراسيم الوداع !
وتستدير السيارة ويختفي عني في الظلام .
في الطريق قفزت أرنب ثم اختفت في الظلام ، وبعدها لعلني رحت في نوم عميق ..
كان ذلك في يوم من أيام عام 1964 .
في ( الصويرة )
ويصبح عليَّ الصباح فإذا أنا في بيتنا في مدينة ( الصويرة ) ، وأجد بقربي وهو يبتسم أخي الحبيب ( نوري ) ، الذي كان يعيش وحيداً في البيت رغم صغر سنه ! فماذا تراه يفعل وهو مقيد بالدراسة ؟ وكان هذا العام في آخر صف من المرحلة الابتدائية .
فرح نوري بهذا الأنيس كثيراً ، رغم فارق السن بينهما.. البيت موحش كالقفر ، مكون من حجرتين قديمتين متقابلتين ، يؤدي إليها الباب الخارجي مباشرة ، وفي الحوش كوخ من قصب . لأي شيء أقاموه ؟ لا أدري ! وأنا أذكره الآن بعد بضع وأربعين سنة لا أجد منه في ذاكرتي إلا ما يجد المستيقظ من أثر حلم تبخر منه سريعاً .
وأذهب مع والدي ليلاً ، يحملني على ظهره ، ويغطيني بمعطفه العسكري الأخضر الذي يتجاوزني إلى رأسه . كان ذاهباً لعمله في حراسة محطة وقود لا يفصل بينها وبين نهر دجلة سوى الطريق الترابي . وفي ذلك الليل البارد المظلم يتناهى إلى سمعي أصوات الواوية ( بنات آوى ) في بساتين الصويرة . وأسأل أبي متوجساً :
- ” يابا ! ما هذا ” ؟
فيجيبني بعفو الخاطر يبغي طمأنتي :
– ” حيوانات صغيرة يبكين على أمهن ”
فأقول له :
- ” يابا ! وأنا أين أمي ” ؟
كان ، رحمه الله ، يحدثني بهذا كبيراً ويضحك قائلاً : لقد حيرني سؤالك فما عدت أعرف بماذا أجيب !
بعد ذلك ببضع وثلاثين سنة أخذت الوالد مع العائلة ، وقد صار له فيها أحفاد ، في سفرة إلى قضاء الصويرة ، وآليت على نفسي إلا أن أمر بتلك المحطة . قلت لأبي :
- لا تتدخل أنت
ولم يطل بي البحث حتى وجدتها ، فإذا هي كما هي في خيالي ، لم يتغير منها شيء . واستبد بي الحنين فقررت المرور بدارنا التي سكناها تلك الأيام الخوالي . في ذهني صورة باهتة لموقعها .. كانت قريباً من المسجد الكبير إلى يسار الخارج منه ، ليس بينها وبين نهر دجلة إلا صف من بيوت ثم بستان وسد من تراب . وقبل أن أسأل أو أستعين بأحد توهمتها فصحت :
- هذه هي !
وأبي يبتسم ؛ فهو يعرف المعالم أكثر مني . راودتني رغبة في أن أرى – على الأقل -مدخلها الذي طالما لعبت فيه أنا وحسون صديقي الكردي . ما زلت أذكر .. إلى يمين الداخل كانت حجرة تزوج فيها أبي زوجته الثانية بعد أمي ، وإلى اليسار فضوة مسقفة تنتهي بباب يأخذك إلى الحوش ، إذا اتجهت شمالاً واجهتك ثلاث حجر بعضها جنب بعض ، وإلى جهتك اليسرى درج يصعد بك إلى السطح .
ولكن كيف أنفذ رغبتي تلك ؟
وطرقت الباب وسط دهشة الأهل . وأطل صبي :
- تفضلوا من أنتم ؟
- هذا بيت حامد المزعل ؟
- لا عمي ، غلط
وشاغلت الصبي ببعض الأسئلة وأنا أتحسس ببصري ملعب الصبا ومرتع الطفولة . ترى هل ما زال يذكرني كما أذكره ؟ ويعرفني كما أعرفه ؟ إنه هو هو كما تركته من قبل بضعة وثلاثين عاماً ، وكأن الزمن توقف عند تلك النقطة ، رغم أن أشياء كثيرة في المدينة لم نجدنا كما تركناها . وقلت لنفسي : أين صديقي حسون ؟ هل ما زال حياً ؟ وترحمت على والدتي وعلى أخي الشهيد الشيخ نوري ، وأعرضت بوجهي وقد برقت عيناه بالدموع .
وتذكرتُ ( جالا ) ..!
وتذكرت (جالا ) الكردية ، ابنة قائممقام القضاء ، تلك الطفلة الصغيرة الجميلة ، التي طالما لعبت معها في حديقة بيتهم ، وتدحرجنا بأجسامنا على نجيلها الأخضر الفسيح ، وتنقلنا بين أورادها التي كانت تتوزع في خطوط مستقيمة ( لاينات ) تحيط بها من أطرافها . كان عمري يومها أربعة أعوام ، أذهب أحياناً إلى هناك مع والدي الشرطي الذي كان يحرس بيت والدها القائممقام . كنت أقول لأمي : ” يُمَّا أنا أحب ( جالا ) ” . ويسمع خالي الصغير إسماعيل بالخبر! وظل يحفظه ويذكرني به كبيراً وهو يضحك مني ويقول : ” انهجم كوخك ؛ ابن شرطي ويحب بنت قائممقام ” !
لكن …..
ما هذا التعلق العجيب بيني وبين ابن خالي محمد، من بين عشرات أبناء الأقارب أخوالاً وأعماماً ؟ لماذا هذا التجاذب الفريد بيني وبينه ؟ وها قد ودعنا العقد الخامس من عمرنا وإن حبنا لا تزيده الأيام إلا ثباتاً .. وازدياداً ؛ رغم أننا افترقنا في كل شيء : فأنا تقدمت في الدراسة حتى صرت طبيباً ، وهو لم يكن له من الدراسة من نصيب سوى السنة الأولى من الابتدائية . وأنا أخذت بحظ من العلم والأدب ، وهو أشبه بالأمي ! هل من سر ؟ أكيد . ولكن ما هو ؟ لا أدري ! هل هو من معنى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها اأتلف وما تناكر منها اختلف) ؟ الله أعلم .